رواية في لهيبك أحترق
الفصل السابع الثلاثون 37
بقلم شيماء يوسف
أحبكٓ في كل يوم ثلاثين عامًا
وأشعر أني أسابق عمري
وأشعر أن الزمان قليل عليكِ
وأن الدقائق تجري
وأني وراء الدقائق أجري
وأشعر أني أوسس شيئًا
وأزرع في رحم الأرض شيئًا
وأشعر حين أحبكِ أني أغير عصري.
-نزار قباني
بعض الأشياء لا ندرك قيمتها بالوقت، بل حينما يحيطها خطر الفقد!!....
توقفت سيارته أسفل بنايتها في وقت قياسي، بعد أن قطع الطرقات مخالفًا السرعة المحددة في تصرف أهوج ينهر من يقوموا به عادةً، ولكن... للكل استثناء، وكانت هي استثناءه......
حتى وإن لم يدرك تلك الحقيقة بعد، أو أن رفض قلبه الذي يكاد القلق يمزقه إربًا الاعتراف بالخيوط التي تُنسج من حوله، بل وتكاد صورتها تكتمل واضحة أمام عينه،
تظل ضرباته العنيفة دليل ملموس على ما يمر به من تشوش، نكران، وحيرة، وأخيرا الخوف من مواجهة عواطفه...
وبالرغم من تحدثه إليها أكثر من مرة أثناء قيادته إلى منزلها، وسماعها تؤكد على سلامتها بنفسه في كل اتصال، لم يمنع ذلك النبض في صدغيه من التزايد بشكل يثير جنونه، يريد رؤيتها حتى يطمئن قلبه، ويرتاح عقله من هواجسه...
وبكل تلك المشاعر التي تُثقل صدره، ركض يتسلق الدرج ويشق طريقه نحو الجمع المحتشد أمام باب المنزل ومن حولها، ما بين فضولي ومواسي، وأخر مجامل....
يدفع بيده كل ما يحول بين عيناه وجسدها، حتى رأها أخيرًا تقف في المنتصف، قوية، صلبة، لا يرف لها جفن، ولا تنكسر لها قامة، شامخة كعادتها لا تحتاج إلى حماية، وكم بعث ذلك بالفخر على نفسه...
حتى أن الأمر احتاج منه إلى الكثير والكثير من رباطة الجأش والإرادة حتى لا يحيطها بذراعيه مقربًا إياها إلى صدره حتى تستكين خلجاته، ومرت هي بالمثل، حيث هرولت تهمهم في لهفة اسمه وجسدها يميل نحوه، قبل أن تتذكر حدودها، فتتراجع منتصبة في وقفتها، وقائلة في ارتباك ملحوظ :
-(( جواد... قلتلك مكنش في دَاعٍ تيجى.. مجرد حرامي مش أكتر بس أنا اتخضيت أول ما شفته ))..
رمقها بنظرة جامدة ولم يعقب، بينما تدخل مالك البناية يقول موجهًا حديثه لجواد :
-(( حضرتك قريب الأستاذة صح؟.. أحنا طلعنا جرى على صوت الصريخ بس لقيناها كويسه ومن وقتها أنا والرجالة بنحاول نقنعها تعمل محضر وهي رافضة.. أهو كويس أن حد من أهلها جه يمكن يقنعها ))..
هنا أردفت امرأة ستينية بسيطة تقطن في المنزل المقابل لها مضيفة :
-(( الأستاذة دماغها ناشفة يابني.. اتحايلت عليها كثير تدخل تقعد عندي على الأقل لحد ما جسمها يفوق من الخضة بس مش راضية ))
شاركهم الحديث رجل ثالث من ساكني الحي يقول في حسرة :
-(( ابن اللذينة ده هرب مننا قبل ما حد يلحقه.. على ما سمعنا الدوشة وطلعنا نفهم في أيه كان اختفى.. فص ملح وداب ))..
أستمع جواد إلى حديثهم وقد أثر التزام الصمت، يتابعهم فقط بعينيه ويتفاعل بملامحه مع رواياتهم بينما داخله يمور ويتميز غيظًا لتوقعه هوية السارق، والذي لم يكن بسارق، وتخمينه ما وراء الكواليس الغامضة، وخصوصًا بعدما هتفت هي تطلب فض الجمع المنتشر أمام بابها المفتوح وعلي الدرج بقولها في نبرة يشوبها شيء قليل من الربك وعيناها لا تحيد عن محياه مراقبة :
-(( يا جماعة تعبتكم والله.. مش عارفة أشكركم أزاي.. بس فعلًا الموضوع مش مستاهل.. الحمد لله مفيش أي حاجة اتسرقت.. تلاقيه حرامي غشيم كان بيجرب في بيتي.. آسفة أني أزعجتكم وعن إذنكم الوقت أتأخر ادخل البيت أرتاح ))..
كانت تأمل بحديثها ذلك الموجهه للجميع ظاهزيًا، أما إقناعه بالرحيل كي تستريح، أو على الأقل حثه على الذهاب لتأخر الوقت، ولكنه بدد كل أمالها الهشة عندما تفرق الكل من حولهم كُلًّا عائدًا إلى بيته بعد تفوههم ببعض المجاملات الأخيرة، وبقي هو، يقف أمامها في ملامح متجهمة وجسد مشدود، حتى شعرت بذبذباته المتوترة تنتقل إليها تِلْقَائِيًّا عبر الهواء المشترك بينهم، فسارعت بالدخول إلى المنزل والاحتماء بجدرانه، وتبعها في هدوء، يسأل بعدما أغلق باب المنزل من خلفه عامدًا :
-(( خلصتي تمثيليتك قدامهم ولا لسه؟! ))..
استدارت عنه، تدعي الانشغال بترتيب مفرش طاولة السفرة المبعثر، قائلة في هجوم مندفع تُخفي خلفه توترها من نبرته :
-(( تمثيلية إيه دي.. أنا مبعملش تمثيليات على حد!!.. وبعدين الوقت أتأخر وعدينا نص الليل.. جواد وجودك هنا مش صح..وياريت ترجع تفتح الباب ))..
ارتفعت إحدى زوايا حاجبيه، بالتزامن مع عقد ذراعيه أمام صدره، ومطه شفتاه للأمام، يطيل النظر إلي ظهرها المتشنج، قبل أن يقول في صرامة رغم انخفاض نبرته :
-(( طب ما تلفي يا أستاذة وتقولي الكلمتين دول في وشي.. ولا خايفة أقفش وقتها كدبك! ))..
أثار حفيظتها بحديثه، فما كان منها إلا أن ألتفت تواجهه بعيون تلمع بالغيظ كما أراد، ثم هتفت تقول في حدة :
-(( جواد عيب كده!!.. أحنا مش صغيرين على الاتهامات دي ))..
صاح يسألها في تحدِ وتأنيب :
-(( ولما أحنا مش صغيرين بتخبي عليا الحقيقة ليه؟!.. خايفة؟ ))..
بنفس النبرة المندفعة العالية والنظرة المتأهبة، هتفت تقول مدافعة عن موقفها الضعيف :
-(( هخاف من إيه يعني؟!.. وزي ما قلتلك أنا كويسه.. وشكرًا أنك تعبت نفسك وجيت المسافة دي كلها على الفاضي.. بس ياريت تتفضل تروح ))..
مدفوعًا بكل ما يجيش به صدره ولا يستطيع دحره، وبكل ما يدور في دهاليز عقله ويرفض تسميته، بل بكل ما عايشه مُذ سماعه صراخها حتى وقوفه أمامها، هدر يقول في عدائية :
-(( أنتِ شايفاني عيل قدامك!!.. للدرجة دي مش مالي عينك؟!.. واقفة تكذبي عليا وقدام عيني!.. بتخبي ليه انطقي.. ومتتوقعيش مني امشي.. عشان أنا مش تحرك من مكاني ده لحد ما أسمع الحقيقة كلها.. حتى لو قضيت الليل كله هنا ))
على عكس توقعه منها بمهاجمته، تفاجئ بجسدها يتراخى وأكتافها تتهدل، حتى نظرة عينيها تبدلت وقد خلعت عنها ثوب القوة، ووقفت أمامه تقول في هشاشة يعلم أنها لن تدوم طويلًا :
-(( عشان أنت متوقع مني إني بتحرك من وراك.. وأخاف أحكيلك أورطك أكتر.. وأخاف محكيش تزعل.. يعني في الحالتين خايفة أخسرك فهمت! ))..
تراخي جسده بالتبعية فور سماعه حديثها ورؤيته تشوشها، ثم قال في هدوء بعدما تحرك نحوها ودفع في خفة ذراعها يحثها بذلك على الجلوس :
-(( مش هتخسريني طول مانا عارف بيحصل إيه.. الخسارة ممكن تيجي لما أكون تايه ومش عارف بتخططي لإيه من ورايا.. غفران أنا قلتلهالك وهفضل أقولها.. مش هسيبك تمشي في الطريق ده لوحدك.. يا نتحرك سوا يا أتحرك من وراكي لوحدي زيك.. اختاري ))..
بدأ الاقتناع والاستسلام يعتلي قسماتها المرهقة، تود لو ينتهي ذلك الكابوس من حياتهم، تبغي الاحتماء بأحد من مخاوفها التي تُحرم عيناها النوم، تريد الاتكاء فوق كتف أحد وتغفو وهي تعلم أنها في أمان، تتمنى التجرد من عباءة شدة البأس التي ترتديها طوال الوقت حتى نسي أو تناسي الجميع مع مرور الأيام آدميتها وحقها في العيش كإنسانة عادية، تفرح وتبكي وتخاف وتنهار مثلهم!، وكم كانت نظراته تُغريها لفعل كل ذلك وقد باغتها يضيف متفهمًا في حنو :
-(( أحكيلي يا غفران وأنا سامعك.. متخافيش ))..
حركت رأسها موافقة بعدما بلعت لعابها في قوة، قائلة على مضض :
-(( أنا كنت عارفة أن في حد هيجي البيت.. بس متوقعتش يكون موجود في ميعاد رجوعي.. خصوصًا يعني إني اعتمدت أتأخر ))..
قطب جبينه واختفت المسافة ما بين حاجبيه وقد بدا عليه التركيز الشديد، بينما أردفت غفران تقول في نبرة عادية :
-(( ده اللي اتفقت مع يحيى عليه ))...
هتف يسأل في دهشة وتعجب :
-(( يحيي!! ))..
فركت كفيها معًا في اضطراب ثم همهمت مؤكدة قبل أن تقول بأنفاس متحشرجة وقد حسمت أمرها :
-(( هحكيلك من الأول بس أوعدني.. اللي هقوله ميطلعش لحد برانا أحنا ال٣.. حتى علياء وصدقني ده لحمايتها ))..
*************************
بداخل منزل الطبيب يحيى....
رفعت كفها تمسد بباطنه مؤخرة عنقها المتشنج من أثار كثرة الانحناء والبحث لساعات طويلة، بينما امتد كفها الأخر كي تُمسك بمقبض الباب وتُديره، قبل أن تدلف الغرفة في عدم تركيز، وترفع رأسها لأعلى بعدما أغلقت الباب من خلفها جيدًا واستدارت نحو الفراش، وقتها تفاجأت به يقف في منتصفها عاري الجذع لا يرتدي سوي بنطال بيتي مريح، بينما ذراعاه ترتفع معًا بالتوازي لإدخال قميصه القطني الخفيف ذو الأكمام القصيرة من رأسه، فسارعت تعتذر هاتفة في تعلثم بعدما أشاحت بوجهها المتورد بحمرة الخجل بعيدًا عنه :
-(( أنا أس... آسفة جِدًّا والله ))
توقفت ذراعاه المرفوعة في الهواء في منتصف الطريق، متراجعًا عن فكرة ستر الجزء العلوي من جسده بإلقاء القميص بعيدًا فوق الفراش، ثم تحرك في خفة فهد يتقدم من فريسته وقد أحكم حصار شباكه حولها، يداعبها مُتَسَائِلاً في استمتاع وكسل، وقد مد ذراعيه على كلا جانبيها فنجح في حشرها في إحدى الزوايا :
-(( آسفة عن إيه؟! ))..
ارتعش قلبها خلف أضلعها، وامتدت تلك الارتجافة حتى شفتها السفلية، فمهما حاولت لا تستطيع إخفاء أو إنكار تأثرها بوجوده حولها، خاصةً وهو بذلك القرب منها ولا يفصل بينها وبين لمس صدره العاري سوي بسطة ذراع منها، وبعد همهمة ضعيفة خرجت من فمه يحثها على الإجابة، همست تقول في تعثر :
-(( عشان دخلت.. من غير ما.. أخبط ))..
أسبل أهدابه المتعبة، يتابع رجفة شفتها وكأنها تدعوه للاقتراب، ولتحقيق ما فشل عنه منذ عدة ساعات........
في وقت لاحق من منتصف ذلك اليوم......
عكف ثلاثتهم داخل غرفة مكتبه والتي تتخذ جيداء الآن منها مخدعًا ومبيتًا، في البحث عن الأوراق المطلوبة وذلك من أجل إتمام دوره حتى آخره في إقناع طليقته بعدم وجود نسخ أخرى كما اتفق مع غفران في الصباح، ورغم تأففه وضجره من الأمر في بدايته، لم يستطع منع شعور الاستمتاع الذي أخذ يتسلل إلي خلاياه مع مرور الوقت، خاصةً وقد ترك البحث وجلس جوار علياء يتابعها وهي تجلس فوق الأرضية بالقرب منه، محاطة بعدد لا بأس به من الأوراق المنثورة في كل اتجاه من حولها، وكيفية تفاعلها التلقائي مع كل ما تقرأه في عُجالة، فتضم شفتيها تارة، وتعقد جبينها تارةً جديدة، وتزفر في إحباط إلى الأعلى تارة أخيرة كلما تأخر الوقت وتفشل في إيجاد ما تبحث عنه، فتتطاير غرتها على أثر حركتها الطفولية البسيطة، فيتطاير معها تعقله، وجزء لا يستهان به من هدوءه وصبره، جاذبًا انتباهه عنها، وانتباهها من بعده صوت جيداء تهتف في سأم :
-(( لا أنا تعبت خلاص وشكل مفيش ورق فعلًا.. محتاجة أريح عيني شويه.. هقوم أعمل نسكافيه.. وأتحرك رجلي نملت ))..
رفعت علياء رأسها للأعلى تتابع في صمت خروج غريمتها من الغرفة وعيناها تلمع بشيء من الحسد، خصوصًا بعد توقف وانحناء الأخيرة عند مدخل الغرفة كي تلاطف السلحفاة القابعة عند مدخلها في عدم حركة، فيستجيب الزاحف لملامستها الخفيفة بإخفاء رأسه داخل قوقعته الصلدة، ثم يعود ويخرجها بعد لحظات وكأنه يلاعبها الغميضة، تكاد علياء تُجزم برؤية ما يشبهه الابتسامة فوق وجه الزاحف الصغير، قبل أن تستأنف الأخرى سيرها نحو الخارج، فسارع يحيى والذي التقط رمشت جفنيها المتأثرة يقول في فطنة :
-(( من أكتر الحاجات الحلوة في الإنسان أن ربنا ميز كل حد بحاجة.. عندك جيداء مثلًا من زمان بتعرف تتعامل مع الحيوانات وبتظهرلها عاطفة أكتر من البشر.. غيرها العكس ))
استدارت على الفور تطالعه مستجيبة لحديثه بالإجابة عنه في شموخ رأس ولحظة شجاعة مفرطة :
-(( على فكرة أنا مش بخاف منهم.. أنا بس محتاجة وقت أتعود على وجوده.. ده طبع فيا ))..
حاول كبت ابتسامته، والسيطرة على ردات فعله، ولكنه فشل في كبح نظرته الغير مصدقة، فأردفت تقول وعيونها تفيض بالتمرد :
-(( مش مصدق صح!!.. طب على فكرة أنا ممكن ألمسه دلوقتي حالاً.. زيها ))..
عضت طارف شفاها ندمًا ما أن تفوهت بجملتها، فآية حماقة عابرة تلك التي دفعتها للتفوه بمثل ما قالته، مصرة على تجاهل ذلك الهتاف الداخلي الخافت والذي يخبرها بقدرتها على فعلها حَقًّا وليس لإثارة إعجابه أو إثبات شجاعتها فقط كما تدعي، بينما لم يتمكن هو من إخفاء ابتسامة السعادة التي اعتلت ثغره عند التفكير في انتواءها مجابهة مخاوفها والتنافس من أجله، يرى بداخل عينيها لمعة الإقدام على تنفيذ ما قالته، ويؤكد حدسه لغة جسدها حيث اتخذت وضع الاستعداد فبدت جاهزة للحركة والمخاطرة...
يشعر بالزهو لوقوعه في حبها، ويزداد شعوره تعمقًا كلما أثبتت بتصرفاتها صحة وجهة نظره بها، يراها منذ النظرة الأولى، بل من الهمسة الأولي شريكته التي تليق به، وعند اللزوم جيشه الوحيد المدافع عنه، كما فعلت عند إصابته ووقفت في المشفى شامخة تنتظر إفاقته، وكما تستمر في الفعل كلما جابهت طليقته
فكل ما كانت بحاجته هو التشجيع كي تتبلور ثقتها في نفسها وتُخرج أفضل ما فيها، والآن يمكنه الاسترخاء وقد حقق أول إنجازاته معها، فقط يتبقى الخطوة الأخيرة لدحر مخاوفها...
وعليه تحرك نحو الزاحف يرفعه لأعلى ثم يعود به إليها متمتمًا في نبرة مطمئنة وهو يتخذ من المكان الملاصق لها مجلسًا :
-(( أنا هحطه على الأرض أول حاجة.. وعشان تكوني فاهمة السلاحف عمومًا لازم تشوف أيدك قدامها.. يعني ماينفعش أبدًا تفاجئيها باللمس من غير ما تشوفك.. وقتها هتخاف وممكن تعضك ))..
مالت علياء بجسدها إلى الجانب الأخر تبتعد بقدر المستطاع عن مكان وضع السلحفاة حيث وضعها على بعد انشين منها، تجاهد دون الوقوف والفرار من أمامها، أو الصراخ مستنجدة، بينما استمر يحيى يشرح في هدوء وصبر، يحاول بث الأمان إليها :
-(( أحنا في الخريف وده موسم البيات بتاعهم فتلاقيها دايمًا ساكتة وحركتها تكاد تكون معدومة.. وَعَمَّتَا السلاحف بتحب جِدًّا أنك تدلكي رقبتها من تحت والجنب.. هتسترخي معاكي ))..
توقف عن الحديث لتوضيح تعليماته بشكل عملي، حيث مد سبابته يدلك بطرف عقلته عنق السلحفاة والتي بدت بالفعل مستمتعة بلمساته، بينما رفعت علياء رأسها تنظر نحوه في تشكك فور نطقه بجملته الأخيرة، وقد ذكرها قوله بما يفعله معها شَخْصِيًّا، فاستطرد يقول مبتسمًا ومتجاهلًا عن عمد فهمه اكتشافها ذاك :
-(( ممكن عشان أنتِ أول مرة بس.. تلمسي القوقعة بتاعتها اللي أحنا بنسميه بيتها يعني.. مدى أيدك قدام عينيها زي ما قلتلك وبالراحة خالص مسدي عليه عشان تتعود على لمستك ))
تجعدت ملامحها، وبدأ التردد والانزعاج يعتلي قسماتها، فمد يحيى ذراعه يحتضن كفها أولاً ويدلك راحتها حتى شعر بقبضتها تتراخي أسفل لمساته، وقتها سحب كفها دون إفلاته، ثم وبهدوء شديد فرد سبابتها فوق ظهر السلحفاة دون تركها، وراح يحرك أصباعيهم سَوِيًّا، وفمه لا يتوقف عن الهمهمة بجوار أذنها في نعومة بثت السكينة بداخلها من جديد :
-(( متخافيش.. صباعي على صباعك.. شايفة راسها لسه برة أزاي.. معناه أنها حبت لمستك.. غير أنها عمرها ما تتحرك أو تتفاعل معاكي غير لو أنتِ بدأت وقربتي منها ))..
استمر في فعلته وتحريك سبابتها ومن فوقه سبابته فوق ظهر الزاحف، حتى استكانت ملامح علياء واعتادت على لمس الكائن الصغير، وقتها حرر كفها وقام بدفع الزاحف بعيدًا عنهم، قبل أن يقول في فخر :
-(( شفتي عرفتي تعمليها أزاي.. الموضوع طلع بسيط ))..
رفعت رأسها تناظره بابتسامة متهللة وعيونها تلمع بمزيج محبب من السعادة والانتصار، ثم قالت في نبرة مختنقة من شدة الاعتزاز :
-(( شفت.. مش قلتلك أقدر ))..
رفع ذراعه يتحسس جانب وجهها وصولًا إلى مؤخرة عنقها، ثم قال في حشرجة بعدما دفع في خفة رأسها نحوه وطبع قبلة مطولة فوق جبينها :
-(( عارف أنك تقدري تعملي كل حاجة ))..
انزلقت عيناه إلى ثغرها المنفرج في ابتسامة واسعة، سرعان ما تحولت إلى رعشة تلقائية فور ملاحظتها تطلعه بها، فما كان منه إلا أن انحني بوجهه أكثر نحوها، يتلمس بشفاه ارتجافها ذلك، مقاطعًا تقاربهم صوت جيداء الناعم، يقول ساخرًا من الخلف :
-(( واضح أنكم ما صدقتم أني خرجت ))..
عودة إلى الوقت الحالي.........
ارتبكت وتشوش عقلها من قربه الشديد منها، فهمست تستجديه في ضعف :
-(( يحيى لو سمحت.. عديني وروح ألبس حاجة ))..
همس يسأل في نبرة حارة ملتاعة :
-(( عالية.. أنا قلتلك قبل كده أن صوتك حلو أوى؟ ))..
حركت رأسها نافية دون تعقيب، بينما أهدابها لا تتوقف عن التحرك كعلامة على شدة توترها، فأردف يقول في بحة رجولية مميزة بعدما أحنى رأسه نحوها :
-(( صوتك موسيقي.. بحسه بيتغلل لحد هنا ))..
قبل أن تعي ما يقول، كان يقبض على كفها، ويضعه فوق مضغته مضيفًا في حلاوة :
-(( والموقف ده كله حاسس أنه مش غريب عليا.. متأكدة أن كان جوازنا على ورق بس؟! ))..
أخذ قلبها يدق في سرعة تفاعلًا مع شعورها بدقاته أسفل راحتها المفرودة فوق صدره، تتعلق نظرتها بزمرديتاه الداكنة من فرط مشاعره في تلك اللحظة، تبحث بداخلهما عما يدفعها للابتعاد عنه، وبدلًا من ذلك لا ترى بهما سوي مشاعره البدائية كعاصفة صحراء تلطمها معًا وتمنع حركتها، فتتمسك به أكثر مسلوبة الإرادة لا تملك سوى الاستسلام لها حتى تنتهي، وداخلها يخشى ألا تخرج منها سالمة....
وبتلك الهواجس التي أخذت تتجمع داخل عقلها، سحبت كفها من تحت قبضته، ثم وقبل أن تتراجع دفعته بعيدًا وهرولت نحو الفراش تحتمي به من جنون قلبها الذي يكاد يترك موضعه ويغادر عائدًا إليه، متمتمة في خفوت، بينما كل خلية بها تنتفض :
-(( تصبح على خير ))
تابعها بعينيه يحاول السيطرة على النيران المشبوبة بداخله، يوصي نفسه بالمرة التي لا يحصي عددها بالصبر، فمهما كان الصبر عسير، لا بد أن يأتي من بعده التيسير.
*************************
انتهزت فرصة انشغاله عنها بارتداء ملابسه استعدادًا للذهاب إلى الشركة، بالهرولة نحو الأسفل، فالبارحة مَسَاءَا كان موعد عودة مدبرة منزله من قريتها، وعندما أصرت على النزول واستقبالها منعها بحجة تأخر الوقت ثم نجح في إلهاءها عن الجميع بطرقه الخاصة والتي باتت تعشقها
أما الآن وقد أفرج عنها، فأول ما خطر ببالها هو الهبوط لملاقاتها، فقط لو تعلم كم اشتاقت إليها أو كم تود التنعم بحضنها الأمومي الدافئ!...
ومدفوعة بكل تلك المشاعر الخاصة التي تكنها إليها، هرولت تقتحم المطبخ بابتسامة واسعة، هاتفه في اشتياق :
-(( ماما فادية..... حمد لله على السلامة يا أمي ))..
التفتت المرأة المسنة على صوت عزيزتها العذب، تلتهم في وجد قسمات من غابت عن نظرها لأشهر، وقد اكتست عيونها بلمعة خاصة، كتلك التي ترمق بها الأم أطفالها ساعة اللقاء بعد طول بعاد، ثم اندفعت تفتح كلا ذراعيها عن أخرهما كي تستقبل بداخلهما العائدة، ولسانها يردد بلغته الأم :
-(( ووه.. الغالية رجعت.. ست البنات كلها نورت بيتها من تاني.. يا راحة قلبك يا أم الحسن.. يا محلا اسمك يا فادية منها ))..
ألقت رحمة بجسدها الضئيل داخل أحضان عرابتها، كما كانت تطلق عليها بينها وبين نفسها، تاركة دموعها تنهمر فوق كتفها تأثرًا بلمستها الحانية، وربتها الناعم فوق ظهرها، بينما استطردت العجوز تقول في حبور :
-(( الفاتحة كل يوم كنت أسأله تروح ترجعها ميتا يقولي الصبر.. صبر إيه يا مغدور وأنت يجيك نوم وهي غايبه عنك.. بس الحمد لله أهو وعد ووفي ))..
مالت برأسها تتطلع إلى القادم من الأمام بهيئته المعتادة وتوجهه باقي حديثها إليه :
-(( أهو كده أرجع أقول راجل ولد راجل صُح ))..
قهقهه طاهر عاليًا في صخب، لافتًا صوت ضحكته المستمتعة انتباه من كانت تقبع داخل أحضان مدبرة منزله، فالتفت على الفور تتأمله في وله بحلته الرسمية السوداء ودقات قلبها تتسارع مع صوت ضحكاته الرنانة، قبل أن يقول مازحًا في خفة بصوته الأجش :
-(( يعني قبل كده مكنتش راجل ودلوقتي رضيتي عني!! ))..
ارتبكت أم الحسن وظهر هذا الارتباك واضحًا فوق محياها، وقد شعرت بتماديها في الحديث فهتفت تقول هاربة :
-(( لاه ازاي.. طول عمرك سيد الرجالة وأنا أشهد.. عن إذنكم أروح أتصل ع البلد أطمن على الواد وأرجع ))..
راقبت رحمة انسحابها بابتسامة واسعة، بينما تقدم طاهر منها يعقب مداعبًا ويده تمتد نحو خصرها لجذبه وإحاطته :
-(( شفتي باعتني في لحظة أزاي عشانك.. وأنا اللي متربي على أيديها يعتبر ))
رفعت رحمة أحد ذراعيها كي تعدل في اهتمام من وضع رابطة عنقه، كلمسة نهائية لمظهره المهندم، وهي تقول في حب :
-(( لا متحاولش تاخدها مني.. وبعدين أنت عارف أنا بحبها قد إيه ))..
هز رأسه ورفع إحدى حاجبيه مستنكرًا، قبل أن يقول معاتبًا في غيرة واضحة :
-(( الله.. جت هي وأنا أتنسيت!.. ))..
حركت ذراعها تحتضن براحتها شطر وجهه، تراضيه بالقول الناعم بينما عيونها تختصه بلمعة العشق الخالص :
-(( أنت الأساس.. كلهم ورق نابت من غصن حبك يا طاهر ))..
تنهد في هيام ورأسه تميل نحوها كي يستريح بجبهته فوق جبهتها، هامسًا في لوعة :
-(( هو أنا بعد الكلمتين دول لازم أروح الشغل النهارده؟! ))..
أجابته مؤكدة وثغرها يستجيب تِلْقَائِيًّا لقبلاته الموزعة على منتصفه حتى أطرافه :
-(( أيوة لازم وجدًا كمان.. وعلي فكرة أنا من ساعة ما رجعت معاك منزلتش الشغل.. وكده هيقولوا عليا في المكتب أني مستهترة.. وإن جوزي هو اللي فتحلى الشركة ))..
توقف فمه عن لثم شفاها قائلًا في بساطة يثير غيظها بعدما رفع وجهه عنها :
-(( ما يقولوا.. مانا فعلًا فاتح الشركة عشانك.. إيه الجديد ))..
هتفت تؤنبه في دلال مدعية الحزن :
-(( طاهر! ))..
قال مستسلمًا بعدما أبتعد عنها عدة إنشات بسيطة ونظر في ساعة معصمه :
-(( تمام متزعليش.. بكرة إن شاء الله أنا هوصلك بنفسي.. بس دلوقتي صدقيني أتاخرت ومش هعرف أنزلك وسط البلد وأرجع ومتقوليش أروح لوحدي.. لازم أطمن عليكي ))..
سارعت توقفه مطالبة :
-(( طب تمام.. بس عايزه أروح لمصطفى.. بقالي يومين مشفتهوش ))..
رد موافقًا بشروطه الخاصة بعدما أوقف رنين هاتفه الصادح في الأركان يطالبه بسرعة التحرك :
-(( طيب هخلص شغلي وأجيلك على العصر نروح سوا.. كده ملكيش حجة ))..
صمت لوهلة وقد بدا لها مترددًا على عكس عادته فبادرت بطبع قبلة مشجعة فوق وجنته، قبل أن تسأل في حب :
-(( عايز تقولي حاجة؟ ))..
ابتسم عن مليء فاه مبادلًا قبلتها الخاطفة بأخرى عميقة مطولة، ثم أجابها بأنفاسه اللاهثة :
-(( عمي بيسأل عنك.. ياريت يا رحمة تبقى تزوريه.. متنسيش أنه بيحبك من قبل أي حاجة.. فعشان خاطري بلاش تزعليه ))..
أطرقت بأهدابها أرضًا تُخفي عنه دموع الندم وقد تجمعت فَوْرِيًّا داخل أجفانها، ثم تمتمت مجيبة في خزي :
-(( وأنا كمان بحبه.. حاضر ))..
قطع المسافة الضئيلة التي ابتعدها عنها في خطوة واحدة، ثم عاد يلف ذراعه فوق خصرها بعدما أمال برأسه لها وارتسمت ابتسامة حارة فوق فمه، قائلًا في مرح وملطفًا الأجواء بينهم :
-(( سيبك منهم كلهم وحبيني أنا بس ))..
دفعته بكفها تحثه على الذهاب خصوصًا مع ضوضاء هاتفه الذي لا يتوقف عن الرنين، تجيبه واعدة :
-(( روح وخلص بس شغلك وبعدها حاضر هحبك أنت بس زي مانت عايز.. المهم متتأخرش عليا ))..
هتف مازحًا وهو يهرول نحو الخارج بعدما غمز لها بطارف عينه :
-(( حلو أوى كده.. أفتكري زي مانا عايز دي ))..
قلبها يهدر بداخلها تفاعلًا مع كل كلماته، تراقب انسحابه عنها بنفس متيمة، يا لله، لقد امتلأ قلبها بالعشق حتى فاض من كل مسامه...
تحبه بعدد أنفاسها المهدورة، تشتاقه فور استدارته عنها، وكيف لا تفعل وقد زرع بها شيء أقوى وأعمق من الحب، بل هو اكتمال، اكتفت به دون أن تكتفي منه.
وبعد فترة من متابعة طيفه الراحل أخرجت هاتفها للتواصل مع شقيقها والذي ما أن زين اسمها شاشة هاتفه حتى أجاب مرحبًا في بشاشة :
-(( ريموو.. عامله إيه يبشه ))..
هتفت تُنهره في محبة :
-(( يابني بطل تتكلم معايا ولا كأني واحد صاحبك.. وبعدين قولي أنت في البيت ولا في الجامعة عشان هجيلك ))..
تأخر في الإجابة وقد أنشغل عنها بالتحدث إلى أحد أقرانه يقول في جدية :
-(( لا يا سامر.. الورق ده مصورينه قبل كده.. خليك في الجديد بس ))..
عاد إليها يجيب معترضًا :
-(( لا متجيش دلوقتي.. أنا في الكلية لسة عندي محاضرة هخلصها وبعدين أطلع على البيت عند غفران كنت سايب هناك كام كتاب محتاجهم وبالمرة أسلمها مفتاح الشقة ))..
توقف عن الحديث كأنه يعيد ترتيب جدوله قبل أن يضيف في حيرة :
-(( بصي مش عارف هخلص أمتي.. خليكي بكرة أحسن مش هنزل الكلية عشان عندي امتحان بعد بكرة.. بدل ما تيجي من برج العرب بليل ))..
قالت مقترحة بعدما عقدت حاجبيها معًا :
-(( طيب ماشي.. ولو خلصت مشوارك عند غفران بدري رنلي وأجيلك عشان وحشتني ))..
أنشغل عنها مرة أخرى بالإجابة عن سؤال رفيقته، فأردفت تقول مودعة وموصية :
-(( أنا هقفل عشان معطلكش.. ومتنساش لما تروح البيت تتصل تطمني ))..
*********************
بداخل منزل بدر الدين.......
استيقظت أفنان على صوت اندفاع باب الغرفة وهو يُفتح في عنف، يليه صوت والدته "سامية" تهدر بها في عدائية واضحة بعدما اقتحمت الغرفة دون استئذان وقامت بسحب الستائر الداكنة وفتح النافذة عن أخرها :
-(( قومي يا ست الحسن.. جوزك نزل من بدري بعد ما فطرته.. وأنتِ لسه نايمه بتدلعي ))..
فركت النائمة عينها تطرد منهم أثار النعاس متثابئة في كسل، بينما ارتمت والدته بجسدها على حافة الفراش في قوة متعمدة، فاهتز متأثرًا بثقل جسدها، قبل أن تتشدق ساخرة وثغرها يلتوي في استهانة :
-(( اللي يشوف كده يقول سهرانة طول الليل تراعي ابنها.. قومي ياختي كفاية مياصة.. بقالي أسبوعين بخدم فيكي كفاية كده.. هرجع بيتي ولا أسافر البلد أشوف حالي ))
تنبهت كافة حواس أفنان فور سماعها حديث حماتها، وقد لقي تلميحها الصدى المطلوب في صدرها، فغاص قلبها بداخل أضلعه توجسًا من القادم، حتى ظهر هذا الرعب جليًا فوق وجهها، وكم أسعد ذلك محدثتها فأردفت تقول مهددة في قوة :
-(( ما آه عشان تكوني فاهمة وعارفة.. صبري مش دايم ولا أنتِ مرات الابن اللي مفيش منها اتنين.. في الأول قلت يتيمة وغلبانة هتعيش تحت طوعه وطوعي.. بس بدل ما تقدري النعمة يا أفنان قلبتي وحيدي عليا.. شوفي بقى ربنا مش عايز يثبت أقدامك في البيت أزي!.. وأنا اللي يرشني بالمياه أرشه بأيـــه!! ))..
اشتد الدوار بالجالسة فوق الفراش حتى شعرت به يهتز من تحتها كالزلزال، فنظرة الإصرار والشماتة المطلة من مقلتي والدته، لا تدع لها مجالًا للراحة، وفجأة ارتعش جسدها وكأن برد الشتاء هاجمها بغتة دون وجود ملاذ تحتمي به من برودته القارصة، وقد لاحظتها سامية بوضوح فارتفعت زوايا فمها بابتسامة انتصار قبل أن تترك الغرفة ككل وترحل، بينما بقي صدى كلماتها يتردد بدهاليز عقل أفنان دون رحمة.
***************************
في زمن اختلطت به المفاهيم حتى صار الخطأ صواب والناصح لئيم، واندثرت الأخلاق وأوشك الدين على الاختفاء، فانقلبت معه كافة الموازين، وأصبح الجاني والذي أمن العقاب يتباهى بخرقه الفج للقوانين، صار لا يتأذى من الانحطاط الاجتماعي سوى الصالحين...
في منتصف اليوم... أسفل البناية القاطنة بها غفران.......
هدر من خلفه يستوقفه صوت أهوج رفيع لصبي لا يتجاوز السابعة عشرة يقول مُسْتَهْزءًا :
-(( أخيرًا ظهرت يا حيلتها.. إيه يا جبان! الستات اللي بتتحامي فيهم سابوك تنزل لوحدك!! ))..
استدار مصطفى على الصوت المزعج يطالع في اشمئزاز ذلك الصبي، المتحرش الصغير والذي اشتبك معه من قبل، وقتما حاول الاعتداء على أحد ضحاياه، يقول في شجاعة :
-(( ولا.. روح شوفلك حاجة تعملها ولا درس تذاكره... أنا مش فاضي ومش هشغل دماغي بعيل أهله كسلوا يربوه زيك!! ))..
بملامح مسودة ونظرات أنتوت الغدر، تقدم الغلام من ضحيته يقول في خبث وقد تمكن شيطانه منه، فأقنعه بالثأر لكرامته وإثبات قوته :
-(الولا ده هيوريك أزاي تقف قدامه بعدين ))..
وقبل أن يعي مصطفى أو ينتبه للخديعة التي تحاك من أجله، كان الصبي وقد تجرد بكل ما يصله بالإنسانية، يُخرج من جيب سترته الداخلية سكين حاد، وبكل ما يحمله في قلبه من غل، وغرور واستهانة بما حرمه الله، أندفع مباغتًا يطعن الماثل أمامه عدة طعنات متتالية، حتى خارت جسد مصطفى وأرتمي أرضًا، وسالت دمائه البريئة النقية فوق الأسفلت أسفله، بينما عيناه شاخصتان للسماء، وقد طُعن بسكين الغدر، وما كان له من ذنب ألا إن وقف ذات مرة في شجاعة ينهي عن المنكر.....
وبعد ما يقارب الساعتين....
وبينما كانت تستعد للخروج بعد أن تواصلت مع طاهر وأخبرته برغبتها الذهاب لمنزل عمه القريب منهم وزيارته كما طلب منها في الصباح، أوقف حركتها رنين هاتفها في اتصال من مجهول، سرعان ما سألتها المتصلة بصوتها الأنثوي الجاد فور استقبالها المكالمة :
-(( ألو.. حضرتك أستاذة رحمة النويري؟! ))..
إجابتها رحمة في توجس وقد أنبئها حدسها الخاص بوجود خطب جلل ما :
-(( أيوة أنا تفضلي ))..
قالت المرأة محافظة على نفس الجدية في حديثها ولكن بنبرة متعاطفة تلك المرة :
-(( بكلم حضرتك من مستشفى ***** العام.. بخصوص الطالب مصطفى عز الدين النويري.. رقمك في طوارئ تليفونه ))..
غاص قلبها وحُبست أنفاسها تتوقع الأسوأ، وكل ما استطاعت إخراجه من حلقها هو همهمة ضعيفة متقطعة، إلى أن جاءها ما يؤكد أظلم كوابيسها وأحلك مخاوفها :
-(( آسفة جدًا.. بس هو وصل من شوية في حادث أعتداء.. البقاء لله ))
*********************
داخل صرح المناويشي..
رفع جواد رأسه المرهق من أمام المستند الهام الذي أنكب على دراسته فور وصوله بِنَاءًا على طلب ملح من رفيقه، يتثاءب في كسل وقد قضي ليلته كاملة برفقة غفران، يراجع معها كافة التفاصيل الخاصة بتلك القضية الشائكة الهامة، وكيف يمكنهم التحرك لمجابهة ذلك المسمى بأبي المجد دون التأذي وبأقل الخسائر الممكنة، ثم انطلق من بعدها عائدًا إلى منزله لتبديل ثيابه قبل الخروج مرة أخرى، لمقابلة والاتفاق مع شركة حراسة خاصة كي تتولى أمر حماية عائلته كافة ومنزل شقيقته وزوجها بالأخص، ثم ركض بعد ذلك مسرعًا إلى مقر شركتهم بعد تلقيه اتصال ملح من قريبه، يطلب منه القدوم في أسرع وقت لمتابعة ملف المناقصة الجديد، وحتى ذلك الوقت لم تذق عيناه طعم النوم وجسده الراحة، فقرر ترك ما يقوم به وتمشية قدماه قليلًا قبل أن يتفاجئ بسكرتيرته الخاصة تدلف مكتبه دون استئذان وقد اربكها الموقف، وتهتف في توتر :
-(( أستاذ جواد.. في قوة من الشرطة طالبة تقابل حض........ ))..
قاطعها دخول الشرطي المترأس المجموعة، يقول في جدية وقد تجاوزها عامدًا :
-(( أنت عبد الجواد أنور المناويشي؟! ))..
أجابه جواد في حيرة وتقطيبة جبينه تزداد عبوسًا :
-(( أيوة أنا.. خير ؟! ))..
قال ضابط الإحضار في عملية وهو يخرج من جيبه ورقة ما :
-(( أتفضل معانا.. في بلاغ متقدم فيك من القاصر نعمة فاروق ناصر.. بتتهمك باغتصابها ))..
****************************
بتأسف جدًا عن المشهد القبل الأخير الخاص بشخصية مصطفى.. وربنا يعلم أني تعمدت موصفش أي حاجه ممكن تأثر فيكم بالسلب.. وحابه بس أقول أن الفكرة مش من ابتكاري أبدًا وطرحها في الروايه ما هو ألا تخليد لذكرى كل شهداء الشهامة اللي بيموتوا في بلدنا بنفس الطريقة ولنفس السبب..
ولأن حوادثهم مع الوقت بتتنسي.. وبتتبقي الحسرة في قلب أهاليهم مع غياب العقاب.. حبيت اذكرهم في روايتي عل وعسى كل اللي يقرأها يفتكرهم بالدعاء والرحمة 💔🙏