
رواية شبح حياتي
الفصل الخامس والعشرون 25
والسادس والعشرون 26
بقلم نورهان محسن
الفصل الخامس والعشرون
مثل طائر جريح تائه في الطرقات المظلمة ، ليجدها هى المأوى لكل جراحه ، تسعى لإنقاذ روحه الضالة بإستماته ، أنها بمثابة بزوغ فجر جديد لحياته ، أضاءت سماءه بنورها بعد ظلمة طويلة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في الصَّباح الباكِر
داخل غرفة المستشفى
مستلقي على سرير وحيد محاطًا بالمعدات الطبية ، والصمت سائد من حوله.
حرك جفنيه ، محاولاً فتحهما ببطء ، لينجح بعد عدة محاولات ، تزامنًا مع دخول الممرضة التي توجهت مباشرة لفتح النافذة حتى يتمكن ضوء الشمس الساطع من التسلل إلى الغرفة.
أغمض عينيه بانزعاج ، وهو يقطب حاجبيه ثم حاول فتحهما مرة أخرى بتريث ، محاولًا أن يعتاد على الضوء ليرى ملامح المكان ، لكن عقله كان فارغًا ومشوشًا لمدة دقيقة ، ثم بدأ يستفيق بينما اقتربت منه الممرضة لتفقد علاماته الحيوية كالمعتاد.
وقعت عيناها عليه وهو ينظر إليها بهدوء ، رفرفت رموشها عدة مرات متتالية في حالة صدمة ، وعلى الفور تحولت إلى ضحكة لتقول بسرعة : استاذ بدر .. حضرتك مفتح عينيك بجد ولا انا عشان مطبقة من امبارح بقي بيتهيألى حاجات!!
ظهر شبح ابتسامة على فمه ، ولكن سرعان ما تلاشت عندما شعر ببعض الألم ، محاولًا إخراج صوته المتهدج بتقطع ، بسبب جفاف حلقه : عايز .. اشرب
ابتسمت ريم بسعادة ، وهي تمد يدها لقياس نبضه قائلة بلطف : حاضر حاضر .. بس لحظة واحدة هنادي للدكتور و راجعة علي طول
★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••
فى منزل بدر
رن جرس الهاتف في جميع أنحاء الغرفة بلا توقف.
تملمت حياة تحت الغطاء بانزعاج ، في محاولة فاشلة لتجاهل الصوت والاستمتاع بنوم هادئ ، لكن إصرار المتصل لم يساعدها على ذلك.
رفعت رأسها عن الوسادة ، وعيناها ما زالتا مغلقتين في نعاس ، ثم مدّت يدها بشكل عشوائي إلى الطاولة ، والتقطت الهاتف تحدق فيه بنصف عينين مفتوحتين لترى اسم المتصل ، ودون تردد أجابت ، وهى تعتدل على السرير : الو .. حصل حاجة يا شذى؟
تثاءبت وهي تفرك محجر عينها بإصبعها قائلة بإبتسامة : ماشى .. صباح الخير الاول يا ستي
حياة وهى تمطى جسدها بتكاسل ، محاولة التخلص من آثار النوم ، لكن حركتها توقفت فجأة بينما تستمع للطرف الآخر ، ثم تمتمت بعدم فهم : بدر ماله!! عيدي اللي قولتيه تانى؟
اتسعت عيناها من الصدمة ، و رددت بإنشداه : فاق!!!
اختلطت بداخلها مشاعر كثيرة تبكي وتضحك في نفس الوقت من أثر المفاجأة ، ثم تنفست بعمق وقالت بتردد طفيف : ماشى .. هلبس علي طول و جاية
هبت من السرير وبدأت تجوب الأرض ذهابًا وإيابًا حافية القدمين من التوتر البالغ الذي طغى على كيانها ، ولتهدئة روعها شرعت التحدث إلى نفسها : هعمل ايه .. لما اشوفه هقوله ايه؟ طيب هو هيقولي ايه؟ ياربي دماغى سخنة كدا ليه؟ اهدى يا حياة .. اهدى بدر فاق و هتشوفيه و يشوفك
ركضت بسرعة لتلتقط ملابسها بعناية فائقة ، ثم ذهبت إلى الحمام ، يترقص قلبها بفرح وشوق لرؤيته ، ولكن اهدأ أيها القلب ، لا تطير مثل طائرة ورقية عندما تراه عليك أن تتريث.
★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••
بعد فترة من الزمن
سارت حياة بخطوات هادئة في المستشفى ، عكس نبضها المضطرب ، داخل الردهة الطويلة المؤدية إلى غرفته.
: حياة .. صباح الفل يا حبيبتي
أستدارت برأسها نحو الصوت ورأت شذى تأتي إليها مبتسمة ببشاشة ، لتبادلها أياها قائلة برقة : صباح النور
اتسعت ابتسامة شذى ، لتقول بمرح مع غمزة بعينها : ايه الحلاوة دي كلها .. من أولها كدا !! طب خفى شوية دا الراجل لسه في النقاهة
تلاشت ابتسامتها تدريجياً ، بينما تفرك بكفها على بنطالها ، لتقول بإرتباك : حلاوة ايه !! انا رجلي مش شيلاني و قلقانة اوي
رفعت شذى حاجبيها بدهشة من توتر الآخرى ، وقالت بنبرة هادئة وهي تربت على ذراعها : من ايه بس!! اهدى كدا .. مالك متوترة ليه؟
أخذت حياة نفسا عميقا ، وثم زفرته بثقل ، لتقول بإرتجافة : امبارح كانت اكتر ليلة مرعبة مرت عليا في حياتي يا شذي .. كنت هموت من الخوف عليه وفجأة اقوم من النوم علي الخبر دا .. اعصابي بقت مهلبية علي الاخر
أومأت شذى برأسها متفهمة قبل أن تسأل : هو فاق امتى؟
اتكأت حياة على الحائط ورائها ، وعيناها مثبتتان على باب الغرفة التي مازال يحرسها الجندي ، وهى تتذكر مكالمتها للممرضة واستفسرت عن حالته ، ثم ردت بابتسامة : ريم بتقول الصبح دخلت عليه لاقته مفتح عينيه .. في الاول ماكنش مركز وبعدين وحدة وحدة صحصح
تنهدت شذى بارتياح وعلى شفتيها ابتسامة جميلة تقولها بحرج : يلا الحمدلله علي سلامته .. ماعرفتش اجي الا دلوقتي .. كلمتك وانا في البيت عشان بدي الدوا لبابا بنفسي الصبح و اللي قالي الخبر جاسر في التليفون
أشارت حياة بأهدابها فى تفهم دون أن تعقب ، لأنها رأت جاسر يأتي إليهم من الجانب الآخر ، ليقول بابتسامة جذابة : صباحو يا حياة
اتسعت ابتسامته ، وهو ينظر إلى شذى مردفًا : صباح الخير علي الحلو المنور
تمتمت شذى بخجل محبب لقلبه : صباح العسل يا حبيبي
وزعت حياة نظراتها بينهما ، وقالت بضحكة محرجة وهي تفرك أنفها برفق : نحن هنا راعو مشاعري شوية
اكتفى جاسر برسم ابتسامة مرحة دون تعقيب ، فأردفت حياة متسائلة : ها يا جاسر طمني ايه اخباره دلوقتي؟
وضع يده في جيب بنطاله وأجاب بهدوء : الحمدلله الدكتور عملو شوية فحوصات وقال كله تمام .. بس عايزو يفضل فترة في المستشفي عشان يطمن اكتر..
سألته شذى بابتسامة ، وهي تراقب عيون حياة التي لم تفارق باب الغرفة : مش هتخليها تدخل تشوفه؟
لوى شفتيه ساخرا ليقول باستياء : انا نفسي مش عارف اشوفه عشان وكيل النيابة معه جوا من نص ساعة رغم اني المحامي بتاعه واخوه
التفتت إليه حياة بنظرة مندهشة سرعان ما تحولت إلى غيظ قائلة بعبوس طفولي : يعني هشوفه امتي يعني!!
وكزتها شذى على ذراعها برفق ، وهمست بضحكة مرحة : خبي الشوق دا شوية كدا المتر يشوف نفسه عليكي
ضحكت حياة رغماً عنها على مزحة شذى ، وسرعان ما تلاشت الابتسامات من وجوههم عندما تحدث جاسر بعفوية : احسن حاجة عملتيها انك روحتي تستريحي شوفتي راجعة وشك مورد و زي القمر ازاي
حدقت فيه شذى شرزاً ، ودمدمت بعبوس لطيف مؤنبة اياه ، وهى تتحرك بسرعة للوقوف بجانبه ، ثم لكمته في صدره بخفة : انا جنبك علي فكرة
كتمت حياة ضحكاتها من نظرة جاسر المتوترة لغضب خطيبته التى اثار غيرتها رغم أنه لم يقصد ما اعتقدته ، فحاول اختيار كلمات أنسب قائلا : قصدي يعني .. كانت مصلحة ليها لو شافها بمنظرها المتبهدل بتاع امبارح .. انا متأكد انه هيرجع لغيبوبته تاني
اتسعت عينا حياة ذهولاً ، وعلى الفور اتخذت خطوة لتتشاجر معه ، وهى تنبس بتهديد مضحكًا : واضح كدا انك عايز تاخدلك سرير جنب اخوك و تقعد في الجبس ست اشهر
وقفت شذى حائل بينهما ترفع يديها في الهواء ، وهى بالكاد تمنع ضحكاتها بصعوبة ، قائلة بتوسل وبنظرات مترجية : لا في عرضك انا فرحي بعد كام شهر و ماعنديش استعداد اتزف في المستشفي
فور أن أنهت كلامها ، رنَّت أصوات ضحكاتهم مرحًا.
سكتوا جميعًا عندما سمعوا صوت معاذ الذي خرج لتوه من غرفة بدر : صباح الخير
أضاف دون أن ينتظر منهم أن يقولوا تحية الصباح : وكيل النيابة اخد افادته بس قال محتاج يقعد معه تاني لما يركز شوية اكتر .. عشان لسه عقله مشوش من أثار الغيبوبة
ابتسم جاسر بامتنان وتحدث بجدية : متشكرين جدا يا معاذ باشا على تعبك معانا
ظهرت ابتسامة صغيرة على جانب فمه ، وأجاب ببحة صوته المميزة : ولا يهمك دا شغلي
تأبطت شذى ذراع جاسر ، ومنحته نظرة ذات مغزى قبل أن تقول برقة : عن اذنكم احنا هنروح نطمن علي بدر
فرك معاذ جبهته بإرهاق وصمت ينتظرها حتى تتكلم ، ليسمع صوتها الخافت بعد ثوان : شكلك تعبان يا معاذ .. شكرا علي وقفتك معاهم
سحب نفسا عميقا وملأ رئتيه ، ليبدأ في التحدث بصوت ثابت مثل نظراته المحدقة فى عينيها ، و داخلهما تروى الكثير من المشاعر : انا عملت كدا عشانك انتي و مش عايز حاجة غير انك تبقي مبسوطة ومرتاحة يا حياة ..
ساد الصمت لحظات قليلة قبل أن يشعر باليأس من عدم ردها على كلماته ، ليقول ببرود : على فكرة انا راجع اسكندرية انهاردة في حاجات هناك لازم اخلصها
أطرقت رأسها للحظة قبل أن تنظر إليه ، وقالت بابتسامة لطيفة وهي تمد يدها لتصافحه : تمام .. خد بالك علي نفسك وتوصل بالسلامة..
نظر إليها معاذ مليًا قبل أن يصافحها ، قائلاً بهدوء نسبي : تسلمي .. سلام
★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••
داخل غرفة بدر
: حمدلله علي سلامتك يا متر
ابتسم بدر لها بلطف ، وهمس بصوت أجش : الله يسلمك يا شذي
وجه بصره إلى شقيقه الواقف بجانب شذى ، ليكمل كلامه بسؤال : امتي هخرج من هنا يا جاسر؟
تغضنت ملامح جاسر بدهشة وهو يرى الضجر مرتسم على وجهه ، ليقول بغرابة : تخرج فين يا بدر!! انت لسه فايق من غيبوبة بقالك فيها اسابيع يا راجل
هتف بدر فى سأم ، غير مباليًا بتاتًا بمشاكسة جاسر له في نهاية كلامه : اتخنقت من المستشفي و التحقيقات ماشوفتش غير ظباط وعساكر من وقت ما فتحت عيني..
هز جاسر رأسه نفيًا ، وكرر كلماته بإصرار وجدية : الدكتور قال ان لازملك كام يوم تحت الملاحظة عشان نطمن علي حالتك بعد كدا ابقي اخرج براحتك
استنشق بدر الهواء بقوة ، وأغمض عينيه فى استسلام ، ثم رفع يده نحو ذقنه يمسده بعفوية ، ليعيد فتح جفنيه قائلاً بنوع من الحيرة : هي ذقني مالها خفيفة كدا وانا بقالي اسابيع نايم .. ايه كانت مابتطولش ولا ايه؟
: لا دي ح...
انقطعت كلمات شذى عندما سمعوا قرع على الباب ، فهتف جاسر للسماح للطارق بالدخول ، طلت حياة من خلف الباب برأسها فى تردد قبل أن تدخل بجسدها كله ، حيث كانت واقفة بالخارج لبضع دقائق بعد مغادرة معاذ.
تحاول جمع شجاعتها ، حيث تشعر أن الثواني قد تباطأت كأنها ساعات بسبب اضطرابها وحماسها في نفس الوقت.
تقدمت إلى الداخل وهي ترتدي ثيابًا ثقيلة نوعًا ما بسبب الطقس البارد ، لكنها أنيقة جدًا ومتناسقة ، على رأسها هناك قبعة صوفية تحميها من البرد ، وتحمل في يديها باقة كبيرة رائعة من الورود ، لتقول بنبرة هادئة ومرتبكة مثل دقات قلبها التي تنبض بعنف في صدرها بسبب لقاءها الأول به بعد أن استعاد وعيه الكامل : سلامو عليكو!!
رد الجميع بصوت هادئ : وعليكم السلام
ألقى بدر نظرة فاحصة عليها ، عندما نظرت إليه وقالت بابتسامة رقيقة ، وهي تتخذ عدة خطوات بسيطة حتى جاءت أمامه وقدمت له الورد : حمدلله علي سلامتك
استقام على السرير أكثر ، قائلا بابتسامة وهو يمد يديه ليأخذها منها دون أن ينظر إليها : الله يسلمك متشكر علي الورد .. عايز اشرب ممكن تنوليني الميه دي؟
أومأت حياة بالموافقة ، تدير ظهرها إليه وصبت إليه بعض الماء من الزجاجة على الطاولة وهي تبتلع لعابها بتوجس من أسلوبه الغامض و الجاف نوعا ما ، حيث أنها لا تستطيع قراءة تعابير وجهه الجامدة.
قال جاسر بدهشة وهو يرفع حاجبه الأيمن : انت مخلص تلت ازايز مية لحد دلوقتي يا بدر!!
ابتسم بدر بصمت ، وتناول الكوب منها ، ليقطب حاجبيه بدهشة حينما لاحظ ارتعاش يدها الممدودة تجاهه ، ليحدجها بنظرة غريبة ، بينما بدأت حياة تشعر بالتوتر من تلك النظرات الثاقبة.
سرعان ما تحول شعورها إلى صدمة ، وتراجعت قليلاً عندما قال بصوت عميق : ياريت تناديلي الدكتور عشان اكلم معه يا انسة من فضلك
نظر جاسر وشذى إلى بعضهما البعض بدهشة ، ثم وزع الأول نظراته بين بدر وحياة ، التى تجمدت في مكانها حرفياً ، ممَ جعله يقترب منهما ليسأل بتوجس : بدر .. هو انت مش عارفها؟
اتسعت عينا بدر مصدومًا من كلام شقيقه ، ليقول في اشارة الى نفسه : هو انا اعرفها!!
صُدمت حياة و بهتت بشرتها بشدة ، وكأن دلو مليء بالثلج قد سكب على رأسها بسبب ما سمعته للتو ، وتمنت لو لم تأت قط.
كيف فاتها هذا الأمر ، منذ أن نظرت في عينيه الباردتين وهى قلقة ، حتى تعابير وجهه وصوته ، يؤكدان من أنه يرآها لأول مرة ، ولا يتذكر من تكون أو بالأحرى لا يبدو أنه يعرفها البتة.
تمكنت بمعجزة قبل أن يتطور الأمر ، وتصبح في وضع لا تحسد عليه أن تتظاهر بالضحك فى مرح ، لتقول بكذب : لا يا استاذ جاسر .. المتر هيعرفني ازاي و هو كان في غيبوبة كذا اسبوع..؟
أستطردت الحديث بإبتسامة زائفة : انا كنت ممرضة بتاعت حضرتك و لما عرفت انك قومت بالسلامة جيت اطمن عليك و هرجع علي شغلي عن اذنكم
جعد حاجبيه بضعة لحظات وهو يحدق إليها ، ثم هز رأسه بإيماءة خفيفة ، مبتسمًا بفهم وهو يرفع الكوب إلى شفتيه ، وهو يرتشف قليلاً منه.
اطرقت رأسها هربًا من عينيه الغامضتين ، مبتسمة ابتسامة لا تخلو من الحزن ، ثم أطلقت الريح لساقيها ، واندفعت خارج الغرفة ، تحت أعين الجميع ، شاكرة الله أن قلبها لم يفضحها بسبب خفقاته العنيفة أمامه ، ليتحدث جاسر فور مغادرتها : هروح انادي الدكتور يا بدر ريح انت شوية
ركض جاسر و شذى خلف حياة التي كانت على وشك دخول المصعد ، لكن صوته أوقفها وهو نادى عليها متسائلاً بتعجب : انتي ليه قولتي كدا ؟ و رايحة علي فين ؟ خلينا نروح نكلم مع الدكتور ممكن يكون في مضاعفات بسبب الغيبوبة..
تجمعت العبرات في مقل عينيها ، و تبخرت أخر ذرة من المقاومة الواهية التي لم تكن موجودة ، محاولة ابتلاع تلك الغصة الحارقة في حلقها ، ثم قالت بخفوت : لا هو فعلا مايعرفنيش ولا قابلني من سنين طويلة يا جاسر
اغرورقت الدموع عينيها أمام نظراتهما المذهولة للغاية ، ليهتف جاسر بغرابة : انا مش فاهم اي حاجة..؟
تنهدت حياة بقوة ، وأغمضت عينيها لبضع ثوان لتجمع رباطة جأشها ، وفتحتهما ، تهمس بحزن وقلب يئن من الألم : هفهمك كل حاجة بس قبل ما اقول ارجوك ماتجبلوش سيرتي خالص
★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••
بعد مرور أسبوع
تساءلت حياة كيف مروا تلك الأيام عليها دون رؤيته ، لكنها كانت تصبر نفسها وهى تطمئن على حالته وتطور صحته عبر جاسر وشذى التى أقامت في منزلها بشكل مؤقت ، حيث رفضت الذهاب إلى شقة بدر منذ آخر مرة رأته فيها.
أيضًا ، خلال هذا الأسبوع ، عادت إلى المدرسة بعد أن أوضحت بإيجاز لمديرة المدرسة أسباب غيابها ، وبدأت في الحضور بانتظام ، وتسعى جاهدة للتعود على غيابه في حياتها ، لكن ما لا تستطيع السيطرة عليه هو ذلك الحنين إليه و التفكير الدائم فيه.
لم تنكر إحساسها بفرح كبير لعودة بدر إلى الحياة من جديد ، لكنه بالمقابل سلب قلبها منها مدى الدهر.
مر يوم آخر على نفس المنوال
دخلت حياة منزل شذى بالمفتاح الذي أعطتها إياها ، لتتفاجأ بأن جاسر كان ينتظرها في غرفة المعيشة لتقول بابتسامة جميلة : ازيك يا جاسر!!
قال جاسر ، وهو باسم الثغر : انا الحمدلله .. انتي عاملة ايه؟
ردت حياة بإيجاز ، وهي تجلس على مقعد منفرد : ماشي حالي
وضع جاسر فنجان القهوة على المنضدة ، مائلًا إلى الأمام قليلاً ، وشبك أصابعه معًا ، ثم بابتسامة واثقة تحدث : انا قولت اجي اقولك علي الخبر دا بنفسي
هزت حياة رأسها ، تحثه على الاكمال ، فأردف بذات الابتسامة : كرم اتقبض عليه
اتسعت عيناها بذهول ، وهي تكرر سؤالاً خلفه : اتقبض عليه .. ازاي!!
شرع في الحديث مباشرة ، بصوت هادئ ومتوازن : في بلاغ اتقدم من مجهول عن مكانه في الاسماعلية .. التحريات اثبتت ان المكان بتاع وحدة متجوزها عرفى وهى اللي بلغت عنه و هربت بعد ما سرقت الفلوس اللي كانت معه
حدقت حياة فيه باهتمام وسألته بريبة : وهو جاب الفلوس دي منين؟
أخبرها بما حدث قائلاً بابتسامة ساخرة : اعترف في التحقيقات قال ان اميرة هي اللي وزته علي فك فرامل العربية و اديته مبلغ كبير وقتها .. لما اتصلت بيه وسألته عن مكان بدر تقريبا بعد مكالمته معها وساعتها بدر كان في العمارة بتاعته
احتد غيظه في نهاية حديثه ، رغم خفوت صوته ، حرصًا منه لكى لا يلفت انتباهه والد شذى النائم في الغرفة المجاورة ، لتكمل شذى الكلام بصوت حزين ناعم ، اثناء جلوسها على الكنبة : ربنا كبير بيسلط ناس علي ناس .. شوفوا اللي اسمه كرم دا بسبب طمعه وقع في وحدة جشعة .. لما راح استخبي عندها و ساب مراته وبناته .. طمعت في الفلوس اللي معه سرقته و بلغت عنه و طفشت .. يستاهل
جعدت حياة حاجبيها ، وأطلقت زفيرًا حارًا ، لتقول بدهشة ممزوجة بالعتاب : ليه يعمل كدا في بدر ؟ و اهله خير بدر عليهم كتير!!
فرك زوايا عينيه بأصابعه ، ليجيب عليها بجدية : زي ما قالت شذي الطمع بيغير النفوس يا حياة و اميرة زغللت عينه بالفلوس
سألت حياة بترقب وقلب ينبض بسرعة : و كريم مافيش اي خبر عنه ؟
هز جاسر رأسه نفيًا قبل أن يرد باقتضاب : لحد دلوقتي لا
هتفت حياة بصوت مذهول لا يخلو من الحزن : وبدر عرف كل دا؟
نظر إليها جاسر مليًا ، وقال بنبرة غامضة : طبعا و كمان هيخرج من المستشفي بعد يومين
أومأت حياة إليه بفهم ، وقالت بخجل وهى تفرك رقبتها بخفة : تمام يا جاسر .. بعد اذنك انا هبقي اروح شقة بدر بكرا عشان الم حاجاتي اللي عنده قبل ما يخرج
قطب جاسر جبينه متسائلاً باهتمام : لسه مصممة علي كلامك و مش عايزة تقابليه برده؟
حدقت حياة به ، ثم تومضت عيناها بحزن لتجيب بضيق : لا يا جاسر مش هقدر اواجهه .. هقوله ايه اصلا!! ولو سمحت خليك عند وعدك ليا و ماتقولش أي حاجة عني
هزّ جاسر رأسه متفهّمًا ووقف يهندم قميصه قائلاً بهدوء : اللي تشوفيه يا حياة .. انا ماشي بقي سلام
ابتسمت حياة وقالت بصوت خفيض ، بينما نهضت شذى خلف جاسر تمشي معه نحو باب المنزل : مع السلامة
★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••
كان على وشك الخروج ، ليشعر بلمسة يدها على ذراعه ، فالتفت إليها برقبته عاقدًا بين حاجبيه ، لتقول بتوجس : كنت حاسة انك مش علي بعضك جوه في ايه ؟
استدار جاسر إليها تمامًا ، وابتلع لعابه وهو ينظر خلفها بحذر ، ثم حدق بها مرة أخرى ، وأجاب بتوتر بعض الشيء : بدر في التحقيقات جابوا معاه اسم حياة كتير
اتسعت عيناها وفغرت فاهها الذي سرعان ما غطته بكفها ، لتغمغم بإنشداه : يا خبر ابيض .. وبعدين؟
تنهد جاسر بعمق ، ثم أجابها بصوت منخفض : انا حاولت اراوغ بس بدر كل شوية بيسأل و انا بزوغ من الكلام .. بس انا خلاص لاقيت الحل
أنهى كلماته بثقة ، لتسأل شذى بصوت هامس وعيون متلألئة بترقب : ايه هو؟
رفع جاسر يده ، وهو يقرص مقدمة أنفها بمشاغبة ، وقال بابتسامة مرحة : هقولك عليه بليل .. كلميني قبل ما تنامي
تدلى حاجبيها وابتسمت قائلة بحب : حاضر حبيبي
★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••
عادت شذى إلى الداخل بعد أن أغلقت الباب خلف جاسر ، لتعقد حاجبيها بتساءل عندما لم تجد حياة في غرفة المعيشة ، لتتجه نحو الغرفة التي تقطن فيها منذ أن وافقت على الجلوس معها في منزلها حتى تدبر شؤونها.
نبست شذى بلوم عندما رأت حياة جالسة على السرير وركبتيها تضمها على صدرها ، والدموع تنهمر من عينيها في صمت : لما انتي بتحبيه اوي كدا يا حياة ليه العناد دا بس ؟
رفعت حياة وجهها نحو شذى ، وأنفها ملطخ بحمرة البكاء ، وقالت بصوت متهدج : عشان ماقدرش افرض نفسي علي حياته يا شذي
اقتربت منها شذى لتجلس على حافة السرير مقابل لها بعد أن رق قلبها حزنًا عليها ، وتابعت كلامها بنبرة هادئة : مين قال كدا بس!! حاولي تقربي منه .. ممكن يفتكر و يعرفك يا حياة اللي عملتيه عشانه يستاهل منك محاولة
عقدت حياة حاجبيها وهي تربع قدميها ، وتهز رأسها رافضًا ، لتهمس بحزن : اللي عيشته معه كأنه كان حلم او قصة خيالية مستحيل هيصدقها
نهضت شذى من مكانها لتستلقي بجانبها ، متكئة على جنبها حتى تستطيع رؤيتها جيدًا ، وهى مبتسمة قائلة بخفوت : تعرفى كأنك كنتي بتحكي لنا مسلسل يا حياة .. لولا ان فعلا حاجات كتير قولتيها محدش يعرفها ماكنش هنصدقك بأمانة
ظلت حياة صامتة للحظة ، قبل أن تنظر إليها وقلبها يتألم ، ونبست بصوت منفعل يشوبه البكاء : ولا انا لحد دلوقتي اصلا مصدقة .. بس كل ما اسمع دقات قلبي .. اول ما افكر في ايامه القليلة معايا بتأكد اني حبيته وبحس انه وحشني اوي
عبّرت ملامح شذى عن حزنها على حالة تلك العنيدة ، لتقول بنبرة حنونة : طيب يا بنتي ليه العذاب دا ماتقوليلو اللي حصل ؟
قهقهت حياة بمرارة وهي تبسط يديها بعجز قائلة بسخرية : مش هيصدقني هيقول عليا بخرف و احتمال يرميني بإيده في العباسية
قالتها وهي تضع ذراعيها على بطنها فوق بعضهما البعض وتسترخي على ظهر السرير ، كانت شذى تحدق بها بتأثر ، ولم تمنع عبراتها من السقوط ، وتمتمت بحزن : يعني جيتي تخرجيه من ازمته كعبلتي نفسك في ازمة!!
ازدادت دموعها لأنها اشتقت إليه حقًا ، رغم أنه لم يمر وقت طويل منذ آخر مرة رأته فيها ، شهقت بقوة قبل أن تواصل بصوت حزين : هو كان محتاج حد يرجعلو حياته و خلاص بمجرد ما رجع انتهت كل حاجة مالحقتش تحصل بينا
أخذت شذى نفسًا عميقًا للسيطرة على عواطفها ، وهي تمسح بأصابعها على خديها المبللة ، وأجابت بجدية : بلاش التشاؤم دا يا حياة .. انتي لازم تحاولي ماضيعهوش من ايدك بسهولة كدا
ردت حياة بتنهيدة هادئة على عكس حالة قلبها المتعثر داخل ثنايا صدرها ، تحاول السيطرة على حالتها وطرد الطاقة السلبية الحزينة التي خيمت من حولهم : اللي في النصيب هشوفه يا شذي .. قوليلي بس امتي اقدر اشوف الشقة اللي قولتيلي عليها؟
فهمت شذى محاولتها لتغيير الموضوع ، لترفع عينيها للسقف تدعى التفكير ، ثم أجابت عليها بابتسامة : ممكن نروح نشوفها بكرا بليل لو عايزة
اتسعت ابتسامة حياة ، ثم فجأة تحولت نبرتها إلى الحماس وهى تلتفت لها برأسها : حلو جدا بكرا مفيش مدرسة .. يعني هبقي فاضية النهار كله يعني فرصة اروح اجيب حاجتي و ارتب الشقة قبل ما يرجع من المستشفي ويتخض من منظرها الملخبط دا
★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••
فى اليوم التالى
ولجت إلى العمارة بأقدام مترددة ، وهي تنظر حولها ، لكنها لم تجد أثرًا لأسرة حمزة في الرواق ، ولم تتفاجأ بغيابهم كثيرًا ، على الأرجح غادروا المكان بعد ما حدث.
تنهدت بعمق وأسى على حالتهم ، ثم صعدت إلى الشقة بخطوات سريعة ، هناك الكثير من العمل ينتظرها في الطابق العلوي.
بعد فترة طويلة من الزمن ، أثناء ما كانت منهمكة فى التنظيف ، سمعت رنين هاتفها من الردهة ، وسرعان ما أجابت : الو .. فينك يا شوشو؟
ردت شذى عليها من الطرف الآخر بلهجة رقيقة : كنت عند وحدة صحبتي و لسه ماشية من عندها دلوقتي
تمتمت حياة بفهم ، ثم قالت بنزق بعد أن أسندت مرفقيها على الأريكة من الخلف : طيب انا بقالي ست ساعات بروق وانضف و حاسة ان الدنيا مقلوبة لسه مع اني نفضت معظم البيت
ردت شذى موضحة باهتمام : خدي نفس كدا و اهدي .. مالك اعصابك مشدودة كدا ليه؟
تنهدت حياة بعمق ، واستدارت إلى النافذة ، ثم ردت بصوت خافت : انا كويسة والله .. قوليلي هنتقابل علي امتي بقي الدنيا ضلمت ؟
أنهت كلامها بسؤال ، لترد على الأخرى بعد عدة ثوان من الصمت بنوع من التردد : انا كنت بتصل اصلا عشان اقولك ان صاحب العمارة اللي هنشوف فيها الشقة اعتذر عن معاده انهاردة وبكرا الصبح هنروحلو
تجعد حاجبا حياة بدهشة ، ثم تساءلت بغرابة : الصبح امتي والمدرسة يا شذي؟ دي استاذة ميرفت فاضلها تكة و تذنبني في حوش المدرسة زي العيال عشان الغياب
قهقهت شذى على كلماتها المضحكة ، ونبرة صوتها المتحسرة ، ثم قالت بلطف بعد أن هدأت ضحكاتها : خلاص ماتزعليش هكلمو تاني و اخلي المعاد بعد الظهر
ابتسمت حياة بإتساع ، ورفعت خصلات شعرها المتمردة عن عينيها قائلة بامتنان : اذا كان كدا ماشي .. تسلمي يا شوشو تعباكي معايا
ردت شذى بابتسامة حلوة وودودة : ولا يهمك حبيبتي .. المهم هتعملي ايه دلوقتي؟
رفعت حياة رأسها لأعلى ، وهى تبرم شفتيها بعبوس ، ثم غمغمت في تفكير : في حاجات كتير ماخلصتش هسهر اعملها انتي عارفة عم حمزة مادخلش الشقة بقالو كام يوم و محسوبتك مكنتش سايبة حاجة في مكانها الطبيعي
استطردت حديثها ، بينما تتحرك بشكل عشوائي ، تلمس بعض الأشياء دون وعي ، بعد أن بدأ التوتر يطغى عليها داخليا من هذا الفكر : هبات هنا انهاردة و الصبح هروح علي المدرسة و بعديها نتقابل
ارتسمت شذى ابتسامة عريضة على شفتيها ثم قالت برضا : ماشي يا روحي .. تصبحي علي خير
نظرت حياة إلى الجانب الأيمن ، وشردت باللا شيء ، قائلة في استسلام : وانتي من اهل الخير يا حبي سلام
★★★
أغلقت الخط ، ثم فركت شعرها بأطراف أصابعها ، مخاطبة نفسها بتنهيدة عالية ، وهي تنحني لالتقاط القط من الأرض : الليلة باينها طويلة يا استاذ ميجو .. عارف انك هتوحشني اوي .. هتفضل فاكرني و لا هتعمل زي صحبك و تنساني اوام؟
أضافت بضحكة خافتة ، وهي تداعب رأسه برفق وتقبله بحب ، قبل أن تتجه صوب المطبخ : يلا بينا نروح نعمل لينا عشاء خفيف كدا و نتابع فيلم .. بعديها اكمل تنظيف عشان لما يرجع يلاقي كل حاجة زي ما سابها بالظبط
★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••
فى سيارة جاسر
ضغط على بعض الأزرار ليضع الهاتف على أذنه ، ومرت بضع ثوان ، حتى جاء صوتها الناعم إليه بمرح : ايوه يا جسوره
ارتفع حاجبه الأيسر غيظًا ، ثم رد بتوبيخ مزيف : اظبطي يا بت هو انا في بوقي مصاصة
همست شذى بصدمة : يخربيت فقرك دا انا بدلعك
قال جاسر ضاحكًا ، وهو يخلل أصابع يده اليمنى بخصلات شعر : الله اموت انا في لسانك الطويل
اختتم كلماته مهمهمًا بعشق ، بينما توسعت ابتسامتها بحب وهي تتجول في غرفتها ، ثم سألته على الفور بجدية : مش وقته .. فين بدر؟
زفر جاسر بحنق ثم تحدث متنهدًا ، وهو ينظر من النافذة المفتوحة بجانبه : لسه طالع قدامي علي السلالم حسيت اني ندل شويتين سيبته يطلع خمس ادوار علي رجليه لوحده
ضحكت شذى ساخرة قبل أن تنبس بتهكم : صراحة هي ندالة منك فعلا
زم جاسر شفتيه قائلا في استياء : هروقك لما اشوفك يا شذي
غمغمت شذى بدلع ، ثم تابعت حديثها بحماس : حبيب قلبي .. خلينا في المهم حياة لسه مكلماني و ناوية تبات في الشقة
اتسعت ابتسامته ، وومضت عيناه بمكر قائلا بنبرة واثقة : تمام اوي يبقي زمانهم اتقابلو و بكدا خطتنا تبقي نجحت
ابتلعت لعابها بتوتر ، ثم برزت شفتيها للخارج ، قائلةً بسخط : دي خطة شريرة انا معرفش ازاي طوعتك عليها كدبت عشروميت كدبة في يومين
زفر جاسر بعمق ، شاردًا في نقطة ما ، ثم نطق بتفكير : معلش بقي لأجل الورد ينسقي العليق
ضحكت شذى على كلماته ، ثم هتفت مازحة : يا حكمك يا متر .. انا خايفة اخوك يفتكرها حرامية و يعمل فيها حاجة؟
شاركها الضحك ثم أجاب ساخرًا ، وهو ينظر إلى ساعته : انا واقف مستني اهو حد منهم ينزل او يقع من البلكونة بس الهدوء سيد العمارة
جلست على حافة السرير ، تقضم أظافرها في التفكير ، ثم نبست بخوف : انا مش مطمنة اطلع شوفهم يا جاسر
هتف جاسر بتذمر بعد أن انتقل له شعور القلق والأفكار السيئة : طيب اقفلي انتي قلقتيني هطلع اشوف و اكلمك سلام
★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••
فى الأعلى عند حياة
أنهت عملها في بضع دقائق ، وأمسكت بكوب العصير في يدها اليمنى ، وصحن به بعض السندويشات سريعة التحضير في اليد الأخرى ، مغادرة المطبخ وخلفها يموء القط بلا توقف ، ويحوم تحت قدميها.
جعدت حاجبيها بتساءل ، وهتفت بصوت عالٍ متذمر ، وعيناها تتجهان نحو الأسفل : والمصحف هتاكل معايا يا طفس .. اهمد شوية هتوقع الكوباية من ايدي ي...
بترت باقي كلامها بصدمة يشوبها ذعر ، وعيناها مثبتتان على حذاء أسود ، وهناك صرخة ماتت في مهدها عندما ارتفع رأسها تدريجيًا نحو الذي يرتدي بنطال الأسود و كنزة زرقاء داكنة ، وعيناه البنيتان الغامقتان مليئتان بالأسئلة ، يقف شامخًا أمامها ، على بعد متر واحد فقط.
#الفصل_٢٦
الفصل السادس والعشرون
لا يحدث نسيان إلا لمن يعشق بعينيه ، أما من يحب بالروح والقلب فلا يوجد بقاموسه هذه الكلمة إطلاقاً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أدار المفتاح في الباب ، وفتحه بسهولة ، ودخل المنزل بخطوات هادئة ، وثمة مزيجًا مؤرقاً من التعب والضيق على وجهه.
عقد حاجبيه تعجبًا من إضاءة أنوار الصالة والتلفزيون ، وما زاد من دهشته وجود المفتاح الآخر للمنزل على المنضدة في مدخل الرواق.
خلع سترته السوداء الطويلة ، ورماها على أحد الكراسي.
لم يمض وقت طويل حتى ظهرت علامات الصدمة على وجهه ، بمجرد أن وصل إلى أذنيه صوت أنثوي ناعم قادم من المطبخ لتأخذه قدميه صوبه ، لكنه توقف عن الحركة عندما رآها تخرج منه ، بينما هي تتحدث إلى قطهُ الصغير.
: والمصحف هتاكل معايا يا طفس .. اهمد شوية يا ميجو هتوقع الكوباية من ايد...
بترت باقي كلامها بصدمة يشوبها ذعر ، وعيناها مثبتتان على حذاء أسود ، وهناك صرخة ماتت في مهدها عندما ارتفع رأسها تدريجيًا نحو الذي يرتدي بنطال أسود و كنزة زرقاء داكنة ، وعيناه البنيتان الغامقتان مليئتان بالأسئلة ، يقف شامخًا أمامها ، على بعد متر واحد فقط.
تجمدت في مكانها بتفاجئ ، ولم تمر وهلة حتى سقط الكوب منها على الأرض بعد أن انزلق من يدها المرتعشة ، لتتناثر قطراته على قدمها وساقها ، بينما كان الصحن في يدها الأخرى معلقًا في الهواء.
ثبتت عيناها فى ذهول وعدم تصديق علي بدر الذي لم تقل صدمته عنها شيئًا ، لكنه بدا وكأنه محافظًا على اتزانه ، أو بالأحرى توقف عقله عن العمل لوهلة من الزمن.
نظر كلاهما إلى بعضهما البعض لبضع لحظات ، ظهرت خلالهم العديد من الأسئلة والمشاعر في أعينهما.
قفز قلبها من قفصها الصدري بفعل قوة النبض ، بينما كان عقلها غير قادر على التفكير بشكل سليم.
: انتي مين .. ودخلتي هنا ازاي؟
اتسعت عيناها بسبب الصدمة ، وتضاعفت خفقات قلبها بينما نظراتها تبدلت من اللهفة إلى العذاب ، حينما باغتها بنفس السؤال الذي طرحته من قبل في أول لقاء جمعا بينهما ، لتقول لنفسها كلمات لم يسمعها هو : مجرد طيف..
افاقت على نفسها فور أن دحرجت عينيها بعيدًا عنه للأسفل باتجاه القط الذى يلعق العصير المسكوب.
رمقت الفوضى التي سببتها بسبب المفاجأة غير المتوقعة ، لتتفوه بتقطع : انا .. انا مش حرامية .. اسفة ماكنش قصدي اوقع ال...
لم تكمل الجملة ، لأنها هبطت على الفور إلى القط ، والتقطته بخفة ، ثم دخلته المطبخ مع الصحن ، وأحضرت أدوات التنظيف ، ثم أغلقت الباب خوفًا من مغادرته وإيذاء نفسه بسبب الزجاج المهشم تحت أنظاره المراقبة لأفعالها.
خطت خطوات بطيئة صوبه ، محاولة أن تأخذ نفساً عميقاً لتهدأ قليلاً من ضربات قلبها السريعة ، ولكن كيف لها أن تتحكم في توازنها وهو يحدق بها بهذا التركيز ، متخللاً أعماق روحها ، وهو يقول بجدية : ممكن تسيبي اللي في ايدك و تجاوبيني ؟
هزت رأسها رافضة ، دون أن تتجرأ على النظر إليه بسبب ارتباكها ، وكل ما يخطر ببالها هو الهروب من المكان.
لا يجب أن تضيع المزيد من الوقت ، لأنها ليست مستعدة للمواجهة معه.
نظرت إلى ما كان في يدها ، لتبدأ التنظيف بشكل عشوائي ، لكنها ضغطت دون وعي على إحدى القطع الزجاجية المتناثرة حولها بقدمها العارية.
فر أنين متألم من فمها ، لكنه لا يقارن بما في قلبها.
أغلقت عينيها بإحكام ، فخطى بدر خطوة لتقديم المساعدة وقال محذرًا ، يحاول تهدئة روعها ، مبتلعًا لعابه ويجاهد التحلي بالصبر حتى يفهم ، وعيناه تتبعان لمحة حزن غشت عسليتها عندما رفعتها له : علي مهلك .. مفيش داعي...
وجهت راحة يدها نحوه لمنعه من المضي قدمًا بعد أن أنهت عملها بالفعل ، وهمست بنبرة حاولت أن تبدو ثابتة ، لكنها خرجت ممزقة مثل قلبها : انا كويسة .. مفيش حاجة .. انا جارتك اللي حضرتك قلبت شقتها مخزن من غير معرفتها و اضطريت اقعد هنا لحد ما تقوم من الحادثة..
قطعت كلماتها تزامنًا مع ترك ما كانت تحمله في يدها ، وهي تنوي المغادرة في أسرع وقت ممكن قبل أن تنهار بالبكاء كونه ينظر إليها بجمود مميت ، لكن كان عليها أن تمر بجانبه لتتمكن من الوصول إلى غرفة النوم حتى تبدل ملابسها لأخرى نظيفة بعد أن أدركت بإحراج أنها كانت تقف أمامه مع بنطالها الجينز الباهت عليه بقع العصير ، أما شعرها الأشعث حدث ولا حرج.
سارت متخطية اياه ، لتشعر بأصابعه تلتف حول معصمها ، مانعًا اياها من الفرار ، حيث ومضت عيناه بنظرة غريبة حالما استنشق عطرها المميز ، وتحولت علامات الاستفهام داخل عقله إلى هدوء من نوع خاص ، دفعه ليقول بكلمات عفوية بصوت عميق أجش : عيب لما نكسر حاجة مش بتاعتنا .. وعيب أكبر لما تعلقي روحي بيكي و تبقي عايزة تبعدي يا مانجتى
سرت قشعريرة بجسدها من لمسة يده ، وأدارت رأسها جانبًا لمواجهته ، بفم منفرج قليلا بدهشة ، من تلك الجملة التى أعاد قولها للمرة الثانية ، حيث كانت هذه الجملة أول ما قاله لها مسبقًا ، وهذا اللقب الأخير قد سمعته من قبل ، لتهمس في عدم تصديق ونبرة متقطعة منذهلة : يعني .. انت فاكر!!
ارتفعت ابتسامة جانبية على حافة شفته ، أقرب إلى الغموض ، وهو يحني رأسه تجاهها ، لتصبح ثمة بضع بوصات فقط بينهما ، وأصابعه لا تزال تآسر معصمها دون أن يؤلمها : قولتلك قبل كدا مش هنساكي تاني
حدقت في بنيتاه الجذابة ، بينما تتصارع مئات التحليلات فى خلايا عقلها ، لتهمس بسؤال خافت : يعني لما صحيت من الغيبوبة عملت نفسك ماتعرفنيش؟
رمشت عيناه عدة مرات متتالية ، مزدردًا لعابه ، ثم قال بنبرة هادئة ، عكس نبضه العالي في صدره من سيل المشاعر المتأججة في قلبه : كنت لسه فايق من ساعة لما دخلتي وقولتي انك ممرضة .. ماكنتش مركز .. كان بقالي اسابيع جوه شرنقة يا حياة .. بس لما عيونك اللي كانت بتضحك بقي كلها دموع وخرجتي جري .. حسيت ان في حاجة بتحصلي مش فاهمها .. كأنك سرقتي حاجة من جوايا وانتي ماشية..
استرسل حديثه دون انتظار ردها على ما قاله ، وعيناه مثبته على تعابير وجهها ، بينما عيناها تبعته بصدمة : اسمك اتكرر كتير وهما بيحققو معايا حاولت افهم من جاسر بس ماجاوبش .. كل اللي سمعتو ماكنتش مستغربو كأني شوفته وانا نايم .. وحدة وحدة افتكرت المجنونة اللي نورت بيتي و حياتي و روحي
ختم كلامه ، قارصًا خدها بخفة ، فأسبلت رموشها من الخجل والفرح الذي تغلغل في قلبها بعد كلماته الحانية المليئة بالمشاعر الجميلة ، ولكن سرعان ما تحول شعورها للغضب ، لتقول بسخط بعد أن عادت لتنظر إليه دافعة يده بعيدًا عنها ، وتتراجع خطوة إلى الوراء : قال وانا اللي خوفت احاول افكرك لا ماتصدقنيش و تتهمني بالنصب عليك .. وابقي انا وبس اللي عشت في وهم صدقته و ان اي احساس حسيته نحيتي...
صمتت عندما خطا خطوة ، ووضع سبابته على شفتيها وأردف بصوته المتحشرج : حقيقي يا حياة .. كل حاجة عيشتها وحسيت بيها معاكي حقيقية .. مجرد ماكنت بسمع إسمك قلبي ماكنش بيبطل دق .. عشانك انتي رجعت للدنيا دي تاني..
توقف للحظة ، أحاط وجهها بكلتا يديه ، ثم رفعه نحوه ، متأملاً ملامحها بشوق وشغف ، ثم استأنف حديثه : طب انتي فاكرة اخر حاجة اكلمنا فيها .. كان في حاجة عايز اعترفلك بيها بس مالحقتش يا مانجتي مش كدا!!
نطق بدر بكلماته الأخيرة بابتسامة جانبية جعلت وجهها يتورد خجلاً ، ثم ما لبث أن حدجته بنظرات نارية وهي تصرخ فيه معنفة إياه ، بينما تحرك رأسها للخلف حتى يطلق سراح وجهها القريب من وجهه بشكل خطير : لا مش فاكرة حاجة و اوعي ايدك دي..
أردفت بينما لكزته بقوة في صدره ، ليترنح أثر ضربتها المفاجئة مع بعض الألم ، لكنه سرعان ما استعاد توازنه وحدق فيها بنظرة غامضة : ودمك مش خفيف ابدا بالعكس يلطش و تقيل و سخيف و...
شهقت بتفاجئ مع وقف سيل من الشتائم التي أغدقته به ، حيث أعماها غضبها منه ، ممَ جعلها تتفوه بما يجول في ذهنها المرتبك والخجول دون انتقاء ، حالما أمسك بذراعيها ، وجذبها نحوه ، واحتضنها بلهفة بين ضلوعه ، بقلب يرتجف من مقدار المشاعر التى تعترى صدره ، محاولًا بث اشتياقه العارم لتلك اللحظة ، وهو يتمتم بنبرة مفعمة بالعشق : بحبك بجنون يا حياة .. عارف ان ممكن هتقومي حرب عشان بحضنك .. بس انا محتاج اتأكد ان المرة دي مابحلمش و اني عايش و ضامك بين ايدي
أنهى كلماته بتنهيدة حارة خرجت من قلبه ، مشتعلة بنار الحب ، لتلفح جلد رقبتها الرقيقة.
هدأت حركتها تمامًا بمجرد سماعها كلماته الصادقة ، ولا شعوريا رفعت يدها حول خصره وغمست رأسها أكثر في صدره لتغلق عينيها.
من دون تمهيد ، تسللت الدموع تشق طريقها لتتدفق مثل الشلال على خديها ، وكأن ببكائها الذى قمعته كثيرًا ، تطرد آخر ما يربطها بالحزن والترقب والحيرة ، لتغمغم من أعماق قلبها المتيم بهذا الرجل : وانا كمان بحبك اوي يا بدر
ابتسامة تتوق خافتة ، مليئة بكل الشوق في صدره لها ، اعتلت فمه حينما التقطت أذناه ما قالته ، بينما ارتفع كف يده يمسد به فى نعومة على خصلاتها البرتقالية.
: وانا عايز اتجوزك انهاردة مش بكرا و لو اعترضتي هدخلك القفص غصب عنك
قال بنبرة خافتة مازحا ، لتخرج من حضنه ثم أطرقت رأسها للأسفل بخجل منه ، لتهتف ضاحكة وسط دموعها : بدر..
ابتسم بلطف لابتسامتها ، وهو يعانق وجهها مرة أخرى بكفيه ويمسح دموعها ، هامسًا بنبرة مشبعة بالحب : حياة بدر ملك ايديكي يا مانجتي
تلاشت ابتسامتها واتسعت مقل عينيها بصدمة ، وهي تحاول أن تفلت من ذراعيه التى ما زالت تطوقها ، حالما سمعت صوتًا يقول بمرح من خلفهم بعد أن أطلق صافرة شعرية : الله الله وانا اللي طالع متوقع اشوف دم في كل حته و معارك .. بس شايف ان الحب ولع في الدرة خالص
رفع بدر رأسه ، ناظرا بضيق إلى أخيه ، بالتزامن مع حياة التى ادارت رقبتها إليه ، تحدق فيه بعيون ضيقة ونظرات خجولة ، ليوزع بصره بينهما حينما لاذوا بالصمت ، ليوجه حديثه نحو حياة ببراءة : ماتبصليش كدا مافتحتش بوقي ولا قولت حاجة
أخفت حياة ضحكاتها ، ووضعت يدها في كف بدر ، لتقول بهدوء مفعم بالبهجة : خلاص مش مهم اي حاجة .. المهم انه قدامي دلوقتي وبخير
نظر إليهما جاسر بعبث غامزًا بطرف عينه ، واستكمل مبتسمًا بعد أن وضع يده في جيب بنطاله وأشار بيده الأخرى نحوهما : ايوه طبعا انا مش محتاج اسأل عن اي حاجة .. الاجابة باينه علي وشكم
حدق به بدر بابتسامة صفراء ، وهو يرفع حاجبه الأيمن قائلاً بغيظ مكتوم : لماح زي اخوك و بتفهم
دوى ضحكة جاسر في المكان وهو يشاهد عيني بدر تشتعل ، ليقول بسماجة بين ضحكاته : تشكر يا متر
تنهد قبل أن يهز كتفيه و أردف بقلة حيلة : لا مؤاخدة اضطريت افتح بالمفتاح اللي معايا من كتر القلق اللي شحنتني بيه شذي الله يباركلها
: مساء الخير يا جماعة
عرجت أعينهم تجاه الواقف عند مدخل الصالة بحرج ونوعًا من التردد ، ليهتف جاسر بصوت عالٍ مرحبًا به : مساء النور يا دكتور
تقدم مازن خطوتين إلى الأمام وقال بابتسامة هادئة : معلش لاقيت الباب مفتوح و سمعت صوتكم فدخلت .. حمدلله علي سلامتك يا بدر
ابتسم بدر له وهو يصافحه بهدوء مشيرا إلى اليمين ، قائلا ببحته المميزة : الله يسلمك يا مازن .. اتفضل البيت بيتك
تمتم مازن بصوت هادئ : الله يحفظك..
جلس مازن على مقعد ، وجاوره جاسر في الكرسي الآخر ، مقابلهما بدر وحياة على كنبتين ، يفصل بينهما زاوية صغيرة فقط.
تحدث مازن بابتسامة ، مستديرًا نحو حياة : عاملة ايه يا حياة؟ علي فكرة مروة لسه راجعة من السفر هي وجوزها انهاردة وكانت بتسالني عليكي
أومأت إليه باسمة الثغر ، قائلة بنبرة هادئة : انا الحمدلله .. هكلمها في اقرب وقت ان شاء الله
استأنف مازن حديثه بنبرة عملية ، ناظرا إلى بدر : طمني عليك اخبار صحتك ايه دلوقتي يا بدر؟
رفع حاجبه ، ملاحظًا أن نظرته مليئة بالإشراق اتجاه حياة ، لكنه أجاب بنبرة باردة وساخرة في نفس الوقت : الحمدلله بقيت احسن كتير
نظر إليه جاسر بقلق ، وقال بامتنان ، محاولًا تلطيف الأجواء وهو ينظر إلى مازن : احنا بنشكرك جدا يا دكتور علي وقفتك معانا وقت الازمة دي
هز رأسه نفيًا وقال بأدب : لا شكر علي واجب .. احنا جيران
تحركت نظراته عفويًا نحو حياة التي لم تهتم بهذا الحديث بالمعنى الحرفي للكلمة ، لأنها تحملق في بدر بعمق ، ليقطب مازن حاجبيه وقال بضيق : الحمدلله اننا اطمنا عليك يا بدر ربنا يديك الصحة و العافية
حدجه بدر وعيناه تلمعان نظرة غريبة ، ثم تكلم بابتسامة جانبية : الله يخليك يا دوك و ياريت تقولي مبروك كمان
تابع بدر بصوت حازم ونبرة ذات مغزى ، بينما كان لا يزال يحدق به بنظراته الجادة ، أما الآخر فقد استقبلها مثل السهم ، محطمًا فيه شعورًا لم يكتب له نصيبًا ليكون متبادلاً : انا و حياة هنتخطب قريب اوي ان شاء الله
ختم كلماته بابتسامة عذبة مليئة بالحب ، موجهة إلى حياة ، التي غرقت في خجلها ولم تعقب ، بينما ألجمت الصدمة لسان مازن عن الرد لبعض الوقت ، أما جاسر فقد جاهد لإخفاء ابتسامته المدهوشة ، كونه يعلم أن أخيه الرصين يفكر مليًا قبل اتخاذ القرارات ، ليضع يده خلف رأسه ، ويفرك رقبته بخفة.
خرج صوت مازن بنبرة لبقة ، محاولا رسم ابتسامة على فمه : الف مبروك
رد عليه بدر بينما خفضت الأخرى بصرها بإبتسامة خجولة في صمت ، وهي تقضم خدها من الداخل : الله يبارك فيك يا دكتور عقبالك .. و شكرا علي كل حاجة
اختتم حديثه بابتسامة شكر ليستاذن مازن بالمغادرة ، موضحًا أن لديه عمل في عيادته الخاصة ، مقررًا أنه سيطفئ بسرعة شرارة هذا الإعجاب من داخله.
يقال أن كل ممنوع مرغوب فيه ، قد تتوهم أن هذا هو الحب ، ولكنها مجرد مشاعر الافتتان وحب الفضول لمعرفة ما يخفيه هذا الشخص في أعماقه الغامضة ، وهذا بالضبط ما جعل مازن ينجذب إلى حياة.
★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••
بعد نص ساعة
خرجت حياة من الغرفة مرتدية سروالًا أبيض وكنزة من نفس اللون ، وفوقها سترة من القطن السماوي ، وشعرها البرتقالي يتدفق بنعومة على كتفيها.
نظرت في الردهة بحثًا عنه ، لتجده جالسًا ومرفقيه على الأريكة ، يضع قبضته أمام فمه ، يداعب لحيته ، مطرقًا عيناه للأسفل.
عرفت أنه مشغول بالتفكير العميق ، فتوجهت نحوه بخطوات مترددة إلى حد ما ، بينما كان بدر شاردًا في بحر واسع من الأفكار ، وعلى رأس القائمة ذلك المازن الذي كان عليه أن يجعله يستيقظ من أوهامه ناحية حياة ، واثقًا من أنه قدم له المساعدة مسبقًا فقط من أجل الاقتراب منها ، فهو لم يكن على وفاق معه منذ سنوات.
: بدر!!
انبسطت أساريره فور سماع اسمه من بين شفتيها الرقيقة ، فالتفت نحوها وهو يشير إليها للجلوس بجانبه.
أومأت بالموافقة أثناء جلوسها وثني ركبتها تحتها ، ليقلد هو طريقة جلوسها تلقائيًا حتى يتمكن من رؤيتها بشكل مريح.
ظل محملقًا بها ، سارحًا بملامحها الجميلة ، قبل أن يحمحم بخشونة ، واضعا يده فوق كفها الدافئ على الأريكة بينهما ، قائلا بتنهيدة عميقة : مش عايزك تزعلي من اللي قولته قدام مازن .. بس انا مانسيتش عزومته ليكي علي الغذاء وحركاته من الأول .. فكان لازم اوقفه عند حده
أنهى كلماته بنبرة منزعجة مشددًا على كلماته ، بينما هي تنظر إليه مبللة شفتيها ، لتنبس بصوت منخفض خجول من تحديقه بها مطولاً : مين قالك اني زعلت؟
اتسعت عيناه متفاجئًا ، وكاد يشعر أن قلبه سيخرج من مكانه ويعانقها بشدة ، لكنه سيطر على عواطفه ، مبررا ذلك بنبرة خافتة رجولية : يعني .. عشان قولت كدا من غير ما اعرف رأيك .. بس دلوقتي هسألك .. موافقة تتجوزيني يا حياة؟
ارتسمت ابتسامة سعيدة داخل قلبها بسبب رغبته في توطيد العلاقة معها بشكل جاد ، و أيضًا بسبب احترامه واهتمامه بما تريد ، لكنها حاولت التماسك ثم ردت بجدية : بدر .. انا وانت مشينا طريق صعب مع بعض وانا حبيتك وانت حبتني دي خطوة مهمة في طريقنا .. بس لسه في حاجات كتير قدامنا قبل ما نقرر نخلي الارتباط رسمي
أجابها بابتسامة ، مفتونًا بكلماتها العقلانية ، وتابعت عيناه كل حركة منها بتدقيق عفوي : عندك حق وانا مش بستعجلك في الرد عليا .. خدي وقتك براحتك وانا هستني .. بس لازم تعرفي اني علي قلبك مكان ماهتروحي
ضحكت حياة بمرح وقالت بصوت ناعم : واضح انك مش ناوي تأثر عليا ابدا يا متر
أمسك بدر بكفها ورفعه نحو فمه ، ملثمًا إياه برقة ، مما أدى إلى ارتجافة بسيطة بجسدها.
ازدردت لعابها في ارتباك ، وهي تسحب يدها إلى جانبها بخجل ، ليقول بابتسامة ملتوية : المتر عنده كلام كتير محتاج يتكلم فيه معاكي
ردت حياة بصوت مرتجف ، بعد أن خفضت رموشها ، وتوردت وجنتيها خجلاً : و وانا كمان .. بس الوقت جري بسرعة وانا لازم الم حاجاتي و اروح عند شذي
رفع بدر حاجبيه باستنكار وتمتم بسخط طفيف : ليه يعني؟
نسيت خجلها للحظة وهي ترمقه بتعجب ، ثم استطردت حديثها بحرج : بدر .. اكيد مش هنبات انا وانت هنا .. كمان انت لسه خارج من المستشفي ومحتاج تستريح .. انا بقالي اسبوع قاعدة عندها وبكرا هنروح انا وهي نشوف شقة ليا في مكان قريب من هنا
لوى بدر ثغره قائلا بإعتراض : الغي الكلام دا كله مش هيحصل
حدجته حياة فاغرة فمها وتسارعت دقات قلبها ، لتسأل بغرابة : ازاي بقي؟
زفر بدر الهواء من فمه ، ثم نظر بعمق في عينيها محاولاً التحدث بنبرة هادئة : شوفي انا مش عايز اقلقلك .. بس ماينفعش تكوني بعيد عني يا حياة خالص الفترة الجاية .. ماتنسيش كريم هربان وانا ماضمنش ممكن يعمل ايه؟
جعدت حاجبيها بدهشة وفتحت فمها للمجادلة ، لكنها كبت اعتراضها حينما أكمل حديثه قائلا بحزم أعجبها : انتي هتفضلي هنا و شقتك من بكرا هرتب نقل العفش اللي فيها مكان تاني .. و اتفقت مع شركة حارسة هيكونو هنا من بكرا عشان العمارة ومعهم بتوع صيانة الاسانسير كمان
هزت حياة رأسها بعدم تصديق اقرنته بنبرتها المنذهلة : حيلك حيلك عليا انت لسه تعبان يا بدر لحقت ترتب كل دا امتي؟
ابتسم بدر بثقة ، يميل نحوها قليلاً ليقول بهمس : اسبوع كامل في المستشفي يا مانجتي .. حاجات كتير حصلت فيه .. اما بالنسبالي هقعد في شقة جاسر في الدور اللي تحتك علي طول يعني كل شوية هتلاقيني بنط عندك اطمن عليكي
حدقت في غمازاته الجميلة دون أن تعى على حالها ، ثم تمتمت بإعجاب صادق : باين عليك شعلة نشاط يا متر عيني عليك باردة
غمز لها بطرفة عينه دون تعقيب ، فابتسمت له بعذوبة وبراءة ، ليواصل حديثه بجدية : عارف ان ممكن تضايقي من الوضع الملبش دا .. بس صدقيني انا مايهمنيش حاجة اكتر من اني اكون مطمن عليكي
رمقته بنظرة تفيض بالحب والامتنان ، لتهمس بصوتها الرقيق : وانا مش مضايقة بالعكس انا مبسوطة يا بدر
كلاهما حدق في عيون الأخر لبضع ثوان ، ليهمس لها : وانا مبسوط بيكي ..
خفض بصره إلى ساعة يده و أردف : لازم هنزل دلوقتي والصبح هعدي عليكي اوصلك المدرسة و بعديها هروح اشوف اميرة
جفلت حياة وشعرت بقشعريرة تسري في عروقها وضربات عنيفة اجتاحت قلبها عند ذكر تلك المخلوقة ، لتتمتم بتردد : متأكد من الخطوة دي؟
أومأ بدر برأسه ناظرًا إليها بحسم ، وتابع بنبرة مستاءة : ايوه لازم اعمل كدا .. حسابات الماضي اللي بينا لازم اصفيها .. عشان اقدر ابدأ من اول وجديد
★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••
بعد مرور يومين
داخل النيابة العامة
دخلت أميرة وجهها شاحب وبعض الكدمات تزين خدها ، لتتسع عيناها بصدمة فور أن رأت بدر جالسًا على الكرسي واضعًا قدم فوق الأخرى فى هدوء.
غمغم بدر ساخرًا حالما خرج المدعي العام بعد أن سمح له بالتحدث معها على انفراد : مالك كأنك شوفتي عفريت قدامك .. مش هتقوليلي حمدلله علي السلامه
أنهى كلماته بابتسامة ساخرة جعلتها ترتعد داخليًا ، وهو يستقيم شامخًا ويمشي نحوها بخطوات واثقة ، واقفًا أمامها يحدق بها بنظرات مظلمة ، مباغتًا اياها بصفعة قوية سقطت على خدها ، مما جعل رأسها يطيح إلى الجانب الآخر.
تخدرت أطرافها من الألم حاد في فكها ، والدم ينزف من أنفها ، لتنظر إليه بخوف عندما قال لها بحقد : دي اخرت اشكالك .. قسما بالله ما هرتاح غير وانا متأكد انك مش طالعة من هنا غير علي قبرك انتي و الحيوان التاني
حدجها بنظرات نارية ، فلم تستطع النظر إليه مطرقة رأسها نحو الأسفل ، لتسمع صوته الهامس المليء بالكراهية و الغضب بجانب أذنها : تعرفي انكو محظوظين .. يمكن حكم المحكمة هيبقى ارحم من العذاب اللي كنت ناوي اعملو فيكو ..
رفع ذقنها بخشونة حتى نظرت إليه بالقوة ، محتجزا فكها بين كفه بقسوة ، متابعًا حديثه بحدة وغل دفين : لو عليا ادفنكو صحيين او اولع فيكو بجاز .. بس انا راجل قانون و اعرف اخد حقي بيه كويس اوي .. مش هضيع عمري و مستقبلي واجرم بحق نفسي عشان شوية او*اخ زيكو
اهتزت حدقتيها بخوف سرى في عروقها وهي تهمس بإضطراب : بدر انا عارفة ان حقك تقول وتعمل اكتر من كدا .. بس صدقني كريم هو اللي خطط لكل حاجة هو اللي اجبرني ادخل شريكة معه
نفض فكها و يدها متراجعًا خطوتين إلى الوراء ، وشعور بالاشمئزاز منها واضح في ملامحه : لا انتي اللي سيبتي باب الشيطان موارب ماقفلتيهوش ولا حاولتي تنبهيني عشان اخد حذري واحميكي منه .. واحدة واحدة قدر بسمو يتسرب جواكي خلاكي تطمعي اكتر واكتر لحد لما لاقيتي نفسك في الغلط من غير ماتحسي
استمرت الدموع تنهمر في عينيها وهي تفرك يدها برفق ، وتجيبه تبريرًا : انا معترفة اني ضعفت قدام الفلوس كان نفسي اعيش في مستوي احسن و انقذ امي من الفضيحة يا بدر...
رمقها بنظرات مخيفة جعلتها تبتلع بقية حديثها ، ليهتف بصوت عالٍ حاد : عذر اقبح من ذنب انتي طمعتي .. استحملت منك كتير اوي طول الفترة اللي عشتها معاكي .. حتي لما رفضتي نجيب اطفال اول جوازنا رغم ان دا ابسط حقوقي احترمت رغبتك .. بس مستحيل هغفرلك خداعك واستغفالك ليا
قطبت حاجبيها للحظة ، وفكرت قبل أن تصرخ في وجهه بحنق يشوبه الارتباك : انا اللي استغفلتك تقدر تقولي حياة دي عرفتها امتي عليا ؟ انت كمان خدعتني يا بدر واول ما جتلك الفرصة بقيت عايز تخلص مني من غير ماتسمعني..
جفلت عندما قاطع استرسال كلماتها بعد أن ضاق ذرعًا ، ليهدر فيها بانفعال غاضب ، لذا تراجعت خطوتين إلى الوراء برعب : اسمعك!! ايه البجاحة دي ؟ ليكي عين تكلمي بعد كل اللي جرالي منك وكنتي عايزة تقتليني مرتين .. دا غير البلاوي اللي عملتيها ووصلتك لهنا؟
قوس بدر ثغره معللاً بفتور : بلاش تبرري لنفسك خيانتك و خداعك .. الوفي لا يخون الخاين .. مش طبعي ولا مبدأي .. انا عشان مقتنع باللي موجود في حياتي كنت مانع نفسي عن اي حاجة توقعني في الغلط .. من يوم ماتجوزتك و انا مقفل كل الابواب ومكتفي بيكي وبتقي ربنا اللي ماتعرفهوش فيكي
لجأت إلى السلاح الوحيد الذي تملكه الآن البكاء قائلةً بيأس تستعطفه : صدقني احلفلك بإيه اني ندمت علي اللي عملته ؟
ابعد يده في الحال بنفور ، وشبكهما خلف ظهره عندما لمسته ، وحدق بها بصمت لبضع لحظات قبل أن أومأ برأسه ، قائلاً بجمود : يمكن دا يكون دليل علي ان في حته في ضميرك صاحية .. بس للاسف فات اوان الندم يا اميرة
استشعرت السخرية في عمق نظراته إليها ، لكنها لم تهتم وواصلت حديثها بنبرة اكثر الحاحًا : ارجوك سامحني يا بدر .. انا عارفة ان دا صعب عليك .. بس انت دايما كنت طيب و بتسامحني .. انا معرفش ليه وصلت لكدا ارجوك ساعدني وطلعني من هنا يا بدر
لوي شفتيه بابتسامة باردة لا تمت للمرح بأي صلة ، وفهم خدعتها التي لجأت إليها لإثارة شفقته عليها ، لكنه هز رأسه سلبًا ثم قال بنبرة جافة : دي كمان فات أوانها .. محدش بياخد كل حاجة من الدنيا و غلطاتك كانت فظيعة و مايتغفرش.
أنهى كلامه متجاوزًا إياها ، وهو يتجه نحو باب الحجرة ، ثم توقف للحظة ، وقال بصوت بارد : بالمناسبة انا طلقتك رسمي امبارح..
الفصل السابع والعشرون والثامن والعشرون من هنا
لقراءة جميع فصول الرواية من هنا