
رواية وبالحب اهتديت
الفصل السادس 6
بقلم سلمى خالد
«هُدايا وهُداكِ وبينهما العشق»
استغفر الله العظيم وأتوب إليه 3 مرات
حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم 7مرات
( قولهم مش هياخدوا وقت يا سكاكر♥)
بسم الله الرحمن الرحيم
( تَجَاهُلٌ )
بكل انسان صفحة لا يعلمها أحد، يخفيها عن الجميع راغبًا بحماية هذا الكيان الذي صنعه بعد جروحٍ دامت لسنوات، تتوحش ملامحه عندما يقترب منها أحد، فما رأيك يا عزيزي عندما يوجهه بها ويمزق هذا الكيان ببضع كلمات أثبتت أن لجروحه نزيف خفي لا يزال يقطر بروحه لهاوية الموت!
توحشت عينيه بطريقةٍ مخيفة، يتقدم نحوها بخطواتٍ عرجاء بطيئة، بينما تراجعت فاطمة بذعرٍ من نظراته، تشعر بسرعة ضربات قلبها، ليهسهس غفران بنبرة محتدة:
_ مين قالك على الموضوع دا؟
حركت رأسها برفضٍ للحديث، تتراجع من أمامه سريعًا، ولكن طريقته لا تعلن عن كونه سيتراجع، استدارت كي تركض هاربة منه، ولكن دقائق كانت تشعر بقبضته وكأنها أصفاد من حديد، يسحبها بقوةٍ بالغة جعلتها تشهق فزعًا منه، لتسقط أرضًا امام قدميه، نظر لها غفران بعدائية واضحة، ثم هبط لمستواها بعدما مد قدمه العرجاء كي يستطيع الوصول لمستواها، يمد يده يمسك بفكها السفلي بعنفٍ ألمها، يتطلع لعمق عينيها، ثم اقترب منها لتلفح أنفاسه وجهها، متمتمًا بنبرة هامسة مخيفة:
_ سيرتها لو اتفتحت تاني! هتشوفي الوحش اللي عايش جوايا.. فعايزة تموتي بالحياة فكري تسألي تاني!
ارتجف جسدها من تهديده الصريح، تحاول ابعد نظرها عن عينيه المخيفتان، ولكن كفه القابض على فكها، انفاسه الساخنة التي تحرق وجهها جعلتها تنظر له قسرًا، ازداد غفران من ضغطه على فكها حتى تأوهت فاطمة بقوةٍ، ينتفض جسدها من الألم، تمسك بكفه لتبعده عنها، ابتسم ساخرًا عليها ثم دفع وجهها عن يده وكأنها وباء سيعديه، في حين نهض غفران يلقي بنظرة ساخطة ثم قال وهو يحضر عكازه:
_ انجزي وقومي مش فاضي لمعاليكِ خلينا اوصلك واغور من هنا.
أغمضت فاطمة عينيها بألمٍ، تشعر بآلام منتشرة بوجهها، نهضت من مكانها تحاول كبح دموعها حتى لا تظهر، بينما تحرك غفران عائدًا إلى المنزل ولكن تشتعل نيران حارقة بداخله، يلقي نظرة عليها من حين لأخر ليتأكد من كونها تسير معه ولا يحدث شيء!
*********
هرب ذلك الثعبان الصغير من أمامها، بينما جلست هي على الأرض تذرف الدموع على ما تشعر به من آلام، تحاول رؤية مكان هذه العضة القاسية، مسحت دموعها بعدما شعرت بخطواتٍ أتية، تنهض سريعًا من الأرض كي لا يلاحظ شيء، ثم ما كانت إلا دقائق حتى سمعت جبران يهتف بقلق:
_ بتصرخي ليه يا يقين؟!
ادارت وجهها بعيدًا، تعض على شفتيها بألمٍ، فقد بدأت تشعر حرقان غريب بجلدها، تهمس بأنين خفي:
_ مفيش.
تعجب جبران من اجابتها، ثم قال ببعض الشك:
_ يقين أنتِ كويسة؟!
صمتت ولم تجيبه، فقد بدأ جسدها بالهذيان، تحاول تحريك قدمها المصابة ببطءٍ كي لا تشعره بشيء، بينما شعر جبران بأن بها خطبًا ما، ليتقدم نحوها سريعًا تراجعت يقين سريعًا مبتعدة عنه، ولكنها اطلقت صرخة صغيرة مكتومة من ألم قدمها، انتفض جبران سريعًا يتقدم نحوها متمتمًا في قلق:
_ مالك يا يقين بقالي يجي ربع ساعة بسألك وأنتِ مبترديش؟
سارت رعشة بجسدها تشعر بآلامٍ منتشرة بقدمها، يتصبب جسدها عرقًا، تنظر له بأعينٍ مشوشة، ليثقل جسدها شيءٍ فشيء، شعر جبران بجسدها الذي يهوي، ليسرع بإمساكها، بينما نظرت له يقين قبل أن تزداد الضباب على عينيها تتذكر حديثهم جميعًا، ابتسمت له ولا تزال كلماتهم عالقة بذهنها، لتهمس بضعفٍ:
_ قولتلك لو بموت مش هطلب مساعدتك!
لا تعلم كيف قالت جملتها وكيف فقدت قوتها هكذا، ولكن سقط حمل جسدها على ذراعيه، صُدم جبران مما حدث وشعر بوجود شيءٍ غريب، ليسرع بحملها سريعًا متجهًا نحو السيارة، واضعًا إياها بالمقعد الأمامي، وانطلق بخفة ليجلس على مقعد القيادة، يدير محرك السيارة سريعًا ليسرع إلى أقرب مشفى لهما، يحمد الله على أن معه السيارة، بدأت رعشة جسد يقين بالوضوح، بهمس دون وعي:
_ مش غبية.. أنا تعبت.. مش غبية.. غصب عني.
ظل جبران يستمع لهمهماتها، يشعر بمدى تأثير تلك الكلمة عليها، ولكن وصلت السيارة إلى مشفى بعيدة عن القرية، لترجل جبران سريعًا حاملًا يقين على ذراعيه، يدلف بها إلى المشفى واضعًا إياها داخل سرير الطوارئ ثم أخرجوه كي تبدأ المشفى بإجراء اللازم، بقي جبران بالخارج يشعر بقلقٍ عليها، نعم يعترف ان طريقتها تعصبه ولكن لا يرفضها هي، زفر بتعبٍ يتطلع للباب الذي أغلق عليها، وهو واقفٌ بعيدًا.
ابتسم بسخرية على حاله فلو كان عاشقًا لها، ماذا سيحدث له!، تحرك ذهابًا وايابًا وقد جن عقله من حديثها الأخير، إلى أن رأى الطبيب يخرج من الغرفة، ليتقدم نحوه متمتمًا بقلق:
_ طمني يا دكتور هي عاملة إيه؟
حدق بها الطبيب ثم سأله بجدية:
_ حضرتك مين؟!
اجابه جبران بنفذ صبر:
_ أنا جوزها ممكن اعرف مالها؟!
أومأ الطبيب ثم اجابه بعملية:
_ المدام جت في الوقت المناسب، قرصها تعبان والسم كان بدأ ينتشر في جسمها ولأن جسمها ضعيف شوية الأعراض ظهرت بوضوح ودا ساعدنا و الحمدلله مقعدتش وقت اكبر من كده ولحقنها ودلوقتي هتفضل معانا للصبح لحد ما نطمن عليها وتقدر تمشي بكرة.
تحرك الطبيب من أمامه ثم غادر بينما وقف جبران يشعر بصدمةٍ من حديث، كانت بدقائق ستصبح جثةً ليس بها حياة، تألم قلبه وشعر بسكاكين ضميره تنغرس به، وظل ينتظر انتقال يقين إلى الغرفة وبالفعل وجدهم يخرجون بها على فراش متحرك ( التروالي) لتصبح بغرفة عادية، وصل لها جبران إلى الغرفة ودلف بخطواتٍ هادئة يتأمل ملامحها الباهتة، وجهها النائم وخصلات شعرها المتمردة من طقيتها الطبيبة الزرقاء، جلس على المقعد بالقرب من فراشها، وبدأ بتأمل ملامحها، ثم رفع كفه بتردد يقربه من كفها حتى لمسها، تمسك بها قليلًا وكأنه يعتذر، لا يعلم على ماذا ولكن يحمل نفسه كامل الذنب.
***********
دلف غفران إلى المنزل تاركًا تلك المسكينة تسير بآلامٍ انتشرت بقلبها، ولكن قبل ان يصعد غفران إلى الأعلى استمع لصوت عامر يأتي نحوه بعدما انتبه لوجوده يهتف بسعادة:
_ اخيرًا جيت دا أنا بعتلك الصور بتاعت كتب كتابكم.
اومأ غفران ثم صعد سريعًا تاركًا إياه، في حين حدق عامر به ثم همس بسخط:
_ بقى دا منظر عريس.. اعوذ بالله من دي اشكال.. الحمدلله الذي عافني مما ابتليت.. يارب أبقى عريس منور كده يوم فرحي وبزغرط كمان.
قاطع تذمره على طريقة شقيقه دلوف فاطمة بملامحٍ باهتة شاردة، تتحرك دون وعي، قطب عامر جبينه بدهشة، ثم اتسعت حدقتيه فجأة قائلًا بفزعٍ:
_ بت يا بطة الواد دراكولا دا عمل فيكِ ايه بظبط! ما أنا عارفه ميعتقش حد إلا لما يعلم عليه بنكده.
ابتسمت له فاطمة بحزنٍ، تجيبه بنبرةٍ حزينة:
_ عادي يا عامر مش فارقة أوي.. لما نكون أنا واخوك بنحب بعض تخاف.. إنما اللي بيني وبين غفران اتحكم عليه من أول لما مأذون جوزنا بالإعدام.
شعر عامر بمدى حزنها، ولمس قلبه نبرتها التي ارتجفت من الحزن، ليهتف بجديةٍ مزيفة كي يزل عنها حزنها:
_ تفي من بوقك.. اعدام ايه بس.. دا أنتم بكرة هلقيكم بطفحونا فراشات.
ضحكت بحزنٍ على حديثه، متذكرة تهديد غفران الصريح بالطلاق، في حين ردد عامر بحماسٍ مفاجئ حتى يخرجها من تلك الحالة:
_ جبتلك هدية جوازكم يارب تعجبكم.
نظرت له فاطمة باهتمام، في حين أسرع عامر نحو الأريكة الموجودة بالردهة وحمل صندوق هدية لها، ثم تقدم نحوها يقدمه لها قائلًا ببسمة طيبة:
_ يارب تعجبك الهدية.
ابتسمت له بامتنانٍ شديد، تمسك الصندوق بحبٍ، قائلة بنبرة تحمل القليل من السعادة:
_ مش عارفة اقولك ايه يا عامر بجد.. حقيقي أنت أحسن حد قابلته في البيت دا.
خجل عامر من حديثها، ليردد وهو يشيح بيده لها:
_ بس بقى بتكسف.
ضحكت فاطمة على طريقته، بينما أشار لها عامر بأن تفتح الصندوق مرددًا بحماس:
_ طب مش هتفتحي الصندوق؟
اومأت برأسها ثم أمسكته وبدأت بفتحه لتكشف ماهية تلك الهدية، وسرعان ما اتسعت عينيها فرحًا، تتأمل ما داخل الصندوق، ثم رفعت إحدى الكتب مرددة بسعادة بالغة وقد تبخر حزنها:
_ أنت عرفت منين إني بحب القراءة.. حقيقي كنت محتاجة كتب أقرأ فيها وروايات.
كانت تحدثه وهي تتأمل محتويات الصندوق بحبٍ، بينما اجابها عامر ببعض الحرج:
_ دورت على صفحتك على الفيس وقلبت فيها وعرفت انك بتحبي القراءة.
اومأت تؤكد حديثه، تتحدث وكأنها ترى حبيبًا لها:
_ القراءة دي زي الإدمان كده.. بتاخدك لعالم تاني.. بتقدر تخرجك من مود زعلك.. تقدر تسحرك بدون ما تحس.. دي عالم تاني بتاخدك ليه عشان تشيل اللي مزعلك.. أنا بعشق الكتب وريحتها كمان وكل ما يخص الكتب والقراءة.
نظر لها بذهولٍ من حبها للكتب، في حين حملت فاطمة الصندوق تنظر له بامتنانٍ قائلة:
_ أنا حقيقي بشكرك على الهدية الثمينة دي.. وهطلع اقرأ أول رواية فيها النهاردة.
ابتسم لها عامر، وشعر برضا عن الهدية بعد ردة فعلها، فقد شعر بأنها ليست ذات اهمية، ولكن هي من منحته قيمتها من ردة فعلها، عاد للأريكة مجددًا ينتظر عودة يقين كي يعطيها هديتها، بينما صعدت فاطمة تحمل هذا الصندوق، تنطلق نحو الحمام سريعًا كي تبدل ملابس وتبدأ بقراءة هذه الكتب متجاهلة غفران تمامًا وكأنه غير موجود.
***********
انكمشت ملامحها بانزعاجٍ واضح، تفتح اهدابها بعد سماع صوت المنبه بهاتفها، نظرت للساعة ثم نهضت بتكاسل، فهي الثانية بعد منتصف الليل، تحركت نحو خزانتها وحملت ملابسها تستعد للذهاب قبل أن تفيق بناتها، ترتدي ملابسها بقلبٍ منفطر لأجلهن، ولكن هكذا حكم والدها ولن تفعل سوى ما يخبرها به، انتهت من ارتداء ملابسها وحملت حقيبتها تغادر الغرفة بهدوءٍ، تنظر للطرقة الفارغة يملأها السكون، ثم انطلقت نحو الأسفل في الخفاء تتأمل شاشة الهاتف لترى ما تبقى من وقت لتصل السيارة التي ستنقلها إلى القاهرة، وما كانت إلا دقائق حتى أتت السيارة ودلفت بها بأعينٍ تمتلأ بدموع، تحاول السيطرة على ذاتها وقلبها النابض بالخوف من ترك المنزل ولكن ما باليد حيلة، انطلقت السيارة وبقت ناهد عينيها معلقتان على الطريق تسير نحو طريقها الذي لا تعلم منه هواية.
************
الانسان يصبح نصف ميت أثناء نومه، ولكن عندما يعود للواقع تبدأ مركز الاحساس لديه بالعمل، شعرت بيد تمسك كفها، لتتحرك اهدابها ببطءٍ متكاسل، حتى فتحتهما، تنظر لما يقبض على كفها حتى وجدته جبران قد غفى مكانه ولا تزال يده على كفها، حاولت سحب يدها ببطءٍ بعيدًا عنه ولكن شعر بها وفتح عينيه يتطلع لها ببعض الألم الذي أصاب رقبته، أزاح يده يضعها على رقبتها يحاول تدليك موضع الألم، قائلًا وهو ينظر لها:
_ أنتِ كويسة؟ احسن دلوقتي؟
نظرت له بهدوءٍ، ثم قالت تزيح نظرها عنه:
_ آه الحمدلله.
تضايق من حركت تجاهلها له، ثم نهض من مكانه ليحضر الطبيب وقبل أن يمسك بمقبض الباب عاد يستدير نحو يقين التي تفاجأت من عودته لها فجأة بخطواتٍ متأنية أثارت توترها، ابتلعت لعابها وهي تنظر لعينيه المسلطتان عليها، ثم قالت بتوترٍ:
_ هـ هو أنت بتقرب كده ليه؟
لم تتغير ملامحه ولكن ظل يقترب حتى وصل إليها يقف أمام فراشها، ثم بدأ ينحني بجزعه العلوي ليقترب منها، بينما ضربت السخونة وجنتيها، تتراجع للخلف بظهرها، إلى أن قابلتها وسادة الفراش فلم تعد تستطيع التراجع، رفع جبران يده لها ولكن انتفضت يقين من مكانها تضع يدها على وجنتها وكأنها تحميها.
توقف عن الحركة ينظر لها بتدقيق، يشعر بالضيق من ظنها به، ليهتف بنبرة هامسة مختنقة:
_ أكيد مش همد ايدي عليكي يا يقين!
ابتسمت بحزنٍ تحاول كبح دموعها التي بدأت بظهور، ثم قالت وهي تنظر للأسفل بنبرةٍ مبحوحة:
_ بس أنت قولتلي إنك هيجي يوم وتمد ايدك عليا.
رمش بأهدابه بصدمةٍ، لم يتوقع أن تصدق حديثه بتلك اللحظة، فلم تكن سوى لحظة عصبية مما تفعله، أكمل رفع يده يدخل خصلات شعرها داخل تلك القبعة الطبية، يحاول اخفاء ما يظهر منه، ثم همس بصوتٍ هادئ:
_ أنتِ مرات جبران.. يعني جوهرة لزمًا يتحافظ عليها وميحقش لحد يشوف اللي من حقي.. واللي يحاول يبص عليها يتخزق عينيه.
ارتجف جسدها أثر لمسات يده التي تخفي شعرها، نبرته الهامسة الغيورة، نعم أحبت تلك النبرة وتلك الطريقة، ابتعد عنها جبران ثم انطلق إلى الخارج الغرفة يبتسم بهدوءٍ عندما رأى وجنتيها المتوردتان، يبحث عن الطبيب إلى أن وجده ليأتي به ويخبرهما أنها يمكنها المغادرة.
وقفت يقين بتروي كي تبدل ملابسها، ليقف جبران معها قائلًا بجدية:
_ تعالي عشان اساعدك.
جحظت عينيها بصدمةٍ مما تفوه به، تتراجع للخلف قائلة:
_ تساعد مين!
نظر لها بتعجب، ثم اجابها:
_ اساعدك تغيري؟
شهقت بفزعٍ تردد وهي تتراجع لأخر الغرفة:
_ ت.. ايه يا خويا تغيرلي! ليه جالي شلل سداسي قدامك ما أنا بتحرك اهوه.
تأمل طريقتها وخجلها ثم ضحك بخفةٍ عليها، وقرر مغادرة الغرفة وهاتفًا بمكر:
_ أنا هخرج بس خمس دقايق لو مخلصتيش هدخل اساعدك.
غمز لها ضاحكًا ثم غادر الغرفة، بينما لطمت يقين على صدرها قائلة بصدمة:
_ غشيم وقليل الأدب الاتنين!
*********
انفاسه المشتعلة بضيقٍ منها، فهي منذ أن استيقظ وهي تمسك بالكتاب في اهتمامٍ بالغ، تحرك عينيها على سطوره بشغفٍ واضح، زفر باختناقٍ من تجاهلها لا يطيق التجاهل، وأيقن أن التجاهل يصنع المعجزات.
انتبها لها وهي تضع الكتاب جانبًا، تنهض من مقعد الشرفة، تقف أمام المرآة تضبط حجابها بإحكام، ثم ما كادت أن تغادر حتى ارتفع صوت غفران الحانق:
_ رايحة فين؟!
لم تستدر نحوه بل ظلت توليه ظهرها تفتح الباب بهدوءٍ قائلة بجمود:
_ هعملي حاجة اشربها.
تركته بعدما القت جملتها، تهبط من أعلى الدرج، تاركة إياه يشتعل من الغضب، دلفت إلى المطبخ لتجد أم عبده واقفة تعد طعام الغداء، ابتسمت لها قائلة بحبور:
_ عاملة ايه يا طنط؟
منحتها ام عبده بسمة فرحة، تجيبها بودٍ:
_ بخير يا حبيبتي.. طمنيني عليكي وعلى جوزك عاملة ايه معاه؟
ابتسمت فاطمة بحزنٍ فمنذ أن رأت والدتها مرة ولم تراها مجددًا، اجابتها فاطمة ببسمة حزينة:
_ الحمدلله يا طنط.. ادعيلنا.
ربتت أم عبده على كتفها، تمد يدها لترفع وجهها قائلة بحنان:
_ ليه بس نظرة الزعل دي!
لم تجيب فاطمة، بينما اومأت أم عبده بإيجابية، متمتمة:
_ خلاص يا حبيبتي متقوليش.. بس عايزة اعرفك حاجة جوزك حنية الدنيا فيه.. اسأليني أنا عرفاه من زمان.. بس اللي منها لله بنت خاله من يوم ما سبته بعد الحادثة والاعاقة اللي حصلتله وبقت واضحة وهو مبقاش يطيق أي ست تمشي قدامه..
نظرت لها فاطمة بعجزٍ، تهتف بألمٍ:
_ ازاي كلكم شايفينه كده وأنا لاء؟
منحتها بسمة رضا، ثم قالت بحكمة:
_ عشان إحنا عارفين الصورة القديمة والجديدة، إنما أنتِ مشوفتيش غير الجديدة بس فعشان كده معندهوش رصيد حلو عندك.. بصي يا حبيبتي أنا متأكدة أن غفران هيعمل حاجة حلوة ليكي وهتحسي بيه.. بس لحد ما يعمل كده راعي ربنا وعالجي جروحه بطيبتك وحنيتك وأصلك بنات الناس بيعملوا دايمًا بأصلهم وأنتِ أصلك طيب.. وبرضو مع الوقت هتلاقي نفسك بتحبيه.
تأملت فاطمة حديثها، وشعرت بمدى صحته، رغم ان تلك السيدة لم تحصل على تعليم بمدراس ولكن مدارس الحياة كانت كافية لمنحها دورسًا عن التعامل مع البشر، فاقت من شرودها على صوت عامر الهاتف بقلق:
_ مالها يقين؟
خرجت فاطمة سريعًا من المطبخ تشعر بقلقٍ على شقيقتها، لتجد جبران يساندها إلى الداخل، اقتربت منها سريعًا ولم تلاحظ المسافة المنعدمة بينها وبين عامر وجبران، تتأمل ملامح شقيقتها الباهتة قائلة:
_ مالك يا حبيبتي حصلك ايه؟
ابتسمت يقين بحبٍ لها، تتأمل خوفها عليها الذي اسعدها واشعرها بأنها مرغوبة، لتهتف بحبٍ:
_ أنا كويسة يا فاطمة.. متقلقيش عليا يا حبيبتي.
تأملت شكلها قليلًا بقلقٍ لا يزال ظاهر، ليردد جبران ببسمةٍ هادئة:
_ متقلقيش أنا هاخد بالي منها.
نظرت له فاطمة بامتنان، ثم عادت لشقيقتها تمسح على احدى وجنتيها قائلة:
_ خلي بالك على نفسك يا وجه الأرنب.
ضحكت يقين بضعفٍ على لقبها، بينما لاحظ جبران تغير حال يقين ما أن بقت مع شقيقتها فاطمة وحدثتها ببضع كلمات وقرر الصمت يراقب افعال تلك المجنونة، صعد بها إلى الأعلى بينما دلفت فاطمة تعد لها مشروبها الخاص( نسكافيه).
**********
ضرب على جبينه بغيظٍ يردد بنهرٍ:
_ نسيت اديها الهدية.
تحرك عامر نحو الأريكة يحمل من عليها صندوق يشابه صندوق فاطمة باختلاف اللون، يحتوي على مجموعة خاصة بالعناية بالبشرة فهي تعشق مثل تلك المنتجات وكانت تتمنى أن يمنحها أحد إياها كهدية، تأمل عامر الصندوق، ثم لاحظ دلوف جبران إلى المطبخ، فأسرع إلى الأعلى حاملًا الصندوق وما أن وصل حتى طرق على الباب بخفةٍ سمحت له يقين بالدلوف ليهتف عامر بسعادة تاركًا الباب مفتوح:
_ حمد لله على السلامة.. فضلت سهران طول الليل لغاية ما أغمى عليا على الكنبة وجالي الغضروف منكم ونمت.
ضحكت يقين على حديثه المتحسر ويده الموضوعة على رقبته، بينما تقدم عامر يضع الصندوق على الفراش حيث تجلس قائلًا ببعض الحرج:
_ جبتلك هدية جوازك.
اتسعت ابتسامة يقين سعادة، ثم تأملت الصندوق لتفتحه بلهفة حتى اتسعت عينيها بسعادة قائلة:
_ شكرا يا عامر بجد شكرا.. دي أول مرة تجيلي هدية من حد عشان مناسبة.
ظن عامر أنها تمزح، بينما أكملت يقين بمرارةٍ:
_ عشان دايما غبية وببوظ الدنيا قدامهم فكانوا يعقبوني إني مخدش هدية.
صُدم عامر من حديثها، وكذلك الواقف على اعتاب الغرفة، فأي شخص يحصل على هدية لو بسيطة، ليتمتم عامر بمرحٍ مزيف:
_ بطلي هزار يا سوسة.. عارف أن الهدية مش كبيرة ومش حلوة وبتجبري بخاطري.
رفعت بصرها بأعينٍ تغرقها الدموع، تتحدث بصوتٍ مبحوح:
_ أنا بتكلم بجد يا عامر.. أنا محدش كان بيجبلي هدية.. ولما ماما كانت تجبلي واعمل حاجة غلط تعاقبني وتاخد الهدية مني واتحرم منها وتديها لبنت جارتنا في نفس سني.
لم يستطع عامر الحديث بذلك الوقت، بل لا يوجد ما يتفوه به معها، مسحت دموعها سريعًا تعبث بالصندوق قائلة بحماسٍ حاولت اظهره:
_ الله يا عامر حلوة أوي الهدية.. الواحد حاسس أنه نتن في البيت دا.. بس عرفت منين يا سوسة إني بحب منتجات البشرة.
هندم عامر ملابسه قائلًا بغرورٍ:
_ مصدري الخاصة.
لم يكمل جملته معها بعدما أمسكه جبران من كتفه بقوةٍ قائلًا بهمسٍ مخيف:
_ هو أنا مش قولت محدش يدخل الأوضة بتاعتي ويلمس حاجتي.
انتفض عامر بخوفٍ منه، ينظر له بتوترٍ مجيبًا:
_ مـ...ما يقين قاعدة فيها!
نظر جبران إلى يقين التي تتابع المشهد باهتمامٍ تنتظر الاجابة بطريقة عجيبة، بينما عاد بنظره إلى عامر قائلًا بنبرة مخيفة:
_ شكلك عايز علقة من بتوع زمان.
اتسعت عينيه ذعرًا، يحرك رأسه بنفيٍ، ليدفعه جبران بقوةٍ غاضبًا، يردد بعصبيةٍ مخيفة:
_ أقل من دقيقة لو لقيتك في وشي مش هتقوم من مكانك حي.
زحف عامر سريعًا يخشى من تحول جبران الذي حدث، فذلك الوسواس القهري من لمس أو الاقتراب من اغراضه يحوله تمامًا لشخصية ذات عصبية مفرطة، ارتجف جسد يقين من تحول جبران المفاجئ، وابعدت نظرها عنه، بينما تقدم جبران من الصينية التي وضعها جانبًا عند دلوفه دون أن يشعر الأثنان، ثم اقترب من الفراش ووضعها جوار يقين يردد بنبرة هادئة نسبيًا:
_ أنا طلبت من أم عبده شوربة وفراخ عشان تقدري تاكليهم.
اومأت برأسها بإيجابية، ثم بدأت بتناول الطعام في هدوء تتجنب الحديث معه، زفر جبران باختناق من قلة حديثها معه، ونهض من مكانه تاركًا إياها تكمل تناول طعامها، بينما اوقفته يقين وهي تزيح الصينية جانبًا تتسأل بتردد:
_ هو.. هو أنت مجوبتش ليه على سؤال عامر؟
**********
صعدت تحمل مشروبها الخاص، تبتسم بسعادة وهي تتذكر ما وقفت عليه بتلك الرواية، دلفت إلى الغرفة لتجد غفران يجلس على الفراش مستندًا بيده على العكاز وكأنه كان واقفًا وجلس للتو، تجاهلته ودلفت للشرفة وبدأت ترتشف من المشروب وأمسكت كتابها تكمل القراء، ولكن انفصلت عن عالمها وهي تستمع لصوت غفران المخيف لا تعلم سر ارتجافها ولكن لهجته لا تحمل الخير:
_ ايه اللي وقفك جنب عامر وجبران بالشكل دا تحت؟
استمعت لحديثه وعادت تتذكر شقيقتها وأنها وقفت معهم بتلك اللحظة، لتجيبه دون النظر له ببرود مزيف:
_ عادي.. بطمن على اختي.
سحب منها الكتاب بعنفٍ، تحتد نبرته لقسوة:
_ لما اكلمك تبصلي مش تبصي للكتاب.
انتفضت فاطمة بضيقٍ منه قائلة بغضب جامح:
_ ابعد عني أنا مش طايقك اصلا.. وسبلي الكتاب على الأقل بينفعني اكتر منك.
صُدم غفران من حديثها، سمع جملتها ولكن اختلف الصوت، لِمَ تكرر كلماتها، لِمَ تفعل كما تفعل خطيبته بالسابقة، وتلقي عليه كلماتها اللاذعة، لم يشعر بذاته مجددًا وفقد السيطرة على جزءًا من داخله، لتتوحش عينيه بقوةٍ ثم يمسك بالكتاب ممزقا إياه بقوةٍ قائلًا دون وعي:
_ تفضلي طول عمرك حقيرة ومبتحسيش وأنا بقرف من وجودك ..
اكمل حديثه وهو يزيد من تمزيق الكتاب:
_اللي بينفعك دا هدمره عشان تستحقي أن أي حاجة حلوة تدمر في حياتك.
دفع ما مزقه بوجهها، بينما بقت هي تتطلع للكتاب بصدمةٍ تذرف الدموع دون شعور منها، و كأنها مجرى نهري، تغمض عينيها بعدما اصطدم بها الورق الممزق، ثم فتحت عينيها تتأمل ما فعله بألمٍ مخيف، رفعت بصرها نحوه تنظر لحدقتيه بأعينٍ تنبثق منها الآلام، تحرك رأسها بعدم تصديق لما فعله، بينما عاد غفران إلى وعيه مجددًا يتأمل عينيها اللتان تلتمعان بخذلانٍ ممزوج بألمٍ ثم الكتاب الممزق بعنفٍ ولكن المخيف بالأمر أنه أخرج جزءًا صغير من وحشه المكنون بداخله!