
رواية رماد لا ينطفئ الفصل السادس 6 بقلم رميسة
"ريحة بداية”
كانت الشمس لسه بتتمدّد على حيطان الحارة القديمة، والدنيا هادية إلا من صوت عربية العيش بتعدّي، وصوت جار بيكنس قدام باب بيته.
آسية وقفت قدّام المحل الصغير اللي كان منسي من سنين. إيدها شدّت على مقبض الباب الحديدي، ووشها عليه ملامح خوف وتعب، بس في نفس الوقت في شرارة أمل صغيرة في عينيها.
حنان وقفت جنبها، ماسكة كيس فيه شوية أدوات تنظيف، وقالت وهي بتبص لها:
حنان (بابتسامة مشجعة):
“افتحي يا ستي، دي أول خطوة في المشوار… وإنتي قدّها.”
آسية تنهدت، ومدّت إيدها بالمفتاح، وصوت الباب وهو بيتفتح كان كأنه بيفتح حكاية جديدة، باب على رزق ربنا.
أول ما دخلوا، ريحة التراب والقديم خبطت في وشهم، والضوء كان بيقطع الظلمة بشق خفيف من الشمس اللي داخلة من فتحة صغيرة في السقف.
آسية (بصوت واطي):
“يااه… قد إيه مهجور.”
حنان (وهي بتكح):
“كل حاجة بتتوضب يا بنتي، المهم النية.”
فرشوا جرنال على الأرض، وبدأوا يشيلوا التراب اللي مغطّي الرفوف. حنان كانت بتمسح الشبابيك، وآسية كانت بتغسل الحيطان بإيدها لحد ما اتوسّخت هدومها.
آسية (وهي بتكلم نفسها):
“زمان كنت بجيبه نظيف لجمال… دلوقتي بنضّفه برزقي أنا وولادي.”
العِرق نازل من جبينها، وشعرها نزل، لكن وشها كان عليه رضا غريب… كأن التعب ده بيريّحها.
شالوا الصناديق القديمة، ونضّفوا الرفوف واحدة واحدة. فرشوا حصيرة صغيرة على الأرض عشان يحطوا عليها الطلبات بعدين، وحنان قالت:
حنان:
– “إحنا مش بنوضب محل، إحنا بنوضب أمل.”
آسية بصّت لها، عينيها مبلولة، بس مبتسمتش… قالت بهدوء:
آسية:
“أنا مش عايزة أعيش مرتاحة… أنا عايزة ولادي يعيشوا آمنين.”
ولسه وهي بتتكلم، نور الشمس اتناثر على الحيطة اللي خلّصوا تنظيفها… كأنه بيقولهم:
“يلا، الطريق بدأ.”
قعدت آسيا على كرسي خشب مكسور، كانت جابته من عند جارتها، ومسحت عرقها بطرف طرحتها. ضهرها وجعها من كتر الانحناء، بس في قلبها كان فيه إحساس خفيف بالانتصار… “أنا عملت حاجة.”
حنان كانت بتلمّ الزبالة في كيس كبير وقالت وهي بتضحك:
حنان:
“ده المحل قلب، والله لسه فيه روح… شوية رتوش ونفتح على بركة الله.”
آسية (بتنهّد):
“كنت خايفة مش نقدر… بس اهو، خلّصنا التنضيف، وربنا يسهّل في الباقي.”
علّقوا ستارة بسيطة على الباب من جوّه، ونضّفوا الرفوف اللي على الحيطان، وسندوا طاولة صغيرة جنب الحيطة هيتحط عليها الحلويات بعدين.
حنان دخلت المية من عند جارتهم، وغسلوا الصحون القديمة، وفردوا مفرش نظيف على الطاولة.
آسية وقفت في نص المحل، بصّت حواليها، وابتسمت ابتسامة خفيفة فيها دموع فرح وتعب وقالت:
آسية:
“بكره نحط هنا رزقنا… وهنا نعلّق المنيو… وهنا نحط فطير مراد اللي بيحبّه."
وبينما كانت بتضحك، سمعوا صوت رجلين صغيرة بتجري في الحارة، وصوت نرجس بتنادي:
نرجس (من برّة):
“ماماااا… إحنا جينااا!”
آسية مسحت إيديها في المريلة، وخرجت لهم بسرعة. كانوا جايين من المدرسة، شنطهم باينة تقيلة، ووشهم متغطي بعرق خفيف.
بعد ما خلّوا شنطهم جنب الحيطة، قعدوا مراد ونرجس على الكرسيين اللي في جنب الحانوت، كانوا عرقانين وتعبانين، بس الفضول باين في عيونهم
مراد (بيتنفّس بصعوبة):
“مامااا، انتي هنا؟! ده المحل… ده بتاعنا؟”
نرجس (بتبص حواليها):
“ده إيه اللي حصل؟ إنتي بتشتغلي هنا؟”
آسية نزلت على رُكَبها قدامهم، وحضنتهم هما الاتنين:
آسية (بصوت حنين وتعب):
“أيوه يا حبايبي… من النهارده هنشتغل هنا. خلاص، سيبت الشغل اللي كنت فيه. وهنا… هنا هنبتدي من جديد. بس هتساعدوني… موافقين؟"
مراد (ببراءة):
“ماما… يعني إنتي هتشتغلي إيه هنا؟ هتبيعي إيه؟”
نرجس (وهي بتبص حوالين المكان):
“وهنساعدك إزاي؟ هو المكان ده بقى بتاعنا؟”
آسية ابتسمت، وجابت نفس عميق، وقعدت على الركبة قدامهم:
آسية:
“بصوا يا حبايبي، من النهاردة… إحنا هنفتح المحل ده ونبيّع أكل بيتي. أكل زي اللي بحب أطبخه ليكم، وناس كتير بتحبه.”
مراد (بفرحة):
“يعني هنبيع كفتة؟”
آسية (بتضحك):
"لو طلبوها… نعملها. هنبدأ بحاجة بسيطة… ساندويتشات، فطير، بطاطس، وممكن كمان شوية كيك صغير، زي ما كنا بنعمل في البيت.”
نرجس (بصوت حنون):
“يعني انتي بقيتي ست شغالة عند نفسك؟”
آسية (بعيون فيها لمعة):
“أيوه، يا نرجس. بقيت ست بشغلها وعرقها. بس من غيركم مقدرش… لازم نشتغل سوا. إيد واحدة.”
مراد (بحماس):
“أنا هغسل الصحون!”
نرجس (بفرحة):
“وأنا هكتبلِك المنيو بخط حلو!”
ضحكت آسيا لأول مرة من قلبها، ونظرت لحنان اللي كانت واقفة بتتفرّج من بعيد وهي مبتسمة، وقالت:
آسية:
“شايفة؟… لسه في خير في الدنيا.”
ضحكت آسيا، وضحكت معاهم حنان من جوّه المكان. اللحظة دي كانت بسيطة، بس كانت بداية لحاجة جديدة… دفء، أمل، وشوية قوة كانوا مستخبيين جوا الضعف.
لسه آسيا بتكنس قدّام باب الحانوت، ونرجس قاعدة على كرسي جنب مراد بيجهّزوا المناديل والبلاستيك، لما ظهرت “أم نوال” جارتهم من آخر الشارع، ست كبيرة دايمًا صوتها عالي ووشّها بشوش.
أم نوال (بصوتها المعتاد):
“إيه ده! ده النور نوّر والله، إيه الحلاوة دي يا آسيّة؟”
رفعت آسيا راسها وابتسمت بارتباك بسيط، ومسحت إيديها في المريلة:
آسية:
“أهلاً بيكي يا طنط أم نوال… ده من نورك، إحنا كده بنحاول نبدأ بشوية حاجات بسيطة.”
أم نوال (بتبص حواليها):
“بسيطة إيه بس! المحل متوضّب زي الفل، وربنا يفتحها فوشّكم يا بنتي… والنبي لسه راجعة من المشوار ومش طابخة، عندكم إيه؟”
نرجس (بحماس):
“عاملين فطاير بالجبنة والبطاطس، وفي كمان شوية بطاطس محمرة، وماما عاملة صوص كده بيشهي!”
أم نوال (بضحكة):
“خلاص… اعمليلي اتنين فطيرة بالجبنة وواحدة بطاطس، وخليهم سخنين كده، أهو نتغدى ونقول مبروك.”
آسية دخلت بسرعة تحضّر، ومراد قام يساعدها يلفّ الساندويتشات، ونرجس راحت قدّام تفضّي الطاولة الصغيرة وتحط المناديل.
آسية (بصوتها وهي بتحط الأكل في الكيس):
“أول طلبية من حتة قلبي يا طنط، دي هدية المحل ليكي، على وش الخير.”
أم نوال (بامتنان):
“تسلميلي يا بنتي، والله ربنا يكرمك ويعوضك عن التعب… وإنتي بنت ناس بصحيح.”
اتبادلوا ضحكات خفيفة، كانت بسيطة لكنّها مليانة دعم، وفي عيون آسيا دمعة صغيرة بتلمع… دمعة فرح، وكرامة، إنها وقفت على رجليها.
لما مشت أم نوال، لفّت نرجس بذراعها حوالين خصر أمها:
نرجس:
“شُفتي؟ أول زبونة ومبسوطة… هننجح يا ماما.”
آسية (بصوتها المليان أمل):
“إن شاء الله… خطوة بخطوة، والحياة تروق بينا.”
الشمس كانت خلاص بتميل للمغيب، والضوء الذهبي سَكَن ملامح الوجوه المتعبة لكن الراضية. آسيا قعدت على العتبة قدّام المحل، ووشّها عليه شوية تراب، وفيه ابتسامة صغيرة على شفايفها. نرجس قاعدة جنبها بتعد الفكة، ومراد بيضرب في كيس شبسي فرحان بأول يوم.
آسية (بصوت خافت وهي تبص للسما):
“الحمد لله يا رب… يوم عدّى من غير ذل، من غير ما نمد إيدنا لحد.”
نرجس سندت راسها على كتف أمها:
نرجس:
“أنا فخورة بيكي، يا ماما.”
آسية حضنتها، سكتوا شوية، والهدوء خيّم على المكان.
وفجأة، نسمة هوى باردة لفّت الزقاق، وهدوء غريب خيّم على المكان. في آخر الزنقة، تحت عامود نور مطفي، كان فيه راجل واقف.
لبسه غامق، سيجارة مولعة بين صوابعه، والدخان بيطلع ببطء… عينه مثبتة على الحانوت، على آسيا ولادها، كأنه بيراقبهم من وقت طويل، بس نظرته كانت ثابتة عليهم.
ما اتحركش… ما بانش ملامحه… بس في لحظة، لف ظهره ومشي بهدوء في الضلمة.
آسية حسّت إن في شي، لكنها ما شافتش حاجة… بس قلبها اتقبض فجأة، من غير سبب واضح.
بعد مرور شهر،
الدنيا بدأت تضحك لهم شوية، الزباين بقت تعرف طريقهم، ونرجس بقت تساعد أمها في ترتيب الرفوف، ومراد يتفنّن في لف السندويتشات الصغيرة للأطفال اللي يمرّوا عليهم من المدرسة.
آسية ما كانتش بتضحك كتير، بس ملامحها بقت أهدى… كأنها لقت نفسها وسط الشغل، وسط ولادها.
حنان كانت دايمًا معاهم، إيديها بإيد آسيا، ضحكتها سند، وكلامها بلسم.
الساعة كانت قرّبت على عشرة، والشارع هادي، إلا من صوت كلاب بعيدة بتنبح، والهوى بيحرّك ورق الشجر في الحارة.
آسية لبست عبايتها بسرعة، لفتها على شعرها وهي بتعدّل طرفها عند كتفها. بصّت على نرجس اللي كانت قاعدة قدام التلفزيون، وضهرها محني، والضوء الأزرق من الشاشة ملوّن وشها بتعب.
“هاروح المحل دقايق أظبط كام حاجة قبل بكرة. خلي بالك من أخوك، نايم جوه… ماتفتحيش الباب لحد، ماشي يا نرجس؟”
نرجس لفّت وشها وقالت:
“ماشي يا ماما، خلّصي بسرعة.”
آسية ابتسمت لها، ابتسامة تعبانة، وخرجت.
الباب اتقفل، لكن ماكانش راكب كويس… فضل موارب شوية.
نرجس قعدت مكانها، عينيها على التلفزيون، بس تفكيرها بعيد. الجو في البيت كان هادي، ونَفَس مراد من أوضته بيوصل لودنها في صمت.
وفجأة…
خطوة تقيلة… حاجة اتحرّكت برّة
ويحيى، جارهم اللي دايمًا بيقعد يرمي كلام سخيف في الشارع، كان شايف آسية وهي خارجة، وركّز إن الباب ما اتقفلش قوي.
دخل… من غير صوت… وابتدى يمشي جوه الشقة على أطراف صوابعه.
نرجس سمعت حركة… رفعت راسها ، لقت خيال واقف عند باب الصالة.
“ماما؟”
لكن اللي دخل مش أمها. كان يحيى.
عنيّه فيها حاجة غريبة… مريبة. مش نفس الضحكة التافهة اللي دايمًا بيضحكها في الشارع.
قال بصوت واطي:
“انتي لوحدك؟ مامتك خرجت؟”
نرجس وقفت، قلبها دق بسرعة.
“إنت بتعمل إيه هنا؟ إطلع برا… حالًا!”
“ليه الخوف ده؟ أنا بس كنت عايز أطمن عليك… شكلك خايفة… تعالي، مش حاعملك حاجة.”
ابتدى يقرب.
نرجس رجعت لورا، قلبها هيقف.
“أنا هصرخ!”
“صرخي زي ما تحبي، محدش هيسمعك دلوقتي.”
مد إيده عليها وحاول يمسكها.
نرجس جريت، دخلت المطبخ، سكّرت الباب، وإيدها بتتهز وهي تقفله بالسّكينة الخشب. لكن الباب قديم، مفيهوش قفل.
"إطلع برااا!!” صوتها كان بيترعش.
هو فضل يخبط على الباب… وبعدين دفعه بشدّة لحد ما اتفتح.
نرجس كانت لزقة في الحيطة، لقيت سكينة صغيرة على الرخامة، مسكتها بإيد ضعيفة، وإيدها التانية بتمسح دموعها.
“قُلت لك إبعد عنّي!”
لكنه مد إيده عليها… لحظة وحدة… والسكينة دخلت في جنبه.
شهق.
وقع… والدم ابتدى ينزل على الأرض.
نرجس وقفت، السكينة وقعت من إيدها، عينيها متثبتة عليه… الدم بيسيل من تحته، وهي مش قادرة حتى تصرخ، طلعت لصالة بخطوات مرتعشة متمسكة بالحيطة.
بعد دقايق… باب البيت اتفتح.
آسية دخلت، “نرجس؟ فين أخو…؟!"
سكتت.
شافت وش بنتها… شاحب، دموع، جسمها بيترعش.
جريت عليها، حضنتها، وقالت :
في ايه ؟ ايه اللي حصل انتي كويسةً…؟!
“أنا… أنا ما كنتش أقصد… هو اللي دخل… وهو… حاول…”
“هششش يا بنتي… خلاص… خلاص يا روحي… أنا هنا.”
مراد صحي على صوتهم… بس آسية قالتله يرجع أوضته بسرعة.
آسية جرت فتحت باب المطبخ، وشافت المنظر… اتجمدت للحظة، وبعدها قالت بصوت مبحوح:
“لازم نمشي… دلوقتي…”...