رواية وبالحب اهتديت الفصل الحادي عشر 11بقلم سلمى خالد


 رواية وبالحب اهتديت
الفصل الحادي عشر 11
بقلم سلمى خالد


«هُدايا وهُداكِ وبينهما العشق»

استغفر الله العظيم وأتوب إليه 3 مرات

حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم 7مرات

( قولهم مش هياخدوا وقت يا سكاكر♥)

بسم الله الرحمن الرحيم

الفصل الحادي عشر

(غصة الماضي)

ألا تعلم أن وصال القلب بيننا لن يوقفه شيء، سأبقى معاك حتى تعترف لنفسك أنك الأفضل وأن ما بك ليس بعجيبة من عجائب الحياة بل طبيعي تمامًا، أنت ستظل الأفضل على الاطلاق بأنظاري يا عزيزي.

عادت تلك الغصة بقوةٍ أكبر تقبض على صدرها بشراسة، تركت كفه سريعًا تضع يدها على صدرها بقوةٍ تحاول أن تنزع تلك الغصة ولكن لم تستطع، تهدجت أنفاسها، يرتعش باقي جسدها بالكامل، لتصبح قدماها كالهلام لم تقوَ على الوقوف، سقطت على الأرض كالمرة السابقة لا تشعر بشيء سوى الألم القابض على صدرها، ودموعها المنهمرة من شدة الألم، صوت أنفاسها التي تلتقطها بصعوبةٍ بالغة.

انتفض غفران من رؤيتها بتلك الحالة، يتقدم نحوها بقلقٍ حقيقي مردفًا:

_ مالك يا فاطمة؟

لم ترد، أصبح كل تركيزها على أن تستطيع التقاط انفاسها، لم يفهم غفران سر تلك الحالة التي تأتيها للمرة الثانية بقوةٍ أكبر، ثم انتبه لجسدها الذي تزداد رعشته دون توقف، وملامحها التي تدل على الاختناق من ضيق التنفس، فأسرع يمسك وجهها بين كفيه حتى تنظر له، يتمتم بصوتٍ رجولي واضح:

_ اتنفسي يا فاطمة... مفيش حاجة متخلكيش تتنفسي... يلا شهيق وزفير..

شعرت به قليلًا، لتبدأ بتفيذ ما قالته، وبالفعل بدأت بالتنفس شهيقًا وزفيرًا إلى أن هدأت رعشتها، مضى وقت طويل وهي لا تزال تنظم عملية تنفسها بينما ترك غفران وجهها ثم نهض من مكانه ممسكًا كفها بحنوٍ ليساعدها على النهوض، وبالفعل نهضت تسير معه كان يحاوطها بذراعه ويده الأخرى تمسك بكفها، لم تستطع فاطمة فعل شيء سوى الاستسلام له، كان الأثنان يتحركان ببطء هو لأجل عرجته وهي لأجل حالتها، وصل إلى الفراش ليبدأ غفران بمساعدتها على الجلوس والتسطح عليه، يدثرها أسفل الغطاء جيدًا، ثم نظر لوجهها المنهك يردد بهدوءٍ:

_ أحسن دلوقتي؟

منحته إماءة صغيرة، تتحاشى النظر له، بينما تأمل غفران طريقتها وردد دون ارادة منه:

_ أنتِ ايه اللي بيحصلك دا؟ ايه الحالة اللي بتجيلك؟

أدمعت عينيها بصمتٍ، ترفض الحديث معه، كيف ستخبره بحالتها التي سرعان ما تأكدت منها اليوم بعد تشخيص مبدأي من طبيبتها، أمسك غفران بكفها الذي تعتصره بالكف الأخر، حتى يستطيع لفت انتباهها، وبالفعل استطاع جذب بصرها نحوه، فأردف بنبرة هادئة تحمل الدفء:

_ مالك يا فاطمة؟ ايه اللي فيكي تعبك كده؟

حاولت سحب كفها منه تجيبه بنبرة ساخرة:

_ لحظة بس افكرك يا غفران... أنت من شوية كنت عايز تطلقني عشان اللي يخصك مسألش فيه!

نظر لها صامتًا، ولم يتفوه بكلمة، بينما أكملت هي ولا تزال عينيها متألمتان:

_ أنت قبل كده قولتلي برمي الكلام من غير ما أشوف اللي ورا الكواليس وأنت برضو بترمي سم مش كلام بس من غير ما تشوف الكواليس...

سال الدمع من عينيها وأصبح وجهها يشعّ بالحُمرة، يرتجف قلبها من برودة الألم الذي تشعر به ولا تعلم سره ولكن تركه لها يشعرها بألمٍ لا تتذكره، هذا الفراق غريب ومؤلم للغاية، استرسلت حديثها بصوتٍ محشرج من البكاء:

_ لو فاكر حياتك بس اللي مدمرة يبقى محتاج تبص للأمور من تاني.

ظل يسمعها والصمت سيد هذا الموقف، يتأمل ملامحها المنهمكة من الحزن، صوتها الحزين للغاية، لا يعلم بماذا يخبرها ولكن قلبه يحمل القدر الكافي من الحزن، ردد بغصةٍ عالقة بحلقه:

_ في مثل بيقولك ميحسش بالنار غير اللي كابشها... يعني لا أنا هعرف أحس بيكِ ولا أنتِ هتعرفي تحسي باللي فيا.

رفعت بصره تنظر له، تواجه ما تراه بعينيه من خذلان، لتحدثه برفضٍ:

_ لاء المثل دا غلط... لو محستش باللي فيك فـ ربنا خلقني ليه معاك وخلقك ليه معايا يا غفران!... ما عشان نحس باللي فينا ونساعد بعض ونكمل الدنيا سوا.

لا يعلم ما مدى تلامس كلماتها لقلبه، يتأمل حديثها وطريقتها بنظرةٍ غريبة، يشعر بأنه يريد التحرر من ظلام الذي يحيط به، منحها لأول مرة بسمة طفيفة على ثغره، يربت على كفها مرددًا:

_ طب ارتاحي دلوقتي وبعدين نكمل كلامنا.

بدأ يتخلل لها اليأس، تشعر بأن محاولتها معه فاشلة، نظرت له وهو ينهض من مكانه، يتجه نحو الشرفة ولكن قبل أن يغادر ردد بهدوءٍ:

_ اظاهر كده الشمس عايزة تشرق من جديد.

تركها يدلف للشرفة بينما بقيت هي تعيد كلماته بذهنها، تحاول فهم ما يقوله حتى شعرت بأن حديثها أصبح مؤثرًا، ابتسمت ببعض السعادة، تبتهج قليلًا بأنها ذو تأثير، نعم لا تحبه ولكن لم تصل لحد الكره، تشعر بالحيرة بمشاعرها معه، ولكن لو كان حنون معها لأصبحا الآن عاشقان، ولكن ما الذي تخبأه الأيام، هذا ما أشعرها بحيرة أكثر؟

************

:_ يقين... يا يقين.... بت... يا بنتي ما تردي عليا!

ارتسم الضجر على معالمه بعد كل هذا الهتاف، ينظر لها بغيظٍ من تركيزها الشديد بشاشة الهاتف، رفعت بصرها تنظر نحوه بتعجبٍ قائلة:

_ مالك يا جبران؟

رفع حاجبه مستنكرًا، يجيب:

_ مالك يا جبران! أنا فاضلي تاكة وأقوم أعلقك على باب البلكونة.

انتفضت من مكانها تاركة الهاتف، بينما نظر لها جبران بحنقٍ ثم امسك الجهاز الحاسوب الخاص به، ومعه باقي الأوراق قائلًا:

_ لو تكرمتي عليا تسيبي التلفون وتعمليلي قهوة خلينا أخلص من دي تقارير.

زفرت ببعض الراحة قائلة:

_ يا أخي خضتني ما تقول من الصبح.

اتسعت عين جبران، يدير رأسه فجأة لها ثم زمجرها بعصبية:

_ هو مش أنا بقالي ساعة بنادي عليكي وسيادتك مش معبرة أهلي!

رمشت بأهدابها ببراءة، تتمتم بنفيٍ:

_ محصلش يا جبجوبي.

ارتفعت شفته العلوية تنم على استنكار شديد، يعلق على حديثها:

_ جبـ.. ايه ياختي!

ابتسمت باتساع تجيبه بتكرر الكلمة:

_ جبجوبي... ايه رأيك اخترعت اسم دلع ليك.

:_ متخترعيش تاني... اخترعاتك هتجيب أجلي أنا عارف وروحي اعملي القهوة.

قالها بسخطٍ، في حين عبست ملامحها بضيقٍ تنهض، ولكنها كانت تهمهم ببعض الكلمات الغاضبة، تغلق الباب بتذمر واضح، تتحرك نحو الأسفل، ولكن قبل دلفها للمطبخ وجدت عامر يمسك بكتابٍ ما بين يده، ذهبت نحوه تردف بتعجبٍ:

_ بتعمل ايه يا عامر وماسك الكتاب لزقه في وشك كده ليه؟

ابعد الكتاب عن وجهه، ينظر له ببعض اليأس مجيبًا:

_ بتنيل أذاكر عشان ورايا شامل أحياء بكرة.

شعرت بالرهبة من كلماته، اهتز جزء بداخلها بألمٍ، ابتسمت له بحنانٍ بالغ تردد سريعًا:

_ طب محتاج حاجة! عايز احضرلك سندوتشات وكوباية قهوة؟

نظر لها قليلًا يومئ بايجابية، قائلًا بامتنان:

_ دا يبقى كتر خيرك عشان هفتان من الصبح وعم شوقي حلف بالطلاق ماهو دافع مليم تاني لبتوع الدليفري.

ابتسمت له يقين سريعًا ثم تحركت باتجاه المطبخ تعد لعامر بعض الشطائر ليتناولها مع قدح القهوة الخاص به، ولكن وسط صنائعها عادت تلك الغصة تقبض على صدرها، أخذت شهيقًا قوي لعل دموعها تنحبس كما كانت، رغم مرور السنوات ولكن ندبة الماضي ستظل مهما ظلت على قيد الحياة.

انتهت مما تصنعه وانطلقت إلى عامر تضع أمامه طبق به العديد من الشطائر وقدح القهوة، ارتفع صوت عامر المتحمس وهو يلتقط قطعة شطيرة:

_ تسلم إيدك يا مرات اخويا يا سكر.

ابتسمت له يقين ولكن بسمةٍ باهته، تتحرك نحو المطبخ مجددًا لصنع قهوة جبران الذي طال انتظاره، تفكر بمرارةٍ الماضي الذي أصبح علقم بحلقها لا تستطيع التحدث منه، لا تعلم كيف أوصلتها قدماها إلى غرفتها لتدلف كي تعطي لجبران قدحه ولكن قبل أن تخطو ردد جبران بضيق:

_ كل دا يا يقين بقالك ساعة إلا عشر دقايق تحت عشان كوباية قهوة.

حركت رأسها بنفي، تبرر تأخيرها:

_ لا أنا شوفت عامر قاعد بيذاكر وعملتله سندوتشات سريعة كده وكوباية قهوة.

حدق بها في ذهول، يرمش بأهدابها بعدم تصديق، يردد بهدوءٍ الذي سبق العاصفة:

_ عملتي لعامر سندوتشات وقهوة صح؟

حركت رأسها بإشارة نعم، ليسترسل جبران حديثه وهو ينهض ليقترب منها:

_ وأنا قاعد بتذل زي الكلب عشان تعمليلي كوباية قهوة واحدة صح.

اومأت مرة اخرى بإيجابية، ليمسكها جبران من ملابسها عند لياقة التي- شيرت يغمغم بغيظٍ:

_ آه لما تئويكِ... أنتِ في ايه النهاردة بظبط؟

كان يحرك يمينًا ويسارًا، لتضع يدها فوق كفه القابض على ملابسها قائلة:

_ سيب التي شيرت... سيب التي شيرت هيكرمش.

عض على شفته السفلى بغيظٍ، يردد بحنقٍ:

_ دا كل اللي همك يكرمش... دا أنا هكرمشك أنتِ شخصيًا لو مبطلتيش هطل يا يقين وركزتي في حياتك شوية.

تركها يستدير ليعود مكانه، بينما امسكت يقين بالـ (تي-شيرت) الخاص بها تهندمه بعد ما فعله به جبران، تحدق به مغتاظة من طريقته، ثم عادت تجلس مجددًا تمسك الهاتف لترى وجبة جديدة، فالغد يوم مميز لها وله طقوس خاص تمنت فعلها.

***********

نظرت للساعة بصدمةٍ بعدما وجدتها تدق السابعة والنصف صباحًا، انتفضت من الفراش بقلقٍ لترى غفران نائمًا بعمقٍ ولم يستيقظ، تحركت سريعًا تغتسل وترتدي ملابس مناسبة للجلوس بالأسفل، فاليوم خاص بهم وجميعهم موجودون، تحركت للأسفل تنطلق باتجاه المطبخ ولكنها وجدت شقيقتها تقف على الموقد ترى ما بالاناء، دلفت لها قائلة بحرجٍ:

_ أنا آسفة يا يقين راحت عليا نومة بجد!

رمقتها يقين بنظرةٍ غاضبة قائلة:

_ سيباني في المطبخ لوحدي وأنتِ عارفة أن النهاردة هنعمل فطار لينا كلنا.

تقدمت نحوها فاطمة تقبل خدها قائلة باعتذار:

_ حقك عليا بقى يا ارنوبتي.

لم تستطع كبح بسمتها وأشراق على ثغرها، لتهتف بهدوءٍ:

_ طب خرجي اللبن والجبنة من التلاجة وأمري العيش على ما أخلص البليلة واحمر البطاطس.

اومأت فاطمة بجديةٍ ثم كادت أن تنطلق ولكن توقفت فجأة قائلة ببسمة تتسع شيئًا فشيء:

_ بقيتي ست بيت شاطرة يا يقين... أنا بجد فخورة بيكِ أوي ونفسي ماما تشوفك.

ابتسمت لها يقين ببعض السعادة تشعر بالفخر من نفسها، تنظر لشقيقتها بامتنان قائلة:

_ أنتِ الوحيدة اللي وثقتي فيا زمان وخلتني عايشة للفرحة بتاعت النهاردة.

بادلتها نفس الابتسامة المحبة، ثم انطلقت للبراد حتى يعدّوا طعام الافطار ويصبح جاهزًا بالساعة التاسعة، كلتاهما يتحركان بخفةٍ بالمطبخ حتى انتهوا من اعداد الطعام ووضعه بالطاولة في الردهة، تحركت كلا الفتاتان إلى الأعلى كي تيقظ كلًا منهما زوجها وتولت فاطمة مهمة ايقاظ ملك بينما يقين ستيقظ عامر.

:_ جبجوبي قوم يالا عشان الفطار.

ظلت تدفعه بكفها كي يستيقظ، بينما شعر جبران بالضجر من نعتها له بهذا اللقب ليغمغم ببعض الضيق:

_ ما بلاش اللقب اللي يبوظ الهيبة دا.

حركت رأسها نافية، تمسك بذراعه تسحبه ليعتدل بجلسته، متمتمة بدلال طفولي:

_ تؤ تؤ تؤ هقولك جبجوبي براحتي.

رفع حاجبه باستنكار، متمتمًا:

_ ولما ألزقك قفا يخلي لسانك دا يتعدل يبقى ايه.

اتسعت ابتسامتها قائلة وهي تشير باتجاه قلبه:

_ مش هتقدر عشان دا مش هيزعلني صح!

نظر لها قليلًا تزحف بسمةً متمردة لشفتيه، مرددًا بمكرٍ:

_ دا عايز يقول حاجات كتير بس كلمة جبجوبي منعاه.

ازاحت يدها سريعًا، تبتسم بخجلٍ له، تتجه نحو الخزانة تسحب منها زي مناسب لتناول الفطور والذهاب إلى الجامع لقضاء صلاة الجمعة، صمت جبران مبتسمًا ولم يرغب بالاكثار من اخجالها ثم أخذ منها ملابسه وانطلق نحو المرحاض بينما غادرت هي الغرفة تنطلق نحو غرفة عامر ولكنها وجدت الباب مفتوح طرقت بخفة فلم يستجب ولكن سمعته يكبر بالصلاة، نظر للداخل فوجدته يجلس لقول التحية وما أن انتهى حتى هتفت يقين ببسمة راضية:

_ تقبل الله يا عامر... كنت بتصلي ايه؟

طوى سجادة الصلاة، يبادلها الابتسامة قائلًا:

_ منا ومنكم... كنت بصلي الصبح وركعتين لله عشان ينقذني من الثانوية دي بمجموع كبير يدخلني طب.

منحته نظرةً متألمة، تبتسم له بحنوٍ بالغ، تردف بصوتٍ حنون للغاية:

_ متقلقش يا عامر بإذن الله هتبقى دكتور اد الدنيا ويمكن صاحب مستشفى كمان.. تعالى يلا عشان أنا حضرتلك شوية بليلة وفطار يشد حيلك شوية.

ضرب كف بالأخر، يهتف بحماسٍ:

_ ايوة بقى يا مدلعني.

تحرك الأثنان للأسفل ولم ترَ نظرات جبران الواقف بنهاية الطرقة من الجهة الأخرى يرى ويسمع ما تفعله، زفر مختنقًا من طريقتها وهبط للأسفل بصمتٍ يحاول أن يزيح هذا الأمر من رأسه وأنها تتعامل مع شقيقه بطريقة عادية.

***********

:_ مش هفطر تحت يا فاطمة.

قالها بنبرةٍ رافضة قاطعة ينطلق نحو الشرفة، فهذا كهفه ويخشى الخروج منه، ظل به طيلة اربع سنوات يأبى الخروج، تحركت خلفه سريعًا تحاول اقناعه بنبرة مستعطفة:

_ ليه بس دا ملك تحت وعامر وجبران ويقين مفضلش غيرنا... تعالى نتجمع دا يوم الجمعة والجماعة حلوة يا غفران أنت متعرفش قيمة الجماعة؟

نظر لها بجانب عينيه، يردف بكلماتٍ تحمل رفض تام:

_ وأنا قولت لاء يا فاطمة... عارف قيمة الأكل الجماعة أنه بيزود البركة في البيت وليه فايدة للجسم وللحياة بشكل عام بس أنا مش نازل برضو.

تخلل اليأس بداخلها، تنظر لحدقتيه اللتان تنم على رفضه القاطع، زفرت بتعبٍ من محاولتها البائسة، لتتمتم في محاولة اخيرة:

_ أنت سبتني اروح السوق لوحدي يا غفران وكنت حاسه فعلا بالوحدة... ماشية لا عارفة اتكلم ولا أسأل عن حاجة لأني اتحرجت اسأل جبران كفاية يقين عليه حسيت احساس وحش أوي... والنهاردة برضو هتسبني أنزل لوحدي لو في حاجة حلوة عملتها حلوة عشانك ممكن تنزل معايا!

لم يوافق ولم يرفض ظل صامتًا دون النظر لها، بينما تأملت فاطمة صمته بيأسٍ من أن ينهض معها، لتتحرك نحو الباب تاركة إياه، تشعر بالاختناق من رفضه للجلوس معهم بالأسفل، أغلقت الباب تهبط من أعلى الدرج تراهم ينتظرونهما كي يهبطا سويًا، ازداد شعورها بالحرج ولم تعد تعلم بماذا تخبرهم أتخبرهم بالرفض!

وصلت للطاولة وجلست في مقعدها بصمتٍ، تتمتم ببسمةٍ تحاول اخفاء حرجها خلفها:

_ كلوا يا جماعة بلاش نستنى.

نظرت لها يقين بعدم فهم متسائلة:

_ طب وغفران مش هنستناه؟

ألمتع الحزن بعينيها، تشعر بالحزن من تركه لها للمرة الثانية، ولكن قبل أن تجيب كان غفران يجيبهم بعدما وصل لنهاية الدرج:

_ لا خلاص وصلت أهوه بس فاطمة اتحرجت تقول إني بغير فوق.

نظرت له فاطمة بصدمةٍ، بينما ابتسمت له يقين وبدأت بتناول الطعام، بينما شعر جبران بالسعادة من طريقة غفران واستجابته لأفعال فاطمة، تحرك غفران إلى أن جلس بجوار فاطمة التي أخذت عكازه تضعه جانبها كي لا يؤرق تناولهم للطعام، وعندما استدارت مرة اخرى لتصبح جالسة باعتدال مال عليها غفران يهمس بأذنها:

_ نسيت اقولك أن الذاكرة عندي بتقف لما بشوفك ولما مشيتِ افتكرت كده كام حاجة حلوة ليكِ.

نظرت له فاطمة بأعينٍ متسعة من كلماته الأولى التي ارسلت بسمة ماكرة لغفران يعلم تأثير كلمته ثم أضاف سريعًا بمكرٍ:

_ أصلها بتضعف قدامك.

عضت على شفتيها تكبح بسمتها، تشعر بالسعادة من كلماته التي استلذ قلبها من سماعها، بينما عاد غفران يعتدل بجلسته ليبدأ بتناول الفطور ببطءٍ، ولكن مدت فاطمة يدها صانعة سندوتش صغير تضع قطعة من الفلافل عليه جبن كريمي وقامت بتقسيمه لنصفين ومد كفها لغفران قائلة ببسمةٍ:

_ دوق كده أنا بحب المكس دا أوي.

نظر لكفها الممدود له، ثم تذكر طريقة ابنة خاله التي تنتظر دائمًا الاهتمام منه دون تقديم به، مد كفه يمسك بالتلك القطعة وبدأ بتناولها، والغريب أنه شعر بالسعادة منها، تناول بنهمٍ واضح وما أن انتهى حتى نظر لها مجددًا يردف ببسمةٍ هادئة:

_ عايز واحد تاني.

دُهشت فاطمة من طلبه مجددًا ولكنها اومأت تبتسم بحبورٍ وبدأت بصنع واحد أخر ومد كفها به ولكن تلك المرة قسمه بينهما يمد كفه بالشق منه مرددًا:

_ كده متعادلين.

ضحكت على طريقته وأخذته منه قائلة وهي تستعد لقضمه:

_ المرة الجاية أنت اللي هتعمله.

لم يلاحظا الأثنان جبران الذي التمعت عينيه بحزنٍ من رؤية اهمال يقين له، نظر لها فوجدها تتحدث معه عامر حول أمور الدراسة وتتبدل الضحك معه، تنهد بضيقٍ ثم نهض من مكانه تاركًا الطاولة، بينما تعجب جميع الجالسين من نهوض جبران، نظرت فاطمة نحو شقيقتها ورددت بجدية:

_ قومي شوفي جبران قام ليه يا يقين؟

نظرت لها بدهشةٍ، تردف بتبرير:

_ ما يمكن شبع!

رفعت فاطمة حاجبها باستنكارٍ، تردف ببعض الحدة:

_ يقين بطلي استهبال واتكالية وقومي شوفيه يلا باين أوي أنه قايم زعلان.

زفرت يقين بصوتٍ مسموع وتحركت تصعد نحو غرفتهما، بينما انتهى عامر من تناول الطعام ليردف بهدوءٍ عكس هذا الجنون الموجود به:

_ هطلع اذاكر لحد صلاة الجمعة.

ابتسم غفران له، يردد بكلماتٍ ايجابية:

_ ربنا معاك يا دكتور.

اتسعت ابتسامة عامر بسعادة من كلمات غفران، ليتحرك بحماسٍ نحو غرفته، بينما نهض غفران يردف بهدوءٍ:

_ شكرًا يا فاطمة.

اومأت ببسمةٍ ارتسمت على شفتيها، تنهض من الطاولة قائلة:

_ شوية وهجبلك قهوتك.

لا يوجد علاج للجروح الخفي سوى الحنـان، تحرك غفران بعدما اعطاها موافقته للموضوع، بينما نظرت فاطمة إلى ملك التي لا تزال جالسة ثم قالت ببسمة حنونة:

_ عاملة ايه يا ملك؟

حركت ملك رأسها بنصف دورة ثم اجابتها:

_ كويسة.

اكملت فاطمة مبتسمة بسؤالٍ اخر:

_ مستعدة للدراسة خلاص بكرة؟

فركت كفيها ببعضهما، تنظر لها ثم تبعد بصرها عنها، تردف ببعض الخوف:

_ خايفة... خايفة مش يحبوني.

انحنت فاطمة حتى يصبح رأسها بمستوى ملك، تردف بحبٍ وحماس:

_ مش هقولك مش ضروري يحبوكي... بس هقولك أثبتي أن ملك تتحب وقلبها حلو ويستحق يتشاف صح... اللي هيحبك هيحب ملك واللي مش بيحبك دا مش هنقوله حاجة خليه بعيد عننا.

زحفت بسمة طفيفة تكاد تُرى على شفتيها، تنهض من مكانها تصعد غرفتها، بينما أكملت فاطمة باقي ما تفعله.

***********

ادخلت رأسها فقط من خلف باب الشرفة تردف ببسمة مرحة:

_ الجميل زعل ليه؟

نظر لها بجانب عينيه ثم عاد ينظر للبيوت الموجودة حولهم بصمتٍ، رفعت حاجبيها بتعجبٍ، تدلف إلى داخل الشرفة قائلة بحيرة:

_ مالك يا جبران؟ أنا زعلتك بحاجة؟

لم يجيبها أيضًا، لتمسك يقين بكفه تتطلع له بدهشة تزداد:

_ في ايه يا جبران؟ رد عليا.

نظر لعينيها بطريقةٍ مخيفة، يجيبها بصوتٍ هامس:

_ لو اتكلمت هتزعلي مني يا يقين... فأمشي أحسن.

شعرت بالرهبة من حديثه، ولكنها أصرت على فهم سر غضبه هكذا، شدت كفه بقوةٍ أكبر متمتمة باصرارٍ:

_ لا عايزة أعرف مالك! قولي في إيه!

سحبها بعنفٍ إلى داخل الغرفة، حتى شهقت يقين بخوفٍ من سحبه لها بتلك الطريقة، وما ان دلف للغرفة حتى دفعها إلى أن سقطت على الفراش بقوةٍ، استدارت تنظر له بصدمةٍ، بينما هدر جبران بغضبٍ جامح:

_ عايزة تعرفي في ايه... في أن بحاول اديكي اهتمام وأنتِ لاء... كل ما اقرب منك تبعدي... كل ما أحاول اخلي علاقتنا احسن بدل ما أنا متزفت مجبور عليها تبوظ... في أن كل اهتمامك رايح لعامر اخويا وجوزك اللي ليه حقك بالاهتمام دا رمياه... قوليلي عملت ايه ليا يا يقين من أول جوازنا... ولا حاجة... لو حاسه إنك مش طايقني أوي كده قولي بدل طريقتك دي معايا.

استمعت لكل ما قاله بدموعٍ تسيل على وجنتيها، تنظر له بحزنٍ وألم، تشعر بأنها هي العبء الثقيل عليه، هو قدّم لها يينما هي أخذت فقط، ظلت صامتة لوقتٍ طويل كان جبران ينظم أنفاسه بعدما طفح به الكيل، نظر لدموع التي لا تزال تسيل، نظراتها الثابتة بمكانٍ واحد، ليحرك رأسه بيأسٍ متمتمًا بضيق:

_انسي يا يقين... الأفضل لينا نبعد عن بعض... لا أنتِ فهماني ولا أنا فاهمك.

كاد أن يتحرك ليبتعد إلى خارج الغرفة كعادته، ولكن اوقفه صوتها المبحوح:

_ مسألتش ليه في الوقت دا اهتميت بعامر يا جبران؟

قطب جبينه بتعجبٍ، يستدير لها بكامل جسده، بينما حركت بصره نحوه تنظر له بفيضٍ يسيل من حدقتيها، تسترسل بنبرة أشبه بجدارٍ به شروخٍ عنيفة:

_ أنت عارف عامر في سنة كام؟

تعجب أكثر من اسئلتها، ليجيبه بتريث:

_ في تالتة ثانوي.

أغمضت عينيها بألمٍ، تقاوم تلك الذكرى القاسية، ولكن هيهات قد غلبتها بكل مرة تأتي لها، فتحت حدقتيها تنظر له بألمٍ ممزوج بانكسارٍ واضح:

_ ودي نفس السنة اللي اتكسرت فيها يا جبران.

نظر لها بشكٍ، لتكمل وهي تلف ذراعيها حولها لعلها تزيل برودة جسدها:

_ خلصت تالتة اعدادي ووقتها كان المفروض أقرر ادخل ايه صنايع ولا ثانوي تجاري ولا ثانوية عامة... وعشان تفكير مجتمعنا العقيم أن الثانوية عامة أفضل من طلاب الصنايع والتجاري... ودا على أساس طلاب ثانوية عامة متفوقين واذكية وطلاب صنايع وتجارة فاشلين مع أن على فكرة طالب صنايع و تجاري دا بيتعب وبيتعب أوي وكمان الطالب اللي داخل ثانوية دا بيبقى عظيم والطالب اللي دخل ثانوي صنايع وتجاري يبقى جاب العار لأهله ويتكسف يقول إنه صنايع.. كل دا عشان نظرة مجتمعك ليك...

صمتت قليلًا تستجمع شتات نفسها، بينما تقدم جبران حتى جلس جوارها ينتظر أن تكمل باقي قصتها، وبالفعل عادت تتحدث بصوتٍ ضعيف:

_ طول عمري الكل شايفني فاشلة وغبية... أكتر لقبين كانوا بيتقالوا ليا... فقررت ادخل ثانوي عام عشان أثبت لأمي إني مش كده وأثبت لكل إني مش فاشلة وغبية زي ما بيقولوا... ودخلت أول سنة عديت بالعافية وجه وقت إني اقرر اكون علمي ولا أدبي...

اطلقت بعض الضحكات البائسة، تنظر له بدموعٍ تقطر، تردف بألمٍ:

_ وحتى دي كان برضو ليها نظرة مجتمع يا جبران... اللي يدخل أدبي يبقى غبي واللي يدخل علمي يبقى طالب ذكي وتعب اكتر من الطالب اللي دخل ادبي... ونظرة المجتمع الراجعي دا اتحكمت في كل قرارتي لحد ما خسرت نفسي...

شهقت بقوةٍ من كثرة بكائها، ليسرع جبران متمتمًا بقلق:

_ كفاية كده يا يقين.

حركت رأسها برافضٍ تسترسل حديثها لتعود تلك الندبة وتصبح جرحًا مرة أخرى:

_ دخلت علمي علوم وكملت في كل حاجة وأنا عارفة ان قدراتي مش أد كل اللي دخلته بس كملت ووقتها ماما كانت فرحانة أوي... بس مسلمتش من تريقة صحابي على أن إزاي ادخل علمي... ودخلت الامتحانات وحليت ومش هقولك إني اجيب مجموع طب بس كنت اجيب مجموع كويس يدخلني كلية... اتظلمت وقتها أوي ولقيت نفسي شايلة كيميا وفيزيا...

صمتت قليلًا تشهق بعدةٍ شهقات عنيفة، تزيد من لف ذراعيه حولها لتمنع انتشار برودة جسدها، شعر جبران بالقلق الشديد عليها ولكن ترفض التوقف عن الحديث، أكملت حديثها بآلامٍ تقطر منها:

_ مش قادرة انسى نظرة الخذلان اللي في عين ماما ولا الوجع اللي في عيون الكل وقتها... كل حاجة اتسجلت يا جبران في دماغي اللحظة دي كانت بداية لكسرة الكل ليا... دخلت دور تاني وشيلت تاني ودخلت تاني سنة جديدة على المادتين دول وشيلتهم تالت ودخلت المرة الرابعة بس كنت فقدت كل حاجة في حياتي خلاص وقتها بس نجحت فيهم لكن التنسيق في السنة دي عالي وملقتش كلية ودخلت معهد... تخيل بقى طول السنين اللي قضتهم لحد اللحظة دي بيتقالي لسه يا غبية و دخلت الثانوية عشان أعالج كسرتي من الكلمة دي فـ اتكسرت اكتر.

رفعت بصره نحوه قائلة بانكسار:

_ عارف هتلاقي أي بني آدم دخله ثانوية عامة لسه بيعاني من تروما (صدمة) منها وعمر الوجع دا ما هيتصلح جواه... عرفت ليه بهتم بعامر عشان عاد شريط كسرة مش عارفة اقوم منها يا جبران... أنا بقالي خمس سنين مش عارفة اتخطى الذكرى دي... كل ما ينزل جدول للثانوية عامة أخاف ونفسي يتخنق وكأني أنا اللي هدخل للثانوية عامة من تاني.

نظر لها قليلًا يتأمل ملامحها التي شوهه الحزن، ليمسك كفاها بحنوٍ يحاول جذب انتباهها، ثم أردف بتعجبٍ:

_ وليه محكتليش كل دا يا يقين؟

ابتسمت بألمٍ تجيبه بصوتٍ مختنق:

_ هو في حد هيحكي اتكسر إزاي؟

أومأ برأسه بايجابية ثم رفع وجهها نحوه يقبل جبينها برضا قائلًا بحنو:

_ بعد اللي حكتيه صدقيني نظرتي ليك بدل ما كنت شايفك عادية بقيت شايفك إنسانة عظيمة تستحق الكل يفتخر بيها.

ابتسمت له بارهاقٍ، ثم حاولت النهوض كي تغادر الغرفة ولكن اوقفها جبران متمتمًا بصوتٍ حاني:

_ استني يا يقين.

استدارت تنظر نحوه ببعض الحيرة ولكن يعتريها التعب، بينما تقدم جبران يمسك كفها ليتحرك بها إلى المرحاض يفتح صنبور الماء ثم بدأ بمسح وجهها بالقليل من الماء البارد، شهقت قليلًا من صدمة الماء بينما أغلق جبران الصنبور وامسك بالمنشفة وبدأ بتجفيف وجهها بلطفٍ كي لا يؤلمها، انتهى من كل ما فعله وعاد بها إلى الغرفة يترك كفها ليخرج ملابس جديد بدلًا من التي أصابها البلل، يردد بهدوءٍ:

_ خدي غيري الهدوم دي عشان اتبلت ولما تخلصي تعالي.

لم يعد لديها طاقة مرة أخرى للاستمرار بأي شيء، لا ترغب بالحديث ولا بالاشارة لأي موضوع، امسكت الملابس وانطلقت تبدلها بينما انتظر جبران انتهائها ولكن عقله وقلبه انشغالا أكثر بها، فكيف لها أن تمر بكل هذا دون أن تتحدث وأيضًا كانت تبتسم وتضحك، زفر بضيقٍ من نفسه ثم رفع بصره عن الأرض ليجدها قد ارتدت منامتها، ابتسم لها سريعًا ثم امسك كفها وذهب بها إلى الفىاش متمتمًا:

_ نامي دلوقتي شوية... وهصحكي على وقت الغدا.

قطبت جبينها برفضٍ قائلة:

_ مش هينفع فاطمة مستنياني اساعدها فيه عشان نعمل غدا جماعي.

حرك رأسه نافيًا يردد بهدوءٍ:

_ متقلقيش هتصرف في الموضوع دا... نامي بس دلوقتي.

تنهدت بارهاقٍ ثم دثرت نفسها أسفل الغطاء هي بالفعل تحتاج للنوم، بينما وقف جبران ينتظر غفوها ثم تحرك إلى خارج الغرفة ليهبط الدرج سريعًا يحمحم بخشونةٍ لتستمع له فاطمة الواقفة بالمطبخ، استدارت فاطمة تنظر له بتعجب، ليردف جبران ببهض الحرج:

_ معلش كنت عايز اتكلم معاكِ دقيقة.

اومأت برأسها ثم جففت كفها تتحرك معه نحو الخارج إلى أن وصلوا للردهة، تمتم جبران ببسمةٍ حرجة:

_ معلش يقين مش هتقدر تنزل النهاردة تحضر الغدا.

التمع القلق بحدقتيها متمتمة بخوف:

_ هي كويسة ولا فيها حاجة؟

نفى سريعًا مردفًا:

_ لالالا هي كويسة بس مرهقة شوية ونامت.

شعرت فاطمة برغبته في عدم الافصاح عن الأمور بينهما لتبتسم بهدوءٍ تتمتم بعدما استقمت لتقف:

_ خلاص مفيش مشكلة يا جبران أنا بس قلقت... هسيبك بقى عشان ألحق اكمل الغدا.

انطلقت نحو المطبخ لتكمل باقي اعمالها بينما استمع جبران لصوت المؤذن يعلن عن خطبة الجمعة، نهض سريعًا وقرر أن يغادر مع عامر إلى سبيل الله.

***********

انتهت خطبة صلاة الجمعة وتحرك كلًا من جبران وعامر إلى خارج المسجد يسيران سويًا بصمتٍ، كلاهما شارد بحياته فأحدهما يفكر بحديث يقين وما حدث معها وبدأ يعيد تفكيره بالأمر لإيجاد حل، والأخر يفكر دروس استذكاره وما الذي سيفعل به، أصبحت الحياة توزع مهام على البشر حتى لا تدع لهم وقت للاتفكير، انقطع وصال الصمت بصوت جبران المتمتم:

_ عامل ايه في دروسك يا عامر؟

نظر له بدهشةٍ من سؤاله فلم يتوقع أبدًا من جبران أنه يمكن أن يستفسر عن حياته، تعجب جبران من صمته ليردف بدهشة:

_ مالك يا بني بسألك عامل ايه في دروسك ولا مسقطها من دماغك؟

نفى برأسه عدة مرات، يجيبه بحيرة:

_ اصل دي أول مرة حد يسأل عني غير جدك وابوك... إنما أنت وغفران عمركم ما سألتم عني.

وقعت اجابته ببعض الصدمة عليه، كصخرة أُلقيت فوق رأسه لتنبه لبعض النقاط، ألا هذه الدرجة مبتعدين عنه، ظل يفكر بحياته فلم يجد بالفعل مرة يسأل بها عنه دائمًا يوبخه عن دلوفه لغرفته ولمس اغراضه ويصبح منشغل بالعمل مع جده أو بحياته ووسواسه القهري، تنهد بحزنٍ يبدو حقًا أن هناك بعض الأفعال العائلية قد نسوها فأصبح الفتور بينهما أكبر، ابتسم له قائلًا:

_ لا ما الدكتور عامر ان شاء الله هـ يتسئل عليه بعد كده!

غيم القلق على وجهه، يشعر بخوفٍ مما هو قادم، ليسرع جبران بالحديث عندما وجده صامتًا والخوف يقطر من عينيه:

_ مالك يا عامر فيك ايه؟

ازدرد لعابه بصعوبة يجيبه بتعبٍ يعتريه الحزن:

_ هو أنا شيلت المسؤولية كده امتى؟ حاسس الموضوع أكبر مني ومش هقدر أكمل؟ عايز اهرب من كل دا وارجع عامر اللي بيهزر ويضحك مش قاعد شارد وبفكر هو أنا ممكن انجح!

لم يتخيل جبران أن عامر يضمر بقلبه كل تلك المخاوف، يرى شعور شقيقه بأزمةٍ وخوف مما هو قادم، زفر ببطءٍ ثم ردد بهدوءٍ يحمل حنوًا:

_ مع الزمن يا عامر كلنا بنشيل مسؤولية... خليك عارف حاجة مهمة أن سنك دا أكتر سن مميز عارف ليه؟ عشان هتقدر تجرب وتقع وتقوم تاني من غير ما حد يلومك وحتى لو لامك فمش هيبقى اوي ... لكن لو ضيعت السن دا في الخوف من التجربة وأنك تحاول تشيل المسؤولية لما تبقى ابن عشرين وقتها هتشيل المسؤولية غصب عنك ولو غلطت اللوم عليك هيبقى أضعاف... جرب واغلط وصلح من دلوقتي واحنا معاك يا عامر هنكون فخورين أن عندنا اخ اسمه عامر سواء عمل أو لاء حبنا ليك عشان أنت أخونا.

ربما تلك الجرعة التي كان يريدها، لم يطالب بها ولكن شاء الله أن يرسلها له بعدما اهتدى لطريقه، فربما لو لم تهتم يقين ويتشاجر جبران لاستمرت الحياة فاترة هكذا، ابتسم عامر له ثم قال بامتنان:

_ شكرًا يا جبران.

ضرب على كتفه بمرحٍ قائلًا:

_ عيب ياض أنت أخويا.

لم يكمل كلماته وكانت قدمه قد غرست ببركة صغيرة من الماء وبها طين، اتسعت عين جبران بصدمةٍ، بينما نظر عامر لما حدث ومسح على وجهه قائلًا بنفذ صبر:

_ يلا يا جبران نجري عشان تغيّر.

لم ينتظر دقيقة واحدة بل ركض سريعًا ليبدل تلك الملابس بينما ركض خلفه عامر ولكن لم يلاحظ بروز صخرة من الأرض ليتعثر بها ويسقط على الأرض بقوةٍ جعلته يصرخ ألمًا، ظل على الأرض قليلًا يرفع رأسه نحو جبران فوجده لايزال يركض، ليهتف بألمٍ ممزوج بغيظ:

_ هتروح من ربنا فين وأنت فيك كل العِبر.

***********

انقضى يوم الجمعة بعدما جهزت فاطمة طعام الغداء تستقر الأمور بينها وبين غفران، في حين قرر جبران ألا يتحدث مع يقين بما حدث لها، بينما عاد عامر يستذكر دروسه مجددًا واخبر ملك بأن تستعد لبداية يوم دراسي جديد.

***********

( عشان خاطري يا بابا خلينا اكلمهم في التلفون... بناتي مش هيعرفوا يتصرفوا لوحدهم ومقدرش على بُعدهم كده)

تلك الكلمات المتقطعة التى صدرت بعد شهقات طويلة من بكاء حاد، تُتمتِم بها عبر الهاتف، في حين احتدت نبرة جبران الأكبر ليردف بطريقةٍ صارمة:

_ أنا قولت كلام في الموضوع دا مش هيتكرر يا ناهد... رجوع للبنات مش هيحصل أبدًا غير لما أقول... واقفلي دلوقتي عشان ورايا شغل ولو عرفت إنك كلمتيهم يا ناهد هتتحرمي من انك تشوفيهم لأخر العمر.

أغلق هذه المكالمة بغضبٍ، بينما ظلت تشهق بقوةٍ ينتفض جسدها لفراقها الذي لا تطيقه عن بناتها، تشعر بأن هناك من يسلب روحها، نظر لها خليل بيأسٍ يقف على اعتاب غرفتها يرى ما تفعله ثم قال بهمسٍ لم تسمعه:

_ اظاهر إن مشوارنا هيطول معاكِ يا ناهد.

***********

وقفت أمام المدرسة تنظر نحو عامر ويقين اللذان أصرا على توصيلها إلى المدرسة، فقالت بنبرةٍ تحمل الضيق:

_ متتأخروش... مش عايزة اروح وحدي.

أومأ عامر سريعًا، يبتسم بحنوٍ لها قائلًا:

_ عيب يا ملوكة... عامر هيجي جري لملك وهتروح معاه، بس عايز ملك متخفش من حاجة وتبقى شاطرة عشان يبقى فخور بيها.

زحف طيف بسمتها لثغرها، ثم استدارت تدلف إلى المدرسة بعدما وضعت السماعات تنظر للساعة بحرصٍ لتعلم وقت رنين الجرس لبدأ طابور المدرسة، تنظر للجميع ببعض الرهبة ولكن حديث عامر لها جعلها تقاوم هذه المشاعر.

تحرك عامر مع يقين إلى الشارع الخاص بالسوق بعدما طلبت منهما فاطمة أن يحضرا بعض الأشياء، لتردف يقين بصوتٍ أشبه بباكي:

_ ابوس ايدك روحني يا عامر وروح أنت أنا مش عايزة ادخل المكان دا تاني.

نظر لها عامر بشجاعة قائلًا دون أن يعلم ما الذي سيلقاه:

_ عيب عليكي دا أنتِ معاكِ عامر الشبح.

**********

هبط من الدرج يبحث عن فاطمة، فقط هبطت منذ الصباح ولم يعود للغرفة مجددًا، يعترف لنفسه بأن اهتمامها البسيط لتفاصيل بحياته جعله يرفض غيابها عنه، تحرك نحو المطبخ فلم يجدها أيضًا، فقرر الخروج إلى الحديقة المنزل ينظر بعينيه يمينًا ويسارًا إلى أن وجدها تقف مع سيدتان يحملان الحليب والجبن، يبدو أنها تشتري منهما، كاد أن يقترب منها ولكن استمع لصوت احدى تلك السيدات تقول:

_ اسم الله عليكي يا فاطنة جمال وأدب وألف من يتمناكِ بس إيه يا حبيبتي اللي خلاكي تشيلي مسؤولية كبيرة كده... دا أنتِ عايزة اللي يحافظ عليكي مش يمرمطك.

قطبت فاطمة جبينها بتعجب، تتسائل بحيرة:

_ هو مين اللي ممرمطني؟

اجابتها تلك السيدة بحرجٍ زائف:

_ سامحيني ياختي بس الصراحة إيه اللي يخليكي تستحملي واحد زي استاذ غفران كده دا عصبي واسلوبه وحش... وأنتِ كتير عليه مفكيش غلطة.

كان يعلم أنه سيستمع لتلك الكلمات إن غادر غرفته، ولكن شعوره بالألم في تلك اللحظة لم يكن عادي بل كان مخيفًا يقبض على صدره بقوةٍ، يخنق أنفاسه بشدةٍ!



تعليقات
×

للمزيد من الروايات زوروا قناتنا على تليجرام من هنا

زيارة القناة