بنات الحاره الخامس والخمسون 55 والاخير بقلم نسرين بلعجيلي


بنات الحاره الخامس والخمسون 55 والاخير بقلم نسرين بلعجيلي



المقدّمة......

كل حارة فيها حكايات، لكن حارتنا كانت مختلفة. فيها دموع نزلت من غير صوت، وصرخات ماتت في نص الليل، لكن كمان فيها بنات عرفوا يقوموا بعد كل وجع، يمسحوا التراب، ويبنوا من جديد، ويثبتوا إن الستر مش ضعف، وإن الكرامة مش رفاهية، دي حياة.

في زمن الظلم، البنات دي كانت المعجزة. وفي وسط الخراب، هما اللي عمروا الحارة بالحب، وبالنية الطيبة، وبالقوة اللي جاية من قلب موجوع بس مؤمن.

كلام نسرين..

“كنت دايمًا أؤمن إن أقوى انتقام من القهر، هو إنك تعيش. إنك تكمّل، تضحك، وتثبت إنهم ما كسروش فيك غير الصبر. بنات الحارة علموني إن الوجع مش نهاية، وإن البنت لما توقف، الدنيا كلها بتقف احترامًا.”

مرّ وقت…

أيام راحت، وأيام جات، والوجع بقى ذكرى خفيفة في قلوبهم، وشهر كامل عدى، والمشروع أخيرًا وقف على رجليه.
"بنات الحارة – 4Cats" بقى إسم معروف.
الطلبات الأونلاين ما بتقفش، والناس بتكتب تعليقات حلوة، وكل بنت فيهم بقت حاسة إن تعبها ما راحش هدر.

صفاء كانت أكثر واحدة اتغيّرت. خرجت من الحالة اللي كانت فيها بعد فراق ريان، بقت تشتغل الصبح في المصنع، وبعد الظهر تطلع على السطح تساعد البنات. ضحكتها رجعت، وبقت قوية زي زمان.

زينب بقت ست السطح بمعنى الكلمة، تفضل بالساعات تعمل أكل، ريحة الطبيخ الحلوة ماليه المكان، وكل طبق بيطلع من تحت إيديها كأنه حكاية جديدة من "بنات الحارة".

نورهان ورحاب بقى عندهم طاقة غير عادية، طول النهار رايحين جايين، مره يوصلوا الطلبات، ومره  ينزلوا السوق يشتروا الحاجات اللي ناقصة.

فايزة، مرات أخو نورهان، دخلت معاهم كمان في الفريق. هي متخصصة في المحاشي، تساعدهم كل يوم، وتاخذ باليومية مقابل تعبها. ضحكها بقى يملأ المكان، بعد ما كانت طول الوقت ساكتة.

أسماء كمان حياتها اتبدلت. رجعت الجامعة، وبقت بتتدرب في مكتب أسامة اللي شهرته بقت نار بعد اللايف. بقى عنده قضايا كثير، وإسم كبير في المحاماة. علاقتهم لسه زي ما هي – فيها وجع، بس كمان فيها صدق واحتواء. الاثنين بيروحوا مع بعض عند الدكتورة النفسية يحاولوا يرمموا نفسهم من اللي كسرهم، يتكلموا، ويواجهوا، ويتعلموا يبتدوا من جديد.

أهل أسماء سكنوا في شقة أسامة القديمة. أمها بتروح كل يوم تساعد البنات في المشروع، وأبوها بقى يشتغل على توك توك صغير، يحس إنه لسه نافع، ولسه قادر يعيش بكرامة.

بطة ما بقتش تطلع من البيت، بعد موت ابنها اتكسرت. قلبها بقى حزين، وصوتها إختفى من الحارة بعدما كان دايما عالي فيها.

أما فتنة…
فمازالت زي ما هي، شرّها ما خلصش. إستلمت شغل جوزها بعد ما اترمى في السجن، وبقت ماسكة التوأم لوحدها، ومعاها واحدة بتساعدها في تربيتهم. لكن الحقيقة..... هي ما بتربيش.. هي بتنتقم حتى من عيال إبنها.

عصام اتدمر خلاص. بيسهر كل ليلة، يشرب ويسكر لحد ما يغيب عن الوعي، كأنه بيهرب من وشّ نفسه ومن كل اللي ضيّعه. فضايحه في كل مكان، والناس بقت تبصّ له بشفقة أكثر من كره.

أما في ناحية تانية من الحارة، كانت فيه فرحة صغيرة بتتولد.. ياسر أخيرًا خطب نورهان رسمي. البيت كله نور، والبنات فرحانين، ضحكهم رجع يملأ السطح، ونورهان كل شوية تبصّ في دبلتها وتبتسم بخجل.

أما صفية.. فالغيرة كانت بتاكلها أكل. نار حقيقية، مولعة جواها، مش قادرة تستوعب إزاي زينب – اللي كانت بتخاف من ظلها – بقت ست قوية، وشغالة، وبتكسب وبتصرف على نفسها وعلى البيت كأنها راجل.

كانت كل يوم تصحى الصبح تبصّ في المراية وتشوف وشّها شاحب، وتقول في سرها :
"هي إزاي قلبت حالها كده؟ كانت بتعيط قدامي زي العيال، دلوقتي بقت واقفة زي جبل."

نسرين بلعجيلي 

كل مرة تشوفها طالعة أو نازلة، بضحكتها الهادية ولبسها النظيف، تحس نار جوّاها بتزيد، وخاصة لما تشوف أهل الحارة بيحيّوها باحترام، والبنات حواليها بيضحكوا من قلبهم.
صفيه كانت بتحاول تخبي كرهها، بس عينيها كانت بتفضحها. إيدها وجعاها طول الوقت، كل ما تبصّ عليهم تحس بلسعة كأنها عقاب،
وتفتكر اللي حصل زمان، لما مدّت إيدها على زينب وضربتها. كل مرة الألم بيزيد، كأنه صوت من ربنا بيقولها :

"كفاية ظلم."

هاجر، بنتها، بدأت تفهم اللعبة. إستوعبت كلام جوزها وحماتها، وبقت تقلل زيارتها لأمها، ولا حتى تبعث فلوس زي الأول. تعبت من المشاكل والفضايح، وبقت عايزة تبعد عن النكد.
أما صفية، فما قدرتش تستوعب البُعد ده، ولا التغيّر اللي حصل حواليها. حست إن الدنيا كلها بتبعد عنها واحدة واحدة، وزينب بس هي اللي بتعلى. ومن كثر الغيظ، بدأت تطلع إشاعات على المشروع، وتتكلم كلام وحش عن البنات في الحارة :
"دول مش بنات محترمة، دي الحارة كلها بقت مطبخهم."

بس ربنا كان له حكمة. كل كلمة سوء طلعت من بقها، كانت تترد عليها بنجاح جديد.
المشروع كبر، والطلبات زادت، والإسم بقى معروف حتى برا الحارة.

الناس نسيت كلامها، وبقت تفتكر بس مجهود البنات، وزينب بقت مثال يتقال لكل بنت قوية وقفت بعد ما وقعت.

أما صفية…
فكانت كل يوم تبص على إيديها اللي بتوجعها، وتحس إنها مش وجع عادي، ده وجع ذنب، وجع كراهية، وجع ستّ بتحترق بنارها هي.

الحارة نفسها بقت شبه زمان، بس أحلى.. فيها ريحة أمل، وفيها بنات وقفوا على رجليهم بعد ما كانوا منهارين.

عند فارس 

الليل كان ساكن، والبيت كله غارق في هدوء ثقيل. فارس داخل الصالة، عيونه شاحبة وتعبان من التفكير، وأمه قاعدة على الكرسي بتتفرج على التلفزيون بس عقلها مش معاه.

ماهيتاب كانت جنبها، أول ما دخل فارس، بصّوا له سوا من غير ما ينطقوا.
الأم قالت وهي بتزفر :
"مالك يا فارس؟ بقالك أيام مش على بعضك، وشك باين عليه الهم."

قعد قدامها، سكت شوية كأنه بيختار كلماته، وبعدين قال بهدوء :
"ماما، أنا عايز أتكلم معاكِ بصراحة."

الأم رفعت حاجبها وقالت بحذر :
"خير يا ابني، في إيه؟"

ماهيتاب دخلت بينهم وقالت بخفة دم :
"أكيد الموضوع له علاقة ببنت، صح يا فارس؟"

فارس إبتسم ابتسامة خفيفة وقال :
"أيوه… زينب."

الأم شدّت نفسها وقالت بسرعة :
"زينب؟! بنت الحارة؟! هي دي اللي كل الكلام بيطول عنها وعن عيلتها؟"

فارس قال بهدوء :
"أيوه، بس قبل ما تحكمي عليها، إسمعيني للآخر."

الأم سكتت، وقالت ببرود :
"قول يا فارس، أنا سامعاك."

ماهيتاب قعدت تميل بجسمها ناحيته وقالت :
"إحكي يا فارس، هو في إيه بالظبط؟"

تنهد فارس، وبصّ في الأرض وهو بيحكي :
"عارفين نوارة اللي ماتت القصه اللي الكل بيحكي عنها ؟ زينب كانت صاحبتها، كانت أكثر واحدة وقفت جنبها، ساعدتها لما كانت بتتعرض للعنف من جوزها، ولما ماتت نوارة، كانت زينب اللي شايلة همّها وهمّ أهلها."

الأم قالت بدهشة :
"طب ليه ما سمعناش الكلام ده قبل كده؟"

فارس :
"ماحدش يعرف الحقيقة يا ماما. البنت دي شافت العذاب في بيتها. صفية – مرات أبوها – كانت بتعاملها كأنها خدامة، تسخّرها في كل حاجة، وتغلط فيها قدّام الناس، وأبوها ساكت كأنه مايعرفهاش."

ماهيتاب قالت بهدوء :
"يا حبيبتي… طب إزاي مستحملة كده؟"

فارس قال بصوت متأثر :
"ماعرفش، يمكن علشان قلبها طيب. كانت دايمًا تقول (ربنا شايف). عمري ما شفتها بترد الإساءة بإساءة."

الأم فضلت ساكتة، وبعدين قالت وهي بتتنفس ببطء :
"بس يا فارس، الناس دي مختلفة عننا، أنا مش مرتاحة، أنا خايفة عليك منهم."

هو بصّ في وشها برجاء وقال :
"ماما، مش كل الناس شبه بعض.
مش علشان هم غلابة يبقوا وحشين. اللي في الحارة دي عندهم كرامة أكثر من ناس عايشة في القصور."
Nisrine Bellaajili
ماهيتاب إبتسمت وقالت لأمها :
"هو معاه حق يا ماما. البنت واضح إنها كويسة، ونظيفة. كفاية إنه بيتكلم عنها بالاحترام ده."

الأم بصّت لفارس وقالت بحدة بسيطة :
"وإنت متأكد يا فارس إن دي اللي هتسعدك؟ مش مجرد عطف أو شفقة؟"

هو رفع راسه وقال بثقة حقيقية :
"أنا عمري ما حبيت بالشكل ده يا ماما. زينب غير أي بنت قابلتها، بوجودها بحس إن الدنيا بتتهدى، حتى وجعي بينسى نفسه."

سكت لحظة، وبعدين قال بصوت واطي :
"أنا مش طالب منك غير إنك توافقي تروحي معايا تخطبيها، وتشوفيها بعينك، وبعدها أحكمي زي ما تحبي."

الأم بصّت له، وشها ما بقاش فيه غضب، بس فيه خوف أم فعلاً بتحب إبنها.

قالت بهدوء :
"طيب يا فارس، بس لو البنت دي فعلاً زي ما بتحكي، أنا اللي هاروح أطلبها."

إبتسم  فارس لأول مرة بجد من أيام وقال :
"وعد يا ماما؟"

ردت عليه بحب :
– "وعد يا ابني، بس خلي بالك من نفسك، ومنها."

فارس ما صدّقش دعوة أمه ولا جملتها اللي قالتها "لو البنت دي زي ما بتحكي، أنا اللي هاروح أطلبها." الكلمة دي كانت كأنها فتحت له باب حلم كان مستنيّه من زمان.

تاني يوم على طول، لبس الجاكيت البني اللي بيحبه، ونزل رايح الحارة وقلبه بيدق بسرعة، مش عارف خايف ولا فرحان، بس حاسس إن الخطوة دي هتغيّر كل حاجة.

الشوارع كانت زحمة كالعادة، بس هو كان ماشي ووشه فيه عزيمة. أول ما دخل الحارة، الناس كلها بدأت تبص عليه :
مين الشاب المهندم ده اللي جاي عند بيت حامد؟

وقف قدام البيت، خذ نفس عميق، وخبط على الباب.
أبو زينب طلع، لابس جلابيته القديمة، ملامحه فيها تعب السنين، بس في عينيه نظرة رجولة.

فارس قال باحترام :
– "السلام عليكم يا عم حامد، أنا إسمي فارس، وجاي أطلب إذنك أشوفك في موضوع مهم."

أبو زينب بصّ له باستغراب وقال :
"خير يا ابني؟"
فارس :
"الموضوع بيخصّ بنتك زينب."

الكلمة نزلت زي المفاجأة. الراجل سكت ثواني، وبعدين قال وهو يشاور له يدخل :
"إتفضل يا ابني."

دخل فارس، وقعد في الصالة البسيطة اللي ريحتها فيها شاي وذكريات قديمة.
رجاله الحارة اللي كانوا قاعدين على القهوة سمعوا إن فيه شاب غريب جاي لبيت حامد، فدخل منهم كذا واحد، بدافع الفضول والاحترام، يقعدوا ويسمعوا.

فارس اتكلم بكل أدب وثقة :
"أنا جيت من الباب راجل، وجاي أتقدّم رسمي لزينب."

الناس اتبادلت نظرات استغراب وإعجاب، وأبو زينب قال بصوت متردد :
"يا ابني، البنت دي اتظلمت كثير، واحنا مش واثقين إن فيه حد هيقدر يعوضها."

فارس ردّ وهو باصص في عينيه بثبات :
"أنا مش جاي أعوضها، أنا جاي أبدأ معاها حياة نظيفة من غير ماضي ولا وجع."

الكلمة دي خلّت واحد من رجالة الحارة، عم حسن، يقول بصوت عالي :
"الواد ده راجل والله، أنا أأمن عليه."

واحد تاني قال :
"بس لازم نبلغ خالها، هو الكبير دلوقتي بعد أبوها."

فارس قال بهدوء :
"طبعًا، وده طلبي. عايز الموضوع كله يبقى من بابه، ونقعد كلنا سوا زي الأصول ما بتقول ."

إتفقوا إنهم يبلغوا خال زينب، اللي عايش في البلد من زمان وما كانش عارف تفاصيل كثير. الراجل الكبير اللي لما يسمع بالموضوع هييجي مخصوص، وساعتها، الحقيقة القديمة هتطلع للنور :
ورث زينب، والسر اللي كانت صفية مدارياه سنين.

فارس خرج من البيت بعد ما أخذ الموعد، قلبه بيرقص جوه صدره، والحارة كلها بتبص ورا ظهره، بين احترام ودهشة، كأنهم بيشوفوا فصل جديد بيتكتب في حكاية "بنات الحارة". 

فارس كان قاعد في الكافيه اللي على ناصية الحارة، وشه باين عليه جدّية غريبة، عينيه فيها لمعة مختلفة كأنها ماسكة طرف خيط مهم. دخل عليه حسن، ووراهم أسامة وجمال وياسر. قعدوا حواليه، وكلهم ملاحظين إن فيه حاجة كبيرة عايز يقولها.

أسامة قال أول واحد :
"مالك يا فارس؟ وشك مش مريح، حصل إيه؟"

فارس اتنفس نفس عميق وقال :
"فاكرين الفيديو اللي قلب الدنيا؟ اللي اتسرب لأسماء ودمّر حياتها؟"

جمال قال بسرعة :
"آه، بس ماحدش عرف مين اللي وراه بالظبط."
نسرين بلعجيلي 
فارس هزّ راسه وقال :
– "عرفت. وصلت للمحل اللي اتسحب منه الفيديو الأصلي، الكاميرا كانت عند عامل هناك، بس اللي باع الفيديو هو جوز الشغالة اللي كانت شغالة عند فتنة."

الصدمة خبطت الكل في نفس اللحظة.

ياسر قال بصوت مبحوح :
"جوز الشغالة؟ يعني واحدة من جوّه بيتها هي السبب؟"

فارس أومأ وقال :
"بالظبط، والموضوع مش صدفة. فيه حاجة أعمق. الراجل قال إن مراته كانت مرعوبة قبل ما تمشي، وكانت بتقول له إنها شايفة حاجات غلط بتحصل في البيت، بس كانت خايفة تتكلم."

أسامة وقف وقال بحدة :
"لازم نروح لها فوراً. شهادتها ممكن تغيّر كل حاجة في القضية. لو نطقت، فتنة هتقع رسمي."

الكل وافق، وركبوا العربية مع بعض، طول الطريق الصمت مالي الجو، ولا صوت غير دقات قلوبهم اللي بتجري قبلهم.
الجو كان غريب، ريحة البحر رايحة جاية مع الهوا، وفارس واقف قدام محل موبايلات صغير في شارع جانبي في إسكندرية. اللافتة باهتة، والمحل مليان شواحن وموبايلات قديمة. جنبه حسن، وأسامة، وجمال، وياسر.

أسامة دخل وقال للراجل اللي ورا الكاونتر :
"إحنا عايزين نسأل عن موبايل كان عليه فيديو مهم، الفيديو ده اتسحب من هنا، من حوالي أكثر من 6 شهور ."

الراجل بصّ لهم بتردد، وبعدين قال :
"آه… إستنوا، أظن فاكر الحكاية دي. اللي جاب الموبايل ده كان راجل بلدي كده، شكله مش مظبوط. قال إن الموبايل لمراته اللي كانت شغالة في بيت ناس أغنيا."

فارس اتنبه وقال بسرعة :
"إسمها إيه مراته؟"
الراجل :
"إسمها (جميلة)، كانت بتشتغل عند ست إسمها حنان، في سيدي بشر."

الكل اتجمد في مكانه، الإسم لوحده كأنه رجّ الدنيا حواليهم.

جمال قال :
"يبقى لازم نروح لها فورًا."

الراجل قال بسرعة :
"بس خذوا بالكم، جوزها مدمن، وبيعمل مشاكل، الناس هنا بتخاف منه."

فارس قال بحزم :
"مش مهم، إحنا لازم نعرف الحقيقة ممكن تدلنتوعلى العنوان ."
راجل : من عينيا 

ركبوا العربية وسافروا لحد بيت جميلة. بيت صغير على أطراف الحارة القديمة في إسكندرية، حواليه عيال بتلعب، وريحة الحشيش طالعة من فوق السلم.

خبطوا الباب، بعد دقيقة فتحت ست بسيطة، وشها شاحب، وعينيها فيها خوف ودهشة.

فارس قال بهدوء :
"إحنا مش جايين نأذيكِ يا مدام جميلة، إحنا بس عايزين نسألك عن الست حنان اللي كنتِ شغالة عندها."

جميلة اتوترت، خطت لورا وقالت بتلعثم :
"أنا… أنا ماعرفش حاجة… ده كان زمان."

أسامة قال بهدوء :
"حنان ماتت، يا جميلة."

الست اتصلبت مكانها، إيدها مسكت الباب بقوة كأنها محتاجة تتسند، صوتها خرج واهي :
"ماتت؟!"

فارس أومأ براسه وقال :
"أيوه، ماتت بس قبل ما تموت إتعذبت كثير، وناس كثير إتأذت بسبب اللي حصل في البيت ده. وإنتِ الوحيدة اللي كنتِ هناك، الوحيدة اللي تعرف الحقيقة."

جميلة بدأت ترتعش، الدموع غرّقت عينيها، وقالت بصوت مكسور :
"أنا ما كنتش عايزة أتكلم، كنت بخاف."

أسامة قرب منها وقال بحنية :
"قوليلنا، بالله عليكِ، الحق محتاج صوتك دلوقتي."

جميلة مسحت دموعها وقالت وهي بتنهار :
"الست فتنة هي السبب، هي اللي كلمت حنان في التليفون قبل ما تموت. قالتلها بالنص : (إفتكرتِ إنك هتعيشي مرتاحة بعد اللي عملتيه؟
أنا اللي دبّرت اللي حصل لي اختك ، وخلّيت الناس يشوفوا الفضيحة بعينيهم عشان المره الجايه تعرفون انتم بتتعاملو مع مين و تعرفو مين هي فتنه .)"

الكل اتجمد، ياسر قال بغضب :
"يعني هي اللي خططت لجريمة الاغتصاب؟"

جميلة هزت راسها وقالت :
"أيوه… هي اللي دبرت كل حاجة، وجوزي هو اللي باع المحمول للمحل لما الست حنان و قعت انا مسكت التليفون اشوف ايه اللي خلاها توقع من طولها و معرفش ليه بعت الفيديو عندي على المحمول ،  جوزي قالي إنها شغلانة وهتجيب فلوس، ما كانش يعرف إنها جريمة. بس لما شاف الدم والخراب اللي حصل بعدها، هرب، سابني، وولع في البيت."

فارس بصّ ليها وقال بحزن :
"ليه ما قلتيش من البداية؟"

جميلة صرخت وهي بتعيط :
"كنت بخاف، الست دي كانت بتهدّدني، وقالتلي لو فتحت بقي هتدفني حية وغيرت السكن ، بس لما سمعت إنها لسه عايشة ومحصلش ليها حاجه ، كنت بدعي ربنا حد ياخذ حقي منها وحق حنان كمان، عشان تموت مظلومة بالشكل ده."

أسامة مسك إيدها وقال بهدوء :
"خلاص يا جميلة، شهادتك دي هتتكتب في المحضر، وحتكون المفتاح اللي نقفل بيه باب الشر ده للأبد."

جميلة قعدت تبكي بصوت عالي، وفارس بصّ لباقي الشباب وقال بصوت ثابت :
"الوقت جه… العدالة خلاص قربت."

أسامة كان راجع من إسكندرية والعربية ساكتة، ولا صوت غير أنفاسهم المتوترة. فارس سايق بصمت، وجمال ماسك ورقة شهادة جميلة بإيده كأنها كنز، وياسر قاعد وبيفكر في كل اللي سمعوه.

أسامة قطع الصمت وقال بنبرة حاسمة :
"مش هينفع نسيب اللي سمعناه كده. دي مش شهادة عادية، دي مفتاح القضية كلها. أنا هكلم نجلاء من الجمعية النسائية دلوقتي."

طلع الموبايل، إتنفس نفس عميق وضغط الرقم :
"ألو! نجلاء، معاك أسامة."

ردت عليه :
"أيوه يا أستاذ أسامة، فيه جديد؟"

أسامة :
"جديد جدًا، وعظيم كمان. لقينا الشغالة اللي كانت في بيت حنان وقت الحادثة، واعترافها واضح وصريح إن فتنة هي اللي دبّرت كل حاجة."

صمت لحظة على الطرف التاني، وبعدين نجلاء قالت بصوت متأثر :
"يعني أخيرًا عندنا دليل حقيقي؟"

أسامة ردّ بثبات :
"مش بس دليل، عندنا اعتراف مباشر. جميلة حكت إن فتنة اتصلت بنفسها بحنان، واعترفت إنها اللي حرضت على الاغتصاب، وبعثت الفيديو علشان تقتلها بالقهر. أنا هجهّز المحضر وأبعت النسخة الصوتية فورًا."

نجلاء قالت بحماس وحزن في نفس الوقت :
"الملف ده هيتفتح من جديد. أنا هقدّم طلب رسمي لإعادة التحقيق، وهخاطب النيابة العامة علشان نطلب إعادة محاكمة فتنة."

أسامة قال :
"كويس، المرة دي مش هنسكت. لازم نثبت للعالم كله إن الحق ما بيموتش، حتى لو اتأخر."

نجلاء ردّت بنبرة قوية :
"وأنا أوعدك، الجمعية كلها هتتحرك. هنقدم بلاغ رسمي وهنطلب حماية لأسماء وأمها، وهنتابع القضية لحد آخر نفس."

أسامة قفل الموبايل، وبصّ للشباب اللي حواليه وقال بابتسامة صغيرة فيها تعب وأمل :
"الباب اللي اتقفل من سنين، إتفتح النهارده."
نبض الحياه للكاتبه نسرين بلعجيلي 
جمال قال وهو بيحط إيده على كتفه :
"ربنا كبير يا أسامة، ماكنّاش مصدقين إننا هنسمع صوت حنان تاني، بس واضح إن روحها لسه بتدافع عن حقها."

فارس قال وهو بيبص من الشباك على البحر :
"البحر عمره ما بيخبي الحقيقة، يمكن ياخذها شوية، بس لازم يرجعها."

أسامة مسك الورق بإيده وقال :
"المرة دي، القضية مش بس قضية حنان، دي قضية كل بنت اتظلمت وسكتت."

النهار كان رايق، الشمس داخلة من الشباك، وريحة الأكل الجميل طالعة من المطبخ.
زينب بتلف حوالين نفسها متوترة،
ونورهان بتضحك :
"إهدي  يا بنتي، دي زيارة عادية مش لجنة امتحان."

زينب مسكت طرحتها وقالت بتوتر :
"أم فارس يا نورهان، يعني الحماة المستقبلية، دي مش أي زيارة."

رحاب دخلت من المطبخ شايلة العصير :
"كله تمام، بس لو صفية فتحت بُقها كالعادة، يبقى ربنا يستر."

صفاء ضحكت وقالت :
"يا بنتي دي أول ما تشوف ناس شكلهم راقي بتتلون على طول."

وفعلاً… بعد لحظات، صوت الباب خبط، وزينب راحت تفتح.
لقِت قدامها أم فارس لابسة طقم أنيق جدًا، وبنتها ماهيتاب شكلها شيك، متربية على ذوق وهدوء. زينب اتلبخت للحظة وبعدين قالت بخجل :
"أهلاً وسهلاً يا طنط، منورانا والله."

أم فارس إبتسمت :
"ده نورك يا بنتي، أنا بس حبيت أشوفك بنفسي."

دخلوا الصالة، والبنات رحّبوا بيهم بأدب وذوق. لكن ما لحقتش أم فارس تقعد، إلا وصفية طلعت من أوضتها، لابسة طرحه باهتة وجلابية باينة إنها قديمة، بس عينيها بترقب لبسهم الغالي ولمعان الذهب اللي في إيد أم فارس.
وشّها اتبدّل، وغيرتها ولّعت.

قربت بابتسامة مصطنعة وقالت :
"أهلاً وسهلاً… نورتونا. إحنا ناس على قدّ حالنا، بس الحمد لله بنحب الناس الكويسة."

أم فارس ردّت بذوق :
"الناس بأخلاقها مش بلبسها يا ست الكل."

بس صفية ما سكتتش، بصّت في زينب وقالت بصوت فيه لسعة :
"البنت دي على طول عاملالي دوشة في البيت، لسانها طويل، ودماغها ناشفة، حتى لما أقولها كلمة تزعقلي قدام الناس."

زينب عينيها دمعت من الحرج، والبنات اتلخبطوا.

رحاب حاولت تغيّر الموضوع بسرعة :
"يا طنط تشربي شاي ولا عصير؟"

صفية قالت بسرعة وهي بتضحك بسخرية :
"هاتلها عصير يا حبيبتي، أصل الناس الراقية ما بتحبش الشاي بتاع الحارة."

ضحكها كان مستفز، لكن أم فارس ما اتأثرتش، بصّت لزينب وقالت بهدوء :
"إنتِ بتشتغلي يا بنتي؟"

زينب ردّت بخجل :
"أيوه يا طنط، عندنا مشروع أكل بيتي فوق السطح، وبنبيع أونلاين كمان."

ماهيتاب قالت بإعجاب :
"بجد؟! ده حلو جدًا."

صفية ما استحملتش، قاطعِتهم وقالت بضحك مصطنع :
"مشروع! دي بتعمل طواجن ورز بالشعرية على السطح ومسمياه مشروع. بس يعني ربنا يسهّل…"

ضحكة خفيفة خرجت من أم فارس، وقالت وهي بتبصّ لها بنظرة ذكية :
"يا سلام! ده مشروع محترم جدًا يا ست صفية، الشغل مش عيب، واللي بيبدأ من الصفر هو اللي بيكمل."

صفية وشّها قلب ألوان، اتكسفت لكن حاولت تلملم نفسها :
"أكيد، بس أصلها لسه صغيرة ودماغها ناشفة."

أم فارس قامت واقفة وقالت بابتسامة فيها مغزى :
"أنا شايفة دماغها مش ناشفة، شايفة فيها طيبة وإصرار. وربنا بيحب اللي بيتعب عشان يعيش بكرامة."

سكتت لحظة، وبصّت في عيون زينب اللي كانت على وشك البكاء من الخجل وقالت لها :
"خليكِ زي ما إنتِ يا بنتي، ما تغيّريش نفسك علشان حد."

صفية اتخنقت، الغيرة خنقتها من جوّه. حست إنها بتخسر المشهد وهي اللي كانت ناوية تكسبه.

وأول ما أم فارس قامت تمشي، قالت صفية بسرعة بنبرة لاذعة :
"بس خذي بالك، فارس إبنك متعود على مستوى تاني، يعني بنتي غلبانة وبيئة شوية، ماكنتش عايزة تتظلمي انت و ابنك ."

أم فارس بصّت لها بنظرة قوية وقالت بهدوء :
"البيئة مش في المكان يا ست صفية، البيئة الحقيقية في القلوب."

وسابت الكلمة تقطعها زي السكين.
خرجت أم فارس وماهيتاب، والبيت بقى كله صمت. البنات بصّوا لبعض، رحاب قالت بهدوء :
"شكلها يا زينب حبتك من أول نظرة."

صفاء ضحكت وقالت :
"وشكل صفية خلاص هتولّع." 

الليل كان داخل بهدوء، وفارس واقف في البلكونة، بيشرب قهوته وهو قلبه مش ثابت. من أول ما أمه خرجت وهو مش قادر يهدى، كل شوية يبص في الساعة، ولما سمع صوت العربية وقفت تحت، جري على الباب.
فتح بسرعة :
"أمي! أخيرًا رجعتِ، إحكيلي، شُفتوها؟"

أم فارس دخلت وهي ساكتة، وماهيتاب وراها، ملامحهم فيها تفكير مش بسيط :
"احنا شفناها يا فارس."

قالتها بهدوء، بس النبرة فيها حاجة غريبة. فارس قرب منها وهو بيحاول يقرأ وشّها :
"يعني؟ حبيتوها ولا لأ؟"

ماهيتاب إبتسمت وقالت :
"هي طيبة جدًا يا فارس، وشايفة إنها بنت قوية، بس…"

فارس قاطعها بسرعة :
"بس إيه؟!"

أم فارس سابت الشنطة، وقعدت على الكرسي وقالت وهي تفرك صوابعها بتفكير :
"بص يا إبني، البنت شكلها محترمة جدًا، بس بيتها صعب، والناس اللي حواليها، ربنا يعينهم."

فارس :
"يعني إيه صعب؟!"

تنهدت وقالت :
"مرات أبوها ست صعبة، غيورة، ولسانها لاذع. من أول ما دخلنا وهي بتحاول تبوّظ الكلام، تحكي كلام وحش عن البنت. بس أنا ما خذتش بكلامها، أنا شُفت بعيني."

فارس اتنفس براحة، بس أمه كملت بنبرة جادة :
"بس برضه خُذ بالك، العيلة دي عندها مشاكل كثير، مش عايزاك تتورط في وجع راس. أنا شايفة إن البنت دي اتعذبت كثير، وأنا مش عايزاك تكون سبب تعب جديد ليها ولا ليك."

فارس قال بحزم، صوته واثق ومليان حب :
"أنا مش هكون سبب تعبها يا أمي، أنا هكون سبب راحتها. هي اتظلمت كفاية، ومهما كانت ظروفها، دي أنظف بنت شُفتها في حياتي."

ماهيتاب ابتسمت وقالت لأمها بهدوء :
"بصراحة يا ماما، لما شُفت زينب، حسّيت إن عندها حاجة مش عند بنات كثير، فيها براءة وكرامة في نفس الوقت."

أم فارس سكتت، بصّت في عيون إبنها وقالت وهي تتنهدة :
"أنا مش ضدك يا فارس، بس خُذ بالك من نفسك. العالم اللي هما عايشين فيه غير عالمنا، وأنا شايفة الحقد اللي في عيون مرات أبوها، البنت دي لو دخلت بيتك لازم تكون قوي علشان تحميها."

فارس مسك إيد أمه وقال بلطف :
"أنا قوي بيكِ، وببركتك. بس بلاش ترفضيها علشان فقرها يا أمي، هي عندها كرامة الدنيا كلها."

أمه بصتلُه شوية وسكتت، وبعدين قالت بابتسامة خفيفة :
"اللي يشوفك كده يعرف إنك خلاص، إتعلقت بيها."

فارس إبتسم وقال بثقة :
"مش بس اتعلقت بيها، أنا قررت، يا أمي، هروح أخطبها رسمي، قدّام أهلها وناسي كلهم."

ماهيتاب فرحت وقالت :
"وأنا هاجي معاكم المرة الجاية."

أم فارس ضحكت وقالت :
"هو أنت كده مش سايبلي خيار."

وبصت له بنظرة فيها رضا خفي،
وقالت :
"روح يا فارس، بس خليك عارف، البنات اللي زي دي، مش بيتحبّوا بس، دول بيتصانوا."
نسرين بلعجيلي 
فارس إبتسم وعينيه فيها نور الأمل اللي كان مستنيه من زمان، وقال وهو بيبص في المراية كأنه بيكلم نفسه :
–"الوعد يا زينب، المرة الجاية مش هكون ضيف، هكون جاي أطلبك رسمي."

المساء كان دافي وريحته بخور، صوت الأذان من بعيد بيختلط بصوت الحمام وهو بيرجع لعشه. المسجد منوّر، والناس قاعدة في صمت انتظارًا للمجلس اللي فارس حدّد ميعاده بنفسه.

فارس دخل ومعاه عمه وخاله، وشكله كان متماسك، بس عينيه فيها رهبة. سَلّم على الحاج عثمان والشيخ، وبعدها جلس جنبهم وقال باحترام :
"زي ما اتفقنا، النهارده أنا جاي رسمي أطلب إيد زينب بنت عم حامد على سنة الله ورسوله."

الشيخ بصّ في وشّ حامد وقال بابتسامة :
"سمعت يا حامد؟ الشاب جاي بالحلال."

حامد كان قاعد ووشه متغيّر، صوت خطوات خالها وهو داخل جنبه خلاه يلتفت، وقال الراجل بصوت هادي لكنه مليان حزم :
"قبل ما نرد، لازم أقول كلمتين مهمين، لأن فيه حق متأخر سنين لازم يرجع لأصحابه."

الكل سكت، وفارس بص له باهتمام.
الخال رفع ورق قديم وقال :
"دي حوالات بنكية كانت بتتبعت بإسم صفية، كل شهر ألفين جنيه من أم المرحومة — جدة زينب — لحد يوم وفاتها."

الحاج عثمان اتفاجئ :
"يعني الست الله يرحمها كانت بتبعث لبنتها؟!"

الخال قال وهو بيهز راسه :
"أيوه، كانت بتبعث لبنتها، بس للأسف الفلوس كانت بتروح على حساب صفية. وأنا سكت سنين لأني كنت فاكرها بتصرفها للبنت، لكن لما شُفت اللي حصل لزينب، قلت لا، الحق لازم يرجع لأصحابه."

حامد اتنفس بصعوبة وقال بنبرة ندم :
"يعني أنا طول الوقت كنت فاكرها بتساعدنا من نفسها لما كنا بنتزنق ؟!"
الشيخ: ماهي اعترفت إن كانت بتجيلها فلوس 

الخال مدّ إيده بورق تاني وقال :
"غير كده كمان، أختي — أم زينب — كان ليها نصيب في ورث أمها، وأنا جيت النهارده أسلّمه ليك كوليّ أمرها، بس بشرط، يتسلّم لزينب بعد جوازها رسمي، قدّام الناس كلها."

الشيخ بصّ حوالين الدائرة وقال :
"سبحان الله، كل مظلوم ليه يوم بس انا شايف أن الورث يتسلم لي زينب وهي في بيت جوزها فارس معلش يا حامد.انت عارف اللي عندك.."

الحاج عثمان إبتسم وقال وهو بيبص لفارس:
"أهو ربنا بيكمّل الفرح بالعدل، البنت دي كانت دايمًا تقول : الحق مايموتش، وأهو النهارده بيرجع لها."

فارس وقف وقال بكل رجولة وهدوء :
"وأنا أوعدكم إن الحق ده هيترجّع مضاعف. مش بس هحافظ على زينب كزوجة، هحميها من أي حد ظلمها أو حاول يهدّها."

الخال إبتسم وقال وهو بيبص في وش فارس :
"كلام راجل… وأنا راضي ومبارك."

الشيخ رفع إيده بالدعاء :
"اللهم بارك لهما واجمع بينهما في خير، وارزقهما السكينة والمودة والرحمة."

الرجالة ردّدوا بصوت واحد :
"آمين يا رب."

Nisrine Bellaajili

وفي اللحظة دي، الحاج عثمان قام وقال وهو بيفتح شنطة خشب صغيرة كان حاططها جنبه :
"وأنا كمان عندي أمانة صغيرة، د جهاز زينب وذهبها اللي كانت صفية واخداه اهو  عندي من  يوم المشاكل ما بدأت،
قلتلها وقتها : اليوم اللي هيترجّع فيه الحق، هسلمه بنفسي، وده وقته ."

الدموع لمعت في عيون حامد، الشيخ قال بصوت مؤثر :
"سبحان من يُبدّل الحزن فرحا. النهارده يوم زينب الحقيقي."

وفارس مدّ إيده وسلم على حامد وخال زينب وقال :
"العِشرة بالحلال، والستر من عند الله. وبإذن الله الليلة الجاية تكون كتب كتاب."

والكلمة دي خرجت من بُقه كأنها وعد، والمسجد كله سمعها كأنها تكبير فرح مش مجرد إتفاق.
رجالة الحارة خرجوا راضين، والكلمة بدأت تدور في الأزقة : زينب اتخطبِت رسمي، والحارة فرحانة بيها. 

يوم المحكمه الموعود.... 

القاعة النهارده مليانة على آخرها، الإعلام، الجمعيات النسائية، أهل البلد اللي جم من بعيد علشان يشوفوا النهاية، نهاية سنين من القهر، والسكوت، والوجع.

المستشار نادى بصوت قوي :
"قضية رقم ٤٢٣ لسنة ٢٠٢٥، المتهمان : فتنة السيد الرفاعي و اليازيدي عبد السلام."

صوت السكرتير عِلي وهو بيقرا : "التحريض على جريمة اغتصاب، العنف الأسري، التهديد والتستر، واستغلال النفوذ لإخفاء الأدلة."

القاعة سكتت تمامًا. فتنة قاعدة في القفص، عينيها شاخصة، لكن الكبرياء اللي كان ماليها بقى مجرد قناع مكسور. واليازيدي جمبها، ملامحه مهزومة.

القاضي قال :
"هاتوا الشهود والممثل القانوني للضحية."

دخل أسامة بخطوات واثقة، الكل اتنفس بصوت واحد لما شافه داخل، ورا منه أسماء، هادية، ملامحها فيها تعب سنين، لكن لأول مرة، فيها كرامة وسكون.

أسامة وقف قدام القاضي، صوته ثابت، نبرته هادئة لكنها تقطع في القلوب :
"أنا المحامي أسامة منصور، وباتكلم بإسم موكلتي أسماء محمد  حسانين، الضحية اللي اتحولت حياتها لكابوس بسبب المتهمة فتنة السيد الرفاعي."

رفع ملف الأوراق وقال :
"القضية دي مش مجرد جريمة، دي قصة انتقام، وجبروت، واستغلال. موكلتي أسماء اتعرضت لاغتصاب مدبّر بتحريض مباشر من المتهمة، والجريمة دي تم تصويرها وإرسالها لأختها حنان، اللي ماتت بعدها من الصدمة."

صوت همهمة خفيفة انتشر، لكن أسامة كمل وهو بيقلب في الورق :
–"بعد الحادث، كان فيه تهديدات مستمرة. موكلتي اتقالها بالحرف :
‘لو اتكلمتِ هتدخلي السجن بدل الجاني.’ في اللحظة دي، ماكانش قدامي حلّ قانوني أحميها بيه غير إنّي أتجوزها رسميًا — زواج على الورق — علشان تبقى في حماية قانونية من أي استغلال أو تهديد."

القاضي رفع نظره وقال :
"يعني الزواج كان للحماية فقط؟"

أسامة بص بثقة وقال :
"أيوه يا فندم. وأقدّم للمحكمة التقرير النفسي اللي بيؤكد إن أسماء بتعاني من اضطراب ما بعد الصدمة نتيجة العنف الجنسي، والتهديد، والوصم الاجتماعي."

مدّ التقرير للقاضي وقال بصوت فيه صدق :
"أنا كنت شايفها بتنهار، شايفها بتحارب عشان تفضل عايشة. الزواج ده ماكانش علاقة، كان درع قانوني ضد الذئاب اللي كانت حواليها."

القاضي بص له وقال بهدوء :
"هل ما زال الزواج قائما؟"

أسامة سكت لحظة، وبعدين قال :
"قانونيًا، أيوه. بس أنا ما أجبرتهاش على حاجة. ولو المحكمة سألتني النهارده أنا عايز إيه، هقول بكل وضوح :
أنا عايز أكمل معاها المشوار، بس لو هي رضيت. لو حست إن الحماية اللي كنت مقدمها ليها ممكن تبقى حياة حقيقية."

القاعة كلها سكتت، وكل العيون راحت على أسماء. دموعها نزلت في هدوء، بس ابتسامتها كانت كأنها  أول نفس راحة من سنين.

أسامة كمل بصوت فيه قوة :
"أنا مش طالب شفقة، ولا بطولة. أنا طالب عدل ليها، ولأختها اللي ماتت مظلومة و مقهوره ، ولكل بنت اتكسر صوتها ومات الحق في حلقها."

رفع الأدلة وقال :
"قدام حضراتكم التسجيل الصوتي، شهادة الشغالة اللي كانت في بيتهم، تقرير الجمعية النسائية، وشهادة الجيران اللي سمعوا صوت حنان يوم الواقعة."

القاضي رفع إيده وقال بنبرة حازمة :
"بعد الاطلاع على المستندات، وسماع الشهود، تُصدر المحكمة حكمها الآتي:"

الكل وقف. أسماء شدّت إيد أسامة، القاعة كلها كأنها نسيت تتنفس. 

"أولًا:
الحكم بالسجن المشدد خمس عشرة سنة على المتهمة فتنة السيد الرفاعي بتهمة التحريض على جريمة اغتصاب، والعنف الأسري، والتهديد، واستغلال النفوذ."

"ثانيًا :
الحكم بالسجن المشدد عشر سنوات على المتهم اليازيدي عبد السلام بتهمة التستر والمساعدة في الجريمة."

"ثالثًا :
إلزام المتهمين بدفع تعويض مدني قدره خمسمائة ألف جنيه لصالح الضحية أسماء حسانين، وضم حضانة التوأم – أبناء المغفور لها حنان حسانين – إلى جدتهم أم حنان."

"ورابعًا :
فتح تحقيق إضافي في قضايا الفساد المالي والتهديد التي مارسها المتهمان في حق الأهالي."

"خامسًا :
فتح ملف التحقيق في وفاة عبد الحميد منصور  والد المحامي أسامة عبد الحميد منصور ، بعد ثبوت تورط المتهم اليازيدي عبد السلام في الجريمه  ."

ثم قال القاضي ببطء، كأنه بيختم فصل من كتاب العدالة :
"وبناءً على ما تقدم، تقرر المحكمة تنفيذ الحكم فورًا، وإحالة نسخة منه إلى النائب العام للمتابعة."

ودقّ المطرقة :

"رفعت الجلسة."

الحاج  عثمان رفع صوته من آخر القاعة :
"الله أكبر… ظهر الحق."

والناس ردّدت وراه :
"الله أكبر!"

القاعة انفجرت بالتصفيق والبكا. نجلاء من الجمعية النسائية قالت بصوت عالي :
"القانون أخيرًا انتصر للبنات."

أسماء وقفت بتترعش، بصت لأسامة وقالت بصوت واطي مليان إمتنان :
"أنت كنت أماني وسط الخوف، بس النهارده، أنا اللي اخترت أكمّل مشوار الحياة بإيدي."

أسامة ابتسم وقال :
"وأنا اخترت أكمّل بيكِ لو وافقتِ."

دموعها نزلت، وبهدوء مدّت إيدها وقالت :
"نبدأ من أول وجديد، بس المرة دي من غير خوف."

خرجوا من المحكمة، والشمس كانت بتغيب، بس النور مالي وشهم زي عدالة اتأخرت، بس جات في وقتها. أسامة بص للسما وقال بهدوء :
"العدل مش انتقام، العدل شفاء، والنهارده كلنا اتشفينا."

نسرين بلعجيلي 
النهارده الحارة كانت لابسة وشّ تاني. كل حاجة فيها بتضحك، الزينة، النور، ريحة الأكل، حتى الهوا كان بيغني “مبروك”. السطح متزين بالفوانيس، والأرض مفروشة ورد، والبنات لابسين فساتين أبيض وسكري، كلهم شبه بعض في الفرحة، لكن كل واحدة ليها حكايتها.

الشيخ واقف في النص، حواليه الكراسي متراصة، وفوقهم سما فيها نجوم شكلها بيبارك الليلة.

فارس كان أول واحد داخل، لابس بدلة كحلي، ملامحه رزينة بس قلبه طاير من الفرحة.
بص على زينب وهي جاية من بعيد،
فستانها بسيط بس فيها هيبة الحلال.
الكل اتنفس بصوت واحد لما شافها. وقف قدامها وقال بصوت واطي وهي واقفة جنبه :
"يوم ما شُفتك قلت ربنا هيكتبلي نصيبي هنا، وفعلاً كتبه."

ضحكت بخجل، والعينين اتقابلوا على وعد عمر.

الشيخ بدأ يقرأ، والكل سكت إلا الزغاريد اللي قطعت السما :

"زوجتُك نفسي على كتاب الله وسنة رسوله.."

الناس صرخت من الفرح، وزينب بكت وهي بتقول “تمّ بحمد الله”.

بعدهم على طول، ياسر ونورهان كانوا قاعدين مستنيين دورهم. نورهان لابسة طرحه بيضا، عيونها بتبرق، وياسر ماسك إيدها ومش مصدق إن الحلم اتحقق.
قال بصوت كله شكر :
"ربنا جمعنا بعد صبر طويل، وهاخذ بإيدك طول العمر."

ضحكت وقالت بخجل :
"أنا كنت فاكره الأحلام دي مش لينا، بس طلع لينا نصيب."

الشيخ قال الجملة الثانية، واتكتب العقد الثاني بنفس اللحظة اللي عليت فيها الزغاريد من جديد.

وسط الفرح، أسامة وقف من مكانه، لابس بدلة رمادية شيك جدًا، ومسك المايك وهو بيقول :
"بما إن النهارده يوم فرح الحارة، أنا كمان حبيت أفرّح اللي كانت سبب في صبري كله."

الكل اتلفت ناحية أسماء اللي كانت جاية بخطوات هادية، لابسة فستان أبيض ناعم، بسيط بس ملوكي. ضحكتها خجولة ودموعها بتنور خدّها. الناس عارفة إنهم متجوزين من زمان، بس ماحدش كان يعرف إن الفرح الحقيقي لسه ماجاش.

أسامة مسك إيدها وقال بصوت واثق :
"النهارده مش بس تجديد فرحنا، ده وعد جديد قدام الكل وإن الحماية اللي بدأت بيها هتكمّل حبّ وبيت، وحياة."
أسماء بكت من غير ما تتكلم، بس عينيها قالت كل حاجة.

الشيخ ضحك وقال :
"اللهم صلِّ على النبي، هو كده ختامها مسك"

الزغاريد غطّت السما، الفوانيس بتنور، وكل البنات بيرقصوا وسط الدفوف والمزيكا.
صفاء وفايزة بيضحكوا من قلبهم، نورهان ماسكة وردة، زينب بتتصور مع فارس، وأسماء واقفة في حضن أسامة.
وفي وسط كل ده، رحاب كانت قاعدة على جنب، بتضحك وبتصوّر الكل بالموبايل، بس جوّاها موجة صغيرة بتغلي.

شافت جمال داخل ومعاه خطيبته، ضحكته المكسوفة وجديته اللي دايمًا كانت تهيّأ لها إنها ليها. وشافت حسن بيضحك مع صفاء وهو بيهزر، وعرفت وقتها إن الدنيا قفلت أبوابها دي، علشان تفتح لها باب تاني في حتة تانية.

خذت نفس عميق وقالت في سرّها :
"يمكن النصيب مش هنا، بس لسه الأمل ما ماتش."
إبتسمت لنفسها، رفعت الكوباية اللي في إيدها وقالت بصوت واطي :
"أهو كله نصيب يا بنات الحارة."

ضحكوا كلهم بصوت عالي، ونورهان ردت :
"وأهو كله فرح، يا رحاب."

ضحكت، وبصّت للسماء اللي منوّرة بالنجوم والفوانيس وقالت :
"يا رب.. المرة الجاية أكون أنا العروسة."

الليل كان هادي، المزيكا خلاص خفتت، بس صوت الضحك فضل مالي الجو.
أسماء بصت حواليها وقالت للبنات :
"شايفين؟ الحارة اللي كانت كلها وجع، بقت كلها فرح."

زينب قالت وهي مبتسمة :
"إحنا اللي حوّلناها، بدموعنا، وصبرنا، وحبنا لبعض."

صفاء ردت بخفة دمها المعهودة :
"يعني نغيّر إسم المشروع بقى، نسميه "بنات الحارة" بس من غير وجع."

ضحكوا كلهم، والصدى طار في الهوا كأن الحارة كلها بتتنفس معاهم نفس جديد.

«الحكاية ما كانتش عن بنات اتظلموا، الحكاية عن بنات هُمّا علّموا الدنيا يعني إيه تقوم تاني.
في الحارة دي، الستر لما نزل، نزل يد البيت كله.»

المزيكا تعلو…
والنهاية شاشة بيضا عليها سطر واحد :

**“الحق ما بيموتش… بيتأخر بس.”**

“الحقّ مش بيضيع، حتى لو مشي حافي في طريق طويل.”
“القلوب الطيبة بتتوجع.. بس عمرها ما بتخسر، لأن ربنا بيكتب لها النهاية اللي تستحقها.”

اللهم إجعل لنا من بعد الهمّ فرجًا.. ومن بعد الظلم عزًّا ونصرًا.. اللهم ردّ لكل مظلوم حقّه.. واكتب لنا نهاية تشبه رحمتك لا أعمالنا..
اللهم أرزق كل بنت قوة القيام بعد السقوط.. ونور الطريق بعد العتمة.. واستر قلوبنا بسترِك الجميل.. يا واسع الكرم.. يا جابر القلوب المنكسرة..

أنا نسرين بلعجيلي…
كتبت "بنات الحارة – 4Cats" من وجعٍ كان في قلبي، ومن إيمان إن الحقّ مهما اتأخّر، لازم يرجع.
كتبت عن بنات يمكن يكونوا في كل شارع، في كل بيت، بس ماحدش سمع حكايتهم، وأنا قررت أكون صوتهم....

يمكن إتوجعوا، ويمكن خسروا كثير،
لكنهم في الآخر… إنتصروا على الخوف، وعلى الظلم، وعلى الكسر.

الرواية دي مش مجرد فصول، دي شهادة على إن الأنثى لما تؤمن بنفسها، ربنا بيقوم معاها الدنيا علشانها.

___النهاية مش دايمًا سطر بيتقفل.. أحيانًا بتكون باب بيتفتح لبداية جديدة.__

                     تمت الحمدالله




وايضا زرونا على صفحة فيس بوك سما للروايات



 من هنا علي التلجرام  لتشارك معنا لك

 كل جديد من لينك التلجرام الظاهر امامك



تعليقات
×

للمزيد من الروايات زوروا قناتنا على تليجرام من هنا

زيارة القناة