
رواية جبر السلسبيل
الفصل التاسع 9 والعاشر 10الجزء الثاني
بقلم نسمه مالك
لا تخون أحدًا و لكن كن دومًا حريص، لا تعطي ثقتك العمياء لأي مخلوق حتى لا يأتي اليوم و يُصدمك بفعل كارثي يُندمك على ثقتك فيه..
مّرت ثلاثة أيام العزاء لم يترك “عبد الجبار” خلالهم “جابر” من كان يعتبره غريمه، ظل معه كتفًا بكتف في كل شيء، أظهر معدنه الأصيل له و شد من أزره خاصةً أنه كان في أشد لحظات ضعفه بعد موت والدته و مرض جده الشديد..
و أخيرًا عاد من المنصورة لمنزله بالقاهرة، عاد شخص آخر لم يتصور بيومٍ أن يكون هو بعدما علم بخيانة “حسان” من يعتبره ذراعه اليمين ملقي بإحدى مخازنه الآن يصارع الموت أثر الضرب المبرح الذي تلقاه منه كاد أن يزهق روحه لكنه تراجع بأخر لحظة ،
و الأدهي من ذلك ما راءه على هاتفه من رسائل و مكالمات بينه و بين زوجته “خضرا”، قام هذا الخائن بتسجيل كل اتفاقه معها، كان ينوي تهديدها و أجبارها على تنفيذ مطالبه فيما بعد، لكن “عبد الجبار” لم يترك له تلك الفرصة..
طيلة الأيام الماضية لم يتوقف عقله لحظة واحدة عن التفكير فيما فعلته “خضرا”، ببادئ الأمر كان غاضب منها لدرجة مخيفة، و أقسم لو رأها أمامه في تلك اللحظة لن يكتفي بطلاقها فقط بل سيصل به الأمر إلى قتلها!..
و لكن حين هدأت زروة غضبه، و فكر في الأمر من جميع الجوانب، تردد بعقله سؤال كانت إجابته هي التي أطفأت نيران غضبه المُدمرة..
من المخطيء الأساسي في كل ما حدث، و دفع خضرا إلى فعلتها الحمقاء هذه؟
الإجابة كانت هو! ، هو الذي سكب الزيت على النيران حين وضع زوجاته تحت سقف منزل واحد غير عابئ لغيرة أم ابنتيه التي كادت أن تحرق الأخضر واليابس و وصل بها الأمر إلى التفكير في قتله!
تزوج بها منذ أكثر من أثنى عشر عام، لم يرى منها إلا كل حُب و تقدير يعترف و يقر بذلك، تغيرها هذا وجد بعدما أمتلكت قلبه امراءة غيرها، رغم علمها أنه لم يكن قلبه لها من الأساس إلا أن اهتمامه و احتوائه كان لها وحدها قبل ظهور “سلسبيل” التي شقلبت حياته رأسًا على عقب،
لا أحد يستطيع أن يلومه على عشقه لها، فالقلوب ليس عليها سلطان، إذا هو أيضًا لن يستطيع لوم “خضرا” و معاتبتها على أفعالها المتهورة الناتجة عن غيرتها الحارقة عليه!
أسلم حل وصل إليه من وجهة نظره هو الصمت، إذا تحدث معاها فيما فعلته بكل تأكيد سينتهي بهما الأمر إلى الطلاق أقل شيء، و هو لا ولن يطلقها لخاطر ابنتيه، فضلهما على نفسه و عن رغبته و مراده، لأجلهما لن يبتعد عنها و سيظل محاوطهما بذراعيه مهما فعلت أمهما..
تنهد بصوتٍ يملؤه الوجع، و هو يتطلع لمنزله عبر زجاج سيارته، عاد بجسده فقط تاركًا قبله برفقة “سلسبيل” بالإسكندرية، يجاهد بشق الأنفس ليلجم شوقه لها الذي فاق الحدود، لو يتمنى شيئًا واحد في الوقت الحالي، بل في كل وقت هو ضمها بين ضلوعه، فاليعانقها الآن و يموت بعدها لن يمانع على الإطلاق..
استند برأسه على المقعد خلفه، و أطبق عينيه و عاد بذاكرته إلى أخر حديث بينه و بين “سلسبيل” التي أصبحت بكل أسف طليقته..
.. فلاش باااااااااااك…
تهللت أسارير “سلسبيل” حين صف “عبد الجبار” سيارته داخل حديقة المنزل الذي يطل على البحر مباشرةً، هذا المنزل الذي شهد على أول لحظاتها الزوجية معه، تطلعت له باهتمام تنتظر سماع ما سيقوله لها بلهفة، لعله يخبرها و لو بشيء واحد يثلج قلبها، و كم تتمنى لو يعرض عليها أن يردها لعصمته حتى لو بالسر، تستجديه بعينيها ليطلبها منها و هي على أتم الإستعداد بالموافقة، توافق على اي شيء يبقيها تحت جناحه، لن ترفض قربها منه مهما كلف منها الأمر..
انهارت كل أمالها حين استمعت لصوته الأجش يقول بهدوء رغم لهجته الحادة..
“مؤخرك و شبكتك و كل حقوقك موچودة في الخزنة اللي اهنه في بيتك و لو في أي حاچة تانيه أو أنتي رايدة أي شيء أني كفيل بيه”..
صمت لبرهة و تابع بفرحة غامرة أخفاها بمهارة..
“و الحاچة التانية دي أقصد بيها لو طلعتي حبلة مني.. معنى أكده إني هبجي متكفل بكل حاچة تخصك أنتي و اللي في بطنك”..
لم يريد أخبارها بخبر حملها حتى لا تظن بأنه ألقى عليها يمين طلاق و هي تحمل طفله أو طفلته و يزيد حزنها و وجعها منه أكثر، فضل الصمت كعادته و أيضًا يتشوق حتى يسمعها منها هي، سيكون لها فرحة خاصة حين تتفوه بها بشفتيها و تطرب بها أذنيه..
” أنت جايبني لحد بيتك هنا عشان تقولي الكلام ده؟! “..
غمغمت بها” سلسبيل ” بغصة مريرة يملؤها الآسي، و تابعت بغضب دون أن تعطيه فرصة للرد عليها..
” متشكرة يا عبد الجبار بيه.. أنا هعيش مع دادة عفاف في بيتها و مش عايزة منك أي حاجة.. لا شبكة ولا مؤخر و لا أي فلوس و لا.. و لا حتي مكان يفكرني بيك و بذكريتنا سوا”..
همست بالاخيرة و هي تنتقل بنظرها تجاه المنزل و قد امتلئت عينيها بالدموع..
تحكم في غضبه الناتج عن حديثها المثير للأعصاب، و تحدث بنبرة أكثر لينًا قائلاً..
” كيف يا بت الناس يبجي عندِك بدل البيت أتنين في إسكندرية و مصر و تهمليهم و تروحي تعيشي مع واحده تعتبر غريبة عنك!!!”..
زمت “سلسبيل” شفتيها بطفولة خطفت أنفاس ذلك العاشق الذي يلجم نفسه عنها بصعوبة، و عقدت ذراعيها أمام صدرها و هي تقول..
“أنت عارف إن دادة عفاف بقت قريبة مني أوي و أنا مبعتبرهاش غريبة بالعكس بحس أنها أقرب ليا من أهلي كمان للأسف.. و البيت اللي بتتكلم عنه في مصر ده ميبقاش بيتي و لا عمره هيبقي بيتي لأنه بيت أبلة خضرا!”..
“وأني مقصدش بيت خضرا”.. قالها و هو ينظر لها نظرته التي تُأثرها و تابع بابتسامة دافئة..
” أقصد بيتك أنتي.. اشتريته بأسمك يا سلسبيل “..
هبطت دمعة حارقة على وجنتيها مسحتها سريعًا و هي تهمس بخفوت..
” وليه كل ده يا عبد الجبار.. أنت خلاص طلقتني و أخترت أم بناتك.. ليه لسه بتعمل معايا كل ده؟!”..
كاد أن يفقد السيطرة على مشاعره المشحونة التي تعصف بداخله و تغير بصدره، و يخطفها بين ذراعيه بعناق متلهف يخبرها به مدى عشقه، و شوقه لها، و أنها هي وحدها ستظل دومًا بأعمق نقطه بقلبه، لكن خوفه عليها و على ابنتيه كان أكبر من كل شيء، بعاده عنها هذا لمصلحتها، لشعوره بأنها ممكن أن تُصاب بأذى إذا ظلت على ذمته..
تنهد تنهيدة حزينة و هو يجيبها دون النظر لعينيها قائلاً..
“ده حقك عليا.. و حد الله بيني و بين حقوق الولايه عشان أكده لازم تاخديه كامل”..
ساد الصمت بينهما طويلاً، كانت “سلسبيل” تطلع له بنظره لا ريب أصابته في صميم قلبه المُتيم بها عشقًا رغم أنه مصطنع اللامبالاة، و متعمد النظر بعيدًا عن عينيها..
“شكرًا.. شكرًا على كل حاجة يا عبد الجبار.. و ربنا يسعدك في حياتك “..
قالتها قبل أن تفتح باب السيارة و تغادرها على الفور بخطوات متعثرة متجهه داخل المنزل،
هرول هو خلفها مسرعًا حامل بيده حقيبة صغيرة،حتى توقف أمامها مباشرةً، أوقفها عن سيرها الشبيه بالركض، و جعلها تتوقف عن نوبة بكاءها الحاد، رسمت الجمود على ملامحها المتألمة ..
“ده تليفون بدل اللي اتسرق منِك في خط چديد عليه أرقامي كلها.. لو احتاچتي أيتها حاچة في أي وقت حدتيني طوالي هتلاقيني چارك”..
أنهى جملته و مد يده لها بالحقيبة وضعها بيدها دون أن يلمسها حتى بطرف أنامله، و رمقها بنظره وداع أخيرة قبل أن يسير على مضض من أمامها..
سار خطوة، أثنان، و في الثلاثة صدح صوتها تصرخ بأسمه صراخ مقهور يملؤه الحسرة و وجع الفراق الذي بدأ للتو يمزق قلبها مرددة بنبرة راحية..
“أستنى يا عبد الجبار.. متمشيش”..
كور قبضة يده بقوة حتى استمع لصوت أصابعه وكأنها تُكسر، بينما صوت كسر قلبه و قلبها كان أقوى، تسمر مكانه دون أن يستدير لها..
لحظات مرت كانت بالنسبة له كالأعوام، كانت تجاهد “سلسبيل” خلالهم لمنع نفسها عن ما تود فعله لكنها فشلت فشل ذريع،
و من دون تفكير كانت قطعت المسافة بينه وبينها و أرتمت بثقل جسدها علي ظهره ملتفه بكلتا ذراعيها حول خصره، و ضمته لها بكل ما أُتت من قوه و صوت بكاءها يقطع نياط القلوب، زلزلت كيانه كله دفعه واحده بفعلتها هذه رغم وقفته الثابتة ..
“هتوحشني.. هتوحشني أوي أوي “..
همست بها بتقطع من بين شهقاتها، كانت دافنه وجهها بظهره تقبله بحراره أذابت عظامه، أغرقت دموعها ثيابه، وقبل أن يستوعب ما تفعله كانت ابتعدت عنه و ركضت مسرعة أختفت داخل المنزل قبل حتى أن يلتفت..
شعر ببرودة تجتاح أوصاله فور ابتعادها عنه، و من ثم ألم حاد بصدره كاد أن يفتك به و كأنها خلعت قلبه من بين ضلوعه و أخذته معاها، تركته خاويًا جسد بلا قلب و روح..
.. نهاية الفلاش باااااااااااك..
فاق من شروده على صوت والدته “بخيتة” تقف عند باب المنزل الداخلي مستندة على عكازها، و تنادي عليه بلهفة قائلة..
“عبد الچبار يا ولدي!!”..
أخذ نفس عميق قبل أن يغادر سيارته، و سار نحوها بخطواته الرزينه، و هيبته التي تُدخل على القلب السرور، ولكن قسمات و تعابير وجهه مختلفه، عينيه انطفأ رونقها و لم يبق بها سوي نظرة حزن ممزوجة بصلبته..
تأملته “بخيتة” بتفحص قليلاً، و من ثم قالت بعتاب لا يخلو من الغيظ و الغضب..
“طلقت سلسبيل.. طلقت البنتة الصغيرة مش أكده يا عبد الچبار ؟”..
“أيوه.. طلقت سلسبيل يا أمه.. هو ده الصُح.. چوازي على خضرا من لأول كان غلطة.. غلطة واعرة كانت هتحرم بناتي من أمهم.. و بناتي عندي أهم شيء بالدنيا كلها “..
قالها “عبد الجبار” بهدوء عكس ضجيج قلبه..
كانت “خضرا” مقبلة عليه تركض من الداخل فور سماع صوت حماتها تنطق بأسمه، فعلت إنه عاد إليهم أخيرًا بعد فترة غياب لأول مرة يغيبها عليها هي و بناته..
تطلع نحوها بترقب، ملامحها عادت من جديد للطيبة و الحنو التي لطالما كانت تتحلى بهما، أختفت النظرة العدائية منها، و عادت زوجته كسابق عهدها قبل زواجه عليها، ملامحها مشرقة، و الفرحة تُشع من عينيها و هي تري زوجها فضلها هي و بناتها على غريمتها و عاد إليهم ثانيةً ..
“و أفرض سلسبيل طلعت حبله منِك!!”..
قالتها “بخيتة” بتمني شديد، و هي ترمق “خضرا” بنظرات نارية، سؤالها هذا جعل الدماء تنسحب من وجهه “خضرا” و بهتت ملامحها و هي تنتظر الإجابة يتفوه بها زوجها بنفاذ صبر..
“أطمني.. هي مش حبلة يا أم عبد الچبار”..
جملته هذه أكد بها ظن ” بخيتة ” و أصبحت على يقين الآن أن حفيدها في الطريق، و أن ولدها طلق “سلسبيل” خوفًا عليها هي و جنينها..
التقطت “خضرا” أنفاسها المقطوعة، و هرولت نحوه أرتمت داخل صدره تعانقه بلهفة و هي تقول..
“بركة إنك رچعت لنا يا خوي.. حمد لله على السلامة.. نورت دارك يا أبو فاطمة”..
سبتها ” بخيتة” و لعنتها بأفظع الشتائم يسرها، و هي تسير بخطي غاضبة و قد استشاطت غيظًا منها،
لم يبادلها “عبد الجبار ” عناقها هذا، و أكتفي برفع يده و ربت على كتفها بكفه ببعض القوة مرددًا بنبرة أثارت الريبه بقلبها..
” الله يسلمك يا غالية”..
ابتلعت” خضرا” لعابها بصعوبة، و ابتعدت عنه بتوتر، و نظرت تجاه سيارته، دارت بعينيها يمينًا و يسارًا وكأنها تبحث عن شيئًا ما، فضيق” عبد الجبار” عينيه و هو يسألها مستفسرًا..
“أيه.. مالك.. بدوري على حد و لا أيه؟!”..
زاد توترها و خوفها أكثر، و تأكدت أن” حسان” انكشف أمره، و ربما أمرها هي الأخرى، فستجمعت قوتها و جاوبته بشجاعة زائفة..
“أيوه.. الصراحة بدور على حسان.. لأچل ما أخليك تطرده.. معوزاش أشوف خلقته أهنه مرة تانية يا عبد الچبار “..
نظر لها نظره تحثها على استكمال حديثها، ففركت هي يديها ببعضهما و هي تقول بصوتٍ مرتجف يدل على مدى ذعرها..
“هقولك.. هحكيلك اللي حُصل”..
…………………………………. سبحان الله العظيم….
” سلسبيل “..
منذ أن جاءت إلى هذا المنزل، و هي لم تدلف لداخل الغرفة التي اختلي بها “عبد الجبار” فيها، لا تريد أن تدخلها بدونه، تقف أمام بابها و كلما مدت يدها تجاه المقبض تتراجع،
خلف هذا الباب هي عاشت معه أجمل و أروع مشاعر عشتها بعمرها بأكمله، لملمت شتات نفسها، و حبست أنفاسها قبل أن تفتح الباب ببطء و تدلف للداخل بخطي مرتعشة،
كل ركن في هذه الغرفة يشهد علي جنون من كان زوجها بها، تطلع للفراش الذي جمعهما سويًا بقلبٍ مقهور كلما تذكرت حنانه الذي كان يغرقها به، همساته، نظراته، عشقه لها..
أطلقت آهه نابعه من ألم قلبها و هي تهمس بإسمه..
“عبد الجبار فينك بس يا حبيبي”..
تقف شاردة بشرفتها التي تطل على البحر مباشرةً ، قادها قلبها وأجبرها إلى المكان الذي يحمل ذكرياتها الغالية برفقة من امتلكها قلبًا و قالبًا و وشم أسمه بأعمق نقطة بقلبها..
و رغم تلك الابتسامة التي تزين ملامحها الحزينة إلا أن عينيها تذرف الدموع بلا توقف،دموع حسرة، ألم، وحده ربما تكون كُتبت عليها بعدما ذاقت معني دفء العائلة و الأهل و الزوج الذي كان يغمرها دومًا بفيض من العشق و الغرام حتى لعب القدر لعبته معاها و خيرها بين خيارين أصعب من بعضهما، و كأن الحظ يُغار من الفتاة الجميلة فيتفق مع الدنيا عليها حتي يرهقها تمامًا،
“سلسبيل!!!!”..
نطقت بها “عفاف” التي دلفت للتو، و اقتربت منها تربت على ظهرها برفق، و ضمتها لصدرها بحنو و هي تقول بصرامة هادئة..
“أمسحي دموعك و كفايا حزن و بكى لحد كده.. أنتي دلوقتي سلسبيل القوية مش الضعيفة و أنا معاكي يا بنتي اطمني عمري ما هتخلي عنك أبدًا “..
ابعدتها عن حضنها قليلاً لتتمكن من احتضان وجهها بين كفيها، زالت عبراتها و تابعت بإصرار قائله..
“عايزاكي تفوقي و تركزي في مستقبلك.. أنتي هتكملي تعليمك يا سلسبيل في أحسن الجامعات و هتعملي بزنس و أنتي بتدرسي.. أنا عندي معارف كتير أوي و كلهم من الكبار في البلد و يتمنوا يخدموني.. هساعدك و هبقي في ضهرك لحد ما تقفي على رجلك و تبقي أكبر سيدة أعمال في مصر و برة مصر كمان”..
نظرت لها “سلسبيل” بصمت لدقيقة كاملة، و فجأة انفجرت في نوبة بكاء مرير، و بصعوبة بالغة همست من بين شهقاتها..
“داده عفاف هو أنا ممكن أقولك يا ماما !! “..
جذبتها” عفاف ” لصدرها و عناقتها بلهفة متمتمة ببكاء هي الأخرى..
” من أول يوم شوفتك فيه وأنا حبيتك من جوه قلبي و الله و يعتبرك بنتي.. بنتي اللي مخلفتهاش يا سلسبيل و من انهارده أنا أمك يا ضنايا و أنتي بنتي و نور عيني و عوض ربنا ليا عن ولادي اللي ماتوا”..
“بس أنتي مش هتبقي ماما و بس”..قالتها “سلسبيل” بفرحة ظهرت بنبرة صوتها الباكي، و بخجل تابعت..
” شكلك كده هتبقي تيته كمان.. بس أنا لسه متأكدش”..
كادت أن تصرخ” عفاف” من شدة فرحتها بهذا الخبر، لكنها تمالكت نفسها بآخر لحظة، و تحدثت بحماس و فرحة حقيقية قائلة..
” خلينا نكلم أقرب صيدلية تبعتلنا إختبار حمل أعمليه و نتأكد يا حبيبتي.. بس تعالي الأول معايا عشان نستيني أقولك إن جابر إبن خالتك مستنياكي تحت و شكله حزين و مش طبيعي أبدًا عكس ما كنت متوقعة الصراحة!! “..
يتبع..
❤️🩹❤️🩹❤️🩹❤️🩹❤️🩹❤️🩹❤️🩹❤️🩹
إن الغضب جمرة توقد في جوف ابن آدم” وحين جاء الأعرابي يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وصية قال له ” لا تغضب” وكررها ثلاث، تكرار من يشير إلى ضبط هذه الصفة، ضبطها فيما أحله الله،
فالكل شيء حد لا يجب أن يزيد أو يقل عنه حتى لا يتعدى الحد المطلوب ، و هو ألا يحملك غضبك على أن تكون ظالمًا، فتتبع السيئة بسيئة مثلها، و برغم أن “عبد الجبار” تمالك غضبه إلا أن حمية الرجل بداخله كانت تثور بغضب عارم وهو يستمع لإعتراف “خضرا” زوجته خاصةً حين قالت ..
“أني اتفاچأت ب حسان لما وافق ينقلي كل أخبارك مطلعش آمين يا عبد الچبار، و لو عليا أني معذورة الغيرة واعرة قوي ياخوي..و أنت لازم تغور حسان من أهنه.. ده خاين ملوش أمان أبدًا بعد اللي حُصل منه”..
كان سيرد عليها يخبرها أنها السبب فيما فعله، هي من فتحت باب لدخوله منه بينهما، هي من ساعدته على الخيانة بحديثها معه في السر، لكنه جاهد نفسه حتى لا يعميه غضبه ، و تحلي بالعقل والحكمة ، و الرشادة والفهم فكان مثال حي على العقل الناضج..
صامت لا يبدي أي رد فعل، يدرس ما كان وراء سلوك أنثاه حتى فعلت ما فعلت، عليه أن يستعمل الرحمة، عليه أن يراجع ذاكرته ليرى موازين أفعالها ، وأن لا يطيح بما فعلته تحت ضعف الذات، وضعف النفس، ووسوسة الشياطين، بيتا قائمًا، يُسمع فيه صوت ضحكات ابنتيه بفرحة غامرة فور علمهم بعودته، ركضوا تجاهه مسرعين ارتموا داخل حضنه !
هذا آكبر إنتصار للنفس بالنسبة له، إن أردت حياة سليمة عليك أن تحذف الغضب من قاموسك، و لكن العدل أن يأخذ كل إنسان حقه بلا جور …
“اتوحشتك يا فاطمة أنتي وخيتك قوي”..
نطق بها و هو يضمهما لصدره بحنان العالم أجمع، تنعموا الفتاتان بحضن والدهما الدافيء الذي حاوطهما بحماية و أمان..
فالأنثى يجب أن تكون أميرة في بيت زوجها، ومهرها ليس هذا الذي يعطيه إياها من أموال، مهرها معاملتها !
فرمي و تجاوز ما مضى، واستبدل نبتة الغضب ، بنبتة تُسقى بالحب والرعاية والاهتمام والعدل !
العدل الذي يمنعه من الذهاب ل “سلسبيل” ليعتذر لها و يخبرها حقيقة شعوره فيما فعله معاها، يود أن يعترف لها بأن الغضب قد أعمى عينيه، و حمية النفس عن رؤية العدل و الإنصاف فاخطأ حين رأها مجبرة على الزواج منه في باديء الأمر و وافق هو على إتمام هذا الزواج !
أخطأ حين دفع زوجته “خضرا” لفعل ما فعلته بسبب عشقه الزائد لتلك الصغيرة، الضحية الوحيدة في لعبته على “خضرا” بشأن مرضها حتى يجبرها على الموافقة على زواجه منها، و لعبتة “خضرا” عليه فالزواج من إمرأة ظنت بأنها لن تقوى على الإنجاب!..
أعترف بخطأه هذا أخيرًا، و قرر عدم الإستمرار في ظلم” سلسبيل” آكثر من ذلك، فأعطاها حريتها خوفًا من أن يأتي يومًا تفوق فيه على حقيقة وضعها معه و تكتشف بأن ما تحمله له بقلبها لم يكن حُب على الإطلاق بل مجرد إحتياج، حينها ستكرهه و تكره حياتها معه و ستبتعد عنه للأبد بلا عودة، لذلك قام هو بإطلاق سراحها و أعطاها لأول مرة بعمرها حرية الأختيار،
فكل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون و لكن هو لن ولم يستطيع أن يتوب عن عشقها..
“أني وأنتي أفضل عقاب لبعض يا خضرا”..
نطق بها بعدما تأكد من مغادرة ابنتيه الغرفة، وقف أمامها بطوله المهيب، ينظر لها نظرة جامدة خالية من المشاعر فبدت مخيفة للغاية بالنسبة لها، و تابع بابتسامة مصطنعة زادت من خوفها..
“الطعنة تچيني منك أنتي يا أم بناتي!..
كنتِ رايدة حسان يقتلني لو مطلقتش سلسبيل ؟! “..
بهتت ملامح ” خضرا ” و فتحت فمها لترد عليه لكنه لم يُتيح لها الفرصة، و تابع بلهجة لا تخفي غضبه المشحون أبدًا..
“و الخاين كان ناوي يقتلني حتى بعد ما طلقتها لولا أني سبقت و كشفت خيانته.. بس لازم تعرفي إن طلاقي لسلسبيل مش خوف منك لع.. ولا حتى خوف عليها.. أنتي خابرة زين إني أقدر احميها حتى بعد ما بقت مش على ذمتي.. أني طلقتها بس عشان مظلمهاش بنا أكتر من أكده.. لو في ضحية واحدة في كل اللي حُصل لغاية دلوجيت فهي سلسبيل.. ضحية لعبتنا القذرة أني و أنتي، و عشان أكده خرجتها من حياتي قبل ما يجي اليوم وأشوف في عنيها كرهها ليا و ندمها على چوازها مني.. ده اللي مهقدرش عليه واصل.. عندي ابعادها عن قلبي و هي عشقاني ولا تفضل چاري و هي كرهاني”..
صمت لبرهةً و تابع بأسف شديد..
” و هي لسه صغيرة و اللي عاشته في حياتها واعر قوي فقبلت بجوازها مني مغصوبة و اديني عطاتها حريتها لاچل ما تفكر زين هي رايدة أيه و رايدة مين يكون في حياتها اللي واثق أننا هنبقي براها أني و أنتي”..
قبض على عنقها فجأة بقبضة يده و دفعها بقوة حتى ألصقها بالحائط خلفها، كادت أن تلفظ أنفاسها من شدة خوفها و قوة ضغطه على عنقها، ليتحدث هو بغضب عارم قائلاً..
” أني أقدر اقتلك و ادفنك بيدي على عملتك المهببة دي يا خضرا و مافيش مخلوق هيلوم عليا.. لكن اللي منعني عنك بناتك.. بناتي بس اللي مربطين يدي و حيشني عنك”..
“حقك عليا يا خوي.. الغيرة مرارها واعر ونارها حرقت قلبي و عمت عنيا و خلتني اطلب من حسان الطلب العفش ده.. متزعلش مني يا عبد الچبار”..
قالتها بتقطع بنبرة متوسلة و هي تجاهد لتلتقط أنفاسها..
” اللي عملتيه يأكد إنك محبتنيش واصل ..أنتي بتحبي نفسك ياخضرا.. اللي بيحب حد يفديه بروحه مش يتفق على قتله!! “..
تركها على مضض بعدما رأي تدهور حالتها للاعياء الشديد و كادت أن تفقد وعيها أثر خنقه لها، لتشهق هي بقوة ساحبه أكبر قدر ممكن من الهواء تملأ به رئتيها، ليتابع هو بأمر..
” هتفضلي على ذمتي لخاطر بناتك.. لكن أنتي محرمة عليا و لو مش عچبك هطلقك دلوجيت بس لازم تعرفي زين إن طلاقك مش هيكون في مصلحة البنتة الصغار اللي كلها كام سنة و هيبقوا عرايس و يسألوكي عن سبب طلاقنا فكري هتقولي لهم كنتِ رايدة تقتلي أبوهم ليه.. و لو هما مسألوش الناس هتسأل و لو ملقوش إجابة هيخترعوا إجابة من عندهم و كلام الناس ياما و مهيخلصش.. القرار ليكِ و أي إن كان أني هنفذه”..
” طلاق لا.. أحب على يدك طلاق لا يا عبد الچبار.. هملني على ذمتك يا خوي و أني هعمل المستحيل لاچل ما ترضى عني و تسامحني على اللي عملته في حقك “..
لم ينظر لها،أكتفي بالصمت المُطعم بالتنهيد و هو ينظر للفراغ بشرود و حزن ظاهر بعينيه بعدما تأكد أنه كُتب عليه يعيش وجع الفراق عن معشوقة فؤاده..
………………………….. سبحان الله العظيم..
” سلسبيل “..
أجرت للتو اختبار حمل منزلي، و تأكدت أنها تحمل طفل “عبد الجبار” داخل أحشائها، ثمرة عشقها منه، فرحتها الحقيقية التي جعلتها تبكي و تذرف الدموع بغزارة، دموع الفرحة التي نادرًا ما تحياها..
“أنا حامل يا ماما عفاف؟ .. بالله أنتي متأكدة أن ده كده حمل؟! “..
همست بها بتقطع من بين شهقاتها الحادة، و هي تطلع لأختبار الحمل الصغير الذي يظهر به شرطتين دليل على وجود جنينها..
“اه والله حمل يا بنتي.. مبروك.. ألف مبروك يا حبيبتي”..
أردفت بها “عفاف” وهي تقبلها بحب من وجنتيها، و تضمها بلهفة لحضنها، ربتت على ظهرها بكف يدها كمحاولة منها لتهدئة حدة بكائها الذي كان يشق سكون المكان من حولها حتى أنه وصل لسمع “جابر” الذي كان ينتظرها في الخارج، مقدرًا حالتها و غيابها عليه كل تلك المدة..
” سلسبيل!! “.. نطق بها بصوته المتلهف قبل أن يدلف لداخل غرفة “عفاف” الخاصة عبر بابها المفتوح، ابتعدت “سلسبيل” عن حضن “عفاف” و تطلعت تجاه مصدر الصوت، لتشهق بخفوت من هيئة “جابر” التي بدت مزرية للغاية..
“أنتي كويسة؟!”..
قالها بأنفاس لاهثه أثر ركضه على الدرج و قطع المسافة بينه وبينها في خطوتين فقط حتى توقف أمامها مباشرةً، يتطلع لها بنظراته المُتيمة التي يملأها العشق و الإشتياق الأبدي لها ..
تأملت هيئته، لحيته الكثيفة الغير منمقة على غير عادته، عينيه الذابلة الحزينة، الإجهاد على ملامحه و كأنه لم يرى النوم منذ تركها لمنزله..
“أنا كويسة الحمد لله .. أنت اللي مالك يا جابر.. شكلك مش طبيعي.. في حاجة حصلت؟!”..
غمغمت بها “سلسبيل” بعدما سيطرت على حدة بكائها، رفعت يدها و زالت دموعها من علي وجنتيها..
حاول هو السيطرة على ضعفه أمامها إلا أن حزنه و ألمه لم يمهله، فتجمعت العبرات بعينيه أفزعتها و جعلتها تعاود البكاء من جديد متمتمة بصوتٍ مرتعش..
” جابر في أيه؟! “..
ابتلعت لعابها بصعوبة و تابعت بخوف..
“جدي جراله حاجة؟”..
حرك رأسه لها بالنفي، و همس بصوتٍ اختنق بالبكاء قائلاً..
“أمي.. أمي ماتت يا سلسبيل”..
شهقت بقوة و هي ترفع كفها تضعه على فمها، و تطلعت له بأعين جاحظة منذهلة غير مصدقة ما ألقاه على سمعها..
” أنت بتقول أيه.. خالتي ماتت!!.. إزاي و أمتي.. ده أنا سيبها كانت كويسة و مافيهاش أي حاجة!”..
لم يرد عليها، كان ينظر لها نظرة احتياج يملؤها الحزن، هو الآن في أصعب و أضعف حالته، أظهر ضعفه هذا لها هي وحدها، نظرته لها كانت تستجديها أن تتركه يضمها، و لو لمرة واحدة و يموت بعدها لن يمانع على الإطلاق، تفهمت هي نظرته جيدًا و ما يدور في خاطره، فتوترت و حاولت الفرار من أمامه إلا أنه لم يترك لها فرصة هذه المرة، و خطفها من خصرها دون سابق إنظار في عناق محموم دافنًا وجهه بعنقها، عينيه تذرف الدموع دون بكاء..
“سبيني أحضنك عشان خاطري يا سلسبيل “.. همس بها و هو يحتوي جسدها الصغير بين ذراعيه حتى رفعها عن الأرض تمامًا حين شعر بمحاولتها لأبعاده عنها..
“جابر!!”..
زاد من ضمها له، و أخذ نفس عميق يملأ رئتيه بعبقها قبل أن يجيبها بلهفة قائلاً..
“يا عيون و قلب جابر”..
” أنا حامل”..
شعرت بتصلب جسده حولها، ابتعد عنها ببطء حتى تقابلت أعينهما في نظرة طويلة كانت بالنسبة لها بمثابة نظرة النهاية، نهاية لقصة عشقهما التي لم تبدأ بعد..
يتبع..
❤️🩹دمتم ساالمين ❤️🩹..