رواية في لهيبك أحترق الفصل الثالث العشرون 23 بقلم شيماء يوسف

               

رواية في لهيبك أحترق 
الفصل الثالث العشرون 23
بقلم شيماء يوسف


اَ تَحْسَبَنَّ الْهَوَى سَهْلًا ؛ فَأَيْسَرُهُ
خَطْبٌ لَعَمْرُكَ لَوْ مَيَّزْتَهُ جَلَلُ
يَسْتَنْزِلُ الْمَلْكَ مِنْ أَعْلَى مَنَابِرِهِ
وَيَسْتَوِي عِنْدَهُ الرِّعْدِيدُ وَالْبَطَلُ
_محمود سامي البارودي 

يقول العارفين أن العين مرآة القلب ، ففي أنعكاس حدقتيها نرى مكنوناته الخفيه بوضوح ، ويؤكد العلماء بأن العين صورة العقل ، ومن خلالها نستدل على ما فى الوجدان دون الحاجة إلى البوح ، بينما يظن الشعراء أنها دلالة على ما تشتهيه الروح ، أذاً ، فماذا لو أتفق ثلاثتهم ؟! ، القلب والعقل والروح ، مباركاً البصر تحالف البصيرة ؟! ، هل تعتبر إشارة كافية على ما تجاهلته لأيام ؟! أم يجب عليها أنتظار المزيد ؟! ، ضغطت فوق عينيها بقوة هاربة من صورته التى حاصرتها ، فهى حقاَ جاهلة فى أمور الحب ، لا تعلم ولا تدري عنه ، وأن سألها عابر سبيل عن تعريفه ، ستتعلثم وتحتار ، ولن تخرج بأجابة واضحة ، كافية ، شافية ، أما الأن وبمجرد التفكير بماهيته فلا يمكنها ألا أن تراه يقفز متجسد بأدق تفاصيله ، عندما تغلق الأجفان ، وحتى بعدما فتحت عينيها بفزع عندما لطمتها الحقيقة المفاجئة متمتمة بذهول :
-(( مينفعش .. صح .. مينفعش )) ..
لم تكن الوحيدة المندهشة فى الغرفة فلقد شاركتها غفران تعجبها عندما رفعت رأسها تسألها بتوجس ضاغطة على أحرف سؤالها الأستفهامى :
-(( أنتى قلتى مين ؟!!! )) ..
حركت علياء رأسها يميناً ويساراَ كأنها تفتش عنه فى الأركان قبل أن تستأنف هذيانها مغمغمة بضياع :
-(( اللى بعمله ده غلط صح ؟! )) ..
رفعت عينيها تناظر الواقفة أمامها وتحدق بها بأعين خاوية ، ثم أردفت تقول بهمس مبحوح :
-(( مينفعش أخدعه صح ؟! .. مادام عرفت مينفعش )) ..
فتحت غفران فمها وأغلقته مرة وأثنان وربما عشرة ، تحاول القبض على صوتها الهارب لأسدائها نصيحة ستقلب موازين العائلة رأساً على عقب ، مقاطعاً شجاعتها عندما همت فى الحديث ، طرقة خفيفة فوق باب الغرفة يليها صوت ذكورى أجش يمتاز برنة جذابة ، يسأل من خلف الباب المغلق فى وجهه :
-(( علياء .. أنا أستأذنت بباكى أطلع أسلم عليكى .. لو سمحتى ينفع أدخل ؟! )) ..
شهقة خفيفة صدرت عنها بمجرد سماعها صوته ، جعلت غفران التى بادرت بالتحرك لأعطائهم المساحة الشخصية الكاملة تلتفت عائدة إليها مرةً أخرى ، تتأملها للحظات والشك يتوغل بداخلها خاصةً وهى ترى نظرة الأخرى وملامحها الشاحبة ، وكأنها تستجديها بنظرة عينيها الصامتة أن تجد حلاً لمعضلتها ، فأومأت الأخيرة برأسها مشجعة ثم أنسحبت للخارج بعدما فتحت الباب على مصراعيه مرحبة بالضيف الغائب ، وبعد تأكدها من دخوله وخلو الممر من حولها ، سارعت تُخرج الهاتف بنية مهاتفته منتظرة أجابته بلوعة كمن يقف على جمرات من اللهب ، وبمجرد سماعها الأجابة قادمة من الطرف الأخر ، هتفت تسأل بريبة :
-(( يحيى .. هسألك سؤال وتجاوب عليا بصراحة .. أنت فى حاجة بينك وبين علياء أخت جواد ؟! ))
أنحبست أنفاسه وهو يستمع إلى أسمها ينساب داخل أُذنيه ، ثم قال بنبرة منكسرة واضحة لا تخفى على ذوى الفطنة :
-(( واحدة فرحها النهاردة .. تفتكرى ممكن يكون أيه بينى وبينها غير أنى أتمنالها السعادة ؟! )) ..
مسحت غفران وجهها عدة مرات وهى تدور حول محورها كالشريدة ، قبل أن تقول بتردد واضح :
-(( أنا مش عارفة أيه اللى بعمله ده .. بس لو أنت حاسس بحاجة ناحيتها .. أظن وجودك هنا هيفرق دلوقتى بالذات )) ..
أغلقت هاتفها بعد نطقها بتلك الكلمات الغامضة وهى تدعو أن تصدق ظنونها ، وتوفق مساعيها فى أنقاذ موقف ربما يعيد حياة صديق عزيز على قلبها إلى مسارها الصحيح .
**********************************
من أبلغ ما قاله الرافعي فى تعريف المحبوب ، " أن الحبيب ، هو من تلتهمه بكل حواسك ، فأذا رأيته فقد ، رأيته وسمعته وذُوقته ولمسته وشممته ، وكم كان صادقاً كأسمه تماماً ، فى وصف حالتها منذ الصباح وتفاعلها معه بكل حواسها وكأن قلبها قد انشطر أثنين ، نصف يضرب داخل جنباتها والشطر الأخر يخفق فى جوف أضلعه فيرتد صداه داخلها ، مقاطعاً ألتهام عينيها لتفاصيله ، لكزة خفيفة آصابت مرفقها ، قادمة من ذراع صديقتها التى أنضمت إليها تقول مازحة :
-(( بالراحة يا ست رحمة .. هتاكلى الراجل بعنيكي .. خلاص عرفنا أنك وقعتى بس خليكى تقيلة شوية مش كدة )) ..
تنحنحت بقوة قبل أن تهتف بأرتباك مدعية عدم الفهم :
-(( وقعت أيه وهبل أيه !! أيه اللى أنتى بتقوليه ده )) ..
أبتسمت غفران عن ملئ فاهها ثم قالت ساخرة :
-(( لا مبقولش .. ومش هقول أن هو كمان بيبصلك دلوقتى أهو )) ..
ألتفتت مسرعة تنظر بلهفة حيث أشارت رفيقتها بكفها قبل أن تعود بأدراجها خائبة ، تهتف ساخطة بغضب بعدما وجدت المكان من حولها خالِ منه :
-(( تصدقى أنى عيلة عشان وقفت أتكلم معاكى .. وشكراً على تريقتك دى )) ..
قالت غفران معتذرة :
-(( خلاص والله بهزر .. وعشان تكونى مرتاحة .. هو كمان وقت ما أختفيتى كان هيتجنن عليكى )) ..
أنفرجت أساريرها وأتسعت إبتسامتها الخجلة ولم تعقب لوهله حيث شردت حالمة فى جملة رفيقتها حيث بادر عقلها برسم مشاهد وردية ناعمة ، مدفوعاً بالتحولات التى طرئت على علاقتهم منذ ذلك الحين ، وكأن أرتباطهم درج ، يتسلقان كل فترة عدة درجات منه ، حتى أوشكا على الوصول للنهاية ، هناك ، حيث بر الأمان ، وبعد فترة من الشرود أنتبهت على حالتها فعاودت تسأل مغيرة مجرى الحديث :
-(( مطمنتنيش .. عملتى أيه مع بدر ؟! )) ..
أجابتها بنبرة خالية :
-(( ولا أي حاجة .. نيمته وروحت سحبت القضية زى ما طلب .. مستنية الدكتور يطلع تقريره .. هو غالباً الممرضة قلقانة منى وعايزة تتأكد أنى مش هضرها فلازم أطمنها هى كمان .. وعمتاً هى وعدتنى الأسبوع الجاى أول ما الدكتور يخلصه هتدهولى بالحالة كاملة ووقتها هعرف لو كانوا بيلعبوا عليا ولا فعلا الجنين مات بسبب الوقعة )) .
زفرت رحمة بضيق ثم قالت بأحباط :
-(( طولتى أووووى يا غفران .. أنا قلت هتاخدى التقرير فى نفس اليوم ونخلص ونطمن )) ..
قالت معقبة بأريحية وثقة :
-(( يابنتى متقلقيش بالعكس .. ده تأخير التقرير وقلق الممرضة وراه حاجة .. ولولا أنى لقيت سكة مع الممرضة دى مكنتش عرفت أطلع بحاجة مفيدة .. خصوصاً بعد ما محاولتى مع دكتور الحالة فشلت .. متخافيش عليا .. أنا مرتبة كل أمورى غير أنى بحاول اوصل لأسم الدكتور أو الدكتورة اللى كانت متابعة معاها من الأول .. مش واحدة زيها هتغلبنى عيب عليكى )) ..
صمتت لوهله تنظر من فوق كتف نديمتها قصيرة القامة ، ثم أستطردت تقول محذرة بأبتسامة واسعة :
-(( أستعدى عشان جاى علينا )) ..
سألتها رحمة بفضول :
-(( قصدك مين ؟! )) ..
أجابتها مازحة كى ثُثير حفيظتها :
-(( أبو تكشيرة جنان )) ..
قالت رحمة معاتبة بضيق شديد :
-(( غفران بجد .. متقوليش عليه كدة )) ..
حركت غفران رأسها يميناً ويساراً مستسلمة ثم قالت قبل أن تنسحب من جوارها :
-(( عشان لما أقول وقعتى .. متبقيش تقاوحى معايا )) ..
قبل أن تفتح فمها للأجابة شعرت بحركته خلفها فسارعت تستدير فى مواجهته بينما مال هو بجذعه نحوها يسألها بصوته العميق :
-(( ممكن أعرف خدودك حمرا ليه )) ..
رفع كفه يتلمس وجنتها بأنامله ثم أستطرد يقول بأعجاب :
-(( وسخنة كمان )) ..
أندفعت تنفى عنها تهمة لم ينطق بها :
-(( مش بتكلم عليك متقلقش )) ..
تنهد مطولاً ثم قال بحرارة وكفه تتلمس وجنتها الساخنة :
-(( لو خدودك الحلوة دى أحمرت عشانى .. تبقى واحدة من أهم أمنياتى أتحققت .. وبعدين انا مش قلتلك من الصبح خليكى جنبى )) ..
قالت معترضة بأستنكار :
-(( مانا جنبك أهو والله )) ..
همس مؤكداً بعدما حاوط ذراعه خصرها ودفعها نحوه حتى أصبح جسدها ملتصق به :
-(( لما أقول خليكى جنبى يبقى قصدى كدة )) ..
رفعت رأسها تنظر إلى وجهه الشبهه ملاحم لها نتيجة لأخفاض رأسه فى أتجاهها ، هامسة بحرج :
-(( كدة مش جنبك .. أنا كدة فى حضنك تقريباً )) ..
أنفرج ثغره بأبتسامة مطولة ، ثم قال بنبرة عابسة بجوار أذنها :
-(( لا موضوع حضنى ده هعرفهولك بعدين وعلى مهلنا )) ..
سارعت بدفع جسده بعيداً عنها عند أستماعها لوقع أقدام بالقرب منهم متمتمة بخجل شديد :
-(( طاهر لو سمحت .. لو حد شافنى هيقول عليا أيه )) ..
ألتفت ينظر حوله يميناً ويساراً يتأكد من خلو المكان حولهم ، قبل أن يقول موافقاً :
-(( عندك حق .. رغم أن مفيش حد بس مش هسمح لحد يبصلك .. بس هعمل حاجة أخيرة وأمشى )) ..
سألته بفضول ولازالت وجنتاها تنفجر بحمرة الخجل :
-(( هتعمل أيه )) ..
باغتها بطبع قبلة عميقة مطولة فوق شطر وجهها الأيمن ثم أنصرف ، بينما وقفت هى تضغط بقوة فوق مضختها بعدما رفعت كفها ، فى محاولة بائسة منها لأخماد دقاته الثائرة .
***************************************
وقفت أمامه على بعد مسافة كافية بينهما ، بعدما تراجعت بخطواتها للخلف حتى وصلت إلى أخر الغرفة ، تطالعه بأعين دامعة ، تتفرسه وكأنه ودعها البارحة عندما قطع عهداً على نفسه بالعودة إليها فى أقرب وقت ، فلازال لامعاً كما كان ، بأبتسامته الساحرة ، ولمعة عينيه الصافية ، بنبرته العذبة ، ونظرته المحملة بالعشق ، يقف بثبات وخيلاء أمامها ، وكأنه لم يدهس أثناء سيره طريقه الطويل نحو طموحه قلبها ، وكأنه لم يستبيح خلال سعيه للنجاح أيام عمرها ، وكأنه لم يكسر مرات ومرات بكلماته الجارحة وشكه خاطرها ، طبقات من الخذلان ، الغياب والحرمان ، لم يتوانى أو يدخر جهده فى دفن علاقتهم أسفلها ، وكأنه تفنن خلال الأيام الخالية في أفساد العلاقة بينهم حتى أستفاقت اليوم على حقائق أخرى ، واقع جديد يرفض قلبها وعقلها أن يكون هو جزءاً منه ، لذا همست تقول بأصرار :
-(( محمد )) ..
تحرك نحوها يقطع بجسده العملاق بعد أكتسابه بعض الوزن المسافة الفاصلة بينهم مجيباً بأشتياق ، بينما يده تشق الطريق إليها :
-(( يا قلب محمد .. لو تعرفى أنتى وحشانى قد أيه )) ..
سارعت بوضع كفها فى مقابلته كعلامة على عدم رغبتها فى أستئناف حديثه ، ثم قالت بشجاعة بعدما أخذت نفساً عميقاً :
-(( وحشاك ؟! .. مش حاسس أنها كلمة غريبة بينا ؟! )) ..
دارت بحدقتيها المتوترة الغرفة بأكملها ثم أردفت تقول بنبرة مختنقة خافتة متجنبة النظر في عينيه :
-(( أنت عارف )) ..
أبتلعت غصة قوية توسطت حلقها ، ثم أستطردت تقول بحسرة :
-(( حتى العتاب مبقتش عايزاه .. أنت غريب .. ومش هلوم نفسى ع اللى وصلناله .. عشان حاولت للأخر بس للأسف .. قطعة الأكسسوار اللي حنطها جنبك عشان ضامن وجودها طلعلها لسان .. فاض بيها وأتكلمت .. وبتقولك دلوقتى مش عايزاك )) ..
رفعت كفها تمسح دمعة سقطت من حدقتها على حين غرة ، ربما هى دموع الأرتياح ، قبل أن تقول بحزم وسط نظراته المذهولة :
-(( أنا مش هكمل .. ودى دبلتك .. ربنا يوفقك فى طريقك مع غيرى )) ..
قبل تحرير أصبعها من قيده الذهبى ، كان قد أرتفع رنين هاتفها وهاتفه فى نفس التوقيت ، بعدة رسائل إلكترونية متتالية ، جذبت أنتباه كليهما ، فعجل بأخراج هاتفه قائلاً بعدم أستيعاب :
-(( علياء !! أنتى بتقولى أيه ؟! .. أكيد الكلام ده من توتــــ....... )) ..
جحظت عيناه للخارج ، وأبتلع باقى جملته بداخله ، ولحظات هى كامل الوقت الذي أستغرقه فى فر هاتفه قبل أن يبدء فى الصياح ، مبادراً فى أتهامها بعدما أنقلبت موازين اللعبة إلى صفه :
-(( أيه ده يا ست الصون !! .. ااااه طبعاً .. كنتى عارفة أن الندل اللى غلطتي معاه هيفضحك فقلتى تسبقى عشان تسترى نفسك )) ..
ضاقت المسافة ما بين حاجبيها ، تسأله بأستنكار واضح بعدما طالعته بأزدراء :
-(( غلطت أيه وفضيحة أيه ؟! أيه التخاريف دى؟! )) ..
صاح بأهتياج بعدما فتح باب الغرفة وركض نحو الأسفل ، حيث الجمع المترقب :
-(( أسألى نفسك يا هانم .. كمان ليكى عين تتكلمي ؟! )) ..
كان جواد هو أول من ركض فى إتجاه الدرج حيث مصدر الصوت ، بينما هتف والدها يسأل بقلق :
-(( مش ده صوت محمد ؟! .. خير يارب حصل أيه ؟! )) ..
أجابه صاحب الثورة بعدما تجاوز شقيقها ووقف أمامه يضع الهاتف بصوره المخلة أمام وجهه :
-(( فى ده .. عملتوا عليا تمثيلية وحوار أنها أتسرقت عشان تعجلوا بالجواز .. وفى الحقيقة بنتك مقضياهـ.... )) ..
-(( أخرس .. كلمة كمان على بنتى ومش هخلى فيك لسان تنطق بيه )) ..
كان ذلك رد فعل السيد أنور المبدئى ، بينما سارع جواد بسحبه من تلابيه هادراً بعصبية :
-(( أنت بتقول أيه يا حيوان )) ..
وضع الهاتف فى وجهه قائلاً بعصبية :
-(( أتفضل شوف بنفسك )) ..
سحب جواد الهاتف من يده ينظر إلى صور شقيقته بوضعية شبهه إباحية مع رجل ما بملامح مبهمة ، وأنضم إليه على الفور طاهر ، ولم يحتاج الأمر إلى كثير من التفكير لمعرفة متى وأين تم ألتقاط تلك الصور وتحت آية ظروف ، وبالرغم من جرأة الصور الفوتوغرافية الأ أنها لا تتعدى صورة رجل وأمرأة ممدان فوق الفراش بملابس فوقية شبهه منعدمة ، فى حين هرولت رحمة تحتضن بذراعيها علياء التى كانت ترتجف كورقة فى مهب الريح بعدما طالعت هي الأخرى هاتفها ، وبعد فترة من التدقيق فى الصور كان طاهر أول من تحدث يقول بنبرة واثقة :
-(( لو أنت مش واثق فيها يبقى متلزمناش من الأساس .. وبعدين الصور باينة أنها متخدرة فيها يوم ما أتخطفت .. بس اللي زيك حتى التبرير خسارة فيه )) ..
بعد عدة محاولات من التحدث الفاشلة ، أخيراَ وجدت هى شجاعتها وصوتها للأعتراض فصاحت تقول بأصرار :
-(( كل اللى حصل مش هيغير حقيقة أنــ..... )) ..
قاطعها صوت والدها يقول مبادراً بنبرة قوية :
-(( أنا اللى هتكلم مش أنتى يا علياء )) ..
أدار رأسه نحو الغليظ الواقف بالقرب منه قائلاً بأحتقار :
-(( أنت عارف كام مرة جيت على بنتى بسببك .. عارف كام مرة جت تقولى مش مرتاحة وأدافع عنك .. كنت بقول بيحبها .. حجتى لنفسى وليها ولأخوها أنك متمسك بيها .. بس يا شيخ لو ده الحب فلمعون أبوه لو هيكسر اللى حيلتى .. وأنا بقولها قدام الكل وأولهم أهلك .. علياء أغلى من أن واحد شكاك زيك يوسخها .. أطلع برة بيتى )) ..
أتسعت حدقتيه وحاول تدراك الموقف بالتفاوض فرغم هوجائيته ، لم يتصور أن تتخذ الأمور ذلك المنحنى الخطير وخسارة الزيجة خاصة مع عائلة المناويشى بآموالهم الطائلة ، فسارع يهمس مستجدياً بعدما سلط نظراته فوقها :
-(( علياء ؟ أنا لسه بحبك )) ..
سارت برأس مرفوع حتى وصلت إلى باب المنزل ثم قالت بكبرياء بعدما فتحت الباب على مصراعيه :
-(( سمعت بابا .. برة )) ..
فى تلك اللحظة وبعد أدراكه لخسارته الحتمية كان كالثور المذبوح ، يترنح هنا وهناك مكتسحاً فى طريقه كل ما يقابله دون تفكير ، لذا صرخ يقول بأستهزاء بعدما دفعه جواد فى أتجاه الخارج :
-(( أنا ماشى فعلاً .. وأبقى ورينى مين هيعبرك بعدى )) ..
جائه الصوت اللاهث من خلفه يقول بتصميم :
-(( أنا )) ..
أستدار الجميع على صوت الزائر الذى أردف يقول بألحاح :
-(( يشرفنى لو علياء وافقت تكمل مشوارها معايا )) ..
************************************
زواج/ها ، ومنه ، هو شخصياً ، والأن تحديداً !! ، أية جنون هذا الذى أصابه وأباها ؟! ، وعن أي عقد قران يتحدثا ، حتى أن عقلها ورغم فقده لنصف أهليته جراء ما سمعه منه ، لازال يحافظ على بعض من أتزانه بما يكفى لجعلها ترفض تلك المهذلة ، عكس ذلك الخائن الذى يقفز بين أضلعها منذ رفضها القاطع لطلبه وركضها إلى الأعلى ، حيث غرفتها تختبئ بها خوفاً من الأندفاع والنطق بما تهفو إليه روحها ، مقاطعاً أبتسامتها البلهاء المرسومة فوق ثغرها بمجرد تذكرها موافقة شقيقها ومن وراءه والدها طلبه الجنونى ، طرقة ناعمة فوق باب الغرفة يليها دخول شقيقها يقول دون مقدمات بجدية رغم لين ملامحه :
-(( تعالى نتكلم شوية )) ..
أومأت برأسها موافقة بعدما أعتدلت فى جلستها ، تنظر إليه ولسان حالها يخبره بأن كلها آذان صاغية ، فتحدث يسألها بعدما تنحنح عدة مرات لتقنية حلقه :
-(( الحيوان اللى أطرد من شوية ده .. يهمك فى حاجة ؟! )) ..
حركت رأسها نافية فى صمت ، فأستطردت حديثه بعدما هز رأسه هو الأخر مستحسناً أجابتها يسأل بهدوء :
-(( شايفة فى يحيى حاجة تخليكى ترفضيه لشخصه ؟! )) ..
عاودت تحريك رأسها نافية بحدة شديدة جعلته يقاوم أبتسامة لاحت بالظهور على شفتيه ، قبل أن يردف بحنو :
-(( طب عشان نكون واضحين .. أنا جايلك مرسال من بابا .. بعد اللى حصل تحت .. بيقولك القرار كامل فى أيديكى .. واللى هتطلبيه هيتنفذ سواء وافقتى أو رفضتى .. بس كلامى معاكى دلوقتى بصفتى أخوكى .. ليه قلتى لأ على يحيى يا علياء ؟! )) ..
سألته بأستنكار :
-(( أنت اللى بتسأل السؤال ده يا جواد ؟! )) ..
أبتسم بتفهم ثم عاد يقول من جديد مستفسراً :
-(( وهو حاجة من اللى خايفة الناس تتكلم عليكم بيها صح ؟! )) ..
سارعت تنفى بقوة :
-(( لا والله أبداً .. مفيش بينى وبينه غير كل أحترام )) ..
قال مؤازاً :
-(( وأنا عارف ده ومتأكد منه .. مش عشان بثق فيكى وبس .. لا عشان واحد فتحتله بيتى وكان قد المسؤلية والثقة .. عشان شفته يوم ما قصرت وقف يسد مكانى .. ومش هتمنى أكتر من كدة ليكى )) ..
همست تقول معترضة :
-(( بس يا جود )) ..
تسائل يحثها على الأستمرار :
-(( بس أيه سامعك ؟! )) ..
قالت صادقة :
-(( يحيي أكبر من أنه يكون بديل .. مش عايزة أجرحه )) ..
أبتسم جواد بعمق ثم سأل معقباً بعدما تفرس ملامحها المرتبكة للحظات :
-(( وأنتى برضة شايفاه بديل ؟! )) ..
أجابته معترفة :
-(( جواد .. أنا طلبت من محمد ننفصل قبل ما يشوف الصور )) ..
هنا هتف شقيقها قائلاً بأرتياح :
-(( يبقى بعد كتب الكتاب أو الفرح مهمتك أنك تصارحيه بكدة .. وتعرفيه أنه مش بديل )) ..
صمت لوهلة ثم أستطرد يقول ناصحاً :
-(( عارفة ليه أنا مصر توافقى وموافق يتكتب الكتاب دلوقتى والفرح فى ميعاده كمان كام يوم .. عشان هو راجل لدرجة أنه مشافش نفسه بديل أو أن الموقف ده يسيئ له .. ولو ده دليل على حاجة فهو دليل على أنه واحد عـ... )) ..
صمت متداركاً خطأه ، قبل أن يعاود الحديث راجياً :
-(( وافقى يا عاليا وفرحى قلب الراجل اللى القهرة باينة فى عينه حتى لو مقالهاش .. مش كل الفرص لما بتروح بترجع )) ..
فتحت فمها ثم عادت وأغلقته مترددة ، فرغم توقها للنطق بالموافقه الغالية لازالت تخشى الخذلان ، أن يكون عرضه ليس لشخصها كسابقه ، معيدها من شكها الخانق صوت شقيقها يقول بنفاذ صبر :
-(( هــا .. موافقة ولا أنزل أمشيه )) ..
طالعته بحيرة ، كمن يقف على قمة جبل ، بقدر ما تتوق لعيش تجربة القفز تخشى السقوط من فوق الهاوية ، رافعاً جواد عنها الحرج عندما هتف يقول بحماس :
-(( السكوت علامة الرضا .. هنزل أبلغهم الموافقة وهطلعلك تانى عشان الأمضة )) ..
*******************************
بعد أنتهاء الأمسية بسلام ، وقفت داخل الحديقة مكتفة اليدين ، تتابع بقرنيتين شاردتين ، وريقات شجرتها المفضلة ، وهى تصارع من أجل شق طريقها الطويل فى الأعلان عن نفسها ، ولم تنتبه إلى وقوفه خلفها ، إلا عندما مد ذراعيه ، يحاوط بتملك خصرها ، مستنداً بثقل رأسه فوق كتفها الأيمن فى عادة أصبحت محببة بالنسبة إليها ، يليه صوته يسأل بنعومة مع مزيج من الأرهاق والأسترخاء :
-(( واقفة عندك بتعملى أيه فى الوقت ده ؟! )) ..
أغمضت عينيها تستنشق عبق عطره المخالط بدايات رحيق الربيع الخفيفة ، مستشعرة الدفء المصاحب لحضرته ، فكم هو عجيب حالها معه ، بهمسة واحدة منه تتبعثر كحبات اللؤلؤ المفروطة هنا وهناك ، ثم بضمة صغيرة من ذراعيه يجمعها من ذلك الشتات ، وبعد فترة من الصمت وقد هربت من فوق شفتيها جميع اللغات ، أستدارت بجسدها تواجهه ثم همست بأستغراب :
-(( اللى حصل النهاردة دة غريب أوى صح )) ..
سألها مستفسراً :
-(( قصدك جواز علياء ؟! .. هو فعلاً غريب .. بس النصيب ليه حسابات تانية غيرنا كبشر )) ..
تمتمت بفضول :
-(( فعلاً .. بس أنا لحد دلوقتى مش فاهمة .. أنتوا أتكلمتوا مع يحيى فى أيه جوة وعشان كدة طلعتوا موافقين بعد مانت كنت متعصب !! )) ..
أبتسم مطولاً وهو يشدد من ضم ذراعيه حولها ثم قال ببساطة :
-(( قال أنه بيحبها .. ومن اول مرة قابلها فى النادى كان عايز يرتبط بيها وبعدها أكتشف أنها مخطوبة )) ..
قالت معقبة :
-(( طب ما يمكن بيضحك عليكم أو بيقول أى كلام وخلاص .. مع أن علياء تستاهل كل الحب .. بس اصراره فى اللحظة دى كان غريب اوى )) ..
أجابها بنبرة مبحوحة :
-(( العاشق عينه فضحاه .. من وقت المستشفى مش من دلوقتى .. غير أنها كانت أمنية جواد اللى صرحلى بيها من فترة .. على كلاً هما أتجوزوا .. وبقى عنده فرصة يصارحها بحبه ده )) ..
همهمت موافقة قبل أن تقرر النطق بسؤال يلح على عقلها منذ فترة :
-(( طب جوازك .. يعنى علياء قالتلى أنك كنت متجوز .. قصدى حبيتها )) ..
طالعها مطولاً قبل أن يقول بنبرة خالية من المجاملات :
-(( حبيتها على قد ما حبتنى .. حب أنانى مجنون ومتهور .. وقفت عشانه قصاد كل اللى أعرفهم .. وأولهم عمرو الله يرحمه .. ورائف .. صاحب عمرو وصاحبى )) ..
همست مستنكرة رغم الألم الذى أعتصر قلبها من أجابته :
-(( رائف !! )) ..
أومأ برأسه مؤكداً ، ثم أردف يقول بجمود :
-(( عمرو ورائف كانوا صحاب .. أعز صحاب كمان .. يعنى فى وقت من الأوقات رائف كان أقرب لعمرو منى .. لحد ما ظهرت فى حياتهم "ريم" .. بخفتها ودلعها وحيويتها .. قلبت حياة رائف وكان ماشى وراها فى كل مكان .. لحد ما فى يوم قرر يعرفها على أنتيمه "عمرو".. ملك العلاقات زى ما بيسموه .. مش بس عشان فلوسه .. لا عشان قدرته على إقناع أي حد مهما كان موقفه صعب )) ..
أبتسم فى ألم ثم تابع متحسراً :
-(( وقتها لو قارنا فلوس عمرو برائف الأخير يخسر .. فكان طبيعى تبدء تهمل رائف مجنون ريم وتنصب شباكها حوالين عمرو الله يرحمه .. واللى برغم من فهلوته معرفش يفلت من مصيدتها بحكم تخيلها أنه الوريث المنتظر .. وتواقيع المناويشى كلها فى جيبه .. طبعاً قبل ما يظهر فى الصورة أنا .. المغفل التالت والأكبر .. فى الوقت ده كانت العداوة بين رائف وعمرو وصلت لأخرها .. خصوصاً بمرض رائف النفسى واللى مش لازم أحكيلك عنه واللى برضة كان واضح فى كل تصرفاته أيام الشباب )) .
زفر بضيق ثم أستطرد قائلاً بأختناق :
-(( وفى الوقت اللى كنت بحاول أحل فيه الخلاف بينهم .. كانت عرفت بمصادرها أن الشركة هتقع فى نصيبى .. وأنى الوحيد اللى هيوصلها لغايتها .. فبدءت تستنجد بيا من مضايقات رائف المستمرة ليها .. لحد ما لقيت نفسى بغرق فى كل تفاصيلها الوهمية .. وبحارب عشان أختارتنى أنا .. بس فى الحقيقة طلع ميهماش غير كام إمضة غبية .. تكسب بيهم بباها ومش مهم حد تانى .. حتى لو على حساب التفرقة بين أتنين خوات .. وفى الأخير خسرت أخويا كام سنة وكسبت عداوة رائف اللى حلف يردلى القلم عشرة .. مقابل وهم كان فى دماغى أنا وبس )) ..
شهقة عاجزة صدرت عنها ، وقد وقع سيل كلماته على قلبها كالنار ، تطالعه بأعين دامعة ، فإن كان للروح حديث ، فلا يوجد من يعبر عنه أبلغ من دموع عينيها السائلة ، بينما وقف هو يستمع إلى سؤالها الأخير والذى نطقته بنبرة مختنقة متهدجة :
-(( أنت .. لسة .. بتحبها ؟ )) ..
ظهر صراع مشاعره جلياً فوق وجهه ، فإجابة سؤالها فى الوقت الحالى ستفرض عليه نتائج أخرى حتمية ، بينما هو مدين لمن وارى جسده التراب بتنفيذ ذلك الوعد ، لذا عاد وأغلق فمه بعدما هم فى إجابتها ، فى حين حركت هى رأسها متفهمة بأحباط قبل أنسحابها من أمامه ، وتركته ينطق من ورائها بأشتياق ما ودت سماعه :
-(( كنت بكرهها لحد ما قابلتك .. وقتها محيتى حتى مرورها على حياتى )) ..
أما فى الأعلى ، وبعدما أنفجرت فى البكاء حتى ضاقت عليها رئيتها ، أرتمت فوق الفراش مستسلمة لضيف تعلم جيداً وتلك اللحظة تحديداً كم هو غالى ، متيقظة بعدها بقليل بكامل حواسها على صوت خطواته يليها دخوله وتبديل ثيابه ثم الأستلقاء جوارها ، وريثما هم بوضع ذراعه حولها ، سارعت بدفع كفه قائلة بحنق :
-(( ممكن تبعد أيدك ؟ )) ..
سألها بأستغراب شديد :
-(( حصل ايه ؟! )) ..
أجابته بحدة :
-(( الجو حر وأنا بضايق .. وبعدين عيب كدة )) ..
هتف مستنكراً :
-(( الجو حر شهر ٤ !! .. وبعدين عيب أيه أنا جوزك على فكرة مش من الشارع )) ..
أدارت رأسها تنظر إليه من فوق كتفها بعيون ترمى بشرر ، قبل أن تقول بأقتضاب :
-(( ولو جوزى ده ميدكش الحق تقرب منى براحتك .. ولو سمحت عايزة أنام )) ..
عادت برأسها إلى سيرتها الأولى ، بينما ظل هو ينظر فى أثرها ببلاهة ، قبل أن يعود ويتمدد جوارها ، وبعد فترة قليلة من الوقت ، شعرت بذراعه الأيمن ينسل إلى خصرها ، ورأسه تحتل المسافة الفارغة بين عنقها ومقدمة كتفها متمتاً بنعاس :
-(( فى حب زى الشجر .. مبيظهرش للناس غير بعد ما جدره يتمكن ويتشعب فى القلب كله .. وفى حب زى الطحالب .. تشوفيه كبير بس ملهوش قرار .. لما يروح تكتشفى أنك أرتحتى منه .. بس الأول لو سابك .. يطلع بقلبك وروحك )) .
حركت جسدها مقاومة تحاول الأفلات منه ، فسارع يقول مهدئاً بعدما شدد من حصار ذراعه لها :
-(( هششش .. أهدى .. مش طالب حاجه صدقينى .. هرتاح بس )) ..
**********************************
تمددت فوق الفراش بوضعية عكسية ، بعدما أنتهت من تبديل ثيابها وغسل وجهها من مساحيق التجميل التى غطته ، تتأمل بعدما رفعت كفها للأعلى فى مقابلة وجهها ، إصبعها الأوسط الفارغ من محبسه بأرتياح شديد ، ويكأنه قيد من نار ، يكوى جلدها ، وكم سعدت بالتخلص منه ، ورغم ذلك لازال فى القلب غصة ، تعود إليها كلما شردت بتفكيرها إليه ، زوجها ، الذى لم يطالب بحقه فى رؤيتها بعد عقد قرانهم ، بل شرع فى تنفيذ رغبتها فى عدم مقابلته ، دون بذله حتى أدنى قدر من الجهد ، يحثها به على تغير موقفها ، نعم لقد ندمت على طلبها ذلك ولكن ، تمنت لو فاجئها وأصر على التحدث معها ، رؤيتها ، أو أى شئ من ذلك القبيل .
أما على الجهة الاخرى ، وبعد وصوله منزله ، ارتمى بجسده فوق الأريكة الوثيرة والأبتسامة البلهاء لا تفارق وجهه ، فأخيراً ، وبعد ليالِ طويلة من العناء ، التأمل ، والدعاء ، أصبحت زوجته بشكل رسمى ، داره ، وكامل عائلته ، وما هى ألا أيام قليلة حتى تشرفه بالعيش معه ، لذا حتى ولو تدللت الأن أو رفضت مقابلته سيتركها تفعل ما يحلو لها ، ولن يضغط أو يجبرها على شئ لا تريد فعله وإن كان عكس رغبته شخصياً ، سيعطيها مساحتها الكاملة لتتقبله على مهل ، وبالطبع سيستعين بخبرته العلمية فى جعلها تتخطى وضعهم المفاجئ ، أما الأن ، فسينصاع إلى طلب قلبه فى الأستماع إلى صوتها ، عشقه الأول ، دون أدنى قيود تعرقله أو تشعره بالذنب ، وبعد الرنين الخامس تقريباً وصله همسها الناعم تجيبه بتوتر شديد :
-(( ألو ؟! )) ..
غمغم أسمها بنعومة أربكت كامل دفاعتها :
-(( علياء )) ..
أجابته بعد وهلة من الصمت :
-(( نعم )) ..
قال بنبرة سعيدة :
-(( مبروك يا مراتى )) ..
همست بأنفاس متقطعة :
-(( الله يبارك فيك )) ..
سحب نفساً عميقاً يحد به من أرتفاع وتيرة خفقاته ، قبل أن يستأنف حديثه المربك بسؤال فضولى عابر :
-(( بتعملى أيه ؟! )) ..
ودت لو أجابته بأنها كانت تصرف ساعتها الأخيرة على التفكير به ، ورغماً عن ذلك قالت موارية نصف الحقيقة :
-(( كنت بفكر في النهاردة )) ..
تحولت نبرته إلى الجدية ثم قال متفهماً :
-(( علياء بخصوص النهاردة .. فى كلام كتير محتاج أقولهولك .. بس عشان مضغطش عليكى هستنى الوقت اللى تطلبينى نتكلم فيه .. أنا عارف أن اللى حصل مفاجأة وصدمة ليكى حتى لو معترفتيش بدة لحد .. ومش عايز أبدء حياتى معاكى منتهز فرصة صدمتك دى .. وصدقينى ده السبب الوحيد اللى خلانى أمشى النهاردة من غير ما أشوفك .. بس من فضلك حاولى متتأخريش عليا .. وأفتكرى أنك حرة حتى وأنتى مرتبطة بيا )) .
أبتسمت بسعادة وودت لو أخبرته بمدى لهفتها لرؤيته ، التحدث معه ، وأخباره كيف أكتشفت حقيقة تعلقها به ، وكيف أستطاع إعادة الأمل المفقود إليها ، فلأول مرة منذ عامان ، يغمرها ذلك الشعور بأنها كائن حى ..
********************************
في صبيحة اليوم التالى ، وبعدما تأكد مسئول الزيارات من صحة الطلب ، أمر مجند الحراسة بإيصال الحبيس إلى غرفة المأمور الخاصةً ، تقديراً لهويته ، بينما قفز مساعده "كريم" فور رؤيته يدلف الغرفة الموثثة يقول مؤازراً :
-(( شدة وتزول يا باشا .. إن شاء الله قريب هتخرج من هنا صدقنى )) ..
حدجه رائف بعدة نظرات حانقة وهو يسحب المقعد المقابل له هاتفاً بسخط :
-(( سلامة ايه وزفت أيه وأنت والمحامى ال**** لحد دلوقتى مش عارفين تخرجونى !! .. أنت مش شايف حالتى عاملة أزاى من المكان ال*** ده !! )) ..
طأطأ مساعده رأسه ثم قال بحذر :
-(( نعمل ايه بس يا باشا .. ما على يدك كل حاجة .. كله بيقول قرار الحبس جاى من حد من فوق .. عشان كدة مفيش ولا طلب خروج بكفالة بيتقبل )) ..
تمتم رائف بغل من بين أسنانه :
-(( طاهر ال**** عرف يعملها ويقعدنى هنا .. بس أقسم بالله لما أطلع لهاخد روحه .. بس بعد ما أخلص حسابى مع الكلبة رنا .. وأنت قولى .. حابسها كويس ؟ .. ولا حتى دى كمان مش نافع فيها )) ..
سارع الرجل يقول مؤكداً :
-(( حابسها والله يا باشا .. مبيدخلهاش غير الأكل .. حتى الدكتور منعته عنها زى ما سيادتك أمرت )) ..
هتف مستحسناً بنفاذ صبر :
-(( طب كويس وأسمعنى خلينى أخلص .. مفيش حل قدامنا يطلعنى من القضية دى غير أن حد يعترف على نفسه بخطفها )) ..
سأل مساعده بتوجس :
-(( قصدك أيه با باشا البشوات ؟! )) ..
صاح به بعدائية :
-(( هى فيها قصد وشرح يا غبى !! .. روح شوف حد غلبان من العمال عندنا يعترف أن هو اللى خطفها .. ويقول أنى لما عرفت روحت أنقذها .. خلصنى ونفذ حالاً أنا بقالى أسبوع هنا .. مش لسة هستنى )) ..
قفز خادمه يشرع فى تنفيذ خطته الفورية ، قبل أن يوقفه صوته آمراً بطلب أخير :
-(( أه وأسمعنى .. شهادة ميلاد رحمة الأصلية والتانية مع قسيمة جواز أمها من أنور وطلاقهم جهز منهم نسخة وحطهم فى جواب .. عشان هنعمل بيهم زيارة لبيت أستاذ طاهر )) ..
***********************************
فى مقر الشركة ، وتحديداً داخل الطابق المخصص لركن السيارات ، هتف طاهر يسأل رفيقه السائر جواره قبل صعوده سيارته :
-(( ناقص حاجة بخصوص فرح عالية ؟! .. ولا خلصت كل اللى محتاجاه ))
أجابه جواد بثقة فخوراً :
-(( عيب عليك .. مفاضلش غير عمك أنور يجيب يحيي يبات معانا اليومين دول عشان يتأكد أن الفرح هيتم فى ميعاده .. غير كدة كله جاهز وتمام )) ..
قهقه طاهر عالياً بعد سماعه دُعابه قريبه ، مقاطعاَ تسامرهم رنين هاتفه فى أتصال طال أنتظاره ، فسارع بالأجابة ، حتى آتته البشرى بصوت الأجنبى يقول بفخر :
-(( أريد مكافأة البشارة سيد طاهر )) ..
هتف طاهر يسأله بأختناق :
-(( متقولش وصلتله ؟! )) ..
قال البلجيكى مؤكداً :
-(( نعم سيد طاهر .. لقد تم التوصل إلى مساعده الأول والذى أعترف بمخطط الجريمة كاملة .. والأن أذا أردت .. يمكننا التحرك للقبض عليه أو أنتظارك .. أيهما تود ؟! )) ..
كالناجى بعد فقدان قافلته فى عرض الصحراء المقفرة ، همس يقول بأرتعاش :
-(( هجيلك .. هركب أول طيارة واكون عندك )) ..
قاطع حديثه جواد يسأله بقلق :
-(( حصل حاجة ؟! )) ..
أومأ برأسه موافقاً بينما دموع الأرتياح تنساب من بين مقلتيه :
-(( وصلوا لقاتل عمرو )) ..
هتف جواد بأرتجاف بعدما أبتلع لعابه بصعوبة :
-(( مستنى أيه .. يلا بينا )) ..
أوقفه طاهر يقول بعقلانية رغم حالة الآرتباك التى أصابته :
-(( لا أنت خليك )) ..
صاح معترضاً وهو يتحرك بجسده مبتعداً عنه :
-(( أستحالة أخليك تسافر لوحدك )) ..
قال طاهر وهو يمسك بمعصم رفيقه :
-(( أسمعنى .. مش هأمن نسافر أحنا الأتنين ونسيبهم هنا لوحدهم .. خليك بدالى )) ..
بدا الأقتناع يظهر فوق ملامح جواد بينما أردف طاهر يقول برجاء قبل شرعه فى الأتصال بمدبرة منزله وطلبه منها تحضير حقيبة سفره :
-(( جواد .. رحمة أمانة فى رقبتك لحد ما أرجع )) ..
وبعد حوالى الساعة والنصف قضاها فى الطريق إلى منزله ، دلف يركض أولاً نحو غرفة مكتبه ، يبحث عن جواز سفره وكافة بطاقاته الأئتمانية ، قبل معاودة ركضه إلى الخارج وعينيه تجول بلهفة الطابق الأرضى بحثاً عنها ، حتى لمحها تهبط الدرج نحوه بعدما علمت بعودته ، تلاقيه فى منتصف المسافة بينهم ، فسارع يقول بنبرة مختنقة من كثرة الحماس بعدما وصل إليها ووقف أمامها :
-(( رحمة .. أنا مسافر ضرورى .. ولما أرجع فى كلام كتير أوى جوايا لازم تعرفيه )) ..
سألته بأرتياب :
-(( هتغيب ؟! )) ..
قال مؤكداً بأصرار :
-(( مش هقعد دقيقة زيادة عن المطلوب .. هخلص وأرجعلك على طول )) ..
عادت تسأل بقلق :
-(( طب حصل حاجة ؟! )) ..
قال ويده تشق طريقه إلى كفها :
-(( حاجة اتمنتها من زمان .. هخلصها وبعدها مش هسمح لحاجة تفرقنا .. أستنيني )) ..
همهمت موافقة بحيرة وحزن وهى تراقبه يهرول مبتعداً عنها حيث باب المنزل الخارجى ، ثم فى اللحظة التالية كان يعود إليها ، يطبق بفمه على ثغرها ، فى قبلة عميقة مطولة ، بث خلالها كل مشاعره المكبوتة ، قبلة تحمل من الوعود ما لايستطيع لسانه النطق بها ، وبعد فترة ليست بقليلة حرر شفتيها من بين خاصته على مضض قائلاً من بين أنفاسه اللاهثة :
-(( أستنينى)) .


 
تعليقات