رواية في لهيبك أحترق
الفصل الثلاثون 30
بقلم شيماء يوسف
أأقـولُ أحبّكِ يَا قمـري؟
آهٍ لـو كـان بإمكـاني
فأنـا إنسـانٌ مفقـودٌ
لَا أعرفُ فِي الأرضِ مَكَانِي
ضيّعـني دربي.. ضيّعَـني
اسْمِي.. ضيَّعَـني عنـواني
تاريخـي! مَا ليَ تاريـخٌ
إنـّي نسيـانُ النّسيـانِ
إنّـي مرسـاةٌ لَا ترسـو
جـرحٌ بملامـحِ إنسـانِ.
-نزار قباني.
معلش قبل الفصل كده عندي تنويه هيفصلكم بس أنا حطيته هنا عشان تقروه كلكم 😈.. في الحقيقة اني تجاهلت التعليق ده أكثر من مرة لحد ما قررت أرد بابليك عشان أقفله نهائي.. دلوقتي في ناس بتدخل تطلب مني أقلل السرد شوية عشان بتزهق وازود في الحوار بين الأبطال.. طب بالنسبة للحوار بين الأبطال أنا بشوف اني بحط الحوار المطلوب بالظبط لا بقلل بحيث اني باكل منكم التفاصيل ولا بزود ف كلام بين الابطال بلا هدف ولما بيكون جزء محتاج كلام مسترسل بينهم بقلل السرد واديله حقه وزيادة.. أما عن نقطة السرد نفسها فأنا يا جماعة بكتب زي ما اتعلمت وبحب أقرأ.. انا بالنسبالي كقارئة السرد هو اللي بيعيشني جوة الأحداث وبيرسم المشهد قصاد عيني عشان اعيش فيه هو اللي بيدخلني في عمق الشخصيات وافهم اللي متقالش ع لسانهم واللي بين السطور.. واي رواية بشوفها قليلة السرد مبستمتعش بيها بالعكس.. ومقدرش أكتب وأنا عارفة أن في حركة أو رد فعل أو فكر جوة الشخصية موضحتهوش للقارئ عشان يعيشها معاه.. فبعتذر بس بالنسبالي الطلب ده مش هنفذه.. متأكدة أن الكتابه مدارس وفي غيري كتير هتلاقوا طلبكم عنده.. ف معلش أنا هقول الجملة الجايه بألطف طريقة ممكنة 🙈 متجيش على حد بيحاول يقدم حاجة صح وتطلبي منه ينزل بمستواه.. ببساطة اللي بيتخنق من سردي ويعديه بالشرح اللي جواه ممكن يوفر تعبه ويتجه لكتاب محترمين جدا من مدارس أخرى بيفضلوا السرد المختصر ❤️❤️
وحاجة أخيرة اتمنى تعذروني عليها بس احتمال يوم الخميس مينزلش فصل.. احتمال مش اكيد عشان متزعلوش..
متنسوش الفوت و.. شكرا ودمتم ذواقيين 😘
يظل العقل البشري يعمل بكامل كفاءته في اتخاذ كافة القرارات الصحيحة حتى يتدخل القلب في الوسط، وقتها يبدأ السقوط في سلسلة لامتناهية من الإخفاقات المزرية، والإسقاطات المخزية، فمن يلوم العاشق المشتاق إن حادت حكمته عن الصواب!.
تنهد في حنق كاتمًا دخان غيظه المتصاعد بداخله بعدما تململ في مقعده، يدلك براحة يده مؤخرة عنقهِ المتشنج بعد قضائه السويعات الأخيرة منكبًا على مراجعة كافة البنود المالية استعدادًا للاجتماع المزعوم، وقبلها معايشته ليلة مؤرقة حيث نجحت يد الندم في أريق نومته وسرقة الراحة من مرقده، يسب ويلعن تردده في طلب الوصال كلما تذكر حشرجة صوتها ونظرة الخيبة الأخيرة التي رمقته بها قبل ابتعادها عنه، يتسائل في لوعة عن سبب صمته عندما لزم الكلام، ويبحث عن تبرير لتراجعه عندما حتم عليه الإقدام!، ولم يعيده من رحلة تقريع النفس وجلد الذات سوي صوت أحد موظفي القسم يستأذن في الخروج بعد انتهائه من مناقشة أخر العروض المقترحة مقررًا هو الأخر ترك مقعده والتحرك، وقد شعر بتمكن الغضب من دواخله وحولهُ إلى قنبلة موقوتة تسير على أرجل، ربما تُلهيه كثرة الحركة ويؤخر اهتمامه بشؤون العمل والموظفين من لحظة انفجاره؛ وعليه توجه شارد الذهن إلى الخارج ينتوي بذلك التجول قليلًا في الطابق الأرضي ومنه ينتظر وصولها، قبل لمحه طيف المساعدة الخاصة بقريبه تخرج من المكتب المجاور له، فهتف يستوقفها متسائلًا في استغراب بجبينه العابس :
-(( هو جواد جوه ؟! )).
أجابته الموظفة مؤكدة :
-(( آه يا فندم.. وطلب مني ادخله العقود يبص عليها ))..
حرك رأسه يصرفها من أمامه في حدة بشفتين مذمومتان للأمام، وقد علم وجهته التالية، وقرر بمن سينفث موجات غصبه، مندفعًا بذلك الغيظ إلى داخل غرفة رفيقه هاتفًا في عصبية بعدما أرتمي بجسده فوق المقعد الفارغ المقابل لضحيته :
-(( يعني الباشا هنا وسابيني مفحوت من الساعة سبعة في المراجعة لوحدي!.. كتر خيرك ))..
رمقه جواد بنظرة خالية ولم يُعقب، الشيء الذي أثار القلق بداخله، فأردف يسأل في أرتياب وقد تقوص أحد حاجبيه تِلْقَائِيًّا منتظرًا في لهفة الحصول على الجواب :
-(( مالك!!.. حصل حاجة؟!.. عمي! ))..
أجابه جواد في إرهاق جلي :
-(( متقلقش هو كويس.. وأنا أساسًا لسة واصل من ربع ساعة وهبدأ أراجع معاك ))..
رفع طاهر معصمه ينظر في ساعة يده مستنكرًا، فقد جاوز العقرب الحادية عشر بنصف الساعة، ولم تكن من عاداته هو أو قريبه التأخر في الحضور، ثم أن هناك حالة من الحزن لم يعتاده بها تخييم فوق ملامحه، وأخيرًا بعدما أمعن النظر به لاحظ عدم هندمة بذلته، فعاد يسأل من جديد في سخرية :
-(( ومتأخر ليه.. كسرت بخاطر اللي بتحبها امبارح! .. ولا قضيت ليلتك تلعن غبائك! والصبح اتقلبت من فوق السرير ع الشركة من غير حتى ما تحلق ذقنك ))..
تأمله جواد مطولًا مستسلمًا بعد فترة إلى شبح ابتسامة بدأ يغزو شفتيه، فالأمر لا يحتاج إلى كثير من الفطنة لمعرفة من المعنّي بحديثه، قبل أن يقول في جمود بعدما زفر مطولًا :
-(( حكم الإعدام اتنفذ في رنا.. النهارده الصبح ))..
انتفض طاهر من مقعده فور سماعه الخبر، قاطعًا المسافة الفاصلة بينهم يسأل في تبجيل، فللموت حُرمة لا يقلل منها سوي الفاجر :
-(( وأنت عملت إيه!! ))..
إجابه في نبرة خالية بعدما ترك مقعده هو الأخر وتحرك يقف قبالة رفيقه :
-(( عملت اللي لازم يتعمل عشان لينة.. استلمت جثتها واستأذنت بابا تتدفن في مقابر العيلة ))..
صمت لوهلة ابتلع خلالها غصة أصابت حلقه، ثم استطرد يقول في نبرة خرجت مختنقة رغم مجاهدته لنطقها طبيعية :
-(( عارف انها متستاهلش.. بس في الأخر عايز لينة لما تكبر وتفهم وتبدأ تسأل عن قبر أمها.. تكون عارفة مكانه.. مش عايز بنتي تتعاير بذنب أمها يا طاهر ))..
طوقه طاهر بذراعيه بعدما ربت على وجهه يشد من أزره في عناق صامت، وبالرغم من صمته إلا أنه كان أبلغ من أعمق حروف المواساة التي عرفها التاريخ، وبعد لحظات أستعاد خلالها جواد رباطة جأشه، هتف مدعيًا الصمود كعادته، يستفسر في تهكم :
-(( الباشا اللي مش نايم ومش حالق دفنه وسايب قميص زرايره مفتوحة عمل إيه بليل بعد ما سابنا ))
غمغم طاهر في إعراض لا يريد حَقًّا إثقال كاهله بمزيد من مشاكله الخاصة :
-(( متشغلش بالك بيا.. وعلى فكرة أنا خلصت مراجعة كل حاجة والعقود علي التوقيع.. إن شاء الله نمضي النهارده ونبدأ شغل.. اغسل وشك أنت ورتب نفسك على ما يوصلوا وأنا كمان هروح اشرب كوباية قهوة واقابلك في أوضه الاجتماعات ))..
أومأ جواد برأسه موافقًا قبل مراقبته انسحاب الأخر وقد أنهكه كم المشاعر المكبوتة بداخله فلم يستطع الانغماس في متابعة أعمال اليوم، وكم كان مُمْتَنًّا لشعور رفيقه به دون حديث، فهكذا الصداقة الحقيقية ليست مجرد كلمات عميقة أو حتى فارغة، بل هي العين التي ترى جرحك، عندما تظن أنك نجحت في إخفاءه عن الجميع، وهي اليد التي تسارع في رفع جسدك، عندما توقعك الحياة سقِيَطَا بين المصاريع.
*****************************
نوبات ألم متفاوتة ما بين الحدة والخفوت ظلت تُباغتها أثناء نومها، ضاربة أسفل ظهرها قبل أن تمتد فتشمل منطقة الرحم وما يتضمنه تجاهلتها منذ ساعات الصباح الأولى، واستمرت في فعلتها ظَنًّا منها أنها طريقة جنينها في التعبير عن رفضه وضع نومتها، إذ استلقت فوق شقها الأيمن مريحة رأسها وذراعها فوق صدر رفيق دربها، فتنازلت مع ازدياد قوة الضربات تُعدل من وضعيتها إلى ما فوق ظهرها تارة وعلي الجانب الأخر تارة أخرى عل ذلك يخفف من وطأة توجعاتها التي باتت لا تحتمل حتى تمادى الألم قوة احتمالها وقتها همست توقظه في أنين، بعد ساعة كاملة من التألم في صمت :
-(( بدر.. يا بدر قوم الحقني ))..
لم تتحصل على الاستجابة المطلوبة منه إذ لازال يغط في نومه العميق، فحركت كفها المتشنج حاله كحال سائر جسدها تلكزه في معصمه هاتفة اسمه للمرة الثانية بالتزامن مع موجة جديدة ضربت أسفلها فخرج ندائها على هيئة صرخة عالية :
-(( اااااه... بــددرررر ))..
انتفض من ثباته على صخب نحيبها يسألها مذعورًا في نبرة ناعسة :
-(( مالك يا أفنان !! ))..
صاحت تخبره من بين تأوهاتها الباكية :
-(( معرفش يا بدر وجع... وجع في بطني هيموتني بقاله كام ساعة وبيزيد.. مش قادرة أتحمله.. أعمل حاجة عشان خاطري ))..
فرك بكفه المرتجف وجهه يحاول بذلك الاستفاقة قائلًا في إشفاق واضح :
-(( متخافيش يا حبيبتي خير إن شاء الله.. يمكن هتولدي! ))..
أجابته في إعياء وقد استحال لون وجهها إلى الإصفرار :
-(( هولد ازاي وانا لسة في أول السادس.. انا قلت يمكن حاجة عارضه وتروح.. بس التعب بيزيد حاسة روحي بتتسحب مني.. اتصرف ))..
لاحظ شحوب ملامحها وابيضاض شفاها فسارع يقول في توجس وهو يدور حول نفسه يحاول على عُجالة ارتداء ملابسه :
-(( طب يلا على المستشفى.. حطي أي حاجه عليكي لو تقدري ويلا بينا مش هستني ))
أطاعته وقد بلغ بها الألم مبلغه تستند بثقل حملها المتزايد على ذراعه حتى وصلا إلى المشفى الخاص ودلفا إلى غرفة الكشف، وبعد استماع الطبيبة إلى شكواها واخضاعها إلى فحص شامل، خرجت تقول في أسي موجهة الحديث لبدر المنتظر في الخارج على أحر من الجمر :
-(( للأسف يا فندم الجنين أتوفي.. محتاجة موافقتك وتوقيعك عشان الجراحة ))..
وقع الخبر فوق رأسه كالصاعقة، ولم يعرف كيف يرتب ما يدور في عقله من تساؤلات فطفق يتمتم كلماته الغير مرتبة في عدم استيعاب :
-(( ليه.. جراحة ؟!.. هيطلع وهو ميت ))..
اجابته الطبيبة شارحة :
-(( الجنين شبهه مكتمل ومفيش طلق.. يعني علميًا مفيش طريقة نخرجه بيها غير الولادة القيصربة عشان كده محتاجة توقيع حضرتك على الأوراق في أسرع وقت.. وجوده دلوقتي معناه سم بيجري في دمها.. لازم نتصرف ))..
أومأ برأسه موافقًا قبل سيره كالمغيب خلف الممرض حيث أشارت الطبيبة إليه بكفها منذ لحظات كي يتبعه وينهي الإجراءات اللازمة، ثم عاد وأرتمي بجسده فوق احد المقاعد يتابع بعينين ضبابيتين زوجته وهي تُجر بالفراش المدولب نحو غرفة العمليات، يراقب في حسرة حلمه الهارب من بين يديه للمرة الثالثة.
*********************************
نجحت خلال الفترة الصباحية في صرف تركيزها عنه إذ انشغلت بمهمة التحدث إلى شقيقها وأخباره بشأن مسكنهم الجديد وترتيب موعد الانتقال إليه فيما يناسب توقيته، يليه خروجها مهرولة فور علمها بوصول السائق الخاص في موعده المحدد كما أخبرها البارحة، وما تلا ذلك من رحلة القدوم إلى المقر الرئيسي للشركة والذي تفاجأت بتغير موقعه فقط منذ ساعة مضت عندما سلك السائق طريق مغاير لما تعلمه فبادرت تسائله في توجس عن وجهتهم، ووقتها أخبرها بالمستجدات التي غفل عن ذكرها "زوجها"، أما الآن وتحديدًا فهي تسير الهويني مشغولة البال كعادة جميع أيامها الأخيرة داخل الممر الخاص بطابق المديرين، حيث أشارت لها المساعدة الشخصية منذ قليل، تبتغي بذلك الوصول إلى غرفة أخيها الأكبر "جواد "والتحدث إليه عما يخص شئون رفيقتها، ورغمًا عنها راحت عدستاها فور وصولها الرواق الأرضي تفتش عنه هنا وهناك علها تلمح طيفه يلوح من بعيد، متجاهلة تلك الوخزة الخفيفة التي طفقت تضرب جوانب صدرها حماسًا لرؤيته، ملبيًا أمنيتها ورغبته بعد ثانية واحدة القدر، حينما ظهر بجسده المصقول خارجًا من نفس الغرفة المعنية بالوصول إليها، فسارعت برفع ذقنها إلى الأعلى في كبرياء، تسير الخيلاء، مقررة في نفسها تجاهله وكأنه لا يقع في مجال رؤيتها من الأساس، أو كأن رائحة عطره النفاذة لا تخترق حاستها فتُثيرها، أو لا يسبر بتحديقه المتواصل بها أغوارها ويكشف تخبطها، واستمرت باستئناف السير نحوه في ثبات ظاهري حتى صبغ ظل كليهما على الأخر، واحتك جسديهما معًا بنفس ذرات الهواء، وبما أنه لم يكن في مزاج يسمح له بتقبل تجاهلها فقد سارع برفع ذراعه والقبض على معصمها يسألها في تشنج عند تجاوزها له :
-(( رايحة فين؟! ))
ترنح جسدها للخلف قسرًا نتيجة لتضاد قوة جذبه مع اندفاع حركتها، واستغرق الأمر منها عدة ثَوَانٍ حتى استعادت توازنها، وقد تبدلت نظرتها في الحال من اللامبالاة إلى التمرد، فإن كان يظن أنها ستغض الطرف عن اعتراضه سيرها كقاطع طريق منحرف فهو حتمًا واهم، وعليه قررت تجاهل إجابة سؤاله ومعاودة التحرك بجسدها مبتعدة عنه في مراوغة توقعها بسهولة مسارعًا بوضع جسده كحائط سد يحول بينها وبين استنئاف طريقها، يناظرها بحاجب مرفوع كعلامة اعتراض على طفولية تفكيرها، بينما رفعت هي رأسها في حدة تطالعه بسخط، واستمرت حرب الإبادة والنظرات بينهم قائمة للحظات، عصيانها مقابل تحديه، تصميمها مقابل صرامته، وأخيرًا حنقها مقابل استخفافه، قبل أن توهمه بارتخاء ملامحها لوهلة، وتتراجع خطوة للخلف في استسلام زائف تخلي معه عن جزء كبير من حرصه وقد أسترخي جسده هو الأخر وأنزاح عن الطريق، منتهزة فرصة الإغفال عنها في الركض من خلفه وتجاوزه فقفز يقبض على معصمها من جديد ويعيديها بسهولة إلى موقع وقوفها الأصلي بعدما رفع جسدها واستدار بها هاتفًا في سخط :
-(( رحمة مش بنلعب!.. الموظفين بتتفرج علينا.. جاوبيني رايحة فين ))..
ألقت نظرة خاطفة على المكان من حولها تتأكد من صدق حديثه حتى لمحت حين استدارت برأسها جسد ما يتابعهم في اهتمام فتخلت عن فكرة معاندته، قبل أن ترمقه بنظرة جانبية متعالية قائلة في جفاء :
-(( داخلة لجواد مش دي أوضته بردو؟!.. السكرتيرة شاورتلي عليها.. وبعدين ملكش دعوة ومتسألنيش ))..
هل أصبح التحدث مع "السيد جواد" كلما رأته عادتها المفضلة الآن أم ماذا؟!، زفر حانقًا بعدما طرد أفكاره العدوانية من رأسه هاتفًا في انفعال وقد تقوص أحد حاجبيه :
-(( ورايحة تعملي إيه عند جواد وأنا معرفش!! ))..
ضيقت عينيها فوقه تتفرس ملامحه المتجهمة، وداخلها يلعنه على تبجحه!!، فقد عاد غضبها منه منذ البارحة، بل منذ تركها مفردها يطفو إلى السطح فور رؤيته، وزاده تصرفه الوقح، وبهذا الغضب المتنامي داخلها هتفت تقول في عدائية بعدما نفضت ذراعها من قبضته في حدة تعمدت جعلها مضاعفة :
-(( أنت مالك بعمل إيه عند أخويا.. ده شيء ميخصكش من الأساس ))..
عض على شفتيه في عنف يحاول كتم سُبة خارجة كادت تفلت من بينهما رغمًا عنه، قبل أن يجرها خلفه بعد أن وزع نظراته بداخل الممر ولاحظ مدى اهتمام المساعدة الشخصية بحديثهم، متعمدًا دفعها داخل غرفته كي يوفر لهم بعض الخصوصية ثم هتف يقول من بين أسنانه :
-(( مفيش حد أخو حد هنا.. وعشان نكون واضحين مع بعض.. أي مناسبة أو سبب هتيجي عشان الشركة هيبقى من العربية للأسانسير للأوضة دي.. أنا مش جايبك عشان تلفي هنا وهناك ))..
شهقت في عدم تصديق بعد أن فرغ فاها تحاول استيعاب وقاحته الزائدة، فهو يتعامل معها كما لو أنها من جرحته بالأمس وليس العكس، كما أنه ليس في وضع يسمح له بإلقاء أي أوامر حمقاء فوق مسامعها!، وبعد عدة ثَوَانٍ استوعبت خلالها حديثه واستحضرت قدرتها على الهجوم، هتفت تقول في سخرية يشوبها الغضب :
-(( آه عشان كده الباشمهندس مفكرش يكلف نفسه ويبلغني أن مكان الشركة أتغير.. على أساس أنك شاري كرسي.. تشيله وتحطه مكان ما تحب وقت ما تحب! ))
دفعت بكلا كفيها في حركة مباغتة منها جذعه العلوي فور تحريره ذراعها، ثم أردفت تقول في إصرار وإحدى يديها تحاول تحريك مقبض الباب بهدف فتحه :
-(( أنا هروح لجواد دلوقتي ومش مستنيه حتى اسمع رأيك ))..
سارع بالتحرك ورفعها من خصرها من فوق الأرضية مرةً ثانية، متجاهلًا ترنح ساقيها في الهواء ومقاومتها الضارية له، ثم صاح مهددًا من بين أنفاسه اللاهثة وهو يتحرك بها حتى وصل وألقى بجسدها فوق الأريكة الجلدية الموضوعة بأحد زوايا الغرفة الواسعة :
-(( ولما أروح أورملك عينه دلوقتي عشان ترتاحي!! ))..
نفضت جسدها المتشنج من فوق الأريكة وعاودت الانتصاب في وقفتها، ثم قالت في ازدراء ويدها تحاول هندمه ثيابها واسترجاع كرامتها المهدورة على يد قوته :
-(( إيه الهمجية دي!! أنت فاكر نفسك مين عشان تتصرف معايا كده؟! ))..
أجابها في شراسة، بينما جسده في حالة تأهب استعدادًا لتحركها في أية لحظة قادمة :
-(( جوزك ))..
تجاهلت عامدة حديثه حيث انشغلت بدفع كفها داخل حقيبة يدها تفتش في لهفة عن بخاختها الطبية حيث منعها ضيق تنفسها عن الرد، بل ومنحهم بعض الوقت المستقطع للهدوء والتقاط الأنفاس، وبعد حوالي الدقيقتين استعادت خلالها أنفاسها المضطربة تحدثت تقول في إرهاق وقد تبدلت نبرتها ونظرتها :
-(( طب تمام بمناسبة جوزي وجوازنا.. أنا بطالبك بتنفيذ وعدك ))..
سألها في ارتياب بعدما ضيق جفنيه فوقها :
-(( وعد إيه بالضبط ))..
زفرت مطولًا ثم أجابته قائلة في اختناق وعينيها تأبى الابتعاد عن وجهه :
-(( وعدك أنك أول ما تعرف الحقيقة ومين ورا قتل أخوك تطلقني.. وأنت عرفت الحقيقة من سبعة شهور كاملين وزيادة.. والراجل بيتعرف من كلمته فمن فضلك اديني حريتي زي ما قلت ))..
حملق بها عدة لحظات من خلف عدستيه الضبابيتين وأعينه الزائغة وقد تحقق أسوأ مخاوفه، قبل شعوره بالاختناق يسدل ستاره فوق رئتيه وكأن كلماتها تحولت بتعويذة ما إلى وحش عملاق ما لبث أن قبض بذراعه القوية فوق عنقه يمنع بذلك عنه السبب الذي يبقيه على قيد الحياة، ثم أطرق رأسه أرضًا وراح يعض على جوانب فمه من الداخل كاتمًا غيظه بداخله حتى شعر بطعم الدماء يملأ فمه، مذكرًا نفسه بحالتها الصحية، وخطورة أي فعل همجي قد يصدر عنه فيهدد جهازها التنفسي بنوبة مرضية ربما تودي بحياتها، بينما وقفت هي تراقب بأنفاس مكتومة وشعور متباين ما بين الخوف والإشفاق رد فعله عما صدر عن لسانها، بداية من يده المتكورة في تشنج واضح، ثم اللون القرمزي الذي صبغ ملامحه من شدة الغضب، وضغطه المستمر على أسنانه والمستدل عليه من ذلك العرق الذي ينتفض بجانب صدغه تزامنًا مع نفور عروق عنقه وانتفاخ عضلات صدره، وودت لو ركضت نحوه واختبأت منه بداخل أحضانه، بل وأخبرته أنها ليست سوى أنثى حمقاء مجروحة الكرامة تثور وتمور حتى يصدر عنه رد الفعل الذي يرضيها، وأنها برغم ذعرها الحقيقي منه لم تفكر بالاحتماء سوي به، وبدلًا عن ذلك ظلت مقيدة بالأرضية أسفل منه تنتظر في صمت طالت مدته، تعقيبه، إلى أن عاود رفع رأسه في بطء شديد نحوها، وراح يرمقها بنظرة لم تر مثيلًا لها من قبل حتى عند فقدانه شقيقه، نظرة زاخرة بالعنف، الغضب، الحنق، نفاد الصبر، والكثير والكثير من الألم، ثم سرعان ما تحولت إلى شيء آخر أهدأ، مع شعور ينم عن صلابة وحزم وإصرار قاطع، قائلًا في نبرة مبحوحة لا ترتفع عن الفحيح :
-(( هعتبر نفسي مسمعتش منك حاجة.. ويلا على أوضة الاجتماعات هنتاخر ))
عن أي اجتماع ملعون يتحدث وهما في خضم شجار مصيري فيما يخص علاقتهم سَوِيًّا!!، هل يتعمد إثارة أعصابها؟!، إذَا سيكون، هذا ما قررته قبل أن تهتف في سخط :
-(( أنا مش هتحرك من هنا قبل ما أخد منك رد نهائي.. أنا مش هوا قدامك عشان تقولي هعتبر نفسي مسمعتش!! ))..
كانت تعلم أنها بجادلها له تتجاوز حدود المعقول معه وتضغط على كل خلاياها العصبية ولكنها لا تُبالي، ومما زاد يقينها هو ذلك الشرار المنبعث من عينيه قبل قفزه نحوها في سرعة، ثم زرع مخالبه بذراعيها كفهد أحكم حصار فريسته، صارخًا في اهتياج وهو يرج جسدها وقد فقد السيطرة على أعصابه :
-(( أنتِ عايزة إيه بالظبط!!.. عايزة تجننيني!.. ولا عايزة تشوفي مني وش مش عايز أوريهولك!.. مش هطلقك طول مانا عايش سامعة.. على جثتي!.. عايزة حريتك خديها على جثتي وأنتِ أرملة.. غير كده متحلميش ومتف........ ))..
قاطع صياحه صوت دفعة قوية للباب يليه هتاف جواد آتيًا من خلفه مستفسرًا في لوعة :
-(( طاهر!!.. صوتك جايب الشركة كلها!! حصل إيه ))..
إعاد إليه صوت قريبه جزءًا من تعقله فأرخي قبضته عنها واستدار ينظر إليه، منتهزة هي تلك الفرصة بالركض في اتجاه شقيقها تهتف من بين دموعها مستنجدة به :
-(( جواد.. ألحقن..... ))..
هدر صوته من خلفها يقول مهددًا في صلابة :
-(( أيدك عنها.. اقسم لك بالله لو قربت منها هيكون أخر اللي بيني وبينك ))..
تراجع جواد متقهقرًا للخلف في حركة تلقائية بعدما رفع كلتا ذراعيه في علامة على استسلامه ثم قال مقترحًا وقد هاله الحالة التي أصابت رفيقه :
-(( مكنتش هقرب متخافش.. وأنتِ يا رحمة روحي اغسلي وشك واهدي.. واديله هو كمان وقت يهدي فيه ))..
زمجر الأخر رافضًا فأردف جواد يضيف بشيء من الحكمة بعدما رمقه بنظرة ذات مغزى :
-(( خليها تغسل وشها عشان تعرف تتنفس.. مش أنا اللي هفكرك ))..
فرك وجهه صعودًا وهبوطًا عدة مرات متتالية في حدة ثم قال بنبرة مختلطة بين اللين والتهديد :
-(( هبلغ الأمن تحت محدش يسمحلك تخرجي.. عشان لو فكرتي يعني ))..
رمقه جواد بنظرة مؤنبة مانعًا لسانه اللاذع من التعقيب حتى تأكد من خروجها من الغرفة وقتها صاح يقول في تعنيف :
-(( إيه اللي أنت بتعمله ده أنت اتجننت!!.. صوتك مسمع المكان كله وناسي أنك في شغلك!!.. وفوق كل دة بتتعامل معاها ولا الطور الهايج وفاكر كده أنها هتسامحك!!.. أنت متخلف ولا مخك اتلحس ))..
-(( جوااااد!! ))..
هدر به من بين أسنانه محذرًا فتجاهل الأخير هجومه ثم استطرد يقول في تأنيب :
-(( جواد إيه وزفت إيه على دماغ معرفتك.. أنت مش شايف منظرها كان أزاي!!.. اللي يشوفك كده ميشوفكش وأنت بتخاطر بكل حاجة عشانها.. حصل إيه لكل ده فهمني! )).
أرتمي بجسده فوق المقعد الجلدي وقد أثار تذكير رفيقه القلق بداخله، ثم قال في حيرة بعدما وضع رأسه بين كفيه :
-(( مش عارف.. خلاص مبقتش قادر استحمل ضغط الأعصاب اكتر من كده ))..
قال جواد في بساطة :
-(( وليه مأزم نفسك!!.. ما تقعد تتكلم معاها زي الناس الطبيعية.. قولها أن الفترة اللي فاتت دي كلها كنت بعيد عنها بأمر من الدكتور اللي أنت اساسًا طلبت منه يعالجها عشان تنسى موضوع القضية.. قولها أنك كنت متابعها لحظة بلحظة وأنك مسبتهاش لوحدها بالعكس أنت جهزتلها مكان تشتغل فيه وبيت تسكنه.. وقبله لازم تصارحها بالموضوع التاني.. مش هيفضل سر لازم يجي يوم ويتكشف ويُفضّل تعرف منك أحسن ما تعرف من غيرك ))..
رفع رأسه يطالعه في ضياع قبل أن يتمتم في تخبط :
-(( مش عارف.. جزء جوايا مش قادر يعترف أنه غلط لما سمع كلام يحيى وبلوم نفسي على فترة غيابي عنها.. وجزء تاني من كرامتي فاكر مقارنتها ليا بأخويا.. أنا في الأخر إنسان ومش ناسي أني اتوسلت لها عشان متسبنيش وهي اللي صممت تمشي.. مستنيها تيجي تقولي انها مبقتش شايفاني عمرو.. خايف تكون لسه شايفاه جوايا.. يمكن أكون غلط بس في حاجه بتكتفني كل ما باجي اتكلم معاها.. وبتمنى تديني أي خيط أمشي عليه.. معرفش أنا صح ولا غلط.. بس الأكيد أني مش مرتاح ))..
زفر جواد مطولًا ثم سأله في تعاطف :
-(( وهتفضل كدة كتير!!.. لازم تتخطى العقبة دي لأن قدامك مشكلة تانية محتاجين نخرج منها.. سامعني ))..
تحرك من فوق الأريكة منتصبًا في وقفته، ثم سأله في تردد :
-(( جواد.. لما قابلتها قبل كده اتعاملت معاك زي ما جريت عليك من شويه؟!.. مش هقدر أتحم...... ))..
قاطعه قائلِا في صرامة :
-(( من غير ما تكمل.. رحمة أختي بس حتى السلام مش همد أيدي بيه.. اطمن.. روح بس شوف هتعمل معاها إيه ))..
زفر بأرتياح وعندما هم بالتعقيب دلفت مساعدته الخاصة تقول في رسمية :
-(( الوفد وصل يا فندم لو هتنزل تستقبله ))..
********************************
وقفت أمام المرأة تتأمل في رضا تام تألق مظهرها رغم بساطته إذ ألقت بيجامتها الحريرية ذات اللون الأزرق المنتقاة بعناية من قبل والدتها، ظلالها الداكنة فوق بشرتها البيضاء فأعطتها تناغم متناسق مع خطوط ذقنها العريض الحاد، وعظام خدها المرتفعة في بروز نموذجي خاصةً بعد فقدانها القليل من الوزن، وأخيرًا انسدال خصلات شعرها الملساء على جانبي كتفيها فبدت بهيئة مثالية كعروس سعيدة تتنعم بدلال زوجها لا ينقصها سوي لمعة عينيها المنطفئة، مقاطعًا شرودها صوت حركة خافتة قادمة من الخارج سرعان ما سكنت، ثم عادت بعد لحظات أقوى من ذي قبل، فضيقت جفنيها تتساءل داخل عقلها في ارتياب عن مصدرها وقد انصبت كامل شكوكها المبدئية عن ذلك الكائن الصخري الساعي في المنزل بكل راحة، قبل سماعها حفيف أخر مجهول المصدر أجبرها على الخروج من الغرفة منتوية تتبع مصدره وقد دب الذعر في قلبها، فعلي حد علمها ومعرفتها البسيطة لا يوجد بالمنزل سواها، وما لبثت أن خطت خارج حدود الغرفة حتى تجمدت حركتها إذ تفاجأت به فور فتحها الباب يقف بملابسه البيتية في منتصف غرفة المعيشة المطلة على جميع غرف المنزل بما في ذلك المطبخ، يطالعها بأريحية شديدة بينما يحمل بيده قدح صغير تفوح منه رائحة القهوة المنعشة، ويرمقها بابتسامة عريضة منتصرة وقد خرجت أخيرًا من مخبئها بعدما اختفت بداخله منذ وصولهم البارحة مَسَاءَا، ناهيًا تأمله المعجب بها صوتها الذي هتف يسأله في جمود :
-(( أنت مش المفروض في المستشفى؟! ))
أجابها شارحًا في دماثة وهو يتحرك نحو الأريكة الوثيرة ويرتمي بثقل جسده فوقها بعد أن وضع كوبه فوق الطاولة الخشبية :
-(( لا النهاردة الإجازة بتاعي.. ومعنديش غير حالة واحدة في العيادة فقررت آجلها لبكرة وأقضي اليوم كله في البيت.. معاكي ))..
تعمد الابتسام والضغط على حروف كلمته الأخيرة وهو ينطقها، ثم أردف يستفسر في ودية بعدما أرتشف رشفة صغيرة من فنجان قهوته وإعاده سيرته الأولى :
-(( أنتِ ليه منزلتيش المستشفى؟!.. عَمَّتَا ممكن تفطري على ما أغير هدومي وأوصلك ))..
ارتفعت زاوية فمها بابتسامة تسلية بالتزامن مع لمعة غلفت عدستيها المشاكسة، قائلة في ترو بعدما شمرت عن معصميها وعقدت ذراعيها أمام صدرها :
-(( لا مفيش دَاعٍ.. ماما كلمتني من شوية وقالتلي أن الدكتور كتبلهم على خروج وهما في الطريق للبيت.. وكده كده جواد هيخلص شغل ويعدي عليا عشان ياخدني ))..
سألها معترضًا في تلقائية :
-(( طب وليه تستني جواد.. مانا أوصلك عشان تلحقي ترجعي بدري ))..
أصدرت من فمها صوتًا ينم على التهكم ثم قالت في تشفي :
-(( لا أنت مش فاهم.. جواد هيجي ياخدني عشان أرجع بيت بابا مش زيارة.. لو مش واخد بالك فمهلة اليومين هتخلص النهاردة وأنا لسه عند قراري في الانفصال.. وده اللي بلغته لجواد إمبارح ))..
صمتت قليلَا ثم استطردت تضيف في نبرة خافتة بعدما أشاحت بوجهها بعيدًا عنه :
-(( لحد هنا وكل واحد يشوف طريقه.. شكرًا أنك لحقت الفضيحة اللي كانت هتحصل زي ما بابا قال.. بس أظن سبع شهور جواز فترة كافية عشان تخرس لسان أي حد.. وربنا يوفقك ))..
أنتفض من جلسته فور سماعه حديثها يصيح رافضًا في عصبية :
-(( طريق إيه وفضيحة إيه اللي لحقتها أنتِ أتجننتي!!.. وبعدين هو لعب عيال!!.. علياء مفيش خروج من هنا غير لما نتكلم زي الناس الطبيعية ))..
هتفت تعارضه في سخط :
-(( أتكلمنا وسمعتك.. وبعد اللي قلته معنديش استعداد اسمع حاجة تاني ))..
قال في إصرار بعدما قطع المسافة الفاصلة بين جسديهما :
-(( لا في.. أنا لست مقلتش أهم حاجة عندي.. واللي بحارب بقالي فترة عشان تسمعيني وأقوله.. وعشان تكوني فاهمة مفيش خروج من البيت ده غير لما تعرفيه حتى لو اضطريت أحبسك هنا غصب ))..
سألته في ريبة وقد تهدج صوتها كعادتها عند الغصب أو التوتر :
-(( يعني إيه!! ))..
أجابها في تحدي :
-(( يعني عايزك توريني لو قدرتي هتخرجي من البيت أزاي غصب عني ! ))..
طالعته بملامح متوجسة حيث رأت الإصرار باديًا في عينيه وقبل أن تتخذ أي حركة مباغتة تؤمن بها نفسها كان قد سبقها بالركض نحو باب المنزل ودفع المفتاح داخل الثقب المخصص له بعدما سحبه من فوق الطاولة الصغيرة وأداره عدة مرات في خفة حتى أحكم إغلاق القفل، ثم أخرجه ودسه داخل جيب ردائه الخلفي، وبعد ذلك قام بنزع السلك الكهربائي الخاص بجهاز التواصل مع أمن البناية، بينما صرخت هي تستوقفه بعدما لحقت به تحاول تحريك مقبض الباب تارة ومد يدها نحو ردائه لسحب ميدالية مفاتيحه تارةً أخيرة، قبل أن يبتعد عنها مهرولًا في الاتجاه المعاكس يبحث داخل الغرفة عن هاتفها الجوال حتى وجده ملقي فوق الفراش بإهمال فالتقطه وأطفأه، ثم دفعه هو الأخر مع حامل مفاتيحه داخل جيب ردائه يمنع بذلك أية وسيلة تصلها بالعالم الخارجي، منشغلًا بعد ذلك بمعركة الإرادة المحتدمة بينهم حيث وقف يقاومها معرقلًا أي فرص في التحصل على هاتفها أوالتغلب عليه، حتى يأست من نجاح محاولاتها للفارق البدني بينهم ومراوغته لها كلما اقتربت بجسدها منه، وقتها صاحت تعنفه في غيظ من بين أنفاسها اللاهثة بسبب تتبعها له كظله من موقع إلى أخر :
-(( أنت مجنون!! .. فاكر نفسك لما تحبسني هوافق أسمعك!!.. وأساسًا لو عندك كرامة متجريش ورا واحدة مش عايزاك )).
عبرت عن اشمئزازها منه في جرأة غير معهودة منها، ثم أغمضت عينيها في قوة منتظرة هبوب الإعصار كرد فعل على جملتها الأخيرة وعندما طال انتظارها فتحت أهدابها على مضض تستبين رد فعله، وعلي عكس توقعها رأته مسترخي تمامًا وقد عاد إلى طبيعته الهادئة وكأن شيئَا لم يكن وكأن هناك من جذب انتباهه وصرف تركيزه عنها ، إذ سلط حدقتيه على نقطة ما جوارها ثم غمغم يسأل في حيرة بعدما تجعد جبينه :
-(( مش زوحلف ده اللي جنب رجلك ولا أنا بيتهيألي! ))..
صاحبت صرختها العالية المدوية التي صدرت من حلقها قفزة عالية نحو جسده تحتمي به بعد أن لفت ذراعيها حول عنقه وشبكت ساقيها حول خاصته، متمتمة في بكاء :
-(( لا..... يحيى مشيه والنبي عشان خاطري ))..
أحكم لف ذراعيه حول خصرها يدعم ثقل جسدها ويضمها إليه أكثر، محاولًا قدر الإمكان كتم ضحكاته المستمتعة والتي تهدد بفضح أمره، إذ طفق جسده يهتز في قوة الشيء الذي أثار ريبتها فأطرقت رأسها أرضًا تنظر في توجس حيث موضع نظراته قبل قليل تتفحصه وتتأكد من خلو المكان حولها، قبل هاتفها به معنفة في حنق بعدما استعادت شجاعتها وثبات صوتها :
-(( عيب كده!!.. إنك تستغل خوف الناس دي قلة ذوق.. أوعى نزلني ))..
تجاهل طلبها قائلًا بصوته الأجش في إعجاب بعدما تأمل ملامحها لفترة :
-(( أول مرة أخد بالي أن لون عينيكي شبهه لون عيني.. مكنتش أعرف أن لون عيني حلو أوي كده ))..
دفعته بكفيها في قوة ترنح جسده على أثرها للحظات، ثم سرعان ما استعاد ثباته وزاد من ضغط ذراعيه فوق خصرها يمنع محاولتها الانزلاق من بين يديه، حتى استكانت يأسة داخل أحضانه فأرخي من قبضته قليلًا يُعدل بذلك من وضع جسدها الذي أصبح موازيًا له، قبل أن يبدأ بقدر ما سمحت له مساحة كفه العبث معها قليلًا، بينما سرت فوق جلدها قشعريرة امتدت على طول عمودها الفقري في تأثر واضح من فعلة يده حيث شرع في تحريك أبهامه فوق مؤخرة ظهرها في حركات دائرية ، فتحول معه استسلامها من قلة الحيلة إلى الاستمتاع، تتتبع في سكون لمعة عينيه الناعسة والتي تطوف فوق ملامحها الناعمة في إعجاب هامسًا يستفسر في حرارة :
-(( فيها إيه لو فضلنا كده على طول بدل الخناق.. نفسي تسمعي مني جملتين على بعض ))..
إعادها بسؤاله وتوقف حركة يده إلى أرض الواقع، فابتسمت في سكون تخدعه باستسلام مزيف، وقد راودتها فكرة خبيثة شرعت في تنفيذها في الحال، إذ ثبتت حدقتيها فوق خاصته تأسر تركيزه بداخلهما، وأحنت رأسها في اتجاهه حتى اختلطت أنفاسهما معًا وكادت شفاهما تتلامس، تراقب في انتصار زيغ حدقتيه وازدراده القوي للعابه، ومن ثم وبترو شديد حركت أحد ذراعها نحو جيب ردائه الخلفي، حيث هدفها القابع هناك، فباغتها بالقبض على معصمها بإحدى كفيه الذي تحرك في سرعة، قائلًا في تهكم بعدما نفض ذراعها بعيدًا :
-(( طب بدل ما تتحرشي بيا.. كنتي لمحيلي وسيبي الباقي عليا )).
شهقت حرجة وقد استحال لون وجهها إلى القرمزي، مغمغمة في ارتباك :
-(( أنت قليل الأدب ))..
حررها بوضع ساقها فوق الأرضية ثم قال مشاكسًا :
-(( قليل الأدب بس مش غبي.. والمفتاح مش هتاخديه غير لما نتكلم ))..
ضربت الأرض بقدمها غيظًا متقهقرة في كمد نحو الغرفة تختبئ عنه بداخلها ثانية، بينما تابع هو انسحابها بتنهيدة عشق حارقة فدلال تلك الحمقاء يسعده ويضيف إلى حياته الباهتة ألوانًا طالما تمنى صبغ أيامه بها.
*************************
هل أخبرك سِرًّا أيتها الصغيرة الغاضبة، العابسة، التي تشيح بنظرها بعيدًا عني هنا وهناك؟!.. إن أسوأ عقاب يمكن أن يلم بي هو حرماني من رؤية انعكاس صورتي داخل عيناك.
أراد الوقوف والصراخ عاليًا أمام الجمع الجالس من حوله بتلك الكلمات، بل أراد الانفجار وتحرير الكثير والكثير مما يحتبس داخله من عبارات، رغب الاعتراف بأن غيابها يعبث باتزان عقله، ومنذ بعادها عنه لم يعد يعي أين يضع قدمه، ود الركوع أمامها وأخبارها بأن حبها قد فعل به الأعاجيب، وأهداه مُسْتَقِرًّا وسكنًا بعد أن كان يمشي بين الأُناس غريب، وأعاد إليه ملامحه، روحه، ضحكه، صوته، وكل ما كان يفتقده فكانت النظرة منها إليه بمثابة دَوَاءَا وطبيب، وبدلًا عن ذلك جلس يتلقى عقوبته في صمت، يراها تبتسم في وجه جميع من في الغرفة عداه، ويراقب تعمدها وحرصها على عدم تلاقي عينيها بعيناه، فكان جزءًا منه يثور لكرامته المستباحة على يدها في استخفاف لا يلائم شخصيته المغرورة فيغضب، وأخر يذوب اشتياقًا للوصال وينضب، وجزء ثالث أكبر يرى الحزن المخيم فوق ملامحها فيعض على أصابعه ندمًا لأنه فيه من تسبب، يجلس فوق الجمر متعذبًا بأفكاره حتى انتهى الاجتماع المزعوم وقاما بتوديع وفد ذوات العيون الضيقه وإنجاز المهمة على أكمل وجه، وقتها حاول التحدث إليها كنوع من الاعتذار وتلطيف الأجواء بينهم وقد تحسن مزاجه نسبيًا بعد إتمام الصفقة، ورغم ذلك لم يتنازل عن غطرسته المعتادة فخرجت نبرته بها شئ من التعالي الغير متعمد :
-(( اغسلي وشك وتعالي عشان ننزل ناكل في اي مكان ونرجع ))..
رفعت رأسها تنظر إليه للمرة الأولى منذ شجارهم ببرود جليدي لا يتناسب ونيران غيظها المشتعلة بداخلها، ثم قالت في جمود أو ربما ازدراء لم يستطع الجزم :
-(( جواد طلب مني مراجعة التفاصيل قبل ما امشي.. لو حضرتك عندك وقت تاكل فيه أتفضل متعطلش نفسك.. لكن بالنسبالي عايزه أخلص عشان أروووووح ))..
مطت كلمتها الأخيرة عن قصد، كأنها تخبره من خلال الضغط على حروفها بعدم رغبتها المكوث معه في مكان واحد، ولو أخذ في الاعتبار النظرة التي رمقته بها أخر الكلمة فربما لا تريد مشاركته السماء ذاتها، فعاد متقهقرًا يجلس كمدًا مكانه من جديد، يلعن ويسب ويعنف كل ما يعترض طريقه أو يقع تحت يده، يتابع من طرف عينيه انغماسها في العمل والتدقيق، وكلما هم بالتحدث والاعتذار بشكل صريح عما بدر منه وقت الظهيرة، تراجع مدحورًا بتأثير حميته البدائية حيث كان يشاركهم الجلسة رفيقه وشقيقها، وظل هكذا يفتح فمه ثم يعود ويغلقه متراجعًا حتى حل المساء وأوشكت الساعة على التاسعة مساءًا، حينها نهض من جلسته وقال في حسم :
-(( كفاية كده.. حتى لو الشغل مخلصش مش مهم.. أنتِ من الصبح قاعدة ورافضة تاكلي أي حاجة.. يلا عشان اروحك ))
رفعت رأسها من فوق الملفات المفتوحة أمامها ثم قالت معترضة، رغم تحبيذها للفكرة ككل فحقًا قد أرهقها كثرة العمل اليوم وها هي معدتها بدأت تعلن عن رفضها التجويع كل ذلك الوقت :
-(( تمام.. هروح مع جواد ))..
انتفض جواد من مقعده فور سماعه المقترح، يقول وهو ينسحب بجسده للخارج هروبًا من عاصفة أخرى وشيكة :
-(( لا جواد إيه.. متدخلونيش بينكم تاني. أنا ماشي وحلوا حوارتكم بعيد عني.. جوزك أولى بيكي ))..
راقبت انسحاب شقيقها بِنفسً حانقة وقد تركها بمفردها داخل عريـــن...... ، منعت عقلها من استكمال الجملة فهو لا يمثل ربع ذلك التهديد الذي يهابه الجميع من أجله ثم إنها لا تنتوي الانصياع خلف رغبته، أو التنازل من أجله حتى وهو يرمقها بتلك النظرات النارية المهددة، لذا ضغطت على شفتيها تستجمع شجاعتها الفارة لجولة جديدة من الحرب الباردة القائمة بينهم منذ الأزل، بينما قاطع صوته تفكيرها يقول في تهكم :
-(( أهو مشي وسابك.. يعني مفيش غيري ))..
أنهى جملته بابتسامة عريضة حتى أنه لم يكبد نفسه عناء إخفاء الشماتة الطالة من عينيه، فصاحت تقول في غيظ :
-(( وإيه المشكله!.. هطلب أوبر أروح بيه ))..
صاح في عنف بعدما ضرب بقبضته المتكورة سطح الطاولة جواره مفرغًا بها شحنة غضبه :
-(( مش هكرر كلامي مرتين.. قدامي من سكات بدل ما أشيلك لحد العربية غصب.. وكده كده الدنيا فاضيه ومفيش غيرنا يعني مش هخاف على شكلنا قدام حد ))..
أشاحت برأسها إلى الطرف الآخر تتعمد عدم النظر إليه، فأستطرد يستفسر بعد أن قطع المسافة بينهم وانحني بجذعه نحوها استعدادًا لحملها :
-(( مفيش رد؟!.. حلو خلينا نلعب شويه ))..
هتفت تستوقفه في لهفة فور شعورها بملمس كفه خلف ركبتها وقد استسلمت للأمر الواقع :
-(( هجيب شنطتي.. بس خليك عارف أني مش طايقة أكون معاك في مكان ))..
زفر مطولًا ثم أجابها في خفة متجاهلًا الجرح الذي أصابه جراء كلماتها :
-(( وأنا كمان بحبك وبستني الثواني اللي أكون معاكي فيها ))..
رمقته بنظرة مرتبكة وقد أصابت كلماته البسيطة مركز دفاعاتها قبل أن تسير أمامه ويتبعها وداخله يتمنى لو أنتهي ذلك الشجار المحتدم بينهم، بل لو استطاع أراحة رأسه فوق كتفها، لو أستيقظ صباحًا وكان وجهها هو أول ما يراه، لو ولو، مئات الأماني والأفكار تتهشم أمام عتبة كبريائه وعنادها.
وفى الخارج وتحديدًا داخل سيارته بعدما أستلم مفتاحها من سائقه حيث قرر القيادة بنفسه، وذلك حتى يتنسي لهم بعض المساحة الخاصة، ظل يراقبها من طرف عينيه وهي منشغلة بمتابعة الطريق من حولهم قبل أن يتنحنح عدة مرات قائلًا في نبرة خاطفة مقتضبة لم تؤدي هدفها المطلوب بل وعلى العكس خرجت من بين شفتيه محتدة قوية فبالنسبه إليه ربما يكون اعتذاره الأول :
-(( بمناسبة الصبح.. بعتذر عشان اتعصبت عليكي ))..
أدارت رأسها في حدة تطالعه شرزًا ثم هتفت تستفسر مهاجمة بعدما ضيقت نظراتها فوقه وأزدردت لعابها في صعوبة :
-(( أنت بتزعق فيا ليه عايزه أفهم!! ))..
هتف مستنكرًا في دهشة :
-(( رحمة أنتِ مجنونة!!.. أنا بعتذر منك على عصبيتي عليكي وأنتِ تقوليلي بزعق فيكي ليه!!! ))..
قالت مندفعة في ضيق :
-(( أه بتزعق.. ولا أنت مش حاسس بنبرتك عاملة أزاي!!.. أساسًا أنا الغلطانة اني وافقت أركب معاك.. يبقي من حقك تعمل فيا أكتر من كده ))..
ضرب بباطن كفه المفرود فوق مقود السيارة بينما يغمغم من بين شفتيه في عدم تصديق :
-(( أنا بجد مش مصدقك ولا عارف إيه اللي يرضيكي!!.. مفيش حاجه بعملها عاجبة!.. وكأنك بتتعمدي تخرجيني عن شعوري ))..
شهقت معترضة في إستياء، قبل هتافها محتجة في حدة :
-(( يا سلام!!.. كمان بقيت أنا الغلطانة في كل حاجة.. اه معلش نسيت.. أصل طاهر بيه فوق الكل مبيغلطش ))..
صمتت لوهلة تبتلع لعابها وترطب حلقها المشروخ من كثرة الهتاف ثم أردفت تقول في اختناق :
-(( عارف أنت عندك حق وأنا مجنونة.. اتفضل بقي أركن ونزلني بدل ما أفتح الباب وأنزل وأنت سايق ))..
صاح في إحتدام محذرًا وقد أجبرته على توزيع نظراته بينها وبين الطريق بدلاً من التركيز على النظر أمامه :
-(( رحمة أعقلي بلاش جنان ))..
قالت في إصرار :
-(( نزلني وإلا والله هفتح الباب وانط ))..
صاحب تهديدها تحرك كفها بالفعل نحو مقبض الباب فسارع بغلق القفل الخاص به من مركز التحكم الأساسي جواره، ثم صاح يستوقفها في أرتياع، وقد إجبره تهورها على تسليط نظره فوقها متجاهلًا بذلك تفحص الطريق إمامه والمنحني الذي يقترب منه :
-(( رحمة أربطي الحزام ))..
قالت في عناد طفولي :
-(( مش ربطاه ومش عايز أكمل الطريق معاك.. نزلني بالذوق احسنلك ))..
زفر في نفاذ صبر بعدما حل حزام الأمان خاصته من حول جذعه حتى يسهل عملية تحركه ثم انحني نحوها يسحب الحزام من جوارها ويضعه في مكانه المخصص غير منتبهًا إلى ذلك الحاجز الأسمنتي المقابل لهم، والموضوع ليجبر سائقي العربات على الإنعطاف يسارًا لعدم تمهيد الطريق من بعده، إلا عندما رفعت هي رأسها ولمحته وقتها صرخت تقول في ذعر :
-(( طاهر ألحق ))..
رفع رأسه ينظر حيث سُلطت انظارها، بينما قدمه تضغط في رد فعل سريع بكل ما أوتيت من قوة فوق فرامل السيارة في محاولة يائسه لتخفيف سرعتهم قبل الإصطدام المحتوم، وما هي سوي لحظات نجح خلالها في الإنعطاف بالسيارة قليلًا نحو الصحراء، حتى دوى صوت أرتطام مقدمة السيارة بطرف الصداد مختلطًا بصوت صراخها باسمه حيث كان الجزء الأكبر من الصدام يقع في جهته.