رواية شبح حياتي الفصل التاسع عشر 19 والعشرون 20 بقلم نورهان محسن


رواية شبح حياتي

الفصل التاسع عشر 19 والعشرون 20

بقلم نورهان محسن


الفصل التاسع عشر

داخل كل قَدرٍ سِر يُمهدُ الطريق لقَدرٍ

آخر‏ ، لا شيء يَحصُلُ عبثاً أو محض الصُدفة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

في اليوم التالى

مر عليها اليوم طويلا ، يزعجها شعور غريب بعدم الإلفة ، وأيضاً لم تستطع النوم من كثرة التفكير ، فأمضت اليوم كله مع أطفال أختها تلعب معهم حتى تخرس صوت عقلها ، حتى لو ساعات فقط دون حزن وقلق ، لكن الحنين إليه يعود يسيطر عليها مرة أخرى ، ويعذبها.

لم تعترف بعد حتى لنفسها بالسبب الحقيقي وراء حزنها وألمها وخوفها عليه ، و كلما أرادت التواصل مع جاسر حتى تعرف أخباره تعود لتغير رأيها بكبرياء.

رن الهاتف على المنضدة وهي جالسة مع أختها في الصالون ، همت بالرد بدهشة عندما رأت اسم المتصل : سلام عليكو!!

ابتسم بتلقائية وقال بنبرة جذابة : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .. عاملة ايه يا حياة؟

ردت حياة بهدوء : الحمدلله وانت يا دكتور!!

أجاب مازن بإيجاز ثم بقي صامتا لوهلة متردداً فيما سيقوله : تمام

سألته حياة بتسرع حالما سيطر القلق عليها تمامًا من صمته المريب لها : هو حصل حاجة جديدة؟

أجاب مازن ناقراً على سطح المكتب الجالس أمامه في غرفته بالمستشفى : لو قصدك بخصوص بدر .. هو اتنقل للمستشفي اللي انا موجود فيها والدكاترة هنا متابعينه مافيش مشاكل

تنفست حياة الصعداء لتتمتم بخفوت : الحمدلله

عبست حياة عندما قامت أختها بجذب خصلات شعرها حتى تنتبه لها ، لتدير رأسها إليها بينما تحرك الأخرى يدها بإستفهام ، فرفعت حياة يدها تلوح لها لتتوقف ، بينما يأتيها صوته الهادئ قائلاً : انا كنت متصل عشان اعرفك ان مدام ميرفت مديرة المدرسة روحتلها الصبح و استأذنتها في اجازة ليكي لحد ماتدبري امورك

ابتسمت بهدوء وقالت بصوتها الرقيق : ايوه انا نسيت خالص اكلمها ميرسي اوي يا دكتور مازن علي اهتمامك وتعبك

قال مازن بلهجة رجولية لاعقا شفته السفلى بإبتسامة : ولا يهمك ياريت تسمحيلي اكلمك كل فترة اطمن عليكي واعرف اخبارك

تحركت القزحية داخل مقل عينيها في التفكير قبل الإجابة لتقول بلا مبالاة : ان شاء الله .. مع السلامة

تحدثت ميساء بتساءل حالما أنهت المكالمة : دا دكتور مازن اللي كان في المستشفي

أجابت بنبرة عادية وهي تضع الهاتف على الطاولة : اه هو .. قالي انه بلغ ادارة المدرسة اني مسافرة وعندي ظروف

تنهدت ميساء مقوسة شفتيها للأسفل قائلة بنبرة ذات معنى : والله كتر خيره .. دكتور محترم و شهم و وسيم حاجة تملي العين يعني

التوي فم حياة لتقول بسخرية ، وهي تتكئ بمرفقها على حافة الأريكة : مش مريحاني قصيدة الشعر دي .. بتلفي وتدوري ع ايه يا سوسو؟

عضت ميساء شفتها السفلى حالما اقتربت من أختها ، وقالت بابتسامة : انا خدت بالي انه معجب بيكي اكيد انتي كمان لاحظتي كدا

ارتفع حاجب حياة بإستنكار ، وأجابت عليها بجدية : مش معني انه بيتصرف بلطف و ذوق يبقي معجب بيا علي فكرة ماشي .. و اتفرجي علي فيلم وانتي ساكتة بقي

عبست ميساء قائلة بإنزعاج : ياباي علي لسانك

★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••

أتى الليل الساحر ليطل القمر على بحر الإسكندرية

تثاءبت ميساء متعبة من شقاوة أطفالها المفرطة طوال اليوم ، وهي تدخل الصغار غرفتهم ، لتقول بصبر وهي تصفق بيديها : يلا يا حلو منك ليها قدامي علي النوم اظن اليوم كلو سيبتكو تلعبو مع خالتكو كفاية دلع بقي بكرا عندكو مدرسة بدري

نظرت الفتاة إلى شقيقها ثم نظرت إلى والدتها قائلة برجاء : ماما سيبينا بس شوية خالتو هتحكيلنا حكاية وهنام علي طول

كما تحدث الولد الصغير ببراءته ، متوسلًا لها : ايوه يا ماما عشان خاطري شوية صغيرين

تنهدت ميساء غير مقتنعة لكنها قالت في استسلام : ماشي بس نص ساعة وبعدين هاجي اتمم عليكو

: ماتقلقيش انا هتأكد انهم نامو يا سمسمة

قالت حياة وهي تدخل من خلف ميساء إلى الغرفة ، فاستدارت لتقول بهدوء : حيث كدا هشطب المواعين علي ماتخلصي معاهم و نقعد مع بعضينا ننم لحد ما حازم يرجع

تمتمت حياة بنبرة عادية : اوك

هتفت الفتاة من خلف حياة بعد أن أغلقت الباب وراء أختها : تعالي بقي يا خالتو

تحركت حياة نحو السرير الذي يرقد عليه الأطفال وتسلقت عليه لتستلقي بينهم ، لتقول وهي تهز قدميها : جيت اهو تعالو هحكيلكو حكاية هتعجبكو جدا

قال كلاهما بحماس ، بينما يرتميا في حضنها : ماشي

أخذت حياة نفسا عميقا قبل أن تقول بنبرة ناعمة : كان يا ماكان يا سعد يا اكرام ولا يحلي الكلام الا بذكر النبي عليه افضل الصلاة والسلام

ردد الطفلان خلفها : عليه الصلاة والسلام

بدأت حياة تروي القصة بنفس النبرة الهادئة اللطيفة : كان في بلد كبيرة بزمن قديم عايش فيها أمير أسمر ووسيم بس معندوش قصر كبير وخدم و حراس كان راجل حالو متوسط لا غني ولا فقير

نظر الأطفال إليها في صمت وركزوا على كل حرف تقوله ، بينما كانت تواصل النظر أمامها بشرود : كان معجب بأميرة جميلة اوي شافها بالصدفة .. من وقتها وهو مابيفكرش غير فيها .. بس المشكلة انها عايشة جوا قصر كبير عليه حراس كتير ومابتخرجش منه الا بسيط خالص

نطق رامي متسائلًا : وبعدين؟

استمر الصمت للحظات وتموجت الأفكار بعقل حياة ، ثم أضافت بصوتها الحلو : فضل يفكر ويفكر عايز يشوفها .. لحد ما في يوم من الايام انفتح الباب الكبير للقصر وخرجت الاميرة للجنينة فلمحت شاب غريب واقف قدام عربية من عربيات ابوها وقتها فهمت انه سواق عندهم

نبست الفتاة بسؤال شغوف : دا الامير الاسمر؟

اطلقت حياة ضحكه خافتة واجابتها هاتفة بمرح : بالظبط يا جنا هو بعينه و شنبه .. هتسألوني ليه عمل نفسه سواق؟ هو يأس انها تخرج عشان يشوفها فقرر بتهور وشجاعة يشتغل سواق عشان يقدر يكون قريب منها

استطرَدت الحديثَ وهى تمسح على شعر رامي ورأسه غارسًا في بطنها : مرت ايام وهو بيراقبها .. عرف عنها حاجات كتير من متابعته ليها .. كانت وحيدة وسط الناس الكتير اللي بتتعزم في حفلات ابوها و حزينة لانها كانت مخطوبة لصديق باباها .. لكن هو مكنش مهتم بيها ودايما كلامو عن مشاريعه و شغلو وبس

مطت جانا شفتيها بتعاطف وقالت بصوت ناعم : وعملت ايه الاميرة الغلبانة دي؟

همست حياة وهي تزيل شعرها عن عينيها لترى ملامحها البريئة : هربت من القصر

: اكيد راح وراها الامير الاسمر..

أنهت جنا حديثها بابتسامة واثقة ، لتستأنف حياة كلماتها : ايوه هي كان نفسها تخرج للحياة لو مرة واحدة تشوف العالم والشوارع زي البني ادمين الطبيعيين .. استغلت دوشة الحفلة واتسحبت من ورا الحراس وخرجت وكان الامير الاسمر وراها بالعربية .. بيتابعها من بعيد لبعيد عشان كان خايف عليها تتوه .. لحد ماشافها بتركب باص كبير و بعدها نزلت منه وفضلت تلف في الشوارع كتير لحد ما تعبت والمطر نزل

أغمضت حياة عينيها وهي لا تزال تسرد الأحداث ، ومشاعر كثيرة مضطربة داخل قلبها : راح عندها و طلب منها بذوق تركب العربية عشان ماتتعبش بسبب المطر .. هي لما شافته اتفاجأت وخافت يقول لابوها .. هو حس بخوفها وطمنها انه مش هيقول لحد حاجة وفضل يلف بالعربية شوية وهي جنبه .. لحد مارجعو القصر تاني و دخلت بنفس الطريقة اللي خرجت بيها .. من وقتها بقو يتقابلو و بتتكلم علي طول معه وجواها حاسة انها مرتاحة مبسوطة ومطمنة من غير ماتعرف عنه حاجات كتير بس هي لاول مرة تمشي ورا قلبها واحساسها

فتحت عينيها عندما حل الصمت فجأة ، ولم تعد تسمع تعليقات منهم لتتمتم بدهشة : انتو نمتو امتي؟

: من بعد ماخرجت الاميرة

جاء صوت ميساء من باب الغرفة ، فأدارت حياة رأسها لتتقابل عسليتها مع بنية الآخرى قائلة بابتسامة ناعسة : ماحستش بيكي وانتي داخلة!!

همست ميساء بصوت خافت حتى لا توقظ الأطفال وتغطيهم حياة ، وتبتسم بخفة على لطافتهم : كنتي في عالم تاني يا اوختشي وانتي بتحكي القصة .. بس ماقالتليش نهايتها ايه الحكاية دي!!

تحركت حياة وشقيقتها للباب ، ثم أجابتها بشرود : يا عالم هتنتهي علي ايه .. صدقيني معرفش!!

★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••

بعد مرور يومين

في أحد مستشفيات القاهرة

يقف بدر أمام النافذة الكبيرة بينما يرقد جسده بسكون على السرير في غرفة واسعة مليئة بالمعدات الطبية.

صمت رهيب يخيم على الغرفة رغم دخول أشعة الشمس إليها ، لكن هذا لا يؤثر على حالة بدر القاتمة.

حين أغلق جفنيه بهدوء ، ظهرت صورة واضحة لعينين مهتزتين بالدموع ، ونظرات الخذلان تفيض منها بقوة أثر آخر كلماته لها.

فتح عينيه من جديد ، ليسطو الحزن عليه زافرًا بضيق.

لا يستطيع أن يتجاهل أنه يعاني بدونها ، وشعور بالغربة ونقص رهيب في روحه بسبب بعدها عنه ، ولكن ما يمكنه فعله ، كان عليه أن يفعل ذلك بعد اندفاع حياة ومواجهة أميرة بمعرفتها لطلاقه لها ، وهكذا انكشف المستور ، حتى لو لم يأبه أحد بما قالته حياة ، فلا بد أنه أثار شكوك كريم وأميرة نحوها بقوة ، وهذا ما دفعه إلى معاملتها بهذه الطريقة ، بل كان يحتم عليه أن يقول لها هذه الكلمات القاسية ، والتى بالطبع قد تسببت فى جرح مشاعرها بشدة ، ما يخفف عنه قليلا أنه استطاع إبعادها عن الخطر ، لأن الهاوية التي سقط فيها لن تسمح لنفسه بجرها معه إليها ليكون مصيرها مثله.

★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••

غربت الشمس ، تسبح في البحر الواسع ، والشفق الأحمر يسدل ستائره على الكون ، معلنا قدوم البدر ، متوسطا في السماء بضياؤه.

تجلس على أحد الكراسي في الشرفة الواسعة المطلة على البحر من بعيد في منزل أختها ، لكن بتفكيرها وقلبها مع هذا البدر الذي أخرجها من دائرة حياته.

اختفى شبحه تمامًا من الظهور لها بعد كلماته الأخيرة لها.

الاحساس الذي تشعر به الآن ، لا تعرف كيف تصفه ، وكأن الهواء قد نفذ من صدرها ، تاركًا روحها ممزقة عن جسدها.

سؤال واحد يدور في ذهنها ، هل من الممكن أن تقع في حب طيف تراه هي فقط ، ولماذا تتوهم أحيانًا أنها تسمع همسه العميق في أذنها؟

إنها لا تعرف في الأساس حقيقة مشاعرها ، لا تجد لها تفسيرا رغم بحثها الدائم عن إجابة منطقية أو توضيح للسعادة التي طغت على حواسها عندما علمت أنه لا يزال على قيد الحياة.

كل ما كانت تريده أن لا تبتعد عنه ، لكن هذه هي رغبته ، فماذا تفعل بالتأكيد لن تفرض نفسها عليه.

تطوف في ذهنها أسئلة عن حياتها قبل أن تقابله في تلك الظروف الغريبة ، وكيف أصبحت تشعر وكأنها ضائعة بعد أن تركها ورحل؟

Flash Back

رن صوت هاتفها ، المرمى بأهمال على السرير بجانبها.

تنظر إلى الساعة وهي تشير إلى الساعة بعد منتصف الليل لتجيب على المتصل بسخرية : لسه فاكرني دلوقتي!!؟

رد الطرف الآخر بشكل غير مبال على استهزائها لكونه نعسان للغاية : معلش كان ورايا شغل مهم

تنهدت حياة بضيق فلا يوجد جديد دائما تسمع نفس الرد منه ، فأجابت عليه بفتور : تمام

سألها معاذ بهدوء : ايه كنتي محتاجة حاجة؟

ابتسمت حياة ابتسامة لا صلة لها بالمرح ، وتمتمت على مضض وهي تأمل أن تنتهي المكالمة العقيمة بسرعة قبل أن تتدفق دموعها : اه كنت ومابقتش

رمش معاذ عدة مرات ، ليغمغم مُتثائباً : مش فاهم !!

ردت عليه حياة وهي تضغط على كل كلمة بشفتيها فى بطء : لو كنت رديت من خمس ساعات كان ممكن تفهم

صاح فيها وعروق رقبته بارزة ترتعش من الغضب ونفاد الصبر : انا مش ناقص الغازك يا حياة ماتكلمي علي طول وبلاش الاسلوب دا معايا لا اظبطك

التوي فمها تهكمًا ، ثم صاحت بإستنكار بينما ترتعد داخلياً : الاحسن تقفل و تجي هنا تضربني قلمين احسن يا معاذ .. ايه الطريقة الزفت اللي بتكلمني بيها دي!!

رد معاذ على الفور بانزعاج : اعملك ايه ما انتي مستفزة و بتكلمي بالقطارة وانا مش فاضيلك؟

كانت شفتاها ترتعشان حيث شعرت بالدموع تتصاعد في مقل عينيها العسلية ، ورفرفت رموشها الطويلة عدة مرات سريعة لتتجاوز هذا الشعور قبل أن تصيح بإنفعال محاولة إخفاء حزنها من قسوته في التعامل معها : مافيش اي فايدة فيك معلش لو عطلتك .. ماتشغلش نفسك بيا .. سلام

ختمت كلماتها بحزن وهي تنهى المكالمة دون انتظار سماع رد منه ، ثم بدأت تبكي بمرارة على ما حدث لها منذ أن تم رفض طلبها الوظيفي في إحدى شركات السياحة.

كانت تأمل كثيرا أن يتم قبولها به ، خاصة أن المدير كان مرحب بها ، ولم يكن لديه مشكلة في المقابلة الأولى معها ، لكنه غير رأيه بشكل جذري دون أسباب واضحة ، لذلك اتصلت بخطيبها بعد أن خرجت من الشركة بخيبة أمل.

تريد التحدث معه لعل نفسها تهدأ ، رغم أنه لم يكن قريبًا منها ومعاملتها معه محدودة ، لكنه في النهاية خطيبها وشريك حياتها المستقبلي ، لذا أرادت منه أن يشاركها حزنها ، لأن لم يكن لديها أصدقاء مقربين سوى أختها التي تنشغل الآن بأطفالها الصغار.

في اليوم التالى

كانت تتجول في غرفتها بعصبية تبحث عن شيء وهي تمسك شعرها ، لتتحدث مع نفسها فى تأفف بسبب حنقها المفرط على أبناء أختها المشاغبين : هتكون راحت فين ام التوكة دي ..؟

أردفت بغضب بعد أن لم تجدها ، واستدارت إلى الجانب الآخر : نفسي احط حاجة والاقيها مكانها .. حتي التوكة ماسلمتش منهم

حركت قدمها دون أن تلاحظ الشيء الذي كان ملقى على الأرض أمامها ، فتعثرت فيه لتمسك بركبتها وتأوهت من الألم ، وهي تنظر إلى الصندوق البلاستيكي الذي تم إلقاؤه بلا مبالاة لتركله بقدمها بغضب.

نفخت بضجر وهي تفرك الجزء الخلفي من شعرها ، الذي تركته يتبعثر حول وجهها ، في محاولة لتذكر كيف وصل هذا الصندوق إلى غرفتها ، ثم تكلمت بصوت عالٍ مليء بالاستياء : مفيش فايدة .. اوضتي محدش يدخلها

★★★

خرجت حياة من غرفتها مرتدية سروال بني غامق وبلوزة صفراء ، تاركة شعرها المجعد فضفاضًا على كتفيها بعد أن تخلت عن الأمل في العثور على مشبك شعرها.

نظرت أمامها بدهشة عندما رأت معاذ جالسًا مع أختها وزوجها في غرفة الصالون ، فأخرجت الهواء من فمها بهدوء وهي تعد نفسها للشجار معه ، لأنها أنهت المكالمة في وجهه ، بل أغلقت الهاتف تمامًا لتجنب أي مشاحنة معه ، لكنها واثقة في خاطرها أنه لا مفر من المواجهة ، لذا سارت بهدوء نحو الصالون قائلة بنبرة هادئة : صباح الخير

نبس حازم مازحًا : قصدك مساء الخير يا يويو ايه مصحيكي متأخرة كدا !!

ابتسمت حياة وقالت بمرح قبل أن تجلس على مقعد منفرد ، ويبدو ان أثر الدموع التي ذرفتها البارحة ذهبت من مقل عينيها : معلش بقي التوقيت عندي ملخبط شوية يا اونكل..

أضافت بنبرة مليئة بالحسرة التي لم تستطع إخفاءها من شدة الإحباط الذي شعرت به : وهصحي اعمل ايه يعني!!

سألها معاذ بهدوء يحمل في طياته الكثير من السخرية وهو يحدق بها : وياتري كنتي سهرانة تعملي ايه طول الليل؟

تطلعت به لبضع ثوان كما لو أنها لاحظت للتو وجوده ، وهمست بابتسامة باردة : ازيك يا معاذ؟

تجهمت ملامح معاذ بعد أن تعمدت تجاهل سؤاله قائلا بابتسامة ساخرة : والله لسه فاكرة تسألي عني و لا تعبريني .. انا قاعد مستنيكي تصحي بقالي ساعة و اونكلك ماكنش عايز حد يقلق نومك

رغم ضيقها من أسلوبه إلا أنها لم تمنع الابتسامة الجميلة على ملامحها من الظهور قائلة بصدق : ربنا يخليه ليا احلي اونكل حازم في بر اسكندرية و الكون كلو

انهت جملتها بحماس ، فقال حازم بضحكة مرحة وهو ينهض من مكانه : بكاشة من يومك هقوم اصلي العصر علي ما تحضري الاكل يا ميساء

امتثلت ميساء لأمره بعد أن فهمت إشارته إليها قائلة بابتسامة : ماشي انا جاية وراك

انتظرت ميساء خروج زوجها ، وقالت لحياة بعتاب : احنا  العصر يا حياة ولسه سعادتك صاحية دلوقتي .. اومال دوشانا هشتغل هشتغل كل شوية وانتي بتصحي بطلوع الروح

رفعت حياة نظرها إلى وجهها بنفاذ صبر ، وهي تلوح بكفها وقالت بضيق : وانتي ايه مضايقك يا ميساء هو انا قاعدة فوق راسك .. روحي ورا جوزك الله يرضي عليكي

حدقت بها ميساء بعيون واسعة ، تمتم بقلة حيلة : يخربيت لسانك الطويل هو انا ماقولش كلمة الا و تردي بعشرة

تحدث معاذ بخبث ، وهو يرمقها بسخرية : اعذري عصبيتها الايام دي يا مرات اخويا اصل حوار الشغل ماكلمش

سرعان ما التفتت إليه حياة ، وأعطته نظرة ذات مغزى ، بينما صاحت ميساء بدهشة : معقولة!! ليه كدا يا حياة و ليه ماقولتليش ساعتها؟

تدحرجت عينيها نحو أختها و ردت بسرعة  : مالحقتش اقولك يا ميساء .. انت عرفت ازاي يا معاذ؟

أنهت كلامها بتساؤل بينما تنهض من كرسيها وتحدق فيه بحاجب مرفوع ، تنتظر إجابته بترقب ، ليتمتم معاذ بعدم فهم : عرفت ايه!؟

نظرت إليه بملامح معقودة بضيق مستتر من بروده ، لكنها قالت بصبر : اني ماتقبلتش في الوظيفة

أردف ببرود تام بعد أن وعى على ما قاله : معلش يا ميساء ممكن تعمليلي كوباية شاي من ايدك

تأففت ميساء بنزق بينما تتابع الموقف بتعجب لتمتثل لطلبه على مضض : ماشي يا حضرة الظابط هتوزع بمزاجي ها

تحدث معاذ بسرعة من خلفها ، وقام من مكانه ، متجنبًا النظر إلى حياة : معلش خليها عليكي المرة دي يا ام قلب كبير و حنين

تجعد حاجباها بإستغراب وهي تسأل بإلحاح بعد أن وقفت أمامه مباشرة : رد عليا يا معاذ عرفت ازاي؟ و انا ماحكتلكش اي حاجة امبارح وانت اصلا ماسألتنيش؟!

حك معاذ ذقنه بعنف فالامر بات يزعجه ، ثم نبس بضيق بسبب كلامه المتسرع من الغضب : اسألك ليه وانا عارف اللي حصل!!

نظرت إليه للحظة بتساءل ، لتتلاحق أنفاسها بالغضب عندما جمعت أحجية الموقف : و اش عرفك.. لحظة لحظة انت ورا اللي حصل دا يا معاذ..

فتح فمه محاولاً التبرير أو النفي بأحرف مشتتة : انا...

بترت كلماته بإنفعال ، ولم تستطع التحكم في نبرة صوتها عندما قالت بحدة مبالغ فيها : انت ايه!! انت السبب في ان مدير الشركة بعد ما كان موافق رجعلي ورقي و قالي مانفعش للوظيفة

نظر نحو الباب يتأكد من عدم ملاحظة أحد لصوتها العالي ، ثم تحدث منفعلاً ولكن بنبرة خافتة : ممكن توطي صوتك .. ايوه انا اللي عملت كدا

تجمدت من رده الصريح لتتمتم عدم فهم : مش فاهمه طيب ليه تعمل كدا اصلا بأي حق!!

وجد نفسه يقول بنبرة متعالية تحمل فى ثناياها الكثير من التملك : انا خطيبك و مش موافق علي انك تشتغلي من الاساس .. تقومي تروحي تاخدي كورسات لغة و كمبيوتر عشان تشتغلي في شركة سياحة و تسافري علي كيفك

تمكنت حياة أخيرًا من الخروج من شرنقة الصدمة المظلمة لتقول بتبرير : الوظيفة كانت وكيلة حجز في الشركة مافهاش سفر و انت عارف من الاول و كنت موافق علي الكورسات دي

صاح بقسوة غير مكترث بمشاعرها ، وعيناه تحدق في ملامحها بجمود تام : قولت اسيبك تشغلي وقتك لحد مانتجوز مش اكتر و من الاخر يا حياة انتي ليكي مطلق الحرية انك تعملي اللي علي مزاجك بس بأسلوبي انا و بالطريقه اللي تريحني انا

رمشت عينها عدة مرات وقفز التعجب على محياها ، وهي بداخلها تغلى من فظاظته ، لتهتف بغضب : انت فاكر نفسك عشان مخطوبين هتبيع وتشتري فيا براحتك .. دي مش تصرفات انسان طبيعي

رفع إصبعه ثم زأر بحدة محذرًا : الزمي حدودك يا حياة و ماتنسيش انك بتكلمي خطيبك و هبقي جوزك بعد كام شهر

امتلأت عيناها بالقهر بعد أن نجح في إشعال فتيل غضبها بينما تعقد ذراعيها أمام صدرها لتصيح بإنفعال : خطيبي دا اللي بيتعامل معايا طول الوقت زي المجرمين اللي بيتعامل معاهم و كلامو كلو زعيق و اوامر و انانية و غرور و دايما اعصابي مشدودة بسببه ولا اللي مافيش نقاش واحد معه الا بالخناق و الصوت العالي

انتظرت إجابته ، التى تدل على ندمه بتقصيره فى حقها ، أو رد فعله على كلامها ، لكنه ظل يحدق بها بصرامة بينما امتلأت عينيها بالحزن بعد أن خيبت أملها فيه ، لتصيح بإنذار : لو فاكرني هسكت و اوافق علي كلامك دا تبقي بتحلم .. احنا لسه علي البر و شبكتك ممكن ارجعهالك عشان الخطوبة السودة دي ماتلزمنيش لو هتفضل معايا بالطريقة دي

زادت نبرة التحدي التي تتحدث بها من غضبه تجاهها ، فقبض على عضدها وسحبها بعنف دون وعي إليه ، وهو يقول بنبرة مخيفة : انا مش علي كيفك يا حياة و هتقلي ادبك هديكي علقة تعدلك عقلك الملوح في راسك

أصيبت حياة بالرعب والارتباك حينما حدجها بنظرته الغاضبة عن كثب ، وعيناها تغروران بالدموع ، وشفتاها متشابكتان من الألم حتى تمنع تأوهها العالى من الظهور ، حين شعرت بقوة قبضته على ذراعها بغير وجه حق ، بينما تحاول دفعه عنها وجذب ذراعها بعيدًا عن يده المؤلمة ، وعندما فقدت الأمل في ذلك ، صرخت في وجهه بقهر : ايدي .. سيبني .. انت مين اداك الحق تمسكني كدا؟

اشتد النقاش بين العناد المرتعد والتسلط القاسي ، وارتفعت الأصوات عالياً جداً ، فركض حازم إلى الصالون ليصدم من الموقف قائلاً بصراخ وهو يدفعه بعيداً عنها بالقوة : ايه اللي بتعملو دا يا معاذ انت اجننت ماسكها كدا ليه!!

زفر معاذ بعنف ، محاولاً السيطرة على نفسه ، ليصرخ بحدة : غصب عني هي اللي بتخلي الواحد يطلع عن شعوره

نظر حازم إليه باستياء ، ثم ربت على ظهر حياة المرتعدة ، قائلاً بحنان : بطلي عياط يا حياة اهدي يا بنتي في ايه قوليلي!!

ارتجفت فرائصها أكثر اثر نظراته النارية إليها ، وكأنه يبعث لها رسالة مبطنة بعدم التحدث ، لتقول بخوف متلعثمة في الحروف ، وهى تمسك فى قميص حازم محاولة الاحتماء فيه : أسأل اخو حضرتك عمل ايه؟ كان عايز يمد ايده عليا مش مكفيه اللي عملو و كان السبب في اني ماتوظفش لا دا كمان بيتخانق معايا عشان يداري علي غلطه .. عن اذنكم

تحركت حياة راحلة من أمامهم دون أن تنطق بكلمة أخرى ، أو بالأحرى نفدت طاقتها بسبب ثباتها الواهى أمام براثن هذا الليث الضارى ، بينما خفضت عينيها بأسي ، لتنظر إلى ذراعها الذي كان يتحول تدريجياً إلى اللون الأحمر القرمزي.


#الفصل_٢٠


الفصل العشرون

الحب الحقيقي لا يحتاج إلى تفسير أو براهين ، لنعلم بوجوده أنه ببساطة شعور يتغلغل في القلب وأعماق الروح حتى يستحوذ على حياتك كلها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

: بلاش يبقي مخك طاقق كدا علي طول يا حياة المسائل دي بتتحل بهدوء و عقل

أنهت كلماتها بنبرة هادئة محاولة إقناع الجالسة مقابلها بملامح وجهها الأحمر من الغضب وعيناها المتورمة من بكائها.

لم تستطع سماع المزيد من تلك الكلمات التي ترددها في كل مرة يحدث فيها شجار بينها وبين معاذ ، فقالت بصوت متوسل يشوبه بالاختناق : ميساء .. من فضلك .. انا مضايقة ماتزوديهاش عليا .. المفروض تفهمي انا حاسة بإيه! مش قادرة اتناقش دلوقتي الله يخليكي

اختتمت الحديث برفع يدها إلى رقبتها ، لتتضح الكدمة الحمراء المزينة بذراعها الأبيض الذي يتخللها اللون الأزرق بسبب ما فعله معاذ بها.

قطبت ميساء حاجبيها بحنق شديد ووعيد فى داخلها اتجاهه ، لكنه توسل إليها لكى تصلح الأمر بينهما ، ولذلك وافقت على مضض لأنه أظهر لها ندمه الشديد على ما فعله ، لتقول بصوت هادئ رغم استياءها : حياة .. انا عارفة ان اللي حصل منه دا غلط .. بس هو بيحبك وكان خايف عليكي من الشغل دا

تشكلت عدة تجاعيد بين حاجبيها بعدم اقتناع من حديثها ، ثم هتفت في انفعال : و انتي صدقتيه مش كدا!! لا يا ميساء دا عايز يلغيني و يلغي شخصيتي من الاول .. فاكر ان الكون لازم يمشي علي مزاجه .. دي مش تصرفات انسان بيحب وعايز يبني بيت اشاركه فيه .. دي انانية منه مش حب انا حاسة معاه اني بتحرك بالريموت مش علي طبيعتي مش مرتاحة .. حاسة علي طول اني هغلط او لو اتكلمت هتفهم غلط

تنهدت ميساء بأسى على حالها ، لأنها تعلم في قرارة نفسها مدى صحة كلماتها ، وتمتمت بإستماتة وهي تمد أصابعها لإزالة الخصل البنية التي انزلقت على وجه حياة الغالب عليه البراءة ، لأنها لا تضع مستحضرات التجميل على عكس وجهها الفاتن المتورد بأنوثة : اهدي طيب .. بصي يا حياة لو سيبتيه دلوقتي هيحصل حساسية بينك و بين حازم اللي انتي قاعدة في بيته

نظرت إليها حياة بأعين منفرجة ، بسبب كلمات أختها التي صدمتها ، صفعت على فخذها بقوة ، لتقول بغضب من بين أسنانها : والله .. يعني عشان قاعدة في بيته المفروض اقبل و استحمل اي حاجة من اخوه!!!

أردفت بنبرة يغلب عليها التأنيب ، وهي تشير إلى نفسها وتنظر إليها بعيون لامعة ، أثر الدموع الحبيسة التي تهدد بالسقوط ، بعد أن تذكرت كيف كان يدللها والدها الراحل : وبعدين ما انا كنت قاعدة في شقة بابا الله يرحمه .. فضلتي تزني عليا عشان نبيعها واحط الفلوس في البنك لجهازي وجيت قعدت معاكي هنا عشان مابقاش لوحدي .. مش دا كان كلامك ليا ساعتها!!

سارعت ميساء فى تبرير كلامها السابق ، حيث تهز يديها إنكارًا ، وتعنف نفسها داخليًا لإيذاءها دون قصد مشاعر أختها : بلاش تزعلي مني والله ما اقصد كدا يا حياة .. بس عشان خاطري عديها المرة دي وماتكبريش الموضوع معه .. اعملي نفسك زعلانه منه كام يوم كدا عشان يتعلم مايزعلكيش تاني و بعدين اتصالحوا

أغلقت حياة عينيها من الصداع الشديد في رأسها من البكاء والصياح ، وكأن شخصًا جالسًا بداخلها يدق بمطرقة على جمجمتها مما تسبب لها في ألم حاد جدا ، فتمتمت بإنهاك لتنهي هذه المحادثة وهي تفرك جبهتها برفق : طيب يا ميساء هفكر

مررت هذا الموقف من معاذ على مضض ، وبدون اقتناع ، احتراما لزوج أختها الذي لم ترى منه سوى الخير ، لكنها لم تنس ما فعله معها دون مراعاة مشاعرها.

قررت العمل كمعلمة أطفال ، وجعلت زوج أختها يقف معها ويدعمها في كل ما تريده ، لذلك لم يستطع معاذ الاعتراض على الرغم من جدالاته الكثيرة معها ، لكنها لم تستسلم ، بل أصرت على ما تريد ، وأعجبت بمرافقة الأطفال وأحبتهم وتعاملت مع المهنة على أنها هواية تسعد بها ، وتريحها من الشعور بالضغط النفسي أو الضيق الذي كانت تشعر به طوال الوقت.

Back

تنفست حياة الصعداء بعد أن أفاقت من شرودها ، تتذكر كيف استقرت في عملها متناسية به هذا الموقف الذي جعلها بعد ذلك لا تريد أن تشاركه أي شيء عنها ، بل بدأت تتغاضى عن أسلوبه الأناني بالبرود والتجاهل.

كانت تتحكم قدر الإمكان في غضبها من طريقته المتسلطة معها.

تدعي سرًا أن سلوكه معها سيتغير بمرور الوقت ، ولكن عندما رأته جالسًا مع تلك الفتاة بهذه الطريقة الاستفزازية ، قررت أن تتركه دون أي اعتبار لأي شخص.

ما كان يجب عليها أن تتحلى بالصبر معه من البداية ، وفي قرارة نفسها تثق تمامًا أن طباع البشر ليس من السهل تغييرها ، وأكثر من ذلك ، إن قلبها لا يريده لم ينبض بإسمه ، و إلا كانت غفرت له و سامحته ، لكنها غير مقتنعة به بتاتًا.

لماذا تخاطر بمستقبلها معه؟ هذه حياتها و هى وحدها ستتحمل نتيجة كل ما سيحدث لها ، لذلك لن تتنازل عن راحة بالها مرة أخرى ، وتحت أي ظرف من الظروف ، ليس لديها سوى كرامتها التي جمعت شتاتها بصعوبة ، وسافرت إلى القاهرة ، تاركة الإسكندرية كلها حتى تجلس في منزل والدها القديم ، بعيدًا عن كل ما يزعج سلام حياتها القادمة.

: حياة حبيبتي

انقطع حبل أفكارها بصوت أختها من خلفها ، فأدارت رقبتها ونظرت إليها ، وأومأت بابتسامة تلاشت تدريجيًا ، وهي تستمع لما تقوله ميساء التي جلست بجانبها : معاذ كلمني بعد ما لاقكي مابترديش عليه وهو واقف تحت شباك اوضتك ..

أردفت ميساء بنوع من التردد : احم ومصمم تطلعي تكلميه .. روحي شوفي عايز ايه بهدوء بلاش عصبية وتفرجو عليكو الناس يا يويو؟!!

بقيت صامتة لحظات تفكر قبل النهوض من كرسيها بابتسامة هادئة حتى تطمئن أختها.

استدارت وغادرت الشرفة ، فيما تحولت الابتسامة البريئة التي زينت ثغرها إلى اخرى شيطانية ، وهي تخاطب نفسها اثناء دخولها المطبخ : انت جيتلي في وقتك .. اما طلعت علي جتتك القديم والجديد مابقاش انا حياة بنت مجدي

يقف معاذ مباشرة تحت النافذة ينظر يمينًا ويسارًا ، ثم يخفض بصره بين تارة وأخرى بملل محدقاً إلى ساعة معصمه الثمينة.

سحبت حياة ستارة النافذة لتفتحها ، وتتمتم بنبرة مغتاظة خفيضة جدًا ، وتتحدث مع ذاتها كالمعتاد مثل المجنونة : قال مصمم اطلعلك قال .. فاكر نفسك لسه خطيبي عشان تديني أوامر يا مغفل ظابط علي نفسك اما وريتك

اختتمت كلماتها الحانقة ، وهي تنظر إلى أسفل ثم أفرغت بغلًا وسخطًا محتوي الوعاء الزجاجي الملء بالطحين الذى كانت تحمله في يدها على رأس معاذ الذي فوجئ بشيء يسقط عليه من فوق.

سرعان ما بدأ بدفعه من على شعره بقوة في محاولة باتت بالفشل بسبب الكمية الهائلة التى غمرته من أعلى رأسه حتى اخمص قدميه.

أغمض عينيه بغير استيعاب ، ليسمع صوتها الفائض بالشماته حيث كانت تغمغم بكلمات غير مفهومة ، ولا تزال تصب عليه الطحين حتى افرغت الوعاء بأكمله.

نظر معاذ بإنشداه في بدلته الملطخة بالطحين ، ورفع رأسه إليها قائلاً بعدم تصديق : ايه دا!!!

رفعت حياة حاجبيها ، وهتفت فى استنكار : دقيق!!

صاح معاذ بغيظ ، وهو يحاول نفض الدقيق منه دون جدوى ، سيكون من الصعب جدا التخلص منه : مبسوطة كدا يا بنت المجانين .. انزليلي هنا بسرعة

هزت رأسها بسرعة وقالت برفض : لا مش نازلة

أطلق معاذ زفيرًا غاضبًا ، وهددها بنفاد صبر بينما كان لا يزال ينفض شعره من الطحين : لو مانزلتيش حالا يا حياة هطلعلك انا واتحملي ثورة اختك علينا احنا الاتنين بسبب بهدلة عفشها بالدقيق اللي حمتيني بيه دا

تمتمت حياة بصوت منخفض بينما أدارت رأسها إلى الجانب الآخر ، والتوتر يحتاج أعصابها وصفعت جبينها بخفة : يالهوي!! انا ازاي مافكرتش في كدا؟ اه يا ابن المستغلة..

أردفت سريعاً بصوت عالٍ ، ثم أغلقت النافذة و سحبت الستائر : استني عندك ماتطلعش خلاص نزلالك

سرعان ما ارتدت سترة قطنية فوق بيجامة نومها ونزلت إليه ، وأغلقت الباب الأمامي للمنزل من خلفها ، ثم التفت نحوه بينما كان معاذ واقفاً يحاول تنظيف نفسه ، لكن الدقيق كان يعشش في ثنايا شعره الذي تحول إلى اللون الأبيض ، ليزفر من الإحباط واستدار بسرعة عندما يسمع صوت حياة تهمس بإستهزاء : لسه جاي من الفرن علي هنا يا اسطا..!!

همس بصوت أجش حانق ، وفتح ذراعيه في دهشة مما فعلته فيه : يا مؤذية خلصتي دقيق البيت كله عليا..

عقدت حياة ذراعيها بلا مبالاة ، ليقول بسخط ، وهو يصفع ذراع بدلته الغالية : لزمتها ايه حركات العيال دي يا حياة .. عجبك منظري كدا يعني؟

ردت عليه بنبرة استفزازية مليئة بالشماتة : عادي تغيير حتي الابيض لايق عليك وكان نفسي اعمل كدا من زمان وحصل

استأنفت حديثها بنفس النبرة والعبوس على محياها : انت هتفضل واقف متنح كدا!! روح من هنا

ردد معاذ بإستغراب : اروح فين وانا كدا يا حياة!!

أجابت حياة باندفاع ، وما زالت تعقد ذراعيها على صدرها : علي جهنم الحمرة .. عايز ايه مني يا معاذ؟

اتسعت عيناه ، ورفع حاجبيه عند سماعه إجابتها القاسية ، وتمتم بإقتضاب ، محاولًا أن يكتم غضبه الذي لا نفع من ورائه الآن : انا جاي اكلم معاكي

أغمضت عينيها بضحكة ساخرة ، وأبعدت وجهها عنه وهي تدمدم بصوت خفيض لكنه سمعها : يارب صبرني

أردفت بعد أن نظرت إليه : وانا قولتلك مش عايزة اكلم يا اخي .. هو بالعافية

واصلت حديثها بنبرة هامسة حادة : ومايهمنيش هتقول ايه اصلا .. سيبني في حالي بقي

أنهت كلماتها الغاضبة واستدارت نحو باب المنزل وهي تنوي الدخول ، لكنه أدرك ذلك بحركة سريعة تسببت في سقوط بقايا الطحين المتعلقة به عن ظهره ، أمسك بعضدها لمنعها من الفرار بعيدا.

اتسعت عينيها بغضب ، وتحدثت من بين أسنانها بفحيح : يخربيتك

أكملت كلامها بنبرة جادة مليئة بالتحذير ، مشيرة بإصبعها إلى مكان قبضته على ذراعها : ابعد صوابعك عن دراعي قبل ما اكسرهم

رفع كفوفه مستسلمًا حتى تلين له ويمكنه الحديث معها دون انفعال ، لكنها رددت تهديدًا ، مشيرة إلى يديه بإصبعها ، وكل ذرة في جسدها مستعدة لمهاجمته : ماتحطش ايدك عليا تاني

هز رأسه باتفاق وقال بصوت هامس : خلاص

عقفت ذراعيها أمام صدرها مرة أخرى ، قائلة بنبرة متغطرسة : اتفضل من غير مطرود

نظر إليها كما لو أنه يرآها للمرة الأولى ، لم يكن يعرف منذ متى أصبحت مشاغبة ومتمردة ، أو أنها كانت على هذا النحو من قبل ، ولكن لأنه كان مشغولًا عن معرفتها جيدًا ، لم يلاحظ هذا الجانب العنيد منها ، حيث لم تعد تخاف منه ، بل تنظر إلى عمق عينيه بتحدٍ عارم ، ليهمس بإلحاح : حياة .. خليكي جد شوية محتاج اكلم معاكي

هتفت حياة وهي تضرب بقدمها على الأرض في حالة من اليأس ، من الإصرار الواضح في عينيه أنه لن يبرح مكانه إلا إذا قال ما فى جعبته : يوووه .. انت غاوي تعاند فيا وخلاص .. مابقش بينا حاجة نحكي فيها يا معاذ

أخفض جفنيه ، وأدار رأسه إلى الجانب الأيمن ، مبتسما بغموض بعد أن خطرت بباله فكرة ، لكنه قال بهدوء للمرة الأخيرة : لا في يا حياة .. تعالي اركبي العربية مش هنفضل واقفين وانا بشكلي العرة دا

ضحكت بسخرية وهي توجه رأسها نحو المنزل ، ثم نظرت إليه بتهديد قائلة بتحدى يشوبه الشماتة : ايه يخليني اسمع كلامك؟ ماتقدرش تجبرني هنادي لأبيه حازم يقطعك حتت صغيرة .. هو مستحلفلك وانت عارف

: كفاية تضييع وقت

تمتم معاذ من تحت أنفاسه ، ثم انحنى بسرعة وطوق ساقيها بذراعيه ، ورفع حياة على كتفه مثل الزكيبة و سار بها كأنها لا تزن شيئاً ، مما جعلها تصرخ بفزع من صدمتها عندما وجدت رأسها يتأرجح على ظهره وساقيها في الهواء.

همست حياة بذهول ، وحركت قدميها بقوة محاولة النزول ، وهى تضربه بقبضتها على ظهره : بتعمل ايه يا متخلف؟ نزلني...

هسهس معاذ وهو يمشي بثقة رافضًا الاستماع إلى اعتراضاتها : هشششش

استمرت حياة بالثرثرة دون توقف من اضطرابها الشديد مندهشة من تصرفه غير المعقول على الإطلاق : موديني علي فين يا معاذ مايصحش كدا!!! نزلني نزلنننني .. قولتلك مش عايزة اكلم معاك هو بالعافية يا اخي .. ماتبطل تصرفاتك الهمجية دي..

وصل معاذ إلى سيارته وفتح الباب لينزلها برفق عن كتفه وساعدها في الصعود إلى السيارة بحذر ، قائلاً بسرعة : اركبي .. يلا

كل مقاومتها ذهبت سدى ، لتغمغم بغضب : معاذ .. والله ماهفوتلك اللي بتهببه دا .. دي جريمة خطف انسة...

لم يدعها معاذ تكمل كلامها ، وهمس على عجل بينما يغلق باب السيارة : دخلي رجلك وبطلي الرغي اللي مالوش تلاتة لازمة دا

★★★

في السيارة

بقيت حياة ثابتة على صمتها ، رغم محاولات معاذ بفتح حديث معها ، بينما كانت تفكر مليًا في المكان الذي سيصطحبها إليه ، لتخطر ببالها فكرة وحيدة يمكن أن تهرب بها من هذا المأزق وتنتقم منه فى آن واحد.

قطعت حياة هذا الصمت قائلة بنبرة رقيقة ممزوجة بالاحتيال : انا عايزة اشرب ممكن تنزل اشتريلي ميه معدنية من الكوشك دا

تبادل الاثنان النظرات وسط صدمة حياة ، ليتحول وجهها تدريجياً إلى اللون الأحمر من الغضب ، تزامناً مع اتساع ابتسامة معاذ الماكرة ، الذي قال وهو يمد يده إليها بزجاجة ماء من المقعد الخلفي : غالي و الطلب موجود

أنهى معاذ جملته بإبتسامة ملتوية ، تنهدت حياة قائلة بإنزعاج بعد أن أدارت عينيها للأمام : خلاص مش عايزة .. انت رايح بيا فين روحني يا معاذ؟

أعاد الزجاجة إلى مكانها ، ونظر إلى الطريق وقال بهدوء : وصلنا

نظرت حياة خارج النافذة لترى البحر أمامها ، بينما نزل معاذ من السيارة ولم ينسى أخذ المفاتيح بعد أن لاحظ نظرات حياة بين الحين والآخر ناحيتهم ليفهم ما تصبو إليه.

تابعت تحركاته بعناية ، وما زال التجهم يغطي الجزء الأكبر من ملامحها المنزعجة ، بعد أن أغلق كل الفرص التي يمكن أن تتخلص منه بها.

أغمضت عينيها بإرهاق ، وميض حدقتى بدر الداكنتان على شكل وميض أمامها.

فتحتهما من جديد ، وتنهدت بضيق ، لشعورها بالنقص الذي يتزايد شيئًا فشيئًا بقلبها ، دون أن تتمكن من ترجمة ذلك حتى لنفسها.

قررت بعد فترة من الجلوس بمفردها في السيارة ، النزول على مضض والتحدث معه كما يشاء حتى يرجعها إلى المنزل.

ترجلت من السيارة ، فإرتطم هواء البحر بشعرها الطويل ليتطاير حول وجهها ، رفعت يدها لإبعاد خصلتيه عن عينيها ، وتحركت إلى المكان الذي يقف فيه معاذ ، وأبطأت خطواتها قليلاً لتبقى مسافة بينها وبينه.

شعر بحركتها خلفه ، فالتفت إليها بصمت بعد أن كان شارد فى أمواج البحر الهائج التي تصطدم بالصخور ، تمامًا مثل مشاعره الآن.

هتفت حياة بنبرة عالية نسبيًا حتى يسمعها ، و على شفتيها ابتسامة جانبية ساخرة : برافو يا معاذ برافو .. عملت للي انت عايزو كالعادة و اخدتني معاك بالعافية

واصلت بنفس السخرية اللاذعة ، وهي تشبك يديها أمام خصرها : ايه الكلام اللي اخدتني زي شوال البطاطا لحد هنا عشان تقوله؟

كان معاذ يستمع إلى سخريتها بوجه مقتضب ، ويضع يديه في جيوب بنطاله ، وحالما صمتت ، اقترب منها بخطوات واثقة حتى وقف مقابلها ، واخرج يديه شابكًا اياهم أمام خصره ، وقال بنبرة هادئة وغير متوقعة لحياة ، حيث اعتقدت أنه سيصرخ عليها بمجرد أن تنتهي من كلامها الوقح ، لكنه خالف كل توقعاتها : حياة .. حياة حقك عليا انا اسف .. عارف ان تصرفاتي معاكي ماكنتش الطف حاجة

نظرت إليه بدهشة أخفتها بسرعة خلف نبرة صوتها الهادئة الساخرة : معقولة .. معاذ باشا بيعتذر قد ايه دا شرف عظيم و تضحية كبيرة منك!!

أسدل جفنيه للحظة عن عينيها المعاتبين ، ثم نظر إليها وقال بلطف : من غير ماتتريقي انا بجد اسف .. كان عندك حق لما قولتي اني بفكر بأنانية

نظرت إليه مليًا ، مستشعرة الصدق باعتذاره ، فأومأت برأسها بصمت ، ثم رأته يخفض بصره إلى الأسفل واقترب منها خطوة ، محاولًا معانقة يدها ، لكنها وضعت راحة يدها فوق كفه ، وقالت بسرعة : خلاص مالوش لزوم الكلام دا يا معاذ .. دي كانت لحظة عصبية مني وراحت لحالها .. بس احنا مش مناسبين لبعض يا معاذ .. صدقني..

صمتت وسحبت يدها عن يده التي بقيت مفتوحة ، وهو ينظر إليها بعينين لا تتقبل هذه الكلمات منها ، قائلاً بحزم وهو يخرج هاتفه من جيبه : لا يا حياة .. انا عايزك تبصي علي الصورة دي

نظرت حياة إلى شاشة الهاتف في يده ، لتتسع مقل عينيها حالما تذكرت تلك الموجودة في الصورة هي نفسها التي رأته معها جالسًا في المطعم ، وظنت أنه يخونها ، لكن منظرها هنا مختلف ، حيث تقف خلف أعمدة حديدية ويبدو أنها مسجونة.

أعاد معاذ الهاتف إلى جيب بنطاله قائلاً بنبرة هادئة : حياة .. انتي فهمتي الموضوع غلط لما شوفتيني مع البت دي كانت مقابلتي ليها عشان شغلي والحمدلله قدرت اقبض عليها والله ماكنت بخونك ولا فكرت اعمل كدا من يوم ما اتخطبنا

لعق شفته السفلى بنوع من الحرج مردفاً : انا عارف اني المفروض كنت افهمك كل حاجة من الاول واشرحلك وعارف انه دا ابسط حقوقك عليا .. بس انا دايما كنت فاكر انه مش محتاج ابرر ولا ادافع عن نفسي قصاد اي حد .. بس لما شوفتك ازاي مصرة علي انك تفضلي جنب واحد ماتعرفيهوش اصلا .. دمي غلي و حسيت بنار جوايا وقتها فهمت قد ايه بحبك واني لازم ابطل افكر بالطريقة دي وماحطش كبريائي حاجز بيني وبينك عشان انا مش عايز اخسرك

شعرت حياة بانقباض صدرها عندما سمعته ، بينما لم يسجل عقلها سوى جملة واحدة من كل هذه الكلمات.

زاغت عيناها بتوتر لتسمع لسانها ينطق بتسرع : بس انا اعرفه كويس يا معاذ

حدق فيها لثانية دون أن يجيب ، لقد اعترف للتو بمشاعره تجاهها وهذا كل ما تمكنت أن تقوله ردًا عليه ، مستفسراً بغرابة : دا كل اللي لفت انتباهك من كلامي كلو!!

كان الأمر كما لو أنه تلقى منها صفعة قوية زعزعت توازنه وهزت كبريائه ، أوقد في صدره حريق خنق أنفاسه ، حالما تساءل بتوجس : انتي بتحبيه يا حياة!! طيب امتي حصل الحب دا!! و ازاي؟

قرع قلبها بعنف داخل ضلوعها ، حيث اتسعت عيناها لكونها بطريقة ما استطاعت ترجمة طلاسم هذا النقص الملازم لها منذ اللحظة التي ألتفت فيها بدر موليًا ظهره لها.

عفوياً ، قالت بخفوت وهي توجّه عينيها نحو البحر بعد أن أصابتها الصدمة : بحبه من زمان اوي

من يقف على الشاطئ ، ويقول انه يحب البحر كاذب ، فلا تصدقه الا اذا غطس في اعماق البحر ورأى ظلامه وعيوبه وغضبه ، انتظره حتى يعاود الى الشاطئ مجددا و كرر نفس السؤال عليه ، هل مازلت تحبه؟

إذا كانت الإجابة بنعم ، فهذا حب حقيقي لأن نظرتنا لشخص من الخارج تكون مشوشة أحيانًا ، الكل يريد أن يظهر جميلًا ورقيقًا وكريمًا في البداية ، لكن عليك أيضًا أن تراه في أسوأ حالاته لتقرر ما إذا كنت لا تزال تحبه أم لا؟..


الفصل الواحد والعشرون والثاني والعشرون من هنا 

    لقراءة جميع فصول الرواية من هنا

تعليقات