
رواية جبر السلسبيل
الفصل الاول 1 والثاني 2 الجزء الثاني
بقلم نسمه مالك
بالإسكندرية داخل المقر الرئيسي لشركة المنياوي ،تسود حالة من الفزع، الخوف يملئ القلوب، الجميع يعمل على قدم و ساق ، خاصةً رؤساء الأقسام، يكثفون جُهدهم أضعاف مضاعفة حتى ينهو عملهم على أكمل وجه خوفًا من أن يطولهم غضب “عبد الجبار”،
بينما يقف هو بطوله الشامخ أمامهم موليهم ظهره، ينظر من نافذة مكتبه بأنفاس مهتاجة من شدة إنفعاله، يتناول سيجار تلو الأخر و ينفث دخانه كما لو كانت نيران متوهجه تخرج من فتحتي أنفه،
رغم جمود و صلابة ملامحه فهو كعادته بارع في إخفاء مشاعره، و ما يؤلم قلبه، إلا أن عينيه بدت مخيفه و قد اختفت منها بريق العشق الذي كان يُزينها مؤخرًا..
تبدل حاله للنقيض بعدما تعرض لصفعة خذلان من أحب و أقرب البشر لقلبه، زوجته و طفلته “سلسبيل” ارتكبت خطأ فادح بحقه جرحت به رجولته جرح مميت، ما يشعر به الآن إحساس لن تستطيع الكلمات وصفه، يشعر بخيبة الأمل و ما أصعب هذا الشعور، إعتذارات العالم أجمع لن تكفيه، لا شيء يستطيع تعويض قلبه الذي خُذل من شخصه المفضل..
قلبه!!! أسفًا عليه بعد فراقه عن نبع الحياة بالنسبة له، أخذت معاها روحه، مهجة فؤاده، ابتسامته، ذلك النابض بأسمها وحدها صدأ كالحديد لا يئن و لا يحن
، غلفته قسوة، و جبروت جديد كليًا عليه، بعدما كان يتميز بالرأفة في معاملته مع العاملين داخل و خارج شركاته،
“كده ملف القضية مبقاش ليه وجود زي ما سيادتك طلبت يا عبد الجبار باشا”..
قالها إحدي الجالسين بصوتٍ يملؤه الفخر، و كأنه حقق أعظم انتصاراته حين نفذ ما طلبه منه..
أطبق “عبد الجبار” جفنيه بقوة، و اصطك على أسنانه بعنف كاد أن يهشمهم حين تذكر تلك اللحظة التي تمزق بها قلبه لاشلاء..
.. فلاش باااااااااااك..
أرغم نفسه على الإبتسامة حين رأي “جابر” مقبلًا عليه ممسك بيد جده العجوز، ظن أنها إحدي زيارتهم لابنتهم التي تكررت أكثر من مرة منذ وصولهم إليها،
أصبح جدها يأتي لها باستمرار برفقة ابنته “سعاد، و إذا جاء برفقة” جابر “حفيده لابد أن يكون في وجوده..
” يا مُرحب يا عم الحاج.. نورت الدار”..
قالها “عبد الجبار “بترحاب و هو يأخذ بيده الأخرى و سار بجانبه نحو الداخل مكملاً..
” عفاف.. قولي ل سلسبيل هانم إن چدها وصل بالسلامة.. و چهزوا الوكل قوام”..
“أحنا هنمشي على طول.. مش جاين المرادي نضايف يا عبد الجبار بيه”..
قالها “فؤاد” بأسف و صوت بدي مرتبك للغاية، تملك القلق من قلب” عبد الجبار” خاصةً حين تنقل بنظره بينهم، ليجد نظرة “جابر” تتراقص فرحًا لأول مرة من وقت ما دلف لمنزله، كل مرة يأتي بها كانت نظرته يملؤها الحسرة، و الألم..
فتح” عبد الجبار ” فمه و كاد أن يستفسر منه عن مقصده إلا أنه انتفض فجأة كمن لدغه عقرب حين رأي زوجته تهبط الدرج بعباءتها السوداء ساحبه خلفها حقيبة كبيرة و عينيه منتفخة أثر بكاءها الشديد،
سقط قلبه أرضًا و هو يهرول نحوها بخطوات راكضة..
وقف أمامها ينظر لها بتساؤل و أعين منذهلة بعدما رآها تتهرب بعينيها الدمعة منه، و ترسم الجمود على ملامحها التي كساها الحزن ثانيةً..
لم يسعفه لسانه بالنطق بحرف واحد، ظل يحملق فيها منتظر إجابة لهيئتها هذه..
ساد الصمت طويلاً إلى أن قطعه “فؤاد” قائلاً..
” إحنا جاين انهارده عشان ناخد بنتنا معانا من غير مشاكل.. سلسبيل قالتلي أنها مش قادرة تسامحك على لعبك عليها بخصوص مرضها و عايزه تطلق منك.. فياريت يا ابني زي ما دخلنا بالمعروف ننفصل بالمعروف”..
ربااااه!!!
ماذا يقول هذا الرجل على لسان زوجته؟!، هي بنفسها أخبرته من قبل عن عفوها عنه، و تناست هذا الأمر تمامًا، ضحك فجأة ملئ فمه أمام أعينهم المندهشة،فقد أقنع نفسه أنهم يمزحون معه، كان الموقف حقًا مُخيف خاصةً حين دلفت”بخيتة ” التي كانت تتجسس على ما يُقال كعادتها، اقتربت من “فؤاد” مستندة على عكازها ، و تحدثت بغضب عارم قائلة..
“طلاق أيه اللي بتتحدت عنِه.. معندناش حريم تطلب الطلاق..ده راچلها يدفنها حية بيده في جبرها أهون ما تخرچ من داره مطلقة”..
أصبح الجميع على يقين أن ما يحدث الآن لا و لن يمر مرور الكرام بعد حديثها هذا الذي كان بمثابة سكب الزيت على النيران، جعل “جابر” كاد أن ينفجر بوجهها هي و ابنها إلا أنه لجم غضبه بشق الأنفس، و ظل ملتزم الصمت بأمر من جده..
بينما” عبد الجبار ” كان في حالة من الذهول، و عدم الاستيعاب..
“سلسبيل رايده تطلق مني!!!!”..
أردف بها و هو يغمز لها في الخفاء، تفهمت هي أنه يذكرها أنهما منذ دقائق كانت تعترف له و هي بين حنايا صدره عن مدى عشقها له الذي فاق كل الحدود ،
أخبرته أنها يمثل لها الدنيا و ما عليها، و أن وجودها بجواره هو كل ما تتمناه..
ابتلعت غصة مريرة بحلقها قبل أن تطلع له بقوة زائفة..
“أيوه أنا عايزه أطلق منك يا عبد الجبار”.. أردفت بها بصراخ مقهور، و هي تندفع من أمامه نحو جدها و تابعت بنبرة متوسلة..
“ياريت تسبني أمشي مع جدي وأنا هتنازل ليك عن كل حقوقي.. حتي شنطة هدومي مش عايزاها.. مش عايزة منك غير ورقة طلاقي و بس”..
أنهت جملتها، و مدت يدها أمسكت يد جدها، و تابعت بأنفاس متقطعة..
“يله بينا من هنا يا ج!!!”..
شهقت بقوة حين لف “عبد الجبار” ذراعه حول خصرها فجأة سحبها عليه بلهفة حتي أصبحت خلف ظهره، لا تعلم كيف و متى قطع المسافة بينه و بينها، وقف أمامها كالسد المنيع صائحًا بصوته الأجش..
“سلسبيل مَراتي.. مَرات عبد الچبار المنياوي، و مافيش قوة على وجه الكون ده كله تقدر تاخدها مني”..
” بنتنا هناخدها لو مش بمزاجك هيبقي غصب عنك”..
كان هذا صوت “جابر” الذي كسر كلمة جده، و خرج عن صمته، أشعل غضب “عبد الجبار” أكثر حتي وصل لزرواته، جعله يهجم عليه و يكيل له لكمات متتالية دون سابق إنذار..
كان” جابر ” متوقع رد فعله هذا، و مستعد للدفاع عن نفسه باحترافية شديدة، بغمضة عين نشبت بينهما معركة دامية، لتصدح صرخات” سلسبيل” و عويل “بخيتة” و حتي “خضرا” التي أتت على الصراخ من داخل المطبخ ..
“كفايا يا عبد الجبار بالله عليك”..
نطقت بها “سلسبيل” و هي تحاول الوصول إليه، لكن يد “عفاف” التي جذبتها داخل حضنها أوقفتها..
تتبع “فؤاد” مصدر الصوت، و استطاع الوصول لهما، أمسك يد حفيده الذي تعرف عليه من رائحة عطره، و تحدث بأمر قائلاً ..
” بس يا جابر.. أبعد عنه بقولك!!!.. سيبه يا عبد الجبار بيه ميصحش كده إحنا في بيت ك”..
لم يُكمل جملته بسبب لكمة قوية لكمها له “عبد الجبار” دون قصد منه، سقط على أثارها أرضًا..
” جدددي”..
صرخت بها و هي تركض تجاهه، و جلست بجانبه على ركبتيها تتفحصه بلهفة، و أعين تفيض بالدموع..
ليزيد الأمر سوءٍ حين دوى صوت طلق ناري صم الأذان، رفعت رأسها و نظرت تجاه مصدر الصوت بأعين مذعورة، لتجد زوجها مصوب سلاحه الناري على موضع قلب “جابر”..
“بتضرب نار علينا و إحنا في بيتك.. دي مش أخلاق أهل الصعيد أبدًا”..
قالها “فؤاد” و هو يستند على حفيدته، و انتصب واقفًا بضعف..
” أنت اللي مخابرش أخلاق رچالة الصعيد زين”.. صاح بها “عبد الجبار” بصوته القوي هز جدران المكان من حوله، و تابع بلهجة لا تحمل الجدال..
“أني بدافع عن سلسبيل.. مَراتي.. اللي حفيدك قال هياخدها غصب عني.. و ده لو حُصل و سلسبيل خرچت من داري الليلة هيبقي على جثة حد مِننا”..
” مش هخرج.. مش هخرج يا عبد الجبار بس نزل السلاح و سبهم هما يمشوا عشان خاطري”..
قالتها “سلسبيل” من بين شهقاتها الحادة..
حاولت السيطرة على بكاءها، و تابعت حديثها بقلة حيلة..
“خد جابر و امشي يا جدي.. أنا خلاص هفضل مع جوزي “..
” هتفضلي معاه غصب عنك!! .. هي دي الرجوله يا عبد الجبار بيه.. تجبر واحدة على العيشة معاك”..
قالها” جابر” بمشاعر مشحونه تعصف بقلبه المُعذب بحبها..
ليُصيح “عبد الجبار” فيه بلهجته الصلبة قائلاً..
“مش عبد الچبار المنياوي اللي يغصب حُرمة على العيشة وياه..أني رايد اتحدد مع مَراتي.. أفهم مِنها أيه السبب الحقيقي اللي زعلاها مني قوي أكده ، و لو لقيت عنِدها حق.. هرضيها و أحب على راسها و يدها كمان لحد ما ترضى و تصفي من چهتي”..
قال “فؤاد” بتعقل.. “ولو مرضيتش.. و فضلت مُصرة على طلاقها منك يا عبد الجبار بيه هتعمل أيه ساعتها؟! “..
نظر” عبد الجبار ” لزوجته التي توقفت عن البكاء، و تنظر له نظرة متوسلة ترجوه بها أن يطلق سراحها، لكنه اشاح بعينيه عنها و نظر ل”خضرا” و تحدث بأمر..
“خدي سلسبيل على أوضتها”..
وجهه نظره ل” عفاف ” مكملاً..
” طلعي شنطة الهانم و رچعي حاچتها كيف ما كانت”..
تنهد بارتياح حين رأي زوجته تصعد الدرج مرة أخرى، فتحدث بثقه قائلاً.. ” متقلقش يا حاچ فؤاد.. أني خابر كيف هراضي مَراتي من غير ما حد يدخل بنَتنا”..
بعد حديثه هذا لم يجد” فؤاد” أمامه سوا أخذ حفيده بالقوة و عادوا حيث أتو ،عقب رحيلهم هرول” عبد الجبار ” مسرعًا تجاه زوجته، دفع باب الغرفة و دلف للداخل، لتخرج “خضرا” التي كانت تقف بجوار الفراش الجالسه عليه” سلسبيل ” تربت على ظهرها كمحاوله منها لتكف عن البكاء..
انتظرت “سلسبيل” حتى تأكدت من ذهاب “خضرا” و رفعت رأسها ببطء، ثم عينيها و نظرت لزوجها نظرة مشفقة على حالته المزرية، الدماء المتناثرة على وجهه و ثيابه، دماء مشتركه بينه و بين “جابر”..
اجهشت بالبكاء و هي تقول”بتضرب جدي.. الراجل العجوز العاجز في بيتك يا عبد الجبار!!.. أنا بعد عملتك دي بقيت مُصرة أكتر على طلاقي منك.. طلقني يا عبد الجبار أبوس رجلك.. لو مش هطلقني يبقي تدفني صاحية زي قالت أمه بخيتة و خليني أخلص من العذاب اللي مش عايز يسبني في حالي ده”..
شعر أنه أخطأ في حقها بفعلته المتهورة هذه، و لكن الأمر لا يستحق أنها تُصر على الطلاق هكذا، أسبابها ليست مقنعة على الإطلاق، تيقن أن هناك شيئًا ما يرغمها على طلب الطلاق منه..
كانت حالتها لا تحتمل أي جدال الآن، فضل عدم طرح اسأله عليها بالوقت الحالي، و قرر أن يحتويها حتى لا تتدهور حالتها أكثر..فتنهد بقوة مغمغمًا بخفوتٍ..
“خابر أن غلطي في حقك واعر “..
قالها بعدما قطع المسافة بينه و بينها، جثي على ركبتيه أرضًا أمامها،احتضن يدها الصغيرة بين كفيه ضاغطًا عليها برفق، و همس بصوتٍ جاهد على جعله طبيعيًا لكنه خرج مرتجف بعض الشيء..
“بس طلاق لا.. أحب على يدك طلاق لا يا سلسبيل”..
أغمضت عينيها ببطء لتنهمر عبراتها على وجنتيها بغزارة، تعالت شهقاتها و بصعوبة بالغة همست بغصة مريرة يملؤها الأسى..
“مش هينفع.. صدقني مش هينفع أفضل على ذمتك بعد انهاردة”..
فتحت عينيها و نظرت لعينيه نظرة أرتعد منها قلبه و تابعت بابتسامة حزينة..
” لو فضلت مراتك هموتلك نفسي يا عبد الجبار!!”..
“موتيني أنا فيكِ يا بت جلبي”..
قالها بصوته المزلزل قبل أن يخطفها ذراعه كالخطاف لداخل صدره، يضمها بلهفة، و يمطرها بقبلاته الدافئة التي تُذيب عظامها، هدأت نوبة غضبها، و بدأت تتجاوب معه قلبًا و قالبًا،هامسًا لها بأجمل كلمات الغزل..
قضوا ليلة غرام ملحمية لن تنمحي أبدًا من ذاكرتهما..
بعد وقت ليس بقليل، كانت” سلسبيل ” تنعم بالدفء و نومًا هنئ فوق صدر زوجها الذي يداعب خصلات شعرها المشعثة بفيضوية مثيرة بفضل أصابعه..
صدح صوت رنين هاتفه ، فمد يده والتقطه بتكاسل..
عقد حاجبيه بتعجب حين لمح أسم “شهاب نور الدين” من أشهر المحامين..
تنحنح قبل أن يضغط زر الفتح، و تحدث بلهجته الصارمة قائلاً..
“خير يا متر.. متتصلش بيا غير في المصايب!!”..
“شهاب”.. بأسف.. “المرادي مش أي نصيبة يا عبد الجبار باشا!!!.. أنا في ايدي توكيل لرفع قضية على جنابك “..
“قضية على أني؟!..قضية أيه، و مين اللي رفعها يا شهاب!!!”..
اجابه “شهاب بجمله أصابته بصدمة عمره..
” قضية خلع.. رفعها مراتك مدام سلسبيل هانم”..
.. نهاية الفلاش باااااااااااك..
فاق من شروده على صوت المحامي يقول بعمليه..
“ورث الست سلسبيل هانم من المرحوم أخوك اتحول لحسابها، و ورق الطلاق المدام وقعت عليه، مش فاضل غير توقيع سيادتك بعدها نقدر نحول لها كل مستحقتها زي ما حضرتك أمرت”.
يتبع..
❤️🩹❤️🩹❤️🩹❤️🩹❤️🩹❤️🩹❤️🩹❤️🩹❤️🩹
بداخل كل أنثى جانب شرس، متوحش لا يظهر إلا إذا شعرت بالغيرة على زوجها، و صدق من قال أن الغيرة قاتلة، تستنزف الروح بلا رحمة، تُعمي القلب قبل العين، تُلغي العقل و تُجبرنا على أتخاذ قرارات مصيرية بلحظة اندافع تصل أحيانًا إلى فعل كوارث لعلها تطفئ تلك النيران المتآججة بقلبها غير عابئة بعواقبها الوخيمة..
.. بمنزل عبد الجبار..
كانت “بخيتة” تدور حول نفسها تاره، و حول “خضرا” زوجة ابنها تاره أخرى، مستندة على عكازها تلكم به الأرض كادت أن تهشمه من شدة غيظها..
“مافيش غيرك ورا شقلبة حال البنتة الصغيرة يا خضرا”..
صاحت بها “بخيتة” بغضب عارم و هي تنغزها بعكازها في كتفها بضربة قوية لم تتأثر بها “خضرا” على الإطلاق،بل أنها أثارت غضبها أكثر حين نظرت لها بملامح تُشع فرحة، و تحدث بحزن مصطنع قائلة..
“وه و أني مالي عاد.. هي اللى رفعت على ولدك قضية خلع.. يعني مريدهوش بعد كل الهنا و الدلع اللي شفته على يده رايده تخلعه بعد ما وصلت لأهل أمها.. كأنها كانت مغصوبة على العيشة وياه !!!”..
حركت “بخيتة” رأسها بالنفي، و رمقتها بنظرة سامة، و هي تقول بثقة ..
“سلسبيل عشجت عبد الچبار كيف ما هو عشجها و أنتي خابرة أكده زين، و متقدرش تعمل العملة العفشة دي إلا لو حد ابن مركوب لوي دراعها و هددها بحاچة واعرة لو مبعدتش عن چوزها اللي بتتكحل بتراب رچليه و بتخاف عليه أكتر من روحها !!!”..
كانت تستمع لها “خضرا” بملامح بدت جامدة عكس ما بداخلها من قلق تحول إلى خوف جعل الدماء تنسحب من وجهها حتى شحب لونه تمامًا حين تابعت” بخيتة ” بابتسامة زائفة و نبرة شامته..
” يا ويلك من عبد الچبار يا خضرا لو طلعتي أنتي بت المركوب اللي وعت البنتة الصغيرة على قصة الخلع المقندلة ديِ… لأنك متوكدة أنه يستحيل كان هيطلق سلسبيل مهما حُصل”..
استطاعت “خضرا” السيطرة على خوفها، و ضحكت ضحكة ساخرة و هي تقول..
“مبقاش في حاچة مستحيل يا حماتي و أهي سلسبيل أطلقت من عبد الچبار “..
صمتت لبرهةً و تابعت محدثة نفسها..
” هي خابرة زين لو فضلت على ذمته أكتر من أكده.. كانت هتبجي أرملته”..
.. فلاش باااااااااااك..
كانت” خضرا” تحيا أبشع أيام حياتها بعد خروجها من المستشفى،بالتزامن مع نفسيتها السيئة، ترى زوجها يعيش قصة حب ملتهبة مع زوجته الثانية أمام عينيها المتحسرة على حالها و ما وصلت إليه ، كانت ستنهي حياتها من شدة حبها و غيرتها عليه لعله يتأثر بفعلتها هذه و يرأف بقلبها و يحقق لها امنياتها بابتعاده عن “سلسبيل”..
لكنه و للمرة الأولى خذلها حين تمسك بزواجه من غريمتها، رغم أنه لم يقصر بحقها، و يسعي جاهدًا لينال رضاها، إلا أنه كلما اختلي بالأخري يجن جنونها، كل لحظة يقضيها برفقة “سلسبيل” تكون بمثابة طعنات متفرقة تمزق قلبها حتى قتل كل الصفات الحسنة التي كانت تتمتع بها، تحولت شخصيتها تحويل جذري و عقدت عزمها على إسترجاع زوجها لها مهما كلف منها الأمر..
انتظرت حتى ذهب زوجها لعمله، و هرولت تجاه المطبخ صنعت أشهى الحلويات و وزعت منها على الجميع حتى العاملين بالمنزل، فور انتهاءهم من تناولها غرقوا بنومٍ عميق، لم يظل أحد مستيقظ سواها هي و سلسبيل فقط..
“أيه اللي بيحصل ده يا أبلة خضرا؟!!”..
قالتها “سلسبيل” و هي تتنقل بعينيها بين حماتها “بخيتة”، و “عفاف” و حتي ابنتي زوجها، جميعهم ناموا فجأة و هم جالسين بمقاعدهم..
“أني حطيت لهم منوم”..
هكذا اجابتها “خضرا” بهدوء دب الرعب بأوصال “سلسبيل” التي تطلعت لها بأعين متسعة على أخرها، و تحدثت بصوتٍ مرتجف يظهر مدى خوفها قائلة..
“ليه عملتي كده بس”..
ابتلعت لعابها بصعوبة و تابعت متعجبة..
“و ليه أنا منمتش زيهم!!..
” لأني رايده أتحدتت وياكِ بكلمتين و معوزاش مخلوق يسمعنا “.. أردفت بها و هي تقترب منها، و جلست بجوراها،
كان الذعر واضح على مرآي تعابير وجهه”سلسبيل”
من ملامح” خضرا ” التي أصبحت متوحشة بعدما كانت تتميز بطيبتها و حنانها، هيئتها الآن توحي بأنها على وشك ارتكاب جريمة قتل..
” مقدراش.. و رب العباد مقدارش أتحمل شوفتك مع راچلي أكتر من أكده”..
أطلقت صرخة مقهورة انتفضت على آثارها “سلسبيل” وبدأت تبكي بنحيب حين تابعت “خضرا” بصوتٍ مخيف..
“نار.. نار واعرة بتحرق جلبي حرق معتش قادرة اتحملها خلتني قطعت شرايين يدي اللى چوزتك بيها لچوزي لاچل ما اخلص من الوچع اللي بينهش في روحي كل ما تبجي في حضنه”..
لم تجد “سلسبيل” شيئًا تقوله لها، و قد زاد و تضاعف بداخلها شعور الذنب تجاهها الذي يُلزمها، ظلت تستمع لها و تبكي بصمت..
” ببجي نفسي اقطعك باسناني تقطيع بس خابرة زين إني لو عملت فيكي أكده عبد الچبار مهيهملنش على ذمته دقيقة واحدة و أني عندي الموت أهون من بعادي عنِه”..
” يبقي هبعد أنا يا أبلة خضرا.. هطلب الطلاق و هبعد أنا لو ده هيريحك”.. همست بها “سلسبيل” بتقطع من بين شهقاتها الحادة..
” اممم..إن چيتي للحق طلاقك هيريحني صُح.. بس
هو عبد الچبار هيسيبك تبعدي و لا هيطلقك بسهولة أكده إياك!! “.. دمدمت بها” خضرا ” و رمقتها بنظرة تحمل حقد و كرهه عرفوا طريقهم لقلبها الملتاع، و تابعت بنبرة ساخرة..
“و لا أنتي يا كهينة هتقدري على بعاده؟! “..
اجهشت” سلسبيل ” بالبكاء، و حركت رأسها بالنفي تخبرها أنها بالفعل أصبحت غير قادرة علي الإبتعاد عن زوجها مرددة بنبرة راجية..
” متزعليش مني يا أبلة خضرا أنا ما صدقت لقيت راجل بجد اتحامي فيه و يبقي ضهر وسند ليا في الدنيا القاسية دي.. أنا والله العظيم مش قصدي أضايقك و لا أخد جوزك منك.. بس جوزك ده بقي جوزي أنا كمان و برضاكي و أنتي اللي جوزتيني ليه بنفسك.. و أنا اه وعدتك أني مش هكون ليه زوجه بس مكنتش أتخيل أنه هيخليني أحبه بالشكل ده لدرجة أني هموت لو بعدت عنه”..
ساد الصمت طويلاً حتى قطعته” خضرا ” التي ربتت على كتف” سلسبيل ” بعنف، أبتسمت لها إبتسامة يملؤها الشرر، و تحدثت بجملة كاد قلب”سلسبيل ” أن يتوقف بسببها..
“لع..مش أنتي اللي هتموتي لو مبعدتيش عنِه”..
تلاحقت أنفاس” سلسبيل ” و هي تسألها عن مقصدها مستفسرة..
“قصدك أيه بكلامك ده؟!”..
“خضرا ” بذهول مصطنع.. “وه.. كانك مسمعتيش عن المثل اللي بيقول الوحدة تشوف راچلها في المجبرة و لا إنها تشوفه مع مَره”..
توحشت نظرتها القاسية أكتر و تابعت بوعيد..
” لو فضلتي على ذمة عبد الچبار هنبجي أرامل أني و أنتي يا سلسبيل”..
” أنتي بتقولي أيه، و بتهدديني بأيه!!.. انتى عايزة تقتلي جوزك أبو بناتك؟! “.. قالتها” سلسبيل ” بصدمة بصوتٍ أشبه بالصراخ..
أجابتها” خضرا” بلهجة حادة شديدة الجدية لا تحمل أي جدال قائلة..
“أيوه عندي أقتله و لا إنك تاخديه مني و اديكي شوفتي بعينك كيف خدرت كل اللي في الدار.. المرة الچاية مش هيبجي منوم.. لع.. هيبجي سم هاري بطيء المفعول.. يموته قصاد عنيكي بالبطئ”..
زاد ذعر” سلسبيل ” جعل ارتجاف جسدها يتحول إلى تشنجات حين تخيلت مجرد تخيل أنها فقدت زوجها، خوفها عليه جعلها تقول بلا تردد..
” طيب خلاص أنا هبعد.. والله هبعد عنه يا أبلة خضرا.. بس قوليلي هبعد إزاي و أنتي لسه قايله أنه مش هيطلقني بسهولة؟! “..
” تخلعيه “..
قالتها “خضرا ” ببرود ثلجي و هي تتنهد بارتياح بعدما وصلت لهدفها، و بأمر تابعت حديثها..
“توكلي چدك يرفع لك قضية خلع في أقرب وقت.. وقتها عبد الچبار هو اللي هيطلقك بالتلاتة.. “..
.. نهاية الفلاش بااااااااك..
……………………………. صل على الحبيب………….
“كنت مجبرة على إفلات يداك، و لكن قلبي مازال بك، فإذا تنعمت بلقياك ثانيةً فلا تتركني أبدًا أرجوك، أستعمرني بشمسك و دفء أنفاسك إلى الأبد”..
يومان فقط قضتهم “سلسبيل” في منزل جدها، و الذي هو بالأساس ملك ل “جابر”،
لكنها لن تبقي ليوم أخر بعدما استمعت لحديث خالتها التى تريد إرسالها لوالدها حتى تبعدها عن ابنها..
دون ذرة تفكير منها قررت الفرار هاربة خوفًا من مجيء والدها أو عودة” جابر ” بأي لحظة الذي بتأكيد لن يتركها تذهب، اندفعت فجأة دون سابق إنظار راكضة من غرفتها و من ثم لخارج الشقة بأكملها بأسدالها البيتي، أمام أعين خالتها و جدها اللذان لجمتهما الصدمة للحظات و حين استوعبت “سعاد” ما حدث هرولت خلفها صارخة بأسمها ..
“سلسبيل.. بتجري رايحة فين كده يا بنتى!!! “..
“أجرى وراها الحقيها يا سعاد.. البت أكيد سمعتك وأنتي بتقولي هتكلمي أبوها عشان يجي ياخدها “..
قالها “فؤاد” بغضب عارم، وهو يضرب كفيه ببعضها، تحرك تجاه شرفة المنزل، و نادي بصوتٍ عالِ للغاية لتتمكن من سماعه..
“يا سلسبيل.. أرجعي يا بنتي متخفيش..”..
صوته وصل لسمع” سلسبيل ” لكنها لم تعد، كملت ركضها بلا توقف، تركض بالطرقات بلا هواده لم تستطيع” سعاد” اللحاق بها، كانت كالطائر الحبيس و طلقوا سراحه أخيرًا، تشعر بالحرية لأول مرة بعمرها،
ظلت تركض إلى أن شعرت بأنفاسها تتلاشى كأن روحها تنسحب منها، توقفت بجوار شجرة كبيرة تستظل بأوراقها من إشاعة الشمس الحارقة..
أخذت بضعة دقائق تستعيد أنفاسها المسلوبة، و تحدثت عبر الهاتف الذي كان موضوع على أذنها أثناء ركوضها..
“هربت.. هربت يا دادة عفاف..قوليلي أجيلك إزاي”..
“عفاف” بلهفة.. “خدي نفسك الأول يا حبيبتي.. و بعدين شاوري ل تاكسي وقفيه قوليله وصلني إسكندرية و أنا هفضل معاكي على التليفون لحد ما أقابلك بعربيتي على الطريق”..
انصاعت لها “سلسبيل” على الفور،. قامت بالإشارة لأول سيارة أجرة ظهرت أمامها ..
” ممكن توديني إسكندرية من فضلك”..
” هاخد 500 جنيه و مقدم يا ست”..
أردف بها السائق قبل أن تصعد” سلسبيل ” السيارة، هنا تذكرت أنها تركت كل شيء حتى حقيبة ملابسها و نقودها، لم تأخذ معاها إلا الهاتف، فشهقت بخفوت قائلة..
“أنا مجبتش معايا أي فلوس يا دادة!!”..
“عفاف”..”اركبي يا سلسبيل و قوليله هحاسبك لما أوصل”..
انطلق السائق بسيارته من أمامها في الحال وهو يسب و يلعن بعدما استمع لجملتها هذه ، بدأ الخوف يداهمها من جديد و عادت تختبئ بظلال تلك الشجرة الكبيره، تجمعت العبرات بعينيها و بصوت ظهر به الخوف قالت..
“السوق مشي قبل ما أركب لما سمعني بقولك مش معايا فل؛؛؛ آآآآه “..
قطعت حديثها فجأة ، و صرخت صرخة مدوية حين مرت من جانبها دراجة بخارية و بلمح البصر خطف سائقها الهاتف من يدها بمنتهي القوة أفقدها توازنها فسقطت على وجهها مصطدمة بجبهتها بالأرض الصلبة بعنف ..
كل هذا حدث في غمضة عين و لسوء حظها المعتاد كان الطريق خالي من المارة بسبب أجواء الجو شديد الحرارة..
تحاملت على نفسها، و اعتدلت جالسة بوهن تتحسس جبهتها بأصابع مرتعشة، شعرت بسائل لازج يهبط على حاجبيها نزولاً بعينيها فعلمت أنها أصابت بجرح ليس بهين، كلما حاولت النهوض تشعر بدوار شديد بجتاحها بقوة،
زحفت بضعف متراجعة للخلف حتى وصلت لجذع الشجرة ارتمت عليه بظهرها مستسلمة لمصيرها مهما كان فهي على يقين أنّ الله لن يتركها..
بينما عفاف كادت أن تفقد عقلها، و سقط قلبها أرضًا حين سمعت صرخة “سلسبيل”..
“سلسبيل.. مالك يا بنتي.. ردي عليا ايه اللي حصل لك يا ضنايا “…
صرخت بها “عفاف”، لم يأتيها منها رد رغم أن الخط مازال مفتوح، ظلت تصرخ بأسمها لعلها تجد رد حتي انغلق الخط،حاولت إعادة الإتصال بها مرارًا و تكرارًا و لكن الهاتف تم غلقه..
لم تفكر مرتين و طلبت رقم الشخص الوحيد الذي بأمكانه هدم الدنيا لأجل” سلسبيل “..
………………………. سبحان الله وبحمده……
“عبد الجبار”..
يجلس داخل سيارته بالمقعد الخلفي، ممسك بيده ورقة طلاق “سلسبيل” الواقفه على توقيعه، يتمنى لو يكن ما يعيشه الآن كابوس، و سيفوق منه يجدها نائمه على صدره، تختبئ بين ضلوعه، تبتسم له ابتسامتها التي تُنير حياته..
تنقل بعينيه على مكان توقيعها، حينها تأكد أن ما يعيشه الآن لم يكن كابوس، بل حقيقة.. أسوء حقيقة حدثت له،
فضل عدم أمضاء توقيعه إلا بعدما يذهب إليها خصيصًا من الإسكندرية إلى منزل جدها بالمنصورة ليسألها للمرة الأخيرة عن سبب مقنع لما فعلته، يحاول إيجاد مبرر واحد يدفعها للأبتعاد عنه بهذه الطريقة المهينة لرجولته..
صدح صوت رنين هاتفه جعل قلبه ينقبض دون معرفة السبب حين لمح أسم “عفاف”، ضغط رز الفتح و أجابها بلهفة ظهرت بنبرة صوته الأجش..
“خير يا عفاف!!”..
أتاه صوتها الباكي كاد أن يصيبه بسكته قلبيه من شدة فزعه على مُعذبته حين سمعها تقول بتقطع..
“ألحق سلسبيل يا عبد الجبار بيه…..”…
❤️🩹دمتم ساالمين ❤️🩹..