رواية في لهيبك أحترق
الفصل الثاني الأربعون 42
بقلم شيماء يوسف
وَما في الأَرضِ أشقى من مُحِب
وَإن وُجد الهَوى حلو المَذاق
تَراهُ باكِيًا أَبَدًا حَزينًا
مَخافَةَ فرقه أَو لاِشتِياق
فَيَبكي إِن نَأوا شَوقًا إِلَيهِم
وَيَبكي إِن دَنوا خَوف الفُراق
فَتَسخن عَينه عِند التَنائي
وَتَسخُن عَينُه عِندَ التَلاقي.
-نصيب بن رباح..
كم هو غريب ذلك الشعور الذي يراودها وكأنها شُطَرْت اثنان، نصف خفيف يرفرف عاليًا كجناح فراشة وكل ما يهفو له هو الوصول إلى ذلك الوهج الرائع والتمتع بدفئه حتى وإن كان به فناءه، والنصف الأخر قُد من حجر كتمثال رخامي صلد، أينما توجه ساقيها لا تتبع أمر العقل أو تستجيب لندائه....
وبذلك الشعورين المتناقضين سارت خلفه كفأر صغير يعلم وبأنه قبل الوصول لما تشتهيه أمعاءه سيقع في شرك ما نُصب له ولكن، كان الإغراء أقوى من أن يقاومه حتى وإن عني ذلك هلاكه....
وبمئات الأفكار المتوترة التي تحيط بها من كل جانب وتحشرها في كل زاوية من زوايا المنزل التي تمر بها سارت بجانبه حتى وصلا إلى غرفتهم الخاصة بعد كثير من الترحيب من قبل والدته ووالده وحتى مدبرة المنزل ولن تُنكر سعادتها الداخلية بذلك الاستقبال الحافل والذي ساهم ولو بشكل مؤقت في استرخاءها، أما الآن وقد اقتربا من الوصول لغرفة نومه فقد عاد كل ذلك القلق والترقب يطفو مجددًا إلى السطح، معلنًا عن نفسه بوضوح من خلال قسمات وجهها وحركة جسدها، تريد التراجع ولكن أوان التراجع قد فات
خاصةً وقد امتدت يده نحو ظهرها يدفعها بخفة ويحثها دون حديث على الدخول بعدما فتح باب الغرفة ووقف خلفها ينتظر تقدمها قبله
وبمجرد وقوع عيناها على تفاصيل الغرفة حتى تلاشي كل ما يؤرقها حالًا محله الانبهار بمحتوياتها والتي كانت أقرب لجناح منها لغرفة عادية، ثم راحت تمرر نظرها وتتفحص في ذهول كل ما تقع عيناها عليه بداية من الجدران البيضاء بلونها الحليبي الدافئ، وإطارات الحوائط المتنوعة، ثم الفراش الوثير بخشبه العاجي في تناسق تام مع غطاءه المزخرف بالأزرق الداكن ويتخلله بانسيابية خيوط بسيطة من الذهبي والأبيض....
أما هناك وفي أحد جوانب الغرفة حيث توجد نافذة عريضة تحتل الحائط يكاد ارتفاعها يصل للسقف وتطل مباشرةً على حديقة المنزل الواسعة، وُضع طقم مريح مكون من أريكة متوسطة الحجم زرقاء اللون يناقضها ويُبرز مخملية قماشها الوسائد البيضاء المزركشة والموضوعة فوقها باحترافية، يحيطها من كلا الجانبين مقعدين ذو ذراعين يماثلان وسائد الأريكة في لون القماش ونوعه، وأخيرًا سجادة فارسية تجمع كل ألوان الغرفة مع أخرى مبهجة داخل زخرفتها البسيطة...
باختصار كانت الغرفة مثال حي عن السكينة والهدوء، وفورًا ومن تأثير اللون الأزرق على النفس شعرت بدقات قلبها المتسارعة تتباطأ، واختفى ضجيج ضغط الدم من أذنيها كعلامة على انخفاضه...
ومع تنهيدة حالمة خرجت من شفتيها الناعمة، تحرك "جواد" يقف خلفها ويلاصق بجسده ظهرها قبل أن يسألها في خيلاء، إذ لاحظ على الفور الارتخاء الذي أصاب ملامحها لحظة دخولها الغرفة واللمعة المحببة التي كست عدستيها :
-(( عجبتك الأوضة؟ ))..
انتبه جسدها لقربه على أثر الحرارة المنبعثة من جسده خلفها، قبل انتباه أذنها لصوته، فحاولت يائسة السيطرة على القشعريرة الخفيفة التي ضربت جلد ذراعها فور تدفق ذبذبات صوته العميق إلى عصب أذنها الداخلي، ثم وبمهارة أخفت تأثرها به ورسمت ابتسامة بسيطة فوق ثغرها الوردي، قائلة في صدق :
-(( حلوة جِدًّا.. مريحة للأعصاب بشكل مش طبيعي.. بس شكلها يقول..... ))..
قطمت طارف شفتها السفلية تمنع بذلك فضولها المعتاد من الإفصاح عن نفسه، فانتهز هو الفرصة يكمل عنها حديثها بعدما رمقها بنظرة متفهمة وابتسامة عذبة مع نبرة ناعمة :
-(( قصدك جديدة صح؟! ))..
حركت رأسها موافقة في صمت فأردف يشرح بنفس النبرة المخملية الناعمة التي تتغلغل لعظام ساقيها وتكاد تُذيبها :
-(( هي فعلًا جديدة.. أنا كنت كاره الأوضة القديمة بكل حاجة فيها لدرجة أن الشهور اللي فاتت كلها كنت بنام مع لينة أو في أوضة الضيوف.. لحد ما في فترة قررت أواجه وأغير.. واتواصلت مع مهندس ديكور طلبت منه يغير ملامح الأوضة خالص.. وهو اللي اقترح عليا اللون الأزرق وقالي أنه بيأثر على النفسية وبيخلي الإنسان ينام بشكل أعمق.. وفعلًا طلع عنده حق ألوانها مريحة للعين ))..
صمت لوهلة ابتلع خلالها لعابه وراقب بها رد فعلها ولمعة عيونها، ثم استطرد يضيف في همس مغري بعدما استدار ووقف بجسده قبالتها ثم انحني برأسه إليها فلامس بأنفاسه جبهتها :
-(( ولحظي الحلو استلمتها من شهرين بس.. وقت كتب كتابنا يعني فقررت أسيبها وأكمل نوم مع لينة لحد ما تشرفيني فيها ))..
أسبلت أهدابها للأسفل بالتزامن مع خروج شهقة خفيفة فلتت من حلقها وقد نجح في إلهاءها عن كافة أفكارها القلقة وغمرها بمشاعر خاصة ودفء مدهش سري بمشاعرها قبل جسدها، جعلها تتساءل في صمت متعجب كيف تشعر وكأنه يحتضنها دون حتى ملامسته لخصلة واحدة من شعرها!...
وقبل أن تغرق أكثر في حرارة نظراته هتفت تقول في تعلثم واضح :
-(( جواد لو سمحت.. محتاجة أغير هدومي وأنام.. اليوم كان مرهق النهاردة جِدًّا ))..
حرك رأسه موافقًا، يتفهم موقفها بالكامل ويتقبل خجلها حتى وإن لم يكن هو بـ "رجلها الأول"، كان يشعر بذبذبات الخجل تخرج من كل مسامها وتصل إليه بوضوح، الأمر الذي آثاره بشكل غريب وجعل أنفاسه تتثاقل رغمًا عنه؛ لذا وقبل اندفاعه لتنفيذ ما يحثه عليه عقله قال في جدية بعدما تنحنح لتقنية حلقه وابتعد مسافة كافية عنها :
-(( تمام الشنطة بتاعتك أهي.. وأنا هروح أقول لــ لينة تصبحي على خير عشان متزعلش واستني معاها لحد ما تنام وبعدين هرجع ))..
عاد عقلها للعمل سريعًا بمجرد ابتعاده عنها، ورغم علمها بعدم تجاوزه للحدود المتفق عليها إلا أنها وجدت صوتها ينطق بما يدعم طمأنينتها من خلال طلب مبيت صغيرته معهم، ربما ذلك لم يكن الهدف الأساسي، بل هناك رغبة أهم وأعمق نابعة من داخل قلبها الذي يتوق لقضاء الوقت برفقة طفلته بقدر رغبتها في تمضيته برفقة والدها، وعليه هتفت تقول في ترقب :
-(( طب ممكن لينة تيجي تنام معانا النهاردة.. مش هضايق أبدًا بالعكس ))..
توقفت خطواته والتي كانت بالفعل تسير في الاتجاه المعاكس لها، أي نحو باب الغرفة، بينما أردفت هي تفسر مطلبها في حرج :
-(( قصدي يعني زي ما قلت.. أنت بقالك فترة بتنام معاها.. مش حابه يكون أول انطباع ليا في ذاكرتها أني لما وصلت البيت خدتك منها.. فممكن تنام معانا النهاردة وبعد كده بالتدريج تتنقل لاوضتها لما تتعود ))..
حرك رأسه موافقًا ولم يعقب، حتى أنها حاولت استبيان ردة فعله عن طلبها ولكن ملامحه كانت خالية تمامًا من أي تعبير واضح، فتقبلت انصرافه عنها دون تعليق متخذة هي الأخرى من الحمام ساتر لها تبدل به ملابسها بعدما التقطت من حقيبة سفرها ما يناسب الوضع القائم حتى إشعار آخر.
*************************
بداخل منزل بدر الدين....
وقفت أمام مرأتها بعدما ارتدت أفضل ما تملك من ثياب النوم الحريرية التي اقتنتها منذ زواجهم تتأكد من إظهار الثوب لكافة مفاتنها اللازمة للنجاح فيما تنتوي، قبل أن تأخذ فرشاة الشعر من فوق طاولة الزينة وتضرب خصلاتها الذهبية عدة مرات متتالية حتى وصلت إلى النتيجة المطلوبة، ثم مدت ذراعها ثانية وسحبت زجاجة العطر الأنيقة والتي قد أهداها إليها زوجها العزيز في إحدى أمسياتهم الخاصة، تنثر منها ببذخ فوق مواضع نبضها، مستقيمة بعد ذلك في وقفتها تُقيم في رضا تام مظهرها الأخير والتي أنهته بوضع كمية لا بأس بها من أحمر الشفاه القاني فوق شفاها المكتنزة، فكانت حَقًّا كإحدى تماثيل الإغريق بمنحنياتها المثالية وملامحها المنمقة، الأمر الذي بث الثقة في نفسها قبل أن يُخرجها من انغماسها فيما تفعله صوت باب المنزل يُفتح ثم يُغلق في هدوء كعلامة على وصوله فسارعت ترتدي حذاءها ذو الكعب العالي ثم هرولت بقدر ما سمح لها ردائها المصكوك نحوه، تستقبله بنظرة حالمة، وابتسامة واسعة، ونبرة واعدة، بينما أصابعها تتلمس في دراسة متقنة سترته الخارجية ومنها إلى قميصه الأبيض :
-(( حمد لله على السلامة يا حبيبي.. وحشتني أوي النهاردة ))..
رمش بأهدابه يحاول الخروج من تأثير مظهرها المُهلك على نفسه، محاولًا في صعوبة بالغة ابتلاع لعابه، وكأن هناك حجر عثر يقف في منتصف حلقه، فيمنعه من الحديث أو الازدراد، بينما واصلت هي تَلْمُس أسفل قميصه قبل أن تنحني بابتسامة مهلكة وتطبع بحمرة شفتيها قبلة فوق موضع قلبه الهادر، تاركة علامة ثغرها تقبع هناك فوق بياض ملبسه وتدعوه في صمت إلى المبادرة، فهمس يقول في حشرجة :
-(( أفنان.. أنا على الأقل محتاج أخد دش وأغير هدومي ))..
كان تعلم جيدًا ما تفعله، تعرف مواطن ضعفه، وبواطن قوتها، وستكون ملعونة إن لم تستغلها الآن وتنتهي من فكرة ابتعاده عنها بهدف إراحتها والحرص على سلامتها من حمل جديد، بينما كان هو في صراع أشد وطأة، فزوجته في تلك اللحظة كانت مثال حي للفتنة ولم تكن القداسة إحدى مميزاته في يوم من الأيام، وقبل أن يُهم بالابتعاد عنها سارعت تجذبه بخفة من رابطة عنقه، قائلة في همس مغري وهي تسحبه خلفها نحو غرفتهم :
-(( متقلقش.. أنا محضرالك الحمام وهدومك وكل حاجة جاهزة.. سيبلي نفسك أنت بس الليلة دي خالص ))
حرك رأسه موافقًا قبل أن يتبعها ويسير وراءها مسلوب الإرادة مسحورًا، فدائمًا ما كان سلاح المرأة في كيدها، وبه تستطيع إخضاع أعتى الجبابرة وجعله يخر على ركبتيه أمام رغباتها مدحورًا.
***********************
رفرفت بأهدابها الناعسة تحاول استبيان موقعها، أين هي ومن أين يأتي ذلك الدفء العجيب مع مزيج من الشعور بالراحة والقسوة وكأن رأسها تستند على صخرة قوية وليست وسادة ناعمة!، وقبل أن تفتح عينيها لرؤية ما حولها مدت ساقها تنفُض عن جسدها النشط ما بقي من خمول، حتى اصطدمت قدمها بساق أخرى، فأجبرت أجفانها على الانفتاح عن أخرهما وتفاجئها بموقع جسدها المحظور، حيث كانت تستريح برأسها فوق كتفه، بينما إحدى ساقيها تتشابك مع خاصته، وإحدى يديها ملفوفة فوق جسد طفلته التي تغفو بنصف جسدها فوق أخر صدره وفُم معدته في المسافة الضئيلة الفاصلة بينه وبينها ، وأخيرًا ذراعه تقبع أسفل خصرها وتحيط بهم سَوِيًّا....
ومن فور استيعابها لوضعهم حتى شهقت في عدم تصديق ودفعت في حدة قوية غير مبررة صدره، مما أدى إلى أجفال جسده قبل أن ينتفض هو الأخر مُفِيقًا من نعاسه على حركتها، ثم سارع يوقفها هامسًا بنبرته الناعسة :
-(( بالراحة.. ده أنا ))..
نطقت بنبرة لاذعة رغم خفوتها حتى لا تُوقظ الصغيرة الغافية :
-(( ولما عارف إن أنت.. ليه نايم جنبي بالطريقة دي وحاطط أيدك هنا!! ))..
انزلقت عيناه التي لم تتخلص من أثار نُعاسها بعد إلى خصرها، ومنه إلى ذراعه الملفوف حوله، قبل أن يجيبها في مبالاة وقد ضغط بساعده على خصرها يقربها منه أكثر، على عكس ما ترغب :
-(( والله أنا معملتش حاجة.. أنا على ما غيرت للينة هدومها وجبتها هنا الأوضة لقيتك في السرير ونايمة.. فحطيتها وسطنا ونمت.. مش ذنبي أنكم أنتوا الاثنين نايمين فوقي.. وبعدين طبيعي يعني لما ألاقيكم كده أيدي تتحرك.. والله الغلط مش عليا ))..
عضت فوق شفتيها في تركيز، بينما حاجبيها يقتربان من بعضهم البعض كأنهم على وشك الالتصاق تحاول تذكر ما حدث أثناء الليل، فأخر ما تتذكره هو خروجها من الحمام بعد تبديل ثيابها ثم ارتماءها فوق الفراش، ثم سرعان ما غطت في نوم عميق ناتج عن إرهاق يومها المشحون، وفي منتصف الليل شعرت بطفلته تتململ بينهم وتأن في خفوت كمن يعاني من كابوس غير محبب فسارعت بضمها إليها وتهويدها حتى هدأت وعادت إلى سُباتها ثانية، أما كيف امتدت ساقها إليه، وكيف تحركت رأسها نحوه، ومتى حاوطها هو بذراعه، هذا ما لم يستطيع عقلها تذكره، فقررت تجاوز كل ذلك الأمر وتجاهله كأنه لم يحدث عندما هتفت تقول في نبرة هامسة كي لا تؤرق مضجع الصغيرة :
-(( خلاص مش مشكلة.. بعد كده نبقى ناخد بالنا ونحط حاجة في النص ))..
أنهت جملتها بتحريك كفها ودفع ذراعه بعيدًا عن خصرها تمهيدًا للخروج من الفراش، فسارع جواد بإحكام لف ذراعه حولها أكثر وتشديد قبضته فوقها، قبل أن يسأل مستنكرًا بحاجب معقود :
-(( إيه ده في إيه.. أنتِ رايحة فين! ))
أجابته في تلقائية بعدما رمشت بأهدابها :
-(( رايحة الحمام!.. بعد إذنك يعني ))..
راقبت ابتسامة مشاكسة وهي تشق طريقها فوق ثغره، بالتزامن مع انخفاض رأسه إلى فمها، قائلًا في خبث :
-(( أنتِ معندكيش ذوق يا أستاذة ولا إيه.. مش على الأقل تقولي صباح الخير.. ده حتى أول يوم لينا سوا ))..
تأرجحت نظراتها البلهاء بين شفاه المبتسمة وعيناه الناعسة، فلم يكن عقلها يعمل بشكله الصحيح لاستيعاب مطلبه، لا لم يكن هناك شيء بها دَاخِلِيًّا أو خَارِجِيًّا يعمل بكفاءته المعتادة خاصةً وهو بذلك القرب الذي يزهق الأنفاس، وإن كانت ستقضي ما بقي من عمرها بصحبته، فليكن الله في عون قلبها الذي لا يتوقف عن الارتجاف بداخل أضلع صدرها فقط من نبرته... وعندما طال صمتها، بادر هو بالقول العابث :
-(( تمام أقول أنا بدل عنك مفيش مشكلة ))..
وقبل أن تعي جملته وتأخذ مسارها الطبيعي داخل ممرات استيعابها، كان يلتهم ثغرها في قبلة مباغتة محمومة، قاومتها في بادئ الأمر، ثم سرعان ما ارتخت عضلات فمها تحت لمسته وبدأت تبادله إياها في شعور مذهل، وكأنها تختبر ذلك النوع من القرب للمرة الأولى في حياتها، لم تكن قُبلة بقدر ما كانت التحام ناتج عن جذوة صغيرة تشتغل في مضغة أحدهما تجاه الأخر، وتزداد اشتعالًا مع مرور الوقت وفي القريب، والقريب العاجل ستصبح بركان يلتهمها معًا.
************************
تمطي يمد ذراعه الأيمن وكلا ساقيه يمحي بحركته تلك بقايا النعاس من جسده، بينما ذراعه الأخرى لازالت تحاوطها لا يجرؤ على تركها تبعد عنه إنشًا واحدًا، فـ راحة قلبه وقربها صارا مرتبطين لا يمكن الفصل بينهم، مقررًا بعدها فتح عينيه على اتساعهما واستبيان الوقت بحدسه المبدئي الناتج عن سنوات من الخبرة حيث اعتاد لسنون طويلة الاستيقاظ يَوْمِيًّا في ذاك الموعد حتى وإن كان اليوم عطلته، ومن تخمينه الأولى ظنها قد تجاوزت التاسعة، قبل امتداد ذراعه الحرة بعد ذلك نحو الهاتف ينظر في ساعة شاشته، متُفَاجِئًا بها قد أوشكت على العاشرة!...
فرفع كفه يفرك براحة يده وجهه ويزيل عن عيناه عماصها، قبل أن يبدأ في نثر قبلاته فوق وجهها يبغي بذلك إيقاظها، فقد تخطت زوجته الكسولة الاثنا عشر ساعة من النوم المتواصل، حيث عاد مساء أمس في تمام التاسعة فوجدها نائمة، وإلى الآن لازالت تغفو بين ذراعيه كطفلة صغيرة غير عابئة بهموم الدنيا...
بالطبع يعلم أن كثرة نومها ذلك بسبب ما تحمله ويكبر بداخلها ولكنه حَقًّا اشتاقها، فهو يكاد يراها كل بضعة أيام كصدفة، وباقي ساعاتها تقضيها نائمة قريرة العين، وبما أن اليوم هو "الجمعة"، أي عطلته الرسمية فسوف يصر على تقضيه معها؛ لذا استمر في نشر قبلاته فوق وجهها نزولًا إلى عنقها الممشوق، بينما صوته يهمس اسمها مدللًا في اشتياق :
-(( رحمة.. حبيبتي.. يا رحمة القلب.. أصحي كفاية نوم وحشتيني ))
تململت بين ذراعيه تهمهم في نعاس ممتعض دون فتح عيناها :
-(( حاضر.. حاضر.. بس هنام شويه كمان بس وهقوم ))..
قال معترضًا ويده تشق طريقها أسفل ردائها القطني القصير وصولًا إلى بشرة ظهرها العارية :
-(( لا مفيش شويه كمان.. أنتِ نايمة بقالك ١٣ ساعة يا مفترية حرام عليكي عايز أشوفك ))..
حركت ذراعها تقبض من فوق ردائها على كفه التي تعيث ببشرتها فسادًا أسفله، ثم استأنفت همهمتها المحتجة بعدما تحركت بجسدها تضم نفسها أكثر إليه وتُخفي وجهها داخل طيات عنقه :
-(( طب حاضر.. ساعة كمان بس وهقوم والله ))..
تشدق مهددًا ورافضًا اقتراحها بعدما تحرك بجسده واعتدل في نومته ثم مد كلا ذراعيه واحدًا أسفل خصرها والأخر أسفل ركبتيها استعدادًا لتنفيذ تهديده :
-(( ولا نص ساعة كمان.. قومي أفطري.. وكلي الكريز اللي بقالك ٣ أيام فضحاني ونفسك فيه.. وإلا والله هشيلك وأنزل بيكي تحت المياه عشان تفوقي ))..
قفزت من مرقدها تقابله بأعين مفتوحة على أخرها فور سماعها الكلمة المكونة من ستة أحرف وكأنها كل ما كانت تنتظر سماعه، بل وكأنها هامستر صغير أشتم رائحة طعامه من على بعد فتحضر لالتهامه، تسأله في اشتهاء واضح حيث لعقت بلسانها شفتها السفلية :
-(( بجد يا طاهر جبتهولي.. أنا هموت عليه ))..
سألها بعدما رفع زاوية فمه استياءًا وقوس حاجبيه حنقًا :
-(( هو ده اللي قومك.. طب مفيش صباح الخير؟!.. أو ربنا يخليك ليا.. أو حتى وأنت كمان وحشتني!.. يا مؤمنة ده أنا بشوفك تخاطيف كل يومين تلاته! ))..
عضت فوق أحدها شفتيها في ندم حقيقي، ثم قالت وهي تقترب منه وتطبع قبلة صغيرة فوق جانب فمه :
-(( حقك عليا ))..
لفت كلا ذراعيها حول عنقه تُدنيه بذلك منها أكثر، ثم أردفت تقول بعدما طبعت قبلة مشابهة على الجانب الأخر من فمه :
-(( وحشتني أوي أوي.. ربنا يخليك لينا.. وبعدين هو كل ده بسبب مين.. مش بسبب ابنك اللي مخليني عايشة في مجاعة! ))..
أنهت جملتها بأحتضان كفه، ثم فردتها فوق بطنها فأنفرجت أساريره المتجهمة على الفور، وبُسطت جبهته، قبل أن يقول وقد تحولت نبرته إلى الحارة :
-(( وهو عامل فيكي بس!.. مانا مذلول معاه لحد ما جبت أخرى.. جبت جااز.. عرفاه؟ ))..
قطع بجسده السنتيمرات القليلة الفاصلة بينهم، ثم أستطرد يقول في نبره عابثة بعدما حاوط بكلا ذراعيه جذعها :
-(( طب مفيش شكرًا على تعبك.. أي تصبيره كده حتى! ))..
همست توقفه في اعتراض واهن شجعه أكثر على فعل ما يُريد :
-(( طاهر مينفعش.. الدكتورة قالت ٣ شهور ))..
سألها بصوته المكتوم، إذ دفن وجهه في عنقها وبدأ يداعبها بشفتيه :
-(( طب ماحنا قربنا على ال٣ شهور أهوو... مجتش من مرة.. أرحميني دي جوازة منحوسه حد كان باصصلي فيها ))..
رفعت كفها تدفنه في خصلات شعره التي نمت أطول من المعتاد في الفترة الأخيرة، ثم همست تستوقفه بنبرة أقل اعتراضًا حيث بدأت كافة مقاومتها تتلاشى أسفل اجتياحه :
-(( طاهر مينفعش.. لسه أسبوع على ما أخلص ال٣ شهور الأولي ))..
رفع رأسه يقترب من وجهها بشكل حميمي واشكت أنفاسها معه على الانقطاع، بينما رد هو بنبرته العذبة التي تختفي معها كل سبل التفكير أو الامتناع :
-(( اعتبري الأسبوع خلص ))..
تسارع نبضها يطالبه باستئناف طريقه فيما يفعله، بل تسارعت وتفاعلت كل خلاياها معه رغم علمها بأنه يحاول أغوائها بكافة السبل المتاحة والغير متاحة حتى تستجيب لمطلبه، ولن تكن كاذبة فهي أيضًا كانت تحترق بنيران شوقها إليه كما يفعل وأكثر، وقبل أن تغوص أكثر في رحلة البحث عن تعقلها وإرادتها، كان يسحبها داخل دوامة من المشاعر العاتية، في لقاء طال شوقهم إليه ثلاثة أشهر كاملة.
*****************************
بداخل منزل يحيى...مَسَاءَا...
سار الهويني بأجفان تكاد تنغلق على نفسها من شدة الإرهاق، حيث قضى نهار البارحة كاملًا بالمشفى ثم اتبعه بدوام ليلى طارئ، إذ تفاجئ أمس مَسَاءَا قبل عودته إلى المنزل باتصال ملح من رفيقه يطلب منه العودة للمشفى والمناوبة عنه ليلًا بسبب حالة وفاة في العائلة اضطرته إلى السفر في الحال، فعاد يشغل مكانه بدلًا منه ثم واصل بعدها ساعات عمله النهاري اليوم صباحًا كالمعتاد، وعليه فقد قضى ما يقارب خمس وثلاثون ساعة مستيقظًا وبعيدًا عن زوجته ومخدعه، وهو أبدًا لم يكن من ذلك النوع الذي يستطيع النوم خارج فراشه، والآن وقد شارف على دخول منزله كل ما يطمع به هو حمام دافئ وفراش وثير، وبالطبع رؤية علياءه المحتلة أحلامه ويقظته معًا.....
وفور دلوفه منزله وسيره عدة خطوات بداخله حتى شعر بوجود خطأ ما غير مألوف لعينه، فرفرف بأهدابه عدة مرات متتالية يجبر عدستيه بذلك على التركيز والتقاط ما فاته قبل أن يستوعب ما حوله من تغييرات، إذا امتلأت جدران المنزل بإطارات خشبية ولوحات زاهية جديدة لم تكن موجودة من قبل، ثم انزلقت عيناه إلى الأرضية أسفله وقد جذبته ألوان السجاد الحريري الجديد، قبل أن تعود وترتفع مرة أخرى حيث أريكة غرفة المعيشة وقد تم تبديل وضعها لتواجه بذلك مدخل المطبخ "أي عكس ذي قبل"، وأخيرًا وليس آخرًا انتشار شموع وردية وحمراء اللون مع بعض الأكسسورات الأخرى في المكان ككل، باختصار كان المنزل يشع بلمسة أنثوية واضحة، وكأنها تُعلن لكل من يمر من هنا ملكيتها للمنزل!...
وقبل أن يصدر عنه فمه أو وجهه أي رد فعل رأها تركض نحوه مستقبلة إياه بابتسامة واسعة مشرقة، ثم بادرت بوضع قبلة رقيقة فوق وجنته وهي تُتمتم في اشتياق :
-(( حمدلله على السلامة يا حبيبي.. وحشتني ))..
بادل تحيتها الحارة بقبلة خاطفة طبعها فوق وجنتها المرتفعة، وأخرى عميقة فوق فمها، قبل أن يسألها في استغراب وهو يلف ذراعه فوق خصرها :
-(( الله يسلمك يا حبيبتي.. هو إيه اللي حصل هنا؟! ))..
ازدادت ابتسامتها السعيدة اتساعًا وهي تُلقي برأسها فوق صدره وتعقد ذراعيها خلف خصره، مجيبة عن سؤاله في حماس :
-(( إيه رأيك في التغيير اللي عملته للبيت.. عجبك؟!.. حبيت أغير شويه في ألوانه ))..
بعيدًا عن حجة الألوان وبداخله، كان يُدرك السبب الخفي وراء ذلك التغيير في الوقت الراهن خصوصًا وقد تواصلت معه "جيداء" اليوم الذي يسبق البارحة، وأخبرته برغبتها في العودة إلى "الإسكندرية" والتحدث معه، ولكن الآن لم يكن وقت المجادلة، بل عليه التركيز على ما هو أهم، ثم بعد أخذ قسط من الراحة يمكنهم التحدث مطولًا بهذا الشأن؛ لذا هتف يستفسر في حيرة :
-(( هو غريب بس منكرش أنه حلو.. وبعدين أنا من وقت كتب كتابنا قلتلك شوفي حابه تعملي ديكورات إيه في البيت وأنا معاكي.. بس المهم جبتي الحاجات دي منين؟!.. أنتِ مطلبتيش مني فلوس عشان كل ده! ))..
أجابته مبررة في نعومة وهي لازالت تحافظ على موضع رأسها فوق مضغته :
-(( كنت شايفاهم من فترة على الموقع وعجبوني بس كنت مستنيه أخد رأيك فيهم.. ولما كلمتني وقلتلي أنك مضطر تبات في المستشفى حبيت أعملك مفاجأة وترجع تلاقي البيت متغير فطلبتهم ووصلوا من كام ساعة بس ودفعت بالفيزا ))..
عقد ما بين حاجبيه حتى اختفت المسافة بينهم، ثم عاد يسألها من جديد ولكن تلك المرة في نفاذ صبر :
-(( تمام.. بس دفعتي بالفيزا أزاي وأنا كنت واخد الفيزا معايا؟! ))..
قالت في بساطة بعدما ابتعدت عنه ورفعت رأسها تطالع وجهه دون ارتخاء قبضة ذراعيها من فوق جذعه :
-(( بالفيزا بتاعتي ))..
هتف يستفسر في حدة وقد اكفهرت ملامحه وشعرت بجسده يتشنج أسفل ذراعيها، ناهيها عن عبوس ملامحه :
-(( نعم!!.. فيزة إيه دي بالظبط اللي دفعتي منها عشان أكون فاهم! ))..
مررت ملامحها فوق وجهه في ارتباك، تحاول معرفة سبب جموده وحدة نبرته، وعندما يأست في اكتشاف ما أحل به همست تجيبه في نبرة خافتة مختنقة :
-(( الفيزا بتاعتي يا يحيي.. اللي جواد عملهالي وبتنزل عليها أرباح نصيبي كل شهر.. غير الفلوس اللي بابا كان حطهالي فيها عشان اشتري جهازي وقت الفرح ))..
تلاشى صوتها في جملتها الأخيرة خاصةً بعد سماعها له يزفر مطولًا في عصبية لم تعهدها منه، ثم قال في حنق :
-(( الله!!.. وهو أنتِ اللي هتصرفي على البيت بفلوس عيلتك؟! ))..
زاغت حدقتيها تهبط بها على كل مكان سوى وجهه، وقد هالها رد فعله المندفع والغير مبرر من وجهة نظرها، وما هي إلا ثَوَانٍ قليلة حتى تجمع سيل من العبرات داخل أجفانها الصغيرة ينتظر منه أقل نظرة أو نبرة حتى تفيض مدامعه، ثم همهمت تجيبه مطأطأة الرأس بنبرة مرتعشة وقد أجهشت على البكاء :
-(( لا مش هصرف.. كل الحكاية أني أتجوزت بشنطة هدومي ومجبتش أي حاجة في البيت هنا زي البنات.. وبابا قالي عشان مفيش وقت خدي الفلوس ونقي أنتِ براحتك بعدين.. يعني متوقعتش أن الموضوع يضايقك كده على شويه حاجات بسيطه كنت المفروض أشتريها من الأول ))
لم تشعر بأنها أخطأت، تَسَرَّعْت نعم ولكن من فرط حماسها مع وجود جزء ضئيل منها كان يريد فرض وجوده في المنزل قبل عودة تلك "الجيداء"، أما فكرة تخطيه أو إزعاجه أو الانتقاص من قوامته كما فهمت من عصبيته لم يخطر ببالها أبدًا، وما أن وصل عقلها إلى الاستنتاج الأخير حتى انخرطت في نوبة قوية من البكاء، فسارع بلف ذراعيه حولها وضمها إليه، ثم أخذ يتمتم معتذرًا في نعومة من بين قبلاته التي راح يطبعها فوق جبهتها وخصلاتها البنية :
-(( تمام.. تمام متعيطيش.. حقك عليا عشان اتعصبت.. بس أنا أضايقت من الموقف ))..
ردت من بين نبرتها المشبعة بالعبرات ودموعها المنهمرة والتي بللت قميصه :
-(( مكنش قصدي أضايقك.. لو كنت عارفة أنك هتزعل كده مكنتش طلبتهم.. خلاص أنا هرجعهم ))..
رفع كلا ذراعيه نحو وجهها، يمسح بأطراف بنانه ما يسقط من دموعها بيد، ويزيح خصلات شعرها التي التصقت بوجنتها المبتلة باليد الأخرى، قبل أن يقول معارضًا في حنو بالغ :
-(( لا مفيش حاجة هترجع.. أنا كمان حبيتهم زيك وعايزهم ))..
رفعت كفها تمسح بظاهره بعض الدموع العالقة بأهدابها، ثم تمتمت تسأله في حيرة :
-(( يعني إيه؟!.. نخليهم أزاي وأنت مضايق أني دفعت؟ ))..
تتبع خط شفاها المبتلة بعدة قبلات صغيرة بدأت من بداية فمها حتى نهايته، ثم قال مدللًا ومبتسمًا :
-(( بسيطة.. هدفع أنا فلوسهم.. بس بعد كده بعد إذنك أي حاجة ليها علاقة بالفلوس بلغيني قبلها.. وأنا هسيبلك الفيزا بالباسورد كلها تحت تصرفك.. حلو كده؟! ))..
حركت رأسها موافقة بابتسامة باهتة دون تعليق، بينما عاد عقلها يتذكر تجربتها السابقة وأول من ارتبطت به وكيف كان يتعمد استغلال أموالها وأموال والدها في بناء بيته، وقتها علمت لما وقعت في حب طبيبها ذو البحيرات الزمردية...
أما عنه هو "يحيي"، فبعد فترة قصيرة من الصمت تخللتها بعد القبلات من جهته، سألها ملاطفًا :
-(( ألا قوليلي.. كده دي تعتبر أول خناقة رسمية بينا صح؟! ))..
أجابته وابتسامتها العاشقة تملأ ثغرها وتغلف عدستيها :
-(( لا كنا بنتخانق من كام يوم بسبب زوحلف تقريبًا ))..
قال مصححًا وهو ينحني بجذعه نحوها ويضع ذراعيه خلف ركبتيها تمهيدًا لحملها :
-(( لا دي كانت مناقشة بس عميقة شويه.. لكن النهارده أول خناقة حقيقية بينا.. فلازم يكون ليها طقوس صلح خاصة ))..
تلاشت دموعها وتلاشي معه حزنها، بل كل الأصوات من حولها، ولم يبق في عقله سوي نبرته العابثة والتي صارت تعلم جيدًا ما يأتي خلفها.
**********************************
بعد مرور شهرين....
في المساء...
عاد جواد إلى منزله وداخله ينتوي الليلة المواجهة والانتهاء من حالة الكر والفر التي أصبحت مهيمنة على علاقتهم، فكلما أراد الاقتراب منها تبتعد، وكلما حاول الابتعاد عنها وجدها على استحياء تقترب، أصابت عقله بالتشوش والحيرة في الوقت الذي يشعر بها تتغلغل أكثر إلى أعماقه وتفرض سيطرتها على تفكيره، فبات وأصبح كل ما يود فعله في يومه هو تنفيذ أعماله ثم العودة راكضًا إلى المنزل لقضاء باقي وقته برفقتها هي وطفلته، خصوصًا وقد تطورت العلاقة بينها وبين الصغيرة بشكل ملحوظ حتى أنه صار يشعر وكأنه هو الدخيل بينهم من قوة ارتباطهم ببعضهم البعض، ولم يكن هو بذلك الرجل الذي يرى الأمور من منظار ضيق، أو يخشى تعلق صغيرته بامرأة لم تنجبها، بل كان سعيدًا كل السعادة بحب زوجته لابنته والعكس صحيح، وكلما غمره ذلك الشعور كلما كان يتطلع إلى المستقبل في طمأنينة، فقط ينتظر حتى يكتمل زواجه ويشرعا في إنجاب أطفال آخرين يكتمل بهم بنيان عائلته، لن يستعجلها ولن يضغط عليها ولكنه أيضًا يرى قبولها للمساته الحميمية المباغتة لها من وقت لأخر، ويري كيف تبادله إياها بشغف، وإن كان ما ينقصها هو المواجهة فلها عليه ذلك.. وهذا المساء..
وعليه دلف غرفة نومه في تأهب يعلم بوجودها داخلها، حيث أصوات ضحكاتهم الرنانة تصل إليه بوضوح منذ وطأت قدمه الممر المؤدي إليها....
وفي بادئ الأمر لم تلتقطهم عيناه بل واستغرق بعض الوقت حتى استوعب عقله مكانهم، حيث قامت غفران بنصب خيمة اللعب الزرقاء الصغيرة في جانب الغرفة امتثالًا لطلب الطفلة، ثم جلسا يمرحان بألعابهم الطفولية داخلها....
فاتسعت ابتسامته الراضية وصرخات استمتاعهم تصل إليه، قبل أن يهتف باسم طفلته فسارعت بالخروج من خيمتها الصغيرة تقفز إلى أحضانه، هاتفة اسمه في ترحاب شديد :
-(( بابي.. وحشتني ))..
انحني بجذعه يستقبلها أولاً قبل أن يرفعها إلى مستواه ويحيطها بذراعاه، بينما شفاه تطبع قبل متتالية فوق جبهتها وكفها الصغير، قائلًا في نبرة آجشة :
-(( ممكن أعرف بتعملوا إيه جوا من غيري ))..
أجابته الطفلة وعيونها تشع سعادة وحماس في نفس الوقت الذي خرجت من تبحث عيناه عنها إلي مرمى بصره :
-(( كنا بنخيم أنا وغفرانو عشان نلعب براحتنا ومحدش يزعجنا ))..
همهم موافقًا في خفة، قبل أن يداهم عنق صغيرته ويدغدغها بشفتيه مصدرًا من حنجرته صوتًا ينم عن الاستمتاع بمذاقها وكأنها يلتهمها، بينما تعالت ضحكات الطفلة الصاخبة في المكان حتى انقطعت أنفاسهم معًا فتوقف عما يفعله، ثم قال للصغيرة في جدية بعدما وضعها أرضًا وسلط نظراته فوق من تراقبهم في شغف :
-(( ليلو.. ينفع تروحي لنانا النهاردة وهي هتنيمك معاها عشان محتاج أتكلم مع غفران في حاجة مهمة ))..
نفذت الطفلة مطلبه دون تعقيب، فقط قامت بتقبيل وجنتيه وكذلك فعلت مع والدتها البديلة، ثم انصرفت وتركتهم يقفا في مقابلة بعضهم البعض، بينما الخفقات المتوترة تكاد تصل عنان السماء، قاطعًا جواد الصمت الرتيب الموتر من حولهم عندما قال مباشرةً دون تأجيل :
-(( تعالي يا غفران اقعدي.. محتاج نتكلم سوا شويه ))
أطاعته وتحركت تجلس على طرف الفراش وعيونها تزداد فضولًا مع مرور الوقت، تترقب وتخشي ما هو قادم، حتى قال بصوته العميق :
-(( أحنا بقالنا ٤ شهور من وقت كتب الكتاب تقريبًا كده.. وشهرين من وقت ما نقلتي البيت هنا.. هل مش حابه التجربة أو بعد عشرتنا مش شايفة أنك عايزه تكملي معانا في البيت.. أو الأهم نافرة مني ومن لمستي؟! ))...
أي نفور يتحدث عنه ذلك الأحمق ذو النبرة الناعمة!، ألم يعلم أن النظرة منه لها تساوي الدنيا وما فيها!، هذا ما أرادت النطق به ولكنها لازمت الصمت وفضّلت تحريك رأسها تنفي ما سأله، ولو رفعت رأسها إليه لرأته يكتم أنفاسه منتظرًا على أحر من الجمر ردها، وما إن آتاه حتى زفر في راحة، ثم أردف يقول في جدية وترو بعدما امتدت كفه كي تحتضن كفها :
-(( عظيم.. يبقي لازم تعرفي كل حاجة ومن بعدها أتعشم نبدأ حياتنا بجد سوا كأي زوجين طبيعيين ونحاول نبني أسرة من أول وجديد ))..
تنحنح لتقنية حلقه ثم شرع يتحدث في صراحة وهدوء :
-(( طبعًا خليكي عارفة أن كلامي اللي هقوله مش الغرض منه أنك تحكيلي في المقابل عن زواجك السابق.. الماضي هيفضل ماضي ومش عايزه ياخد مكان في الحاضر.. ويمكن اللي هقوله دده يضايقك بس أنا راجل واضح وصريح.. ولو مصارحتش شريكتي بكل حاجة وبدأت معاها حياتي على نور هحس أني مخادع وده مش طبعي.. وده اللي حاولت ابنيه مع رنا ومنفعش.. كنت راسم صورة لحياتنا سوا مثالية.. مشاركة وحب واهتمام ورضا.. وقبلهم وفاء بس ملقتش ولا حاجة منهم للأسف..
يمكن بحكم دخولك في قضية قتل رائف توقعتي.. أو خلينا نكون صرحا للأخر فهمتي أن رنا ورائف كان بينهم علاقة قضت عليهم سوا.. بس اللي أنا مقلتهوش لحد ولا حتى ليكي بشكل مباشر أن العلاقة دي كانت من قبل طلاقنا.. يعني كانت عرفاه وهي على ذمتي.. وده سبب الطلاق الأساسي وبُعدها عن أي حاجة تخص حياتي أو حياة لينة....
طبعًا مش سهل على راجل زيي يعترف أنه مكنش مالي عين مراته وأتمنى بالفكرة دي تقدري ليه محكتلكيش قبل دلوقتي ))..
شعر بجسدها يرتجف تحت لمسته تأثرًا، فبماذا تخبره؟!، وماذا تقول له أو تواسيه؟!، بأنها أيضًا ذاقت من نفس الكأس وتعلم طعم المرارة؟، لن تقدم جديد فهو على علم بكل ما مرت به خلال زيجتها الأولى؛ لذا استمرت في الصمت، بينما ضغط هو بقوة على كفها مطمئنًا، ثم أردف يضيف بشيء من الحزن والازدراء :
-(( بعدها كنت زي اللي مضروب على دماغي رغم أني نجحت مبينش حاجة لحد.. كل اللي عملته غذيت نفسي على كرهها وبس.. وقعدت ألوم نفسي كتير على كل اللي عملته معاها وقدمته ليها.. وطبيعي لما حد بيتخدع من حد أول حاجة يعملها يروح يدور على نقيضه..
وده اللي حصل معايا بالظبط.. كنت بدور على نقيض رنا في كل حاجة.. كنت عايز واحدة محجبة عشان هي مكنتش محجبة.. واحدة مش بتسلم على رجاله عشان رنا كانت بتسلم على رجاله.. واحدة أهلي حبوها لأن أهلي كانوا معترضين على جوازي منها من البداية.. واحدة قنوعة بدل رنا الجشعة.. وعلي ده قيسي كل حاجة بقي.. وكان النموذج اللي قدامي واحد بس.. رحمة.. ))
شهقة خافتة فلتت من فمها الشبه مُغلق وقد فاجئها ما نطقه فرفعت رأسها تناظره في عدم تصديق، فما كان منه إلا أنه أومأ برأسه مؤكدًا ثم استطرد يقول في خزي :
-(( أيوة رحمة.. ما كان ظروف جوازها من طاهر كلها على إيدي وكنت عارف قد إيه هو بيكرهها.. وعارف برضه أنه كان ناوي بعد فترة يطلقها.. والغريب أن في الفترة دي مكنتش شايف عيب أني أُعجب بيها.. لأ وعقلي كان بيبررلي كمان أنه عادي لو بعد ما أنفصلت عن طاهر تتجوزها أنت.. خصوصًا مع اقتناعي أنها بريئة.. طاهر بس هو اللي كان غضبه عاميه عن كل صفاتها الحلوة..
وفي وسط مانا معجب برحمة أتعرفت عليكي.. أو الأصح دخلتي حياتي.. ولقيتك واحدة واحدة بتتسرسبي في تفاصيلي.. حسيت أنك مسؤولة مني.. صديقة عايز أساعدها.. ومن صديقة عايز أساعدها لصاحبة بحب أسمع لها وأقضي يومي معاها.. ومن صاحبة بحب اقضي وقت معاها.. لواحدة جدعه أوي.. بقت جزء مقدرش أستغني عنه من حياتي.. خايف عليه وحاسس بيه.. شبههي وشبهها.. كل ده وأنا معجب برحمة.. متستغربيش من تصرفات راجل مخدوع ))..
ابتسم وكانت ابتسامته بعيدة كل البعد عن المزاح أو السعادة، بل كانت ابتسامة مليئة بالوجع والحسرة، لم تكن حسرة على الخادع بقدر ما كانت مرتبطة بألم المخدوع، ثم أردف يقول في سخرية :
-(( لو قلتي مجنون في سرك دلوقتي مش هستغرب.. ولو قولتيها بصوت عالي مش هزعل..
ومع الأيام خلاص بدأت رحمة تشغل طاهر زي ما شغلتني مع الفرق.. كان هو كل ما يغوص فيها.. أنا بتشد لجنية تانية.. زيي ومني.. بتفهمني من غير كلام وأنا بعرفها من عيونها.. ومعاها رجعت أعرف أن الست المحترمة مش بحجاب والتزام.. وإنها مش لازم تبعد نفسها عن الرجالة عشان تبقى شريفة.. الست اللي بجد.. هي اللي تقف وسط مليون راجل وتجبرهم يحترموها.. الست المحترمة بجد واللي متقلش عن رحمة.. هى "غفران".. اللى صوتها بيقف في المحكمة يجلجل ويجادل ده ويجيب حق ده.. وفي نفس الوقت حاطه بينها وبين الكل وأنا أولهم ألف سور.. وهي دي اللي عرفت تدخل جوة قلبي وتتربع فيه.. عرفت تملكه وترجعله الثقة بكل بساطة ومن غير ما يحس.. واللي عارف أنها مسألة وقت قبل ما تتحكم فيه ويبقى ملك ليها ورهن إشارتها.. زي ما أنا قاعد دلوقتي مستني تقبليه بعد كل اللي قلته ده أو ترفضيه ))..
خفق قلبها بعنف وكأنه يحاول كسر أضلعها والتحرر، بينما زاغت أبصارها ولهثت أنفاسها من هول ما تسمعه، هي!، رحمة!، يريدها هي!، حركت رأسها تنفضه في قوة وكأنها أصابها مس، ثم همست تسأله وهي ترتجف من أعلى رأسها حتى أخمص قدميها :
-(( بس رحمة أختك!!.. أزاي!! ))..
بلع لعابه في صعوبة تحركت على أثرها تفاحة آدم بداخل عنقه، ثم أجابها قائلًا في نبرة لا تحمل مجالًا للشك :
-(( رحمة مش أختي..عمرها ما كانت ))..
*************************
في صباح اليوم التالي....
بداخل صرح عائلة المناويشي... وتحديدًا بغرفة رئيس مجلس الإدارة.
جلس طاهر يفرك عينيه في إرهاق بعد قضاءه ليلة مؤرقة بسبب بعض التشنجات التي أصابت رحماه ولم تنتهي حتى ساعات الصباح الأولى، فقرر حينها وبعد تأكده من انخراطها في النوم الذهاب إلى الشركة وبدأ يومه باكرًا ثم العودة للمنزل في منتصف النهار وها هو قد أوشك على الأنتهاء والذهاب، هذا ما وعد به نفسه مقاطعًا بعد نصف ساعة تدقيقه في بعض الأوراق نقر خفيف فوق باب الغرفة يليه صوت "جواد" يستأذنه في الدخول، فسارع يعطيه الإذن قبل أن يسأله في قلق فور رؤيته :
-(( شكلك غريب كده ليه؟!.. كأنك مش نايم! ))..
ابتسم جواد في سخرية من حال السؤال وحاله، هل يخبره بأنه قضى ليلته ساهرًا بعدما اعترف لزوجته بإعجابه بزوجة قريبه والتي يظنها الجميع شقيقته!، أم يخبره بصدمتها مما سمعته وهجرها مخدعه وإلى الآن لم يلمح لها طرف!، تنهيدة حارقة صدرت من جوفه المشتعل قبل أن يقول كاذبًا :
-(( لا مفيش.. مشربتش قهوة بس فمش عارف أفوق.. المهم أنت إيه الأخبار.. ورحمة والبيبي عاملين إيه.. عرفتوا ولد ولا بنت ولا لسة؟! ))..
تنهد طاهر في إجهاد، ثم عاد واستند بجذعه على ظهر مقعده، قائلًا في تعب :
-(( الحمدلله.. تخيل لسة.. دخلت في الخامس أهو وكل مرة الدكتورة تقول مش باين.. طبعًا رحمة عايزه ولد تسميه مصطفى.. بس أنا أي حاجة بالنسبالي نعمة من ربنا ))..
كان يبتسم في سعادة تسللت إلى فم رفيقه فوجد نفسه يبتسم هو الأخر بالمقابل، قبل أن يقول في حب :
-(( عندك حق.. أي حاجة من ربنا حلوة.. بس بمناسبة مصطفى.. في جديد في القضية؟! ))..
أجابه طاهر في نبرة اعتيادية :
-(( أنت عارف حبال المحاكم طويلة.. كل ده في أول جلسة.. بس التسجيلات والشهود والبصمات كلها ضد الولد.. يعني هيتحاكم هيتحاكم.. أينعم هيدخل الإصلاحية بس مجرد الحكم هيريح قلبها ))..
حرك جواد رأسه موافقًا، ثم سأله في اهتمام :
-(( إن شاء الله.. المهم قولي جبت ورق الأسهم معاك عشان بابا يعيد توزيعه زي ما طلب؟!.. كل يوم يسألني وأقوله الورق في بيت طاهر هيجيبه ))..
قال طاهر معتذرًا :
-(( كلها ربع ساعة بالكتير ويوصل.. كنت فاكر أجيبه معايا الصبح وأنا نازل وانشغلت برحمة ونسيت.. بس من شويه كلمتها ومن حظك طلعت صاحية على غير العادة وقلتلها هبعت عم ماهر السواق تديله أوراق من الخزنة السرية اللي في المكتبة بتاعة أوضه المكتب.. وزمان عم ماهر وصل عندها دلوقتي متقلقش ))..
قطب جواد جبينه قبل أن يسأله في استنكار :
-(( هو أنت عرفت رحمة مكان الخزنة اللي في المكتبة!.. لا وكمان عطتها رقمها السري!.. غريبة.. دي أول مره تعرفه لحد غيري.. حتى ريم معملتهاش معاها ))..
رفع طاهر رأسه يطالعه في حدة، ثم قال ناهرًا في ضيق :
-(( أنت هتجيب ريم لرحمة!.. وبعدين إذا كنت مأمنها على حياتي كلها وابني اللي جاي في الطريق!.. مش هأمنها على شويه ورق!!.. غير أن الخزنة مفيهاش غير أوراق الأسهم والملكية ومستندات أبو المجد اللي رضا هياخدها والجواب اللي مرات خالها وصلتهو...... ))..
قفز من مقعده فور تذكره لما تحويه تلك الخزنة، قبل أن يضيف وهو يسحب هاتفه في عصبية يحاول التواصل معها وإيقافها :
-(( يا نهار أزرق.. الجواب يا جواد!!.. الجواب مكتوب عليه أسمها محطوط مع الأوراق.. أنا إزاي أنسى حاجة زي دي وأخليها تفتحها! ))..
كان يتحدث وهو يقطع الغرفة ذهابًا وإيابًا بجسد متشنج، بينما يعاود الإتصال بها مرة بعد مرة دون جدوى، وعندما يأس من الوصول إليها عن طريق الهاتف، قال بعدما انحني والتقط سترته ومفاتيحه :
-(( أنا هاخد أي عربية من عربيات الشركة وأروح البيت... إن شاء الله متكونش شافته بس لازم اتأكد واغير مكانه ))..
لم ينتظر رد رفيقه بل أنهى جملته وركض مسرعًا نحو الخارج ومنه إلى مرفأ السيارات، بينما هاتفه لا يتوقف عن محاولة التواصل معها، ولقرب المسافة بين مقر الشركة الجديد ومنزله، لم يستغرق الأمر منه سوى سبعة دقائق وكان يركض من جديد بأنفاسه اللاهثة داخل حديقة منزله ومنها مباشرةً إلى غرفة مكتبه، قبل أن يدلفها ويراها متسمرة مكانها بجوار المكتبة، تقبض بكف مرتعش على الورقة البيضاء الحاملة سرها، وعند شعورها بوجوده رفعت رأسها ببطء تطالعه، هامسة بصوت مرتجف بينما دموعها تتطاير مع ذرات الهواء حولها :
-(( أنا بنت مغتصب! ))