الفصل التاسع والعشرون 29 ج1
بقلم نهال مصطفى
"وقلب الإنسان غريبٌ، رحّالٌ في سفرٍ، أينما هامَ أو حلَّ يتقصَّى مواطِن الأُلفة.. فتارةً يلقاها في روحٍ، أو في سكنٍ، أو في لحنٍ، أو في صورةٍ، أو في كتابٍ.. وتارةً يأنسها في نفسه.
ومرّاتٍ يفتقِدُها في أيّامه الحاضرة، فيستحضِرها حِينًا في خياله، ويرْثِيها حينًا في مَباكِيه."
#لقائلها .
•••••••••••••••
عنـوان الفصل :
( تقـاوم ألمًا .. وتهزم ألمًا )
" امرأة جاءته كضربة حظ في الدقيقة التاسعة والثمانون من اليأس الذي كاد أن ينهي حياة قلبـه "
كُل شيء رائع بوقته ، كُل شعور فريد نعيشـهُ؛ نحيا بهِ .. يكون جميلًا لولا وجود ذئب الندم الذي يُراقبك من بعيد ، يشاهدك وأنت تمرح كيفمـا تشـاء ثم يسبقك ركضًا لغُرفتك ويُقفل عليكما البـاب مساءً ، وتبدأ جولة صراع فتاكة يخوضها القلب وذئب الندم بدون طرف تحكيـم ينهي هذه المعركة في ساعة ما ...
عاد هارون لغُرفتـه بعد انفلات زمام قلـبه الذي ساقـه لطريق الذنب ، والنـدم .. قفل بابه بعد ما ودع ليلتـه الشهية ووقف أمام المرآة غارقًا بتفاصيل إمراة رممت قلبه المشروخ وأعادته للحيـاة ..
راودته تفاصيل ذراعه الذي عانق خصرها وكأنه كان ممسكًا بيده زهرة من الجنـة شعورها لا يوصف من شدة الجمال ..
أخذ نفسًا طويلًا وهو يتذكر تفاصيـل عينيها المُقمرة التي فعلت بقلبه كافة الظواهر الكونيـة ، أحدثت ظاهرتي المدّ والجزر في مجرى شواطئ دمه الهادئة طوال عمره ..
نزع ساعة يده وظل يتذكر كلماته ، أوامره .. فرضه المُبالغ في السيطرة عليها ، كونه معها شخصًا لم يعرفه ولكنه اكتشفه على حدود دولتها ؛ ليتساءل.. لِمَ كل هذا التحول المفاجئ يا عزايزي ؟!
فك زر بذلته ونزعهـا ثم رفعها لمجرى أنفاسه ينعم برائحة عطرهم الممزوج ببعضه ، كما امتزجت قلبهم منذ الرقصة الأولى .. ترك السترة بهدوء ثم عاد للمرآة وهو يفك رابطة أسرها من حول رقبته ، قلبه بتشتت وهو يتساءل ألف مرة بينه وبين نفسه حول كفارة الذنب الذي اقترفه للتو ! خوفه الشديد من عقوبته إثر ملامسته لإمراة لا تحل له !!
برر قلبه المتمرد على عقله وضميره قائلًا :
-هذا كله يعود لسحر إمراة مثلها .. لقد غلب سحرها إيمانك !!
زفر بضيق كأنه يطرد حرائقها من جوفه ممسكًا بهاتفـه ليتصل بأخيه ، يستفتيه ، يشرح له الأمر !! كيف يغتفر ذنبه !! كيف ينتصر على تأنيب ضميره الشرس !! تردد كثيرًا ثم رمى الهاتف من يده بتأفف :
-إذا بُليتم فاستتروا يا هارون !! ديه هِلال ممكن يجيلك هِنه يقيم عليك حدود الله ..
قلب الشاشة عن رقم هلال ثم فتح معرض الصور فأول صورة كانت تخصهما معًا .. دقق بكُل شيء حتى أنوثتها ، جمالها وبراءتها الطاغيـة لم ينجٌ منها ، أحدثت زلزالًا بصدره دوّى أثره بابتسامة خفيفة على وجههُ ويبدو أنه أقنع فرقد ذئب الندم مبررًا :
-ربي لا تلوموني فيما لا أملك !! وأنا مش عارف عملت كِده ليه !! بس أنتَ غفور رحيم يارب ..
ثم ملأ صدره بالهواء وهو ينزع حذائه متجردًا من دنس قلبه الذي خدعه تلك المرة وساقه لبحر الهوى :
-استغفر الله العظيم وأتوب إليه....
~بغُرفتها .
كانت مُمددة بفراشها وساقيها متدلدلتين يُلامسا الأرض بعد عودتها مساءً من مدينة الحُب التي طلت عليها من عينيه لدقائق محدودة ، تحملق النظر بالسقف كفها على قلبها تتحسس أول قشعريرة حُب استدعت معها انتشاءً بعودة الحياة لهذا القلب المهزوم من الأيام ، ذلك الرجل المثير للعقل والقلب !! تبعه شعورٌ بحزنٍ رقيق على العواقب التي تُحيل بينهما حتى وأن جاء ضيف الحُب ، نفسه الحزن الذي يزورها بعد كُل لحظة أمل ، يُسقط على قلبها مثل ورقة شجر هشة سقطت من غصن، لكنها لا تلبث طويلًا حتى يحملها نسيم صوته التي سكن مسامعها بعيدًا.
مدت يدها وشدت الوسادة ووضعتها فوق صدرها المتراقص كي يهدأ كي يدفأ بعد ما ذاق الحرارة الحقيقية بحضنه ، ضمتها بقوة وهي تنتشي برائحة عِطره التي كست ثيابها وروحها ، حضنه الذي أحدث بجسدها الضعيفة ما لم يحدثه مولد كهربي .. تتراقص الضحكات حافية على وجهها وهي تردد اسمه بين كل نفس والآخر ، لتثرثر رافضة ذلك العبث :
-لالا !! اكيد ده حلم !! حتى ولو حلم كفاية إني مبسوطة .. مبسوطة أوي كمان .. أنا طول الطريق كنت سرحانة وتايهة في عالم حلو أوي .. عالم يجنن مش فيه غير أنا وهو وصوت منيـر .. أيه الحلاوة دي!!
ثم قضمت أناملها ببراءة وتنهدت معترفة :
-حضنـه كان ليـل من كتر ما هو مريح لو نامت النجوم جواه هتصحى شموس كلها حب وحيوية ..
ضربت الأرض بقدميها كالطفلة صارخه بشغف :
-هو ازاي كده !! قلبي هيطير مني ومن تُقله وجماله وشياكته ورخامته ! أنا عُمري ما قابلت في حياتي التركيبة دي أبدًا .. رجل جاي من عالم تاني .
ثم قفلت جفونها وهي تستحضر بالذاكرة صورة ملامحه الجادة التي كانت تُراقصها فتمنت راجية :
-لو كان الزمن وقف عند الحتة دي وبس !!
ثم وثبت بملل تبدل ملابسها وهي تُغنى مقاطع مشتتة لمنير ، " ناداني من يميني ولسه بيناديني " .. " يا عزيزة با بنت السُلطان لو يتغير الزمان " ... " وده حُب أيه اللي من غير أي حُرية " .. " تعالي أوام تعالي خُدي من الحب نايب"
رفضت أن تتحمم كي لا تزول رائحة عطره من فوقها ، ما فرغت من تغير ملابسها مرتدية " سلوبته " شتوية على شكل أرنب .. فأول شيء فعلته بعدها هاتفت رغد التي كانت تنتظر اتصالها على مراجل من نـار ..
تعرف الاثنتان على بعضهما البعض وجرت المكالمـة روتينية حتى تفوهت ليلة مشدوهًا :
-خبر أبيض ؛ يعني أنتِ وافقتي تتجوزيه ومش تعرفي أنهم بيرفضوا جواز الأغراب عنهم !! أزاي هاشم يعمل كده ؟!
اعتصرت رغد جفونها بحسرة :
-إحنا الاتنين خبينا يا ليـلة ، وأنا بكلمك عشان اتأكد وبس من الكلام اللي سمعته ؟! لو روحت عند أهله بجد ممكن يقتلوني ؟
احتلت الشفقة عيني ليلة المتأرجحة :
-بصي يا رغد ، أهل هاشم ، أخواته وأحلام وباباه ناس لطيفة جدًا وأنا اتعاملت معاهم شخصيًا .. بس المشكلة في الأعراف عندهم .. أنتِ متعرفيش عملوا أيه في هِلال أخوهم لمجرد أنه نصف بنت اتظلمت واتجوزها ..
ثم ساد الصمت للحظات وأتبعت :
-أنا عايزة اساعدك ومش عارفة ازاي !! بس أي رايك لو قلت لهارون .. آكيد هيساعدك ؟
انخرطت عبرات رغد :
-لا ، أنا معايا رقم هارون لو كُنت عايزة اكلمه كُنت كلمته ؛ بس .. حتى الحياة بيني وبين هاشم بقيت مستحيلة هو استغنى عني بسهولة يا ليلة بعد الحُب ده كله .
كانت ستُخبرها بخبر زواجه من " نغم " ولكنها تراجعت كي لا تحمل قلبها عبئًا جديدًا .. فأكملت رغد :
-الفكرة أن دلوقتي فيه بيبي !! البيبي ده هيتربى من غير أب !! ولما فكرت خفت أظهر في حياة هاشم يتأذى هو وابنه وو
صاحت ليلة بحسرة مصدومة :
-وكمان في بيبي !! وهاشم يعرف طيب !! ازاي ساب ابنه ومشي ، لالا هما مش كده صدقيني ..
كفكفت رغد سائل أنفها وأتبعت:
-هاشم ميعرفش إني حامل ، مشي قبـل ما أقوله ..
-يا روحي !! بجد زعلانة عليكِ موت .. بصي عايزة تسمعي نصيحتي !!
-قولي ، بس أنا خدت قراري خلاص ..
أتبعت ليلة مقترحة :
-أنتِ كده كده جوازكم رسمي وعند مأذون يعني البيبي هيتسجل بسهولة ، وسيبي هاشم شويـة لحد ما يهدى ويراجع نفسـه هو بس اتصدم آكيد ، وأنا هحاول اتابع الدنيا عندهم ونفكر بهدوء هنعمل أيه .. دلوقتِ أي قرار هناخده مش لصالحنـا .
ردت بيأس:
-ملهوش لزوم ، أنا عرفت خلاص هعمل ايه .
ربتت ليلة على قلبها وظلت تمنحها اقتراحات عدة بخصوص حياتها ووعدتها بأنها ستجد معها حلًا بأقرب وقت ممكن .. ولم تتركها إلا وابتسامة المجاملة والشكر على وجه رغد .. قفلت المكالمة وهي تستثقل حجم المسئولية عليها :
-حرام رغد مسكينة ونغم كمان أيه ذنبها والبيبي .. كل ده من حضرة الظابط !! حرام بجد ..
بالغُرفة الأخرى ؛ جُن جنونه من كثرة محاولات اتصاله المتكررة بـ ليلة فيجد الهاتف مشغوًلا ، دبت براثن الغيرة في قلبه حول هوية من تحدثه بعبث مراهق لا يليق بشخصه ، حتى أجرى مكالمة لأخر مرة وهو يقنع نفسه بأنها الأخيـرة وسينام بعدها فورًا ، ولكن تلك المرة خيبت ظنه و ردت بسرعة ، فآتاها صوته ثائرًا ويتردد صداه من الشُرفة :
-أنتِ بتتكلمي مع ميــن كُل ديه !!
شرعت بفتح الشُرفة ببطء وهي تعتذر منه :
-سوري بجد والله !!طيب أنت متعصب ليـه ؟
ثم خرجت للشرفة فوجدته أمامها بشرفته ، تدلى الهاتف عن أذنها وسألته :
-ها أنت متعصب كده ليه !
دار لعندها وهو يقترب من الجدار الفاصل بين الغُرفتين محاولًا تمالك أعصابه :
-ولا حاجة كنت ووو كنت جعان وبشوفك لو حابة اطلب لك معايّ وكل..
ثم رمقها بتخابث:
-شوفي بقا كنتِ شغالة محمولك مع مين ساعة وربع _فتسرب الشك لعنده متمتمًا_شريف ولا شهاب ولا أي شين معدية من معارفك وو
أعقبت بعفوية وبدون تفكير مقاطعة لحديثه :
-لا دي كانت مراة أخوك .. ر
عقد حاجبيه باستغراب مُقاطعًا الكارثة قبل أن تحدث :
-رُقية !!
ضربت على رأسها بتردد وكأن وعيها عاد إليها :
-اه هي ، مين غيرها يعني !! أنت حد متجوز في أخواتك غير هلال !! كُنت بطمن عليها والكلام أخدنا وبس ..
حدجها بخبث:
-كل الرغي ده مع رقية !! بتچيبوا طاقة منين للرغي ديه كله مش عارف !! بالكم فاضي قوي .
ثم افتكرت المكالمة المفتوحة بينهما فقفلتها على هاتفها واستند معصمها على الفاصل الخشبي بينهما لتصالحه بصوت منخفض :
-و يا سيدي جعانة ، وبالمناسبة .. أنا حابة أعزمك على العشا ونحتفل بخبر النهاردة .
ثم أدخلت الهاتف بجيبها وهي تشد غطاء رأسها الأرنوبي على شعرها فجملها بعينيه أكثر :
-تتعشي سمك و جمبري واستاكوزا ؟!
فكر للحظة وهو يرمى هاتفه على الطاولة الصغيرة متحيرًا :
-ما بزيادة فسفور !! غدا وعشا !
-ليه ؟! ماله الفسفور ده ڤيتامين يعني مش فاهمة زعلان ليـه ؟!
-أفهمها كيف دي !!
حك رأسه إثر وقوعه بالفخ وهو يبرر :
-ياستي كُتره مضر على صحة القلب .. قصدي مضر بصحتي .. شوفي حاچة غيره !!
دست كفوفها بداخل جيوبها وقالت بدلال:
-مش فاهمة حاجة بس ماشي ، طيب أيه رأيك أوديك مطعم بيعمل حمام محشي أجمد من بتاع صفية بكتير ؟!
بملامح وجهه المشدوهة :
-يعني يا حمام يا جمبري واستاكوزا !! هو حد قال لك عليّ أني عريس وناقص تغذية !! ليلة بقول لك نفسي اتسدت هنامو خفيف .. ماله الخفيف ؟!
جاءت مقترحة :
-طيب خلاص شكلك مش حابب نخرج ، نطلب سندوتشات خفيفـة من الرستوران تحت وناكلها هنا قُدام البحر ؟!
-معقول ديه !!
راقت له الفكرة وقام بطلب بعض السندوتشات سريعة التحضيـر من مطعم الفندق ثم عاد إليهـا متناسيًا أمر نومـه الذي خطفه طائر الحُب من عينيه وهي تتطالعه بنظرة لا يتحملها قلب العاشق وتستعرض ثيابها الفضفاضة :
-أيه رأيك في لبسي ؟! الأرنوب شكله حلو .
شبح ابتسامة خفيفة على ملامحه مكتفيًا بنظرة سريعة وهو يقول :
-لا شياكة !!
-بجد !! يعني شيك ؟!
-على قولك شيك ..
استند مرفقها على سور الشُرفة وهي تُطالعـه بإعجاب وتقول بعفويـة :
-أنتَ عارف ، مرة واحد اتجوز واحدة كانت شيـك صحى من النوم لقاها كمبيالـة ..
ما أنهت مزحتها ونكاتها فتراجعت للوراء بضحكة تراقص القلـب ويغير منها ترنيم العصافير ،بجانب جمالها الساحر كانت مرحة خفيفة ظل و هذا ما يعقّد موقفه أكثر .. بات المفر منها مستحيلًا ؛ ابتلع ضحكته بثقل كي لا تتزحزح هيبته وهو يتأمل ملامحها الثوريـة التي تحدث بصدره قلقًا :
-ربنا يشفيكي ، أدي اخرة قُعادك مع هيثـم ..
عادت له وهي غارقة في دوامة الضحـك لتُداعبه بالحديث:
-طيب والله حلوة ، أنت مضحكتش ليه ؟! وشك بيضحك على فكرة .
حك أنفه ليخفي ضحكته محافظًا على غروره أمامها :
-أنتِ مش ناويـة تعقلي !!
-منا عاقلة أهو ، وأعجب الباشـا كمان ، وبكرة هبقى مذيعـة مشهورة وكُل الناس هتشاور عليا ، ووقتها تليفونك مش هيبطل رن من طلبات الجواز ، كُلهم هيجي يطلبوا أيدي منك عشان هديهم رقمك .
تأفف بهدوء ليقتل ذرات مشاعره المتطايرة:
-وماله !! ما أنتِ زي هاجر وهيام .. وعريسك عليّ لازم اختار عريسك زيهم .
كورت يدها تحت ذقنها مدركة الحدود الفاصلة بينهما ولتذكره بعهده مع زينة :
-على فكرة .. لازم تتصـرف في دبلة بسرعـة ، بصراحة أنك توقع الدبلة دي مش لطيفة وزينة هتزعل واسمها قلة تقدير لخطيبتك .
رد على الفور بدون تفكير :
-أنا سبت زينـة يا ليـلة .. ومش هكمل في الچوازة دي ..
خفق قلبها من مكانه فارحًا ولكنها ارتدت قناع الاهتمام لأمره :
-أيه ؟!!! أنتَ لحقت !! فجأة كده قررت هتسيبها ، خطبتها ليه من الأول ومسمعتش كلام أحلام !!
تنهد بارتيـاح :
-لما فكرت لقيت كِده أحسـن ، قولت بلاش أظلمها معاي .. وو
أكملت مستفسرة :
-مقدرتش تحرك مشاعرك مش كده !! زي ما أحلام كانت حاسـة وبتقول .
-حاولت مقِدرتش .
-المهـم إنك مرتاح طيب؟!
تطالع لعنـدها :
-مش عارف ، كنت فاكر أنها أي چوازة والسـلام ، وعيلين والعمر هيخلص في الشغل .. كل ديه اتبخر فچاة وبقيت بقول مش هو ديه اللي أنا عاوزه ..
بللت حلقها وهي تقول ناصحه :
-مش صح ، الطفلين دول عشان يجوا لازم يلاقوا أب وأم بيحبوا بعض عشان هما كمان يحبوا الحياة .
حانت منه نظرة إعجاب :
-أنتِ صح ..
داعبته بالكلمات بمرح :
-يعني أنا وأنتَ سينجل زي بعض دلوقتِ !! ماشاء الله جيت بلدكم فسخت خطوبتي ، أنت جيت بلدي فسخت خطوبتك !! للدرجة دي وشنا حلو على بعض !!
مازحها بخفة :
-هي أقدام يا ليلة !
-اسمها أقدار يا عُمدة ، بالمناسبـة ؛ أيه الفرق بين هارون القديم وهارون بتاع دلوقت ؟!
تذكر أيامه القاحلة بعذاب مرير يدفنه كل ما يرى طيفه :
-الفرق أن هارون القديم كان يحلم، يسمع لصوت قلبـه ، ويفتش على اللي يِسعدهُ وبس ..
أما اللي قِدامك شخص معندهوش قلب ، قلبه رماه في تُربة وقفل عليه من زمان .
اقتربت خطوة أخيرة لتلصق بالسور الخشبي الفاصل بينهمـا :
-لو سألتك سؤال .. هتجاوبني بصراحة مش كده ؟!
-أنتِ عارفة ماليش في التحويـر .
بللت حلقهـا :
-هارون بيـه أنتَ حبيت قبـل كده ؟! حبيت والحب ده مكملش ومن وقتها قفلت على قلبك وبقيت كدا!!
تناول سيجارة من عُلبـته واستأذنها قبل إشعالها فوافقت على مضض متحمـسة لسماع جوابه الذي استغرق وقتًا طويلًا في التفكيـر بهِ :
-في تانيـة جامعـة ، عچبتني واحدة معاي في الدفعـة ، كانت زعلانة أني طلعت الأول وهي خدت ترتيب تاني ، عچبني شطارتها وذكائها ..
-حلوة !
-كانت حلوة ..
تنهدت بشغف:
-ها وبعدين كمل ..
-ولا قبليـن ، خدت شهر اتنين لآخر التيرم ، كنـا نتكلمـوا لغاية ما قفشتني أحلام وحكيت لها كُل حاچة ..
تحفزت لسماع المزيد :
-عملت أيه أحلام !! نصفت قلبك مش كده!
-أحلام في الحق چبارة ميعركيش حنيتها ..
أشادت معجبه:
-أحلام دي سُكرة .. كمل .
-قالت بالحرف كِده
"توبـنا واسع وبنات العزايـزة على قفا من يشيل اختار منيهم من بكرة أروح أخطبهالك .. بس بلاش تصغر أبوك وسط الخلق .. أنتَ الكبير والكبير لازمًا يبقى فوق الكُل ، متخليش حد يمسك عليك غلطة ومتظلمش البـت اللي معاك يا هارون وتخش في مشاكل منتش قدِها ."
رمشت مرتين بشفقة :
-وسبت البنت ؟
-سبتها طبعًا ، وقفلت بابي في وشها ومن ساعتها قفلت باب قلبـي لمدة ١٥ سنـة !
سألته :
-لسه بتفتكرها ؟!
نفى قطعًا :
-لا خالص لوّ شوفتها مش هعرفها أصلًا ، وهي اتجوزت وخلفت وعرفت أنها سافرت كمان من بعد الچامعة ..
-زعلت عليها ؟!
-في وقتها زعلت ، لكن بعدين عرفت أن ديه الصح ورضيت .. وأن الحُب مش كُل حاچة
-الحُب أهم حاجة ...
أنكر :
-كلام مراهقين ..
ابتسمت ببشاشة :
-طيب أيه هي مواصفات البنت اللي ممكن تفتـح قلبـك ده المقفول لـه ١٥ سنـة يا عُمدة ؟!
ضلل على سؤالها الذي لامست به جدار قلبه :
-قصـدك يحبها يعني ؟!
-بالظبـط كـده..
-طب أنتِ شايفة يعني أيـه الحُب أصلًا ..؟!
هشت على وجهها الذي يشع حرارة بتوجس لتقـول :
-أنا معرفش الحُب غير من الأغاني القديمـة وبس ، مرة صباح غنت وقالت أن الحب ده له علامة ، ياخدك ويلف بيك بحور ياما ..ويسيب القلب في دوامة ..ويصحيك بالليل من غير داعي وتلاقيكي بين عقلك وقلبك ..
ثم أخذت نفسًا طويلًا وأتبعت بشرود وهي تتأمل البحر لتقـول :
-بس قالوا كمان أن بحر الهوى غدار والخطوه فيه فدان نزلوه فى ساعة شوق .. قبل الاوان باوان .
ثم عادت لتنظر له :
-بس بابي مقاليش يعني أيه حُب .. قال لي اختاري الشخص المناسب يا لي لي ، لأن الشخص المناسب هيخليـكِ تقعي في الحب تلات مرات ..
ثم دارت لتسند ظهرها على السور وتتأمله:
-لأنك ساعتها هتقع في حُب نفسك مرة ، وحب الشخص ده مرة وحب الحياة كُلها مرة .. أظن بابي كان قصده أن الشخص المناسب هو اللي هيعلمني الحُب مش كده !
ألتفت لحديثها المثير لقلبه وعقله باهتمام متسائلًا بفضول خفي :
-وأيه هي مواصفات الشخص المناسب ليكِ .. أحم عشان أعمل حسابي قبل ما أوافق أو أرفض أي عريس يچيلك ؟!
اندلعت من صدرها ضحكة مسموعة وهي تُجيبه متدللة :
-بصراحة أنا عايزاه زي ما شادية غنت وقالت وو
ثم وضعت كفها على سطح الفاصل بينهما واستندت بذقنها عليه وأتبع تشدو على قلبه كأنها تُخاطب عينيه بغنج خاصة بعد تجردها من شعور الخيانة لمشاعر زينـة أحست بملكيته :
-في إيديه قوة تهد جبال ، وعليه صبـر و طولة بال ، وعينيـه حلوة ...
ثم أصدرت صوت إيماءة:
-لو كان شبهك وافق على طول ..
ثنى سيجارته بقلب المطفأة وهو لا يزحزح عينيه المنتشيـة بسماعها وبسماع ترانيمها المُسلية و يراقبها بعينين تحترم عفويتها وتلقائيتها مجردًا نيته تمامًا من بيادر الإعجاب بينهما :
-أنتِ سبتي الأساطير والحكايات وبقيتي مغنواتية !
-شهرزاد لازم تكون بتعرف تعمل كل حاجة مسليـة ومختلفة ، عشان الملك ما يزهقش .. وبعدين أنت مجاوبتش عليـا في مواصفات البنت!
-هي شهرزاد دي الملك كان سايبها ضايعة كِده وبيتفرچ عليها !!
ثم حرك حاجبيـه :
-دانتي مش عتنسي واصل !!
-تؤ .. جواب بقا وسيب موضوع شهرزاد هنتخانق عليـه بعدين بس أبقى فكرني .
استند على الحائط وعقد ذراعيـه أمامه صدره بفتور وقال متعمدًا إثارة غضبها :
-عادي ، تكون عاقلة وبت ناس وتهدي السـر ..
تمتمت المواصفات في سرها وهي تقول بصوت مسموع :
-هي أكيد مش هتفضح السـر يعني وبنت ناس طيبين !! بس عاقلة ؟! اممم دي شرط اساسي لابد منه !
-طبعًا !!
-طيب لو عاقلة نص نص ؟!
تعمد اللعب معها :
-تُؤ متمشيش معاي .. لازم تكون عاقلة ومش بتاعت حواديت ولا ختاريف ( تخاريف) .
خيم اليأس على ملامحها :
-خلاص بقى مفيش فايدة روح دور عليها بعيد عن هنا ..
أخرج ضحكة هادئة وقال منسحبًا :
-شكلهم جابوا الأكـل ، هروح أخده ..
تركها لحيرتها وهي تهذي مع نفسها بخيبة :
-قفلها خالص ، طبعا هو شايفني مجنـونة ومنفعش ، أحسن بردو جت من عنده .. وهو يطول أصلًا ياخد واحدة زيي بتعرف تقول حواديت!
غاب عدة دقائق ثم عاد وبيده طبقين من السندوتشات المحشية، قدم لها طبقـها وشرع هارون في تناول خبزه الساخن المحشو ، ما أخذت قطعة صغيرة بفمها ، قالت منبهرة :
-الشاورما بتاعتـهم تـجنن .. تدوق !
مدت له الخُبـز كي يتذوقه مكان ما قضمت وكأنهما يتبادلان نوعًا لذيذًا من القُبل وهي تطعمه بيدها وتخشى من تبعثر الخبز المحشو ، فتشربت ملامحه دفعة واحدة وهي تسأله :
-عجبـك !
-شغال ..
أخذ قطمة من خبزه الخاص وهو يطالع القمر المُتقلص بالسماء واختبئ بـ عينيها المقمرة لتضيء ليله .. لقد كان ثابتًا يقاوم ألم الذنب ويخمده بترانيم القلب برفقتها ، يحافظ على هيبته تعبيراته صوته بنبرة محدودة حذرة لن يتغيـر به إلا عينيه اللامعـة باتت أكثر بريقًا .. ما فرغت من نصف وجبتها فسألته :
-ممكن أسأل سؤال تاني ..؟
أتمنى أن تعذِر انهماري الدائِم لديك ، أنا لا أعرفُ طريقًا يصلُني للأمان كالطريق الذي يجلبُني لعنـدك .. و تنفسته بقُربك ..
-هاه ؟!
-أنتَ ليـه رفضت نرقص في الفـرح ، بس رقصنا عادي على الشط !! خفت حد يشوفنـا ويحصل لك مشكلة !!
ضغط على الورقة الملفوفة حول الخبز ورماها بالسلة ثم ارتشف القليل من الماء وعاد ليُجيبها بصراحة :
-شوفي يا ليـلة ، هارون العزايزي مبيخافش من حاچـة !! ولو عملت حساب لحاچة كانت عشان شكلك قُصادهم مش حِلوة يشفوكي بترقصي مع واحد لا هو أخوكي ولا چوزك !!دي نقطة .
ثم تطلع بها :
-النقطة التـانيـة .. إذا بُليتم فاستتروا ؛ مبقاش عامل معصية وتجهر بيها ! مش عاصي وبحچ !! مش هقول لك اللي عملتـه صح ، ديه ذنب كبير أن يدي تلمس واحدة مش حلالي بـ
قاطعتـه :
-طيب ليـه رقصنا على البحر ولا كُنت حابب تُرد على جُملة شهاب السخيفة لما قال مالكش في الرقص زينـا !!
-سيبك منه ديه تافه .
ثم أخذ نفسًا طويل وأكمـل متحيرًا :
-يمكن حسيت أنك نفسك ترقصي محبتش أكسر بخاطرك ، أو احتفال بفرحة البرنامچ مثلا .. أو
ثم بلع اعترافه بأنه تصرفه كان نايعًا من أمر قلبـه وقال هاربًا :
-أنتِ مش هتنامي ولا أيه !
ردت بشـك :
-أنت عايز تنام !
-مش عندك مشاوير بكرة لازمًا تنقضي !
-هتيجي معايا على فكرة !! مش أنتَ محامي وجامد وكده !! لازم تيجي معايا عشان تراجع العقـود ...
رد بدون اعتراض :
-هاچي معاكِ ، مش همشي غير وموضوعك ديـه خلصان..
رُسمت الابتسامة على وجهها وهي تلوح له مُعلنـة عودتها لغُرفتـها والقلوب تتعانق .. دخل كل واحد منهم لغرفته وهي يفتش عن شيء ما ينقصه غير معروف.. كانت تتفقد الغرفة بيحيرة وحماس وهي تنظر بهاتفها تفكر :
-اكلمه !! أممم طيب أقول ايه مثلا !! أوف آكيد نام !!
في تلك اللحظة جاء الرد من نفس قلبه الثائر الذي يلح عليه بأن يهاتفها ، فـ رن هاتفها باسمه فقفزت مهللة وهي تجمع شتاتها:
-لسه منمتش !
قفل أنوار الغُرفة وترك هاتفه وهو يحدثها من السماعات المُعلقة باذنه متحججًا وهو يرتب فراشه للنوم :
-قولت لي بكرة الساعة كام !!
مددت على فراشها وهي تحضن الوسادة فوق بطنها لتسد فراغ ما بروحها وتقول :
-الساعة ١١ ياعمدة ..
بسط جسده على الفراش وهو يطالع السقف والابتسامة تحتل ملامحه :
-ماشي ..
-ماشي ..
ساد الصمت للحظات كل منهما ينتظر الآخر أن يختلق أي موضـوع غير أنهما ينهيان المكالمة ، تدخلت ليلة معترفة :
-أنت تعرف ، جدو كان بيحبكم أوي ، كان دايما يحكي لي عن العزايزة ، وبيقول لي لما تكبري لازم تروح هناك تزورها ..
-عشان كِده چيتي !!
تحمست :
-هحكي لك ...
انفجـرت ليلة بالثرثرة التي تنزل على مسامعه طربًا ، موضوعًا يعقب الآخر ، ليلة مميزة لا أُغنيات، لا كُتب، لا قهوة، فقط صوتـه ..
ضحكة يليها قصة مضحكة ، حزن يتبعه الأمل في عوض الله .. الكثير والكثير من المواضيع التي خلقتها حتى طلوع الشمس ..
خرج الثنائي من غُرفهم ليلتقيان بالشرفة من جديد فوجدها غارقة بالضحك ، نزع السماعة عن أذنه :
-الصوت ، فيها ازعاج للسلطات دي !!
كتمت صوت ضحكها غير مصدقة :
-الصبح جيه !! أحنا بنزغي من الساعة ١٢ بالليل !! متخيـل !
رمى اللوم عليها :
-الله يسامحك ياشيخة .. خشي نامي واقفلي الزفت ده ..
قبل أن تنصرف من أمامه رمت جملتها التي تُعبر عن شعورها وهي تقول له بخوف :
-محستش بالوقت خالص على فكرة .. أول مرة اتكلم مع حد وأكون مبسوطة كده !!
ثم تنهدت بريق عينيه وأكملت مشيرة نحو الشمس التي في بداية اشراقها :
-في شعاع نور في أخر الطريق هناك زي الشمس كده !!
فعادت لتحدث عينيه مُكملة :
-خايفـة أمشي لأخره النور ده يحرقني ...
اكتفى بهز رأسه قائلًا :
-خشي نامي يا ليـلة ..
أدرك للتو أنه بين أحضان الساعات التي عاشها معها قصـة جديدة تلمع بالأفق ، ترجم قلبـه تصرفاتها وفهم أنها تحمل طير الحُب بقلبها ويريد أن يتحرر على يديه ، علم بأن لعنة الرقصة أصابت قلبها مثلما أوقدت ألف نار بقلبـه ، أحس بنيران قلبها التي لا تختلف عنه ولكن الفارق بينهما صمتـه سكوته حول تلك المجازر التي تُقيم بهِ .. لمح نجوم الليل تترصع بوجهها بمشاعر حُب مغرية للأعمى .. تأكد أن من ذيل هذه النجوم ثمـة حياة جديدة ستبدأ ..
قرأ على أهدابها الاستحالة أن ثمـة حكاية بينهما سيرويها البحر منسوجـة من أمواجه الثائرة ، بقاعة السماء وبشهادة الشمس والقمر وكل نجـوم السماء معازيـم يحتفلون ببدايـة قصتهـم المستحيـلة.
" يقاوم ألمًا ويهزم ألمًا .. ويلوح بالأفق حُبًا من سينتصر يا ترى ؟! "
الفصل التاسع والعشرون ج2 من هنا
لقراءة جميع فصول الرواية من هنا