رواية في لهيبك أحترق
الفصل الرابع الثلاثون 34
بقلم شيماء يوسف
أيّتها البحريّة العينين والشّمعية اليدين
والرّائعة الحضور
أيّتها البيضاء كالفضّة
والملساء كالبلّور
أشهد ألّا امرأةً على محيط خصرها
تجتمع العصور
وألف ألف كوكب يدور.
-نزار قباني.
لطالما آمن أن مفهوم الوطن لا يقتصر على ذلك المكان الفسيح بحدوده الواسعة الذي نولد فيه ونستقر به وندفن تحت ثراه إذا حان الموعد، فكم من موحشًا على أرضه، وكم من مأنوسًا في هجرته، وبالنسبة إليه فقد كان وطنه بعد تراب أرضه وجذور أجداده، هو حيث استراح هانئًا فوق كتفها جبينه، وتربع ساكنًا داخل ضلوعها قلبه، وبهذا الانتماء تنهد مطولًا وقت شعوره بتسلل خيوط الشمس الأولى تصاحبها نسائم الخريف من نافذة الغرفة المفتوحة إلى الداخل، معلنة عن نهاية ليلة ستظل محفورة داخل ذاكرته حتى يواري جسده التراب، ليلة ظل ساهرًا حتى أخرها يتأمل الغافية بين ذراعيه في مزيج من السعادة، الطمأنينة، والتبجيل، يلتهم ملامحها المسترخية جواره في سلام، يمرر عدستيه فوق كل نقطة في وجهها ثم يعود ويعيد الكرة من جديد حتى أصابت روحه الجائعة تخمة الإفراط ولم يكتفِ بعد، يخشى إغماض عينيه بعدما تمددت جواره، فيختفي جسدها من أمامه، وإن لم يكن في الأمر من مبالغة لأتخذ من البارحة ميلادًا جديدًا له، بصفحة بيضاء كلية وتركها تخط بيدها ما شاءت داخلها واكتفي هو بالمشاهدة، والاستمتاع، والتنفيذ، وبعد فترة من التحديق المستمر بها، شعر بتململها أسفل ذراعه المحاوط خصرها، يليه صدور همهمة خافتة من بين شفتيها المطبقتين جعلت عضلاته المسترخية تبرز في حالة استنفار، ودقات قلبه الهادئة تدوي قاصفة أضلعه في ألف انشطار يليه انفجار، يخشى أن يكون ابتعاده عنها طوال الأشهر الماضية عبثًا، يرتعب من فكرة فشله في الانسلاخ من جلد شقيقه، وبتلك الحالة المزرية من الشك التي سقط بداخلها، أقترب بأنفاس مكتومة داخل صدره يضع أُذنه فوق شفتاها مرهفًا السمع حتى استطاع تميز حروف اسمه المتقطعة الخارجة منهم :
-(( طا.. هر ))..
تراخي جسده، واسترخت ملامحه، واستكانت دقاته فور سماعه لها تنطق حروفه في نداء جديد أعلى وأوضح بطريقة أكثر راحة من ذي قبل، مع شبح ابتسامة ظهر يلوح فوق ثغرها الناعم، فهمس يجيب في حنان ويده الحرة تمسح فوق جبهتها :
-(( أنا هنا يا شمس حياة طاهر ))..
فتحت عينيها على مضض عند سماعها تلبيته النداء، تتطلع في عبوس إلى وجهه الشبه ملاصق لها، ومنه إلى الغرفة من حولها تتذكر البارحة ولم غفت هنا بالقرب منه، ثم سرعان ما بدأ عبوس جبينها في الانبساط لتحل محله ابتسامة دافئة حين تأكدت من وجوده حَقًّا جوارها، بينما أردف هو يستفسر في خدر وكفه لازالت تتلمس خصلات شعرها العشوائية هبوطًا إلي فمها وعنقها :
-(( كنتي بتحلمي بمين؟! ))..
ضغطت فوق شفتيها بقوة تجابه صراع صامت يدور بداخلها، ودت لو أخبرته بغزوه أحلامها كما يفعل في واقعها، وأيضًا أرادت التلاعب به ليذوق جزءًا من لوعتها في غيابه، وما بين الرغبتين انفرج فمها يجيبه خجلًا بنبرة ناعسة وجبينها يستند على جانب خده مستجيبة لقبلة صباحية مطولة طبعها فوق وجنتها :
-(( بيك ))
تنهد في حرارة ثم عاد يسألها من جديد، فرغم الطمأنينة النسبية التي اعترته من هدوءها على عكس ردات فعلها السابقة حين تراودها كوابيسها الكريهة المعتادة، لازال جزءًا من عقله يريد التأكد بسماع انتهاء مأساتهم سَوِيًّا من شفتيها :
-(( طب ينفع أعرف كنتي بتحلمي بأيه؟! ))..
قالت في دلال محاولة الحد من حركتها حتى لا تلامس كتفه المصاب :
-(( لأ.. أنت متعاقب ))..
تابعت خيبة الأمل المتسللة إلى ملامحه بسبب إجابتها الجافية، يليها نظرة القلق التي طلت من خلف عدستيه ومحاولته الجاهدة إخفائها بابتسامة باهتة، قبل أن تضيف في هدوء ودعة :
-(( بس الحلم مكنش فيه غير أنا وأنت وبس.. اطمن ))..
انفرجت أساريره ثانية، فحتى وإن بخلت عليه بكامل التفاصيل، يكفيه انفراده بها في الخيال، كما يختلي معها وبها الآن، فقط لولا تلك الحادثة.....، زفر في مزيج من السخط والأنين ورغم تزايد حدة الألم بفعل انسحاب المسكن من جسده، لم تتوقف يده عن تمسيد خصلاتها المفرودة حوله، متسائلًا في جدية بعد فترة من الصمت كان هو أول من قطعها قائلًا :
-(( رحمة.. أنتِ ليه لحد دلوقتي معرفتيش مصطفى بموضوعك؟! ))..
رفعت رأسها أولًا تتطلع إليه في شك، ثم اعتدلت في نومتها تستند بثقل جسدها على مرفقيها وقد أصبحت في وضعية مقابلة له، قبل أن تقول في إجابة أكثر منه سؤال :
-(( غفران قالتلك أني مبلغتهوش صح؟! ولا جواد؟ ))..
ابتسم عن مليء فاه ولم تملك مقاومة سحر ابتسامته المسترخية خاصةً ويده لا تتوقف عن مداعبة وجهها في لمسات حانية خاطفة كانت أبوية أكثر منها لشيء آخر فراحت تبادله ابتسامته بأخرى أكثر اتساعًا، تنصت إلى قوله المستنكر :
-(( أنتِ مش مصدقة ليه أني مفارقتكيش لحظة.. هو أنتِ بجد متخيلة أن كان ممكن يعدي علينا يوم من غير ما أطمن عليكي فيه؟! ))..
هناك سلم مصنوع من نسج خيالها بدايته من فمه ونهايته عند مقدمة سحاب قطني هش متفرق يزين سماء وردية تخصها وحدها، ومنذ البارحة وكلما تحدث بهذا الشكل المخترق دفاعات قلبها الأخرق الغارق في عشقه، كلما أرتقي بها سلمة تلو الأخرى نحو تلك السماء السعيدة الصافية، حتى ابتسامتها فقدت القدرة على تحجيمها فأخذت تزداد اتساعًا في بلاهة دون سبب مقنع مع كل حرف يخرج من فمه، حتى وهو صامت تبتسم لرؤية عينيها ملامحه، بينما أردف هو يقول في جدية :
-(( رحمة فى كلام كتير وحاجات أكتر محتاجين نتكلم عنها.. خليكي عارفة أني مش هسيبك تخرجي من بيتي تاني أبدًا مهما حصل.. بس خلينا في الأهم.. لو حابة تحتفظي بالسبب لنفسك هصبر عليكي لحد ما يجي يوم وتحكيلي كل اللي جواكي من نفسك.. قوليلي بس تحبي تعملي إيه مع مصطفى.. أكيد مش هنسيبه قاعد مع غفران لوحدها.. طبعًا البيت هنا كبير ومفتوحله طول العمر )).
دون وعى منها عادت تستلقي جواره، وتستند بجبهتها على شطر وجهه، وكأنها تحتمي بقربه من حيرتها وتخبطها، قائلة في نبرة خفيضة شاردة :
-(( أنا قلتلك قبل كده.. هسيب كل حاجة زي ما هي عشان علياء وجواد ومصطفى.. حقيقي أنا مش عايزه حاجه من حد.. طبعًا أنا عارفة أنه حل مؤقت ولازم أصارحه في يوم أني مش أخته بالطريقة التقليدية اللي هو عارفها.. بس على الأقل أصارحه وأنا نفسي متقبلة الوضع وفهماه مش لسة متلخبطة.. طاهر أنا مش مصدقة اللي ماما عملته ده.. أزاي مفكرتش في يوم تقولي الحقيقة ))..
ارتجفت عضلة في جانب فكه من كثرة الضغط فوق أسنانه، يقاوم أطنان من الشعور بالذنب تدك خلجاته، إذ يجد نفسه عاجزًا عن إيجاد مخرج لما يُخفيه دون تأذي قلبها أو علاقتهم مما هو آت، ومع هذا الشعور المقيت، استدار يتكئ على جانبه وقد أصبح بذلك مواجهًا لها قبل أن يقول مغيرًا مجرى الحديث وقد تفاجأ بعدم جاهزيته للمواجهة بعد :
-(( طب براحتك.. ده كان مجرد سؤال.. المهم قرري تحبي أكلم مصطفى أنا النهاردة ولا تكلميه أنتِ ))..
ضغطت فوق ثغرها في تردد حرج، ففي الحقيقة كانت دائمًا العلاقة بين شقيقها وزوجها مضطربة، رغم عدم وجود صدامات فعلية بينهم سوي موقف خطفها كما يتهمه أخيها، وازداد حنقه منه في الأشهر السبع الفائتة كلما رأي ذبولها، لذا لم يكن الانتقال للعيش معهم هو القرار الأنسب وعليه قالت مقترحة في تأني، تتابع بتركيز شديد رد فعله وتعبيراته :
-(( معتقدش مصطفى هيرضي أو هيقبل يجي يعيش معانا هنا.. بس في حل تاني.. أنا كنت بدور من فترة على شقة إيجار ننقل فيها ولقيت واحدة المفروض كنا نسكنها بكرة.. ممكن ينقل فيها بس هروح أزوره دايمًا عشان نكون متفقين.. وأظن كده هيكون مرتاح أكتر ))..
أقترب منها على مهل، ثم قال بعدما طبع قبلة مطولة ناعمة فوق جبينها :
-(( اللي أنتِ عايزاه هنفذه.. بس سبيني أشوف واحدة تروح كل يوم تعمله الأكل وتشوف طلبات البيت وتمشي قبل ما يرجع.. ومش عايز اعتراض ))..
ضيقت عينيها فوقه تفترسه في توجس، تتساءل في حيرة لِمَ لم يبد أي رد فعل تجاه ذكرها المنزل والإيجار، فأخر ما تتوقعه هو عدم معرفته لهذا الشأن الهام والذي يصدف تدخل رفيقه وقريبه به، ولم تكن أفكارها عنه ببعيدة فسارع يقول في إرهاق يبغي بذلك صرف تفكيرها إليه :
-(( رحمة.. أنا حقيقي محتاج أخد المسكن وأدهن الكريم.. ومش هعرف مع نفسي ))..
اعتدلت سريعًا من نومتها متمتمة في اعتراض وقد بدأ الاحمرار يزحف فِعْلِيًّا إلى وجنتاها :
-(( مليش دعوة أتصرف ))..
حك جبهته بطرف إبهامه ثم قال في خبث مدعيًا القبول بعدما اعتدل في جلسته هو الأخر واحتل بجسده المكان الفارغ خلفها :
-(( خلاص مش مشكلة هاخد المسكن بس.. كده كده هنزل المستشفى ليحيى كمان شويه ابقي أشوف ممرضة هناك تساعدني ))
اتسعت عيناها علي أخرهما حتى جحظت خارجًا، وفرغ فاه إلى أن ألمها فكها ثم هتفت في نبرة مختنقة متقطعة :
-(( نعــمم.. يعني إيه ممرضة دي بقي وتساعدك أزاي وعشان إيه؟!.. لا أدهنه مع نفسك ))..
مد ذراعه يجذبها إليه ويلصق ظهرها بصدره، ثم قال هامسًا في تسلية :
-(( طب مادام حبيبي بيغير ما هو أولى يساعدني ))..
ارتجف جسدها بفعل أنفاسه الساخنة اللافحة أذنها بجانب وجهها، يليه شعورها بشفاه حيث بدأت تتلمس شحمة أذنها، فسارعت تقول خانعة في تعلثم واضح :
-(( طب هساعدك تفك الرباط عشان حركة كتفك وأنت كمل الباقي ))..
توقفت شفتاه عن العبث باتزانها قبل أن يقول مستجديًا :
-(( طب أهون عليكي والدكتور موصيني بلاش حركة كتير ؟! ))..
حركت رأسها في نصف استدارة وطالعته بقلة حيلة، مستسلمة لطواف شفتيه فوق وجهها، قبل همسها اسمه متوسلة :
-(( طاهر ))..
همهم مجيبًا في حرارة :
-(( يا أرض طاهر ))..
ليس من العدل أبدًا لعبه على أوتار فؤادها المتيم بتلك الطريقة الظالمة لعذرية مشاعرها وجسدها، وإن لم تتسلح بأي شيء يقيها من جموح مشاعره الفترة القادمة، لن تصمد أمام غارة أخرى من غارات فمه الغازية بدنها، هذا أن أرادت الدفاع من الأساس، ومع القليل من مداعباته الحارة، وجدت نفسها تهتف بالموافقة على طلبه، ورغم علمها بما ستعانيه من ذلك الخضوع لاحقًا، لم يملك فمها ألا النطق بـنعم.
***************************
بادر بالانحناء وحملها حتى الفراش فور ملاحظته شحوب ملامحها وصعوبة حركتها، ثم وضعها فوقه برفق شديد يخشى آذيتها بأي حركة غير محسوبة قد تصدر من جهته فيتسبب في إيلامها، ثم أخذ يعدل من وضع الوسائد خلفها في اهتمام جم وداخله ينفطر حزنًا على حالها من جهة وعلي ما فقده من جهةً أخرى، كاتمًا جذوة حسرته بداخل صدره، بينما وقفت والدته عند باب الغرفة تتابع في حنق شديد، وقلب يكاد يتمزق بفعل الغيرة الحارقة عناية وحيدها المبالغ به من وجهة نظرها بشريكته، خاصةً وزوجته تلك أصبحت بلا فائدة بالنسبة إليها، إذ فشلت للمرة الثانية على التوالي في إنجاب وريث يحمل أسم العائلة ويضمن استمرار نسلها، ولم تكتفِ بذلك الفشل، بل راحت تتلاعب به وتحاول بكافة الطرق مستغلة طيبته وحبه في الوقيعة بينه وبين والدته، لذا هتفت تقول في حنق :
-(( حاسب على ضهرك أنت وسيبها تتحرك لوحدها.. هي سقطت معجزتش ))..
زفر بدر في قوة بعدما أنتهي من تمهيد الفراش حرصًا على راحة من ترقد داخله، مقررًا بعد اعتداله في وقفته الاستدارة وتجاهل حديث والدته أو التعقيب على طلبها اللاذع، إذ أخرج هاتفه وتظاهر بالانشغال بكتابة عدة رسائل كاذبة فوق شاشته، غافلًا عن حرب النظرات المشتعلة بين أهم امرأتين في حياته، وما تضمره إحداهما الأخرى داخل جوفها، ولم يلتفت سوى على صوت زوجته، إذ قررت إشعال الموقف بسكب البنزين فوق النار المتأججة بداخل صدر والدته، فهتفت تستنجد به في غنج، مدعية في مبالغة لم تخفي على من تراقب عن كثب كل حركة خبيثة صادرة عنها :
-(( آه بدر.. تعبانه مش قادرة الجرح هيموتني عايزة أرتاح ))..
لم يخيب ظنها أو توقعها، إذ سارع بإلقاء الهاتف بعيدًا عنه، ثم جلس قبالتها يسأل في لوعة ويده لا تكف عن مسح جبهتها وملامسة سنابلها الذهبية تحت أعين والدته الواقفة فوق صفيح ساخن تكاد من فرط السخط تنفجر :
-(( سلامتك يا حبيبتي.. تحبي أعملك حاجة طيب؟! ))..
لم تمهلها والدته تلك المرة فرصة الرد أو الادعاء أكثر حيث هتفت تقول وتُخرج ما في جوفها من سموم الكراهية والرفض :
-(( وهو حد مانعك ترتاحي.. ما رجعناكي البيت.. والسرير واديكي نايمة عليه.. يعملك إيه تاني ولا هو وجع قلب ليه وخلاص! ))..
تلك المرة كان هو من قرر التدخل واعتراض طريق مقذوفات والدته، والتي لم تتواني عن إلقائها في وجه زوجته منذ وصولها المشفى بالأمس غير عابئة بحالتها الصحية وما تمر به، فهتف يقول في إنهاك واضح :
-(( أمي من فضلك.. ممكن بعد اذنك تشوفي المطبخ محتاج طلبات إيه عشان أنزل أجببها.. معلش هنتعبك النهارده وأنتِ اللي هتطبخيلنا الغدا بإيدك الحلوة دي ))..
لوهلة ظن أنها لن تستجيب لطلبه، حيث بقت قدماها مسمرة بالأرضية، أما عن نظراتها فحدث ولا حرج، وبعد فترة من تمرير عدستيها بينه وبين "الأفعى الصفراء" كما لقبت زوجة وليدها الأول بداخلها، هتفت تقول في عدائية واضحة :
-(( ماشي.. وأنت نام وريح جسمك وسيبك من دلع البنات ده.. كفاية عليك من إمبارح شغال جري من هنا لهنا وياريته على فايدة.. متخافش عليها دي متربية على العيشة الصعبة مش ولادة اللي تعمل فيها كدة ))..
صاحبت إيماءة رأسه بالموافقة ابتسامة باهتة مودعة افترشت ثغره حتى اختفى طيف والدته من حولهم وقتها تحرك مسرعًا يغلق باب الغرفة من وراءها، موفرًا بفعلته تلك خصوصية لم تتاح لهم منذ البارحة، ثم عاد واستلقي بجسده جوار زوجته ثم قال في إنهاك واضح بعدما طبع قبلة مطولة فوق كفها :
-(( حمدلله على السلامه يا حبيبتي.. متعرفيش خفت عليكي أزاي إمبارح ))..
أسبلت أهدابها للأسفل، ثم قالت في مزيج من العتاب والدلال :
-(( يعني كان لازم يحصل كل ده عشان ترضى عني يا بدر؟! ))..
اقترب بجسده منها قاطعًا المسافة الصغيرة الفاصلة بين جسديهما، بينما تحركت هي الأخرى بقدر ما سمح لها جرحها حديث العهد تستند على كتفه القوي، وتستمع إلى صوته المتعب المتحشرج يقول مواسيًا :
-(( حقك عليا أنا غلطان.. خلينا ننسى كل اللي حصل ونبدأ صفحة جديدة من النهاردة.. ووعد هشيلك في عينيا ))..
اتسعت عيناها على أخرهما، وقد داعبت كلماته البسيطة غرور الأنثى بداخلها فهمست تستفسر في حماسة :
-(( بجد يا بدر؟!.. يعني أنت مش زعلان عشان الجنين مات زي ما حماتي بتقول من إمبارح؟! ))..
حاوط كتفها بذراعه وحدق في وجهها الذابل وشفاها الباهتة،ثم قال في صوت رقيق يتخلله النعاس :
-(( أفنان أنا بحبك.. أه نفسي أشيل ولادي منك بس أنتِ هتفضلي عندي أهم.. وعمري ما هسمح لكلام أمي يأثر على حبي ليكي أطمني.. دول ماحنا سوا أكيد الولاد هيجوا في وقتهم ))
كانت شديدة الوهن، مستنفدة القوي، ذابلة الملامح، مع ألف احتمال واحتمال ضربا جوانب عقلها منذ خسارة البارحة وحرمها من النوم الهنيء، تخشي ملاقاة مصير من سبقتها لنفس السبب، ثم جاءتها كلماته وكأنها ترياق سحري اندفع بداخل عروقها فأعاد إليها إرادتها الواهنة، ومنحها نفس اصطناعي كانت بحاجته بشدة للاستئناف حرب لا يعرف الفائز بها مصطلح الرحمة.
****************************
وسط حالة من الصمت حيث أصبح السكون هو الصفة الغالبة على ساكني المنزل، جلس السيد أنور في مقعده المتحرك كحاله الدائم ساهم الفكر، واجم الملامح ، معتل المزاج، مثقل بمشاعر الحزن، والعجز، والقلق الجاثمة فوق صدره ولا يملك في الأخير سوي الجلوس هنا بمفرده حتى يأتبه البشير ويطمئن قلبه على حال ابنته وزوجها، ومع انغماسه في شعور الشفقة على الذات، فجأة اندفع باب الغرفة في حدة غير متعمدة أجفل جسده المتعب على أثرها يليه ظهور زوجته تقول معتذرة في ضيق :
-(( أنا أسفة يا أنور الباب فلت من أيدي وأنا بفتحه.. مكنش قصدي أفزعك ))..
نظر إليها وقد بدا لها مهمومًا ضعيفًا يحمل من الأثقال ما لا تقدر أكتافه الهزيلة على حملها قبل أن يهمهم متفهمًا في نبرة خافتة مقتضبة :
-(( متشغليش بالك يا كريمة بيا وطمنيني.. في خبر عن علياء أو يحيى ))..
سارت حتى جلست القرفصاء أمامه، ثم أجابته في نبرة حانية وكفها المجعد بتأثير الزمان يمسح على ساقه مواسيًا :
-(( لسه مكلمة جواد مفيش جديد.. قاعدين مستنينه يفوق.. ادعيله يا أنور وان شاء الله ربنا يستجيب منك ويطمنا في أقرب وقت ))..
تنهد طاردًا الحرقة المشبوبة في ثنايا قلبه وهامسًا في تضرع من أُغلقت سبل النجاة في وجهه :
-(( يارب قومه بالسلامة.. يارب متحرمهاش منه.. أنا ما صدقت يا كريمة تقابل حد يحبها ويتمسك بيها بالطريقة دي.. وعارف أنها بتكابر بس من جواها كلام تاني خالص ))..
تنهدت هي الأخرى تشاركه لوعة صدره وشحوب وجهه، مؤكدة حديثه :
-(( عارفة يا أنور.. دي بنتي وأنا أدري الناس بيها.. دي قبل الفرح كانت طايرة والابتسامة مش مفارقة وشها.. ومنطفتش غير بعد ما منها لله قريبته دي قالت اللي قالته وكسرت فرحتها.. إن شاء الله هيقوم بالسلامة وهتطمن عليها بس أنت ارتاح عشان خاطري.. متنساش أنك لسه خارج من المستشفى وأي زعل مش كويس عليك ))..
ابتسامة باهتة اعتلت ثغره وصاحبتها إيماءة طمأنة خفيفة من رأسه، بينما أردفت زوجته تقول في حبور كنوع من تلطيف الأجواء :
-(( أقولك حاجة تريحك شوية؟!.. جواد قالي أن رحمة روحت البيت مع طاهر وشكلهم كدة اتصالحوا الحمدلله ))..
تهللت أساريره واتسعت ابتسامته حتى وصلت تلك الابتسامة العذبة إلى عينه، ثم قال معقبًا في نبرة مرتاحة هادئة :
-(( أحمدك وأشكر فضلك يارب.. أنا كنت عارف طاهر مش هيسكت غير لما يرجعها.. كده نص مهمتنا خلصت يا كريمة وعقبال ما يصارحها بالباقي عشان ضميري يرتاح ناحيتها وناحيتك ))
أسبلت أهدابها واعتلى ثغرها ابتسامة لازالت محافظة على رونقها الساحر رغم تقدم العمر، ثم قالت مستفسرة في دهشة خفيفة :
-(( لسة ضميرك تعبان بسببي يا أنور؟! ))..
أجابها في نبرة متحشرجة وقد تبرمت ملامحه واختفت الابتسامة من فوقها :
-(( ولا عمري هنسي أني في يوم كنت سبب في كسرة خاطرك يا كريمة حتى لو لهدف مساعدة غيري.. بس أنتِ بطيبة قلبك عطتيني فرصة تانية هفضل كل حياتي أحمد ربنا عليها.. وخليكي واثقة لولا موافقتك مساعدة طاهر ولا كنت نفذت طلبه ))..
همست بنبرة تفوح منها الوجل والتمني :
-(( أنسى اللي فات يا أنور وأقفل دفاترك القديمة.. طاهر وجواد وعلياء عندي واحد.. حتى رحمة اخدت غلاوتهم ومتمناش غير أني اشوفهم مرتاحين مع اللي بيحبوهم.. إن شاء الله يحيي يقوم بالسلامة ويرتاح بالنا من ناحية عالية.. ويتبقي جواد ))..
أنهت حديثها بالاستدارة والوقوف خلفه، ثم شرعت في دفع الكرسي المدولب للأمام نحو الخارج، بينما تمتم زوجها معقبًا في غموض :
-(( إن شاء الله.. لو اللي حاسه صح هنطمن عليه قريب ومش هو بس هو ولينة كمان ))..
كانت هي الأخرى تشاركه تلك الظنون الخفية، فقلب الأم لا يحتاج سوي لقاء واحد لمعرفة الأصلح، فما بالها بعدة لقاءات متتالية رأت فيهم ما يكفي للميل والقبول، ورغم حماستها مقاسمة والده ما يعتمل به فكرها وقلبها آثرت الصمت حتى يتخطى ولدها محنة الخديعة والفراق ووقتها يحين الحديث، لذا انحنت بجسدها أكثر تدفع الكرسي قائلة في تأني :
-(( ربنا يعوضه ويقدمله الأصلح ))..
**************************
انتهزت فرصة اختفائه داخل الحمام لتبديل ثيابه والاستعداد للخروج في الإجابة على اتصال صديقتها والتي لا تنفك تحاول التواصل معها منذ الصباح الباكر، وعليه تسللت على أطراف أصابعها حتى خرجت من الغرفة ككل ولاذت بالغرفة المقابلة لغرفتهم الأساسية تختبئ بها عنه، ثم بعدها ضغطت فوق اختيار معاودة الاتصال واستقبلت هتاف صديقتها القلق المندفع عبر سماعة الهاتف وهي تسألها في فضولها المعتاد :
-(( أنتِ فين بقالي ساعة بكلمك مش بتردي؟!.. معقولة نايمين كل ده ولا حصل حاجة المفروض أعرفها؟! ))..
ضغطت على حروف كلماتها الأخيرة في نبرة ذات مغزى جعلت حمرة الخجل تزحف إلى وجنتي رفيقتها إذ راح عقلها على الفور يتذكر الدقائق التي سبقت تلقيها ذاك الاتصال الهاتفي وكيف انتهز فرصة اقترابها منه ومساعدته في فك جبيرته الطبية في التودد إليها بطريقة أرهقت دفاعاتها، وأني لها وهي عديمة الخبرة في التصدي لمناوشات غزله المباغتة جسدها وفؤادها، لا لم تكن أبدًا مناوشات أو غارات، بل هي أقرب لعزف موسيقى من متمرس ماهر يعرف متى وأين يضرب بأصابعه فيخرج من آلته أشدي الألحان، أما عن قبلته فهي مقطوعة سحرية من عالم آخر، يجتاحها بفمه، بعطره، بأنفاسه، وشغف لمساته، ثم سرعان ما يتبدل ذلك الاجتياح إلى مداعبات ناعمة فتتحول تحت يديه إلى سحابة من حلوى السكر تذوب بفعل حراراة لمساته ولا ينتشلها من التساقط والتلاشي داخل فمه سوي طلب رئتيها للهواء، أعادها من شرود خيالها الجامح صياح غفران القادم من الجهة الأخرى دون توقف :
-((رحمة.. يا رحمة.. ألو يابنتي رحتي فييين؟! ))
تنحنحت حرجة ثم قالت في هجوم كاذب تُخفي خلفه توترها :
-(( إيه بتزعقي ليه سمعاكي ))..
هتفت رفيقتها مؤكدة في ريبة :
-(( لا والله حالتك من إمبارح مش طبيعية.. متفكريش إني مأخدتش بالي من نظراتكم لبعض.. وايه موضوع الحادثة ده كمان قلتيلي هحكيلك وطنشتي.. أطلعي بالتفاصيل يا رحمة أحسنلك ))..
سحبت نفسًا عميقًا تحد به من ثورة قلبها الضارب أضلعه الحامية، ثم بدأت تقص على مسامع صديقتها كل ما حدث، بداية من شجارهم الأحمق حتى اعترافها بحبه وحتى اللحظات التي سبقت مخابرتها الهاتفية، بالطبع مع تعمد الإغفال عن ذكر تقاربهم الغير مكتمل فهذا شأنهم الخاص ومن المحظورات التي لا يجب على عاقل البوح بها، بينما استمعت غفران بإنصات شديد إلى كل ما تفوهت به رفيقتها، ثم بعدها هتفت تسألها في نبرة متباينة ما بين الدهشة والانبهار :
-(( رحمة.. طاهر عمل كل ده عشانك.. فداكي بالعربية.. وغير البيت كله على ذوقك عشان قرأ مذكراتك وهيحل موضوع مصطفى وسكنه غير طبعًا موضوع يحيى وعلاجك اللي أنا كنت عرفاه وكل ده وحضرتك بتقوليله مش مسمحاك على غيابك عني!!.. لا بجد أنتِ عبيطة ولا بتستعبطي!! ))..
هتفت تدافع في ارتباك من يملك الحجة الواهنة :
-(( بستعبط ليه بقى إن شاء الله؟!.. وبعدين متفكريش إني هسكتلك على حوار مصطفى وعلاج يحيى وانك كنتي بتبلغيه كل حاجه ها.. لما نتقابل لينا قاعدة طويلة ))..
واصلت غفران لعب دور الناصح هاتفة في قوة وكأنها صوت العقل أو المصباح المنير عتمة طريق صديقتها لإرشادها إلى حيث غايتها. متجنبة التعقيب عن الجزء الأخير من الحديث بالطبع :
-(( أه يا رحمة بتستعبطي ومش هجاملك وعشان استعباطك ده من الأول طبيعي كنت بطمنه عليكي.. ومعرفش سبب تمسكك بزعل مش موجود جواكي بجد كل ده ليه؟.. لو معرفش أنتِ قد إيه قوية كنت قلت عليكي واحدة جبانة بتداري ورا زعلها عشان متواجهش.. أنتِ كأنك خايفة تفرحي!! ))..
صمتت لوهلة وكأنها تقرء أفكارها وتعيد رسم الخطوط معًا لحل الأحجية ثم همست تقول في عدم تصديق :
-(( رحمة.. أوعى تكوني بتعملي كده عقاب ليكي وليه.. أوعى تكوني بتحرميه وتحرمي نفسك من الفرحة عشان تورطك في موت أخوه؟!!! ))..
جحظت عيناها للخارج من الفكرة الخاطئة المزروعة في عقل رفيقتها ثم هتفت تقول في ثقة :
-(( لا طبعًا أنتِ مجنونة.. أنا قفلت الصفحة دي خلاص ومبقتش شايفة غير طاهر في كل حياتي ))..
جارتها غفران فى الحديث عندما عاودت تسألها من جديد في فراسة :
-(( طب مش بتحبيه؟! ))..
سارعت تنفي مؤكدة في قوة ونبرة لا تحمل الشك :
-(( بحبه جدًا.. كنت حاسة أن روحي بتروح لحد ما أطمنت أنه كويس إمبارح ))
كان الضغط هو الوسيلة المثالية لإعادة وضع صديقتها على طريق التفكير السليم، لذا استمرت في الشيء الوحيد الذي تُجيد فعله، إلا وهو الاستجواب والإقناع متسائلة في هدوء :
-(( يبقي أدينى سبب واحد بس مقنع يخليكي مترددة.. كفاية يا رحمة بُعد عشان صدقيني أنتوا الاتنين تستحقوا السعادة.. وحب طاهر ليكي مش محتاج إثباتات ولا كلام.. أه أنا فاهمة أنك عايزة تعاقبيه عشان بعد عنك بس هو أعترف بغلطه.. وأنتِ لو بتحبيه بجد مش هيهون عليكي عذابه.. وفي الأخر أنتِ كبيرة كفاية عشان تعرفي أمتي توقفي وأمتي تبدأي صفحة جديدة من حياتك ))..
أصابت كلمات غفران دواخلها بحديثها عن السعادة، كما استطاعت بفطنتها الوصول إلى النقطة الشائكة بداخلها، نعم فيبدو وأنها في طريقها لمعاقبته على ابتعاده عنها كل الأشهر المنصرمة، ستُعاقب معه بفقدان مزيد من الوقت بدونه، أنارت تلك الفكرة ثنايا عقلها كآتون متوهج بدد ظلام غضبها، وكعادة العقل البشري عند مواجهته بخطئه هتفت تقول في ارتباك مغيرة مجرى الحوار :
-(( سيبك مني وقوليلي أنتِ فين من الصبح كده؟!.. سامعة صوت عربيات ودوشة كثير جنبك؟! ))..
إجابتها في غموض دون الخوض في آية تفاصيل :
-(( الحرامية لما بيسرقوا بيتقابلوا لتقسيم سريقتهم.. ولو هي متورطة طبيعي هتقابل شريكها في أقرب وقت ))..
أبعدت رحمة الهاتف عن أذنها ونظرت داخل شاشته، ثم عادت ووضعته فوقها من جديد وهي تقول في استنكار :
-(( مالك يا غفران!!.. أنتِ بتقولي طلاسم؟! ))..
جذب عينيها وانتباهها توقف السياره الأجرة التي كانت تتبعها أمام مبنى أنيق، يليه خروج المعنية بمراقبتها ودخولها البناية فسارعت تقول في اقتضاب :
-(( أنا مضطرة أقفل دلوقتي سلام ))..
بالفعل أنهت المكالمة دون حتى وداع ثم قفزت من داخل السيارة الخاصة تتبع خطوات "جيداء" وداخلها ينتوي التأكد من شكوكها حتى تضع خطة لتفادي غدرها في المستقبل..
*****************************
بخطوات متمهلة وفكر شارد سارت داخل الممر الطويل الخاص بالطابق العلوي قاطعة المسافة الفاصلة بين الغرفة الاحتياطية التي اتخذتها مخبأ للتحدث مع رفيقتها بأريحية وغرفة نومهم المقابلة لها وصوت غفران الناصح لا ينفك صداه يتردد في دهاليز عقلها، وقد ألقت بأسئلتها الصريحة المباشرة الضوء على جانب الحقيقة حيث تخشي النظر بباطنه والاعتراف به، وَتِلْقَائِيًّا راحت تفتش داخلها عما امتنعت عن الإجابة عليه أما هاربة أو جاهلة، فمنذ البارحة وحتى الصباح الباكر تشعر وكأنها سقطت داخل حلم جميل وتخشي الاستيقاظ منه، ورغم ذلك هناك غصة بسيطة تعتصر قلبها من وقت إلى آخر وتحول دون اكتمال تلك السعادة دون أن تدري مصدرها، أو سبب علتها، تائهة، وحائرة، ولا تجد ملجأ لحالة الضياع التي تعتريها سوي ذراعاه، دونًا عن الجميع تحتاج إلقاء أوراقها أمامه عله يجد حل لمعضلة كرامتها التي تأن من وقت إلى آخر ترفض الانصياع الكامل إليه في مخالفة واضحة لرغبة قلبها في مسامحته وتقبل كافة أعذاره، كان هذا القرار الوحيد الذي توصلت إليه والطريق الذي قررت انتهاجه، ستتقبل قربه منها ومحاولته التعويض عنها حتى يُشفي جرح خذلانها منه كما وصتها رفيقتها فهما حَقًّا يدينان لحبهما بتلك المحاولة، أما عنه وكأنه شعر بحاجتها إليه في تلك اللحظة، فظهر أمامها من العدم يتقدم منها بعدما انتهى من هندمه ملابسه والخروج من الغرفة المقابلة وعينيه تأسرها بكافة تفاصيلها المحببة داخل عدستيه اللامعة في شغف، ومع تنهيدة عميقة حارة صدرت عنه، رفعت رأسها تطالعه ونبضات قلبها المفتون بحبه تهدر دون توقف، خاصةً ورائحة عطره تخللت حواسها المرهفة في ترقب لكل ما يصدر عنه، فحتى النظر إليه بات يبعث على روحها بالسرور فكيف بدلاله، ناهيها عن تودده ولمساته التي تكاد تصيبها بالجنون، وبتلك الابتسامة العذبة التي تصيب جهازها التنفسي بالشلل، قطع الخطوات الفاصلة بينهم ثم سألها بصوته الأجش بعد ملاحظته الهاتف في يدها، وقد اتخذت ذراعه موقعها في الحال نحو خصرها، يشدها إليه ويمنع ابتعادها عنه :
-(( كنتي بتكلمي مصطفى؟! ))
ابتلعت لعابها بصعوبة تشعر وكأنها لا تستطيع مجاراته، فبمرور الساعات بل الدقائق بجواره ترى تصدع جدران مقاومتها أمام عينيها وبمباركةً منه، والأسوأ تلذذه بضعفها ذلك، ثم قالت في خفوت :
-(( لا دي غفران اتصلت تطمن.. هكلم مصطفى بليل إن شاء الله ))..
همس بحلاوة بعدما استند برأسه على جانب وجهها، مستنشقًا عطرها الآخاذ :
-(( طب اتفرجتي على البيت بعد التجديد ولا لسة؟! ))..
همست تجيبه وقد تعلقت عيناها بعيناه بعدما رفعت رأسها لمطالعته :
-(( أه.. بس مش كله ))..
بنفس القرب وحرارة الأنفاس وعذوبة النبرات، عاد يستفسر معاتبًا في نعومة ساخرة اضطربت معها خفقاتها :
-(( من غيري؟! ))..
متى أصبح قريبًا منها إلى تلك الدرجة، يا الله أنه حتى لا يترك متنفسًا بينهم، حتى أنهما صارا يتنفسان أنفاس بعضهم البعض، وكلما شعر برغبتها في الابتعاد ضيق حصار ذراعيه حولها وحرمها من فكرة الهروب، وهي ضعيفة، ضعيفة للغاية على صد مناغشاته، وبإرهاق عاطفي جم، همهمت تدافع قائلة :
-(( أنت كنت نايم بليل وتعبان وأنا مكنش جايلي نوم ))..
ابتسم وانهارت مع إشراقته أخر قطرات مقاومتها الهشة، ثم قال بصوته الذكوري الأجش ونبرته الخافتة وشفاه تقترب من أذنها، متعمدًا الاحتكاك ببشرتها الساخنة :
-(( ملحوقة.. لما أخف هفرجك على أوضة أوضه.. بطريقتي ))..
تعمد التمهل والوقوف على حروف كلمته الأخيرة حتى يترك في نفسها المعنى المقصود والأثر المطلوب، بينما همست هي في تعلثم تحاول الخروج من سطوة فرض هيمنته القاتلة على كافة حواسها :
-(( طاهر أحنا على السلم.. لو سمحت سبني لحد يشوفنا ))..
قال بأريحية رافضًا تحريرها :
-(( محدش موجود احنا لوحدنا.. أم الحسن مسافرة البلد من يومين عشان فرح أبنها ولسة هنقعد أسبوعين كمان.. يعني مفيش مهرب مني ))..
تعلقت بعدستيه مرهقة، وما بين تعب المقاومة ورغبة الاستسلام، تترنح من بر إلى بر ومن شط أهدابه إلى بحور عيناه الواعدة، استقرت نظراتها أمام فمه مستغلًا هو فرصة التراخي المطلة من داخل عدستيها في الهمس متوسلًا :
-(( طب مفيش واحدة بحبك يا طاهر ))..
قالت رافضة وهي تدفعه عنها في حركة عنيفة غير محسوبة من جهتها تألم على أثرها معبرًا عنه بأنين مكتوم فلت من بين شفتيه المضمومتين بقوة، فسارعت تتمتم معتذرة في ندم حقيقي :
-(( أنا آسفة والله مأخدتش بالي ))..
حرك رأسه في صمت مطمئنًا رغم احتقان ملامحه في دلالة واضحة على الألم الذي لازال يمر به، فاستطردت تقول في نبرة مختنقة حزينة :
-(( ياربببببي.. عملت إيه بس.. بجد أنا بني آدمة غبية مبتحسش ))
قاطعها ناهرًا على مهل :
-(( متقوليش على نفسك كده ))..
هتفت تقول في حسرة وعيونها تلمع بدموع الأسف، بينما تشيح بكفها نحو صدره :
-(( لا غبية ودي حقيقة.. كفاية أساسًا أن كل اللي بتمر بيه دلوقتي بسببي ))..
ابتسامة خفيفة ماكرة بدأت بالظهور على جانب ثغره، قبل أن يقول مقايضًا ومستغلًا المتاح أمامه :
-(( لو ندمانة عوضيني ))..
رفعت رأسها في لهفة تحدق ببلاهة وملامح وجهها في حالة من الترقب الحسن وكأنها على وشك قبول طلباته حتى قبل النطق بها، بينما اقترح هو في طفولية :
-(( قوليلي بحبك وأنا هنسي التعب وأسامحك ))..
قالت في إصرار :
-(( لا أنت لسة متعاقب ))..
ارتفعت إحدى زوايا حاجبيه في استنكار صريح لم يتحرك به لسانه ولكن نضحت به ملامحه وأفكاره وبعد لحظات من السكون والتفكير قال متراجعًا :
-(( تمام.. طب تعالي قربي مني قبل ما أنزل ))..
أنهى طلبه بقطع الخطوات التي ابتعدها عنه فلم تملك سوي مهادنته وقد قررت إنهاء حالة المقاومة التي أنهكت مشاعرها والسماح له بممارسة ألاعيبه والطرق فوق سدود مقاومتها، حتى عندما عاود لف ذراعيه حول خصرها لم تبدي أي اعتراض، بل اتسع ثغرها بابتسامة خجلة لم تخف عليه، فأردف يقول في رضا ساخر وقد توهجت عيناه بلمعة انتصار صغيرة :
-(( مش بطال العقاب ده.. معاكي مسافة خطوتين دول أقصى مسافة تبعدي وتعاقبيني بينهم لحد ما ضلوعي اللي تكسروا بسببك دول يخفوا.. بعدها الباقي عليا ))..
قررت غض الطرف عن جملته الأخيرة وسؤاله معترضة في امتعاض ورأسها يرتاح في حذر فوق صدره المتعب :
-(( أنت بتستغل تأنيب ضميري صح؟! ))..
ترقق صوته وهو يجيبها هامسًا في نبرة عاشق أضناه الهجر :
-(( البعد علينا حرام ))..
وضع إبهامه أسفل ذقنها يدفع رأسها إليه، ثم أردف متابعًا بنفس النبرة العاشقة الخشنة وعينيه مسلطة على خاصتها اللامعة، بينما يشير بسبابة كفه الأخر في تساوي نحو مضغتيهما الهادرة دون توقف :
-(( قلبي وقلبك اتربطوا بخيط الحب.. لو واحد بعد لازم التاني يتجر وراه فين ما يكون.. ومش هيرتاحوا غير وهما في حضن بعض.. يبقي حرام علينا البعد ولا لا ))..
همست مستسلمة في نبرة أنثوية مدللة خرجت منها عفوية من شدة تأثرها بحديثه :
-(( يا طاهر ))..
غرق في عينيها قبل أن تنزلق نظراته لشفتيها ملبيًا النداء بهمس حار :
-(( يا وجع وراحة قلب طاهر ))..
كانت كل خلاياها تنتفض تأثرًا بكلمات التدليل الخارجة من فمه، وقد هاجم بكلماته أضعف ما فيها نحوه "قلبها" ،ثم تم غارته بالميلان واقتحام ثغرها الذي انفرج تلقائيًا لاستقباله، وبعد فترة من التحليق في عالمهم الخاص ابتعد عنها معطيًا المجال لرئتيها في التنفس، فبرغم توقه للغرق أكثر داخلهم لا يجب عليه نسيان حالتها الصحية، ثم قال بنبرة خشنة متحشرجة لازالت متأثرة بوصالهم :
-(( أنا لازم أخرج دلوقتي أروح الشركة مفيش حد يتابع غيري بس مش هتأخر.. ساعتين وهتلاقيني قدامك عشان نروح المستشفى وبعدها تتكلمي مع مصطفى منك ليه احسن من التليفون ))
تنحنحت لتنقية حلقها والتغلب على خجلها من تقاربهم، ثم سألته قائلة في معاتبة خفية :
-(( الشركة اللي نقلت مقرها هنا وأنا معرفش ))..
قال في ابتسامة واسعة بعدما طبع قبلة مطولة فوق وجنتها :
-(( طب ومتعرفيش أني نقلت عشانك ))..
غمغمت في غنج فطري حيث طغى شعور السعادة عن أي شعور أخر وعليه بدأت تشعر بأنوثتها معه :
-(( أنت مبتقولش أي حاجة ))..
قال يراضيها وجبهته تستند على شطر وجهها :
-(( حقك عليا يا ستي.. صدقيني نطمن بس على يحيى وهقولك على كل اللي عايزة تعرفيه وتسمعيه عشان احنا فعلًا لازم نتكلم في حاجات كتير.. بس دلوقتي المفروض امشي ))..
ابتعد عنها مسافة ثلاث خطوات ثم أردف يقول بعدما توقف عن السير وعاد بإدراجه يطبع قبلة خاطفة فوق شفاها :
-(( أه وعلى فكرة.. أنا أقنعت جواد ننقل هنا عشان أخلص شغلي وأجي بسرعة أكمل يومي في حضنك.. زي ما هعمل دلوقتي وبعد شويه هتلاقيني قدامك تاني ))..
نهى حديثه بغمزة مشاكسة من إحدى عيناه رفرف معه قلبها كما ترفرف أجنحة الفراشات اشتهاءًا للضوء، فحتى وإن احترقت جناحيها يرضيها الاحتراق طالما كان في لهيبه هو.
***********************
على الجانب الأخر وداخل الصرح الزجاجي الأنيق، دلفت جيداء غرفة المالك بدلالها المعتاد ورأسها مرفوع في عتاد غافلة عمن تقصت خطواتها وتأكدت من جرمها، ثم قالت في تأفف بعدما وضعت حقيبة يدها الصغيرة ذات الماركة العالمية فوق الطاولة وجلست تضع ساق فوق الأخرى :
-(( أوووف.. من بليل سهرانة يادوب دلوقتي على ما عرفت أخلع منهم ))..
صمتت لثوانِ معدودة رفعت خلالها طرف بلوزتها الحريرية تشم رائحتها، ثم أردفت تقول في اشمئزاز :
-(( حتى ريحتي بقت كلها معقم ومستشفيات ))..
تابعها بعينيه ينتقل معها من ثيابها إلى وجهها، وشعرها حيث تخللت أصابعها خصلاته، ثم قال ساخرًا :
-(( هنقضي اليوم كله نتأمل في جمال الحلوة ولا إيه.. خلصي قوليلي أخر الأخبار وطمنيني عرفتي تجيبي التليفون ولا ))..
سلطت أنظارها فوقه قبل هتافها في عدائية صريحة :
-(( الأخبار زفتتتت.. مراته لازقة فيه من وقت ما الدكتور قال احتمال يدخل في غيبوبة.. ولا اللي اسمها غفران دي أعوذ بالله منها.. من بليل مش سيباني وعمالة تقول أنا السبب ومحدش قدر عليها غير اخو مرات يحيي.. غير البوليس اللي مستنيه يفوق عشان يحقق زي ما قلت فعلًا ))..
ضيق أجفانه فوقها ثم هتف يطلب في تركيز مترقبًا :
-(( لا تاني كده.. قوليلي غفران مالها ))..
حركت بؤبؤ عينيها في ملل صريح قبل أن تُعيد قولها مستنكرة :
-(( بقولك البوليس هيحقق وأنت اللي همك ست غفران!!.. الهانم يا سيدي كانت هتتهجم عليا وفضلت تتهمني.. لولا واحد أسمه جواد وقف بيني وبينها ))..
لمعت مقلتيها بانبهار صريح وهي تضيف في شماتة :
-(( كان لازم تشوفه وهو بيزعق فيها عشان تسبني.. واو بجد.. اللي كانت نافشة ريشها زي الطاووس اتقلبت ولا القطة المبلولة.. ومحدش عرف يوقفها ويهديها غيره.. لولا أني عارفة طبعها منك كنت قلت خافت منه ))..
صمتت مندهشة وكأن عقلها أخيرًا قد توصل للتفسير المنطقي للحدث فهتف تقول في حماس كمن عاد اكتشاف العجلة :
-(( أيوة صح.. خوف إيه بغبائي ده.. ده حضنها.. يعني الموضوع في حوارات ))..
جحظت عيني أبو المجد المتابع حديثها في تركيز ثم هتف يقول في استمتاع :
-(( الله.. كده اللعب أحلو.. يا سلام لو كلامك صح.. يبقي جيتي تحت رجلي يا غفران.. ركزي بقي وأحكيلي حصل ايه من الأول للأخر وعلى أقلللل من مهلك ))..
بدأت استجابة لرغبته في قص كافة ما حدث ورأته بأم عينيها البارحة، بداية من وصولها المشفى واتهام غفران الصريح لها، مرورًا بموقفها مع ذاك الجواد والأحاديث الجانبية الناعمة بينهم، حتى أخره، ثم تمتمت أخيرًا في تمنى :
-(( أه والنبى ياريت عشان أخلص منها.. أنا مش هقدر عليها هي ومراته سوا.. ألهيها عني بأي طريقة عشان أخلص نفسي وأجيب الأوراق ونكمل اتفاقنا.. بجد تركيزها معايا مخوفني ))..
عاد للخلف يستند بجذعه على ظهر مقعده الجلدي المريح، ثم قال في تفكير وهو يتأرجح به يمينًا ويسارًا :
-(( هشوف الحوار ده وراه إيه.. ولو شكك صدق يبقي المرة دي غصب عنها هتخاف وتتراجع.. سيبي الموضوع ده عليا.. المهم تجيبي التليفون بتاعه أو تخلصي منه ))..
قالت مؤكدة في إصرار :
-(( متقلقش.. التليفون مع مراته.. مستنيه بس تغفل عنه واخده.. اعتبره اتكسر من دلوقتي ))..
أومأ برأسه موافقًا في شرود قبل ضغطه على زر استدعاء مساعده الخاص يطلب منه في عُجالة وضع مراقبة مضاعفة على غفران، ووضع أخري احتياطية على ذلك المسمى جواد.
************************
بعد مرور يومان...
بعقل شبهه واعي وجسد مستنفذ القوي، وأجفان على وشك الانغلاق من شدة الإعياء والإنهاك، جلست كعادة الثلاث أيام السابقة، تحملق بذهن متلاشي إلى روحها الغائبة عنها، تترقب في شوق طال انتظاره فتح أهدابه وأراحه خلدها بالغرق في شعور الأمان داخل زمرديتان المتوهجة، فكم طال غيابه وطال معه عذابها، تُري هل يتركها تواجه مصيرها وباقي العمر بمفردها؟!، ومع رعدة قشعريرة قوية أصابت جسدها وامتدت على طول عمودها الفقري أغمضت عينيها بقوة تحاول التغلب عليها، بينما تحدثت غفران التي وصلت منذ دقائق ووقفت تتابع حالتها في حزن، تهمس في قلق إلى جواد الواقف جوارها منهك القوى هو الأخر على مسمع من علياء :
-(( يا جواد مينفعش حال علياء كده.. لازم ترتاح شويه.. قعادها هنا مش هيغير حاجة.. حتى أنت كمان محتاج جسمك يرتاح.. عشان خاطري خدها وروح وأنا موجودة مش هتحرك من هنا لحد ما ترجعوا ))..
سلط جواد أنظاره المتعبة فوق شقيقته، ثم قال في نبرة خفيضة مستفسرًا وقد لاقى حديث غفران هوي عقله :
-(( ها يا علياء.. أيه رأيك في كلام غفران ))..
رفعت رأسها تنظر إليه دون تعقيب رغم لين نظرتها، قبل أن تعود وتسبل أجفانها نحو الراقد فوق الفراش الطبي في ترقب، فاستغلت غفران هدوءها في السير إليها والانحناء نحوها قائلة في نبرة حانية مقنعة للغاية :
-(( علياء يا حبيبتي.. جواد بقاله يومين ب٣ ليالي رافض يسيبك لوحدك ويمشي.. وأكيد محتاج يروح يطمئن على لينة وباباكم اللي لسه خارج من المستشفى.. ده غير برضه أنكم محتاجين تغيروا هدومكم دي.. مينفعش عنادك ده.. طاوعيه انشاله ساعتين بس.. بدلي فيهم هدومك وخدي دش يفوقك وارجعوا تاني.. ولو حصل أي حاجة صدقيني هكلمك في لحظتها ))..
لانت ملامحها أكثر، فواصلت غفران الطرق فوق الحديد وهو ساخن، بينما يدها امتدت أسفل مرفقها تدفعها إلى أعلى وتحثها على الوقوف والحركة :
-(( يلا يا جواد.. خد علياء وأنا هنا.. مش هتحرك غير لما ترجعي وتاخدي مكانك جنبه ))..
كانت ممزقة ما بين الرغبة في إراحة بال شقيقها ولو قليلًا وما بين ذعرها من تركه بمفرده، حتى أتى جسد أخيها وشبك ذراعه بخاصتها متمتمًا في رغبة صريحة منه جعلتها تتنازل وتسير معه تقديرًا لإرادته وليس ألا :
-(( يلا بينا يا علياء.. أروح بس أطمن على لينة وعليهم في البيت وهرجعك تاني متقلقيش ))..
أومأت برأسها المتعب موافقة دون حديث، في حين راقبت غفران انصرافهم بنفسً مثقلة. خاصةً بعد تأكدها من تورط تلك الحرباء المتلونة مع عدوهم البغيض "أبو المجد" وقتما راقبتها ورأت بنفسها كيف خرجا الاثنان سَوِيًّا من البناية التابعة لمؤسسة المجد وضحكاتهم الرنانة تدوي من حولهم وكأن من ملقي في المشفي ليس قريبها ومن كان يومًا زوجها، وبعد فترة حانت منها التفاتة احتياج إلى رفيق العمل الراقد بالقرب منها متمتمة في تمنى :
-(( قوم يا يحيي.. عشان خاطري قوم خلينا نعرف نتصرف معاهم أزاي.. حقيقي محتاجلك معايا ))..
**************************
وفي منتصف اليوم حيث كانت غارقة في أفكارها الخاصة، تحاول وضع خطة محكمة للانتهاء من كابوس ذاك النذل الذي لا ينتمي إلى صفة الندرة بأي طريقة ممكنة، جذب عينيها حركة خافتة قادمة من فوق الفراش، فقفزت من مقعدها تتجه إليه وتنحني بجذعها نحوه، متمتمة في عدم تصديق :
-(( يحيى!!... يحيى أنت بتتحرك صح.. أنا مش بيتهيألي؟! ))..
أنين خافت صدر عنه للوهلة الأولى، قبل أن يفتح عينيه على مضض ويغمغم في نبرة خفيضة بالكاد وصلت إلى مسامعها :
-(( ع.. عل.. اء ))..
قالت تطمئنه في نبرة مختنقة مليئة بدموع الفرح، بينما كفها يرتجف من فرط الحماس وهو يمسح على كتفه ورأسه المضمد :
-(( علياء كويسه.. متقلقش كلنا كويسين مكنش ناقصنا غيرك ))..
تهدج صوتها مع نطق جملتها الأخيرة فسارعت في الاعتدال في وقفتها، تمسح بسبابتها عبرات الراحة المنسكبة من داخل عينيها مستأنفة القول في فرح :
-(( علياء هتفرح أوي لما أكلمها.. هي لسه ماشية من شويه.. يادوب راحت تغير هدومها وراجعة من وقت العملية متحركتش من جنبك ))..
بوهن شديد أومأ بعينه نصف إيماءة كعلامة استماعه على حديثها دون القدرة على التعقيب، بينما أردفت هي تقول في ارتباك والابتسامة تشق الطريق إلى ثغرها من بين دموعها المتساقطة :
-(( أنا بعمل إيه المفروض أروح أبلغ الدكتور أنك فقت أخيرًا ))..
ودون انتظار تعقيبه هرولت نحو باب الغرفة تزف البشرى إلى الطبيب وإلى من تنتظر في لهفة أي خبر قد يخمد النار المشتعلة في حناياه قلقًا عليه.
بعد ساعتين....
تركض ملهوفة الرؤى داخل الممر المفضي إلى الغرفة اَلْمُقِيم بها، ولأول مرة تشعر بثقل جسدها رغم عدم تجاوز وزنها الخمسون كيلو جرامًا، وكأنها مكبلة بمئات من الأوزان الحديدة التي تمنعها من الجري بكامل طاقتها وقوتها، تسبقها روحها العاشقة إليه، بينما قلبها ينبض سريعًا ضاربًا جوانبها ترقبَا لرؤيته رغم كل المخاوف المؤرقة مضجعها من حديث الطبيب المحذر، لا يكاد عقلها يستوعب إلى الآن الاتصال الذي وردها من غفران كي تخبرها في سعادة عما انتظرت سماعه، تريد رؤيته حتى تستكين خلجاتها، فمجرد النظر داخل عدستيه يسحبها إلى منطقة آمنة خاصة، مخبأ سري يختصها به دونًا عن الجميع، وبعد قطع أربع خطوات أخرى شعرت بهم أربعة أميال، كانت تقف أمامه تلتهم في جوع ملامحه المستيقظة أخيرًا، قبل أن تندفع بجسدها نحوه تجلس على مقربةً منه وتسد عنه رؤية ماعداها، بينما يدها تتحرك في توق إلى كفه المفرود فوق الفراش تحتضنه وتضغط فوقه بقوة متمتمة في اشتياق :
-(( يحيى..... ))..
جاهد للحفاظ على ملامح وجهه جامدة أمام فيض المشاعر المنسكب من ملامحها، يحارب شياطينه الموسوسة له بالانتفاض وسحبها داخل أحضانه ورمى ما دون ذلك عرض الحائط، وبدلًا عن ذلك جلس كما هو يمرر مقلتيه فوقها في نظرة خالية، ألا من كفه التي ضغطت على كفها بالمثل في ترحيب صامت متبادل، مقاطعًا تواصلهم اللحظي صوت جواد يقول مرحبًا من الخلف :
-(( حمد لله على السلامة يا يحيى.. قلقتنا عليك ))..
مرر نظراته بين وجوه الحاضرين الثلاثة على مضض، زوجته ومن سرقت قلبه مُذ النظرة الأولى، شقيقها ورفيقته المخلصة، يحاول جاهدًا النطق بما لا يطاوعه به قلبه، قبل أن يتشجع ويسأل مستفسرًا في هدوء :
-(( الله يسلمك.. أنا آسف على سؤالي.. بس أنتوا كمان قرايبي ولا زمايل من الشغل زي الأستاذة غفران ؟! )).