رواية في لهيبك أحترق
الفصل الخامس الثلاثون 35ج 2
بقلم شيماء يوسف
كن شعلتي عندما تنطمس النجوم وتنطفىء الأنوار، كن منقذي عندما يجرفني موج اليأس ضد التيار، وكن دليلي عندما تختلط على عقلي الطرق وتتشابه الأقدار.
بعد مرور أسبوع.....
جلست في صمت فوق أحد المقعدين الموضوعين بداخل الغرفة تسبح في أفكارها الخاصة بعدما انتهت من لملمة حاجياته ووضعها داخل الحقيبة الصغيرة استعدادًا للرحيل، وجلس هو قبالتها فور انتهاءه من تبديل ثياب المشفى ينتظر حتى تنتهي رفيقته "غفران" من إجراءات الخروج وعينيه لا تحيد عنها، هي القريبة البعيدة، الشاردة عنه في عالم آخر، يخشى الإقرار بما يدور في خلده عمن احتلته، والاعتراف بما تراه عيناه وينكره قلبه، يشعر بأنه مكبل بقيود فرضت عليه فرضًا فمنعته من احتضان أحب الأشياء إليه، ناهيه عن إحساس الذنب الذي يخنقه وهو يراها هكذا، ذابلة منطفئة ألا عند تلاقي أعينهم سَوِيًّا، وقتها، يتحول ذلك الانطفاء إلى شعلة من نار تتوهج من كامل ملامحها، وكأنها طير السمندل، يعرف كيف ينتفض من رماده دون الاعتماد على أحد، بينما فلتت من بين شفاها هي شاغلة أفكاره، تنهيدة خانقة وقتما وصلت بمنحني تفكيرها عند عائلتها، وقد بارك والدها قرارها وأيدتها ربما للمرة الأولى والدتها، أما عن شقيقها فلازال التحفظ هو سيد موقفه وحديثه، خاصةً عندما باغتها يسأل بما جاش به صدرها الأيام الفائتة، هل تستطيع هي حَقًّا، علياء كما تعهد نفسها ويعرفها الجميع مجابهة الشقراء ذات النظرة المراوغة؟!، هل تتقبل في أعماقها حقيقة كذبته ومشاركة أنثى أخرى حياته ولقبه، ربما في اليوم الأول وبفعل الصدمة وتدفق الأدرينالين داخل أوردتها، قررت مدفوعة بحماس لحظي الوقوف والمواجهة والتغاضي عن تلك الكذبة التي تمزق نياطها، أما الآن وحتى من قبل تشعر بقوتها تنسحب منها على مهل ليحل محلها الندم، خاصةً وهي ترى تدلل الشقراء عليه، ومحاولاتها الفجة في الاقتراب منه، ولا يوقفها عن التراجع والانسحاب سوى تلك النظرة التي يرمقها بها من وقت لأخر ويختصها بها دونًا عن الجميع كما الآن، يحتضنها دون تلامس، ويبثها القوة والأمل دون حديث، فلا ينفك ذلك الهتاف الخافت بداخلها يخبرها بأنه يعرفها أشد مما تعرفه، ويذكرها أكثر مما تذكره، وينبض قلبه بحبها كما هو حال قلبها، مقاطعًا شرودها صوته يهمس اسمها في خفوت منتهزًا فرصة خروج قريبته لاستنشاق الهواء النقي داخل حديقة المشفى :
-(( عالية..... ))..
تحركت من مقعدها تجلس على الفراش جواره مستجيبة لندائه كمن كان ينتظره، قبل أن تتحدث قائلة في نبرة جامدة، ثابتة وكأنها هي من أرادت التحدث إليه من الأساس :
-(( هو أنت ليه لحد دلوقتي مسألتش أنا أزاي قبلت أقعد معاك وأنا زوجة تانية.. طبعًا أنت أكيد مش فاكر أنك مكلمتنيش في حاجة زي دي.. ده ألطف وصف ممكن يتقال.. لكن لو على لسان جواد أخويا.. فأنت كدبت علينا كلنا ))..
تأهبت كافة ملامحه واتسعت حدقتاه، ثم ابتلع لعابه بعنف تحركت على أثرها تفاحة آدم داخل حنجرته في قوة، فَحَقًّا ودون مبالغة يشعر بتلك الصغيرة تحاصره منذ استيقاظه، تسبر أغواره في كل مرة تنظر إليه، بل وتفاجئه بثباتها وكلماتها القوية، حتى أن شجاعته تخونه وحنكته تفر هاربة منه كلما تلاقت الأعين فيشيح بنظره بعيدًا عنها، بينما أردفت تقول في هدوء وجدية :
-(( أنا طبعًا عندي مبرر مقنع لكل ده.. وهو أن جوازنا كان مجرد...... ))
أوقف استرسال جملها المراد بها باطل صوت غفران ومن قبله دفعها لباب الغرفة على حين غرة كي تخبره في اعتيادية :
-(( كله تمام يا يحيي.. وقت ما تحب نتحرك بلغني ))..
كم كان مُمْتَنًّا لظهور رفيقته في تلك اللحظة والتي باقتحامها الغير مقصود للغرفة أمهلته الوقت الكافي للاستعداد والجاهزية للرد على ما انتوت زوجته قوله واستنبطه حتى إن لم تنطق به، فحتى الآن لم يعد عقله إلى العمل بكامل طاقته ويحتاج لمزيد من الشفاء لمجابهة نوباتها الغريبة، والأهم الاحترافية في احتوائها هي، صاحبته، علياء الهمة.
وبعد ما يقارب الساعة ونيف الأخرى وقف ثلاثتهم أمام عتبة منزله في حين أبت غفران الصعود، قبل أن يتقدمهم هو محتضن كف زوجته الشرعية إذ رفض رفضًا قاطعًا الابتعاد عنها، أو إفلات يدها من يده، بينما وقفت جيداء صاحبة لون الشعر الاصطناعي خلفهم على العتبة من الخارج جوار حقيبة ملابسها تنتظر ترحيبه بها أو حتى مساعدتها في حمل حقيبتها، وبعد فترة من اليأس هتفت تقول في عصبية ونفاذ صبر :
-(( طب أيه أدخل أنا ولا مفيش دَاعٍ؟!... يعني لو مش حابب تستقبلني في بيتك وعادي أنك تسيب مراتك واقفة برة بعد ما اتعرضت للخطر عشانك ممكن أشوف أي مكان تاني أقعد فيه ))..
ألتفت يطالعها في جمود دون تعقيب، ود لو أنقض عليها كما ينقض الليث المسعور فوق فريسته ولا يتركها ألا وهي صريعة تنازع الحياة في عرض الصحراء القاحلة، وبدلًا عن ذلك قال في اقتضاب :
-(( اتفضلي... ))..
تنحي بجسده قليلًا عن فتحة الباب كي يفسح لها المجال في الدخول وعليه تحرك جسد علياء خلفه بالتبعية نتيجة لالتصاق كفه بكفه ورفضه القاطع إفلاته مهما حاولت، فكلما همت بسحب يدها من خاصته، أحكم قبضته فوقه أكثر يمنعها من التخلي عنه، ثم أردف يقول في لا مبالاة :
-(( هتلاقي البيت في أوضتين.. تقدري تستخدمي اللي هناك دي ))..
أشار برأسه المضمد نحو الغرفة الإضافية والتي كان يحتلها بنفسه قبل الحادث، ورغم التحذير الجاد الذي صدع في عقل علياء نتيجة لاقتراحه لم تستطع منع الابتسامة الشامتة من اعتلاء ثغرها، بينما رمقته جيداء بنظرة حانقة ولم تعقب، بل واصلت دفع حقيبة ملابسها الكبيرة نحو الغرفة المشار إليها بعد أن خطت بها عتبة المنزل بنفسها، تلعن في خفوت قدرها الذي أوقعها في طريقهم، وبعد لحظات من المراقبة همست علياء تسأل في حيرة :
-(( الشنطة تقيلة عليها أظن محتاجة مساعدة؟! ))..
أجابها متتبعًا خطي الماكرة ولازال الجمود يكسي ملامحه ويغلف نبرته :
-(( للأسف وضع رأسي ميتحملش أني أساعدها ))..
حركت رأسها موافقة ثم غمغمت مقترحة على مضض :
-(( طب ما أنا ممكن أساع.... ))..
هتف يقاطعها متسائلًا في حدة :
-(( تساعدي مين بالظبط؟! ))..
صُدمت من عدائيته غير المتوقعة والمبررة فأشاحت بنظرها بعيدًا عنه، واستطرد هو حديثه في اندفاع غير محسوب بنبرة أقل حديه :
-(( هي خلاص وصلت أهو.. وبعدين أكيد زوحلف في الأوضة جوه ))..
رفعت رأسها تطالعه بلهفة، قبل أن تسأله في حماس وابتسامة الأمل تفرش محياها تِلْقَائِيًّا في انتظار إجابته حيث طغى شعور فرحتها بامتثاله الشفاء التام عن أي شعور أخر كان يراودها مُذ قليل :
-(( أنت فاكر أني بخاف منه ؟! ))..
تجمدت نظراته فوقها للحظات، يلعن في صمت تهوره، بل يلعن في الأصل عصبيته والتي تحيده عن التصرف والتفكير الصحيح، مخرجه من صمته بعد لحظات صوتها يهمس اسمه في إلحاح وترقب :
-(( يحيي!... ))..
هتف يجيبها في ارتباك وبجمل غير مرتبة :
-(( لا.. مانتِ بنت.. مش ده طبيعي؟!.. قصدي كلكم بتخافوا من الحيوانات.. أيوة صح.. أنا توقعت أنك بتخافي من زوحلف عشان كل البنات بتخاف من الحيوانات بشكل عام.. ولا أنتِ مش بتخافي؟! ))..
ألقى الكرة في ملعبها بسؤاله فأجابته وهي تطرق رأسها للأسفل في إحباط :
-(( ممكن.. أنا فعلًا بخاف منهم ))..
ثانية واحدة هي كامل المدة التي منحته إياها لتنفس الصعداء، قبل أن تعود وترفع رأسها نحوه من جديد وتسأله في حيرة :
-(( طب مادام كدة ليه محذرتهاش منه هي كمان ؟! ))..
حرك بؤبؤ يمينًا ويسارًا يستكشف مخرجًا مناسبًا لمأزقه، وقد حوصر داخل مصيدة وضعها هو بنفسه لنفسه ولم يجد بُدًا من الفرار منها سوي بأشغال عقلها بالأهم، لذا هتف يئن وهو يرتمي بجذعه نحوها :
-(( آاااه.. دماغي ))..
سارعت تسأله في لهفة وقلق بينما ذراعها تمتد في تلقائية نحوه لأسعافه :
-(( مالك يا يحيي.. حصل أيه ))..
طالعها بنصف أعين مغلقة، ثم أجابها مدعيًا الوهن بعدما ألقي بذراعه فوق كتفها فترنح جسدها الضئيل تأثرًا بثقله :
-(( صداع رهيب وعيني مزغللة.. لأ تعبان مش قادر أقف ))..
اقترحت في نبرة هامسة مرتعشة، تحاول ببنيتها الضعيفة الصمود وتحمل جسده المتكأ بحمله على جسدها :
-(( طب تعالي معايا الأوضة وأرتاح يمكن من المجهود ))..
تمتم موافقًا وهو يسير معها في بطء بعدما أحكم لف ذراعه الأخر حول خصرها وتركها تقوده داخل منزله الذي يحفظه عن ظهر قلب :
-(( فعلًا أنا محتاج أرتاح جوة سريري.. دخليني ))..
بمجهود مضني إذ أستمر في إلقاء ثقل جسده عليها كاملًا وعن عمد، سارت به الهوينى نحو الغرفة في ترنح ملحوظ، بينما انتهز هو فرصة انشغالها عن حركته في إمالة وجهه وغمر أنفه داخل خصلاتها يستنشق ريحقهم حتى وصلا أخيرًا إلى الفراش في رحلة استغرقت لحظات من وجهة نظره، وسنوات من المجهود الخارق بالنسبة إليها، فقد كانت تنهت وتلهث بقوة من فرط التعب عند استقرار قدماها أمام المخدع، بينما جلس هو يتابعها في أريحية وعينيه تلمع بالرضا والاستمتاع، قبل أن تفاجئه بالارتماء جواره في صمت تبحث عن طاقتها المستهلكة حتى عادت أنفاسها إلى رتابتهم الطبيعية وقتها اعتدلت في جلستها ثم قالت في نبرة جادة، رغم ملاحظته ارتجافها الطفيف :
-(( كنا بنتكلم في المستشفى قبل ما غفران تقاطعنا.. بس بما أننا هنتشارك نفس الأوضة يبقي لازم تفهم وتعرف وضعنا ))..
تنحنح يستعد للقادم دون تعقيب، في حين أردفت علياء تقول في نبرة حاولت جاهدة السيطرة على تهدجها :
-(( أحنا جوازنا مش طبيعي.. مجرد جواز على ورق.. أنا مريت بظرف كان محتاج منك تدخل.. وأنت مشكور مقصرتش.. غير كده مفيش حاجة تجمعنا.. وكنا متفقين على الانفصال قبل الحادثة بس كنا مستنين الوقت المناسب عشان نقنع الناس بانفصالنا وعليه فكرة ارتباطك من واحدة تانية ميهمنيش.. حتى بص.. ده شنطي هناك ))..
أشارت بطارف عينيها نحو حقائب ملابسها والتي أعدتهم سابقَا عندما قررت بالفعل الانفصال عنه، ولم تدري لما تفوهت بهذا الحديث كما خرج من فمها الآن ففي الصباح انتوت أخباره بالأمر ولكن بطريقة أكثر لطفًا، أما الآن فربما بعد تأكدها من حتمية عيش زوجته الأخرى تحت رعايته وفي كنفه أرادت الثأر لكرامتها وحفظ ماء وجهها، أو ربما ظنت أن نطقها بتلك الكلمات عاليًا قادر على إقناع المضغة الحمقاء التي تأن وجعًا داخل ضلوعها بالرحيل، لم تستطع الجزم، وكل ما عرفته أن نبضات قلبها كانت تنفجر داخل صدرها وتكاد أنفاسها تتلاشى بعد إخراج ما في جوفها وما ظنته سيريحها ولكن هيهات، فالصمت يؤلمها والتحدث يوجعها، وما بين الإثنين تقف عاجزة عن دحر العذاب الذي انغمست به روحها، أما عنه فقد استحالت لون عينيه إلى السواد الحالك من شدة الغضب فتوقع حديثها شيء وسماعه مسترسلًا ببساطة من فمها جحيم أخر، كيف أنكرت علاقتهم تمامًا وكأنهم غرباء، مجرد اثنان مرا في حياة بعضهم البعض وانتهى اللقاء بإيماءة وداع عابرة، وهو من كان يخطط لأخبارها الحقيقة!، حسنًا أن أرادت صغيرته اللعب فلها ذلك ولكن وفقًا لقوانينه؛ لذا وابتسامة ساخرة رفع عيناه إليها، ثم سألها في نبرة خالية :
-(( حد يعرف باتفاقنا ده؟!.. ))..
أجابته في جمود وقد بدت مصدومة من رد فعله المسالم الهادئ على عكس ما كانت تأمله :
-(( لأ ))..
قال ولازال الجفاء يكسى صوته الخشن ونظرته الشرسة :
-(( يبقي زي ما قلتي لأخوكي في المستشفى.. الأصول تفضلي لحد ما أرجع لطبيعتي.. ده عشانك طبعًا..عيب الناس تقول سابت جوزها تعبان.. ولوقتها متخافيش هراعي الحدود بينا كويس ))..
أومأت برأسها موافقة قبل انسحابها من أمامه تجاهد حتى لا تترك العنان لسيل دموعها في اتباع مجاريه أمامه، فقد فقدت من كرامتها الكثير وقد حان الوقت للملمة أشلاءها والبدء في بناء حطامها من جديد، يكفيها رثاءً، يكفيها بَكَّاءَ، يكفيها استسلامًا، لقد سأمت حالتها والآن حان وقت التغيير.
**********************
للمرة الأولى منذ ما يقارب التسعة أيام، وتحديدًا مُذ عودتها إلى المنزل، تستيقظ صباحًا بمفردها، محرومة من لذة الشعور بأنامله العابثة تطوف العاري من بشرتها وأنفاسه الساخنة الحارة تضرب عنقها، بينما صوته الرجولي الناعس الخشن يهمس اسمها بالقرب من قوقعة أُذنها يطالبها متوسلًا بفتح عينيها، وحقه في أول لقاء يومي بينهم، غير قادرة السيطرة على شعور الإحباط الذي أخذ يتسلل إليها فور مواربة جفناها ورؤية جانبه من الفراش فارغًا، ثم راح يطوقها ويفرض سياجه حول مهجتها، عندما مدت ذراعها في حركة تلقائية منها تتحسن دفء مكانه فوجدته باردًا كعلامة على هجره فراشه منذ فترة لا بأس بها، ربما ظهر له عمل طارئً أجبره على الاستيقاظ والذهاب باكرًا ولم يرد إزعاجها، هذا ما فكرت به في أمل تحارب شبح الحزن الذي يتراقص أمام عينيها الدامعة، ورغم منطقية الفكرة لم تستطع مجابهة احساس البرودة والفقد المغلف روحها لعدم تشبع عيناها برؤية محياه المحبب، منتشلها من سوداوية التفكير التي بدأت تسدل ستائرها من حولها، سطوع شاشة هاتفها معلنًا عن وصول رسالة إلكترونية، أخبرها حدسها على الفور بهوية مُرسلها، فسارعت تفتح التطبيق الذكي على عُجالة وتقرأ في لهفة أحرف رسالته والتي كان مفاداها كالتالي "صباح الخير يا شمسي الغائبة، صباحي ينقصه وجودك".
كم كانت تلك العبارة البسيطة كفيلة بذهاب حزنها، وإيقاظ الفراشات الناعسة بداخلها، بل والرفرفة فوق معدتها هنا وهناك، قبل أن يصلها منه رسالة أخرى يعتذر منها عن الخروج باكرًا دون إيقاظها، وعن عدم مقدرته على العودة إلى المنزل قبل الثامنة مساءًا، ومن ثم وأخيرًا يطلب منها الذهاب إلى الغرفة المقابلة لغرفتهم ورؤية ما يوجد فوق الفراش، فتحركت مدفوعة بفضولها الحارق تهرول إلى الغرفة المعنية حتى دون غسل وجهها، وتسلط أنظارها مباشرةً فوق الفراش حيث أخبرها، قبل أن تلمع عدستيها بانبهار مما تراه اللحظة، وقد خطف أنفاسها الثوب المفرود بلونه العاجي، تمرر بقلب خافق نظراتها بالتزامن مع ظهر يدها فوق قماشه الناعم وتتلمس بشغف التطريزات اليدوية بيضاء اللون، بينما يقبع جواره حذاء عالي الكعبين يماثله في الروعة ودقة التنفيذ، أما هناك، تحديدًا في طرف عّلاقة الملابس تدلت ملاحظة صغيرة مكتوبة بخط يده، يطلب منها إذا وافقت على تشريفه وقبول مشاركته ما تبقى من حياته، انتظاره عند بهو الاستقبال في الطابق الأرضي لمنزله في تمام الثامنة.
وكطفلة صغيرة سأمت تبلد غيوم الشتاء وترتقب سطوع شمس الربيع حتى تركض إلى الخارج لاهية بين المروج دون الحاجة إلى الاستئذان، وكمراهقة جريئة طائشة تبحث عن الصخب وروح المغامرة بين أوجه الفتيان، وكأنثى ناضجة تنتظر مَجِيء الحصان الأبيض حاملًا فوق ظهره فارس الفرسان، جلست فوق حافة الفراش تعد اَلثَّوَانِي حتى الثامنة بفارغ الصبر، وقد انتهت من ارتداء لباسها الخاص وتصفيف شعرها ثم تركته منسدلًا كما يحبه دائمًا وأخبرها، وقبل الثامنة بدقيقة واحدة كانت تهرول هابطة إلى الطابق الأرضي حيث ينتظرها وقد حان أخيرًا موعد اللقاء، أما في الأسفل عند نهاية الدرج فقد وقف طاهر بحلة سوداء اللون يناقضها ويكملها قميصه الأبيض الحريري يترقب ظهورها وجوارحه تكاد تصرخ مطالبًا بحقه بها، يشعر وكأن قلبه يتضخم خلف أضلعه ويهدر في جنون من فرط الاشتياق، ولا يقو سوي على تصبير روحه العطشة بقرب الأرتواء، حتى جذب أنفه عطرها الأخاذ قبل أن تجذب حركتها عيناه، فرفع رأسه في عُجالة يناظرها قبل أن تتسمر عدستاه فوقها، يا لها من من فتنة!، لمعت عيناه بل أشرق كل محياه وهو يطالعها تهبط الدرج على مهل، وقد تعلقت نظرات أحدهما بالأخر وأعلنت أهدابهما عليهما العصيان، ترفض الرمش حتى لا ينقطع بينهم سيل الوصال، يتابع تقدمها منه بنظرات تشتد بلمعة حاجة بدائية لا تحتاج إلى تفسير او اعلان، حتى أن الكلمات هربت منه ولم يعد يتذكر ما أراد النطق به، فاكتفي برفع ذراعها إلى فمه يطبع قبلة ناعمة فوق طارف إبهامها بينما نظراته تزداد قسوة واسوداد، ثم أخيرًا نطق يطلب بصوت مرتعش خانق بعدما احتضن كفها داخل يده الكبيرة واستدار :
-(( تعالي معايا ))..
وبقلب يخفق في جنون تَأَثُّرًا بعنف نظراته، همست تسأله في ارتجاف :
-(( أحنا هنخرج ؟!.. أنا بشعر... ))..
توقف عن الحركة ثم ألتفت إليها وعاد يطبع قبلة مطمئنة فوق جبهتها، قبل أن يقول بصوت أجش خافت :
-(( متقلقيش هنطلع بس الجنينة.. ومفيش حد غير أنا وأنتي أطمني ))..
طاوعته تسير خلفه وقد استسلمت كُلِّيًّا لإرادته، تتبع خطاه في صمت كما اتبعه قلبها منذ قديم الزمان، تلتفت حيث ألتفت وتتوقف أينما توقف، فيكفيها شعور الأمان الذي يغمرها طالما يسيران جنبًا إلى جنب، وبعد عدة لحظات لاح أمام ناظريها خيمة بيضاء منصوبة بالقرب من شجرتها المفضلة، بدأت تفاصيلها الخلابة بقماشها المخرم وقوائمها الخشبية الفاتحة تظهر لها بوضوح كلما أقتربا منها، حتى توقفا أمامها وأزاح هو بكفه الحر إحدى طرفيها وأشار برأسه؛ كي يحثها على الدخول، فأطاعته تخط داخلها مترقبة وخياله يتبعها صابغًا ظله القاتم فوق جسدها، مستمعًا إلى شهقة عدم تصديق خرجت من بين شفتيها المصبوغتان بحمرة قانية تعبث باتزانه، تتأمل في ذهول داخل الخيمة، والأنوار الدافئة المتراصة على جوانبها فتضيف جو حميمي شاعري، بينما يتدلى من سقفها بالونات تماثلها في البياض مع أخرى عاجية اللون، أما عن قوائمها فقد زُينت تمامًا بورود الياسمين حتى الأسفل، ثم امتدت إلى الأرضية تكسيها وتغمرها بعطرها الفواح، أما هناك وفي أحد الزوايا، وضعت طاولة صغيرة وفوقها مجموعة من الصناديق المغلفة متفاوتة الأحجام، وعلى الفور عرفت دموع السعادة الطريق إلى عيناها، فاستدارت تهمس اسمه في ذهول :
-(( طاهر! ))..
وضع إبهامه فوق شفاها المرتجفة يمنعها من الأسترسال، ثم وبعد أن سحب نفسًا عميقًا يحد به من فوران دمه المشتعل، قال في أختناق :
-(( المفروض ده وقتي عشان أتكلم ))..
تناثرت حبات العرق فوق جبهته، وَحُشِرْت العبارات داخل حنجرته، عاجزًا عن التركيز خاصةً وهو يراها أمامه هكذا، تتوهج كلما أمعن النظر بها، يعاني حتى يجمع فرط كلماته في جملة واحدة مفيدة وقد وصل فقدانه السيطرة إلى حد ذروته، يشعر بالنيران تحيط بهم حتى أضاءت الظلام من حولهم، كلاهما واقفان أمام بعضهم البعض في لحظة منفردة خارج حدود الزمان والمكان، يهدر قلبيهما معًا في توافق يخطف الأنفاس، خطوتين هي كامل المسافة التي تفصله عن ضمها وبالتالي عن انتهاء عذابه، ومن بين لهاثه المشتعل هتف يقول في نبرة محمومة، بينما أصابعه تبحث داخل جيب سترته عن شيء ما :
-(( رحمة أنا بحبك.. ويشرفني تكوني الإنسانة اللي أكمل باقي حياتي معناها.. وأكبر معاها.. وأشوف عيالي منها.. وأموت وأنا جنبها ))..
أخرج علبة مخملية صغيرة وفتحها بأصابع مرتعشة كاشفًا عن خاتم زواج ذهبي يكمل ما وضعه في بنصرها الأيسر من قبل ، ثم أردف يقول في توتر :
-(( أنا من قبل ركعت قدامك وقدمتلك قلبي.. اعتذرت واتوسلتلك متسبنيش.. ودلوقتي بقدمه للمرة التانية ومستني منك تقبليه لأخر الحياة.. ولو وافقتي وعد هصونك لأخر يوم في عمري ))..
أنهى جملته بالجثو فوق ركبته ينتظر إجابتها في نفاذ صبر كمن يجلس فوق اللهب، بينما أجهشت هي في البكاء قبل أن تركع جواره تحتضن بأكفها المرتعشة جانبي وجهه وتقول من بين عبراتها المختنقة ورأسها لا تكف عن الإيماءة بالموافقة :
-(( طب..طبعًا.. طبعًا أوافق.. أنا بحبك يا طاهر ))..
تنهيدة ارتياح مع ابتسامة فرح شقت طريقها نحو فمه فور سماعه ردها، وبعد أن ضمها إليه يعتصرها بين ذراعيه ويوزع قبلاته الحارة فوق وجهها، همس يسألها في حنان :
-(( طب بتعيطي ليه؟! ))
أجابته في دلال من بين دموعها المنهمرة :
-(( عشان بحبك.. وفرحانة ))..
عقب مدللًا وهو يمسح بأنامله عبراتها المنسكبة :
-(( معنديش مانع أنك تحبيني.. ومفيش حاجة تسعدني أكتر من فرحك.. بس ممكن بلاش دموع.. كفاية اللي نزل من عيونك الحلوة دي زمان.. واللي كنت أنا واحد من أسبابه ))..
قالت معترضة وهي تُخفي وجهها في صدره تبحث عن مخبأها :
-(( أنا معيطتش بسببك ))..
صمتت لوهلة وكأنها تذكرت معاناتها يوم أبتعد عنها، ثم عادت تقول متراجعة في تمرد وهي ترفع أصابعها للعد أمام وجهه :
-(( لا عيطت.. مرة أو أتنين.. أو يمكن أكتر ))..
قبل أناملها المرفوعة أمام عينه كُلًّا على حدة، ثم قال في إحباط :
-(( يعني لسه زعلانة مني!.. يا حظك يا طاهر.. يعني لسة متعاقب؟ ))
حركت رأسها نافية على مضض قبل أن تعود وتخبأ وجهها داخل عنقه في خجل فطري، فأردف يقول في جدية بعدما تنحنح مطولًا :
-(( بصي أنا عندي كلمتين كمان محتاج أقولهم فخليني أركز بالله عليكي.. أنا أصلًا كنت مرتب كلام كتير كله طار ))..
رفعت رأسها تطالعه في خجل وحمرة، فأستطرد يقول وهو يسحب أحد الصناديق الموضوعة فوق الطاولة ويفتحه، ثم سلمها الأوراق التي بداخله :
-(( خدي يا رحمة.. ده مهرك ))..
قطبت جبينها وهي تقلب الأوراق بيدها في عدم فهم، ثم سألته مستنكرة :
-(( أيه ده ؟! ))..
أجابها وفمه يقتنص من شفاها بعد القبلات الخاطفة عابثًا بحمرتها في رضا وانتصار :
-(( ده اختصارًا للوقت عشان مش هستني تقري كل الورق.. ده مهرك.. شقة باباكي ومامتك القديمة.. بقت بأسمك مش ناقصها غير توقيعك ))..
وضعت كفها فوق فمها بعدما شهقت في عدم تصديق، بينما أستطرد هو حديثه الجاد مفسرًا :
-(( في مذكراتك عرفت قد أيه البيت ده غالي عليكي.. وملقتش حاجة ممكن تكون مهرك أحسن منه.. ألا لو أنتي طلبتي طبعًا ))..
همست معترضة وقد عادت دموع الفرح تلمع وتكسي مقلتيها :
-(( بس أنا مش عايزه حاجة.. أنت كفاية عليا ))..
قاطعها رافضًا بعدما تحرك وانتصب في وقفته وساعدها على فعل المثل :
-(( ده حقك وشرع ربنا.. ولو حابة أروح أطلب أيدك من عمك وعمي تاني مش هتأخر.. طبعًا شبكتك هنا بس أنا بقول شوفيها وقت تاني كفاية علينا كلام كدة ))..
لم يمهلها فرصة الإجابة أو الاعتراض فذمجرد انهاءه جملته، سارع بجذب ذراعها نحو الخارج يعود بها إلى المنزل في خطوات مسرعة، وقبل خطاهم للداخل هتف يوقفها في لهفة قائلًا :
-(( رحمة ثواني ))..
توقفت عن السير ثم سألته في حيرة :
-(( حصل حاجة ؟! ))..
أجابها ملاطفًا بعدما أنحني بجذعه نحوها ووضع كفيه خلف ركبتيها كي يحملها :
-(( مفيش.. بس بيتك مش بس هتدخليه وأيدي في أيدك وراسك مرفوعة.. لا وأنتي متشالة زي أي عروسة ))..
غمز لها مشاكسًا وهو يخطو بها إلى الداخل ويتسلق بها الدرج حتى وصلا غرفتهم ودفع الباب بقدمه يغلقه من خلفهم، وقتها أفلتها على مضض بإعادة وضع قدمها إلى الأرضية في رفق، فهمست تقول في اعتراض واهن وهي تحيد بعينيها عنه، بينما الطنين الناتج عن شدة ارتفاع توترها يكاد يصم أذنيها :
-(( طاهر أنت أكيد لسة تعبان ))..
كان حديثها يخبره شيء، بينما نظرات عينيها المعلقتان بشفتيه تخبره شيئًا أخر، لم يعد يطيق الصبر، حتى أن ذراعه قد تحركت في إرادة منفصلة، أو ربما متصلة، وبدأت أصابعه تسبح فوق بشرتها وعنقها وكتفها العاري، فتبعثر تعقلها وتستجيب مشاعرها، يرتفع صدرها صعودًا وهبوطًا يكاد يلامس صدره المهتاج، وينافس جنون تسارع أنفاسه، وتبقى نظراتها المشدوهة بلمساته مسلطة على فمه الذي يهمس أسمها في لوعة، فلم تشعر ألا وهي تميل نحوه راضية، وقد كانت حركتها بالنسبة إليه أكثر من كافية ليلاقيها في منتصف الطريق، يلتهم في جوع شفاها وكل ما يصل إليه فمه، فتتشبث به هي بجنون تطالب بحقها به كما تفعل كل خلاياه، وتأوها بالرضا كان رسالة واضحة عن نطقها بالقبول، وقد أنتصر العشق عن الهروب، الفرقة، والنكران.