قصة ساتزوج منحرفا البارت الخامس والخمسون 55 البارت السادس والخمسون 56 بقلم امانى عطيه


قصة ساتزوج منحرفا
البارت الخامس والخمسون 55
البارت السادس والخمسون 56
بقلم امانى عطيه


أخذت ليلى نفساً عميقاً بعد رغبة ملحة قادتها إلى غرفته دون وعى منها ، راحت تعبأ رئتيها من أنفاسه ورائحته التى تملأ الغرفة ، لقد سافر منذ أربعة أيام إلى الإسكندرية ليتمم عمله هذا الذى باتت تغار منه ، لم يحاول أن يحدثها تليفونياً طيلة هذه المدة ، ولم تنجح قسوته فى نزعه من قلبها وأفكارها 
يا الله .. ألم يحن الوقت بعد لغفران هذا الذنب العظيم ؟ ألها من الذنوب ما يغلق أمامها باب السماء ؟ أم لأنها تدعو الله وتتمنى فى الوقت ذاته أن لا يستجيب لها .......
ـ هل اشتقت إلى َ ؟
اتسعت عيناها ذعراً ودهشة وهى تحدق فى وجهه فاتسعت ابتسامته قائلاً : 
ـ هذا أنا بالفعل ولست حلماً 
أسرعت لتغادر الغرفة وقد احمرت وجنتاها خجلاً ولم تجد ما تقوله ، لكنه أمسك بها قائلاً 
ـ مهلاً ، ساعدينى فى إعداد حقائبى
ـ أين ستذهب ؟
ـ الساحل الشمالى 
ـ متى ؟ 
ـ بعد ساعة 
ـ ولماذا جئت إذاً ؟
ـ جئت لأودعك 
ـ هل ستتغيب كثيراً ؟ 
ـ شهر على الأقل 
امتلأ وجهها مرارة ، فقال هامساً :
- هل ستشتاقين لى ؟
ـ هل ستسافر بمفردك ؟
قال دون أن يرفع عينيه عن وجهها :
- ربما 
جاهدت للتحكم فى انفعالاتها قائلة :
- وربما الأخرى ؟
ابتسم قائلاً :
- ربما يرافقنى أحد ، أيهما ترجحين ؟
أجابته ساخطة :
- ربما الثانية بالطبع ، امرأة أليس كذلك ؟!
عاد يبتسم قائلاً :
- بلى .. هو كذلك
صرخت فى غضب :
- طلقنى يا ممدوح 
أجابها فى لا مبالاة زادتها غضباً :
- بعد عودتى 
ـ كلا ، طلقنى الآن قبل أن ترحل 
ـ كفاك إلحاحاً لا جدوى منه ، لقد قلت كلمتى 
همت أن تعترض فوضع يده على فمها قائلاً :
- سأنتظرك بالأسفل ، أمامك عشرة دقائق لإعداد حقيبتك ، بعدها سأعلم أنك لا تريدين المجئ معى
حدقت فى وجهه ، لقد كان يعنيها إذاً ، لماذا لم يخبرها بذلك منذ البداية ، هذا المزعج يتعمد إثارتها دائماً ، تباً له .. من يظن نفسه ؟!! 

نهض ممدوح ليودع والديه ، مضى أكثر من نصف ساعة ولم تأت ليلى بعد ، يبدو أنها لا تريد مرافقته هتفت والدته :
- ألن تنتظر ليلى ؟ انتظر قليلاً ، سأذهب لأ......
قاطعها فى حزم قائلاً :
- كلا ، سأذهب بمفردى
ما كاد يصل لباب المنزل حتى لمحها تهبط الدرج وفى يدها حقيبة سفر صغيرة ، نظر إليها فى مزيج عجيب من السعادة والحزن معاً ، تهلل وجه والدته بينما هتف والده مازحاً : 
ـ عد لنا بالحفيد الذى وعدتنى أن أراه بعد تسعة أشهر
أحمرت ليلى خجلاً بينما غمغم ممدوح وهو يتأملها :
- إنه شهر عمل يا أبى وليس شهر عسل 
نظر إليه والده فى مكر قائلاً :
- ظننت أن النساء هن عملك المفضل 
ضحك ممدوح فى حين ازدادت ليلى خجلاً واتجهت بخطوات واسعة لمغادرة المنزل ، عندما هتف الرجل قائلاً :
- انتظرى يا ليلى
اتجه إلى مكتبه ثم عاد بعد قليل ليضع فى يدها مبلغاً كبيراً من المال قائلاً : 
ـ اشتر ما شئت ، أريدك أن تستمتعى بوقتك بقدر طاقتك
حاولت ليلى الرفض متعللة بأن لديها من المال الكثير ، لكن الرجل كان أكثر عناداً من ولده

****

الزاهد ساد الصمت بينهما طويلاً ، وإن كان ممدوح يرفع عينيه عن الطريق من وقت لآخر لينظر إليها ، وفجأة راح يدندن بأبيات الشعر الذى كتبها كمال وحفظها هو بلا وعى لولا يعاقبنى الله من أجـــــــــلك جعلتك إلهة فى الأرض وقدستك معابداً من نور فى عينى شيدتك آهٍ ... حبيبتى بكل الحب أحببتك أصابتها الكلمات باضطراب شديد فغمغمت فى محاولة لإخفاء انفعالاتها : ـ من تلك التى أخبرتك بأن لك صوتاً يمكنك من الغناء ؟ ضحك وهو يلقى عليها نظرة سريعة قائلاً : - ولماذا تجزمين بأنها امرأة ؟ زفرت بضيق قائلة : - وهل يمتدحك غير النساء ؟ ابتسم قائلاً : - ما دمت تصرين على هذا ، فقد أجمعن .. على أن صوتى يمنح الأغنية سحراً خاصاً لا يمنحه سواى ابتسمت فى عصبية قائلة - يا لك من متعجرف ..! عاد يضحك فى مرح سرعان ما انتقل إليها ، توقف أمام إحدى الأستراحات المتناثرة على الطريق قائلاً : ـ تعالى لنتناول شيئاً بالقرب من الاستراحة كان هناك مركزاً كبيراً لبيع مستلزمات البحر فنهضت قائلة : ـ سأذهب لشراء بعض الأشياء من هذا المركز ـ انتظرى ، سآتى معك ـ أخبرتك مراراً أننى أستطيع الاعتناء بنفسى نظر إليها بضيق قبل أن يخرج لها مبلغاً من المال قائلاً : - هل يكفى هذا ؟ ـ لا أحتاج لنقودك ، أنا معى الكثير ، ألم تر ..... قاطعها فى حزم قائلاً : - ما دمت برفقتى فأنا المسئول عن احتياجاتك عادت بعد وقت ليس بالقليل ، تحمل بين يديها حقيبة كبيرة ، نظرت إلى ممدوح الذى كان ينتظرها فى السيارة وقد نفذ صبره وابتسمت قائلة : - آسفة ، لم أشعر أننى استغرقت كل هذا الوقت إلا عندما نظرت فى ساعتى ـ آمل أن تكونى قد وجدت ما يستحق كل هذا الانتظار ، ماذا اشتريت ؟ وقبل أن تعترض كان يمسك بين يديه بالشئ الوحيد الذى حاولت إخفاءه عنه ، مايوه أزرق من قطعتين ، اشترته فى لحظة مجنونة .. بعد أن لمحت فى عينى البائع .. تلك الوقاحة التى تلمحها فى عينيه عندما تراوده الرغبة فيها ابتسم فى تهكم وهو يرفعه أمام عينيها قائلاً : - ما هذا ؟ جذبته منه فى عنف قائلة : - لا يحق لك أن تعبث بأشيائى اتسعت ابتسامته قائلاً : - ألم نتفق أننى ذاهب فى رحلة عمل ؟ صاحت فى عصبية : - ومن قال غير ذلك ؟ همس فى مكر : - لماذا تحاولين إغوائى إذاً ؟ تلعثمت فى خجل قائلة : - إغواؤك ، أنا ......... أطلق ضحكة طويلة عندما أشاحت بوجهها ساخطة ولم تجد كلمات لتكمل بها عبارتها . عاد للتوقف بعد قليل أمام متجر كبير لبيع المواد الغذائية ، نظر إليها قائلاً : - هيا ، سننزل لشراء بعض المعلبات واللحوم بادلته نظراته قائلة : - يمكنك أن تتولى هذه المهمة بمفردك ـ أريدك أن تعطينى رأيك فى بعض الأشياء ثم أردف فى مكر : - لقد أيقنت أن لك ذوقاً رائعاً بعد أن رأيت مشترواتك وصلا أخيراً إلى بوابة ضخمة ، وما أن رأى رجال الأمن ممدوح حتى أسرعوا لتحيته وفتح البوابة له ، فترجل الأخير من السيارة متجهاً إليهم بابتسامة واسعة ، لاحظت ليلى أن الرجال يحدقون فيها فى شئ من الدهشة وعدم التصديق ، وما أن عاد ممدوح إلى السيارة حتى ابتدرته قائلة : ـ لماذا ينظر لى هؤلاء الرجال بهذا الشكل ، ماذا قلت لهم عنى ؟ ابتسم قائلاً : - أخبرتهم أنك زوجتى قالت تستفزه -حتى الآن تجاهل عبارتها ساخطاً .. وهو يقود السيارة على امتداد مجموعة من الشاليهات الأنيقة ، تفصل بين الواحد والآخر مساحة شاسعة ، فغمغمت ليلى مستنكرة : - لا تقل لى أن مستثمرك الفرنسى سيهدم هذه الشاليهات الرائعة ! ـ كلا بالطبع ، فهذه الشاليهات المنعزلة بالرغم من كونها قليلة العدد ، إلا أنها تأتى بعائد مادى كبير ، ما نريده هو إضافة بعض البنايات العملاقة التى تسمح بوجود أكبر عدد ممكن من المصطافين توقف بالسيارة أمام أحد الشاليهات قائلاً : - ها هى محطتنا الأخيرة وضع ممدوح الحقائب على أرضية الردهة ثم نظر فى ساعته قائلاً : ـ أنا مضطر أن أتركك الآن ، لدى موعد هام مع هذا الفرنسى ، يمكنك أن تمارسى هوايتك حتى أعود وتعدى لنا بعض المأكولات ، إذا أردت شيئاً يمكنك الأتصال بالرقم المدون على الهاتف مضى وتركها تتفحص المكان من حولها ، كان ملحقاً بالردهة التى احتوت على طقم مريح للجلوس ، بالأضافة إلى منضدة كبيرة وضع فوقها مجموعة من الأدوات كتلك التى يستخدمها ممدوح فى الرسم ، كان هناك غرفة للنوم ، حمدت ليلى الله على وجود فراشين منفصلين بها ، حتى لا تضطر إلى مشاركته فراشه من جديد ، اغتسلت سريعاً واتجهت بعدها إلى المطبخ الذى كان مزوداً بكافة الأجهزة الكهربية ، وضعت الأطعمة فى الثلاجة ، وشرعت لإعداد وجبة خفيفة قبل عودة ممدوح ، ما كادت تنتهى منها حتى سمعت صوته يغلق الباب .. أقبل نحوها متهللاً يقول : ـ ها قد وجدت لى معجبين من الجنس الخشن حتى لا تغضبى حدقت فيه فتابع فى حماس : - المستثمر الفرنسى مسيو هنرى فريدريك يكاد يكتب فى الأشعار إعجاباً ناولته أطباق الطعام ليضعها على المائدة قائلة : - حمداً لله ، عليك إذاً أن تكون أهلاً لهذه الثقة جلسا يتناولان طعامهما وما كاد ممدوح يضع قطعة فى فمه حتى أخرجها من جديد وهو ينظر إلى ليلى فى سخط قائلاً : - بالله اخبرينى ، ماذا كنت تفعلين فى المطبخ كل هذا الوقت ؟ أسرعت تضع قطعة طعام فى فمها وما لبثت أن ابتسمت فى خجل قائلة : - لقد نسيت أن أضع بعض الملح أكمل فى تهكم : - ملح فقط ، وماذا عن مظهره الخارجى الذى يوحى بأنه احترق بينما نضجه لم يكتمل بعد غمغمت ساخطة : - قل ما شئت ، فأنا من منحتك الفرصة لتوبيخى راح يقلد نبرتها قائلاً : - أريدك أن تكون لى وحدى ، لا أريدك أن تعرف امرأة غيرى ..! تطلعت إليه مبتسمة فأكمل ساخراً : - وها أنت قد جعلتنى أشتاق إلى سعديه ، أين أنت يا سعديه ؟؟ انتهرته قائلة : - كفى أيها الشره ، لقد نلت ما يكفى من التوبيخ هز رأسه وهو يتناول سماعة الهاتف ليطلب طعام من الكافيتريا وما أن أغلق الخط حتى تنهد قائلاً : ـ ها قد مضى يومنا الأول بلا فائدة ! توالت الأيام يجر بعضها بعضاً وتحولت السعادة التى كانت تشعر بها وهى ترقبه يعمل إلى ضجر وضيق فى ظل تلك اللا مبالاة التى يبديها نحوها يوماً بعد يوم ، ماذا حدث له ألم يعد يراها ؟ هل ذهبت رغبته فيها للأبد ؟ هل ينوى تطليقها بالفعل بعد العودة من هذه الرحلة ؟ هل تحول إلى زاهد فجأة .. أم أنه يشبع رغبته مع أخريات فى تلك الساعات القليلة التى يمضيها بعيداً عنها ؟! لم ترفع عينيها عن وجهه وهو يتناول طعامه .. فابتسم قائلاً دون أن ينظر إليها : - أما زلت آكل كالأسد ؟ ابتسمت فى خجل قائلة : - ليس بعد ، هناك تحسن بادلها الابتسام قائلاً : - التحسن فى طريقة طهوك أيتها الماكرة ـ أهذا يعنى أنك لم تعد تشتاق إلى سعدية ؟! هم أن يهتف أنا لا أشتاق إلى امرأة سواك ، لكنه اكتفى بابتسامة حانية وجهها إليها قبل أن يغادر المائدة قائلاً ـ حمداً لله ، لقد كنت أتضور جوعاً وجدت نفسها لا إرادياً تغادر المائدة أيضاً وتذهب خلفه بالمنشفة فى يدها ، نظر إليها وابتسم قائلاً : ـ هذا إفراطاً فى تدليلى نظرت فى عينيه قائلة : - أنه شئ للذكرى فحسب بادلها نظراتها ومسحة من ألم فى عينيه فتابعت : - هل نسيت أنك ستطلقنى بعد أيام قليلة ؟ ـ إن كنت لا زلت تريدين الطلاق ؟ أبعدت عنه وجهها قائلة : - نعم ما زلت أريد الطلاق تركها قائلاً : - وأنا سأفعل ما تريديه يا ليلى انهمك فى عمله بينما استلقت على فراشها تحاول التحكم فى أعصابها التى انهارت ، فهو لم يعترض ، لم يخبرها بأنه لا يريد أن يطلقها ، لم يعتذر عن الماضى ويطلب منها البدء من جديد ، لا يهم أن يعتذر ، لماذا توقف عن ضمها إليه ؟ لماذا توقف عن تقبيلها كلما رآها كما كان يفعل ؟ هل أتى بها إلى هنا للقيام بدور الخادمة لا أكثر من هذا ؟ ألم تعد تروق له ؟ نهضت من فراشها فجأة وتوجهت إلى المرآة تتأمل وجهها وقوامها الممشوق ، ما زالت ليلى التى يتهافت عليها الجميع ، أخبرها أنها أجمل امرأة رآها ، ألم يعد يرى هذا الآن ؟ توجهت إلى الخزانة ، أخرجت المايوه الأزرق الذى كانت قد قررت أن لا ترتديه ، سترى الآن إن كان قد تحول إلى زاهد بالفعل ؟ فليتهمها بأنها تريد إغواءه إن شاء ، فهى لم تعد تحتمل تجاهله لها خرجت بعد قليل .. كان منكباً على عمله ، لم يرفع عينيه إليها ، قالت ساخطة : - سأذهب للنزهة ـ حسناً ، لا تتأخرى ـ هل تريد شيئاً قبل أن أذهب ؟ شئ ما فى صوتها المضطرب جذب انتباهه ، رفع بصره إليها فى نظرة سريعة عاد بعدها إلى عمله قائلاً : ـ كلا ، أشكرك أسرعت تغادر الشاليه حتى لا يرى هذا الدمع المتحجر فى عينيها ، وما أن أغلقت الباب خلفها حتى ألقى بقلمه جانباً وراح يرقبها من خلف النافذة الزجاجية هامساً : ـ مهلاً أيتها الطفلة المتوحشة التى سلبتنى عقلاً ظننتنى حصنته من كل النساء استمر لحظات ينظر فى حسد إلى ماء البحر الذى راح يحتضن جسدها الجميل بدلاً منه ، أطلق تنهيدة طويلة ، سيخبرها .. سيخبرها بأنها حبه الأول والأخير .. وبأنها من حولت الصخر بين ضلوعه إلى كتلة من المشاعر قادرة على الحب لدرجة الألم والعذاب .. سيخبرها بأنها الشوق الذى لا ينام ..! لكنه يحتاج أولاً إلى يقين ، يقين بأنها على استعداد للتضحية بكل شئ من أجله ، هل تخلت حقاً عن هذه التجربة اللعينة ؟ أم أنها ستعود لتكررها مع منحرف آخر بعد أن تتأكد من نجاحها معه ؟ لن يقر بحبه لها إلا إذا اعترفت بأنها تحبه كما هو ، تحبه بلا شروط ، بلا عقل ، نعم ، لابد أن تحبه بلا عقل ، حتى لا يأخذها عقلها منه يوماً ومعها قلباً عنيداً يعصاه للمرة الأولى فى حياته ، عاد ينظر للبحر من جديد ، بل إليها ، لكنه لم يجدها ، أين ذهبت ، أين اختفت ؟ أسرع إلى الشاطئ ليبحث عنها ، لم يجد لها أثراً ، راح يصرخ باسمها فى هستيريا دون جدوى ، كانت قد وعدته بأن لا تبتعد كثيراً عن الشاليه ، فأين ذهبت ؟ عاد إلى الشاليه ثم إلى الشاطئ من جديد يحمل منظاره المكبر ، جال به البحر ذهاباً وأياباً حتى لمح أخيراً طيفاً بعيداً ، بعيداً جداً ، أهذه هى ؟ وإن كانت هى ، سيبتلعها البحر حتماً قبل أن يصل إليها حياً ! كانت ليلى قد استلقت بظهرها فوق سطح الماء شاردة ، غير مبالية بتياراته العالية وأمواجه العنيفة ، فما يعتمل فى نفسها من صراع أكثر عنفاً وأشد قسوة من أى خطر آخر ، اختلطت دموعها بماء البحر ونحيبها بصراخ أمواجه ، تمايلت قليلاً لتجفف دموعها المنهمرة ، كادت تغرق ، أدركت فجأة عمق الكارثة التى تحيط بها ، امتدت عيناها فى ذعر تبحث عن الشاطئ البعيد ، تخبطت بالماء كمن يطارد وحشاً لا قدرة له به ، قاومت طويلاً ، فهى تجيد السباحة منذ الصغر .. فما الذى حدث الآن ؟ أرتخى ذراعاها فى استسلام واستعدت لتلفظ أنفاسها الأخيرة لولا رؤيتها لهذا القارب الذى يتجه إليها مسرعاً .. فعادت تناضل من جديد ، ورفعت يدها تلوح له باستماتة ، ازداد البحر تشبثاً بها وجذبها إليه فى إصرار وإلحاح ، غطتها أمواجه وكادت أن تبتلعها ، فجأة وجدت نفسها بين ذراعى ممدوح الذى قفز إلى الماء جزعاً قبل أن يقفز إليه أحداً من حرس الشواطئ ، أسرع يلقى بها إليهم قبل أن يقفز خلفها ويسألها فى لهفة : ـ ليلى ، هل أنت بخير ؟ استكانت بين ذراعيه وراحت تنتحب فى عنف قبل أن تهز رأسها إيجاباً ، مسح شعرها فى حنان افتقدته طويلاً وهو يقبل جبهتها مراراً هامساً فى لوعة : - كيف انجرفت إلى هذا العمق أيتها المتهورة ؟ وصل بهما قارب النجاة أخيراً إلى الشاطئ ، شكر ممدوح رجال حرس السواحل بينما قال كبيرهم له : ـ حمداً لله على سلامة زوجتك .. وأرجو أن تتوخيا الحذر في المرة القادمة شكرهم ممدوح على سرعة تلبيتهم لنداءه ووعدهم بأن يكون أكثر حذراً ، انصرفوا وعاد ينظر إلى ليلى صامتاً قبل أن يحملها إلى الشاليه رغم اعتراضها ، ما أن دلفا إليه حتى وضعها على أرضه برفق قائلاً : - بدلى ثيابك حالما أصنع لك مشروباً ساخناً يخفف من رعدتك نزعت ليلى المايوه الأزرق وألقت به أرضاً فى عنف ، فهو لم ينجح فى جذب انتباه هذا المتحجر .. وإن كان قد جذب انتباه البحر إليها فكاد يبتلعها مضت الأيام التالية هادئة ، لم تخطو ليلى خلالها خارج باب الشاليه ، بل أصبحت تخشى النظرإلى البحر وأمواجه ، فقد ظل عالقاً بذهنها ما حدث فى ذلك اليوم مخلفاً رهبه لم تستطع التخلص منها ، لكن الملل عاد ليطاردها من جديد فنظرت إلى ممدوح قائلة : - سأذهب للصيد أجابها فى حزم : - كلا ـ ماذا ؟! ـ لن تذهبى إلى أى مكان بدونى يا ليلى ـ كف عن معاملتى كطفلة ـ أثبتت التجارب أنك كذلك بالفعل اتجهت للباب صارخة : - سأذهب حيثما أشاء أيامنا معاً معدودة على أية حال ، لا تزعم الخوف على جذبها بعنف قائلاً : - كفى جنوناً ، كدت أن تستنفزى أرواحك السبعة ، كم مرة نجوت فيها من قبضة الموت حتى الآن ؟ ربما تلقين حتفك فى المرة القادمة صاحت به كطفلة عنيدة : - أتركنى أموت إذاً ، لا شأن لك بى هزها بعنف قائلاً : - إن كان لابد من موتك ، فسأفعل أنا هذا يا ليلى صرخت فى ألم : - أترك ذراعى أيها المتوحش

أخفت وجهها فى الوسائد عندما دلف ممدوح إلى الحجرة وأضاء مصابيحها ، ابتسم وهو يقترب منها قائلاً : 
ـ لماذا تجلسين وحدك ما دمت مستيقظة ؟
ـ وهل سأتخلص من وحدتى عندما أخرج إلى الردهة ؟ 
ـ أما زلت غاضبة ؟
ـ لم آت معك إلى هنا لأنتقل من زنزانة لأخرى 
قبل جبهتها قائلاً :
- امهلينى أسبوعاً واحداً حتى انتهى من عملى 
نظرت إليه فى لوعة قائلة :
- بعدها نعود إلى القرية لتطلقنى ، أليس كذلك ؟
تفرس فى قسماتها قائلاً :
- لن أفعل شيئاً لا تريدينه يا ليلى

تشبثت ليلى بالأيام القليلة المتبقية حتى ينتهى ممدوح من عمله فى هذه القرية ، ماذا تريد أكثر من هذا ، فهى تراه كل يوم ، تتناول طعامها معه ، تحدثه ويحدثها ، يقتطع بعضاً من وقته كل غروب ليذهب معها إلى الشاطئ فى نزهة بريئة .. أقصى ما يفعله خلالها هو أن يحتضن كفها الصغير وهما يمشيان معاً فوق رماله ، إن كان كل هذا لا يكفيها ، فماذا ستفعل بعد أن يطلقها ؟ كيف ستحيا بدونه وقد صار لها الماء والهواء ؟ 

استيقظت من شرودها عندما فتح الباب ليدخل وعلى شفتيه ابتسامة واسعة قائلاً : 
ـ أخيراً انتهت التصميمات على الورق وسيبدأ تنفيذها قريباً 
تصنعت ابتسامة قائلة :
- مبروك ، أنا سعيدة جداً لأجلك
تفرس فى وجهها قائلاً :
- وجهك ينفى هذا تماماً 
ـ أشعر ببعض الصداع 
نظر كلاهما للآخر ثم انفجرا يضحكان طويلاً قبل أن يسود بينهما صمت أطول قطعه ممدوح قائلاً : 
ـ سيقيم مسيو فريدريك حفلاً هذا المساء بمناسبة انتهاء التصميمات والبدء فى تنفيذها 
ـ وتريدنى أن أكون معك ؟
ـ هذ أقل ما يمكن أن أقدمه لك بعد كل مجهوداتك معى 
ـ لكننى لا أستطيع 
حدق فيها بدهشة فتابعت :
- ليس لدى ما أرتديه لهذه المناسبة 
زفر بضيق قائلاً :
- ليلى ، أنت تثيرين جنونى دائماً 

وقفا أمام إحدى نوافذ بيع الملابس الجاهزة ، وأشار ممدوح إلى أحد الأثواب قائلاً :
- ما رأيك فى هذا ؟
تأملت ليلى الثوب الذى أشار إليه ثم التفتت تحدق فى وجهه بعتاب صامتة ، فهمس مبتسماً : 
ـ ماذا بك ، ألا يعجبك هذا الثوب ؟
تلعثمت قائلة :
- ألا ترى لونه ؟
ـ ماذا به ، ألا تحبين اللون الأبيض ؟ 
ـ تذكر أن هذا الحفل بمثابة حفل الوداع بالنسبة لنا ، بعدها تطلقنى ، ويذهب كل منا فى طريقه
نظر إليها قائلاً :
- أما زلت تريدين الطلاق ؟
أشاحت بوجهها قائلة :
- بلى ، ما زلت أريده 
ـ دعينى إذاً التقط لك بعض الصور التذكارية بثوبك الأبيض هذا 
ابتسمت بعصبية قائلة :
- تذكار
همس قائلاً :
- ألا تريدين تذكاراً أنت أيضاً ؟
تنهدت بمرارة قائلة :
- لست فى حاجة إلى شئ يذكرنى بك 
غمغم فى حزم :
- سأشتريه يا ليلى 
هزت رأسها مستسلمة ، فليفعل ما يشاء ، وما الفرق فى لون الثوب طالما أن المناسبة كما هى لم تتغير ، كل ما يشغله هو بعض الصور التذكارية ، يا له من متحجر القلب ؟ 

أخرج ممدوح دفتر شيكاته ليدفع ثمن الثوب ، لكن البائعة رفضت متعللة بأنهم لا يتعاملون إلا نقداً ، حاولت ليلى دفع المبلغ ، لكنه نظر إليها محذراً قبل أن يخرج مبلغاً قدمه إلى البائعة قائلاً : 
ـ هذا المبلغ للحجز ، سأعود بعد قليل لأخذه 
فى السيارة اعترضت ليلى قائلة :
- لماذا لم تدعنى أدفع أنا ، ماذا سأفعل بكل هذه النقود بحوزتى ؟!
أجابها فى حزم :
- أخبرتك مراراً بأننى خلقت هكذا ولن أتغير أبداً ، اطلقى على من الألقاب ما شئت 
غمغمت بسرعة :
- ديكتاتور 
تجاهل تعليقها قائلاً :
- سأذهب بك الآن إلى مصفف الشعر ، وسأعود إليك بعد قليل بالفستان الأبيض 
تعمد الضغط على كلماته الأخيرة ، فهتفت أعماقها فى سخط :
ـ بالله كفى يا ممدوح ، لم أعد أحتمل المزيد


تعليقات