رواية رحماء بينهم الفصل الثاني والثلاثون 32 بقلم علياء شعبان

          

رواية رحماء بينهم

الفصل الثاني والثلاثون 32

بقلم علياء شعبان


                               "كمثلِ الأُترُّجة".


»حينما كشفتُ عن ضعفي وعُتمة تملأ دواخلي وجدتهُ يُنير سراجًا يقتبس طاقته من شغفه بيّ؛ فكان هو آلة النور وكُنتُ أنا وقودها».

•~•~•~•~•~•~•~•

خرج قلبهُ من بين ضلعيه قافزًا إلى النافذة وقد سبق قدميه إليها، صرخ هلعًا وهو يُهرول إلى النافذة التي اختفت من عليها سقوطًا للأسفل ولكن في لمح البصر شهق شهقة خاطفة حينما  أبصر أصابعها تتشبث بالنافذة محدقًا في سترتها التي تعلقت بقطعة حديدية مغروسة بالنافذة، حدق فيها بعينين جاحظتين وقلب هلعٍ ليضع كفيه المرتجفين على كفيها بينما تُطالعه هي بنظرات وَهِنة تملأ الدموع عينيها بغزارة، تنفس بقوة وهو يضغط على ذراعيها حتى لا تفلت منه وبدأ بكُل طاقته وحرصه يدفعها بقوة للأعلى وبعد مجهود مُضني منه تمكن من احتضانها بقوة بين ذراعيه وإدخالها من النافذة مرة أخرى.


أخذت أنفاسه تخرج منه بقوة وهو يرتمي بالأرض بينما بقيت هي فوقه يحتضنها بكُل ما أوتي من قوة وهو يقول بنبرة مصدومة يخالطها الفرحة:

-الحمد لله.. الحمد لله يارب.. أشكرك يا الله.. أشكرك إنها بخير.

بدأ يقول بأنفاس لاهثة وهو يحتضنها بقوة خشية أن تفعل هذا مرة أخرى أو تذهب بعيدًا عنه ثم شرع يُقبل جبينها مرددًا بملامة:

-ليه عملتي كدا؟!.. إزاي تخلصي من حياة وإنتِ على إثم وذنب؟!.. ليه بس؟

ذرفت دموعًا غزيرة وهي تضع رأسها على صدره دون أن تنبس ببنت شفةٍ فيما قبل رأسها مرة أخرى قائلًا:

-اهدي.. أنا جنبك.

خرجت عن صمتها وهي تقول قهرًا:

-أنا محدش جنبي.. أنا الوجع هيقتلني.

أبعدها في هذه اللحظة عنه قليلًا ثم ثبت وجهها بين كفيه وأخذ يقول بنبرة حازمة:

-وأيه اللي يريحك من الوجع دا؟!

وَميض بصوت مُرتجف باكٍ:

-عايزة أصرخ!!

تليد بحسم ودعم كبيرٍ:

-اصرخي.. طلعي كُل الطاقة السلبية اللي جواكِ!

وكأنها انتظرت هذه الجملة على أحر من الجمر وما أن أنهى كلامه حتى وجدها تصرخ عاليًا بكُل ما ملكت من قوة وقهر، كان يتأملها بحُزن بالغٍ وكأن ألمها يأخذ من روحه هو، أسرع آنذاك بضم رأسها إلى صدره فيما بقيت هي تصرخ وهي تتشبث بعنقه في قوة تُخبره أنه ملاذها الوحيد وأن الوحدة دونه تقتل وكُل آلامها تلتئم إن لزم جوارها، أجهشت باكيةً وهي تدفن وجهها داخل عنقه وكأنما تهرب من أوجاعها إليه وما كان منه إلا أن التقط راحتها وقبلها بمواساة وحُب صادق.

حمد الله أنها تشبثت بالحياة في اللحظة الأخيرة حينما منعتها قطعة الحديد من السقوط فتمسكت هي بالنافذة بقوة وكأنها استفاقت بوعي قبل فوات الأوان.

تركها حتى أفضت ما بداخلها للنهاية ولم يضغط عليها بكلمة أو فعل حتى بدأت هي تسكن بين ذراعيه في صمتٍ تستجمع نفسها مرة أخرى فيقول "تليد" بصوت دافئ:

-حاسة بأية دلوقتي؟!

خرج صوتها مُتحشرجًا وهي لم تُغادر صدره بعد:

-أنا مين؟!

سألت بفتورٍ يشبه هدوء ما بعد العاصفة فيما أجابها بوجه شاحبٍ:

-وَميض.. إنتِ وَميض أو أُترُج يعني زيّ ما تحبي.. بنت جميلة ربنا كرمها بأب تقي رباها وأحسن مثواها لحد ما كبرت.. بنت عنيدة وطايشة ومش عارفة مصلحة نفسها.


ابتعدت عنه قليلًا وهي تمحو دموعها المُنسابة ثم تساءلت في فتورٍ:

-طيب وإنتَ.. كُنت أيه في حياتي؟!

تنهد بعُمقٍ وظل شاردًا بعقله يُفكر في إجابة منطقية لا تُحملها أعباء أُخرى:

-كُنت الولد اللي رباكِ وإنتِ صغيرة لحد ما عمي علَّام أخدك لبيته.

خرجت تنهيدة حارقة من جوفها وهي تقول بيأس:

-ليه بتهرب من سؤالي؟!.. أنا مين؟ وليه إنتَ اللي ربتني مش أهلي!!

نفخ باستسلام ثم قال:

-هحكي لك حكاية سريعة بس تماسكِ، اوعديني!

وَميض ببهتان:

-أوعدك.

أخرج زفيرًا مُحملًا بأوجاع هذه اللحظة السابقة وبدأ يقول بملامح ثابتة:

 -كانت دي اللحظة الحاسمة بالنسبة لي لمَّا وقفت على حافة القناة الموجودة في قريتنا بعد ما انتهيت من أداء صلاة العشا مع أبويا في المسجد وقررت أبدأ تمرين السباحة الخاص بيا، كانت الدُنيا مضلمة ودا الوقت اللي بيلتزم فيه أهل القرية بيوتهم ويستسلموا للنوم، بدأ تمريني الاعتيادي بحماس كبير إني قدرت أجتاز مسافة كبيرة تحت المية من غير ما اتنفس بس الحماس دا اتحول لذهول وعلامات استفهام!!!

-إزاي؟ مين دي؟ وليه بتعمل كدا؟! لا لا استنى بس، إنتِ بتعملي أيه؟!

صوت جوايا فضل يصرخ فيها ولكن لساني عاجز تمامًا عن النُطق، كانت الأشجار الموجودة على حافة القناة حاجبة رؤيتها ليا بس أنا كُنت قادر أشوفها بوضوح وعمري ما هقدر أنسى ملامحها المُنهارة في اللحظة دي.

حسيت للحظة إن اللي بفكر فيه ووصلني غلط وأنها أكيد مش هتعمل دا ولكن خاب ظني وأنا بلاقيها بترمي طفل من فوق الجسر في القناة وبعد ثواني لا تُذكر كانت بترمي طفل تاني ومع كُل مرة كانت بتصرخ بوجعٍ مش لايق مع جريمتها الشنيعة!

بدأت تجري بسرعة بعد ما ودعتهم بنظرة طويلة كلها كسرة ومكانش قدامي غير إني أنتشل نفسي من الصدمة دي قبل فوات الأوان، سبحت بكُل قوتي ناحية الطفلين وفجأة  لقيت دراع الطفل عايم على وش المية وجسمه كله غاص، أدركت وقتها إن الفرصة بتضيع مني فاستعجلت وأنا بتمنى أنقذه، قدرت في رقم قياسي أوصل لإيد الطفل ولما سحبته من المية كانت للأسف طفلة رضيعة، كُنت طفل وقتها بس مشاعري كانت مليان وجع عجوز داق من الحياة كتير وكسرت فيه كُل حاجة حلوة، قدرت وقتها أخرج الطفلة ووصلتها لبرا الأمان للشط ولما قررت أرجع تاني علشان أنقذ الطفل التاني مكانش موجود.. مكانش له أثر.. حسيت بخيبة أمل وأنا بدور عليه بجنون وحُزن ولكن للأسف اختفى!!

سكت فجأة يُتابع خلجات وجهها المملؤة بالذهول رغم الانصات التامة له، تابعها باهتمام وترقب حتى برقت بعينيها ناظرةً داخل عينيه بقوة مُحاولةً استيعاب ما يقوله ليجدها تضع راحتها أعلى يسار صدرها ثم تقول بألم يطغى على ملامح وجهها المصدومة:

-أنا الطفلة الرضيع دي مش كدا؟!.. أنا البنت اللي إنتَ أنقذتها من الموت!!!

أومأ إيجابًا فسقطت دموع ساخنة من عينيها وهي تُضيف:

-وفين الولد؟! يعني أنا كان عندي أخ؟ بس أكيد دي مش أمي!.. صح يا تليد؟!!

وجدها تسبح أمام إعصار عنيف من إنكار الحقائق جميعها حتى أنها تابعت وهي تلتقط كفه في استجداء:

-أبوس إيدك يا تليد.. قول لي إنها مش أمي؟!.. إنتَ أكيد عارف حاجة!

تليد بنفي وهو يضغط على راحتها المُمسكة بكفه ثم يقول بصدقٍ:

-أنا حقيقي مش عارف مين الست دي وليه عملت كدا ولكن دموعها وقهرتها توحي إنها للأسف الأم!

أغمضت عينيها بقهرٍ بعدما تلقت تصريحه المُميت ثم وجدته يتابع بشرود:

-بس أنا عمري ما هنسى شكلها لأن صورتها مش بتروح عن بالي أبدًا وكأن الحادثة دي حصلت إمبارح.

وجدها تضع رأسها بين راحتيها في هم وغم فبادر بطبع قُبلة بسيطة على مُقدمة رأسها ثم قال بهدوء:

-فين وعدك ليا؟!

وَميض ترفع وجهها نحوه ثم تسأله بأمل:

-طيب والطفل التاني؟!.. أكيد أهل القرية وصلوا لجثته.. قول لي هو مدفون فين؟!!

تنهد "تليد" مُجيبًا إياها بيأس:

-للأسف، استنينا ظهور جثته على المية ولكن مكانش له أثر وكأنه فص ملح ودأب، لدرجة إن أهل القرية افتكروني بتخيل القصة لحد ما شافوكِ معايا.

أخرجت ضحكة ساخرة من بين شفتيها وهي تقول بحسرة:

-يعني عود خارج للحياة دي من أرض بورٍ؟! يعني أنا بجد معنديش أهل؟!

تليد بنفي قاطعٍ:

-عمي علَّام كان جدير بيكِ طول الوقت وله كُل الفضل عليكِ وأنا موجود؟ جوزك وسندك ولا إنتِ ليكِ رايّ تاني!!

أكملت بسخرية شديدة:

-أنا كُنت طول الوقت حزينة علشان مش عندي أُخت أحكي لها وأفضفض وكُنت مشتاقة يكون لي أخ يسندني في مِحنتي ويقف في وش أي حد فكر بس يأذيني، قلبي كان واجعني وأنا وحيدة أبويا وأمي.. بس الغريب بقى إن طلعت وحيدة نفسي وإن حتى الاتنين اللي في حياتي دول مش حقيقيين؟!

تليد بنبرة ثابتة يردف:

-اوعي تنسي فضل عمي علَّام يا وَميض.. اوعي تجرحيه بالكلام دا.. الراجل دا كرس عمره كُله علشان يشوف مستقبله فيكِ.. اوعي توجعيه أو تتغيري من بعد الحقيقة دي؟!

وَميض بصوت مقهر تقول:

-قلبي واجعني!!

أجابها "تليد" بيقين يبث الدعم والايمان داخلها ببضع كلمات:

-كله هيعدي وكل شيء هيهون طمني قلبك، صدقيني إنتِ أقوى من أي حاجة تأثر عليكِ، إنتِ أكيد نجحتي في صعوبات كتير؛ فقاومي  للنهاية علشان خاطري.

أضاف وهو يبتسم بثقة بعد أن أبعد خصلات شعرها الساقطة على وجهها:

-التغلب على الصعوبات من أكبر التحديات والمِحن فُرصة للمِنح فوالله ما ابتلاكِ إلا لأنه يحبك، تعرفي  قد إيه ملامحك الباهتة حلوة، وقد إيه إنت كل تفاصيلك حلوة؟ بس محتاجة حُسن ظن بالله.. محتاجة يوم ما كُل الطرق تضيق بيكِ وتتسد في وشك تجري عليه تترجيه بعشم يفتح لك كل الأبواب مش تتخلصي من حياتك لمجرد إنك موجوعة لأن مش هيكون لك عين تطلبي رحمته وإنتِ عاجزة عن النجاح في امتحانه!!

تابعته بملامح يطغى الندم عليها إلا أن تليد تابع بابتسامة ودودة:

-نصلي؟!

رمقتهُ بتيه ولكنها أومأت في حاجة ماسة لعرضه وهي تقول بصوت فاترٍ:

-نصلي.

نهض من مكانه ثم جذبها لتنهض ثم قادها إلى الحمام كي تتوضأ، انتظرها بالغرفة بعد أن افترش سجادة الصلاة وما هي إلا لحظات حتى وجدها تتحرك نحوه بهمة فاترة ووجه شاحبٍ، أومأ لها بعينيه يُطمئنها ثم وقف أمامها واستقرت هي خلفه بعدة خطوات ليفرد كفيه بالقرب من أذنيه ثم يتابع مُكبرًا في صوت حماسي، بدأ يؤدي صلاته بها وكانت هذه المرة الأولى التي تنسى فيها كُل آلامها وتحظى بسكينة تتذوق حلاوتها للمرة الأولى حتى أنها سجدت بين يدي الله تبثه شكواها من ألم قسم قلبها إلى نصفين وأبهت روحها وكم أنها مُشتتة تائهة ترجوه أن يرأف بخبايا قدرها المُساق إليها؛ فهي لم تعُد تحتمل ضربة أُخرى.

بينما أطال هو السجود يرجوه أن يهديها إلى طريق الحق والصواب وان يربت على قلبها المكلوم ويُجمل قدرها عوضًا عما تعرضت له من قدرٍ هي راضية به، طلب من الله بكُل ما يعمل داخله من حب لها أن يكون إضافة ناعمة في حياتها وألا يكون سوى سندٍ لا يميل ولا يُفتن ولا تأخذه متاع الدنيا بعيدًا عنها، فتابع بخفوت شديد:

-«أسألك الزُهد في الدنيا من كُل ما يُفتن المرء عداها».

كانت دعواتهما تتلاقى في السماء ولو اضطلعت هي على دعواته فوجدته قد نسي أن يتذكر نفسه بدعوة واحدة وكأن الله لم يخلق فتاة سواها؛ فلا هو يرى غير طيفها إن غابت ولا يسمع إلا أنين طفلته الرضيعة الناعمة، سلم من الصلاة فوجدها تنهض في سكون ثم تنزع غطاء رأسها متوجهة إلى الفراش، زوى ما بين عينيه يتابع حركاتها حتى رآها تجلس مُنهكة القوى على الفراش وترمي برأسها على الوسادة، سألها بنبرة هادئة:

-وَميض، مش هترجعي بيت أهلك؟!

ابتسمت وَميض بسخرية وقالت في فتور وصوت خافت:

-بس أنا مليش أهل؟! وكمان أنا عايزة أنام لأني تعبانة ومحتاجة لدا أوي 

أومأ برأسه مُتفهمًا ثم قرر الخروج وتركها تأخذ قسطًا من الراحة، خطى خطوتين نحو الباب ولكنه توقف فجأة وهو يلتفت بعينيه نحو النافذة في قلق وريبة ثم يلتفت نحوها مرة أخرى، ابتلع ريقه على مضض شاعرًا بهاجس فقدانها يتسلل إلى قلبه، تحرك تجاهها فورًا ثم التقط الغطاء ووضعه على جسدها بحرص شديد وما أن انتهى حتى جلس على الكرسي المجاور للفراش مُقررًا التقاط مصحفه الموجود على المنضدة المجاورة له والاندماج بين سطوره في استرخاء وراحة.

-إنتَ هتفضل قاعد كدا؟! متخافش مش هنتحر!

تليد بتنحنح وثابت:

-أنا مرتاح كدا.. حاولي تنامي شوية.

أومأت ولم تتكلم بحرف واحد، فتح صفحات المصحف وبدأ في قراءة سطوره بتدبُر وتمعن وبين الفينة والأخرى يطالعها بنظرات مهتمة دافئة للاطمئنان عليه وهل نامت أم لا تزال تُفكر في كُل آلامها الجديدة؟، كان ولا زال قلبه مُتعلقًا بها إن وُجدت إلى جواره مَلَكَ العالم بأسره وإن غابت عن ناظريه فهي حاضرةً تسكن كيانه كله، كانت أهدابها تتحرك باستمرار وحينما توقفت عن تحريكهم أدرك وقتها أنها غطت في سُبات عميقٍ وقد رأى أن النومَ قد يفدها كثيرًا ربما هربًا من مشاعرٍ سلبية تُفقدها التمييز أو الاستيعاب.

في تلك اللحظة، وقف "تليد" في مكانه مُقررًا إجراء اتصالًا بوالده الذي لم يلتقِ به منذ يومين ويعز عليه ألا يستيقظ على إشراقة وجه والده البشوش، انتظر إجابته بشوقٍ دفينٍ وهو يتحرك بخطوات حريصة خارج الغرفة وما أن جاء صوت الشيخ "سليمان" حتى بادر "تليد" يقول باشتياقٍ:

-يعز عليَّ أصحى ومتكنش قدامي  يا أبويا، واحشني؟!

ابتسم "سليمان" ثم ردد بدفء:

-مشتاق لك يا قلب أبوك والأهم من كُل حاجة إنك تبقى نمت كويس وأخدت راحتك.

تنهد "تليد" تنهيدة سريعة وهو يقول:

-وَميض عرفت مني كُل حاجة عن ماضيها وحالتها مش كويسة أبدًا.

سليمان بقلقٍ يسأل:

-يارب ألطف بيها، وهي فين دلوقتي؟!!

تليد بنبرة ثابتة:

-معايا هنا.. حاولت تنتحر بس لسه لها عُمر الحمد لله.

ارتجف قلب الشيخ "سليمان" حُزنًا عليها ثم قال بتوجسٍ:

-علَّام يعرف باللي حصل دا؟!

تليد يرد بنفي وضيق:

-لأ، ومش عارف إزاي مسألش عن بنته لمَّا غابت عن البيت!

سليمان بهدوء:

-محدش عالم بظروف الناس غيره يابني، شروق بتحاول طول الليل تتصل بيه والخط مقفول فأكيد أفتكر إنها عند شروق.

تليد مُحاولًا الهدوء والتريث:

-أنا هحاول اتصل بيه تاني علشان أفهم الأمور رايحة لفين.

سليمان باهتمام يسأل:

-وإنتَ ناوي على أيه يابني؟!

تليد وهو يدعك جبينه بحيرة:

-لأول مرة مكنش حاطط خطة في دماغي ولكن أنا خايف عليها أوي ولو وصلت إنها تكون في بيتي رسمي من غير فرح هعمل دا إلا لو لقيت حد يحطها تحت عينه كأني موجود لحد ميعاد الفرح، بس أنا مش قادر أسلم أمرها لأي مخلوق وشايف إني هكون مرتاح وهي تحت عيني وجنبي.

سليمان بتشجيع واقتناع:

-لو حاسس إن أُترُج بتعيش صراع نفسي خطير على سلامتها يبقى توكل على الله وبلغ علَّام بقرارك وإن شاء الله ربنا مش هيريد غير الصالح.

تليد بتأييد وقليل من الشرود:

-خير يا أبويا.. كُله بفضل الله ورحمته بينا، هيمر.

•~•~•~•~•~•~•~•~•

انقضى النهارُ سريعًا للغاية لقِصره في أيام الشتوية، نهضت عن الفراش تتحرك نحو الشُرفة المفتوحة في تهادٍ وترنح نتج عن شدة حُبها لهذه الأجواء الليلية التي تتلألأ فيها النجوم في أمسية صافية من الغيوم، كان ثوب نومها الحريري يلامس الأرض ويسير وراءها بينما يقبع الكتاب التي تُحب بين أحضانها، دخلت الشرفة تلتقف نسمات الهواء الشتوية العليلة بسعادة غامرة تشبه سعادة هذه الفتاة البسيطة التي كانت تعيش في سابق العهد والزمان ونفسها الفتاة التي ارتضت أن تعيش في أبخس الأحوال وأذلها، تلك الفتاة اليانعة في أمل التي حلمت بزوجٍ مفعمٍ بالآمال والأحلام مثلها وبيتًا دافئًا تنتشر منه رائحة الطبيخ والمُعجنات التي تضاهي في جمالها رائحة المِسك؛ فكانت تحترف المطبخ بكُل تفاصيله حتى يسعد زوجها المُستقبلي بمهارتها وأنها سيدة بيت ماهرة لا عقبات تقف أمامها أو تعرقل طريقها، كانت بسيطة جدًا تُحب أن تقرأ الكُتب ويروقها التأرجح على أرجوحة موجودة بحديقة الاطفال دون أن تأبه لعُمرها هل كبيرة كانت أو صغيرة، فتاة أرادت فقط أن تحيا حياة آمنة طبيعية مع أبيها العجوز الذي كان يعمل سائسًا لكبار رجال الأعمال ولكنها استيقظت ذات يومٍ على فراق والدها وضياع مُستقبلها واعز ما ملكت وأضحت بلا مأوى أو فارس حتى الأرجوحة لم تُعد تروقها؛ فشيخوخة القلب تجعلك لا تتذوق الحياة كما السابق.

تنهدت طويلًا قبل أن ترفع وجهها للسماء فتتحرك خصلات شعرها بفعل الرياح الباردة التي تقتحم وجهها، اِفتر ثغرها عن اِبتسامة يغمرها النشوى ثم دمدمت وهي تقول بخفوتٍ:

-إزيك يا حبيب بنتك عامل أيه؟!.. أنا يمكن أكون ضايعة من بعدك بس ربنا أراد إنه يعوضني.. أه لو تعرف بنتك بقت أيه دلوقتي؟!.. أنا بقيت من أهم عشر سيدات بالوطن العربي.

كانت تتحدث إلى نجمها المُفضل الذي قررت أن تتخذه انعكاس لصورة والدها؛ فتحكي له أوجاعها، إنجازاتها وانتصارات، تبدلت ابتسامتها إلى أُخرى باهتة ثم تابعت:

-بس أنا مش مُكتفية بكُل اللي وصلت له.. مش لاقية له طعم من غيرك.. كان نفسي تعيش معايا في جنة الدُنيا قبل ما تروح مني ولكن عيشت عُمرك كُله يا نور عيني للشقا.

سكتت لوهلة ثم أضافت بحماس فتاة عشرينية يجرفها الشوق إلى أيام والدها الدافئة المليئة بالأمان:

-حبيبي بابا.. أنا زيّ ما وعدتك هعيش وهموت أبية وعمر راسي ما هطاطي لأي مخلوق وحقك يا نور عيني هيرجع لك، نام قرير العين يا قلب بنتك.

انسكبت دمعة حارقة على وِجنتها فأسرعت بمحوها وهي تقول باختناق وحنين جارفٍ:

-بس أنا وحشني المُرجيحة اللي كُنت بتعملها لي وانا صغيرة، وحشني كوباية الشاي على الحطب من إيدك يابا.. الدُنيا من بعدك مبقيتش تضحك لي.. وحشتني!.. لو سامعني فأنا نِفسي مكسورة واليُتم كَل قلبي في غيابك.

أطرقت برأسها تنظر للأرض وهي تقاوم اندلاع أوجاعها على هيئة دموع، وفي هذه اللحظة سمعت صوت طرق خفيف على باب غرفتها وصوت الخادمة يقول بهدوء:

 Madam-

أسرعت بمحو عَبراتها فورًا ثم انطلقت نحو الباب وهي تقول بثبات وملامح متشحة بالثقة والقوة:

-Come my darling, I know, It’s time for my favorite drink.

.( (عزيزتي، أعلم أنه وقت تناول مشروبي المُفضل

دخلت الخادمة فور السماح لها ثم أسرعت بوضع الكوب على المنضدة المجاورة للفراش، ابتسمت لها "نجلا" في امتنان ثم أزمات الخادمة بحُب قبل أن تتجه خارج الغرفة.

تحركت "نجلا" نحو كوب الشاي ثم التقطته فورًا وراحت تنظر إلى شرائح الأُترُج السابحة على وجهه وبسرعة قامت بأخذ رشفة منه وهي تقول باستمتاع:

-عظيم.


         الفصل الثالث والثلاثون من هنا 


تعليقات