الفصل الستون 60 ج2 والاخير
بقلم علياء شعبان
أقبل كل من بالمزرعة سعداء بعودته مرحبين به قبل أن تتابع "سكون" بمرحٍ حينما وجدته ينظر من حوله يتفقدها بينهم:
-فوق.
أومأ مُبتسمًا في هدوءٍ قبل أن يستأذن مُنصرفًا إلى شقته ويغادر العمال إلى رأس عملهم، فركت "سكون" كفيها معًا بينما رددت "شروق" بتوترٍ مثيل:
-أنا خايفة!!
نوح وهو يردد متوجسًا:
-الشيخ سليمان دارى على جريمتي بس حاسس إن وَميض هتفضحني فضيحة بجلاجل.
مُهرة وهي تبتلع ريقها بقلقٍ:
-أنا بقول إننا نروح وراهم تحسبًا لأي خلاف بينهم، أنا بصراحة خايفة على البيبي.
أيدوا رأيها مقررين التوجه خلفه للتدخل في حالة الطوارئ فقط، قطب "سليمان" ما بين عينيه ثم صاح بلهجة حازمةٍ:
-مكانك إنت وهي.. ناويين تتصنتوا على راجل ومراته!
وقف "تليد" أمام باب الشقة ثم التقط الحقيبة وقبل أن يطرق الباب وجده مفتوحًا، خفق قلبه بشدةٍ لرؤيتها أخيرًا فدفع الباب برفقٍ ولكنه وجد الصالة فارغةً ليبدأ بتحريك حدقتيه بلهفةٍ في كل زاوية باحثًا عنها ثم ردد بلهجة لينةٍ:
-وَميض!!
ارتقب ظهورها لإشباع عينيه المتلهفة لرؤيتها ماثلة أمامه، كيف أصبحت في غيابه؟! هل حزنت بشدة ونَقُص وزنها؟! أم ذبلت ملامحها من شدةٍ البكاء؟! وفي الحالتين لن يزيدها الحُزن إلا جمالًا، ترك الحقيبة بالصالة ثم توجه بخطوات هادئة صوب غرفة نومها فوجدها مُحكمة الغلق ليدرك على الفور وجودها بالداخل وعدم رغبتها في لقائه تعبيرًا عن حُزنها منه، طرق الباب بترفقٍ لا يشبه تخبط قلبه شغفًا لرؤية الامرأة الوحيدة التي استقرت به منذ خلقه الله مرورًا بصباه وشبابه ورجولته وكامل نضجه كانت ولا تزال سيدة قلبه الأولى والوحيدة.
-وَميض!!
أردف بهدوءٍ وما هي إلا لحظات حتى سمع توجعًا وأنينًا ينبعثان من وراء الباب، اضطرب قلبه ضيقًا وابتلع غِصَّة مريرة في حلقه قبل أن يتابع بندمٍ:
-وَميض.. افتحي.. عايز أشوفك!
خرج صوتها مُتحشرجًا وهي تقول ببكاءٍ:
-رجعت ليه؟!
أسند "تليد" جبينه على الباب قبل أن يردف نادمًا حزينًا:
-رجعت علشان خوفت تروحي مني.. أنا آسف.. أنا مش قد بُعدك عني.. مش هعرف أواجه وجع زيّ دا.. حقك على راسي.. افتحي!
كانت تجلس مستندة بظهرها إلى الباب، قامت بمحو دموعها المنسكبة بلا توقف قبل أن تنهض واقفةً في مكانها ثم تفتح الباب بهدوءٍ على مصراعيه، ظهرت أمامه بوجه شاحبٍ وعينين منتفختين وجسدٍ هزيلٍ؛ هذه أول الأشياء التي استطاع ملاحظتها قبل أن يُطيل النظر إلى وجهها وتفاصيله في اشتياقٍ بالغٍ ويقول بقلبٍ خافقٍ:
-وَحشتيني!.
كانت تنظر إلى عينيه بوميضٍ لامعٍ ينبعث من عينيها بسعادةٍ غامرةٍ قبل أن تمسد على بطنها الصغير ثم تقول بنبرة باكيةٍ:
-بجد وحشناك!!
نزل بعينيه إلى بطنها يحدق فيه بنظرات مصدومةٍ وعبارتها تتردد باستمرارٍ على سمعه، افتر ثغره عن ابتسامة متوترة وهو يصوب عينيه المتسعتين إليها تارة وأخرى إلى بطنها قبل أن يقول بتلعثمٍ:
-وحشناك؟! إنتوا مين؟!!
مدَّ ذراعه إلى بطنها مُسرعًا يلمسها بأطراف أنامله قبل أن تُجيبه هي بابتسامة مُتأثرة وهي تضع كفها فوق كفه القابع على بطنها:
-أهلًا يا بابا.. أخيرًا شوفتك وسمعت صوتك؟! إنتَ كُنت واحشني أنا وماما أوي وكُنت خايف مشوفكش أبدًا.. ماما عيطت كتير وهي بتستناك بس إنتَ خلاص مش هتبعد عنها تاني!!
حدق مصدومًا داخل عينيها بقوةٍ وبدأ لا إراديًا يمسد بطنها في حالة من الهذيان ناتجةً عن فرط اضطرابه وهياج مشاعره التي تفاقمت للغاية في هذه اللحظة، تحررت دمعة من عينيه قبل أن يردد بأنفاسٍ مضطربةٍ:
-إنتِ بجد حامل؟!
لم تتحمل انسكاب دمعاته التي تراها للمرة الأولى فأسرعت تمحو دموعه بأطراف أناملها ثم هزَّت رأسها وقالت بابتسامة عريضة:
-أيوة.. إنتَ هتكون بابا!.
سكتت هنيهة ثم ابتعدت عنه قليلًا تلتقط العلبة وتضعها بين يديه وهي تقول بحماسٍ:
-حتى شوف بنفسك!!
التقط العلبة منها على الفور بحماسٍ يغلي على مِرجل صدمته ثم فتحها ليجد بلورة زجاجية شفافة يقبع داخلها صورة لأشعة سونار تُظهر جنينًا في طور تكويناته الأولى ويتناثر اللؤلؤ من حولها، هاجت مشاعره تأثرًا وهو يمعن النظر بعينين مُحبتين إلى جنينه قبل أن يضع البلورة بحرصٍ داخل علبتها ثم يضعها جانبًا ويعود إلى زوجته مرة أخرى وهو يردد بقلبٍ يتراقص فرحًا:
-أنا نص فرحتي علشان هكون أب ونصها التاني علشان هتكون حتة منك.. إنتِ عارفة أنا حلمت أد أيه بيكِ وبحياتنا.. طب إنتِ عارفة إني في اللحظة دي بلغت قمم أمنياتي؟! أنا سفح أحلامي كان إني أخلف منك إنتِ وإن ربنا عز وجل يلهمني الأبوة عن طريقك ومن رحمك!.
خارت حصون ثباته وتماسكه فانهمرت دموعه شُكرًا لله على عطاياه ليجذبها بقوةٍ بين أحضانه يبكيان معًا وهو يُقبل رأسها تارة ووِجنتها أُخرى ولا يرغب على الإطلاق أن يستيقظ من لذة هذه اللحظة التليدة التي تحاكي الأمجاد في عَظمتها؛ تذكر في هذه اللحظة حينما كان يخبره والده دومًا عن معنى اسمه فيقول: " تليد هو الإرث ذو القيمة والمجد العظيم".. ثم يستكمل الشيخ قائلًا: "وأنتَ يا وَلدي إرثي الوحيد في هذه الدنيا؛ فالمال والأملاك لن تؤخذ إلى القبر ولا هم بصدقة جارية للمرء في مماته؛ وحدهم الأبناء الإرث الذي من أجله تموت إن سُلب منك؛ فهم الصدقة الجارية الوحيدة لكَ بعد موتك".
استمر يحتضنها لفترة طويلة لا يستطيع إبعاد قلبه عن ملامسة قلبها قبل أن يبتعد فجأة ويتجه إلى الدولاب ثم يُحضر ثوبًا وحجابًا منه ويعود إليها مرة أخرى ويشرع في البساهم لها وبعد ذلك يميل قليلًا ويحملها بين ذراعيه مرددًا بحماسٍ أطار عقله:
-مين الدكتورة اللي بتتابعي معاها!!
عضت على شفتها السُفلى في دهشة قبل أن تقول بتوجسٍ:
-بتابع مع نوح، إنتَ ناسي ولا أيه؟!!
أومأ متذكرًا قبل أن يتجه صوب باب الشقة لتردف هي بدهشةٍ:
-إنتَ واخدني على فين؟!
تليد وهو يفتح الباب بطرف قدمه ويقول بلهجة حاسمةٍ وصدر مُنشرحٍ:
-هنروح نعمل سونار.. عايش أشوف الكتكوت واسمع نبضه!!.. و...
توقف عن الكلام فجأة حينما وجد أربعة رؤوسًا يميلون إلى الباب ويسترقون السمع من خلفه وما أن انكشف أمرهم حتى افتر ثغرهم عن ابتسامة متوترة ليصيح "نوح" متوترًا في مزاحٍ:
-أنا حسيت بردو إنكم محتاجيني.. كُنت بتسأل عليَّا؟!
رفع "تليد" أحد حاجبيه قبل أن يردد بلهجة ثابتة:
-طالما عرفت إني بسأل عليك.. يبقى عارف ليه؟! الجنين دلوقتي فيه نبض؟!!
أومأ "نوح" إيجابًا؛ فتابع الأخير بحسمٍ:
-طب يلا بينا على المركز عندك علشان نسمعه!!
نوح وهو يتساءل مندهشًا:
-وإنتَ شايلها كدا ليه عايز أفهم؟!!
تليد بثباتٍ:
-علشان ما تمشيش على الأرض!
نوح وهو يقبض على ذراعه ويردد بتوسلٍ:
-الحامل بتمشي على الأرض عادي.. استهدى بالله.. أبوس دماغك.. نزلها وما تجريش بيها علشان المطبات دي غلط عليها!!.. إنسان الغاب طويل الناب من فضلك اهدي.. امسك العقل دا مُجرد حمل!
رمقه "تليد" بنظرة شذرة قبل أن يصيح بصوت رخيمٍ:
-مُجرد حمل؟! أنا مراتي طول ما هي حامل ما تمشيش أبدًا.
نوح وهو ينصحه بضحكة مازحة:
-بلاش الرجولة تاخدك وتتك على الجُملة دي أوي علشان انتفاخات الشهور الأخيرة لها رأيّ آخر!
تليد وهو يتوجه ببصره إلى زوجته ويقول بمزحٍ واستمتاعٍ:
-توت توت.. البيضة دي فيها كتكوت!
فتحت "وَميض" فمها على وِسعه وانفجرت ضحكاتهم ثم صاح "تليد" بغيظٍ في "نوح" الذي استجاب لرغبته وسار معه إلى السيارة ثم ركبوا جميعًا متجهين إلى غرفة الكشف؛ فطلب منها "نوح" أن تتسطح جيدًا ثم ناول "مُهرة" الجِل المخصص للأشعة فأنزلت الستار وبدأت في دهن بطنها ثم التقطت الجهاز منه وبدأت تمرره على منطقة الرحم عندها ليظهر الجنين بوضوحٍ في الشاشة وسط وسعادة كبيرة منهم، وهنا تابع "نوح" بهدوءٍ:
-ما شاء الله.. جاهزين تسمعوا النبض؟!!
أومأ الجميع في حماسٍ قبل أن يضغط "نوح" على أحد الأزرار فينبعث صوت نبضات متتالية ومتسارعة، تنهدت "تليد" بعُمقٍ كبيرٍ كأنما يُنعش انتظار قلبه الطويل وعقله يتساءل في هذه اللحظة: "كيف لإنسان أن يحيى بنبضٍ آت من قلبٍ آخر؟!".
تهللت أسارير وجهها فأسرع إليها يُقبل جبينها بعُمقٍ وامتنانٍ لمنحها إياه فوزًا عظيمًا على هيئة نُطفة.
»القاعدة الثانية في قانون الحياة».
“لا يتوقف الإنسان حينما تنهكه الحياة بل حينما تنتهي أنفاسه ودون ذلك فأسعى وقاوم".
•~•~•~•~•~•~•~•~•
“يوم الولادة"
ساق السيارة بسرعةٍ رهيبةٍ يتحرك بأعجوبة بين السيارات ويسبقهم بينما تجلس "وَميض" في المقعد الخلفي وتستقر رأسها على صدر شقيقتها وهي تصرخ بألمٍ مُفجعٍ واضعةً يدها على بطنها وصوتها المتقطع يقول في بكاءٍ:
-مش قادرة أستحمل أكتر من كدا.. بموت يا سكون!!
تلألأت عيني "سكون" بالدموعٍ خوفًا على شقيقتها فبدأت تمسد على شعرها برفقٍ ثم تقبل جبينها المتندي بالعرق وهي تتوجه بحديثها المتوتر إليه:
-يا ريتنا كُنا فضلنا في المستشفى بدل الوجع اللي هي فيه دلوقتي!!!
تنهد "تليد" تنهيدة ممزوجة بخوف شديدٍ يستولي على قلبه وهو يردد بتوجسٍ:
-نوح مش عايز يستسهل ويولدها قيصري فطلب مني أخليها تتمشى شوية وتستحمل حتى يوم كمان!
سكت هنيهة ثم أضاف:
-عمومًا اللي ربنا رايد بيه إحنا راضيين بيه، مش لازم طبيعي الأهم هي متتوجعش أكتر من كدا.
في تلك اللحظة تابعت "مُهرة" التي تجلس بجواره بالأمام:
-ربنا ييسغ له الصعب ويجعلها ولادة سهلة بمشيئة الله.
كانت سيارة "نوح" تلاحق سيارتهم ومعه الشيخ "سليمان" ورابعة وشروق وزوجها بينما طارت "نجلا" بسيارتها تسبقهم إلى هناك وخلفها سيارة "كاسب" الذي يصطحب معه "عُمر" وبقلوب خائفةٍ هرولوا خلفها لمساندتها في هذه اللحظة والدعاء لها، توقف "تليد" فجأة أمام بوابة المستشفى ونزل مسرعًا يتجه إليها ثم حملها بين ذراعيه وركض بها للداخل ليهرول "نوح" أمامه والذي صاح في صالة الاستقبال بالمركز:
-سرير نقال بسرعة هنا!
أسرع "تليد" بوضعها على السرير قبل أن يسحبها التمريض بأمر من نوح إلى غرفة العمليات بينما يتجه هو لاستعجال الطبيبة التي ستجري العملية لها؛ وكانت هذه رغبة "تليد" أن تلد زوجته على يدٍ طبيبةٍ فقرر "نوح" أن يكون مساعدًا لها احترامًا لرغبة صديقه.
توقف الجميع بقلوبٍ مرتعبةٍ أمام غرفة العمليات يدعون ويبتهلون إلى الله أن تكون ساعة يسيرة عليها وأن تخرج منها سالمة هي وطفلها الذي لم يتضح هويته الجنسية في السونار طيلة فترة حملها لأنه كان يضم ساقيه ويضع كفيه أسفل بطنه معيقًا فضولهم حول معرفة نوعه.
أخذت "نجلا" تروح وتأتي في صالة الاستقبال بقلقٍ وارتباكٍ شديدين ولكنهما لم يمنعاها عن رؤية تلك الواقفة بغير اتزانٍ في زاوية ما، زوت "نجلا" ما بين عينيها وهي تبصرها تميل للأمام تارة والخلف أخرى كأنما فقدت قدرتها على التوازن والثبات، هرعت "نجلا" نحو "شروق" التي استندت بجسدها على الحائط ثم أردفت بقلقٍ:
-شروق مالك؟! حاسة بأية؟!!
شروق وهي تردف في إعياء شديدٍ:
-دايخة أوي.
أسرعت "نجلا" بإحاطة خصر الأخيرة بذراعها قبل أن تسحب ثقل جسدها على صدرها ثم تسير بها بعيدًا عن الأنظار وهي تقول بتوجسٍ:
-شروق إنتِ على الحالة دي من فترة، ليه مش بتروحي لدكتورة؟!!
شروق تجيبها بإيجازٍ:
-شوية إرهاق يا طنط.
ضيقت "نجلا" عينيها لوهلةٍ وشردت في ملامح "شروق" الباهتة والأعراض التي تلاحظها عليها منذ فترة طويلة قبل أن تلتفت إلى تلك الممرضة التي تقف أمام إحدى الغرف ثم تشير لها بكفها أن تأتي وما أن حضرت الأخيرة حتى رددت "نجلا" هامسة بالقرب من أذنها ببعض الكلمات المتخفية ثم تناولت بعض النقود من حقيبتها وأعطتهم لها؛ فذهبت لعدة دقائق ثم عادت من جديدٍ وهي تناولها شيئًا ما فتردد "نجلا" بابتسامة هادئة:
-شكرًا يا قمر.. خلي الباقي معاكِ.
نزلت بعينيها إلى وجه "شروق" المستند في إنهاكٍ على صدرها قبل أن تقول بلهجة ثابتة وهي تخرج الاختبار من جُعبته:
-خلينا نعمل الاختبار دا ونشوف التعب دا من أيه؟!
نظرت "شروق" إلى الاختبار باستنكارٍ قبل أن تدفن وجهها في صدر "نجلا" وتردد بصوت باكٍ:
-أنا بتشائم من الاختبار دا.. أنا ما بخلفش.. كل مرة بعمله نتيجته بتكون سلبية.. ابعديه عني يا طنط.. أنا بس صدعت علشان العربية كانت بتتحرك بسرعة!.
هزَّت رأسها بقوةٍ ترفض الانصات لنصيحة "نجلا" التي مسحت برفقٍ على وِجنتها وقالت تلين عقلها:
-علشان خاطري خليني اطمن عليكِ وبعدين إنتِ لازم تكوني شخص مثابر وصبور عارف كويس أوي إن كُل شيء يقدره الله بوقت وميعاد ومفيش حاجة بتسبق أوانها!!.. على الأقل نطمن عليكِ علشان لو في حمل تاخدي بالك من حركتك وعلى فكرة أنا مش بعشمك والله بس أنا متفائلة أوي، نعمله؟!
ابتعدت "شروق" عنها قليلًا قبل أن تفرك كفيها معًا ثم تومئ موافقةً على مضضٍ منها، توجهت بها إلى الحمام فدخلت "شروق" وقامت بعمل الاختبار ولكنها لم ترد انتظار النتيجة فخرجت ثم وضعت الاختبار في يدٍ الأخيرة وهي تقول بنفاد صبرٍ:
-مش عايزة أستنى النتيجة، خليه معاكِ.
خرجت "شروق" مُسرعةً ثم جلست على أول مقعد قابلته بينما وقفت "نجلا" في مكانها تطالع الشريط على أحر من الجمر إلى أن اتسعت حدقتيها ثم تلقائيًا صاحت بفرحةٍ:
-شرطتين.
أسرعت تنادي على إحدى الممرضات التي جاءتها في الحال فوضعت "نجلا" الاختبار أمام عينيها وتساءلت متوجسةً:
-إنتِ شايفة شرطتين ولا أنا بيتهيأ لي؟!!
تابعت الممرضة بابتسامة عريضة:
-شرطتين فعلًا واضحين زيّ الشمس أهو.
كانت "شروق" تستمع إلى حديثهما بعينين متسعتين من الذهولٍ ورأسها يتحرك يمينًا ويسارًا في إنكارٍ مخافة أن يتعلق قلبها بحبل أملٍ وتكتشف أنه ذائب!!
هبَّت في مكانها واقفةً حينما قالت الممرضة جملتها الأخيرة، فهرعت "نجلا" إليها وقالت بفرحةٍ عارمةٍ:
-إنتِ حامل يا شروق.. ألف مبارك يا بنتي!!
انهمرت دموعها بغزارة على وِجنتيها قبل أن تقول بإنكارٍ قاطعٍ:
-أكيد الاختبار بايظ زيّ اللي فاتوا.. علشان خاطري ما تدينيش أمل على الفاضي!!
أجهشت باكيةً بانهيارٍ قبل أن تضمها "نجلا" بحنوٍ بالغٍ إلى صدرها وتقول برفقٍ:
-مش قصدي أدي لك أمل على الفاضي.. آسفة والله.. عارفة الموضوع حساس بالنسبة لك.. بس الاختبار فيه شرطتين وإنتِ عندك كل أعراض الحمل!!
طبطبت "نجلا" على ظهرها وقبل أن تتكلم مرة ثانية وجدت "عِمران" يناديهما وهو يأتي مُهرولًا من بعيدٍ وعلامات القلق بادية على وجهه:
-شروق؟!!! مالها؟!
أسرع بجذبها إلى صدره قبل أن تتنحنح "نجلا" بهدوءٍ قبل أن تضع الاختبار نُصب أعينه وتقول بابتسامة ودودةٍ:
-في احتمال كبير إن شروق حامل!!
نظر "عِمران" للاختبار بذهولٍ شديدٍ قبل أن ينتفض قلبه بقوةٍ وهو يقول مرتبكًا:
-طيب خلينا نتأكد بحاجة أدق؟!!
توجها بها إلى عيادة النساء والتوليد وهناك طلب "عِمران" مُقابلة الطبيب ثم شرح له ما تتعرض له منذ فترة وجعله يطلع على الاختبار؛ فأمرهم الطبيب بإجراء تحليلٍ في الدم ولن تأخذ ظهور نتيجته أكثر من نصف ساعة؛ توجهوا إلى قسم التحليلات وهناك تم أخذ عينة منها للاطلاع عليها بينما جلسوا بأعصابٍ تالفةٍ بغرفة الانتظار وكانت هذه اللحظات أكثر من عصيبةٍ عليهم وما هي إلا لحظاتٍ حتى حارب صوت الطبيبة براثن الانتظار القاتل حينما نادت باسمها:
-شروق عثمان السروجي!!
هرول "عِمران" إليها بينما تسمرت "شروق" في مكانها لا تحملها قدماها مُطلقًا، خفق قلبها ملتاعًا ثم أغمضت عينيها بقوةٍ تستعد لاستقبال ما تتوقعه إلا أن ما قالته الطبيبة بعد ذلك قد أحيا خفقات قلبها الواهية التي تنبض بهياجٍ من بعد خفوتٍ:
-ألف مبروك يا مدام شروق.. حامل.. وحمل متقدم كمان لأن التحليل ما أخدش وقت خالص.
ارتخت أعصابها المشدودة تمامًا وانفجرت باكيةً بلا هوادة قبل أن تضمها "نجلا" إلى أحضانها وتقبل جبينها وهي تردد في سعادةٍ:
-ألف مبروك يا شروق.. ألف مليون مبروك يا حبيبتي.
ابتلع "عِمران" ريقه على مهلٍ قبل أن ينظر إلى الطبيبة ويقول بتوجسٍ وارتباكٍ:
-متأكدة إنه حمل يا دكتورة؟! دي مسألة حساسة جدًا بالنسبة لنا!!
الطبيبة وهي تبتسم له مقدرةً وقع الخبر عليه فيبدو أن هذا الخبر قد جاء بعد طول انتظار!
-دا حمل مؤكد ومتقدم يا فندم وتقدر تتابعه بالسونار من دلوقتي!
انصرفت من أمامه فأخذ "عِمران" نفسًا عميقًا قبل أن يتقدم صوب زوجته ثم يضمها إلى أحضانه ويقوم بطبع قبلات على جبينها تارة وأخرى على كفها ومن فرط سعادته أسرع إلى الممر ثم التقط ما في جيبه من مالٍ وبدأ يعطي المارين من حوله دون حذرٍ وما أن انتهت نقوده حتى استكملت "نجلا" ما بدأ فيه فأخذت تلتقط المال من حقيبتها وتوزعه على الحشد الذي تجمهر حولهم.
“على الجانب الآخر.”
فُتح باب الغرفة بعد انتظار طويلٍ ليخرج منه "نوح" وفي يده المولود، سار إليهم بملامحٍ منشرحةٍ للغاية، هرع "تليد" نحوه فتابع الأخير يقول بسعادةٍ:
-تتربى في عِزك.. بنوتة زيّ القمر.. اللهم بارك.
أسرع يلتقطها منه بلهفةٍ جعلته يرفرف كطائرٍ حُرٍ يغرد في سعادة، نظر إلى وجهها البريء بعينين براقتين تطل منهما سهام عاشقة فشعر بتميزه في هذه اللحظة وأن الثواني الأولى من الأبوة جعلته يعيش مشاعرًا لذيذةً تشبه نفحات ذكية تهل عليكَ من نافذة غرفة تطل على بيت رسول الله، رفعها إليه يُقبل أنفها بعشق خرافي دبَّ في قلبه الآن، وكان له السبق الأول في تاريخ البشرية بأكملها؛ بأنه أول رجلٍ حمل القمر بين كفيه.
•~•~•~•~•~•~•~•~•~•~•~•
“بعد مرور شهرين".
دخل "تليد" إلى الشقة ثم توجه بلهفةٍ إلى غرفة طفلته الحبيبة ولكنه لم يُبصرها نائمةً في سريرها فتوجه مُسرعًا إلى غرفة النوم ينادي زوجته:
-وَميض.. فينك؟!.. فين يُسر؟!!
جاءها صوته يقول من داخل الحمام:
-موجودة على الركنة في الأوضة يا حبيبي!
تحول "تليد" بنظراته إلى الصوفة القابعة أسفل نافذة الغرفة لتتسع عيناه دهشةً ويتدلى فكه وهو يتحرك ببطء نحو ابنته التي تنام نومًا هانئًا وترتدي بُرنسًا ورديًا مرسومًا عليه أُحادي القرن ويوجد شرائح من الخيار على عينيها وقد وُضعت منشفة صغيرة أيضًا على رأسها، جز "تليد" على أسنانه وراح يضرب كفًا بالآخر وهو ينظر بغيظٍ إلى زوجته التي خرجت من الحمام للتو مرددًا بخفوتٍ حتى لا يُزعج صغيرته أو يعكر صفو نومها الآمن:
-أيه التهريج دا.. أيه اللي إنتِ عملاه في البنت دا؟!! حاطة لها خيار على عينيها ليه؟! من كُتر الهالات السودا!!
تقدم بهدوءٍ من الصغيرة ثم التقط شريحتي الخيار واندفع بسرعة نحو زوجته حتى جذبها من ذراعها بقوةٍ إليه قبل أن يردد بحنقٍ:
-كله إلا بنتي.. تحطي لي خيار على عينيكِ ولا حتى مسك القهوة في فتحات مناخيرك فإنتِ حُرة في نفسك مش في بنتي.
كشر عن أنيابه بطريقة تتأرجح بين الجديةٍ والهزلٍ وهو يُلقي الشرائح إلى فمه ثم يمضغهم وهو يقول بتلذذٍ واستمتاعٍ:
-شرايح خيار بالعسل.
حدقت فيه "وَميض" بدهشةٍ قبل أن تتسع ضحكته وهو يميل عليها مُقبلًا وِجنتها بحُبٍ ثم يقول:
-فين لبس يُسر.. أنا هلبسها عقبال إنتِ ما تلبسي.. الكل متجمع وأبويا مستنينا ننزل علشان يبدأ العَقد.. خلي اليوم النهاردة يكون بداية جديدة بينك وبين نجلا!!
تنهدت "وَميض" تنهيدة ممدودة بعُمقٍ قبل أن تشير إلى المشجب وتقول بهدوءٍ وهي تتجه إلى الحمام مرة أخرى:
-لبس يُسر أهو.. هنشف شعري بالسيشوار في الحمام علشان مزعجهاش.
أومأ متفهمًا، دخلت الحمام وأغلقت الباب من خلفها لتخفيف حدة الصوت المنبعث من المجفف، أسرع يلتقط ملابس الصغيرة التي تجهم وجهه ما أن أبصرها، كوَّر قبضة يده في غيظٍ مكتومٍ من زوجته التي حذرها آلاف المرات أن تكف عن تلبيس الصغيرة ملابس كاشفة بهذا الشكل حيث اختارت لها جيبة قصيرة لا تغطي سوى القليل من فخذيها وسُترة تصل إلى ما قبل السُرة وتبدأ من أسفل الإبط، حاول التحكم في انفعالاته مقررًا أن ينتقم منها أشد انتقامًا فراودته فكرة جهنمية ليخرج لوهلةٍ من الغرفة ثم يعود إليها مرة أخرى يحمل بين يديه دُمية قد جلبها لزوجته في إحدى ليالي رمضان حيث ترتدي الدمية جلبابًا وتضع طويلًا، افتر ثغره عن ابتسامة ماكرة وقام بنزع الجلباب عن الدمية ثم ألبسها لابنته الصغيرة وبعد ذلك قام بإحضار حِجابًا صغيرًا ولفه حول رأسها بينما لا تزال الصغيرة تنعم بنومٍ سعيدٍ وما أن رأى "تليد" هيئتها النهائية حتى خرجت ضحكة مكتومة من فمه ثم أسرع بحملها بين ذراعيه لتستيقظ في هذه اللحظة وتبدأ نهنهة الصغيرة فالارتفاع ليتحرك حثيث الخطى خارج الشقة على الفور وهو يدرك أنه بهذه الحركة سيُثير جنونها تمامًا.
خرجت من الغرفة تنظر باستغرابٍ من غيابه والصغيرة، تنهدت بهدوءٍ ثم ارتدت ملابسها واستعدت للنزول إلى ساحة الحفل؛ فاليوم سيُقام عقد القران الخاص بوالدتها بواسطة الشيخ "سليمان" كما أن الشباب سيحتفلون أيضًا بتوديع العزوبية فلم يتبقى سوى أسبوع على حفل زفاف الشباب الثلاثة مقررين أن يكون حفلًا كبيرًا يجمع الثلاث زيجات في يوم واحدٍ.
نزلت مُسرعةً إلى المجلس وبدأت تبحث بعينيها عن زوجها وابنتها لتبصره يقف مع الشباب داخل المجلس، سارت إليهم حينما سمعت صوت ضحكات مُجلجلة تعلو، زوت ما بين عينيها قبل أن تبصر ابنتها تجلس على حِجر جدها ترتدي جلبابًا وحِجابًا وتمسك بين أناملها الرقيقة مسبحة جدها وأمامها مُصحفًا مفتوحًا وكاميرات الهواتف تصور في انبهارٍ وإعجابٍ قبل أن يصيح "نوح" مازحًا:
-حاجة يا حاجة يا أم شال قطيفة.. رايحة فين يا حاجة؟!!
تدلى فكها قبل أن تصيح مزمجرةً في استنكارٍ:
-حاجة؟!! بنتي حاجة؟؟؟
ضغطت على أسنانها في غيظٍ واندفعت تقترب منهم في انزعاجٍ قائلةً:
-تليد.. أيه اللي إنتَ عامله في بنتي دا؟!! حاجة مين؟؟
تليد وهو يلتقطها قبل أن تقترب من الصغيرة ثم يردد بابتسامة ماكرة:
-مش أحسن من الخليع اللي كُنتِ عايزة تلبسيهولها!!
دبدبت بغيظٍ على الأرض قبل أن يشبك أصابعه بأصابعها ثم يهمس بالقرب من أذنها:
-عيب.. كلمة كمان وأحلف ما هي قالعة الحجاب.. إنتِ حُرة!!
مطت شفتيها بامتعاضٍ وقررت أن تكتم ضيقها منه وتصمت في سكونٍ، قبل أن يبدأ الشيخ "سليمان" مراسم عقد القرآن فيقول صيغته بهدوءٍ ويكرر "يحيى" من بعده والذي يمثل الولي لأمه وما أن انتهى "يحيى" حتى بدأ "ماكسيم" يكرر وراء الشيخ بسعادةٍ كبيرةٍ وبعد الانتهاء ارتفعت الزغاريد والتصفيقات الحارة مُباركةً لهما، صافح "يحيى" ماكسيم بحرارة بينما هرعت "سكون" إلى حضن أمها تضمها بقوةٍ وتقول بفرحةٍ:
-ألف مبروك يا أمي.. بتمنى لك الحياة الزوجية السعيدة والاستقرار.
توجهت إليها "رابعة" تبارك لها في ودٍ وتدعو لها أن تعيش وتشيخ معه في سعادة وطمأنينة وراحة بال كذلك فعلت "مُهرة" التي هنأتها، كانت "وَميض" تنظر إليهم من بعيدٍ وهي تبتلع ريقها على مهلٍ ومشاعر مختلطة تضرب قلبها الذي حَن دون سابق إنذار لمعانقتها، بدأ تتقدم بخطوات مترددة وهي تفرك كفيها معًا قبل أن تقول بنبرة عاليةً صمت على إثرها كل الأصوات الأخرى:
-مــــامـــا!!
حدقت "نجلا" أمامها في دهشةٍ تشعر بأنها تتوهم فقط سماع هذه الكلمة لتستدير بارتباكٍ شديدٍ فتجد "وَميض" تقف خلفها مُباشرة وتبتسم في حنوٍ وعينين تلمعان بالدموعٍ، اتسعت ضحكة "نجلا" بشدةٍ حينما أعادت الأخيرة قول هذه الكلمة التي تحمل وقعًا خاصًا على أوتار قلبها:
-ألف مبروك يا أمي.. بتمنى لك السعادة وراحة البال.
لم تستطع "نجلا" تمالك نفسها أكثر من ذلك ورغمًا عنها انسكبت دموعها فورًا فأسرعت "وَميض" بالارتماء بين ذراعيها تعانقها عناقًا شديدًا فتتشبث "نجلا" بقوةٍ بها وبكيتا بعُمقٍ ومن صميم قلبيهما قبل أن تقول "نجلا" بسعادةٍ كبيرةٍ:
-زعلك كان كاسر فرحتي بيكم يا بنتي.
ابتسم الشيخ "سليمان" فرحًا لالتقاء فتاة بأمها ووصل الود المنقطع من جديدٍ ثم قال بودٍ وهو يُقبل وِجنة حفيدته:
-استشعار النِعم من حولك.. نعمة جديدة لو دريت نفسك عليها.. قلبك هيلين وأيام هتسعد.
فيقول الله عز وجل "ورحمتي وسعت كُل شيءٍ"؛ فلماذا تتشبث يا مخلوق بالجفاء؟! انزع عن قلبك قناع القسوة وكونوا فيما بينكم رُحماء!!
تمت بحمد الله
لقراءة جميع فصول الرواية من هنا
وأيضا زرونا على صفحة الفيس بوك
وايضا زورو صفحتنا سما للروايات
من هنا علي التلجرام لتشارك معنا لك