رواية لا تخافي عزيزتي الفصل الثلاثون 30 ج2 بقلم مريم الشهاوي


رواية لا تخافي عزيزتي

الفصل الثلاثون 30 ج2

بقلم مريم الشهاوي


صلوا على الحبيب

دخلت يارا من باب المنزل، جسدها مُنهك، وكأن الحياة تسربت من روحها. خطواتها كانت ثقيلة، صاعدة نحو غرفتها. جلست على سريرها بعيون شاردة، تركت باب غرفتها مفتوحًا، كأنها تتحدى العالم للدخول ورؤية فوضى مشاعرها. عقلها كان يعيد مرارًا وتكرارًا مشهد اللحظات التي مرّت منذ دقائق، تلك الكلمات القاسية التي ألقاها عمر في وجهها، بلا أي ذرة رحمة.


استفاقت يارا من شرودها على وقع طرقاتٍ سريعة على باب غرفتها، دخل مصطفى، وجهه مشرق بالسعادة. اقترب منها بحماسٍ طفولي، جلس بجانبها على السرير وقال بلهفةٍ لا تخطئها عين: "أنا محتاجك معايا النهاردة، عشان هقول لماما إني هتقدم لهدير... هدير طلعت بتحبني برضو يا يارا... أنا بجد فرحان أوي."


حاولت يارا أن تجاري سعادته، رسمت ابتسامة باهتة على وجهها، ووضعت يدها برفق على خده، قائلة بصوتٍ يخفي حزنها: "وأنا فرحانة لك أوي... ربنا يسعدك كمان وكمان."


لكن مصطفى لاحظ غياب خاتم خطبتها، عينيه تجمدتا على يدها الخالية. استدار نحوها بوجهٍ متسائل، وقال: "أومال فين خاتم خطوبتك... دا إنتِ بتنامي حاضنه إيدك عشان ميضيعش... ضاع منك؟"


ترددت يارا للحظة، وأخذت نفسًا عميقًا، كأنها تجمع الشجاعة لتلفظ تلك الكلمات التي تخنقها: "لا مضاعش... أنا وعمر فسخنا الخطوبة."


صُدم مصطفى، لم يتوقع أبدًا هذا الخبر، كان آخر ما يمكن أن يخطر بباله عند رؤية يدها الخالية. الحب الذي جمع عمر ويارا كان جنونيًا، كيف يمكن أن ينفصلا بهذه السهولة؟


نظر إليها بدهشةٍ، وعدم استيعاب: "إيه؟... إزاي؟... ليه؟ هو إيه اللي حصل؟"


لم تستطع يارا إخفاء ما بداخلها، فقد كانت الأوجاع تقتات من روحها، وتمزقها ببطء. كانت بحاجةٍ لأن تبعثر آلامها على من حولها، ربما ليخففوا عنها هذا الحمل الثقيل، ولو قليلًا. بدأت دموعها تزرف بقسوة على خديها، وهنا جاء الانهيار الذي طال انتظاره. قالت بصوتٍ متهدج، متقطع، يحمل ضعفا هائلًا:


"أبو... أبو اللي في بطني يبقى أخو عمر... علي اغت صبني يا مصطفى... وللأسف عمر مش مصدق... علي كدب على عمر وقاله إنه كان على علاقة بيا، وإن دا حصل بإرادتي. بس أنا والله... والله يا مصطفى ما فاكرة حاجة... وأنا وعلي مرتبطناش أصلاً... مصطفى، أنا مغلطتش... عمر مش مصدقني يا مصطفى، وبيقولي إنه كان بإرادتي. ولما حملت وظهرت نتيجة غلطتي اضطررت أخبي على الكل... لكن والله لا... والله لا يا مصطفى، أنا مظلومة... علي كدب عليهم... أنا مغلطتش معاه... هو اللي اغتص بني... محدش هياخد لي حقي منه خلاص..."


تجمعت الدموع في عيون مصطفى، وهو يرى شقيقته في تلك الحالة المزرية. اجتاحته مشاعر غامرة من الحزن والغضب والحنان. أخذها في حضنه، وربت على كتفها برفق، محاولًا تهدئتها: "اهدي يا يارا... عشان الحمل..."


ابتعدت يارا عنه مجددًا، وهي تستمر في البكاء بحرقة. الكلمات كانت تتدفق منها كالسيل الجارف، تحمل في طياتها ألمًا لا يُحتمل: "عارف بيقولي إيه... بيقولي روحي صلحي غلطتك معاه... وإنّي خدعته... وتصنعت الحب عليه... قالي اتجوزيه يا مصطفى... عاوزني اتجوزه... معقول يا مصطفى؟ هتجوز اللي أذاني بالشكل دا ودمرني كده... مصطفى، أنا بقيت خايفة من كل اللي حواليا... أقرب الناس ليا كان عمر وهجرني وصدق أخوه. أنا مابقاش ليا حد يا مصطفى... قلبي واجعني أوي... قلبي واجعني أوي والله... حاسة إني هموت من كتر الوجع اللي جوايا..."


انهمرت ببكاءٍ يوجع القلوب، مشهد يُمزق الروح. كان من الصعب تخيل تلك اللحظات القاسية حتى في أفظع الكوابيس، ما تعرضت له يارا كان قاسيًا بأكثر مما يمكن تحمله.


قال مصطفى، محاولًا أن يغرس في قلبها بذرة من الأمل: "وأنا رحت فين يا يارا... أنا معاكِ وماما معاكِ. هنبلغ الشرطة عليه."


أجابته بيأسٍ مطبق، وعينيها تغرقان في دموعها: "مفيش أي دليل يثبت... مفيش أي دليل غير إنّي كذابة ودا اللي هيأكدوه... أنا ضعت يا مصطفى، ضعت... يا رب اللي في بطني يموت... أنا بكرهه، بكرهه لحد العمى، مش عايزاه ييجي."


فزع كلاهما على صوت رحاب التي كانت قد صعدت إلى غرفتها وهي تصرخ باسم يارا. وقفت عند باب الغرفة، وجهها ممتقع بالغضب، وقالت بقسوةٍ وجفاف: "بقولك إيه... أنا مش حمل فضايح... الواد اللي اسمه علي اللي عملتي كده معاه هتتجوزيه... مش شايفة بطنك ابتدت تكبر ازاي..."


صرخت بها يارا، وكأنها تلفظ ما تبقى من قوتها: "والله ما عملت معاه حاجة... دا كذاب."


نهض مصطفى من مكانه، عيناه تقدحان شررًا: "يا أمي هو اللي اغت صبها... يارا ماعملتش حاجة غلط عشان تتحاسب عليها..."


صرخت بهم رحاب وهي ترفع صوتها فوق أصواتهم: "هتتجوزيه لحد ما تجيبي الزفت دا، وبعديها تطلقي ونرمي الطفل في أي دار أيتام، ونسافر كلنا برة مصر... نبدأ حياتنا من الأول... فاهمين؟"


صرخت يارا هي الأخرى، ووجهها مشوه بالبكاء والألم: "لا يا ماما، مش هعمل اللي بتقوليه دا... أنا مش هتجوزه ولا هرمي ابني في دار أيتام..."


قال مصطفى بنبرة تجمع بين الإحباط والغضب: "وإنتِ إزاي صدقتيه وكذبتي بنتكِ؟"


نظرت رحاب ليارا بقرف، وكأنها تنبذها: "لو ماكذبتش عليا قبل كده وألفت حوار مع عمر، كان ممكن أصدقها. بس أختكِ أصلاً كذابة، فالطبيعي تكدب في دي كمان. مين عالم عملت إيه تاني ومخبيه... هتتجوزيه يا يارا ومفيش نقاش في الموضوع دا."


صرخ مصطفى بغضب مكتوم، يحاول الحفاظ على صوت العقل وسط فوضى الانفعالات: "أنا مش موافق إن أختي تتجوزه."


ضحكت رحاب بسخرية، نظرة الاستعلاء تلمع في عينيها: "أهو اللطع دا بقى ليه كلمة هو كمان... اسمعوا، أنا مبقولش كلامي كتير... علي اتكلم معايا وقالي إنه جاهز يجيب المأذون النهاردة ويكتب عليكِ... هو دا اللي عندي."


خرجت من الغرفة، وهي تهبط السلالم لإدارة مكالماتها بشأن زيجة اليوم المفاجئة، وكأنها لا ترى أو تسمع المعاناة التي خلفتها وراءها.


نظرت يارا إلى مصطفى، وانهارت في بكاءٍ مرير، تستنجد بأخيها: "أنا مش هتجوزه يا مصطفى... اعمل حاجة، أرجوك... مش عاوزة أتجوزه."


عانقها مصطفى بشدة، يمسح بيده على خصلات شعرها في محاولة لتهدئتها، صوته كان يحمل وعدًا بالانتقام، ويعبر عن عزمه الذي لا يتزعزع: "مش هتتجوزيه... مش هتتجوزيه، أوعدك."

_________________________


بعد أن انتهت قمر من سرد حكايتها المؤلمة ليزن، صعد الاثنان إلى غرفة أسيل. كانا يعلمان أن المواجهة القادمة ستكون مشحونة بالعواطف. دخلوا ليجدوا أسيل جالسة على كرسي متحرك بجانب نافذة المستشفى، تحتسي عصيرًا، وتحدق في الحديقة بأعين شاردة. بيدها التي ترتعش، كانت ترسم دوائر صغيرة على سطح الكوب. لمحت دخولهم من الباب، فاستدارت إليهم مبتسمة، تلك الابتسامة التي كانت تجاهد لتخفي ألمها.


تفاجأت حين رأت يزن يتقدم نحوها بسرعة، وجثا على ركبتيه أمامها، وعيناه مغرورقتان بالدموع. وضع رأسه على قدميها، وكأنه يريد أن يتشارك مع الأرض حزنها وآلامها. لم يكن بإمكانه أن يتحمل ما سمعه عن ماضيها، قلبه كان يعصف به الألم.


بدأت أسيل تشعر بقلق شديد على يزن، ووضعت يدها على رأسه بحنان، تمسح عليه وكأنها تحاول أن تزيل عنه همومه. نظرت إلى والدتها بتساؤل، وكأنها تطلب تفسيرًا لما يحدث، فقالت قمر بصوتها الهادئ، الذي يحمل مزيجًا من الحزن والتعاطف:


"أنا بس حكيتله عن ماضيكِ، وانتِ صغيرة، وأي اللي حصلك قبل ما أموت."


بدأت أسيل تمسح على رأس يزن برقة، محاولة أن تطمئنه بأنها بخير، رغم أن عيونها كانت تلمع بدموع لم تذرف بعد. رفعت رأسه من على قدميها بيدها الناعمة، ونظرت في عينيه، محاولة أن ترسم ابتسامة على وجهها، تلك الابتسامة التي كانت تحمل ثقلًا من الآلام والخوف، لكنها كانت تحاول أن تبعث برسالة تطمئنه بأنها بخير. 


حاوط يزن وجهها بيديه الدافئتين، وقال بدموعٍ كانت تتلألأ على خديه: "متخافيش من أي حاجة بعد كده... مفيش أي حاجة هتخوفك طول ما أنا موجود... انتِ مبقتيش لوحدك."


تلك الكلمات لم تكن مجرد وعود، بل كانت بلسمًا لروحها المتعبة. شعرت وكأن قلبها، الذي كان يعصف بالقلق والخوف، بدأ يهدأ ويستكين. نظرت إليه بامتنان، وأدركت أن تلك اللحظة كانت بداية لصفحة جديدة في حياتها.


ثم توجه يزن بنظره نحو قمر، وقال بجديّة تشوبها نبرة صوته القوي: "طنط قمر... ممكن أتجوز أسيل النهاردة؟"


تفاجأت أسيل بنظرة تملأها الحيرة، وكذلك قمر، فلم تتوقع أبدًا أن يصل الأمر إلى هذا الحد بهذه السرعة. أراد يزن أن يوضح موقفه، فقال بحزم: "أنا عايزها في بيتي... عشان أحميها، ومحدش يقربلها، ويكون ليا الحق إنّي أقف قصاد أي حد يفكر يأذيها. أنا عاوز أتجوز أسيل النهاردة يا طنط... ومستعد أجيب المأذون دلوقتي ونكتب الكتاب."


كانت أسيل لا تزال في حالة من الدهشة، عيناها تتحدث أكثر من الكلمات. كانت تحاول فهم ما يحدث، كيف تحول كل شيء بهذه السرعة؟ 


قال لها يزن، بلهجة تتخللها نبرة حنان وتأكيد: "دا الشيء الوحيد اللي هيخليني أحفظك جوا عيوني، ومحدش يكلمني... أنا مش هرجعك البيت دا تاني... انتِ هتطلعي من المستشفى على بيتي أنا."


في تلك اللحظة، فاجأ الاثنان زغرودة تنطلق من قمر، تعبيرًا عن فرحة كبيرة تغمرها. قفز قلبها من السعادة، وكأنها استردت ابنتها من بين مخالب الألم، وأدركت أن حمايتها الآن تقع على عاتق يزن.


حين أخبر يزن عائلته، حاولوا أن يثنوه عن عقد القران في هذا الوقت، مشيرين إلى ضرورة تأجيله حتى تتعافى أسيل تمامًا. لكن يزن كان مصممًا: "أنا لستُ بحاجتها كزوجة الآن، لكن بإسمها في حياتي، أريد أن ألقبها بزوجتي، حتى أقف أمام الجميع وأصرخ على راحتي. أسيل ستكون زوجتي اليوم قبل غد."


بدأ الجميع بتزيين غرفة المستشفى استعدادًا لعقد القران، كانوا يحاولون خلق أجواء من الفرح وسط هذا المكان البارد. كانت قلوبهم مليئة بالسعادة، حتى وإن كانت الظروف قاسية.


اتصلت قمر بدعاء، التي اعتذرت عن عدم تمكنها من القدوم، فتعذرتها قمر، وفهمت موقفها.


امتلأت المستشفى بالزغاريد والضحكات، وأصبحت غرفة أسيل مسرحًا لاحتفال صغير لكنه مليء بالحب والأمل. كانت أسيل تغمرها فرحة لم تشعر بها منذ زمن، وعيونها تتألق بسعادة. ويزن كان أكثر سعادة منها، شعرت بأن تلك اللحظة تُذيب كل الآلام التي عاشتها. كانوا يتبادلون نظرات تحمل كل معاني الحب والاطمئنان.


لقد تغلغل حب يزن في قلب أسيل، حتى تأكدت أنها تبادله نفس المشاعر. رغم خجلها من الاعتراف بها، إلا أنها كانت تعلم في داخلها أنها تحبه، وستقول له ذلك حين تستعيد صوتها.


_________________________


أمسك عمر بذراعي يارا بقوة، محاولًا إيقاف سيلان دموعها، وجهه مشدود بغضب، وعيناه تقدحان شررًا. قال بلهجة مملوءة باليأس والتوتر: 


"افهمي بقا، طاوعيني مرة ومش هتخسري حاجة. بقولك أبو الطفل يبقى أخويا وهو الأولى بيكِ. اتجوزيه بدل ما تتجوزيني عشان تداري على نفسك، اتجوزي أبو الطفل دا وحافظي على سمعة البيبي وعلى سمعتك. متفضحيش نفسك، صلحي اللي حصل ووافقي على الجواز، أرجوووكي."


كانت يارا لا تزال مغمورة بالدموع، تلتفت إليه بنظرة تتأرجح بين الألم والخوف، قالت بصوت متحشرج، يكاد ينكسر: 


"يا عمر، أنا بموت من غيرك. بعد ما شيلتني من النار بتحطني فيها تاني. مش هقدر أعمل كده يا عمر. انت مش حاسس بكرهي ناحية أخوك. انت فاكر اللي عمله دا عادي؟ أنا ليه شايفاك متقبل اللي حصل؟! فين كلامك ليا إنك هتاخدلي حقي؟!"


حاول عمر تبرير موقفه، وهو يعصر كلماته ليجعلها منطقية: 


"بس أنا بدور على مصلحتك. معاكي إنها غلطة أخويا، والإنسان بيغلط وهو معترف بغلطه وعاوز يصلحه. حطي نفسك مكاني يا يارا، أنا بنقذك وبنقذه هو. أخويا الصغير وغلط، وانت..."


أبعد نظره عنها، هربًا من مواجهة نظراتها التي كانت تخترقه كالسهم، وأضاف بضعف:


"وانت حبيبتي روحي وكل حاجة، لكن القدر مش رايدنا لبعض. ويمكن لو حاولتي تتقبلي علي، تحبيه هو كمان. صدقيني يا يارا، ما بإيدي. أنا حرفيًا بموت كل دقيقة. الموضوع دا، أخويا ولا انت؟ أخويا ولا انت؟؟؟"


صرخت يارا، متشبثة بما تبقى من قوتها، صوتها يشتعل بالغضب: 


"ولا أخوك، ولا أنا. خليك مع الحق، شايف مين يستحق العقاب ومين اللي مظلوم؟! مين هيتجبر على عيشة هو مش عايزها؟!"


رد عمر بصوت مهتز، كأن كل جملة كانت تنهار داخله:


"هو طبعًا، ولكن أنا كنت بقول الكلام دا إني هقف مع الحق وهعمل أي حاجة عشان أخدلك حقك. وما حطيتش في الحسبان إنه يطلع أخويا. يارا، الموضوع صعب أوي عليا."


ضحكت يارا بوجع، ضحكة تعكس حزنًا عميقًا، وقالت بمرارة: 


"فتقوم راميني ليه زي الكلاب تنهش فيا؟ اهو بتربي الطفل مع أبوه، منك لله أنت وهو. أنا كنت ضحية اتنين بني آدم... اتنين شياطين، واحد يغلط والتاني يداري عليه. مش مسمحاك يا عمر، لا أنت ولا أخوك. الله ينولك اللي عملته في قلبي أضعاف الأضعاف... والله لا يسامحك أنت وهو."


تردد صوت يارا في أذني عمر، كأنه أصداء يطرق بها ضميره، يستيقظ فزعًا في منتصف الليل. قلبه ينبض بسرعة، كأن كل نبضة تذكره بخطأه، حاول ضبط أنفاسه المتسارعة وهو يجلس على سريره في الظلام، يستوعب الكلمات التي اخترقت هدوء الليل. وضع يده على قلبه، يحاول تهدئة الخوف الذي تسلل إلى أعماقه. قرر أن يواجه الأمر، فنهض وتوجه بسرعة إلى غرفة علي، ولكنها كانت فارغة، لم يجد علي بغرفته!! 


_______________________


استيقظ علي من نومه، ليجد نفسه مربوطًا بكرسي يجعله عاجزًا عن الحركة في غرفة يغمرها ضوء أحمر قاسٍ، تحيط به أدوات عنف وسكاكين تلمع بوهج غير طبيعي. كانت عيناه تلتفتان في كل اتجاه، يحاول فهم ما يحدث، فيما كان قلبه يدق بسرعة، كأن كل دقة تعلن عن الخطر القريب. بلع ريقه ببطء، متوترًا، ثم سمع خطوات تقترب من خلفه. 


صرخ بأعلى صوته، الخوف يخنق حنجرته: 


"أنا فين؟"


ظهر مصطفى أمامه، يمسك بسكين حادة، يمررها على شحذتها، يضحك بضحكة شريرة تنذر بشيء رهيب. قال بصوت مملوء بالتهديد:


"جبتك بنفس الطريقة اللي جبت بيها أختي، بس الموضوع هيختلف. انت كنت بتغت صبها، لكن أنا هعذ بك."


ارتعد علي، وأنفاسه تتسارع، ودقات قلبه تتلاحق، تتصاعد رعبًا مع كل خطوة يقترب بها مصطفى. نظر إلى السك ين بيد مصطفى وقال بصوت يملؤه الرعب: 


"مصطفى لا... مصطفى، أنا آسف... ارجوك ما تعمل فيا حاجة. أنا آسف... ارجوك، ابعد السك ينة دي عني. مصطفى، أنا غلطت وهصلح غلطتي. هتجوز أختك وأداري عليها، والطفل هيبقى ابني قدام الناس."


صرخ مصطفى بغضب، وكأن صراخه يرتد كالصدى في الغرفة المغلقة: 


"ليه هو كل واحد يقولي هداري على أختك؟! هداري على أختك! أختي مغلطتش، انتو اللي غلطتوا، وبتقصدوا تداروا على اللي عملتوه."


تلجلج علي في حديثه، محاولًا إيجاد الكلمات المناسبة للخروج من الموقف: 


"أيوة، انت صح، احنا غلطنا. إذا كنت أنا أو عمر، أنا اللي خليت عمر يخبي ويكدب على يارا، وماما ضغطت عليه. بس صدقني... صدقني، أنا بحب يارا وكل اللي عملته كان نابع من حب. أنا بس كنت خايف متبقاش ليا، فعملت دا في وقت غفلة شيطان... كلنا بنغلط يا مصطفى... وربنا بيسامح، انت مش هتسامح؟"


ضحك مصطفى بشكل مقزز، ثم توجه إلى الحائط المليء بالسكاكين، نظر لكل واحدة منهم بعناية: 


"دا ولا دا ولا دا... ولا يا علي تحب تمو ت بأنهي سك ينة؟ بص الناعمة دي مش هتوجعك."


صرخ علي بقوة، صوته متصدع من الرعب، يحاول النجاة:


"لاااا... لا يا مصطفى، ارجوك ما تقت لني... دا انت مبتإذيش نملة... هتق تل؟!"


وقف مصطفى، يضحك بشر مستفز، وقال بصوت جامد:


"يا بني، أنا قا تل تلت مرات قبل كده، فمتقلقش، الموضوع أنا متمكن فيه."


قال علي بصدمة تملأ صوته:


"تلاتة!!!"


اقترب مصطفى منه قليلاً، وهمس له بسرية كأنما يكشف سرًا مظلمًا:


"بما إنك هتمو ت بعد شوية، فمش هبخل عليك إني أقولك أسراري. أنا قت لت أخويا الصغير بالمخدة وانا عندي 13سنه... آه، أنا كان عندي أخ صغير. لقيت أمي مهتمية بيه، وساعات كتير مش بتسمعني عشانه. دايمًا مهتمية لأمره وبتخاف عليه وبيجيله ألعاب وحاجات كتير. وكنت بشوف حنية ليه أنا عمري ما دوقتها من أمي. وانا طيب... انتو نسيتوني ليه؟ اشمعنى الحنان دا يظهر ليه هو بس؟ كان يا حبيبي سبع شهور، مكملش دقايق تحت المخدة، ولقيتلك نفسه اتقطع. قومت واخده زي الشاطر في شنطة الدرس وأنا نازل، ودفنته عشان برضو إكرام الميت دفنه. مين شافتني حذر فزر ؟ جدتي... تسكت بقا وتقول عيل وغلط؟ لا، خلتني ارتكب جر يمة تانية وأقت لها، عشان كانت هتقول لأمي وتفضحني. قومت مزودلها في حبوب القلب اللي بتاخدها، والست راحت بالسلامة للي خلقها، وملحقتش تقول لأمي حاجة. يلا الله يرحمها، كانت ست طيبة، وكانت بتتعامل معايا كويس، بس لما قلبت عليا كان لازم اتصرف قبل ما تكشفني. فملقتش غير الحل دا. وهي كانت كبيرة في السن يعني خلاص شبعت من الدنيا، وأخويا كان لسه مشافش دنيا، فكنت بصبر نفسي بالكلام دا. وتوبت وقلت مش هق تل حد تاني، وبقيت ماشي جمب الحيط. بس شكلي كده رجعتله تاني."


نظر إليه بخبث واضح، فردد علي بخوف غير متماسك:


"بس انت قلت اتنين بس... مين التالت؟"


تغيرت ملامح مصطفى للحظة، ضعف عندما تذكر اسمه، كأن ذاك الاسم يحمل معه كل الذكريات المؤلمة. حاول تناسيه حتى أنه يوهم نفسه بأنه مازال على قيد الحياة معه. عيناه تلمعان بالحزن وهو يتذكر: 


"التالت يبقى... أعز أصدقائي..."


وفجأة، لمعت في عينيه لمحة من الجنون، وقال باندفاع: 


"مو ته... مو ته عشان كان أناني... فكر في نفسه ونساني. كان عايز يتجوز ست مطلقة مع إنها مطلقة ومعاها عيال، وكان عاوز يسافر معاها لبلد تانية لأنه اترقى في شغله. كان عاوز يسافر ويسيبني. قالي هنبقى نتواصل فيديو كول... يعني هو هيكمل حياته وأنا هرجع لوحدي تاني؟ هيسيبني بعد ما عوضني عن كل اللي مشوا... لا، وعلى إيه يفضل عايش أصلا؟ طب ما يمو ت. مهو في كلتا الحالتين ماشي من حياتي، بس الفرق إنه مش هيعيش حياته وينساني. حياته هتقف على ذكراي للأبد... قتلته بإيديا دول، رميته من فوق سطوح بيتهم من الدور العاشر. الكل توقع إنه انت حر لأن أمه مكانتش موافقة على جوازه. وأنا ساعتها عرفت استخبى واجي في العزا وأعيط... بس المرة دي مكنتش بمثل، أنا كنت زعلان فعلاً إنه ما ت بقولك كان اعز اصدقائي."


هز علي رأسه يمينًا ويسارًا، عيونه تتسع بصدمة وذهول مما سمعه : 


"انت مش طبيعي... انت مختل عقليًا... انت أكيد مش إنسان طبيعي زينا... قت لت تلاتة؟! وانت مفهم الكل إنك بتخاف من ظلك!!!"


ابتسم مصطفى بشر كامن، وقال بلهجة هادئة مرعبة: 


"واديني هقت ل الرابع... انت كمان هتبقى واحد منهم، ضحية. فاستعد يا بطل، ودا جزاتك. عشان تبقى مبسوط إن مفيش أدلة تثبت كده غير لما أختي تولد وتتفضح، مش دا اللي قولته؟ مش قولت أختي هتعاني وإنك يا تتجوزها يا تتفضح؟ مش مبسوط بنفسك أوي كده؟ كمل فرحتك على خير. يلا، اتمنى أمنية قبل ما أموّ تك."


كانت عينا علي تبرقان بشدة، لا يصدق ما يحدث حوله. أحقًا تلك هي نهايته؟ هل هو في حلم أم حقيقة؟ صرخ بقوة عندما لامست السك ين خديه، ونزلت بعض الد ماء على سترته.


قال مصطفى بمرح مرعب: 


"بشوفها بس حامية ولا لا!"


_________________


في منتصف الليل، وسط الصمت المهيب، كان مصطفى يلهث بقوة، بينما جسد علي المغطى بالتراب يتلاشى تدريجيًا تحت الأرض. وقف مصطفى بجانب الحفرة الغويطة التي حفرها بجانب المنزل المهجور في قلب الغابة. صوت ارتطام التراب بجسد علي كان يختلط بضحكاته التي تعلو بحدة في المكان، تعبيرًا عن انتصاره. كان الحفر عميقًا بما يكفي ليجعل العودة مستحيلة. 


بعدما أنهى دفنه، انتقل إلى الداخل، خلع ملابسه الملطخة بالد ماء، دخل الحمام وغسل جسده، مراقبًا المياه التي تتحول إلى لون أحمر قاتم وهي تلتف حوله في دوامة أسفل الدش. استحم جيدًا، كأنما يغسل عن نفسه خطيئة، ثم خرج بملابس مهندمة، وكأن شيئًا لم يحدث.


ركب سيارته القديمة التي كان يحرص على قيادتها في مثل هذه المهمات، قاد مبتعدًا عن المنزل المهجور، المخبأ وسط الأشجار الكثيفة، حيث لا يعرف مكانه الكثيرون، فقد كان قديمًا ومهجورًا، وتكاد الذاكرة الجماعية تتجاوزه.


عندما وصل إلى منزله، كانت يارا تنتظره على الباب، تجسدت على وجهها علامات القلق والخوف مما قد يحدث لمصطفى في هذا الليل الموحش.


قالت بصوت يرتجف قليلاً: "انت كنت فين كل دا يا مصطفى؟ قلقتني عليك." 


اقترب منها مصطفى، ضمها بحنانٍ مفتعل، وصوته يقطر هدوءًا : 


"متقلقيش يا حبيبتي، كله هيبقى تمام. عاوزك دايمًا تكوني مبسوطة."


استغربت يارا من تغير لهجته ومن سلوكه المفاجئ، لكن التعبير الطيب بدا كأنه يلقي بظل مريح على قلبها المثقل بالهموم. بادلته العناق، محاولة أن تطمئن نفسها بأن الأمور قد تكون بخير في النهاية، على الرغم من شعورها الداخلي بأن هناك شيئًا غريبًا.


تركها مصطفى، متوجهًا إلى غرفته، حيث وقف على الشرفة، يحتسي قهوته في انسجام وهدوء أعصاب لم يكن يشعر به من قبل. الهواء البارد في الليل كان يلفح وجهه، لكنه لم يشعر بشيء، فقط شعور غريب بالراحة والسلام الداخلي، كأنما هو الآن في ذروة قوته. 


بإحساس قوي من السيطرة على مصيره، تلمع في ذهنه فكرة مشوهة: إذا عرف العالم أنه قا تل، سيعلمون أنه ليس جبانًا، بل شخصًا قويًا حتى درجة العمى. هو يعلم في داخله أن قوته الحقيقية ليست في قت ل الآخرين، ولكن في التحكم بمشاعره والعيش مع الجرا ئم التي ارتكبها، دون أن يُكشف سره. 


بينما كان ينظر إلى الأفق، ابتسم ابتسامة باردة، متفكرًا في تلك القوة التي تمنحه السيطرة والراحة في الوقت ذاته. مشهد الليل كان هادئًا، لكنه حمل في طياته صمتًا مريبًا، صمت الليل الذي يخفي أسرارًا لا يمكن لأي ضوء أن يكشفها.


..... 


ايه رأيكوا في المفاجأة دي 🙂

توقعتوا مصطفى يبقى كده🫵🏻 لو متوقعتوش فبعد كده ابقوا خدوا بالكوا من الهادي اللي ماشي جنب الحيط لان مبيجيش من وراه خير ابدًا😂😂


البارت القبل الأخير هينزل بكرة وفاضل كده بارتين من الرواية اللي اخدت صحتي وعيني معاها دي انا اعصابي بتتعب معاكم والله زيي زيكم ومشكلة يارا تعبالي اعصابي انا كمان تخيلوا انتو اعصابكوا تعبانة من مشكلتها انا بق مطلوب مني احلها كمان🙂😂


وبعدين حوار مصطفى اللي جيه في الآخر دا بوظلي دماغي وعملت ايرور زيكم بالظبط فأحنا في الهوا سوا يا شباب🤩


        الفصل الواحد والثلاثون من هنا 

     لقراءة جميع فصول الرواية من هنا

تعليقات