رواية الماسة المكسورة الفصل السادس والسبعون 76 بقلم ليله عادل

رواية الماسة المكسورة

الفصل السادس والسبعون 76 ج1

بقلم ليله عادل


{~أسمعتم بالعشقِ المسموم؟ ذلك العشقُ الذي يعصفُ بقلبك، ينحرُ كبدك، يحرقُ روحك، تتأوّه... ولا يسمعك أحد؛ تصرخ بصمت، تختنقُ بكلماتٍ لم تُقال، وتنزفُ من جُرحٍ لا يُرى. ذلك العشقُ، وقعتُ فيه حتى أهلكني، مزّقني، دمّرني، وألقى بي في محيطٍ واسعٍ لا قرار له، بلا سفينة، بلا بوصلة، بلا وجهة؛ لا أغرق، ولا أنجو، فقط أطفو على وجعٍ لا يرحم، وأنتظر شيئًا؛ أي شيء، ينتشلني منّي. ~}


      [بعنوان: عناد لا ينتهي واوجاع بلا صوت ]


سحب سليم المسدس من خصر أحد الحراس المتوقف بجانبه، ورفعه بثبات لا يتزعزع، صوبه نحو عمار وأطلق الرصاصة، وعيناه تشتعلان غضبًا،ويطبق على أسنانه، لا ندم يظهر على ملامحه، اتسعت عينا ماسة حتى كادت أن تخرجا من محجريهما، فور أستماعها للطلقة بينما صرخت سعدية باسم عمار بخوف.


ركض مكي نحو سليم، فيما تجمد عمار في مكانه، أدار وجهه إليه ببطء وذهول، كأن لسانه أنعقد عن الكلام، الرصاصة لم تصبه، بل مرت بجانب قدمه فقط عن قصد.


سليم بنبرة جهورة وتهديد صريح: لو مشيت خطوة كمان، المرة الجاية الرصاصة هتاخد مكانها الطبيعي، أرجعي يا ماسة، عشان ماعملش حاجة تخليكي تعيشي طول عمرك ندمانة.


حاول مكي تهدئته: سليم نزل مسدسك.


لكن سليم دفعه من صدره، ولوّح بيده، فهجم الحراس وأمسكوا بمكي.


عمار بشجاعة: فاكر نفسك هتخوفني؟


كانت ماسة واقفة مصدومة، لا تستوعب أن سليم فعل ذلك، كأنها تعيش كابوساً، لم تتحرك من مكانها، ولم تصدر منها أي ردة فعل، الصدمة أقوى من أي تفكير.


سليم بنظرة حادة وتهديد: أنا هعد لحد تلاتة، تلاتة يا سعدية وألاقيكي اختفيتي من قدامي إنتِ وإبنك وماتيجوش هنا تاني، عشان المرة الجاية هطلّعكم على ضهركم ولو عايزة تجربي.. جربي.


تابع بصوت جهور: واحد.


في تلك اللحظة، سحبت سعدية عمار من يده بخوف:

يلا يا ابني.


لكن عمار رفض الخروج: أمي ده بيهوّش!


سليم بعين لا ترمش: أتنين.


هنا، صفعت سعدية عمار على وجهه بغضب وهي تصرخ فيه: أمشي قدامي، والله لو مامشيت معايا، لا إنت ابني ولا أعرفك. يلا! ماتوجعش قلبي عليك حرام عليك.


سحبته بقوة وخرجت به.


نظر سليم إلى الحراس بإشارة أمر: معاهم، راوية خدي ماسة وطلعيها أوضتها.


راوية اقتربت من ماسة: يلا يا هانم، لكن ماسة مازالت تحت تأثير الصدمة، تتوقف مكانها تحاول أن تستوعب ما حدث


سليم بنبرة غليظه: يلا يا ماسة، على أوضتك


لكنها مازالت في عالم آخر،  تنهد بضجر تابع بصوت جهوري: ماسة خلصي ويلا على اوضتك قولت.


هنا بدأت ان تنتبه ماسة لصوته بوضوح أخيرًا، وكأن الغشاوة انزاحت فجأة في لحظة واحدة فقط، كسرت الصمت الذي خيم على المكان


وهي تتمتم بتعجب وهي تحرك بأصابعها نحو الباب بصدمه: إنت كنت هقتل أخويا؟!


سليم بأمر: ماسة يلا مش هعيد تاني.


فجأة ركضت نحوه، وضربته على صدره بكفيها الأثنتين، لم تكن ضربة قوية، لكنها كانت تحمل كل وجعها، أهتز سليم في مكانه، وعاد إلى الخلف قليلاً.


صاحت ماسة، وصوتها يرتجف من أعماقها، وعيناها تتقدان بالصدمة والخذلان: إنت اتجننت؟! اتجننت بترفع سلاحك على أخويا؟! خلاص غضبك عماك للدرجة دي؟! هتموت أخويا؟!


اتسعت عينا سليم، كأنه يحاول الدفاع عن نفسه  قال بصوت مضطرب: كنتِ عايزاني أعمل إيه؟ وهو بيخدك مني أقف اتفرج؟! لازم تفهمي إللي يفكر ياخدك مني هقتله مهما كان مين.


ضربته مرة أخرى على صدره، لكن هذه المرة كانت أقوى، تحرك جسده قليلًا تحت وطأة الضربة، بينما صرخت هي في وجهه، وصوتها مبحوح، تغرق في دموعها:

إنت خلاص اتجننت، عندك وكبريائك جننوك! إنت كنت هتموت عمار! عارف يعني إيه كنت هتموت عمار؟! كنت هقتل أخويا هتقتل أخويا يا مجرم.. عمل إيه عشان تقتله.


تحدث سليم من بين أسنانه بعين غامت بسواد موحش دون أدنى أثر للندم، بصوت جاف متملك:

قولتلك أنا عندي استعداد أحرق الدنيا كلها وأقتل لو حد فاكر ياخدك مني، تحت أي ظرف مهما كان هو مين، خليكي فاهمة كده مش هتخرجي من هنا غير بموتي يا ماسة يا قاتل يا مقتول. 


هز ماسة رأسها بتعب وهي تبكي: إنت مش طبيعي إنت مش بتكرهني خلاص سبني.


سليم بنبرة قاطعة: لما يجيلي مزاجي.


جزت ماسة على أسنانها بضجر بعين تتساقط من الدموع: لازم تفهم إني، مش هسامحك طول حياتي يا سليم! عمرى ماهسمحك وهاتدفع الثمن وهتشوف.


"ظل سليم صامتًا، وجهه جامد كالحجر، عيناه إلى الأرض، لا يجرؤ على النظر إليها، لا ندمًا بل لأن النار تغلي في صدره، ثم أدار وجهه وقال بصوت منخفض، لكنه حاد كالسكين: راوية، خدي ماسة على أوضتها يلا.


صرخت ماسة، وصوتها يعلو وهي تلوّح بيديها في الهواء: أوعي ايدك! إنت فاكر إللي حصل ده هيعدي كده؟! ده ماهيتعداش! والله العظيم ماهعديها! ومش هعيش معاك لحظة تانية، وهخرج من هنا! وماحدش فيكم هيقدر يوقفني!


همت بالتحرك، لكن سليم ظل واقفًا، لا يتحرك، مدّ يده في الهواء، في إشارة صامتة تمنع الجميع من الاقتراب منها.


ثم قال بهدوء، مرعب في سكونه: لو فكّرتِ تخرجي من باب الفيلا، هخلي حياتك كلها ندم وجحيم، هعمل حاجات خيالك حتى مايقدرش يستوعبها ولا يتصورها، جربي تتحركي خطوة، وشوفي.


تجمدت ماسة في مكانها، شعرت وكأن شيئًا ما يمسك قدميها، التفتت ببطء، فرأته يقترب خطوة واحدة، نظر داخل عينيها مباشرة صوت هادئ لكنه يحمل في طيته تهديدا:

قلتلك يا ماسة، مش هاتخرجي من هنا غير لما أنا آمر، ماخدش يقدر يخليني أعمل حاجة غصب عني ولا بالحب، ولا بالعند ولا بالتحدي، لإن إللي يتحدى سليم، لسه ماتخلقش، وكويس أوي إني ماعملتش أكتر من كده، لو واحد تاني غير عمار كان هو إللي عملها، كنت محيته من على وش الدنيا، بس أنا أهو اديته فرصته الأخيرة.


رفعت ماسة نظرها إليه، وصوتها يرتجف، والدموع تلمع في عينيها: إنت بتهددني بأهلي؟


سليم دون أن يرمش: لا ده إللي هيحصل، البوابة أهي قدامك ماحدش هيمنعك ولا حتى أنا، بس الخروج من هنا ليه تمن، وتمن غالي أوي يا ماسة وخلّيها مفاجأة علشان تشوفي بنفسك الحدث، وهو بيحصل.


تراجع خطوة إلى الوراء، تاركًا إياها واقفة وحدها، ووجهه يحمل ملامح لا تعرفها كأنها تراه لأول مرة 


ظلت ماسة واقفة، عقلها يدور في دوامات متضاربة نظرت إلى الباب لا أحد يمنعها، حتى سليم، توقف صامت لا يتحرك ساكنًا ينتظر قرارها لكن في عينيه، لمعة مرعبة، لم ترها من قبل.


فجأة، عاد إلى ذهنها حديث محمود، صافيناز، رشدي، فايزة...

سليم لما يقرر يأذي، مابيأذيش الشخص نفسه، بيكسر  إللي بيحبهم، بيوجّع في نقطة ضعفه شوفي نقطة ضعفك فين وهتبقى هي، سليم هايهددك بأهلك وهتشوفي لما تجي الفرصة او فكرتي تبعدي عنه.


أغمضت عينيها ببطء، كأنها تحاول إقناع قلبها بأن مارأته لم يكن حقيقياً، بأن سليم لم يقف أمامها قبل لحظات، ولم يرفع سلاحه في وجه أخيها، ولم يهددها بأعزّ ما تملك  هبطت دموعها مسحتهم


اقتربت منه حتى توقفت أمامه مباشرة وكأنها تتمنى أن يمحي تلك الاتهامات تلك الأفكار أن يمحي مافعله يقول أي شيء أي شيء يربط على قلبها.


نظرت له ماسة بعينين ترتجفان، وصوتها بالكاد يُسمع:

يعني... يعني إنت ممكن تأذي أهلي يا سليم ممكن تأذيهم إنت ماتعمليش كدة صح قول آاه؟


كانت ترجوه أن يقول "لا"، لكنه نظر إليها طويلاً، دون رد، دون إيماءة، دون حتى رفّة حاجب... مجرد صمت وملامح متجمدة.


ثم استدار وتحرك بعيداً، تاركًا إياها تغرق في دوامة أفكارٍ تتلاطم بداخلها كأمواجٍ عاتية، بلا رحمة كأنما منحها حرية الاختيار: عائلتها أم حريتها.


لكن قلبها لم يستوعب، شعرت أن العالم انطفأ، وأن سليم، الذي عشقته بروحها، يهددها بأعز ماتملك عائلتها، لم تتخيل يومًا أن يفعلها كانت تقول دائمًا بثقة: "سليم مستحيل أن يؤذيني أنا أثق به."

لكن ما فعله كسرها، كأنها كانت تقف على قمة جبلٍ شاهق، تحاول التقاط أنفاسها، فهبت ريح عاتية وأسقطتها أرضًا، ربما تلك النهاية، ربما لم يكن سليم ينوي الأذى، بل أراد فقط أن يمنعها من الرحيل وتتركه، أن يخيفها أن يُبقيها، فهي كلّ شيءٍ بالنسبة إليه، ولذلك، اختار الصمت، ذلك الصمت الذي جعله يدفع ثمنًا باهظًا دون أن يدري، وقَرّب النهاية أكثر مما يظن، أما ماسة، فظلت واقفة، تتأرجح بين خيارين حريتها أم عائلتها.


كان كلّ ذلك يحدث، ومكي يقف بعيدًا، يراقب المشهد بضيقٍ وصمت، في تلك اللحظة، تحركت ماسة وحدها، بخطوات ثقيلة، ودخلت الفيلا.


صعدت إلى غرفتها دون أن تنطق بكلمة، لكن في عينيها، شيءٌ لم يكن يشبه الحزن فقط، شيئًا أقرب إلى الكره والخذلان.


أما سليم، فقد بدا كمن أرتوى من نشوة الانتصار أبتسم في هدوء، ظانًّا أنه قد فاز، لكنّه لم يعلم أنّه، بما فعله، قد حفر بيده قبره في قلب ماسة.


أقترب مكي من سليم، وقال بنبرةٍ منخفضة: إنت راضي على إللي إنت عملته ده؟


تنهد سليم، وصوته يحمل توترًا متصاعدًا: كنت عايزني أعمل إيه عمار كان بيتحداني علنًا! اخدها من بين أيدي ويقول لي: أعلى مافي خيلك أركبه! كنت عايزني أسكت؟ كنت هتعمل إيه لو مكاني ؟


مكي بنبرة فيها حزن: مش برصاص يا سليم ولا بالطريقة دي.


سليم، بعصبية: لو كنت قلت للحراس يرموه بره، كنت هتقول برضه مش بالطريقة دي، ولو مدّيت إيدي عليه، كنت هتقول ماتمدش إيدك برضه غلط، أنا كام مرة قلت له: يمشي؟ كام مرة؟! وهو عند


مكي، وهو يهز رأسه بأسى: سليم، أنا فاهم بس برضه، ما كانش المفروض كدة إللي حصل فوق الإحتمال لو خليت الحراس يرموا برة أهون.


سليم، بإصرار: دي كانت الطريقة الوحيدة إللي تخلي عمار يختفي من هنا،  أنا ماكنتش هقتله، كنت بهدده، علشان يخاف، عشان مايرجعش تاني غير كده؟ كانوا هييجوا كل شوية، ويعملوا نفس المسرحية دي  أنا مش حمل ده.


مكي بحسم: عمومًا، إللي حصل غلط مهما حاولت تبرره.


سليم، وقد بدا عليه الضيق: كام مرة قلت لك: خفّ الحرج عن نفسك، واشتغل معايا في المجموعة، بعيد عن الفيلا، بس إنت مش راضي، مكي لو باقي على صداقتنا من فضلك شغلك معايا يبقى خاص بالمشاوير غير كدة لا.


مكي، بثقة: مش هعمل كده وصدقني، مش علشان سلوى حتى لو كنت متجوز واحدة تانية، كنت هقول لك: إللي عملته غلط، معاك عمار ذودها بس وقفه بأي طريقة.


قاطعَه سليم بعصبية شديدة: هو إنت فاكر إني كنت هقتله صدقني، مجرد تخويف ماكنت قادر أجبها برجله مش هيموت، وكان هيبقى تحذير حقيقي بس كنت بخوفه هو وسعدية عشان مايجوش تاني، مش مصدقني  ليه؟؛


مكي بحدة: أنا مصدقك، بس في نظرهم، كنت ناوي تقتله سليم لازم تعترف إللي عملته غلط 


سليم، وهو يدفع الهواء بيده بعدم أعتراف بالخطأ:  يووووه...أنا طالع لها فوق


تحرك سليم بينما نظر مكي لأثاره بضيق وضجر ومسح وجهه.


    💕________بقلمي_ليلة عادل______💕


غرفة ماسة


نرى ماسة تجلس على الفراش، مسنِدةً ظهرها إلى قائمته. لم تبكِ، لم تصرخ، بل كانت تحدّق في الفراغ بصمتٍ غريب، وكأن الصدمة جمّدت ملامحها وقيّدت دموعها، ما شعرت به لم يكن مجرد ألم، بل شيئًا أعمق، وجعٌ لا يصفه الوجع.


بدت وكأنها انفصلت عن العالم، ذلك السكون الذي احتواها لم يكن عاديًا، بل مخيفًا، حتى لها، هدوءٌ غريب يسكنها، بينما في الداخل… الجدران تتهاوى، والروح تتفتّت، والنور الذي أضاء قلبها يومًا، تحوّل إلى جمرةٍ حارقة تلتهمها بصمت.


لم تكن تفكّر بما جرى، فالألم لم يكن نابعًا من الفعل ذاته، بل من خذلان لم يخطر لها يومًا، سليم الذي دافعت عنه باستبسال، وثقت به حدّ العمى، يفعل الآن ما فعله الآخرون ببساطة، صورته لم تفارق خيالها، نظرته الجامدة، الباردة، الخالية من الرحمة أو الندم.


راحت تستعيد المشاهد، كأنها تُعرض أمامها من جديد، مشهد عمار، والرصاصة التي مرّت بجواره، نصف خطوة فقط فصلته عن الموت، حديثه عن إسماعيل، وما حلّ بهم، وصوت سليم، حين قال لها بجفاء: "انسَي سلوى، واعتبريها ماتت. عباراته كانت كسكاكين، تقطعها ببطء، وقلبها يحترق.


بعد دقائق، فُتح الباب، ودخل سليم كمن يقتحم نهاية لعبة يعلم أنه المنتصر فيها، وقعت عيناه عليها، ارتسمت على شفتيه ابتسامة جانبية، وكأن المشهد أمامه يرضيه تمامًا.


سليم بنبرة باردة مستفزة: شاطرة، قاعدة هادية، يعني حاجة غير متوقعة، أنا قلت هاجي ألاقي الأوضة متكسّرة.


لم تُجبه ماسة، ولم ترفع عينيها حتى، وكأن الصمت بات درعها الوحيد.


اقترب سليم منها بخطى واثقة، ثابتة، وصوته ينخفض تدريجيًا، يحمل في نبرته ثقلًا واضحًا، مزيجًا من السيطرة والتحكُّم: 

طول ما إنتٍ قاعدة مطيعة كده وبتسمعي الكلام، كل ما كان أفضل لك، أديكي شفتي، ممكن أعمل إيه؟؛ لازم تفهمي ثمن خروجك من هنا مش هايعجبك، أرضَي بالواقع، وأدفعي ثمن اختيارك، هي دي الحياة إللي تستهليها أنا مش هقفل أبواب، وها أدي الحراس أوامر يسيبوكي براحتك بس كل خطوة هاتخطيها أعرفي في ثمن غالي هيندفع مهما تخيلتي وسرحتي بخيالك مش هتوصلي للي سليم ممكن يعمله فيكي وقتها.


حينها، رفعت عينيها نحوه للحظة، ابتلعت غصتها، ثم تقدّمت ببطء، لم يكن في نظرتها خوف، بل صدمة وتعجّب، تأمّلته طويلًا، تتفحّص ملامحه بعينين لا تبحثان عن انتقام، بل عن الأثر كأنها تفتّش في وجهه عن الرجل الذي أحبّته يومًا لكنها لم ترى الا وحش مخيف.


خرج صوتها مرتعشًا، لا عن خوف، بل من هشاشةٍ داخليّة لم تعد الدموع تجدي معها نفعًا… خذلانٌ فوق خذلان، حتى تهالكت الروح:

عارف؟ أنا عمري ماتوقعت إنك ممكن تهددني بأهلي

في يوم، أنا لحد اللحظة دي كنت بحبك وشيفاك في البشر، كنت بقول: لنفسي الفترة الأخيرة، سليم بيعاملني وحش، وحابسني، وبيتعامل معايا كأني مجرمة، حتى لما طرد أهلي من هنا أكتر من مرة، بس بقول ليه حدود، حدود استحالة يتعدّاها مهما كان متعصب، كنت بخلقلك الأعذار، وأقول أنا إللي غلطت، وهو مش فاهم، موجوع، أنا لو مكانه هعمل زيه، يمكن أكتر بس...


اقتربت منه خطوة، هبطت دموعها بصمت، تحدثت بنبرة موجوعة ممزوجة بضجر:

بس لما رفعت مسدسك على أخويا، وخليت رجالتك يطردوهم، ووقفت قدام عينيّا وهددتني بأهلي من غير مايتهزّلك جفن، ولما عرفت إنك خليت إللي اسمه إسماعيل يرفع سلاحه على امي وابويا ويهددهم علشان يعرفوا مكاني، كأنهم مالهمش لازمة، مالهمش تمن، مين دول أصلاً؟ يتداس عليهم؟ يتقتلوا؟ عادي؟

إزاي عمار يقف قدام سليم عزت الراوي؟ ابن الباشا الكبير؟ وفايزة هانم؟ نسيوا نفسهم ولا إيه؟ الرعاع دول؟ ساعتها عرفت، عرفت إني كنت غلطانة، عرفت إن بقالي سنين مضحوك عليا، وإني نمت سنين في حضن إنسان وحش، ومجرم قاتل..


رمش سليم وهتز للحظع لكن مازل محافظ على ثباته تابعت وهي تهز راسها بإنكسار بوجع خنق نبرة صوتها:

آه طلعت إنسان وحش ومجرم، وطلع كلامهم صح حقيقتك وسوادك ظهر، بس ظهر عليا أنا ماسة حبيبتك.


كانت كل كلمة تخرج منها كأنها طلقة نار تشق قلبه، لا تترك خلفها سوى رماد ووجع. 


واصلت بنبرة منهارة، كأنها تُنكر ما تنطق به، والدموع تنهمر بلا توقّف:

طلعت لما حد بيأذيك، مابتسامحش وبتنتقم، وبتوجّع وبتمسكه، من إللي بيتوجّع منه، أنا فاكرة إنك قولتلي الجملة دي، حتى اتقالت قدامي كتير من أهلك من محمود يوم ماخطفني فاكراها كأنها دلوقتي بتتقال..

(عايز تنتقم من حد وتأذيه؟ أوجعه بأقرب ما ليه؟)


صمتت لحظة تنظر إليه بألم فقلبها يبكي قبل عينيها واصلت وهي تتك على أسنانها بخذلان يكسر القلب:

بس أنا ماكنتش متوقعة إنك هتعمل ده معايا أنا، أنا ماسة، حبيبتك، أنا مش مصدقة، والله العظيم مامصدقة، أنا استنيتك تعتذر، استنيتك تقول لا مش هعمل كده، اتمنيت لحظة ندم حتى تبان في عينك، بس إنت واقف قدامي أهو تاني بكل بجاحة وبتكمل في تهديداتك القذرة، قولي إنت فرّقت عنهم في إيه؟ هو أنا لو كنت عدوتك، كنت عملت فيا إيه؟ يعني الأعداء بيعملوا كده في بعض عادي!  لكن أنا.. انا عشقك مراتك، مش عدوتك عشان تعمل معايا كده! أنا تلوي ذراعي؟ بأقرب ما ليا؟  أنا تستخدم جملتك الشهيرة؟! أقسم بالله أنا مصدومة فيك، مش قادرة أستوعب، حاسة إن دماغي هتنفجر، حاسة إن قلبي بيتحرق، كأن في حريقة جوايا بتحرق كل قطعة فيا، إنت كسرتني.


تابعت بحرقةٍ وحسرة، وبخذلانٍ يعصف بها من الصدمة، بعينين أحمرّتا من الدموع:

أنا واهلي طولنا أذيتك؟ بتساوينا بأعدائك باللي مالهمش أي قيمة عندك؟!  آمال فين بقى بحبك وعشقي، وإنتي غيرهم واموت من غيرك؟! إنت طلعت مالكش أمان، كلنا زي بعض عندك، لما حد ييجي عليك، مابتسامحش، مابتغفرش، بتدوس بس بتدوس أوووى، من غير رحمة، من غير ما ترجع تبص وراك..


ضحكت بسخرية من الوجع والخذلان والصدمة:

وأنا إللي كنت أقول لااا، سليم مستحيل يعمل معايا أنا كده، أنا حاجة ثانية، طلعت زيي زيهم، يمكن أقل كمان، على الأقل هما أذوك، لكن أنا عملت إيه؟ عملت إيه عشان تعمل فيا كل ده؟ حتى لو كنت غلطت، إللي بيحب بجد مابيأذيش حبيبته، ولا بيعاقبها، ولا بيعذبها، مابيستحملش، قلبه مابيستحملش يأذيها، بس إنت قلبك استحمل، وتجبرت عليا وعلى أهلي،  وكنت هتقتل أخويا، ده إنت حتى ماسألتش نفسك أنا استاهل كل إللي بتعمله ده والالا!  نسيت كل حاجة عملتها معاك، مش إنت بس يا سليم  إللي عملت، ماسة كمان عملت كتير،  بس أنا مش بمن زي ما إنت ما منيت عليا، بس إنت الظاهر بتنسى، كله بيتنسى، كله بيروح عندك، إنت خليتني أندم إني حبيتك، وإني صدقتك، وإني افتكرت يوم إنك أحن عليا من أهلي، من أبويا وأمي، ده أنا كنت بلتمس لك العذر، لحد النهاردة، كنت بقول يمكن عنده حق، حتى لو إللي بيحب ما بيأذيش؟! بس هو مجروح، والمجروح بيبقى عامل زي الأسد، إللي أطَعن من أعز أصحابه، وقعد يجري ويعور كل حد بيجي قدامه، من وجعه، من خذلانه، بقول هو مش فاهم، بس توصل للقتل!! للقتل؟! لاااا أنا أسامح في إللي عملته فيا في كلامك في حبسك في ضربك أي حاجة لكن توصل لأذية أهلي وإنك تهدد اهلي بالموت وترفع مسدس على أخويا!  لا يا سليم خلصت، حتى كان لو كان لك حق إنت ضيعت كل حقوقك.


استجمعت أنفاسها، ومسحت دموعها، ثم اقتربت أكثر، لم تعد كلماتها مجرّد أصوات، بل لهبٌ يمشي على قدمين، يتقد بثبات، وكأنها على يقينٍ أن ما بداخلها أقوى من أن يُطفأ.


بينما كان سليم يستمع إليها بصمتٍ غريب، كان يدرك في أعماقه أنه أخطأ، وأنه ما كان ينبغي أن يترك لغضبه العنان بتلك القسوة، ومع ذلك، ظلّ متماسكًا، يُخفي القشعريرة التي تعصف بمعدته ألمًا، وغصّات قلبه التي تئنّ وجعا بصمت، ودموعًا تقاتل كي تنزل لكنه بقي صامتًا، يستمع.


ماسة بنبرة بها القليل من التحدى والقوة:

إنت قلتلي: إنتِ هتقعدي هنا عافية، ولو خرجتِ من هنا هاتندمي، مظبوط؟ على فكرة، أنا متراجعتش علشان تهديداتك، أنا تراجعت بإرادتي، تراجعت بمزاجي.


ضحك سليم ضحكة صغيرة، ساخرة خفيفة، على حديثها وكأنه لا يصدق ماتسمعه أذناه.


ضحكت هي الأخرى، لكن ضحكةً ممزوجةً بالوجع، ثم علّقت على ضحكته، وقالت بتحدٍّ وقوّة:

أضحك يمكن تكون أخر ضحكة، لسة في ضحك جاي كتير أوي، شكلك مش مصدق؟ أنا بكلمك جد، أنا رجعت هنا علشان آخد حقي، مش أنت إللي بتقول إنك بتكرهني؟ وإني هنا مسجونة بقضي مدتي؟ 


نظرت فى ملامحه بتركيز متعجبه:

عارف أنا قعدت، أفكرلك، مالقيتش حد غالي عليك أو  نقطه ضعف... إخواتك؟! ولا الأخوّة الأعداء استغفر الله العظيم يا رب، أسوأ مثال ولو قتلتهم قدامك؟ ممكن تجيبلي بوكيه ورد وتقوللي: شكراً.. أب وأم؟ هكون مؤدبة وأوصفهم بالخبث والخباث؛ مكي يهزّك بس أنا فكرت في حد يهزّك أكتر عارف مين؟ 


تبسمت بتفاخر: لقيتني أنا.


ضحك سليم من جديد، مقاطعًا بتقليل؟! إنتي؟


ردت ماسة بثقة عمياء وهي تنظر داخل عينه:  أيوه… أنا نقطة ضعفك.


نظر إليها بإستغراب، عاقدًا حاجبيه دون أن يرد، وعيناه تتنقلان عليها كأنها لا تعني شيئًا، كأن كل ما قالته لا وجود له


ردت على نظراته بهدوء وثقة:

مستغرب ليه؟ إنت لو كذبت على الناس كلها، مش هتكذب عليا أنا، إنت بتحبني بتعشق حاجة اسمها ماسة، إنت بتتنفس ماسة، بس حبك على قد ما هو كبير على قد ما هو جحيم، حب يأذي، لعنة، وده إللي أنا اكتشفته، إنت مابتعرفش تأذيني، بس بتعرف تأذي إللي حواليّا.


ضيّقت عينيها بنظرةٍ متحدّيةٍ يملؤها الانتقام، ونطقت بنبرةٍ ممزوجة بالمرارة والوجع، بينما دموعها تتجمّع بصمت في عينيها:

وعلشان كده، والله يا سليم، لهدفعك التمن، مش على إللي عملته في عمار وأهلي بس، لأااا، علشان أنا ماتوجعتش عليهم قد ماوجعني إنك عملت معايا زيهم، استغلتني، استغليت نقطة ضعفي، وحبي، وخوفي على أهلي، علشان تفضل مقيّدني هنا جنبك، بالإجبار، بالطعن، بس وإنت باصص جوه عنيا، أنا هقتلك من أكتر حاجة بتوجعك.


 مدّت يدها إلى صدره، حرّكت القميص قليلًا، ومرّرت أصابعها على الوشم المحفور قرب قلبه بإسمها واصلت:

أسمي مش موجود هنا على جلدك بس، أنا أسمي هنا، جوا قلبك، محفور، بيجري في دمك، ما بين كل نبضة ونبضه، في كل رمشة، وهقتلك منه.


اشتدّت نظرتها في عينيه، مزيجٌ من التحدّي والانتقام، بينما تسلّل الوجع من كلماتها كالسّم، قالت بأسنان مشدودة، وعينٍ لا ترمش، وهي لا تزال تشير بإبهامها إلى قلبه:

هقتلك من هنا بالظبط، يا سليم يا راوي، وحياة كل لحظة قضيتها في حضنك، وحياة كل دمعة، وحياة كل ثقة أنا وثقتها فيك، وكل فرصة اديتهالك لدفعك تمنهم غالي، إنت قادر تقتلني بأهلي بنقطة ضعفي؟ لكن أنا قادرة أقتلك وأنهيك من قلبك، من حبك ليا.


قاطعها سليم، بصوتٍ مهزوز رغم محاولته الظهور بثباتٍ لا يملكه: إنتي فاهمة غلط، أنا بطلت أحبك من زمان.


ضحكت ماسة بسخريةٍ خفيفة، واليقين يملأ عينيها:

تؤ، أنا فاهمة صح، إنت بتحبني (أتكت على كلمة) بتعشقني.


قاطعها سليم بشدة وهو يتك على جملة: كنت بحبك كنت.


نصف ابتسامة ارتسمت على شفتيها، وعيناها تتأمّل ملامحه بثقةٍ لا تعرف الشك:

ولسة بتعشقني وبتموت في ترابي رجلي، والنظرة إللي كلها كره وجبروت دي! قريب هتبقى توسُّل، هتبقى دموع بتطلب فرصة، بس مش هاتلاقيها.


تبسم سليم إبتسامة جانبية بتقليل: واثقة من نفسك أوي، يا ماسة.


ردّت بثباتٍ لا يلين، وعينٌ جامدة لا ترمش: أكتر ما أنا واثقة إني واقفة قدامك دلوقتي وبهددك كده.


سليم بسخرية مريرة وهو يعطيها ظهرة: زمان، قبل ماتهربي، لو كنتي قولتي الكلام ده كنت هصدقه،  لكن دلوقتي؟ إنتي بتراهنى الحصان الخسران.


تقدّمت ماسة بخطًى محسوبة، توقفت في وجهه، بثباتٍ ونظرةٍ لا تهتز، وابتسامةٌ يملؤها التحدّي تعلو ملامحها: وحياتك، أنا ماتراهنتش إلا على الحصان الكسبان هو شهر وهترجع بتطلب السماح.


رفع سليم حاجبيه ساخرًا وهو يضحك: وشهر؟ ده إنتي واثقة كمان إني بعد شهر هاجي لك ندمان وبطلب السماح!  


ضحكت ماسة بثقة: لا هو هيبقى أقل من كده بكتير، بس أنا قلت أخليها شهر كده شكليًا، هم عشرة أيام أسبوعين بالكتير أوي.

  

مد سليم وجهه متهكما بسخرية: مدية لنفسك إنت قيمة أكبر من قيمتك، قولتلك كان زمان الكلام ده، كان زمان لما كنت بحبك. 


اقتربت ماسة منه بخطوات واثقة، تلك الابتسامة الصغيرة ما زالت ترتسم على شفتيها، لكنها لم تكن سخرية… كانت يقينًا.


مالت بجسدها صوبه، حتى صارت أنفاسها تلامس بشرته، همست عند أذنه بصوت خافت دافئ:

ولسة بتعشقني، وبالعكس أنا مش مدية لنفسي غير قيمتي وبس.


تجمّد سليم في مكانه، وكأنه فقد السيطرة على عضلاته، حتى رمشه خان توقيته. ظلّ واقفًا، وعيناه تحدّقان للأمام، دون رد، دون نفس.


ابتعدت عنه بخفة، وعينيها تتفحصان رد فعله، كأنها تنتظر ارتعاشة واحدة، أي شيء يفضحه.


ثم قالت بصوت أعلى، ولكن بنفس الهدوء: أنت لو كذبت عالدنيا كلها، مش هتعرف تكذب عليا، أنا منك، أنا فيك، وإنت، لسة بتعشقني..


تابعت مستخفة وهي تتحرك مبتعده قليلاً وتعطي ظهرها: بعدين إنت زيرو تمثيل لازم تاخذ كورسات بالتمثيل.


رمقها سليم بنظرة فيها مزيج من التهكم والحذر: واثقة في نفسك أوي؟ عموماً أنا مابدخلش مراهنات خسرانة.


التفتت له ردّت، بثبات قاتل: مادام إنت واثق في نفسك، واثق إن قلبك بقى بيكرهني، وإني مابقاش ليا مكان فيه، خلاص، خايف ليه؟ ماتسيبني ألعب.


مرر سليم يده على وجهه، وتنهد: ماشي، هبقى أشوف، في حاجة تانية؟ عايزة تقوليها؟!


أومأت ماسة دون تردد: آه طبعاً، ده إحنا لسه مابتديناش، لسة في شوية حاجات لازم أقولها لك.


سألته بهدوء غريب: مش إنت سألتني قبل كده: إنتي بتهربي ليه؟


أومأ سليم برأسه دون أن ينبس، اقتربت منه حتى توقفت مامة مباشرة تابعت وعيناها تلمعان بتحدٍ:

كنت بهرب، علشان كان فيه حاجة، بس والله العظيم ماهقولك عليها، خليك بقى تدور، وتلف حوالين نفسك إنت وصاحبك، ودماغك تتحرق، وأنا؟ أنا هقعد أتفرّج، وأتشفّى فيك.


ضاق سليم بعينيه، قال بنبرة مشحونة: إنتي كذابة إنتي ماعندكيش أسباب أصلاً!


ضحكت ماسة، لكنها ضحكة تقطر وجعًا: أقسم بالله عندي، والله العظيم عندي، بس مش هقولك.


حدق سليم في ملامحها، يحاول أن يقرأها، أن يعرف إن كانت تكذب او لا، أهتز للحظة، لكنّه سرعان ماحاول التماسك، فأعاد الجملة، كمن يردّدها ليقنع نفسه: 

إنتي كذابة بتعملي كده علشان تبرري موقفك.


ضحكت ماسة بسخرية ودموعها في عينيها، قالت بمرارة ممزوج بتحدى: أنا كذابة؟ براحتك ماتصدقش، بس والله العظيم في سبب، ولما تعرفه يا سليم، هتندم ندم ماندمتوش في حياتك.


رفعت صوتها بالتحدي ممزوج بشميزاز:

هدد بقى، أضرب، ورينا جبروت سليم الراوي وابتزازاته واجرامة، إنت شاطر في ده، عندك القدرة، بفلوسك ونفوزك، تهدد إنك تفتح قضية عمار تاني، تقتل إخواتي، تلبس أمي الأسود طول عمرها، تقتل أختي زي ماقولتلي اعتبرها ماتت، إنت بتعرف تعمل ده حلو وبتعرف تخلي رجالتك يرفعوا سلاحهم على اخواتي ويعاملوهم كأنهم عبيد عندك..


ضيقت عينيها ونظرت داخل عينه بانتقام:

لكن أنا؟ أنا شاطرة في حاجة تانية، حاجة بتوجع أكتر، إللي بيموت بيرتاح،؟ الصح تسيبه، عايش  وتشوفيه بيتعذب قدامك وإنه عاجز. مش ده كلامك، أنا هوجعك من نقطة ضعفك، من قلبك، من حبك ليا، وأوعى تغني عليا الأغنية دي: أنا بطلت أحبك وبكرهك ورميتك، الكلام ده مادخلش من الودن أصلاً علشان يطلع من التانية.


تابعَت بنظرة أكثر حادّة، وكأنها تعني كل كلمةٍ قالتها:

بس أوعى تفتكر إنك هتقدر تنطقني، وتهدد بأهلي، وتحط مسدسك على راس حد منهم، علشان أنا مش هتهز أنا مش سلوى! عارف وقتها هعمل إيه؟ هسحب أقرب مسدس ليا، وأموت نفسي، لو مش مصدق.. جرّب، جرّبني! لو سليم القديم مات، فماسّة كمان ماتت، والله يا سليم، ماهتاخد مني معلومة، ولو وصلت لحاجة، هعمل جهدي إني أمسحها، زي إللي عمل الحادثة كل مايعرف إنك وصلت لمعلومة، يمسحها عشان يجننك، أنا هعمل زيه بالظبط، ده بقى قدوتي، جرّب بس تقرّب من حد منهم، وهتشوف هعمل فيك إيه هموتلك نفسي لانك ملكش حد غيري تتوجع عليه؟!


ابتسم سليم بسخرية وهو بيهز راسه: إنتي واثقة في نفسك أوي يا بنتي، أنا بقيت بكرهك مش هتفرقي معايا؟! متأكد إنك بتكذبي وإنك ماعندكيش أسباب.


ماسة بهدوء لاذع بنبرة بها نوع من الاستخفاف: أسمع بس، سيبك إنت من الأغنية الهندية دي، خلينا في المهم.. أسمع الشروط إللي هنمشي عليها حتى الآن لاني لسه هفكر تاني:

أول هام، اسمك مش هايتقال تاني على لساني، مش هقول غير يا سجاني يا مجرم. مش إنت إللي بتقولي يا قطعة المر المتمردة الكذابة؟ خلاص، أنا هقولك يا سجاني، ويوم أحب أدلعك؟ هقولك يا سجنجن ..

ضحكت بسخرية:

لحد ما ألاقي لك اسماء تانية، شبه الأسماء إللي إنت بتسميهالي، الكراميل المملّح، الكراميل المزّز، أي حاجة كده بطعم السُم.


تابعت بثبات وهي بتقرب منه أكتر: رقم اتنين بقى... سكتت للحظة ثم قالت:

لأ، خليها مفاجأة. شوفها وهي بتحصل، حصري هي ورقم ٣.


ضحك سليم بسخرية، وعيناه تضيقان بحدة وهو يراقبها تتحدث بطريقته، بأسلوبه، وحتى بكلماته ذاتها، قبل أن يعلّق قائلًا: طب ما تخلي عندك شخصية مستقلة؟ اختاري لنفسك طريقة، اختاري كلماتك، مش لازم تاخدي كلماتي وإنتي بتتحديني. ده أنا شايفني فيكي، بس على أنثى صغيرة.


ماسة بإبتسامة باردة: تربيتك يا روح قلبي، لازم أستخدم كلماتك وطريقتك وأسلوبك وأبقى.. الصغنن بتاعك وبعدين أنا قلتلك، أنا هوجعك من قلبك، هحاربك بطريقتك من سيفك هدوق من نفس الكاس، أنا إللي مش عايزة أمشي دلوقتي يا سجاني، أنا قاعدة بمزاجي، وحياة كل الوجع إللي هتشوفه.


سليم بصوت واثق: وأنا مستني، أسبوعين أو شهر؟ هنشوف مين هايرفع الراية الأول.


خطا سليم تجاه الباب، لكن صوتها أوقفه.


ماسة قالت بهدوء قاتل: استنى، فيه حاجات كده عايزاك تاخدها معاك وإنت ماشي.


تحرّكت بخطى هادئة نحو الخزانة، فتحتها وأخرجت البلّورة الصغيرة والرسالة التي أعادها له.


ثم  اقتربت منه نظرت إليه، وصوتها يخرج محمّلًا بألمٍ قديم حاولت دفنه طويلًا:

مش دي البلورة إللي جبتهالي في عيد جوازنا؟ قلتلي ده بيتنا، وهيفضل بيتنا، أنا كنت واخداها معايا وأنا هربانة، كانت أماني هناك، بس دلوقتي؟ ماتلزمنيش.


نظرت إليه نظرةً تفيض بالكراهية والانتقام، ثم رفعت البلّورة بكلتا يديها، وألقتها على الأرض بعنف، حدّقت فيه بعينين تتفجّر منهما الذكريات، تتفتّت البلّورة تحت قدميها، وكأنها تعلن خروجه من قلبها… وتحطّمه كما حطّمها في تلك اللحظة، شعر سليم بالوجع يتسلّل إلى أعماقه، وكأن شيئًا انكسر بداخله، شيئًا لا يمكن إصلاحه أبدًا رمشت عينينا وابتلع غصته


تابعت ماسة وكأنها  لم تنتهي وهي تلوح برسالة أمامه: مش دي الرسالة؟ الرسالة إللي كانت ملجأي،  وبتقويني، بس هي كمان مابقاش ليها مكان. 


مزّقت الرسالة أمامه، فتساقطت الأوراق تحت عينيه، وتبعثرت معها رائحتها القديمة، وقف عاجزًا، لا يملك سوى الصمت، لكن ما كان يعصف بقلبه لم يكن سوى عاصفة وجع، تتكسر على أضلاعه من شدّتها، تمزّقه في صمت، وتتركه واقفًا كجدارٍ مهجورٍ نالت منه السنون.


نظرت له بعينين مليئه بتحدي بنبرة قاطعة: 

زي ما البلّورة دي اتكسرت، وزي مالرسالة ده اتقطعت، أنا هشيلك من قلبي، أنا مش هقول لك أنا شلتك من قلبي وبكرهك لا لا.. أنا بحبك... بحبك أوي كمان، بس أنا هقدر أدوس على قلبي، وهعرف أخلّيه يكرهك أنا مش زيك بكذب أنا هعرف أخليه يكرهكك.


أخذت نفسًا عميقًا، وبدأ صوتها يرتجف، لكنها تماسكت وأكملت بثبات:

وإنت؟ ما شاء الله، عندك قدرة إنك تخلي الناس تنفر من وجودها معاك، حتى لو بيحبوك. علشان قلبك قاسي، وإنسان وحش، ووحاشتك بتبان في غضبك. لما حد ييجي عليك بتدوس عليه من غير شفقة، من غير رحمة. فـأنا كمان؟ مش هشفق عليك حتى وأنا بحبك. هدوس على قلبي بالجزمة، وهاجبّره إنه يبطل يحبك.


سكتت لحظة، عيناها تدمع وتبتسم ابتسامة مجروحة: وهتشوف... الكرة سهل لكن المحبة هي إللي صعبة، صدقني، الفترة الجاية مش هانواجه صعوبة في فكرة. كراهيتك؟ يا طعنة العمر، وكسرة الضهر، والخذلان؟ إيه رأيك مش أنا بعرف أقول اسماء أحلى من اسمائك يا بتاع يا قطعة المر المتمردة الكذابة.


مرّر سليم عينيه عليها بصمت، لا ردّ يخطر بباله، ولا كلمة تخرج من فمه كان مصدومًا لم يتوقّع منها هذه الطريقة، لم يتخيّل أن تصل الأمور إلى هذا الحد فما رآه لم تكن ماسة. كانت شخصًا آخر؛ نظراتها، طريقتها في الحديث، اختياراتها للكلمات، كل شيء تغيّر. حتى ملامحها لم تعد كما يعرفها، لم تكن تلك الفتاة البريئة التي عرفها يومًا.


خرج من الغرفة دون أن ينطق، يسير كأنه تائه، كل خطوة أثقل من التي قبلها، وعقله مشوّش كانت نبرتها لا تزال تتردّد في أذنه، تتكرّر داخله بلا رحمة، تابع طريقه حتى غرفته، أغلق الباب، وجلس على الأريكة، ظهره محني، وعيناه ساكنتان، تائه في الفراغ، يبحث في الصمت عن معنى لما جرى.


أخذ يتذكّر حديثها. تحدّيها، ونظرتها الثابتة التي لم تهتز، لكن جملة واحدة ظلت تطرق رأسه بثقل، تعود وتدور بلا توقّف:

"هروبي كان له سبب سبب كبير. وهتندم على إللي عملته معايا."


تلك الكلمة تحديدًا، أكثر ما ظلّ يتردّد داخله،

نعم، كان يشكّ منذ البداية، لكن غضبه كان يحجب عنه كل شيء، يعمي بصيرته، ويغلف قلبه بعاصفة لا ترى سوى الخيانة كل ما رآه أنها خانته لكن الآن؟ كلماتها زلزلت قلبه، رجّت عقله، بعثرت يقينه.


ورغم ذلك ما زال هناك صوت داخلي يلحّ عليه، يهمس بثباتٍ مخيف كشيطان: لا تصدّقها.


وسليم، بصوت داخلي مهزوز، يردّد:

دي بتكدب، ومش هتعمل حاجة، ولا عندها أسباب بتقول أي كلام علشان تجننك، زعلها على عمار هو السبب وبعدين، إنت ما غلطتش إللي عملته كان الصح.


لكن صوتًا آخر داخله يصرخ، يقاطعه بقسوة:

لأ يا سليم، إنت غلطت، غضبك عماك، حتى لو كنت بس عايز تخوّفه، حتى لو كنت بتحاول تمنعها تمشي، إنت غلط كان ممكن تعمل أي حاجة.


كان سليم وكأنه انقسم إلى نصفين صورتها أمامه، وهي تصرخ في وجهه، تزرع الألم في قلبه دون أن تدري، تحاول أن تزيح عنه ذنبًا أثقلها، وتؤكّد له، بعينيها المرتجفتين وصوتها المرتفع، أنه كان على صواب:

لا، ما غلطتش، راجل بيهجم عليك، عايز ياخد مراتك من بين إيدك، وإنت حاولت، حاولت تقول له: امشي... امشي، بس هو قلل منك.


لكن صوتًا داخله ردّ، أقرب إليه من نفسه: غلط؟ كان في طريقة تانية؟"


فيجيبه صوت آخر، مُصرّ: لا، ماغلطتش.


صوت يرفض: هربت بسبب


لكن الصوت الآخر، حادّ ومندفع، لم يرحمه:ما عندهاش سبب  بتقول كده بس، علشان تعصبك تجنّنك بتكذب.


وصوته يصرخ من جديد، كأنه يردّ على ذاته: لا أنا عارف ماسة لما بتكذب.


كانت  معركةٌ تدور في داخله، صراعٌ حقيقي لا يعرف كيف يُوقفه كلُّ صوتٍ يشدّه إلى جهة، وكلُّ فكرةٍ تصطدم بأخرى، ولا شيء يخلّف وراءه سوى وجعٍ يتضاعف وجنونٍ يتّسع، اشتعل صدره، لا من الغضب فحسب، بل من العجز أيضًا، الحجج تتصارع في رأسه، كأنها تتقاتل على امتلاك الحقيقة.


وفجأة، مدّ يده إلى منفضة السجائر أمامه، قبض عليها بقوة، ألقاها على الأرض بأقصى ما أوتي من غضب تناثر الزجاج في كل اتجاه، وكأنّه هو أيضًا قد انفجر معها.


في الجهة الأخرى، عند ماسة.


ظلت واقفة في منتصف غرفتها، تتنفس بصعوبة، تحاول أن تُبقي ما تبقّى منها حيًّا، لكن النبض يخذلها، والدموع تتراقص في عينيها، وشفتيها ترتجفان تعثّرت خُطاها نحو المرآة، أمسكت بحافتها بيدين مرتعشتين، ونظرت فلم ترَ نفسها، رأت شبحًا غريبًا، فارغًا، مشوّهًا.


ماسة، بصوت خافت ودموعها تتلألأ بنبرة مكسورة مليئه بالحسرة:

ياريتك كنتي ظهرِتي من زمان، ما كانش كل ده حصل لي، ماسة أم فستان بفراشات ووردة، ماسة البريئة إللي بتصدق كل حاجة وبتخاف ماتت، وإنتي إللي ظهرتي، بس كنتي لازم تظهري من زمان سليم قال من زمان إن البراءة ماتنفعش، وكان عنده حق، بس هما السبب، ماتزعليش مني، هما إللي قتلوكي هو كمان قتل آخر نفس فيكي عمل زيهم، هددك زيهم، طلع كلامهم صح، يا غبية، كان هيقتل أخوكي، سليم بيحبك صح!؟ بس حب مؤذي، حب مش طبيعي، عنده استعداد يقتل علشان تفضلي جنبه، كلام إخواته طلع صح، لو وقفتي قصاده، هايموت أهلك وعملها، ده حتى مادافعش عن نفسه، ولا حاول يبرر، إنتي لازم توجعيه وتاخدي حقكك فاهمة، فوقي بقى يا عبيطة وبطلي مسامحة، قلبك الأبيض ده هو إللي دمرك..


بدأ الانعكاس في المرآة يتبدل، لم يعد يشبهها الآن، ظهر وجهها حين كانت في الخامسة عشرة من عمرها، بجلبابها الوردي، بملامح بريئة، وعين دامعة


تابعت بنبرة أكثر في دموع تغرق وجنتيها:

ماتعيطيش هو وأهله موتوا براءتك، موتوا ماسة، غيروني، أنا مش حابة أكون كده، بس مضطرة عشان آخد حقي وحق أهلي والله هايدفعوا التمن، ماتزعليش يا ماسة، أنا آسفة، بس مضطرة أموت آخر حاجة فيكي وأخلق ماسة جديدة، بس أوعدك، هنرجع زي زمان في يوم.


نظرت حولها، كأنها تبحث عن شيء،

وقعت عيناها على مزهرية زجاجية فوق الطاولة.

أمسكتها، رفعتها ببطء، ثم ألقتها بكل ما أوتيت من وجع على المرآة، تفتّت الزجاج، وتبعثرت ملامح ماسة القديمة مع الشظايا مع الانعكاس، وقفت وسط الركام، مسحت وجهها بكفّيها، تنفّست بعمق ثم تبسّمت لكنها لم تكن ابتسامة كانت إعلان ولادة، ولادة ماسة جديدة… لا تخاف، لا تثق، لا تتراجع.  


♥️________بقلمي_ليلة عادل_______♥️ 


فيلا عائلة ماسة، السادسة مساءً.


هبطت سعدية من السيارة برفقة عمار، وما إن وطأت قدماها الأرض حتى بدأت تدفعه من ظهره للامام بغضب، وتصيح بصوتٍ عالٍ.


سعدية: أمشي قدامي حرام عليك تعبت قلبي، أدخل يا ابني وأسكت بقى، حرام عليك، ماتصعبهاش عليّ أكتر من كده.


فتحت لهم الخادمة الباب بعد أن طرقت سعدية عليه بقوة. دخلا معًا إلى الصالون، حيث كان مجاهد جالسًا على الأريكة يشاهد الأخبار بصمت، من الأعلى، خرجت سلوى ويوسف من غرفتهم بعد أن جذبهم الصوت المرتفع.


مجاهد بخضه: في إيه يا سعدية؟ مالك؟ إيه إللي حصل؟


سعدية وهي تشير بيدها بغضب بصوت مبحوح:

أسمع يا مجاهد، أنا عايزاك تحلف، حتى لو هتحلف بالطلاق مش مهم، بس تحلف على إبنك ده مايقربش من أخته تاني، ولا يكون له أي علاقة بسليم، لا هو ولا اخواته، لو عايز تحافظ على ولادك، لمّهم، وإلا والله العظيم لأعمل عليهم مصيبة النهاردة قبل بكرة والله همشي وماتعرفوا لي طريق.


عمار بتهكم نظر لها: طول ما إحنا خايفين منه كده، هايدوس علينا بالجزمة.


سعدية ضربته على كتفه بعصبية أسكت، إنت عايز تقف في وش مين؟ سليم الراوي؟ ابن الباشا الكبير؟ نسيتوا نفسكم ولا إيه؟ نسيتوا إنتو مين؟ وولاد مين؟ إنتو مالكوش لازمة، وأنا مش مستغنية عنكم، هو هيعمل فيها إيه يعني؟ مش هيقدر يأذيها، البت كانت واقفة على رجليها، وشكلها كويس، بيحبها، سيبوها، هي عارفة تتصرف، وأنا عارفة بنتي كويس.


سلوى بإستهجان وهى تقترب: ماتفهموني إيه إللي حصل؟


عمار بضجر تحدث من بين أسنانه: البيه جوز أختك، روحت عشان أخد ماسة رفض ولما خدتها عافية، ضرب عليا بالنار.


مجاهد انتفض من مكانه، واهتزت ملامحه، كأن قلبه سقط في الأرض: ضرب عليك بالنار؟


عمار هز راسه بصمت وحسرة: أيوه، وقالّي لو قرّبت تاني المرة الجاية هصيب الهدف، يعني هيقتلني، وهدد أمي كمان.


مجاهد جلس مكانه وهو يشعر بغصة في قلبه وقشعر بدنه بقلة حيلة قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، لا حول ولا قوة إلا بالله.


يوسف وهو يمرر عينه عليهم: خلاص، نبلّغ البوليس.


ضحكت سلوى بسخرية: تبلّغ على مين؟ دول شغالين معاه يا حبيبي؟ إنت مش فاهم إزاي الدنيا ماشية؟


مجاهد: خلاص، أنا هروح لعزت باشا، وهو يعرف يتصرف معاه.


سعدية صرخت بصوتٍ متهدج وهي تلوّح بيدها:

والله العظيم يا مجاهد، لو عملت كده، ما أنا قاعدالكوا في البيت، ولا هاتعرفولي طريق، والله أموت نفسي قدامكم أنا مش مستغنية عن عيالي، هيعمل إيه؟ البنت قالتلي إنه كان بيمشي كلمته على أبوه، وإنه محدش بيعرف يرفع عينه فيه، أنا مش مستغنية عنكم. عايزين تموتوا نفسكم؟ وتموتوني بحسرتي؟!


يوسف بتعب ممزوج بتهكم: يعني إنتي عايزة إيه يا أمي؟ نسيبها هناك معاه؟ ده إحنا مانبقاش رجالة ياما.


سعديةبتعب: أختك أصلا ماكانتش عايزة تيجي معانا.


قاطعها عمار بشدة: علشان خايفة.


سلوى بقلق:طب ولو خايفة؟ ده معناه إنها تحت تهديد.


سعدية وهي تضع يدها على قلبها بغضب: أختك كانت واقفة كويسة، مابيعملهاش حاجة، بس عشان يسكتها، وعلشان ماتاخدهاش منه، عمل كده، هو بيحبها، وعارف إنها لو بعدت هاتضيع منه، مش هيأذيها لو ناوي كان خلص عليها هناك، حتى مكي قال كده بس إنتم دماغكم دي ناشفة مش هيموتها بس هيموتكم هنا وهيحرق قلبي عليكم سيبوها له مش هيعمل لها حاجة بيحبها.


مجاهد بهدوء: طب ياسعدية، خلاص، أطلعي فوق وأهدي.


سعدية وهى تمرر عينيها عليهم بتحذير:

بقولكم أهو، لو أي حد قرب منه، هاسيب البيت وأمشي. ولا هتعرفوا لي طريق، والكلام لكل واحد فيكم، ولا حتى تروح تشتكي لأبوه يامجاهد، إحنا مش هنعمل حاجة إحنا هنقعد كده مش هنقول غير حسبي الله ونعم الوكيل، حسبي الله ونعم الوكيل في القوي الظالم.


استدارت سعدية وصعدت الدرج، وخلفها ظلال التهديد واليأس.


جلس مجاهد، وأشار لعمار أن يقترب: تعال يا عمار، أقعد يا ابني، أحكيلي بهدوء.


اقتربت سلوى ويوسف، وجلسوا في صمتٍ ثقيل.


عمار بدأ يروى ما حدث، خطوة بخطوة، كيف ذهبوا لأخذ ماسة، وكيف تصدى لهم سليم، هدده بالسلاح.


مجاهد هزّ رأسه بعد رضة: بس أنت، ماكنش ينفع تعمل كدة، دي مراته.


يوسف متعجباً: يعني كنت عايزنا نسيبها يا بابا؟


مجاهد موضحاً بعقلانية: لا يا ابني، بس حط نفسك مكانه، هو عمل ماينفعش، بس برضه دي مراته، ولو بلغنا البوليس، هيقولك ده جوزها، ربنا قال كده والقانون كمان. وربنا فوق الكل.


سلوى بحزن: يعني يا بابا حتى لو عمار غلطان، ينفع إللي حصل؟


مجاهد بحكمه: لا يا بنتي، ماينفعش، ده لو كان خلى الحرس يطردوهم زي كل مرة، كان أهون، لكن الرصاص؟ ده جديد ومُخيف، بس برضه، عمار ماكانش ينفع ياخدها من بين إيده وعافية كان اخد الكلمتين ومشي، هو وأمه يروحوا له تاني وثالث، وكل شوية نروح له، أنا كنت ناوي أعمل كده، وعشان كده سِبتكم تروحوا، بس ماكنتش عارف يا عمار إنك هتعمل كل ده، وتعرض نفسك للخطر ده، أنا بقولك اهو أوعى تروح هناك تاني، سامع؟ أنا عارف إنك زعلان على أختك بس خلينا نهدي الجو.


يوسف بحزن وصدمة وهو ينظر أمامه: أنا والله العظيم مش مصدق، أنا كنت بحبه، كنت باعتبره أخويا الكبير، للدرجة دي كان بيمثل علينا؟ ولا هو اتغيّر؟


عمار تنهد بمرارة: مش لوحدك والله يا يوسف مش لوحدك.


مجاهد تنهد متساءل ومكي؟ ماعملش حاجة؟


عمار مد وجهه موضحاً: مكي عمل إللي قدر عليه. حاول يوقفه، بس سليم ماسمعش كلامه، كان هايتخانق معاه هو كمان.


سلوى بضجر بعين دامعة: شايف يا بابا؟ أنا للي كنت صح، مكي مش قادر عليه، وأنا مش هتجوز راجل مايعرفش يحميني في وقت غضب صاحبه إللي مشغله ولي نعمته.


مجاهد قال وهو ينظر في الأرض: لا إله إلا الله استغفر الله العظيم ربنا يحفظك يا بنتي، ويحميكي من شر سليم ومن ظلمه.


سلوى بحزن ودموع: إحنا طلعنا غلابة أوي يا بابا مش عارفين ناخد حقنا، ولا نقدر نعمل حاجة لأختنا. أول مرة في حياتي أكره إني بنت خدامين، كانت نفسي أطلع بنت واحد زي عزت الراوي، كان زماني خدت حقي، ويمكن كنت عرفت أوقفه عند حده، الضربة إللي ضربها لنا كنت ردّيت عليها بعشرة.


مجاهد: حسبي الله ونعم الوكيل، هتفرج إن شاء الله هاتفرج.


فيلا سليم وماسة


غرفة ماسة، الساعة الثامنة مساءً


نرى ماسة مازالت تجلس في غرفتها، شاردة الذهن، تفكر في خطتها، كيف ستتمكن من هزيمة سليم؟ 

ما هي خطوتها الأولى؟ وبينما كانت تغوص في أفكارها، دخلت سحر بهدوء.


سحر: مساء الخير يا هانم، أنا حضرت العشاء.


نظرت إليها ماسة لوهلة، وكأنها تفكر في أمر ما، ثم قالت بهدوء: هاتي هنا، أنا هاكل هنا وبعد إذنك، تعالي لمي الإزاز ده.


سحر: عنيا.


غادرت سحر الغرفة، وظلت ماسة في مكانها، تنظر نحو أحد أركان السقف، وكأن عينيها تفتّشان عن كاميرات خفية، تنهدت، ثم نظرت أمامها، وهزّت رأسها بإيجاب، بدت كمن اتخذ قرارًا حاسمًا، وكأنها على وشك الإقدام على شيءٍ لا عودة منه.


في الأسفل/ السفرة 


جلس سليم وحده أمام مائدة الطعام اقتربت منه سحر: ماسة هانم هتاكل فوق.


أجابها دون أن يرفع عينيه: ماشي يا سحر، روحي إنتي طلعلها العشا.


ابتعدت سحر بخطًى متسارعة، بينما ظل سليم جالسًا في مكانه، ينظر في الفراغ، غارقًا في التفكير.


مدّ يده نحو الطعام، تناول قطعة صغيرة، لكنه سرعان ما أسقطها، كان صوت ماسة، نظراتها، وتحدّيها، لا يفارق ذهنه.


ما شغله أكثر كان حديثها عن ذلك "الشيء" الذي دفعها للهرب، وضع الشوكة بتعب، وغاص في تفكيره:

"يمكن بتقول أي كلام علشان تعذبني؟ طب مانزلتش ليه تاكل معايا؟ بتعاقبني يعني؟ ماشي يا ماسة، نشوف بقى آخرتها معاكي إيه، ونشوف التحدي ده هايوصل لفين.

أكمل سليم طعامه، لكن ملامحه لم تُخفِ ما في داخله، كان متأثّرًا، حائرًا، يشبه من يتذوّق الطعام ولا يشعر بطعمه.


(وخلال اليوم)


لم تهبط ماسة إلى الطابق السفلي، بل آثرت البقاء في غرفتها، تتأمل السكون وتُعمل التفكير: من أين تبدأ؟ وكيف تردّ بطريقتها؟


ورغم تلك الحيرة التي تنهش قلبها، تناولت طعامها بهدوء، ثم اشغلت فيلم على اللابتوب جلست تتابعه كأن شيئًا لم يحدث، وكأنها تُرسل لسليم رسالة صامتة:

"وجودك لم يعد يعني لي شيئًا."


كان سليم، كعادته، يُراقبها عبر شاشة التابلت…

عيناه لا تغفلان عنها، وقلبه وإن أنكر، لم يكفّ عن الرجفان.


ظل يفكر بكلماتها، بذلك التحدّي الذي ألقته في وجهه دون أن ترتفع نبرتها، بتلك الجرأة الهادئة التي لم يألفها منها من قبل...هي تغيّرت، وهو يعلم…ويعلم أيضًا أن زمام الأمور بدأ ينفلت من بين يديه.


في مساء اليوم ذاته، قاد مكي سيارته نحو فيلا عائلة ماسة.

توقف أمام البوابة دون أن يترجّل، ظل حبيس المقعد يُصارع أفكاره:

هل يدخل؟ هل يواجههم؟ هل يحاول إصلاح ما أُفسِد؟ لكنه تذكّر...

تذكّر كيف رفضت سلوى الاستماع إليه، تذكّر صمتهم الجارح، ووجوههم التي لا يطيق رؤيتها، شعر أن لا جدوى من الزيارة، وأن وجوده لن يكون سوى عبءٍ جديد، أدار المحرك بهدوء، وغادر كأن شيئًا لم يكن


منزل سارة، العاشرة مساءً


الريسيبشن


نرى عماد يجلس بصمت على الأريكة، بينما توقفت سارة أمامه، وقد بدأ على ملامحها علامات الضيق والغضب.


سارة بعصبية: يعني أنا دلوقتي مهددة بالموت أنا وولادي بسببك؟ يعني ممكن أموت في أي لحظة أسمع انا ماليش دعوة بيكم لو في حاجه ممكن تاذيني او تاذي ولادي تطلقني فاهم.


عماد يحاول التهدئة: مش هيعمل حاجة لو كان عايز يعمل، كان عمل من زمان هو بيأمن نفسه وأنا استحالة أعمل حاجة من غيره، بس خدي بالك، وخليكي مع الحراس دايمًا.


تقدّمت سارة نحوه بحدة، عيناها تكادان تطلقان شررًا: أنا سألتك كام مرة؟! كام مرة؟! وقولتلي: "لأ، مش أنا، أنا أصغر من كدة وطلعت بتخبّي عليا! طلعت إنت إللى وراها ويا ترى مين بيساعدك


عماد ببرود: عثمان هو الحارس الوحيد إللي قدرت أشتريه من عند سليم ،هو  إللي بلغني بخط سيره،

كنا مجهزين كمينين: واحد في طريق الدكتور، تحسبا لو راح مع ماسة، والتاني في طريق الاجتماع كل تحركاته كانت بتوصلني أول بأول عن طريقه.


سارة بغضب مكتوم:وياترى مخبّي إيه تاني؟ قولي!


خفض عماد نظره إلى الأرض، صوته بالكاد يُسمع:

مافيش حاجة تاني.


لكن سارة لم تقتنع، ضيّقت عينيها فيه وهي تقرأ كل حركة في ملامحه: إنت بتكدب، في يلا قول، أنا قاعدة، اتفضل أتكلم، قول كل حاجة والله لو ماقولت الحقيقة لختفي من حياتك أنا والولاد.


عماد نظر لها للحظات بصمت تنهد ومسح وجهه هز  راسه بإيجاب: هقولك كل حاجة.


صباح اليوم التالي


مجموعة الراوي 


مكتب سليم العاشرة صباحاً 


نرى سليم يجلس خلف مكتبه، عيناه شاردتان في نقطة بعيدة، وكأن ما جرى بالأمس لا يزال يطارد أفكاره، وبعد دقائق، فُتح الباب دون طرق، ودخل مكي بخطوات واثقة، رفع سليم عينيه إليه، تبادلا نظرة قصيرة، ثم جلس مكي على المقعد المقابل له.


مكي: خير فيه إيه؟!


سليم بصوت منخفض: هو إنت، ماعرفتش أي معلومة من سلوى؟


مكي ضيق عينيه بتعجب: معلومة؟ إزاي يعني؟


سليم بتنهيدة متعبة: أي حاجة أي تفصيلة صغيرة عن اسباب التغييرات.


هز مكي رأسه: لأ معرفتش حاجة أكيد لو عرفت هقولك.


سليم بمرارة: ماسة إمبارح أقسمت إن في سبب، وقالتلي: مش هقولك، وهخليك تلف حوالين نفسك، ولو وصلت له أنا هخفيه بإيديا.


حاول مكي يخفف التوتر: مش شرط. يمكن أقسمت إن في سبب فعلاً بس أكيد السبب إللي تقصده تهديدك ليها عشان قسمها يبقى صادق.


مرر سليم يده على رقبته، وكأن التعب استقر فيها: أنا مش مطمن، خايف فعلاً يكون في حاجة، وإحنا  إللي عمينا نفسنا بالغضب ماتنساش إننا كنا شاكين.


مكي بهدوء: تمام بالمناسبة، عماد رجع إمبارح وطلع على بيت سارة الجديد، وزوّد الحراسة عليها، ورشدي شكله هيغرق في الإدمان، دخل جامد جدًا.


سليم بتركيز: سيبك من الكل دلوقتي، كل تركيزنا على ماسة خلي عشري ياخد هو المراقبة عليهم مكانك، إحنا لازم نلاقي أي ثغرة، أي طرف خيط، إنت علاقتك بأهلها أفضل جرب تدخل منهم، راجع تاني المكالمات حتى من سنة راجع كاميرات القصر كلها تاني اسأل الخدامين هددهم عايز ده يبقى كل شغلك.


مكي بنبرة حاسمة: ماشي هعمل كدة، بس أنا بقولك، مافيش، هي بتقولك كده علشان تاخد حق إللي عملته في أخوها وبصراحة؟ عندها حق.


سليم بهدوء: خلينا ندور، مش هانخسر حاجة، وأنا ها أجرب أكلمها النهاردة تاني.


سكت للحظة، ثم نظر في عين مكي وقال بصدق:

مكي، لو حابب تبعد عن كل ده، أبعد، صدقني، مش هزعل منك.


وقف مكي فجأة، قائلاً بنبرة قاطعة: لو قلت كده تاني، أنا إللي هزعل منك، تفتكر إني ممكن أخسر أخويا، علشان واحدة ست؟


سليم رفع عينه له بجدية قال: الست دي كانت هتبقى مراتك دلوقتي، وبتحبها يعني هي شخص مهم في حياتك.


مكي بهدوء مشوب بالمرارة: صح ومازالت، بس هي باعت من غير سبب، لو عندها سبب المفروض تيجي، تواجهني، تشرحلي، تفهمني، مش تعاقبني على حاجة أنا ماعملتهاش، أنا مش هعيد الكلام لو ماسة عندها نص سبب يخليها تهرب، فسلوى ماعندهاش حتى "حرف" يخليها تبعد، وتتعامل معايا بالشكل ده.


سكت لحظة، ثم أكمل بحرقة وهو ينظر بعيد:

هي كرهتك، بسبب كلام أختها، وشايفة إني شبهك نسخة أسوأ كمان، هي قالتها، عشان كان المفروض  اقف ضدك وأمنعك.


ألتفت لسليم ونظره حاد تابع: فهمتني؟ ماتفتحليش الموضوع ده تاني إنت مالكش دعوة هي إللي ماحبتنيش وخلاص بس أنا هفضل أختارك، مهما حصل طول ما أنا شايفك مش مذنب..


ابتسم بسخرية خفيفة: حتى موقفك إمبارح، برغم غبائك، وإنك ضيعت حقك، بس أنا مش هلومك، لإني لو كنت مكانك ومراتي بتتاخد مني بالشكل ده، يمكن كنت تصرفت بطريقه اصعب منك.


سكت لحظة، وهو بيجهّز نفسه ليرحل: عموماً، أنا هبحث أكتر في الموضوع إنت خليك مع ماسة، وبطل عند، واعتذرلها، وفهمها إنك ماكنتش ناوي تقتل أخوها، هروح أنا.


خرج مكي دون أن يشعر بندم، خطواته ثابتة، وعينيه مليئة بتصميم، أما سليم، فظل جالسًا في مكانه، يشعر بضيقٍ يعتصر صدره، وراسه تكاد تنفجر من التفكير.


تمتم لنفسه، بنبرة منخفضة: نجحِتِ يا ماسة، خلّيتيني أتجنن من التفكير يمكن فعلاً بتلعبيها صح، عشان حافظاني! عارفة إن الموضوع ده هيجنني لإني نفسي أعرف الحقيقة يارب يكون عندك سبب بجد.


وبحركةٍ عنيفة، دفع بكل ما على المكتب فألقاه أرضًا.

زفر بقهر، وعيناه تتحركان بسرعة، لكن رأسه مشغولة بشيء واحد:

هل خسرها فعلًا؟ ماذا لو كان لديها سبب حقيقي؟


فيلا سليم وماسة، العاشرة صباحًا


في غرفة ماسة.


استيقظت بهدوء غريب، وكأن نومها كان مختلفًا عن كل ليلة، أخذت حمامًا دافئًا، ثم أدّت صلاتها، قبل أن تبدأ في البحث بين فساتينها عن شيء بعينه، وما إن عثرت عليه، حتى تبسمت.

فستان أسود بسيط، بحمالات رفيعة، يصف تفاصيل جسدها دون تحفظ. ارتدته، وتركت شعرها منسدلًا، ثم وضعت القليل من مستحضرات التجميل، حتى أصبحت كما يعرفها سليم، وكما يحب أن يراها، رفعت رأسها نحو السقف، كأنها تنتظر أن تقع عينه عليها الآن لكنه للأسف لم يكن هناك، كان مشغولًا في عمله في المجموعة.


نزلت ماسة إلى المطبخ.


ماسة: صباح الخير يا ماما سحر.


سحر التفتت لها بابتسامة: صباحك قشطة ما شاء الله عليكي يا بنتي، ربنا يحفظلك الجمال ده


جلست ماسة: يارب، حضريلي الفطار لو سمحتي.


سحر: جاهز، ثواني وهاحطه، استني على السفرة.


ماسة: لا، هاكل هنا. وندردش شوية.


سحر: ماشي.


بدأت سحر تحضير الفطور، وضعت الأطباق، وبدأت ماسة تأكل.


ماسة: ما بتاكليش معايا ليه؟


سحر: سبقتك أنا بصحى الفجر، مش زيك.


ماسة تبسمت: أنا كمان زمان كنت بصحى الفجر، أيام ماكنت بشتغل عند منصور، إنتي عارفة المعلومة دي؟ كنت زيك كده، أنا وأهلي، بس إنتي محظوظة، رزق بيّا أنا سليم أنا كنت عند ناس أعوذ بالله.


سحر: عارفة، بس الحمد لله ربنا رحمك، لكن زمان كنتي بتشتغلي وكان وراكي حاجات، لازم تصحي، دلوقتي بقى تصحي براحتك، بس مش زي ايام مكان ليلك نهارك، ونهارك ليلك! كدة حلو، تصحي ١٠ ولا ١٢ بالكتير.


ماسة: إن شاء الله.


أكملت تناول طعامها، بينما سحر كانت ترتب بعض الأغراض.


توقفت ماسة فجأة، وسألتها: ماما سحر في هنا ستاير زيادة غير إللي متعلقة؟


سحر التفتت باستغراب: آه يا هانم، إللي على الشبابيك دول متعلقين.


ماسة بهدوء: لا، مش قصدي دول قصدي غيرهم.


سحر رفعت كتفها بعدم معرفة: مش عارفة والله لسه ماعرفتش الفيلا كلها كويس.


ماسة: دوري، ولو مالقيتيش نادي اتنين من الحراس يشيلوا كل الستائر التقيلة إللي في الفيل ويجيبوهم عندي فوق.


سحر بإبتسامة متوترة: حاضر عنيا.


ماسة، وهي تنهض: طب أنا خلصت فطاري على ما أشرب الشاي، تكوني طلعتي الستائر بعد إذنك.


سحر: تمام.


(بعد وقت).


لم تجد سحر ستائر إضافية، لكنها عادت محمّلة بعدة ستائر ثقيلة كانت متعلقة في غرف أخرى تبعها الحراس، وصعدوا جميعًا نحو جناح ماسة.


في الداخل، كانت ماسة بانتظارهم، فس الشرفة، تنظر من خلف القضبان الحديدية. 


سحر: ماسة هانم


ماسة ألتفتت بصمت.


سحر تابعت: ملقتش زيادة، جبتلك دول، والحراس أهم.


ماسة أومأت برأسها، ثم أشارت بيديها: غطّوا الحيطان دي كلها حتى إللي قصاد الدولاب، ساعدوا سحر عايزة الحيطان من الأرض للسقف متغطيه وثبتوا الستاير بمسامير مش عايزة ألمح حتى حتة صغيره من الحائط مفهوم.


بدأ الحراس في تنفيذ أوامرها


وفي جهة أخرى من المجموعة، كان سليم في اجتماع عمل، وبعد انتهائه، أمسك بالتابلت ليتفقّدها، لكنّه لاحظ أمرًا غريبًا، بعض الكاميرات تعرض شاشات سوداء هزّ الجهاز، وانتقل بين الكاميرات، لكن الوضع كما هو مربّعات سوداء تظهر بدل الصورة.


أعاد الإمساك بالتابلت، الشخصي، لكن لا شيء تغيّر نفس الشاشات السوداء؟! 

عقد حاجبيه، وهو بيتمتم: ايه اللى حصل؟!


رفع سماعة الهاتف، وأتصل بعثمان.


سليم: عثمان إيه إللي بيحصل عندك؟


عثمان: ماسة هانم طلبت الحراس يساعدوا سحر علشان يعلّقوا ستاير قفلت كل الحيطان بالستائر يا باشا،


حكّ سليم خدّه بعدم فهم، أغلق المكالمة، وظل يحدّق في الشاشة، كان هناك بعض زوايا الكاميرات لا تزال تعمل، فبدأ يتفقدها، واحدة تلو الأخرى، ومن ضمنهم في السقف.


بدت ملامحه متعجبة، مشحونة بالاستفهام.


عند ماسة/ بعد قليل، انسحب الحراس بعدما أنهوا مهمّتهم، وباتت ماسة وحدها.


سحبت بعض المفارش من الخزانة، وبدأت تغطّي بها الأثاث والزوايا واحدة تلو الأخرى.


تحرّكت بخطًى دقيقة، تنظر إلى الزوايا وكأنها تُعدّها لحصارٍ من نوعٍ خاص، غطّت التسريحة بعناية، ثم الكراسي، فالمكتب، كأنها تطمس معالم المكان عمدًا، تُغلق الأعين التي تراقبها، وتستعيد سيطرتها على مساحتها.


توقفت أمام جهاز التكييف، حدّقت فيه طويلًا، وكأنها ترى خلفه ما لا يُرى.


كان سليم يراقب كل ذلك عن بُعد، بابتسامة خفيفة تشق وجهه قال لنفسه: بتعملي كده ليه؟ ناوية على إيه يا ماسة؟ هو ده بقى التحدي؟ شكلها فعلاً اتجننت.


رآها تقترب من التكييف، وتُلقي فوقه ملاية بعيدة عن الفتحات، لكنها تخفيه كليًا وكانهاو أغلقت معها عينه.


ضحك سليم، وقال: حتى التكييف؟ ده أنا مش هعرف أراقبك غير من القمر الصناعي!


ثم صمت فجأة. حدّق في الشاشة، وملامحه تغيّرت، الضحك تلاشى، وحلّ محله شكّ متزايد، قلق ثقيل.


همس لنفسه: دي مش بتهزر دي ناوية تعمل حاجة، لو ناوية تكسبني يبقى لازم أرجّع السيطرة تاني، وبسرعة


أزاح التابلت من أمامه، وسند ظهره إلى الكرسي، ملامحه باتت جامدة، وعينيه غارقتين في التفكير.


عند ماسة/ 

دخلت سحر الغرفة توقفت في المنتصف،.: ماسة هانم أعملك حاجة؟ 

حدّقت من حولها بدهشة: ده إيه إللي أنا شايفاه ده كله؟


ماسة قالت بهدوء: ساعات الواحد بيحب الخصوصية


صمتت سحر، لم تستوعب ما تقصدينه تمامًا، لكنها لم تُجادل فقط انسحبت بصمت.


عاد سليم إلى الفيلا متأخرًا ترجّل من سيارته بخطواتٍ حادّة، وصعد الدرج وعيناه لا تُفارقان الباب الذي يعلم جيدًا ما ينتظره خلفه.


فتح باب الغرفة بعنف كانت ماسة واقفة في المنتصف، بثباتٍ لافت، وكل شيء من حولها مغطّى، الستائر، الأثاث، الجدران على وجهها، ارتسمت ابتسامة نصر هادئة، لا صوت لها، لكنها كانت كافية كأنها كانت بانتظارة.


سليم وهو يمرر عينه من حوله قال بسخرية: ايه إللى عملتىه ده، هو ده التحدي.


اقتربت منه قالت بتحدي: آها دى تاني حاجة هتحصل حصري، مش أنا كنت قولتك أول حاجة مش هقول اسمك تاني وتاني حاجة خليها تحصل حصري هي دي وفي حاجة ثالثة كمان افتكرتها بس برده خليها تحصل حصري، كل ما الحاجة تحصل حصري كل ما يبقى ليها طعم صح يا سجنجن،  قفلت عليك كل الكاميرات عشان أمنع عينك تشوفنى.


ارتسمت إبتسامة جانبية بسخرية: تفتكري أنا مهتم أشوفك وأملي عينك منك يا قطعة المر.


ماسة: أمال بتراقبنى ليه؟!


سليم: علشان ماحطش متنفس ليكي.


تحركت ماسة كام خطوة وهى تبتسم: ماقولتلك تمثيلك زيرو.


سليم: خليكي إنتي عايشة في وهمك إني لسة بحبك

عموماً لسة في كاميرتين.


ماسة ألتفتت له: يبقى  في السقف هحاول أشوف له طريقة مش هخليك تشوفني تاني بعينك ولا تسمع اسمك بصوتي والحاجة الجاية هتبهرك. 


لم يهتم سليم بالرد عليها فقط سألها: إنتي بجد هروبك بسبب؟! 


ماسة اقتربت منه: ممكن


سليم بشدة: هو إيه إللي ممكن يا فيه يا مافيش.


ماسة ببرود قاتل تريد أن تجننه: يجوز آها يجوز لا.


زمجر سليم وصاح بها: ماتنطقي  يا فيه يا مافيش.


تبسمت ماسة ببرود خانق مستفز: إنت من حقك كسجان تزعق وتعاقب، بس مش من حقك إنك تجبرني أقول لك أسبابي وبعدين ما اتحايلت عليك كتير وإنت قلت لي مش مهتم أعرف، ومش مصدق وإنك كذابة ماديتش لنفسك فرصة واحدة تسمعني 

فخلاص  فرصتك انتهت، قولتك والله ماهريحك مش هقولك إذا كان هروبي بسبب تهديك وإني غير مسؤولة وزهقت منك ومن أفعالك، ولا لسبب تاني يا سجاني.


سليم: مرر سليم عينه عليها بضجر: عنك ماقولتى

عموما إنت خدتي آخر فرصة ليكي كان ممكن تنهي فيها كل ده.


ماسة بنظره حادة: إنت إللي خلصت كل فرصك وجه وقت فرصتي.


نظر لها سليم بصمت من أعلى لأسفل ثم تحرك وخرج للخارج دون أن يتفوه بكلمة

💞________بقلمي_ليلةعادل_______💞


لم تخرج ماسة من غرفتها بقية اليوم، بل ظلّت مستلقية على فراشها تشاهد الأفلام عبر اللابتوب وكان شيئا لم يكن 


في المقابل، كان سليم يغلي من الداخل، الغضب ينهش صدره كلما تذكّر أنه لا يستطيع رؤيتها إلا من زاويتين ضيّقتين: الأولى من السقف، حيث تركت الستائر متدلّية كحجابٍ ثقيل، والثانية من فتحة التكييف، التي لم تغطِّها بالكامل مرّ اليوم كالمعتاد؛ كلٌّ منهما في غرفته، يحتضن الصمت والغضب.


في اليوم التالي، نهض سليم باكرًا، وتوجّه إلى المجموعة، أنجز عمله، ومرّ على المصانع كعادته، لكن هذه المرة، كان أكثر اجتهادًا من المعتاد، وكأنه يُفرغ غضبه في المهام، ويُحاول أن يشغل تفكيره بأي شيء، سوى ماسة.


يوماً بعد يوم، كان من حوله، ومنهم فايزة، يظنون أنه تعافى، وأن نظريتها عنه قد ثبتت صحتها، لكن الحقيقة الوحيدة التي نعلمها نحن هي أنه يهرب يهرب من شيءٍ واحدٍ فقط: ماسة، وعشقه العميق لها.


أما ماسة، فقد استيقظت في اليوم ذاته، لكنها لم تغادر غرفتها تناولت الإفطار والغداء فيها، ورفضت حتى الجلوس مع سحر، بدت وكأنها تتعمّد العزلة، كأنها تُخطّط لأمرٍ ما، تدبّر شيئًا لا نعلم بعد ملامحه في المساء، توجّه سليم إلى القصر ليُحضر بعض الملابس لها، لكن عزّت أصرّ عليه أن يتناول العشاء معهم وكان لا بد أن يوافق.


قصر الراوي السابعة مساءً.


السفرة.


كانت الطاولة عامرة، تجمع أفراد عائلة الراوي جميعًا، وحدها ماسة، لم تكن بينهم.


عزت بصوت هادئ لكنه مباشر: ماجبتش ماسة معاك ليه؟


هبة بنبرة شوق: صحيح، هي فين؟ والله وحشتني، غيرت رقمها ولا إيه؟


سليم يتناول طعامه دون أن يرفع عينيه: إنتي إللي مختفية من شهور.


هبة متأففة: نالا مطلّعة عيني مابتنامش.


سليم بلطافة ساخرة: بس كبرت، ما شاء الله مش ٣سنين دلوقتي؟


هبة بتعب: بس مجنناني على الآخر، وبعدين أنا كمان حامل.


سليم يتوقف عن المضغ، عيونه تتسع بابتسامة: حامل؟


هبة تزوم شفايفها بضيق: للأسف.


سليم بتعجب: ليه للأسف؟


هبة بضجر: لأنه صعب، إنت مش هتفهم غير لما تجيب بيبي، ساعتها بس هتحس بالمعاناة علشان كده مش بظهر، ومش بعتمد على الدادة.


سليم يرفع حاجبه، ويبتسم ابتسامة جانبية: يعني عدم الظهور علشان مشغولة مع البنت؟


هبة تهز رأسها: أيوة، المهم فين ماسة؟ عايزة أكلمها، أشوفها، ونخرج سوا.


سليم بنبرة حادة، هادئة: دي حجج ملهاش علاقة، أنا فعلاً ماخلفتش، بس مش غبي إنتي بتروحي لأهلك، وبتخرجي، بس لما وصلنا لمكالمة التليفون مع ماسة! فجأة الوقت أصبح مش مكفي؟ عمومًا ماسة بخير، ماتشغليش بالك بيها، خليكِ مع نالا وبالنسبة لرقمها الجديد، إزاي يعني هتضيعي دقايق من وقت نالا عشان تكلميها؟


هبة بصوت خافض: هو إنت زعلان؟


سليم يبتسم نصف ابتسامة ببرود:إطلاقًا، بس، مابحبش الوشوش، اهتمامك مش مطلوب من الأساس.


ياسين يحاول يتدخل بنبرة هادية: سليم، هبة كانت.


سليم يقاطعه وهو بيكمل أكله: محتاج أكمل أكلي بهدوء، الرسالة وصلت.


هبة تعترض بصوت متضايق: بس.


عزت يقطع الكلام بحسم: خلاص، الكلام إنتهى لحد هنا.


نهضت هبه من على الطاولة بضجر، بينما ياسين  القى نظرة عتاب واضحة تجاه سليم: ليه كدة يا سليم؟


    الفصل السادس والسبعون ج2 من هنا 

    لقراءة جميع فصول الرواية من هنا


تعليقات
×

للمزيد من الروايات زوروا قناتنا على تليجرام من هنا

زيارة القناة