
رواية لا تخافي عزيزتي
الفصل التاسع والعشرون 29 ج2
بقلم مريم الشهاوي
صلوا على الحبيب
"يارا، انت عارفة إني بحبك؟"
ارتبكت يارا، ناظرة إلى عمر الذي كان منشغلًا، وأجابت بحزم: "وانا كمان يا علي بحبك زي اخويا ،انت اخويا الصغير زي مصطفى."
قال علي:
"لا يا يارا،أنا بحبك كحبيبة وعايز اتجوزك."
تبدلت تعابير وجه يارا لغضب قائلة:
"عيب اللي بتقوله ده انا هبقى مرات اخوك كمان كام يوم !"
استرسل علي بعاطفة جارفة: "لكن أنا اللي بحبك يا يارا. تتجوزيني أنا بداله، صدقيني هسعدك. يارا، أنا مجنون بيكِ، حاولي تديني فرصة."
بدت الصدمة واضحة على وجه يارا، فقالت بحدة: "إنت إيه اللي بتقوله دا؟ بقولك هتجوز أخوك بعد كام يوم. ليه مصمم تبوظ العلاقة بينكم؟ علي، فوق لنفسك، انت لسه صغير و..."
قاطعها علي بنبرة مليئة بالإصرار: "برضو هتقوليلي صغير زي ما قال، الحب مفيهوش صغير ولا كبير يا يارا. صدقيني، أنا أولى بيكِ أكتر منه، أنا بحبك أكتر منه."
ردت يارا بتساؤل واستنكار: "بس أنا مش بحبك. ليه تتجوز واحدة قلبها مع شخص تاني؟ ترضاها على نفسك؟"
أجاب علي بمرارة: "بس أنا عايزك تحبيني."
استجمعت يارا شجاعتها وقالت بوضوح: "مش هحبك، ولا عمري هحب شخص تاني غير عمر."
أصر علي بشدة: "بس انت ممكن تحبيني. لو عمر كان اتجوز مودة كنتِ هتعيشي طول حياتك مفتقداه؟ كنتِ أكيد هتتجوزي شخص تاني. أنا هو الشخص دا، أنا جيت قبله وطلبت إيدك قبله، وعرفت بمشاعري قبله. وبقولك، ممكن تحبيني لما تعاشريني، انتِ بس مش مدياني فرصة. متعرفينيش، ومتعبتيش نفسك إنك تعرفيني وتعرفي قد إيه أنا بحبك."
ردت يارا بحسم: "وهو كمان بيحبني."
قال علي بوضوح: "لا، مش زي ما أنا بحبك. أنا مجنون بيك، بحلم بيك كل يوم. بصي..."
أخرج صورتها من جيبه، ممسكًا بها كما لو كانت كنزًا ثمينًا: "أنا بنام وانا حاضن صورتك، على أمل إن في يوم تبقى حقيقة ونجتمع أنا وأنتِ في بيت واحد."
وضعت يارا يدها على رأسها بوجع وقالت: "علي، انت لازم تعرف إني بحب عمر بنفس حبك ليا، ومقدرش أتخيل حياتي مع شخص تاني غيره. ولو متجوزتش عمر، مش هتجوز طول عمري. حاول تنسى، صدقني هتتعب أوي لو حافظت على مشاعرك دي. أنا حقيقي مش عايزة أخسرك، ولا عايزاك انت وعمر تخسروا بعض بسببي. قدر إني أنا وأخوك بنحب بعض."
بدأت يارا بالابتعاد، ولكن علي أمسك بذراعها بغضب، قائلًا: "مش هتتجوزي حد غيري يا يارا، أنا أولى بيكِ أكتر منه."
صاحت يارا بألم، وهي تحاول تحرير ذراعها من قبضته: "اوعى يا علي، دراعي بيوجعني."
-سيبها أحسن لك.
صرخ بها عمر بصوت عالٍ، مما جعل الجميع يلتفتون.
تقدم عمر بسرعة نحوهم، ثم لكم علي بقوة على وجهه، مما جعله يترك ذراع يارا ويمسك بفكه، يحاول الوقوف بثبات. تجمّع الجميع، يحاولون إمساك عمر الذي كان يشتعل غضبًا، بينما يارا كانت مذهولة من نظراته وتصرفاته تجاه أخيه!
ابتعد علي عنه، جالسًا على مقعد بعيد عنه، غارقًا في أفكاره المعقدة والمتداخلة. في الوقت نفسه، جلس عمر يراقبه من بعيد، وملامحه مشوبة بالغضب . في هذه الأثناء، عم الصمت بين الجميع، صمت ثقيل يعبر عن مزيج من الحيرة والترقب، وحتى دعاء، التي كانت تشعر بأن الحقيقة باتت قريبة من الانكشاف.
مرت الساعات ثقيلة، وفي النهاية خرج الطبيب من غرفة العمليات، مما جعل يزن يقفز من مكانه، متلهفًا للاطمئنان على أسيل.
قال الطبيب بصوت مطمئن: "الحمد لله قدرنا نتخطى مرحلة الخطر.... بس للأسف وجدنا ضلع مكسور عملنا شرائح ومسامير وفي غضون كام شهر الجرح هيلتئم... الف سلامة عليها... وتقرير الطب الشرعي هيطلع بس اظن... انها مش محتاجة لتقرير طب شرعي غير على كسر الضلع فقط لكن الضرب ظاهر قدامنا زي وضوح الشمس... الشرطة هتيجي وهتشوف بنفسها الكدمات دي وهتستجوب بمين السبب.... حمد لله على سلامتها."
سأل يزن بلهفة وقلق يدفعه للإطمئنان على حبيبته: "طب يا دكتور، بعد إذنك، ممكن أدخل وأشوفها؟ أرجوك، عايز أطمئن عليها."
استغرب الطبيب من نظراته المشبعة بالعشق ولهفته الواضحة، ووافق على دخوله، بشرط أن يكون الوحيد المسموح له بالدخول بعد العملية.
بخطوات بطيئة، تقدم يزن نحو سريرها. كانت أسيل راقدة، شاحبة وكأن الحياة قد غادرت وجهها الجميل، تحيطها الضمادات، جمالها غائب لكن روحها لا تزال موجودة، ونبضات قلبها لا تزال ترسل الحياة إلى وجوده. جلس على كرسي بجانب سريرها، ودموعه بدأت تنهمر بلا توقف، خاطبها بألم مكبوت:
"أسيل..... متسيبينيش أرجوكِ..... اول مرة اعرف اني بخاف اوي كده... اول مرة يغمرني احساس الخوف... انا كنت خايف اني اخسرك النهاردة... شايفة إيدي بترتعش إزاي؟ ودقات قلبي مش قادر أسيطر عليها وأنا شايفك في الحالة دي...انا حاسس ان حياتي كانت على وشك الدمار لو انت مشيتي منها....مكنتش هسمحلك تسيبيني....انتِ فاهمة؟
وبدأ ينظر إليها بحنين وهو يبتسم بصعوبة:
" قومي يا عمري، أنتِ أقوى من كده. قومي، وأنا مش هخليكِ تغفلي عن عيني ولو للحظة. أنا كنت فاكر إني سايبك مع أهلك، بس طلع الأهل يتخاف منهم أكتر من الغريب."
أمسك يدها برفق، وقبّلها بدفء، ثم ربت عليها بأصابعه هامسًا بداخله: "لا تخافي عزيزتي."
خرج من الغرفة، مطمئنًا الجميع على حالتها، وأكد أنها بخير. سأل عن قمر، ليجد أنها لا تزال تحت تأثير المخدر بعد حقنة مهدئة. جلس بجانب والده، عبد الله، الذي رأى في ابنه شيئًا جديدًا؛ عشقًا حقيقيًا لفتاة لم تكن مجرد عابرة في حياته، بل أصبحت نبض قلبه وملاذ روحه.
جاءت الشرطة لاحقاً لإجراء التحقيقات، وتحركوا نحو منزل شريف الجوهري، حيث كان الصمت في المستشفى بداية لعاصفة أخرى تنتظر في الخارج.
_________________
-الو.... مركز الشرطة.... كنت عايزة أعمل بلاغ..... ضد جوزي
ثم التفتت الى الخدم وقالت: "تقولوا كل اللي حصل مش عاوزة حاجة تستخبي كل اللي شوفتوه يتقال في التحقيق."
بينما كانت هدير تراقب رحاب بعينين تملؤهما الدهشة، غارقة في استغراب سلوكها المتقلب. كيف يمكن لإنسانة استمتعت بمشهد ضرب أسيل بكل شغف أن تخون شريف، زوجها، وتبلغ عنه الشرطة ببرود؟ لقد كانت حقًا ماكرة ومتلاعبة، تلعب على كافة الحبال دون أن يظهر عليها أي تردد أو شعور بالذنب.
في تلك اللحظات، كان شريف مستغرقًا في نوم عميق، غافيًا في فراشه، يشعر براحة الجسد والروح. كان واثقًا تمامًا أن أهل البيت لن يشهدوا ضده أبدًا، وأنه سيتمكن من تلفيق التهمة لأي شخص آخر بسهولة، في ظل إحساسه المتضخم بالقوة والنفوذ. لم يخطر بباله أبدًا أن هذه الليلة قد تأتي محملة بخيانة مباغتة.
لكن فجأة، شُرِبَ نومه الهادئ برنين القيود الباردة التي أحاطت بمعصميه، رجال الشرطة يقيدونه دون سابق إنذار. كان ارتباكه جليًا، ملامح وجهه تمتلئ بالذهول والصدمة، وهو يحاول إدراك ما يحدث حوله. متى جاءوا؟ وكيف علموا؟ وفي لمح البصر، التفت بعينين جاحظتين نحو رحاب، يبحث عن إجابة أو تفسير، ليجدها تضحك بخبث، عيناها تتوهجان بتلذذها بالانتقام الذي كانت تخطط له منذ فترة طويلة.
في تلك اللحظة، انفجرت الحقيقة في ذهنه كقنبلة، وأدرك حجم المأساة. كم كان مغفلًا أو غبيًا، لقد اطمأن إلى هذه الحرباء الماكرة، التي لطالما عرف خبثها وسمها الداخلي، لكنه لم يتخيل يومًا أن تكون قادرة على استخدام هذا السم ضده. فكان يظن أنها ستظل مخلصة له، رغم كل ما يعرفه عنها. لكن الآن، وهو مقيد ومذلول، لم يعد هناك مكان للثقة أو الأمان، فقط إدراك مرير بأنه كان لعبة في يد تلك الكائنة الخبيثة، التي أعدت له هذا الفخ ببرود متقن.
_____________________
عندما عاد عمر إلى المنزل، جلس أمام أخيه علي، وقلّب نظره بين جروح وجهه التي بدت وكأنها سطور مكتوبة بلغة الألم والندم. شعر بقلبه يرقّ قليلاً وهو يرى آثار الجروح على وجه علي، لكن الغضب المستعر بداخله سرعان ما أطفأ تلك الرحمة العابرة. نظر علي إلى أخيه، مستشعرًا في نظرته خليطًا من الحزن والانكسار، وقال بصوتٍ متهدج: "اضربني تاني لو لسه غليلك متشفاش."
رد عمر ببرودٍ يقطر حقدًا: "ولا هيتشفي... طول ما أشكالك لسه على وجه الأرض."
تابع علي محاولًا كبح دموعه التي تجمعت في مقلتيه: "عمر، أنا مكدبتش عليك... مخليتهاش تحمل ورميتها... مبعدتش نفسي بعد ما عرفت إني ورطت نفسي بطفل... أنا جايلك وبقولك إني غلطت وندمان... وعاوز أتجوزها من غير أي شوشرة."
تفجّر غضب عمر من جديد، فصاح: "بس إنت متعرفش إن اللي عملته دا جريمة ولازم تتعاقب عليها؟"
انخفض صوت علي، وتحوّل إلى نبرة مملوءة بالاستسلام: "عارف... صدقني عارف... بس يا عمر، ارجوك ليه أدخل السجن واتعذب وهي تولد طفل قدام الناس وهي مش متجوزة؟ وابني يتربى لوحده؟ لما ممكن أتجوزها ونربي ابننا سوا والحياة تستقر."
ظل عمر صامتًا للحظات، كانت كلمات علي تتردد في ذهنه كأنها أصداء في كهفٍ عميق. شعوره بالخيانة والخذلان يكاد يخنقه. قال بحدةٍ متزايدة: "يا أخي أنا لحد الآن مش مستوعب اللي إنت عملته، عملته إزاي وفين وامتى... وليه بتقول إن ماما السبب... احكيلي يا علي كل حاجة."
أخذ علي نفسًا عميقًا، وكأن الهواء يثقل على صدره، وقال بصوتٍ مثقل بالاعتراف: "حاضر... هحكيلك...ماما بتشتغل في الاعمال والسحر يا عمر... وانا لما اكتشفت باقت بتشغلني معاها وكان كل اللي بتعمله على الطاير بنحتاج صورة بس وبتعمل منها العمل... انا كنت عارف وللأسف ساعدتها في دا وبقيت انا الي بدفن الاعمال دي..... بس الموضوع كبر عندها لما حبت تنتقم من طنط رحاب... انا الحقيقة معرفش هي عملتلها ايه... كانت عاوزة تعمل سحر متعلق بقراءة الطلا سم السحر ية على بني ادم..... وعرفت بعدها انها مستقصدة يارا لان دا اللي ماما كانت عاوزاه كانت عايزة تدمر بنت طنط رحاب عشان هي اللي تتإذي وبعد ايام لقيتها قالتلي اني انزل علساعة اتنين بليل اروح لبيت يارا واستنى راجل هيجيبهالي واللي عرفته انها كانت متفقة مع خدامة من خدامين البيت بتخليها تحطلها منوم فيه وحد من الحراس بيجيبهالي لاني بكون مستني بعيد عن البيت بشوية وانا باخدها للمكان بتاع الشيخ بيخلص عليها الطلاسم بتاعته منغير اي حاجة يعني مش بيقرب منها هو بس محتاج روح قدامه تكون عايشة يقرأ عليها ويإذيها بالقراءة عليها مش اكتر ودا انتج عنه ان يارا هتحلم بكوابيس مش كويسة وهتكون مطارداها كل ليلة وعلطول هتكون حاسة بحزن ونفسيتها هتبقى تحت الصفر ودايما هتكون حاسة بإن جسمها واجعها علطول والم في مناطق متغيره يعني مش كل يوم هتحس بنفس الالم في نفس المنطقة بتتغير كل يوم بعد كل جلسة هي بتبقى نايمة قدام الشيخ وبيبدأ يقرأ عليها طلا سم سحر ية....... ومرة مع مرة انا ابتديت احب يارا ساعتها وكنت ساعتها بشرب مخد رات وفي يوم وانا برجعها البيت وهي كانت لسه نايمة... كان مكان الشيخ دا وسط صحرا وبعيد فاستغليت هدوء المكان وانه خالي من الناس و..... اغتص بتها في العربية بدون رحمة مني...... والمشكلة ان كان بيغمرني السعادة بس ومكنتش حاسس بأي ندم على اللي بعمله ساعتها وكررتها مرة واتنين لحد ما طلبت اني اتجوزها من امي لكن هي رفضت ودا كان اليوم اللي جيت فيه وقالتلك اني طالب ايديها وعايز اتجوزها وانت ساعتها رفضت."
كانت صدمة عمر طاغية، ضربت صميم روحه كضربة موجعة لا شفاء لها. مشاعر متضاربة تشابكت في عقله، بين العجز والغضب والذهول. شعر بجسده يتنمل، وكأنه فقد السيطرة على أطرافه. تخيل يارا، تلك الروح البريئة التي وقعت في شراك هؤلاء الذين تجردوا من الرحمة. وأمه، المرأة التي طالما وضعها في مرتبة القداسة، كيف لها أن تُمارس هذا القسوة على فتاة كانت كابنتها؟
أحسّ بأن قلبه يثقل بعبء لا يُطاق، نبضاته تُدقّ كأنها طبول حرب تُعلن عن معركة ضارية داخله. حاول النهوض من الأريكة، لكن قدماه خانتاه، فتهاوى أرضًا وأخذ يستفرغ بشدة، وكأن جسده يحاول طرد الألم الذي ينهش روحه. لحقه علي، يائسًا، دموعه تتساقط كالمطر، وأمسك بذراعه، لفّها حول عنقه ليُساعده على الوقوف. قاده نحو المرحاض، أوقفه أمام الحوض، وغسل وجهه برفق. لكن عمر لم يكن يسمع شيئًا سوى صدى صفيرٍ حاد يملأ أذنيه، وعيناه، في انعكاس المرآة، تتخيل يارا تبكي وتصرخ به، صرخاتها تتردد في أعماق قلبه:
"حرام عليكم تعملوا كده فيا دنا كنت واحدة منكم... اتربيت معاكم... منكوا لله... حسبي الله ونعم الوكيل."
انهارت مقاومة عمر، واندفعت دموعه بحرارة، يبكي بقهر يكاد يُمزق أوتار قلبه. شعر أن كل ذرة في جسده تصرخ حزنًا وألمًا على ما حدث بحبيبته. أدرك أن هذا العالم مظلم، لا مكان فيه للأبرياء، وأن قسوته لا تترك مجالًا للرحمة، تُفسد كل ما هو طاهر ونقي مثل يارا.
____________________________
عندما عاد مصطفى ويارا إلى المنزل، كان الجو ملبدًا بالشكوك والتوتر. وجدا رحاب جالسة في الصالة، ضاحكة، تغمرها سعادة كبيرة وهي تشاهد فيلمًا على التلفاز. ابتسمت لهما، داعية إياهما بلهجة خالية من القلق: "تعالوا، تعالوا يا ولاد، دا فيلم حلو أوي، موتني ضحك."
تقدم مصطفى ببطء وسأل، مترددًا: "ماما، هو بابا شريف فين؟"
قفزت رحاب من مكانها بحركة نابضة بالحياة، وقالت بنبرة مليئة بالانتصار: "بح، خلاص... هي دي التهمة اللي كنت مخططالها... وطبعا أملاكه هتكون ليا، وهو هيفضل في السجن مدة تتراوح بين الثلاث للعشر سنوات."
وقفت يارا مذهولة، قلبها ينبض بسرعة وهي تحاول استيعاب ما سمعته للتو. صاحت بصوت متقطع: "يعني إيه التهمة اللي كنتِ مخططاها... هو إنتِ كنتِ قاصدة كل اللي حصل دا؟!"
رفعت رحاب حاجبيها بفخر، وتحدثت وكأنها تكشف عن مخطط مُحكم: "دنا بحضر فيها بقالي كتير، وامبارح بالليل تخيلتها زي ما حصلت بالظبط... هنعيش أنا وإنتو بسلام، ممكن نسافر ونقعد برا مصر... مش مصدقة إني اتخلصت منه."
كان مصطفى يشعر بدمائه تغلي، فسأل بصوت مشحون بالتوتر: "عملتيها إزاي؟"
نظرت رحاب إلى مصطفى بتعابير تحمل الزهو والغطرسة: "إنتو فاكريني عبيطة ولا إيه؟... مش عارفة إن أم أسيل لسه عايشة؟... كنت بشوف أسيل بتروحلها في بيت دعاء وتقضي معاها اليوم... وطبعا أنا عارفة إن شريف شاكك فيها بسبب تأخرها... وكمان هو ميعرفش بيت دعاء فين، قمت وسوست في ودانه إنها بتروح مع يزن الشقة وإنها ممكن تكون واخدة طبع أمها... وبس أنا قلت الجملة دي من هنا وهو شاط وكسر عضمها من هنا."
كانت يارا غير قادرة على السيطرة على انفعالاتها، شعرت بالغثيان من كلام والدتها، صرخت وهي ترتجف: "كنتِ عارفة إنه هيضربها بالشكل دا ومع ذلك سيبتيه؟؟"
ردت رحاب بلا مبالاة، وكأنها تتحدث عن لعبة: "دنا كنت عاملة في الحسبان إنه يموتها وينعدم... ولكن الموضوع باء بالفشل، فحلوين الكام سنة دول، هظبط فيهم أموري وأجمع شوية فلوس."
انهارت يارا بالبكاء، تكاد لا تصدق أن أمها يمكن أن تكون بهذه القسوة، صاحت بصوت يختنق بالدموع: "ماما، إنتِ إزاي تعملي كده... إزاي بجد مخفتيش على أسيل... إنتِ متعرفيش خافت عليكِ قد إيه لما كنتِ تعبانة... إنتِ متعرفيش إنك بتؤذي واحدة مالهاش أي ذنب... ليه بتعملي كده ليه؟؟"
تقدمت رحاب بخطوات ثابتة نحو يارا، نظراتها جامدة، وأجابت بحدة: "إنتِ هتعلميني يا بت ولا إيه؟... يلا روحوا لأوضتكم، إنتو الاتنين عندكو جامعة الصبح."
توجه مصطفى ويارا إلى غرفتيهما، مشاعر الحزن والألم تخيم عليهما كظل ثقيل. مشيا ببطء، وكأن كل خطوة تأخذ منهما جهدًا عظيمًا، مثقلين بواقع لا فرار منه. كانا يشعران بأن الأرض تهتز تحت أقدامهما، وكل ما عرفاه عن الحب والأمان يتلاشى أمام القسوة الباردة لوالدتهما. في عمق عيني كل منهما، كانت هناك نظرة مشتركة من الخيبة واليأس، إشارة إلى أنهما قد وقعا ضحية لاختيارات لم تكن أبدًا في أيديهما، وأن قلبهما قد تحطم تحت ثقل الحقيقة القاسية.
__________________________
استيقظت أسيل في الصباح التالي، شعرت بأطرافها تتنفس للحياة مجددًا بعد ليلة طويلة من الألم والكوابيس. عندما فتحت عينيها بتثاقل، وجدت يزن نائمًا بجانبها، رأسه مستند إلى سريرها ويده ممسكة بيدها. نظرت إليه بحنانٍ، ثم حرّكت يدها الأخرى بحذر وبدأت تلامس خصلات شعره بأصابعها بلطف، تراقب تعابير وجهه التي كانت مشوبة بالقلق حتى في نومه.
تململ يزن واستيقظ فجأة، عينيه اللامعتين تلتقيان بنظراتها المتلهفة. حين أدرك أنها قد استيقظت، انبسطت ملامحه بفرحة لا يمكن وصفها، وقال بصوتٍ متهدج من فرط السرور: "أسيل... صحيتي أخيرا... الحمد لله على سلامتك... أنا هروح... هروح أبلغ طنط قمر... هي جات وكانت عايزة تطمن عليكِ."
عندما همّ يزن بالقيام، شعرت أسيل بيدها تتحرك بشكل غريزي لتمسك بيده، عيناهما التقتا في نظرة مملوءة بالحب والتعلق. جذبت يديه لتقترب منه، وابتسمت له بابتسامة حانية قبل أن ترفع يدها اليمنى لتجفف دموعه التي انحدرت على خديه كأثر للقلق الذي عايشه. مسحت دموعه برفق، وابتسمت له بحبٍ خالص.
شعر يزن بالدفء يغمر قلبه، اقترب منها أكثر، ثم طبع قبلة ناعمة على جبينها، بينما أغمضت هي عينيها، مستسلمة للحظة، شعرت بشفتيه الحانيتين تمسدان جبينها وكأنها تعهدٌ صامت بالمحبة الأبدية. اقترب برأسه منها، حتى تلامست أنفاهما ببعضها البعض، وظلا هكذا لثوانٍ، عيونهم مغلقة، كأن الزمن توقف، ليتحدثا بلغة القلوب التي تتبادل نبضات الحب والوفاء.
بعد بضع دقائق، نهض يزن من الغرفة وهو لا يزال تحت تأثير المشاعر العميقة، ليذهب ويستدعي قمر. هرعت دعاء ومعها قمر وعلا إلى غرفة أسيل فور علمهم باستيقاظها. التفوا حول سريرها بقلوبٍ مفعمة بالحنان والفرح، وعندما رأت أسيل والدتها وحبيبها بجانبها، شعرت بسعادة غامرة، دفء الحب يملأ المكان.
بعد قليل، وصلت كل من زينة ويسرى لزيارة أسيل، يجلبان معهما أجواء من الدعم والطمأنينة. عرفهم يزن على قمر، التي انسجمت سريعًا مع عائلة يزن، بانطباعها الطيب وأخلاقها الراقية التي تنضح بالهدوء والمحبة، ما أضفى جوًا من الألفة والاحترام المتبادل.
في غضون يومين، جاء عبد الله بأخبار هامة. أعلن بوجهٍ مفعم بالجدية والتوتر: "تم القبض على شريف الجوهري بتهمة التعنيف المنزلي. وقد قدم الطب الشرعي تقارير تثبت أنه ألحق بأسيل إصابة تسببت في عاهة مستديمة، مما أدى إلى إصدار حكم المحكمة بحبسه مدة لا تقل عن خمس سنوات."
كانت كلمات عبد الله مثل رصاصة في قلب الجميع، تفاعلت معهم المشاعر المتضاربة بين الارتياح والقلق. أحست أسيل برعشة خفيفة، تطلعت إلى يزن بعينين تغشاهما الدموع، وأدركت أن هذه العقوبة قد تجلب بعض العدالة، لكنها لن تمحو الألم الذي عانت منه. تطلع الجميع إلى المستقبل بتفاؤل حذر، عالمين أن هذه اللحظة لم تكن إلا بداية لرحلة طويلة نحو الشفاء والتعافي.
_________________
أمسكت دعاء بالمصحف بيدٍ ترتجف، ووضعت يد عمر عليه، عينيها متوسلتان مشبعتان بالحزن والتوبة. قالت بصوت متضرع: "احلف عالمصحف إنك مش هتؤذي أخوك."
نظر إليها عمر باستهزاء، تملؤه مرارة السنين الماضية، وقال بسخريةٍ مشوبة بالألم: "مصحف يا أمي... وهو اللي بيشتغل في السحر ب..." لم يكمل جملته، شعر وكأن الكلمات تخنقه.
تحدثت دعاء، ودموعها تنساب كالجمرات: "أنا توبت من بدري... من ساعة ما أخوك طلب إنه يتجوزها وأنا بطلت إني أذيها، لأن أذيتها هتيجي على ابني أنا..."
ضحك عمر بسخريةٍ عميقة، ضحكة تقطر مرارة وحسرة، فقال علي بهدوءٍ محاولا ضبط نفسه: "أنا وماما غلطتنا يا عمر... وهي تابت وأنا تبت... استر علينا أنا وهي... واعتبر كإن محصلش حاجة... إحنا مش غرب، أنا أخوك وهي أمك."
جلس عمر على الأريكة، رأسه بين يديه، وكأنه يحمل عبء الكون كله. تحدثت دعاء بتوسلٍ يقطع القلب: "سيبه يتجوزها يا عمر... وأنا هعاملها كويس وهنسى أي حاجة، صدقني... بس اقبل إنها تتجوز أخوك... خلي ابن أخوك يتربى في حضنه... متبقاش أناني... لو خلصنا الموضوع في السر صدقني هيبقى أحسن ليا وليك وليارا كمان... محدش هيصدق إن تم اغتص ابها... كلهم هيفتكروها ست وحشة وشرفها هيضيع... إنت كدا بتستر يارا وأنا وأخوك وربك بيسامح وسامحنا لما توبنا، إنت مش هتسامح؟"
صرخ عمر بألمٍ يخترق الأعماق: "مش مشكلة أسامح... المشكلة إني مش مصدق إنكم طلعتوا كدا... أنا وعلا مصدومين فيكم... علا لما عرفت راحت لستي وقاعدة معاها بقالها يومين لأنها تعبانة من اللي سمعته عن أمها... إنتِ عارفة يا أمي عملتي إيه فينا؟؟؟؟ "
بكت دعاء بحرقة، واندفعت لتعانقه، وكأنها تحاول أن تعيد إلى قلبه بعض الدفء المفقود: "حقك عليا يا ابني... دا أنا الندم بياكل في لحمي من ساعة ما عرفت اللي حصل لاختك، حسيت إن ربنا هيردها في بنتي الوحيدة... أنا خايفة عليكم أوي بسبب كل حاجة وحشة عملتها... عشان خاطري يا عمر، عشان خاطر أبوك، عشان خاطرنا كلنا... وافق إن علي يتجوز يارا ومتجبلهاش سيرة غير إن علي بس هو أبو طفلها عشان توافق، وحاول تقنعها إنها متعملش حاجة، إنت الوحيد اللي هتقتنع معاك... أرجوك يا عمر، أنا عمري ما طلبت منك حاجة، بس أرجوك متضيعش أخوك، هو غلط وهيصلح غلطته... احلف عالمصحف إنك مش هتؤذي علي..."
نظر عمر إليهما، رأى فيهما صدقًا قد ينفذ من بين طيات الغدر والخداع. بكى عمر، دموعه تنهمر من عينيه، مرارة وقلة حيلة، وكأنه يتحدى كل مقاوماته الإنسانية ليقرر أن يسامح. كان يجد في قلبه شظايا من الرحمة، رغم كل ما عاناه من ألم وخيانة، ولم يكن أمامه سوى أن يرضخ لهذه المشاعر المتضاربة، التي تجعل من القرار عبءً يحمله بكل ثقله.
رفع يده ببطء على المصحف، عيناه تلتقيان بعيني أمه وأخيه، وقال بصوتٍ خافت لكنه يحمل وعدًا: "حاضر يا امي والله العظيم ما هأذي علي."
كانت هذه اللحظة مريرة، تقطر بالندم والدموع، كأنها طعنة في قلب عمر، لكنها كانت أيضًا شعلة أمل وبدءًا جديدًا، يحاول فيها الجميع أن يلملموا أشلاء ما تبقى من علاقة أسرة مزقتها الأخطاء والخيانات، ليبدؤوا من جديد مسارًا صعبًا نحو التصالح والشفاء.
قبل أن يغادر عمر المنزل متجهًا إلى يارا، نادى عليه علي من الخلف، بصوت يحمل قلقًا وإلحاحًا: "عمر، استنى...يارا بتحبك اكيد وهيكون صعب عليها انها تتجوزني لانها لسه بتحبك فأنا عندي فكرة!"
توقف عمر في مكانه، ظهره متوترًا، واستدار ببطء، عينيه تحملان خليطًا من الإرهاق والانكسار. قال بصوت متعب، يشوبه إحباطٍ واضح: "قول فكرتك إيه؟ عايزها تكرهني؟"
نظر علي إلى أخيه بعينين غارقتين في جديّة لم تُعهد فيه، وأجاب بتأكيدٍ مشوب بألمٍ: "بالظبط... هو دا اللي عاوزه. عاوزك تخليها تكرهك، عشان تسيبك."
توقف الزمن للحظة، عمر تملكه الذهول والاضطراب، استمع لتلك الكلمات وكأنها وحي قاسٍ، يستهدف كسر قلبه المحطم بالفعل. لم يكن الأمر مجرد فكرةٍ، بل كان خطة خبيثة تحمل في طياتها أملًا في تحقيق ما قد يبدو مستحيلًا - أن يُبعد يارا عنه بحبها الدفين، ليكون لعلي فرصة في تصحيح خطيئته، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
تابع علي بنبرةٍ تحمل مرارةً: "يارا بتحبك، ومهما حاولت، هتفضل مش قادرة تتجاوز اللي بينكم. لكن لو قدرت تخليها تكرهك... تشوفك وحش في نظرها، هيكون سهل عليها إنها تسيبك وتقبل إنها تعيش حياة جديدة معايا ومع ابنها."
تملّك الصمت المكان، وكأن الكلمات قد استنزفت كل قطرة من الطاقة لدى عمر. نظر في عيني أخيه، محاولًا أن يستوعب ما يُطلب منه، وهو يعلم أن هذه الفكرة، رغم قسوتها، قد تكون الخلاص الوحيد لهم جميعًا.
قال عمر بصوت مختنق بالحزن: "يعني، كل اللي عليّ أعمله... إني أخليها تكرهني؟"
أومأ علي برأسه، وعينيه تملأهما الرجاء والقلق: "بالضبط، لازم تشوفك بعيون تكرهك، عشان تقدر تبدأ من جديد، من غير ألم، من غير ما تشعر إنها ضحت بحبها ليك. لازم تصير بالنسبة لها ذكرى سيئة، حاجة تفتكرها وتقرر إنها مش عاوزة ترجع لها وبكده قلبها هيقدر انه يتفتحلي بعد ما يتقفل من ناحيتك."
تسرب الألم إلى قلب عمر كما لم يفعل من قبل. وقف هناك، يشعر بأن الأرض تنزلق من تحت قدميه، وعليه أن يتخذ قرارًا قد يحطم قلبه وقلب يارا، ولكنه ربما يكون السبيل الوحيد لإنقاذها من مستقبلٍ مظلم، يحمله خطأ أخيه.
وافق عمر بصوتٍ بالكاد يسمع: "ماشي... هعمل اللي بتقول عليه."
اندفعت الدموع في عينيه، لكن عزيمته لم تهتز. كان يعلم أن ما سيقوم به الآن هو أقسى ما يمكن أن يُطلب من عاشق، لكنه أيضًا كان يدرك أن التضحية بحبه من أجل حياة أفضل ليارا ولطفلها هو الخيار الوحيد المتبقي.
خرج من المنزل، يحمل في قلبه نارًا مشتعلة، مستعدًا لأن يواجه يارا بحقيقة مؤلمة، يدفعها لأن تكرهه بكل ما أوتيت من قوة، عله يكون هذا الفراق المرير هو الطريق الوحيد نحو مستقبلٍ أقل ظلمة.
يارا هتكمل مع مين في آخر الرواية؟
رأيكم في تصرف عمر
دمتم سالمين...