رواية بك أحيا/الحصان والبيدق الفصل الخامس 5 ج2 الجزء الثاني بقلم ناهد خالد


رواية بك أحيا/الحصان والبيدق

الفصل الخامس 5 ج2 الجزء الثاني 

بقلم ناهد خالد

"سر من الماضي"

"بعض الخبايا تظل سرًا لسنوات حتى يأتي الوقت الذي تُكشف فيهِ، وبعضها يظل سرًا أمد العمر، كالاسرار تمامًا فبعضها يُكشف وبعضها يُدفن مع صاحبه" 


_ نتفق على ايه؟ مفيش اتفاق ممكن يجمعنا. 


قالتها بعدائية واضحة، ليرفع حاجبيهِ مع زفرة قوية منه، يبدو أن الطريق سيكون اطول مما توقعه معها، ولكن هو نفسه اطول، تحدث بنبرة هادئة قدر المستطاع:


_ حبيبتي تعرفي ان... 


صرخت بهِ وهي تنهره على ما تلفظ بهِ:


_ متقولش حبيبتي دي، انا... 


قاطعها وهو يقول باستفزاز:


_ ماشي يا عمري، المهم خلينا في موضوعنا، تعرفي ان مصطفى بنفسه الي طلب مني نييجي هنا النهاردة، يعني الحقيقة الموضوع كان في بالي بس هو سبقني وطلب مني ده، وأنتِ شوفتِ اهو سبقنا لجوه، فياترى هترجعي البيت لوحدك؟ 


_ انا استحالة اسيب اخويا معاك. 


كان يتوقع ردها، كان متأكد من عدم تركها لشقيقها لذا كان هو ورقته الرابحة، حدقته بنظرات غاضبة وتطاير منها شرارات الغيظ قبل أن تضرب بقبضتها الباب وهي تهتف:


_ افتح الزفت ده. 


ضغط على زِر فتح الباب وهو يخبرها بابتسامة ساحرة:


_ حسني ملافظك يا ضي، عيب كده. 


قطبت ما بين حاجبيها بتعجب وهي تسمع هذا الاسم منه، ولم تستطع كبح فضولها وهي تسأله:


_ ده ايه ده كمان؟ 


غمز لها بعينيهِ اليسرى وهو يخبرها:


_ هتفهمي بعدين، يلا انزلي خليني افرجك على البيت. 


ضغط على اسنانها وهي تردف بغيظ:


_ ده انا الي هفرج الناس عليك لو مبطلتش استفزاز. 


ضحك بخفوت وهو يردف قبل أن يترجل من السيارة:


_ اول مره اكتشف ان لسانك طويل. 


ترجلت هي الأخرى واستدارت حول السيارة لتقول ما إن وصلت له:


_ عشان زين مكانش يستاهل اوريه طولة اللسان دي، لكن انت حتى طولة الأيد تستاهلها. 


_ ده من كرم اخلاقك. 


أردف بها وسبقها للداخل تطأ قدماه فوق البساط الاخضر الممتد بمسافة كبيرة قبل أن يصل لدرجات قليلة تصل بهِ لباب الفيلا الأبيض. 


كانت تتفحص معالم المكان وهي تسير خلفه، مساحة خضراء لا بأس بها، مريحة للعين والنفس، والفيلا بأكملها طُليت باللون الأبيض "لونها المفضل في المنازل" تشعر أنه يبعث سلامًا من نوع خاص، بدى كالقصر رغم صِغر حجمه، صعدت الدرجات القليلة وتخطت بابها لتنبهر بالتصميم الداخلي، كل شيء راقي بشكل لا يوصف، بعيد عن أي بهرجة او مظاهر مستفزة للترف، مجرد ردهة صغيرة على الحائط الأيمن بها ثلاث طاولات متجاورات بعد الباب وفوقهم فازات بها ورود جميلة، والحائط المقابل مرأة بطول الشخص، وعلى الحائط الأيمن أيضًا فتحة مدخل توقعت انه للمطبخ ربما، والردهة تنتهي لردهة أخرى أكبر، واسعة وبها صالون فخم، وشاشة عرض ضخمة، وبمنتصفها درج عالي يصل للأعلى، بينما تحاط بزجاج يعكس الرؤية للخارج، ومنه استطاعت رؤية "مصطفى" وهو يقف على حافة المسبح الكبير، والذي يحاط بخضرة وكراسي طويلة وشمسية وبجواره حوض ملئ بالزهور، وقفت في منتصف الردهة تنظر للذي التف لها وهو يخبرها بينما يشير خلفها:


_ الطرقة الي دخلتِ منها على يمينك المطبخ وحمام واوضتين للخدم، ودول اصلاً مش هيكون ليكِ اي علاقة بيهم بس حبيت اعرفك، والخدم ليهم باب على الجنينة على طول مش هيطلعوا من الباب ده، ولا هتشوفيهم في الفيلا غير لو طلبتيهم، وده الpool زي مانتِ شايفة وله باب خاص من الصالة، والباب ده.. 


اشار على باب آخر لم تكن منتبهها له يقبع على يمينها..


_ هيخرجك على طريق فيه كل المولات والمعارض والنوادي الموجوده في الكمبوند، اي حاجة هتلاقيها هناك، تعالي نشوف فوق. 


_ ناديلي مصطفى. 


أردفت بها وهي تهز ساقها بعصبية واضحة، وبدى أنها لم تهتم بأيًا مما قاله، رضخ لرغبتها ونادى على شقيقها الذي أتى فورًا وهو يهتف بسعادة وابتسامة واسعة لم تراها على وجهه من قبل:


_ خديجة شوفتِ الفيلا حلوه ازاي، دي فيها كل حاجة، وال pool يجنن، ولا الورد الي بره ريحته تحفة ومالية المكان، تعالي شوفيه مش أنتِ بتحبي الورد. 


تلجمت في الحديث وهي ترى حماسة شقيقها وسعادته، حاولت أن تتحدث اكثر من مرة لكنها اخفقت وهي ترى الفرحة تشع من عينيهِ، والجمها اكثر حين اكمل:


_ بقولك ايه احنا اصلاً مش محتاجين نروح الشقة ولا نجيب منها حاجة، احنا ممكن نجيب بس الورق المهم والحاجات دي، لكن حتى اللبس مش محتاجينه، ابيه مراد قالي انه هياخدنا بليل وننزل المولات هنا نجيب كل اللبس الي عاوزينه... خديجة ده فيه هنا بلاستشين.. وفيه نادي كمان هقدر العب فيه كرة السلة الي كنت هموت واتعلمها. 


كيف لها أن تحطم آماله؟ كيف لها أن تحرمه من السعادة بعد أن حُرم منها طوال عمره؟ مصطفى لم يعش طفولته ولا صباه، دومًا أراد اشياء لم يحصل على القليل منها حتى، دومًا كان لديهِ طموحات كان موقنًا أنها مستحيلة النيل، حتى ابسط حقوقه في الطعام أو الملبس لم يحصل عليهِ كما أراد، وترددت في أذنيها القليل من شكواه سابقًا حين كان يفيض بهِ الكيل.. 


" نفسي اكل ايه؟ ده على اساس اني لو قولتلك عاوز اكل لحمة هتعرفي تجبيها! دي مبنشوفهاش غير كل عيد، احنا اخر الشهر يا خديجة ومعروف اننا في الوقت ده مبناكلش غير الجبنه فبتسأليني في ايه!" 


" ايوه يعني اروح العب كورة مع صحابي بالشبشب! ولا اخد الكوتشي الجديد عشان ينقطع وميبقاش عندي غير الشبشب برضو! "


" عشان من حقي اعيش زي صحابي، ده انا حتى الكتب بيطلع عيني على ما بجيبها، وبتمرمط اني اروح لده وده انقل منه الواجب على ما تعرفي تجبيلي الكتب"


" مش هينفع اروح اتمرن كرة سلة في النادي الي جنبنا، هم طالبين في الشهر ١٥٠ج اشتراك، هتدفعيهم ازاي ده أنتِ بتجيبي معظم طلباتنا بالقسط، والاكل بتدبري فلوسه بالعافية"


" خديجة انا مش بلومك والله، بس انا نفسي اعيش حياة احسن من دي، لكن أنتِ كتر الف خيرك بتعملي كل الي تقدري عليه، بس الحياة صعبة يا خديجة خصوصًا لما تكون الي متحملة المسؤولية بنت صغيرة زيك وانا مش عارف اساعدك"


_ خديجة مبترديش ليه؟ 


هتف بها" مصطفى " لتستفيق من شرودها، وابتسمت له بالكاد بينما قد اخذت قرارها، ستضحي.. ستضحي للمرة التي لا تعلم عددها من اجل شقيقها، أمانة والدها لها، فوجهت نظرها ل" مراد " تقول بجمود:


_ هطلع اتفرج فوق.. 


واستدارت صاعدة الدرجات بخطوات كارهة، وما ان غابت عن انظارهما حتى شقت البسمة وجه "مراد" الذي تنهد براحة لم يظن انه سيدركها، ثم نظر ل "مصطفى" ورفع ذراعه يحيطه بهِ بحميمية بينما يثني على فعلته:


_ جدع عملت المطلوب منك واحسن كمان. 


_ عجبتك؟ انا عملت زي ما قولتلي بالضبط وبينتلها قد ايه فرحان ومتمسك بحياتنا الجديدة. 


انزل ذراعه من عليهِ واخرج محفظته ملتقطًا بعض العملات الورقية بينما يقول:


_ عجبتني جدًا، وادي مكافئتك زي ما وعدتك. 


التقطهم منهُ، وقال بجدية وصدق:


_ ابيه أنتَ اكيد عارف اني لو مش متأكد إنك هتحافظ على اختي وبتحبها عمري ما كنت هوافق اتفق معاك ولا اقف في صفك، انا كل ده ميسواش حاجه قصاد سعادة اختى، بس انا كنت شايف قد ايه كانت تعبانة وشقيانه في حياتنا القديمة، وعاوز اوفرلها هي حياة احسن قبل ما اوفرها لنفسي، عاوزها تكون مرتاحة وتعيش حياتها احسن من الأول لانها عانت كتير اوي. 


ربط "مراد" على كتفه وهو يخبره:


_ اوعدك انك عمرك ما هتندم انك وقفت في صفي وشوفتني الخيار الصح لاختك، اختك هتكون معززة، مكرمة معايا، وبكره تشوف سعادتها بعينك، بس الموضوع محتاج شوية وقت لحد ما تتقبل الحياة دي.. 


اومئ متفهمًا، وحاول تغيير الجو الكئيب، ليبدأ في عد المال وهو يسأله بمرح:


_ قولتلي دول كام؟ 


ابتسم "مراد" ابتسامة صغيرة وهو يخبره:


_ ١٠٠٠ جنية يا خفيف، مش كان اتفاقنا! 


اومئ مؤكدًا وقال:


_ اصل انا اكبر مبلغ مسكته في حياتي ٤٠٠ج وكانوا بتوع الدروس، فتلاقيني مرتبك. 


_ المهم، انا لازم اروح مشوار ضروري، مش هوصيك، عينك على خديجة عشان انا مضمنهاش لحد باب الفيلا ده. 


وضع "مصطفى" كفه على رقابته وهو يردد ببسالة:


_ رقابتي، اتكل أنتَ على الله وهتيجي تلاقيها قتلاني بعون الله. 


هز "مراد" رأسه يائسًا قبل أن يخطو للخارج مرة أخرى، فلديهِ أمر بالغ الأهمية يجب عليهِ اتمامه.. 


وبالداخل.. 


بالأعلى، سارت في ممر طويل متعرج حتى وصلت لآخر غرفة بهِ وقد مرت على سبعة غرف قبلها، قررت الدلوف لها بما أنها لن تعود كل هذه المسافة مرة أخرى، وما إن حاولت فتحها لم تُفتح، فزفرت بضيق على حظها التعيس قبل أن تقرر فتح الغرفة التي تسبقها، ونجحت بفتحها.. دلفت لتجدها غرفة جميلة وهادئة بشكل اراحها، فقررت البقاء فيها ولم تجد فضولاً لتفحص باقي الغرف، فاغلقت الباب وحرصت ان تغلقه بالمفتاح خلفها، وتحركت في الغرفة التي لم تحتوي سوى على فراش وثير وسراحة ومرآة طويلة وخزانة من الزجاج متوسطة الحجم، وأريكة بُنية، وطاولتان أحدهما صغيرة قرب الفراش والآخرى متوسطة أمام الاريكة، وباب مغلق اردكت انه للحمام الملحق.. 


خلعت نعليها وصعدت فوق الفراش لتنام ببطء فوقه كأنها تختبر تحمله لجسدها، وما إن أراحت رأسها حتى اغلقت عيناها... وبعد ثواني كانت دموعها الغزيرة تنسدل على جانبي وجهها وصدرها يعلو ويهبط بتنفس سريع.. وشهقاتها بدأت في العلو رغمًا عنها... 


____________


وصل لمنزله الآخر.. منزل والده على الأحرى.. 


دلف للداخل باحثًا عن والدته، لكنه اصطدم بمن لم يرد الاصطدام بهِ الآن.. والده الذي كان يخرج من مكتبه في طريقه للخروج من الفيلا.. 


توقفا الاثنان ونظراتهما لبعضهما تنم عن عاصفة ستندلع، والتي بدأها "مراد" وهو يقول:


_ ارتاحت؟ هديت لما عرفتها، ولا ده كان من قهرك انك ملحقتش تبوظ جوازتي!؟ 


بدى وجه "حسن" باردًا وهو يجيبه:


_ كنت فاكر اني هسكت بعد ما روحت اتجوزتها من ورانا؟ 


_والي عملته ريحك يعني؟ 


_ مش هيريحني غير لما ترجعها للمكان الي جت منه. 


ابتسم بقسوة لا تظهر عليهِ كثيرًا ألا حينما يتعلق الأمر بشيء لا يقبل فيهِ التفاوض، وقال بابتسامة ساخرة ملتوية:


_ حسن بيه، احتمالية انك تدخل الجنة هي نفسها احتمالية انك تعرف تبعدها عني. 


وبالطبع دخوله للجنة احتمالية صفرية بحتة! فأي جنة سيشم ريحها وهو لم يترك محرم الا وفعله! ولا ينوي التوبة حتى، هز رأسه بلامبالاة بحديث الأول وقال:


_ هنشوف يا مراد بيه. 


تحرك "مراد" خطوتان وقال بعدها بخطورة متوحشة:


_ بس نصيحة متحاولش.. عشان الي هيفكر يقربلها مش هبقى عليه، وأنتَ عارفني محدش عزيز عليَّ... غيرها. 


اردف بكلمته الأخيرة مصححًا، ليستشيط "حسن" غضبًا والتزم الصمت، فلن يجدي الحديث نفعًا ولكن لنرى من سينتصر في الأخير. 


رأى والدته تدلف بكرسيها من الحديقة الخلفية، ليخبرها على الفور:


_ يلا يا ماما عشان هنمشي. 


_على فين؟ 


سألته "ليلى" بجهل، ليجيبها وهو ينظر لوالده بثبات:


_ لبيتي.. هتعيشي معايا ومع.. مراتي. 


_ نعم ياروح امك! 


أردف بها "حسن" بعد أن خطى الخطوة الفاصلة بينهما جاذبـًا "مراد" من ياقة قميصه بعنف، وقد تحولت ملامحه للشراسة كأنه سيفتك بهِ أمام ملامح الأخير الباردة. 


_ سيبه يا حسن. 


هتفت بها "ليلى" بذعر وهي ترى تناطح الاثنان كأسدان يتقاتلان على فريسة للفوز بها. 

____________


واثناء اغماض عيناها لاحت بذاكرتها ذكرى قديمة... تعود لها بعد وفاة شقيقتها.. 


_ نعم؟ 


_ قوليلي يا خديجة أنتِ مبقتيش تقعدي مع مراد زي الأول ليه؟ 


توترت وفركت كفيها الصغيرتان بتردد، وكذبت وهي تجيب:


_ م... مفيش. 


_ قولي يا خديجة متخافيش. 


هزت رأسها ثابتة على موقفها بالنفي، ليخبرها المتحدث:


_ اقولك انا؟ عشان هو الي قتل سارة مش كدة؟ 


شهقت بصدمة وجحظت عيناها وهي تضع كفها فوق فمها بذهول، ولم تنطق، ليكمل المتحدث.. 


_ يبقى صح، عمومًا انا مقدر خوفك، خايفة ليقتلك في يوم زي اختك صح؟ 


لم تجيب لفترة، ليصرخ بها بغضب:


_ ردي! 


هزت رأسها سريعًا بخوف موافقة على حديثه، ليبتسم بمكر مرددًا:


_ ده وارد يحصل فعلاً.. 


واتسعت ابتسامته حين رأى ذعرها يزداد، واكمل متلاعبًا بها:


_ اصل الي يقتل مره يقتل الف، وخصوصًا ان مراد مبيشوفش وقت غضبه، واديكِ شوفتي النتيجة، عشان كده انا حابب اساعدك وانقذك. 


تلهفت للحل وللمساعده التي كانت ترجوها طوال الليالي الماضية، فانتبهت له واحسنت الانصات لحديثه وهو يقول:


_ لازم تمشي من هنا، كلمي ابوكِ وامشوا من هنا في اقرب وقت، قوليله انك خايفة من المكان ومش قادره تفضلي فيه، واطلبي منه ترجعوا بلدكوا، ومتسبيهوش غير لما يوافق، حتى لو اضطريتي تمثلي انك تعبانه وبتشوفي كوابيس كل يوم عشان يمشي، المهم تهربي يا خديجة سامعة؟ 


سألته بتردد وتوتر في آنٍ واحدٍ:


_ طب ومراد لو عرف... 


_ مراد مش هيعرف.. مش لازم يعرف حاجة، هتتعاملي معاه عادي جدًا وهتمشي من غير ما يعرف، وإلا مش هيسيبك وهتخسري فرصتك في إنك تهربي وتنجدي بنفسك، ها قولتي ايه؟ 


صمتت لثواني تفكر، قبل ان تدرك انه الحل الوحيد والاصوب لها، فهزت رأسها موافقة وهي تقول:


_ حاضر... 


عادت من ذاكرتها لتهمس وكأنها مازالت في الماضي:


_ حاضر..... حاضر يا حسن بيه. 


وها قد كُشف "سر من الماضي"...!!..


             الفصل السادس من هنا 

   لقراءة جميع فصول الرواية من هنا

تعليقات