
رواية رماد لا ينطفئ الفصل الرابع عشر 14 بقلم رميسة
الليل كان هادئ، لكن قلب جمال كان بيغلي وكأنه بركان على وشك الانفجار….
جمال كان واقف ثابت مكانه، بس جواه بركان شغال…
نفسه بيطلع بسرعة، وحرارة غريبة بتجري في دمه، وصوت دقات قلبه عالي لدرجة إنه حس إنه هيسمعه اللي قدامه.
الستارة المرفوعة خلت كل حاجة قدامه واضحة… أسية، ضحكتها الخفيفة وهي بتبص على ماهر، وإيدها اللي بتمسك كم البلوزة عشان تساعده يرفعها برفق عن كتفه المصاب.
ضحكة ماهر كانت هادئة، لكن جمال سمعها في ودنه كأنها بتستفزه عن قصد.
أسية واقفة قدام ماهر، بتعدل له القميص عشان ما يوجعوش جرح كتفه، وابتسامة صغيرة على وشها… ماهر يقول حاجة وهي تضحك بخفة، الضحكة اللي كانت زمان ملكه لوحده.
جمال حس قلبه بينضغط… إيده اتشدت على إطار الشباك لدرجة إن عروقه بانت.
فضل واقف يتابعهم من غير ما يحس بنفسه، إيده اتشنجت على طرف الشباك، نفسه اتقل.
وفجأة… عينيها لمحت عينيه، نظرة قصيرة بس كفيلة تحرق الكلام كله.
بهدوء، مدّت إيدها وسحبت الستارة قدّام وشه، تاركة جمال واقف في مكانه، والغليان جواه بيزيد.
جمال وقف في مكانه، نفسه متقطع، وصوت الستارة وهي بتتهبط لسه بيرن في ودنه… كأنه صفعة مش مجرد قماش اتسد.
جمال خلاص قرر… لازم يواجه أسية دلوقتي، مش قادر يستحمل أكتر من كده. خطا خطوات سريعة ناحية باب الجناح، قلبه بيدق بسرعة، وعينيه لسه شايفين ضحكتها وهي مع ماهر.
فجأة… موبايله رن.
نظر للشاشة بغيظ… هيام.
ضغط على زر الرد وهو بيكتم أنفاسه:
“خير يا هيام؟”
صوتها جاله متوتر وقلقان:
“جمال… إنت فين؟ تعالى بسرعة آدم سخن فجأة ومش عارفة أعمل إيه!”
شد نفسه، أسنانه اتطبقت على بعض، وعينيه رجعت للشباك لحظة أخيرة قبل ما يدور:
“جايلك…”
وبخطوات غاضبة، ابتعد… لكن صور أسية وضحكتها لسه بتطارده.
كان قلب جمال بيدق بسرعة وهو بيقطع ممرات القصر، كل خطوة بتزيد من إحساسه بالاختناق… الغيرة والغضب لسه مولعين جواه من المشهد اللي شافه، لكن صوت هيام في التليفون وهو بيقول “آدم سخن” خلاه يسيب كل حاجة ويرجع.
فتح باب الغرفة دفعة واحدة، الهواء البارد من المكيف لفح وشه، وأول حاجة شافها كانت هيام جالسة على طرف السرير، شعرها متساقط على كتفها وهي منحنية على آدم، بتحط كمادات مبلولة على جبينه.
آدم كان مغمض عينيه، ملامحه باينة عليها التعب، نفسه سريع ووشه محمر من الحرارة.
هيام رفعت عينيها بسرعة أول ما حست بيه، وقالت بصوت فيه قلق حقيقي:
“الحمد لله إنك جيت… أنا مش عارفة أعمل إيه، الحرارة مش راضية تنزل من بدري.”
جمال مشي خطوتين سريعتين، قعد على حافة السرير، ومد إيده يلمس جبين ابنه. الحرارة العالية خلت ملامحه تتجمد لحظة، وبص على هيام وقال بهدوء مصطنع:
“سخن فعلًا… ليه ما قولتيش من الأول؟”
هيام زفرت، وبصت على الكمادة اللي في إيدها:
“كنت فاكرة إنها هتنزل بعد الدوا… بس واضح إنه محتاج دكتور.”
جمال حرك راسه، عينه معلقة على آدم، لكن عقله… عقله كان لسه هناك، عند النافذة، عند صورة أسية وهي بتضحك لماهر.
حاول يطرد الصورة من دماغه، بس الضحكة كانت راجعة في أذنه، والصوت كان أوضح من أي حاجة حواليه.
لكن، ورغم اللحظة دي، صورة أسية وضحكتها ما فارقتوش… كأنها محفورة جواه.
شد نفس عميق، وبص على هيام وهو بيقول:
“جهزي نفسك… هنروح بيه المستشفى دلوقتي.”
في أقل من خمس دقايق كانت هيام لابسة عباءة خفيفة وشايلة شنطة صغيرة فيها أوراق آدم وأغراضه، بينما جمال شايل ابنه بحرص في حضنه.
هو نازل على السلالم، عينه كانت قدام، لكن ملامحه متجمدة… صامتة، وكأن أي كلمة ممكن تطلع منه دلوقتي هتولّع الدنيا.
باب القصر اتفتح على وسع، والهواء الليلي دخل ببرودته، لكن جوه جمال كان مولّع.
ركب العربية، حط آدم على الكرسي الخلفي وهيام جنبه، وهو نفسه قعد قدام ماسك الدركسيون بقوة لدرجة إن مفاصله بيضا.
هيام كانت كل شوية تبص على جمال من المراية، حاسة إن في حاجة أكبر من تعب آدم شغلاه، لكن مش قادرة تحدد هي إيه.
قالت بحذر:
“مالك؟ شكلك مش طبيعي من أول ما جيت.”
هو ما بصش عليها، عينه كانت على الطريق، وصوته جه منخفض وحاد:
“مش وقته يا هيام… دلوقتي أهم حاجة آدم.”
السيارة اتحركت بسرعة في الشوارع الفاضية، لكن جواه كان في دوشة وضجيج… مش بس على ابنه، لكن على الصورة اللي شافها قبل شوية، واللي مش قادر يمسحها من دماغه.
دخلوا عند الطبيب بسرعة، وبعد فحص قصير رفع الطبيب رأسه وقال بهدوء:
“ما تقلقوش… التهاب بسيط في الحلق، محتاج مضاد حيوي وراحة.”
هيام أخدت الروشتة وهي تتنفس الصعداء، وجمال واقف صامت.
خرجوا من العيادة، اشتروا الدواء من الصيدلية، ورجعوا للبيت.
طول الطريق، جمال سايق من غير ما ينطق بكلمة… كل ما يحاول يركز، صورة أسية وهي واقفة مع ماهر ترجع تفرض نفسها في عقله.
بعد ما رجعوا من عند الدكتور، دخلوا البيت على هدوء. أدم كان تعبان وحرارته لسه عالية، هيام حطته على السرير وبقيت جنبه لحد ما نام، وفضلت تمسح على شعره لحد ما هي كمان غلبها النوم.
جمال كان واقف في الركن، بيبص عليهم لحظة، وبعدين اتجه للسرير بهدوء. تمدد على ضهره، لكن النوم ما قربش منه.
ضلمة الغرفة كانت تقيلة، وصوت نفسها المنتظم جنبه كان بيقول إن الدنيا هادية… لكن جوه قلبه كان في عاصفة.
ليه المشهد ده ما بيفارقنيش؟
كل ما يقفل عينه، بيشوفها وهي واقفة قريبة منه… وشها قريب، ضحكتها، إيدها وهي بتمسكه عشان تساعده…
شد الغطا عليه بعصبية، وابتسامة ماهر اللي شافها من بعيد كانت بتزيده نار على نار.
حاول يقنع نفسه إن الموضوع عادي، إنها يمكن بس كانت بتساعده… لكن قلبه كان بيرفض يصدق، وكان فيه كم سؤال بيزن في دماغه:
يا ترى بيعملو ايه دلوقتي؟!
في ايه بينهم؟!
إيه اللي مخليها مرتاحة معاه بالشكل ده ؟!
اتقلب على جنبه، بص لهيام وهي نايمة…
حتى وهي هنا جنبي… دماغي مش معاها.
جمال قعد على السرير يتقلب، النوم كان هرب منه من بدري. كل ما يحاول يهدى، صورة أسية وهي بتضحك لماهر ترجع تلسع دماغه زي شرارة.
بعد دقائق من الصراع مع نفسه، قرر يخرج. لبس جاكيت خفيف، ونزل على الحديقة. الجو كان هادى، والنسيم البارد لفح وشه، لكن مهدّاش النار اللي جواه.
قعد على مقعد خشبي في الركن، عينه بترقب الجناح اللي شافها فيه قبل ساعات. فجأة، لمح حركة… أسية خرجت من باب جانبي للمنزل، ماسكة حاجة في إيدها، ويمكن رايحة ترميها أو تاخد شوية هوا.
عينيه اتسمرت عليها، قلبه دق أسرع.
وقف، وخطواته كانت واثقة لكن مش خالية من الغضب. ناداها بصوت منخفض فيه نبرة أمر:
اسية … اسية تعالي هنا، عايزك في كلمتين.
أسية تتفاجأ، قلبها يدق بسرعة، لكنها ترفع رأسها بثبات:
مشً جاية!! وأنت بتعمل ايه هنا في الوقت ده؟؟!
شد على أسنانه، واقترب خطوة:
لو ما جيتيش دلوقتي… والله أطلع على الجناح وأخلي الكل يصحى.
لكن نظراته المليانة إصرار وغضب خلّتها تتردد، وخوفها من فضيحة قدام العيلة غلبها. أخدت نفس طويل، وبخطوات بطيئة مشيت معاه، وهي تتجنب تبص في عينيه، وهو بدوره تحرك بسرعة بعيد عن القصر، كأنه خايف حد يشوفهم.
بعد ما بعدوا عن القصر، جمال وقف فجأة، إيده لسه في جيبه لكن نبرته كلها غليان :
“مين الراجل اللي كنتي معاه الصبح يا أسية؟”
أسية اتفاجئت من لهجته، حاولت تمشي كأنها ما سمعتش، لكن صوته شدها مكانها:
“اللي كنتي قاعدة جنبه وقريبة منه أوي… إيدك على كتفه وبتضحكي! مين؟”
هي لفت له ببطء، ملامحها ثابتة، وقالت ببرود:
“وإنت مالك شيئ مايخصكش!."
عينيه ضاقوا، وخطوته قربته منها أكتر لدرجة إنها حسّت أنفاسه:
“أنا مالي؟! أيوه، مالي… لما ألاقيك بتضحكي لواحد غيري وكأنك مش شايفاني، يبقى مالي أوي… ولما بشوفك واقفة معاه بالراحة كده، أنا مش بقدر أتحمل.”
أسية رفعت ذقنها بتحدي، لكنها حسّت بحرارة كلامه وضربات قلبه السريعة، وهو زادها:
“عارفة إحساسي ساعتها؟ كنت حاسس إن الدنيا دي كلها قفلت عليا… وإنك بتبعدي عني وأنا واقف أتفرج.”
أسية ضحكت بسخرية وهي تبص في عينيه:
“إنت جاي تحاسبني يا جمال؟ طب وأنا ما حسبتكش يوم عيد جوازك… لما كنت ماسك مراتك وسط الضيوف، وحاضنها كأن الدنيا ملككوا إنتوا الاتنين، وأنا واقفة أتفرج؟”
كلامها نزل عليه زي السهم، عينيه اتجمدت لحظة، وبعدين شال نظره عنها يحاول يلم نفسه، لكن نبرتها كانت لسه بتطارده:
“وقتها ما سألتكش… ما قلتلكش ليه عملت كده قدامي، ليه خليتني أحس إني ولا حاجة…”
هو حاول يفتح بقه يرد، لكن لقاها بتكمّل، صوتها فيه وجع متخبي:
“فـ بلاش تيجي النهارده وتعمل نفسك زعلان… إنت آخر واحد من حقه يسألني.”
أسية حاولت تبعد عنه وهي تقول ببرود:
“خلاص يا جمال انا ماشيه دلوقتي لو سمحت بطل تلاحقني".
لكن قبل ما تخطو خطوة، حسّ بإيده تمسك يدها بقوة، صوته مبحوح لكنه مليان إصرار:
“طب… ممكن أعرف إزاي كنتوا عايشين؟ وفين؟ وإزاي جيتوا هنا؟”
أسية وقفت لحظة، وبعدين قالت وهي بتشيح بنظرها بعيد عنه:
“قعدنا في الحارة أربع شهور… وبعدها نقلنا.”
سحبت إيدها منه وبدأت تمشي، لكن هو فضل واقف مكانه عينيه متسمّرة عليها وهي بتبتعد، أنفاسه تقيلة، وكأن الكلام اللي سمعه ضربه في قلبه.
همس بصوت مهزوز، يكاد يكون بكاء:
“كذّابة… عم تكذبي يا أسية… لأني رجعت بعد سنتين، ولقيتكم لسه في الحارة…"....