رواية الماسة المكسورة الفصل الرابع والسبعون 74 ج2 بقلم ليله عادل

رواية الماسة المكسورة

الفصل الرابع والسبعون 74 ج2

بقلم ليله عادل


فيلا عائلة ماسة، الثالثةمساءً.


فتحت الخادمة باب الفيلا، فدخل مكي.


مكي:  السلام عليكم.


الخادمة بأدب: أتفضل يا بيه، الحاج والحاجة في الصالون.


في الصالون... أعلنت الخادمة بصوت مسموع: مكي بيه واقف برة. سعدية بهدوء: خليه يدخل.


سعدية لمجاهد وهو ينهض: بالراحة عليه يا مجاهد.


مجاهد: طيب.


مكي: السلام عليكم، مساء الخير.


مجاهد: مساء النور، أزيك يا إبني؟


مكي: الحمد لله، إزاي حضرتك ياطنط؟


سعدية: نحمدوا.


مجاهد: إزيك يا عمي؟ أخبارك إيه؟


مجاهد مبتسمًا: الحمد لله يا إبني، أقعد.


جلس مكي قائلاً: أتمنى النهاردة تكونوا أحسن، علشان نعرف نتكلم مع بعض.


أجابه مجاهد بنظرة جادة: إحنا كويسين يا ابني، بس بقولك إيه يا مكي، أنا هسألك سؤال ولازم ترد عليا بأمانة، قدّام ربنا... كنت عارف إللي هيحصل؟


فهم مكي المقصود وسأل: تقصد إللي عمله إسماعيل؟


مجاهد: أيوة يا إبني.


أطرق برأسه قليلًا: بصراحة، أنا عارف إن أسلوب إسماعيل مش كويس، مابيطبطبش في الكلام، ولا بيحط في اعتباره أي حاجة، أنا كلمت سليم وهو رفض، كان شايف إن لو أنا إللي تدخلت أو عشري، ماكناش هنطلع إجابة من سلوى، والحقيقة الوحيدة إن الوحيد إللي كان هيطلع الإجابة منها هو،إسماعيل، بس أنا متأكد إن لا سليم كان يعرف إنه هيستخدم الأسلوب ده، ولا أنا، ولما إسماعيل رفع السلاح على حضرتك، أنا ضربته بالنار، وكنت هقتله، لولا سليم لحقني.


تنهد وأكمل مفسرا: إحنا عاهدنا ربنا إننا مش هنستخدم الأساليب دي تاني، وسليم ماسكتش له، صدقوني. ولو كان عندي شك واحد في المية إن إسماعيل ممكن يعمل كده، كنت منعت كل حاجة أنا قولت آخره هايهدد بطرق غير مباشرة.


نظر إليه مجاهد بحدة: يعني إللي عمله يرضيك، يا ابني؟


مكي على الفور: طبعًا لأ، وأنا بعتذر، حضرتك عندك شك  اني بكذب عليكي


سعدية بعقلانية: وأنا مصدقاك، بس سليم برضه غلط، هددنا وضرب عمار، وكنت حاسة إنه هيضرب سلوى.


أخذ مكي نفسًا عميقًا: أنا مش هبرر له، بس سليم عنده مشكلة لما بيوصل لمرحلة غضب معينة، بيبقى مش شايف قدامه.


مجاهد بعقلانية: بس ده مش مبرر، يا إبني.


مكي يحاول التوضيح: عارف إنه مش مبرر والله. بس فعلاً، سليم ماكانش عارف هو بيعمل إيه؟! حتى لما واجهته قال لي مش فاكر، ماسة غلطت، أي راجل في مكانه هايبقى عامل كده. يعني مراته تهرب أكتر من مرة وعن طريق أختها كمان؟ يعمل إيه؟ يمكن يكون تجاوز شوية، بس أنا مقدرش ألومه، ومش عارف لو كنت مكانه كنت هعمل إيه. ويمكن حضرتك كمان ماتعرفش لو كنت مكانه هتعمل إيه، يمكن تعمل زيه أو أكتر، وسلوى قالت لي إن حضرتك كنت بتمد إيدك على خاله سعدية، أعتقد ده برضو اسمه تجاوز في حق أم أولادك لكنها اديتك مبرراتك إللي هي  كان غضبان بزيادة والكلام ده،  وأكيد لو حد عندها اتدخل كنت ممكن تقوله في لحظة غضب مالكمش دعوة وطردتهم وتمد ايدك،  ده معناه إن حضرتك لما بتغضب مابتعرفش تسيطر على نفسك، هو ده إللي حصل مع سليم.


سعدية بوجع: ده منعنا من بنتنا.


مكي بنبرة ناعمة: ده مؤقت، فترة وهيعديها، هو بيعاقب، ماسة بس بعد كده الموضوع هيتغير، وأنا هتكلم معاه، دلوقتي هو لسة غضبان، والموقف ماكملش تلات أيام. وأنا بأعتذر بالنيابة عنه.


سعدية بتوتر: طب إنت شفت البنت؟ هي كويسة؟


مكي موضحاً: أنا مابشوفش ماسة، لأنها مابتخرجش من الفيلا، بس هي كويسة، ماتقلقيش، مابيضربهاش. هي بس مابتخرجش ومنعها إنها تشوفكم لحد ما هو يقرر يشوف هيعمل إيه؟!.. صدقوني، هو مش قاسي زي ما إنتو شايفين، هو مجروح، حاسس إن ماسة رافضاه بعد كل الحب إللي حبّه لها، حاسس إنها مابقتش عايزاه. كل إللي بيعمله ده نابع من جرح كبير جواه.


تغير مجرى الحديث حين قال مجاهد: طيب يابني ممكن بقى نتكلم في موضوع سلوى؟


هز مكي رأسه بإيجاب تابع مجاهد: 

بص يا ابني، سلوى مش عايزة تكمل.


عقد مكي حاجبه متعجباً يا ترى ليه؟ إيه الأسباب؟


مجاهد موضحاً هي زعلانة، وفاكرة إنك كنت عارف.


في تلك اللحظة، دخلت سلوى الغرفة،وجهها مشحون بالغضب وقالت بحدة:

لا يا بابا، مش بس كده، حتى لو ماكانش عارف زي ما بيقول، وأنا هعمل نفسي مصدقة إنه ضرب إسماعيل، بس يا ترى، هل أخد رد فعل مع رأس الأفعى؟ مع إللي إدّى الأوامر؟


وقفت أمام مكي، تنظر إليه بعينين مليئتين بالعتاب تابعت: في الأول والآخر مش هزعل من إسماعيل ليه ؟! مين إسماعيل أصلاً؟ حتة أجير بياخد أوامره من سليم بيه، هو إللي قال له يعمل كده، يا ترى الأستاذ مكي، الراجل المحترم إللي بيعرف الأصول، عمل إيه لما صاحبه عمل كده؟ وقف له؟ حاسبه؟ لأ، ولا كلمة،بعد ما جه وهددني هنا وحط عينه في عين أمي، وقالها هيخلي اللون الأسود لونها المفضل، عملت حاجة؟!


تابعت، وصوتها يرتجف لكنها تابعت: عملت إيه يا راجلي؟ طبعًا ماعملتش حاجة، علشان تبريرك السخيف بتاع أصل سليم لما بيتعصب مابيعرفش هو بيعمل إيه.


ثم قالت بمرارة: طب افترض إني كنت أخدت قلم، كنت هتقول برضه أصله متعصب؟


قاطعها مكي بشدة: سليم مش كده وماكانش هيعمل معك أي حاجة؟ أنا متأكد لإنه عارف إنك سلوى؟


سلوى قاطعته : أناوعمار ويوسف وماسة شخص واحد، المبادئ مابتتجزأش. وإللي يقدر يمسك نفسه مع شخص، يقدر مع الكل.


ثم هتفت بصوتٍ مكسور: بعدين إنت بتبرر إيه؟ إزاي أستأمن نفسي مع واحد زيك؟ إللي سايب شرفه كدة مداس.


اشتد وجه مكي، وبرقت عيناه، وصاح فيها: إيه إللي بتقوليه؟ ماتجننيش يا سلوى!


صرخت سلوى: ده مش جنان، دي حقيقة. إللي يسمح إن أخو خطيبته حد يمد إيده عليه، يبقى يستاهل إللي يجراله.


قال مكي وهو يحاول السيطرة على أعصابه: سليم وعمار نسايب، هما يحلوها سوا، لكن سليم لو مد إيده عليكي، ساعتها أنا مش هحط في الاعتبار إن هو سليم عشان أنا راجل يا سلوى، إللي حصل مع أمك وإخواتك، أنا ماليش علاقة بيه، إللي عليا أتكلم معاه كصديق، كأخ، وأفهمه إن إللي عمله غلط، لكن أكتر من كده ماينفعش زي ما أنا ليا فيكم هو كمان ليه فيكم أكتر مني، ده جوز ماسة، كنت عايزاني أعمل إيه فهميني؟! لو خالك ضرب أبوكي هتتخانقي مع جوز خالتك وتقوليلوا ماتدخلتش ليه؟!


سكتت سلوى لحظة، ثم قالت بقرار واضح: تمام يا مكي وأنا أهو بقولك يا أنا يا سليم،  هتكمل شغلك مع سليم مافيش جواز، هاتسيب شغلك مع سليم نتجوز.


مكي بعصبية مكتومة: أنا مابحبش الطريقة دي، ماتلويش دراعي.


سلوى بشدة: أنا مابلويش دراعك، بس أنا مش هاعيش معاك، وإنت شغال مع البني آدم ده، أختي هتطلق منه دلوقتي أو بعدين، وأنا مستحيل أتجوز واحد يعرف سليم!


مكي بنبرة غضب مكبوت: بقولك إيه ماتمثليش،  إنتي متغيّرة من قبل ما ماسة تهرب، بقالي فترة حاسس بيكي... إنتو الأتنين ماشيين بعوج، ماسة يمكن عندها 1% مبرر يخلّي سليم يتحملها لحد دلوقتي، الراجل كان بيهددها وبيتحكم فيها وحابسها، أنا كنت شايف وواقف جنبها، بس إنتِ؟ إيه مبررك؟


سلوى بحدة: مبرري؟ مبرري إنك نسخة من سليم، بس أسوأ منه.


مكي سخر بحزن: أنا نسخة أسوأ؟ ولا إنتي بتدوري على أي سبب يخليكي تسيبيني؟ عشان تريحي ضميرك قدام نفسك وتقولي: أصل لما أختي اختلفت مع جوزها، مكي ماوقفش معانا، بس الحقيقة إنتي اتخليتي عني، صدقتي أختك بكل سهولة،  وهديتي كل إللي بينا بسبب كام كلمة. إنتي حتى ماواجهتنيش، ماقلتيش: يا مكي، الكلام ده صح ولا غلط؟ولا حتى عاتبتيني!


سلوى بدفاع: ماسة ما قالتليش، أنا شفت بعيني! شفتك سايب أختي لوحدها، وساكت، ومتمسك بصاحبك إللي بيعذبها.


مكي بصوت مكسور: أنا لو ماتمسكتش بسليم أخويا وعشرة عمري من وأنا عيل صغير. وللي بينا أكبر من الأخوة،وبعت العشرة بالرخيص، يبقى أنا راجل مايؤتمنش ولا أكون راجل يستحقك، بعدين هو ماغلطش في إللي عمله، لأنه عمله كرد فعل على تصرفات أختك، وحق أهلك أنا جبته من إسماعيل، لو سليم كان اتجاوز معاكي، ساعتها كنت هجيبلك حقك بإيدي لكن غير كده؟ لا.


نظر لها بنظرة متألمة وأكمّل: أنا هامشي دلوقتي، لحد ماتخفي من جنانك، لإني مش من النوع إللي بيستحمل كتير، وماليش في دلع الحريم، هسيبك تفكري على مهلك لإن أنا شاريكي لحد آخر لحظة، بس صدقيني، إنتي بتدوسي على كل حاجة حلوة كانت بينا.

وجه نظراته لسعدية قال: أنا هتكلم مع سليم، عشان نلاقي حل لموضوع ماسة، عن إذنكم.


فور مغادرة مكي، ظلّت سلوى تحدّق في الفراغ، تحاول جاهدة أن تحبس دموعها، لكن الوجع كان أقوى، خذلتها دموعها، فانهارت تبكي بصوتٍ مخنوق، كأن شيئًا ما ينهش قلبها دون رحمة.


اقتربت سعدية منها بخطى حانية، وضعت يدها على كتفها وقالت بهدوء: مادام بتحبيه، خلاص، عديها، مالكيش دعوة، ده بجوز أختك، والراجل كويس معانا


رفعت سلوى وجهها نحوها بانفجار مشاعر لم تعد تحتمل الكتمان: ماما كفاية، إنتِ ضيّعتي ماسة، ماتضيّعنيش أنا كمان بابا لو بتحبني يا بابا، أرجوك صح أو غلط، أنا مش عايزة أكمل معاه


تقدّمت نحو والدها، أمسكت يده وقبّلتها بتوسّل باكٍ:

وحياتي يا بابا، ماتضغطش عليّا، كفاية


تنهّد مجاهد، ونظر إليها بنظرات دافئة، صوته خرج مبللًا بالحنان: هعملك اللي إنتِ عايزاه يا بنتي بس عايزك تفكّري تاني، إنتِ بتحبيه، وهو بيحبك، والراجل كويس، واللي إنتِ عايزاه هعمله لك


أومأت سلوى برأسها صامتة، ثم استدارت وصعدت إلى غرفتها.


جلست سعدية على المقعد، تمسح وجهها بتعب، وتمتمت وكأنها تحدث نفسها:

لا إله إلا الله، وكلها يومين وتتجوز، ربنا يكفينا شر المستخبي، إنت بكره تروح عند سليم، عايزة أطّمن على البِت مالكش دعوه بمكي.


هز مجاهد رأسه موافقًا: هروح


في غرفتها، أغلقت سلوى الباب خلفها، واندفعت إلى السرير، ارتمت عليه بجسدٍ مرتجف، وعيناها تنهمران كأنهما نزفٌ لا يتوقف، غزتها الذكريات بقسوة، لياليهما سويًا، ضحكاته، كلماته، نظراته التي كانت تذيبها، كأن كل لحظة تعود لتُعاش من جديد، كأنها لا تتذكر، بل تعيش، بكت بنشيجٍ مؤلم، والقلب يحترق من الداخل، فهي ما زالت تحبه. وقبل يومين فقط من زوجها انهارت حياتها، وكأن الحياة تسرقها في غفلة عين وكأنها... تموت بهدوء.


منزل مكي السابعة مساءً


عاد مكي إلى المنزل بخطوات بطيئة وثقيلة، كأن شيئًا ما يسحب روحه إلى الأرض، كانت والدته ليلى، مشغولة بإجراء بعض التصليحات في الريسبشن، وما إن رأته حتى تبسمت ابتسامة واسعة وقالت:

إنت جيت يا حبيبي  تعال بص، إيه رأيك في إللي أنا عملته؟ ظبطت الركنة!


لكنه لم يرد. لم يتحرك فيه شيء، حتى عيناه ظلّتا جامدتين، كأن الكلام لا يصل.


لكن ليلى لم تنتبه لصمته، فأمسكت بيده برفق وقالت بحماس: تعالَ كمان أوريك أنا عملت إيه في أوضة النوم.


سحبته معها كطفل صغير، وأكملت حديثها دون انتظار رد فور أن دخل الغرفة كانت الغرفة فارغة من أي شيء لا أثاث: 

أنا خَلّيت الراجل النهاردة يشيل كل حاجة، علشان تبقى جاهزة على الدهان ما إحنا عايزين نخلّص، يا ابني، وإنتم مسافرين إن شاء الله... كل حاجة هاتتظبّط، أنا من رأيي تعملوا الفرح على طول، ماتستنوش! ولا إيه؟ هكلم سعدية تِأثّر على سلوى خلّيني أفرح بيكوا بقى، وأشيل لك عيل.


رفع مكي عينيه نحوها ببطء. أراد أن يقول شيئًا، أن يوقفها، أن يخبرها أنّ كل شيء قد انتهى، أن الأحلام تبخّرت، وتحوّلت إلى سراب.


لكنه لم يستطع.


مرّر كفه على وجهه بتعب وألم، ثم انصرف بصمت إلى غرفته، وأغلق الباب وراءه.


لم يُشعل أي ضوء، واكتفى بالجلوس في أحد أركان الصالة، وحيدًا في الظلام لفّ سيجارة بيد مرتجفة، ثم أشعلها ببطء، وراح ينفث دخانها بتوتر، بينما عيناه معلقتان في الفراغ.


لم تمر سوى لحظات حتى أنبعث النور فجأة.


كانت ليلى واقفة عند الباب، تحدّق فيه بقلق ظاهر:

مكي مالك؟ إنت ما بتقعدش في الضلمة كده غير وإنت زعلان وبعدين مالك مابتردش عليا ليه؟!


رفع رأسه سريعًا، جاء صوته منخفضًا، يحاول التماسك: لا أنا كويس.


اقتربت وجلست إلى جواره: هتخبي عليا؟ إنت مابتردش عليا ليه مش عاجبك إللي أنا عملته مش عايز تخليني أفرح بيك.


مكي  وهو ينظر أمامه بضيق: ماما ماتفتحيش معايا الموضوع ده، وأعملي حسابك، إحتمال الجوازة دي تتفركش


ضربت على صدرها بصدمة: تتفركش؟ ليه؟ وإيه إللي حصل؟ ده إنتوا بتموتوا في بعض! دي سلوى! إللي فضلت رافض الجواز سنين عشانها، لحد ما كبرت. إيه إللي حصل؟ دي البنت مؤدبة وأهلها يتحطوا على الجرح يطيب!


زفر مكي، ثم تحرك قليلًا وتوقف عند النافذة، وكأنه يبحث عن هواء: ماما، أنا مش عايز أتكلم من فضلك، سبيني لوحدي


ليلى بنبرة تهكم: هو إيه إللي أسيبك لوحدك؟ عايز تقول لي جوازتك هتفركش قبل كتب كتابك بكام يوم؟ وتقولي أسيبك لوحدك؟


أرتفع صوته قليلًا، وبدا عليه التألم: يوووه! خلاص يا ماما... أنا همشي !


تحرّك مكي، لكن ليلى وقفت في طريقه. نظر إليها بحزن: كده يا مكي؟ ومن إمتى بتتخلق عليا كده يا ابني؟


اقترب منها مكي ببطء، ثم انحنى وقبّل يديها:

أنا آسف... حقك عليا، بس أنا بجد مش عايز أتكلم. أنا عايز أسكت أنا متضايق.


ثم رفع نظره بعينين ترفضان الدموع، وقال بوجع:

حسّيت إن أنا مش غالي خالص عندها.ماتسألينيش عن تفاصيل عشان إنتِ عارفة إني مستحيل أقولك. وبعد إذنك، لو بتحبيني، ما تذلّينيش. ماتصغرينيش. أوعي تكلميها، أوعي تقولي لي أنا كده بكبرك وبنوريهم إن إحنا شاريينهم، لو سمحتي، علشان والله العظيم، لو عرفت إنك كلمتيها ولا كلمتي حد من عندها، مش هتشوفي وشي تاني في حياتك. 


صُدمت ليلى من كلماته: للدرجة دي؟


مكي بنبرة مشحونة: والله للدرجة دي، أو أنا مكبّرها معرفش، بس أنا متعصب أوي، ولو سمحتِ، إحترمي قراري، وسيبيني لوحدي. 


تنهدت ليلى، وقد أدركت من نبرة صوته أنه مجروح بعمق: مكّي، الأمور مابتتاخدش قفش كده، مش كل مشكلة نزعل ونغضب ونقفش كده يا حبيبي، لازم تبقى مرن... الحياة عايزة مرونة سايس الستات مش زي الرجالة عواطفهم بتغلبهم، مش كل حاجة تاخدها قفش.

ربّتت على صدره بحنان، ثم أكملت:

بس... مادام وصلت للمرحلة دي، يبقى واضح إن سلوى غلطانة في حقك جامد، وأنا مش هقلل منك يا ابني. هسيبك ترتاح، ونتكلم مع بعض وقت تاني


ربّتت على كتفه بحنان، ثم خرجت بصمت، تاركةً إياه وحده.

وقف في منتصف الغرفة، السجائر بجانبه، والدخان يحيطه كغمامة كثيفة، كان يشعر بالغضب، والخذلان، عيناه تلمعان بدموع لم تأذن لنفسها بالسقوط،

سلوى ابتعدت عنه... فقط من أجل أختها، لم يفعل شيئًا لم يُخطئ، حتى وإن أخطأ سليم في شيء، هو لم يفعل شيئًا سوى أنه صديقه.


تذكرت شي  فلاش باااك


فيلا عائلة ماسة السابعة مساء 

الحديقة 

نرى مكي وسلوى يجلسان  حيث النسيم العليل، على مقاعد خشبية يحتسيان الشاي، يتبادلان الأحاديث بصوت خافت، وكأن الطبيعة من حولهما تُصغي لهم وحدهم.


سلوى وهي ترفع حاجبها بتساؤل خفيف: بجد عجبتك المكرونة؟


ابتسم مكي، ونظر لها نظرة صافية: أكيد عجبتني... عندك شك؟


ضحكت سلوى وهي تهز رأسها: لا طبعًا، أصل هي أكتر حاجة بعرف أعملها حلو، فاكر؟ أول مرة كنا بنتكلم فيها.


مكي أومأ برأسه: أكيد فاكر.


نظرت له بفضول وابتسامة خفيفة: كنت بتكلمني ساعتها علشان تتعلمها...؟


ابتسم مكي، ونظر بعيدًا للحظة قبل أن يعيد بصره إليها: أكيد ماكنتش عايز أتعلمها، كنت بدوّر على سبب يخليني أكلّمك، عارفة أول مرة شفتك وقت بيلو؟ مش عارف ليه حسيت بإحساس غريب، مافهمتوش ساعتها، بس لما بقينا نتكلم كل يوم، بقيت بحب أسمع صوتك، أول واحدة تيجي في بالي أول مابصحى من النوم، كنت كل يوم أفضل أدعي: يا رب تيجي النهاردة، أو يا رب ماسة تروح لها علشان أشوفها لحد ما فهمت، فهمت إن أنا كمان وقعت في نفس الحفرة إللي وقع فيها سليم.


سلوي: بس إنت طلعت منها.


هز مكي رأسه وقال بهدوء: بالعكس،سليم هو إللي طلع منها، وتجوّز ماسة وبيلمس إيديها، لكن أنا فضلت مستني، لحد ماجيتي، وخرجتيني منها تاني.


أخفض نظره للحظة، ثم عاد يرفع عينيه نحوها، ونبرته باتت أكثر رقة: تعرفي؟ كل مرة بتتكلمي، بحس إن الدنيا بتسكت علشان أسمعك، صوتك في حاجة مريحة، كأنه بيطبطب على قلبي، ضحكتك؟ أنا مستعد أدوّر طول عمري على سبب يخليكي تضحكي وأشوف ضحكتك إللى بتدوبني.


أحمرّ وجه سلوى خجلًا، وابتسمت بخفة: مكي بلاش الكلام ده، هاتغرّ كده. 


اقترب مكي منها قليلًا، وصوته صار همسًا:

تتغري براحتك يا قلبي، ده أنا مش لاقي كلام يليق بيكي أصلاً.ط، كل مرة ببصلك، بحس إن ربنا خلقك مخصوص لقلبي، علشان يهدى ويستقر ويرتاح. إنتِ راحتي، وبيتي وضحكتي إللي بستناها من أول اليوم. أنا بقيت واحد تاني من يوم مابقيتي خطيبتي، وقريب هتكوني مراتي، بس الأجمل من كده، إنك بقيتي حبيبتي ملكة  الروح والقلب، قبل كل حاجة، وإننا هنكمل عمرنا سوا ونحقق احلامنا مع بعض.


سكت لحظة، ثم مدّ يده ببطء وردّ خصلة شعر كانت تتراقص على خدّها، وردّها خلف أذنها بلطف، وهو يهمس: كده أحلى.


سلوى ارتبكت، وتحرّكت فجأة وهي تحاول تخفي توترها، قالت بسرعة: بس خلاص قوم بقى، تعالى مرجحني، وبطّل كلامك ده!


ضحك مكي، ونهض بسرعة: يعني أتكلم تزعلي، وأسكت تزهقي وتقوليلي إنت مش رومانسي أعمل إيه فيكي بس!


سارت سلوى نحو الأرجوحة بخجل، دون أن تنظر له:

تعمل إللي أقولك عليه تسكت وتزق!


ضحك مكي وهزّ رأسه: أوامرك يا هانم.


جلست سلوى على الأرجوحة، ووقف هو خلفها، يمسك الحبال من الخلف، يدفعها بخفة.


قال بصوت منخفض، وكأن قلبه هو من يتكلم:

كل مرة بزقك فيها، بحس إني بمرجّح قلبي معاكي.


ضحكت سلوى، وخجلها كان يكسو ملامحها:

مكي بس!


ضحك هو أيضًا، وقال وهو يتابع دفع الأرجوحة:

حاضر سكت خلاص. بس المرجيحة دي بقت أحلى من كل الملاهي، علشان إنتي إللي عليها.


سلوى رفعت عينيها إليه قليلًا وقالت بنبرة خفيفة:

كده مش رومانسية، كده تلزيق، خُد بالك!


ضحك مكي وقال وهو يحاول يبرر نفسه:

أنا بقول إللي في قلبي وبحسّه، تلزيق مش تلزيق، المهم إنه حقيقي ومحسوس.


سكتت سلوى لحظة، ثم ابتسمت:

ماشي عموماً، أنا كمان من وقت مادخلت حياتي، أنا حاسة إن قلبي ارتاح في حاجات كتير اتغيرت جوايا، يمكن كنت فاكرة إني قوية، بس طلعت محتاجة لحد يطبطب، يهديني، وإنت كنت دايمًا كده.


ابتسم مكي، وقرب منها خطوة، صوته خافت وحنون: وأنا كمان كنت دايمًا بدوّر على سلوى إللي تحضن وجعي من غير ماتكلم. والحمد لله لقيتها.


سكتا للحظة، الأرجوحة تتحرك بهدوء، والهوى يمر بينهما، كأنّه شاهد صامت على كل كلمة قيلت، وكل شعور لم يُعبر عنه بالكلمات.


سلوب بهمس وأتمني:يا رب نفضل كده، مانبعدش عن بعض أبدًا.


مكي بتأكيد: إحنا مش هانبعد، ده وعد.


سلوى بحب: اوعدك اني مش هبعد عنك ابدا ابدا ابدا.


باااك

عاد مكي من ذكريات  بعين دامعة وهو يقول في نفسه: إنتي إللي خلفتي الوعد يا سلوى إنتي إللي خلفتي الوعد مش أنا وانت اللي وجعتي لي قلبي


شعر بغصّة تعتصر قلبه، وبدأت الدموع تخونه. شدّ على أسنانه، قبض يده بقوّة، ثم حمل الكرسي الخشبي القريب ودفعه بغضب. ارتطم بالأرض فدوّى صوته في المكان، لكنّ الغضب لم يهدأ. ظلّ واقفًا يتنفّس بثقل، كأنّ قلبه يحترق في صمت.


فيلا ياسين وهبة، التاسعة مساءً


الصالون 


هبة جالسة على الأريكة، هاتفها بيدها، تحاول الاتصال بماسة، لكن الهاتف ما زال مغلقًا، جربت الإتصال بسلوى أيضًا، دون رد. على الأرض، كانت نالا تلعب بهدوء، والدُمية بين يديها لا تفارقها.


بعد دقائق، دخل ياسين إلى الصالة، وأقترب بخطوات هادئة.


إنحنى على نالا وطبع قبلة على رأسها: مساء الفل على أميرتي.


حملها بلطف بين ذراعيه، ثم أقترب من هبة وأخذ يدها، وطبع قبلة خفيفة على كفها.


ياسين وهو يجلس بجوارها: عاملة إيه؟


هبة بإبتسامة باهتة: تمام... اتأخرت.


ياسين: اليومين دول هاتلاقيني بتأخر، سليم دخلنا في مشروع جديد.


هبة بنبرة قلق: بالمناسبة، ماتعرفش حاجة عن ماسة؟"ط


ياسين: لا... بس سابوا القصر.


هبة بدهشة: بجد؟ أحسن والله. ماسة دي كان لازم تمشي من زمان، معرفش استحملت إزاي!


ياسين ناظرًا إليها بهدوء: ماسة غيرك.


هبة وقد لمعت عيناها للحظة: طب هي جابت رقم جديد؟ أصل بكلمها بقالي يومين، وتليفونها مقفول... حتى سلوى مش بترد.


ياسين رافعًا كتفيه: مش عارف، هسأل سليم. بس إنتي أصلاً بقالك فترة مطنشاها وبعدتي عنها، رغم إنها وقفت جنبك كتير.


هبة بنفَس ضايق: على أساس إنك قريب أوي من سليم يعني؟


ياسين مبتسمًا بهدوء: آه، بنتكلم بشوفه في المجموعة، لكن إنتي وماسة؟ علاقتكم اتغيرت. بصراحة؟ طلعتي ندلة. البت وقفت جنبك كتير.


هبة بتنهيدة طويلة: بص، هي الفترة الأخيرة بقت غريبة وكتير قولتلها تاخد موقف، بس هي مافيش، بقينا نشد في الكلام كتير.


ياسين بحزم: بلاش ندخل أنا وإنتِ في مناقشة في الموضوع ده، لأن الطبيعي إنها تقف مع جوزها، لكن إللي في دماغك ده؟ اسمه عبط بس ده ما لوش علاقه انك حتى مابقتيش حتى تكلميها تطمني عليها.


هبة بتلعثم: بص... هو أنا فعلا استندلت معاها جامد. بس أعمل إيه؟ نالا واخدة كل وقتي ومجهودي.


وضع ياسين نالا على الأرض بلطف، ثم نهض من مكانه.


ياسين وهو يتحرك نحو الداخل: عموماً، لو جابت رقم جديد، هعرف وأقولك. هطلع آخد شور خليهم يحضّروا العشا، وحاولي تصلحي علاقتك بماسة، مالكيش دعوة بحياتها الشخصية مع سليم بيعشقوا بعض.


ابتعد بخطوات هادئة، بينما ظلت هبة جالسة مكانها، نظراتها زائغة، وكأنها تحاول فهم نفسها... أو ماسة.


فيلا سليم وماسة.


مكتب سليم العاشرة مساءً


سليم جالسًا على مكتبه، منغمسًا في أوراقه، بتركيز صامت، كل بضع دقائق، يلتفت صوب شاشة التابلت أمامه، فيشاهد ماسة عبر الكاميرا، كنحلة فقدت سربها، تدور بلا بوصلة، بلا أمان بلا هدف، تصطدم رأسها بالحائط تارة، تجلس على الأرض تارة، ثم تنهض لتدور حول نفسها أو تصرخ فجأة، خطواتها، عشوائية، تحمل الجنون على أطرافها، بدأت تطرق الباب بعنف، ينهشها الملل والغضب. 


كان سليم يسمع ويرى كل شيء، لكنه بقي متصلبًا، أشاح وجهه وأكمل عمله ببرود، بعد قليل، صعدت سحر بصينية الطعام، لاحظ سليم نبرة ماسة الغاضبة والمصدومة وهي تطلب الخروج، لكن سحر رفضت وغادرت.


دفعت ماسة الطعام على الأرض بعنف، صرخت من أعماقها، وانهالت بيديها على الباب، تنفّس سليم بغضب، رمى قلمه واتكأ إلى الخلف يراقبها، بعد دقيقة، دخلت سحر مكتبه.


توقفت على الباب، وقبل أن تتكلم، أشار لها بيده.


سليم وهو يتوقف: عارف يا سحر، عارف، روحي هاتيلي كباية لبن دافي، أنا هطلع لها.


كان صوت صراخ ماسة يخترق جدران الفيلا، تنادي على سليم وتضرب الباب، بعد دقائق، عادت سحر تحمل كوب اللبن، ناولته إياه، بينما هو أمسك قالب شوكولاتة كان بجانبه، وصعد بخطوات سريعة.


غرفة النوم


فتح الباب بقوة. فور أن رأته ماسة، همّت بالخروج، لكنه دفعها بهدوء فتراجعت، وأغلق الباب خلفه.


وقف أمامها، نظر في عينيها المنهكتين: عاملة دوشة ليه؟


ماسة، بنبرة مضطربة: أنا مش هقدر أقعد هنا أكتر من كده.، هتجنن.


سليم بضيق وضجر: وهو إنتي مش هتسكتي؟ كل يوم نفس الزن؟ ما قلتلك زفت أسبوع وهخرجك. أبقي سجينة مطيعة وأسمعي الكلام، عاملة دوشة ومشاكل ليه؟! ما أنا ممكن أبقى سجان جاحد، والأسبوع يبقوا أسبوعين، يمكن شهر.


نظرت له بعينين تترقرق بدموع بصمت تابع سليم قائلا بنبرة باردة:

أمسكي، اشربي اللبن ده، وكلّي الشوكولاتة، علشان بالمنظر ده، أنا هوديكي المستشفى، وأنا ماعنديش استعداد أوديكي مستشفى، يلا، اسمعي الكلام وماتزهقنيش.


مد يده بالكوب، لكنها دفعته بقوة، فوقع على الأرض.


ماسة بغضب: قلتلك مش هاشرب ولا هاكل حاجة طول ما أنا قاعدة هنا.


نظر سليم للطعام على الأرض ثم نظر لها قال ببرود قاتل لكنه حازم: حرام كده، ترمي نعمة ربنا على الأرض؟ إنزلي لمّيها، عشان ربنا مايزعلش منك تاخدي ثواب وبلاش تستفزيني عشان القلب إللي كان بيحبك زمان وبيتحمل عندك ولماضتك بقى بيكرهك.

مش هيتحملك كتير.


ضيقت ماسة عينيها تحدثت من بين أسنانها: إنزل لمّها إنت، وخد الثواب، ما دام بقيت بتكرهني كدة، طلقني.


سليم بإبتسامة صغيرة مستخفة ممزوجة بقسوة: هو أنا أكيد هطلقك، بس لما يجيلي مزاجي، أصل مش كل حاجة بمزاجك، مش وقت ما إنتِ تطلبي، أنا أنفذ. لا لما أنا أعوز


ماسة بضجر: آه، على أساس إنّي عبدتك؟ جاريتك؟


سليم وهو يمد وجهه بتقليل: لا العبيد والجواري ليهم قيمة، إنتِ مش أكتر من رقم في الزنزانة، سجين مش ملتزم، مايستحقش حتى الشفقة.


ماسة بدموع وصدمة: للدرجة دي يا سليم إنت سامع كلامك.


سليم بقسوة وهو ينظر داخل عينيها وكأنه يريد أن يصدقها هو قبل أن يجعلها تصدق: وأكتر بكتير لازم تفهمي إنك هتفضلي تتعاملي بالمعاملة دي ومسجونة هنا، لحد ما أزهق وأقرر أرميكي برة حياتي، و...


قاطعته ماسة: يلا كمل، وقول هرجعك للزريبة إللي جبتك منها؟


سليم، بإبتسامة مكسورة: لا، أنا مش قليل التربية والأصل عشان أقول كده، هرجعك زي ما كنتِ، ولا حاجة بالنسبالي، ولا تفرقي في حياتي. مجرد واحدة معرفهاش، ده إللي كنت هقوله، مشكلة العقد إللي عندك دي روحي عالّجيها، أنا ماليش علاقة ماتطلعيهاش عليا.


ماسة بنبرة مكتومة بوجع: أنا عندي عقد يا سليم؟


هز سليم رأسه بإيجاب: مع الأسف، طول عمرك، رغم إني عملت كل حاجة عشان أنسيهالك، عموما، ده مش موضوعنا دلوقتي، أنا مش عايز دوشة، عندي شغل محتاج أركز، تقعدي ساكتة، فاهمة؟


ألقى قالب الشوكولاتة على الفراش: كليها، عشان تديكي طاقة شوية، هبعتلك سحر تنضف المكان


ماسة بعند: مش واكلة حاجة قلتلك مش واكلة مش أنا مش فارقة معاك خلاص سيبني أموت. 


سليم بقسوة: ماشي براحتك ماتاكليش. 


كاد أن يتحرك، ماسة، أمسكت يده بتوسّل: سليم كفاية وحياتي بلاش القسوة دي.


سليم، سحب يده بقسوة: إنتِ مالكيش أي حياة عندي، إنتي بقيتي ولا حاجة بالنسبالي، وحياتك دي بطلت تفرق معايا، فوقي بقى من أوهامك إنتي ولاحاجة بالنسبالي يا ماسة، غير مجرد فاتورة قديمة، باخد مستحقاتي منها باخد تمن الحب إللي دفعت فيها غالي مش أكتر،  اعرفي حجمك وحاولي تقتنعي بقى إنك بقيتي قطعة المر وبس.


تحرك ليخرج، مد إيده للمقبض، لكن صباعه اتأخر جزء من الثانية، كأن قلبه خبط عليه، لكنه تجاهل الخبطة وخرج وأغلق الباب خلفه وهو يضغط على أسنانه بقهر. 


دخل غرفته وهو يشعر بالضيق يحاول أن يمتلك زمام قلبه زمام نفسه أغمض عينه وكأنه يحاول أن يخفي ماتبقى من محبة أن يجعل القسوة هي التى تحركه فقط.


بينما جلست ماسة على الفراش، تبكي بصمت. دخلت سحر بعد دقائق وهي تنظف الغرفة.


سحر بحنان وهى تنضف المكان: ماتزعليش يا ست ماسة، هم الرجالة كده لما يزعلوا، وإنتِ شكلك مزعلاه زعلة كبيرة أوي، اعتذري له يا بنتي، بوسي راسه، وإن شاء الله كل حاجة هتتلم، سليم بيه بيحبك والله، ربنا يهديكم ويصلح لكم الحال.


ظلت ماسة تجلس على الفراش بصمت، نظرت إلى قطعة الشوكولاتة بتردد بعد لحظات، امسكتها  قربتها من فمها، بعد أن قامت بفتحها ببطء، برغم إنها تشعر بالجوع الشديد لكنها مازالت مترددة.. ضعفت فأخذت قطعة منها... ثم تذكرت وعدها لنفسها، رمتها بعيدًا.


غرفة سليم


جلس سليم على الأريكة ممسكاً بتابلت يراقبها من الشاشة، تمتم لنفسه وهو يمرر يده على وجهه: عنيدة... بجد عنيدة.


وهكذا قضت ماسة ليلها جالسة، لا تنطق، ولا تنام، يغمرها الحزن وتؤنسها دموعها الصامتة، ممتنعة عن الطعام، وكذلك سليم.

الذي لم يذق النوم أو يُكمل عمله، بقى غارقًا في التفكير: هل ما يفعله صواب؟ أم يزيد الأمور سوءًا؟ لكن قلبه الموجوع وغضبه كانا يهمسان له:هي سابتك ببساطة، ماتستاهلش، ماتفكرش فيها، زي ما هي مافكرتش فيك.


أما ماسة، فقد استسلمت للنوم بعد عذاب طويل، نوم مجهد، ثقيل، لا راحة فيه، كأنها تهرب من الملل بنومها.


حتى جاء صباح اليوم التالي.


ذهب سليم إلى المجموعة كان اليوم عادي، تناول الفطور قبل ذهابه، وشارك في الاجتماعات بتركيز منتظم، كل شيء يبدو طبيعيًا، خارجيًا فقط، ومن وقت لآخر كان يتابع ماسة عبر التابلت، فهو يضع جهازًا في كل مكان يجلس فيه: في السيارة، مكتبه في المجموعة، مكتبه في الفيلا، غرفته، حتى يمسك واحدًا بين يديه دائمًا.


أما ماسة، فاستيقظت، ورفضت الطعام، كعادتها مرّ اليوم عليها كصفحة باهتة، لا لون لها ولا صوت، لا تعرف ماذا تفعل، لا شيء تفعله الملل ينهشها، والساعات تتحرك ببطء قاتل، كأنها سنوات تمشي في دوائر داخل الغرفة، كأنها محبوسة داخل نفق مظلم، لا بداية له ولا نهاية، تائهة، تصرخ ولا أحد يسمع، فلا توجد أي وسائل ترفيه، لا شيء سوى الحائط، مرحاض، فراش، خزانة ملابس، أحيانًا تمسك أي شيء تقوم بتحطيمه من مستحضرات التجميل، وتخبط رأسها في خزانة الملابس، وتطرق الباب تطلب الخروج، ولا أحد يجيبها. 


عندما عاد سليم من المجموعة في الخامسة مساءً، لم يصعد إليها، رغم سماعه لصوت ضرباتها على الباب، لكنه لم يتحرك، قلبه الذي دائمًا ما كان يخذله صمت،حتى الحنين الذي كان يتسلل من حين لآخر، قرر أن يسحقه هذه المرة، كلما فكر في صعوده إليها لا ليُخرجها، فقط ليتحدث معها ليُسكت صراخها… كان يقول لنفسه: حتى الكلام كتير عليها… حتى ده بيديها قيمة ماتستحقهاش.


هو لم يكن مرتاحًا لما يفعل، لكنه شعر أن ما يفعله هو الطريق الوحيد ليربت على قلبه العاشق المجروح.


وفي الليل، صعد إلى غرفتها، كانت ماسة تجلس في صمت، لم تلتفت ولم تتكلم. نظره وقع على الطعام، وعلى قطعة الحلوى، وكأس الشاي الذي أصبح كثلج.


سليم قال بضيق: هتفضلي كتير كده ماتاكليش؟


ماسة بصوت مخنوق: مش إنت عايز تموتني؟ خلاص سيبني.


سليم وهو بيقفل الباب ويمد وجهه نافيًا: بالعكس، أنا مش عايزك تموتي، أمال هاخد حقي من مين؟


أشاحت ماسة بوجهها ولم ترد. ثم قالت بنبرة مهزوزة وعينين تترقرق بدموع: عمري ماتوقعت إنك بالقسوة دي، حاسة إني مع إنسان ماعرفوش، التسع سنين دول كنت مع راجل تاني، دلوقتي أنا قدام حد غريب.


صمتت للحظات، ثم قالت بنبرة مريرة وهي تنظر له: بس أنا إللي عملت كده بإيدي، عارفة بس ماكنتش متوقعة إنك تبقى بالطريقة دي،كنت متخيلة إنك لما تلاقيني هتزعق ممكن تضرب، بس مش كده.


ابتسم سليم ببرود واقترب منها: لعلمك أنا لحد دلوقتي في منتهى الإنسانية، ماعملتش فيكي حاجة.


ماسة قالت بضعف: أنا عايزة أكلم أهلي.


سليم بحسم: ممنوع.


ماسة قالت: نفسي أطمن عليهم، وأطمنهم عليا.


ضحك سليم بمرارة، وقال بصوت متقطع كأن غصة في حلقه: ملهوفة على أهلك وعايزة تطمنيهم عليكي وتطمني عليهم، شايف حنية جميلة في عينيك…


فجأة شعر بوخز في قلبه وغصة تشكلت في حلقه مرة بشكل لا يوصف لا يعرف من أين تجمعت تلك الدموع، لكنه كان قويًا، صلبًا، أقوى من كل ما شعر به وكان يتقن أن تظل ملامحه كما هي.


سأل بنبرة موجوعة: وأنا بقى مافكرتيش فيا؟ مين هيطمني عليكي لما كنتي هربانة؟ مين يهدي قلبي، قلبي إللي كان هايقف من خوفه عليكي؟ طبعًا مافكرتيش مين أنا عندك؟! للأسف ولا حاجة.


تنهد ببطء وتابع: يا بنتي إنتي كل مرة لو في قلبي ذرة محبة أو حنان ليكي، بتمحيها، وبتأكديلي إني صح في إللي بعمله فيكي، وزي ما إنتي مافكرتيش فيا، وكل إللي فارق معاكي تطمني أهلك، أنا كمان مش هفكر فيكي، ومش هطمنك على أهلك، ولا هخليهم يطمنوا عليكي..


ثم أدار ظهره، وتحرك للخارج وهو يقول بنبرة غاضبة: ياريت تبطلي دوشة، عايز أنام، بدل ماقسم بالله أسلسلك في رجل السرير.


خرج وأغلق الباب خلفه بشدة، حتى كاد أن ينكسر معه.


بينما ماسة ظلت تجلس وهي تبكي وتقول: والله العظيم إنت ظالمني ومش فاهم حاجة، والله العظيم، بس لو مش خايفة رشدي يعمل حاجة، كنت قلتلك. أنا بس عايزة أطمن عليهم عشان أعرف أقولك، مش هازعل منك يا سليم، مش هزعل منك، أنا عارفة إنك بتعمل كده غصب عنك، أنا آسفة، والله آسفة.


أخذت تبكي بحرقة.


بينما سليم في غرفته، كان يتحرك بتوتر شديد وغضب. وقعت عينه على نفسه في المرآة، فقال بعتاب: هي دي إللي كنت زعلان عليها؟ هي دي إللي كنت متضايق عشانها؟ كل إللي فارق معاها إنها تطمن أهلها؟ لكن إنت، طز، إنت ولا حاجة، مابتفكرش فيك، أجمد يا سليم، ماتستاهلش حبك. لازم توريها مين هو سليم.


ثم أمسك إحدى المزهرّيات، وألقاها على المرآة، كأنه يُحطّم نفسه، يحطم قلبه، يحطم ما تبقى له من حب وحنين لماسة.


اما ماسة  ظلت جالسة على الفراش، عينيها مليئة بالدموع، وقلبها مثقل بالحزن والخذلان

وفي هدوء الغرفة، راحت تغمض عينيها وتتمنى أن يأتي اليوم الذي يتحرر فيه قلبها و ترجع للحياة من جديد.

   _______💕بقلمي_ليلة عادل💕_______


المجموعة  الراوي الثانية مساءً


كان سليم يجلس خلف مكتبه توقفت نور أمامه وهي تقول: سليم بيه.. مجاهد حما حضرتك بره.


أسند سليم ظهره إلى الكرسي، تنهد بعمق، ومرر أصابعه على عينيه. ساد الصمت للحظة:

طب يا نور.. خليه يدخل.


اشاره نور له بالدخول، دخل مجاهد بخطوات بطيئة في عينيه لمحة من الخجل، لكنها مغطاة بثبات.


رفع سليم نظره إليه، يتأمله بصمت شديد. ورغم الهدوء الظاهر على ملامحه، كان الغليان يتصاعد داخله.


سليم: اتفضل؟


مجاهد: آسف إني جيت كده من غير ميعاد.


سليم تنهد: ولا يهمك.. تحب نقعد هنا ولا على الكنبة؟


مجاهد: زي ما تحب يا ابني.


وقف سليم : خلينا على الكنبة أحسن.


إنتقلا إلى الكنبة المجاورة للمكتب. نادى سليم على نور بنبرة عادية.


سليم: نور.. أعملي لنا اتنين ليمون.


نور من الخارج: حاضر يا فندم.


أسند سليم ظهره إلى الأريكة، وألقى نظرة مباشرة نحو مجاهد.


سليم باقتضاب: ها أنا سامعك خير؟


مجاهد: أنا جاي أطّمن على ماسة.. عايزين نشوفها.


سليم بنبرة حاسمة وباردة: مش مقبول.


مجاهد بحزن: ليه يا ابني؟ آسف يا سليم بيه.


سليم بحدة: علشان بنتك غلطت.. غلطت غلطة كبيرة هربت، أنا معتقدش اني زوج سيئ للدرجة دي، علشان تهرب مني بالشكل ده ومش مرة أكثر من مرة، وفي مرة منهم  كانت هتعرض نفسها للاغتصاب و الموت، عارف أنا لو كنت راجل تاني، كانت زمانها في عداد الموتى، ولو إللي حصل معايا ده حصل عندكم في البلد كانت هتبقى فضيحة وكنتوا هاتوصفوها بأبشع الأوصاف، حاجات أنا ماقدرش أنطقها ولا أفكر فيها، إنت أدرى بيها،  لكني واثق في مراتي وعارف إن اللي عملته ده مجرد جنون ودلع وعدم تحمل للمسؤليه، لإنها ما اتحملتش مش أكتر تعيش معايا،  بس ده ما يمنعش إن هي غلطت غلطة كبيرة ماينفعش أعديها ولا أغفرلها  بسهولة.


مجاهد بهدوء: أنا ماقلتش إن بنتي ماغلطتش.. بس أكيد في سبب.


سليم متعجباً بحدة رفع أحد حاحبيه: سبب؟

في سبب في الدنيا يخلي واحدة تهرب من بيت جوزها اللي بيعشقها ويتمنالها الرضا؟ عارف ماسة لو كانت هربت في أول سنة، كنت قلت يمكن.. عندها حق، أنا كنت راجل صعب،بعترف.. كنت بمد إيدي، بتعصب، ده غير طبعا إللي واجهته في القصر من فايزة هانم وغيرها، لكن أنا اتغيرت عشانها، روحت دكاترة، وسمعت كلامها، وحياتنا اتعدلت، وبعد ماقفلت عليها، فتحت لها تاني لإني حسيت إن هي بتضيع مني برغم إني كنت بعمل كده محبة وخوف عليها، ودخلتها الجامعة واديتها الحرية إللي كانت عايزاها

تابع بخذلان:

بس هي ماعجبهاش. خدت على الدلع، خدت على سليم إللي بيطبطب، بس أول ماشافت حاجة مش على مزاجها، طلبت الطلاق، ولما رفضت لإني بحبها ومتمسك بيها راحت عندكم وإنتم كمان رفضتوا طلبها، ضربتوها ورجعتوها القصر، وقلتولي أضربها واتجوز عليها لو عايز، وهي بقى لما لقت كل الأبواب مغلقة قررت تهرب من بيتك. 


تساءل متعجباً وهو يعقد حاجبيه:

إيه إللي اتغير دلوقتي؟

علشان ضربت عمار؟ علشان زعقت؟

أنا كان المفروض أبقى عامل إزاي،  لما يتقال لي مراتك هربت للمرة الثانية من بيت أهلها؟ بمساعدة أختها؟ أشرب معاك كوبايتين ليمون وأتكلم معاك بهدوء وأقول لك أونكل مجاهد ماسة هربت ماذا نفعل؟!


ضحك ضحكة سخريةتابع:

المشكلة إن إحنا مش بنحط نفسنا مكان الشخص، بنعرف بس نلومه ونقول له إنت إزاي عملت كده، مع إنه لو اتحط في نفس الموقف ممكن يعمل أسوأ من كده، مش شاطرين غير في التنظير وبس.


حاول مجاهد أن يرد، لكن صوته كان خافتًا، مرتعشًا:

والله أنا فاهمك بس.. 


قاطعه سليم فورًا، كأن كلمة "بس" أثارت غضبه أكثر: مافيش بس مافيش بس.


سأل مجاهد بصوت خافض، فيه رجاء أب: يعني مش هانشوفها تاني؟ 


سليم بجمود: اعتبروها لسة هربانة ومش قادرين تشوفوها بس الفرق إنها دلوقتي في بيتها، في أمان بس مافيش مقابلات، وماتجيش هنا تاني يا عمي، أنا ماعرفش المرة الجاية هتصرف إزاي، بس ماسة مش هاتشوفوها دلوقتي، يمكن بعدين.. لما أقرر.


تنهد مجاهد بصعوبة، وكأن الهواء صار ثقيلاً في صدره: حتى أمها، نفسها تشوفها.


سليم وقف من مكانه فجأة، أنهى الحوار كله بجمله واحدة: مجاهد أنا مش بحب أعيد كلامي، أنا عندي إجتماع، اشرب الليمون بتاعك، والسواق هايوصلك.


إتجه إلى باب المكتب، فتحه وخرج، تاركًا مجاهد وحده.


ظل مجاهد جالسًا مكانه، يحتضن حزنه وصمته وقل حيلته تحرك للخارج


حين دخل مجاهد إلى المصعد، كان مكي يمر من جانبه في اللحظة ذاتها. لمحَه بطرف عينه، ضيّق نظره قليلًا، ثم تابع طريقه نحو مكتب سليم.


مكتب سليم.


كان سليم جالسًا في مكانه حين دخل مكي، فرفع رأسه: تعال، عايزك.


أشار مكي نحو الباب وهو يدخل: هو... عم مجاهد كان هنا.


هزّ سليم رأسه بصمت، دون أن ينطق بكلمة. جلس مكي على المقعد إلى جواره،: طبعًا جاي عشان ياخد ميعاد يشوف ماسة، متخليهم يشفوها.


سليم بغضب ممزوج بالتعجب: هو أنتم محسسيني إنها بقالها عشر سنين ماشافتش أهلها ليه؟! هما! تلات أيام!


مكي بهدوء، محاولًا تهدئة الموقف: هما دلوقتي فاكرينك أذيتها، بعد اللي شافوك فيه ريّحهم، خليهم يشوفوها، يعرفوا إنها بخير.


سليم بحسم ورفض تام: لا.. وبعدين أنا مش عايزك تقرب من الفيلا الفترة الجاية. شغلك هيكون هنا معايا في المجموعة، ولو رايح مكان غير كده لا.


رفع مكي رأسه وردّ دون تردد: لأ، مش موافق.


نظر إليه سليم بحدة: اسمع الكلام... بطل عند.


مكي بحسم: مش هعمل كده، أنت خايف إنهم يجوا وأسمحلهم بالدخول. ماتقلقش، مش هاسمحلهم.


سليم مفسرًا:  أنا مش عايزك تتحط في موقف معاهم،لأنهم أكيد هيحاولوا وساعتها هطردهم، وسلوى بعدت عنك لمجرد إنك ما وقفتش ضدي، لو ده حصل تاني، وموقفتنيش، هينتهي كل أمل برجوعكم.


تنهد مكي وقال بتوضيح:  اللي بيني وبينك حاجة، واللي بيني وبينها حاجة تانية. هي لازم تفرق.


تابع بنظرة حزينة وصوت خافت لكنه ثابت:

ومتقلقش مستحيل ييجي يوم وألومك. انا وأنت اتظلمنا، حتى لو في سبب، كان لازم يتكلموا، على الأقل سلوى، كانت تتكلم، وقفل على الموضوع عشان والله ما هبعد عنك.


تنهد سليم، واستند بظهره إلى الأريكة، يدرك أن مكي عنيد، ولم يستجب لحديثه، فسأله: في جديد


مكي: رشدي سافر باريس، وعماد في دبي، عنده شغل مع أبوه. الأمور مستقرة.


سليم: طب خليك برضه عينك عليهم... نفس المراقبة، مش عايز أي تغيير.


مكي بعقلانية: بقولك إيه، ماتفك على ماسة شوية؟ خرجها حتى بره الأوضة، اللي بتعمله ده مش صح. هي مش عارفة إنك بتعمل كده من ورا قلبك.


سليم بجمود كاذب: مين قالك إني بعمل كده من ورا قلبي؟


تبسم مكي ابتسامة جانبية: إنت لو ضحكت على الناس كلها، مش هتضحك عليا أنا.


سليم بعناد: اللي بعمله هو الصح. ومش هقولك تاني، ماتحسسنيش إنها بقالها سنين، النهارده تالت يوم.


مكي بحزم: اللي بتعمله غلط.


سليم متهربًا: ماتبطل سِيالة ويلا امشي.


نهض مكي، وألقى عليه نظرة أخيرة قبل أن يغادر، وقال بإصرار: اللي بتعمله غلط... خف، عشان ماتندمش. إنت بتحبها.


تركه ومضى، بينما بقي سليم جالسًا، رأسه مثقل بالأفكار، وقلبه يئن من التعب... لكن ملامحه ظلت جامدة.


فيلا سليم وماسة، الثانية عشر ظهراً 


غرفة ماسة


كالعادة، بدأت تستيقظ ماسة من نومها، ولكن هذه المرة، شعرت بدوار وهي تجلس على الفراش، وضعت يديها على مؤخرة رأسها، فقد مرّ عليها ثلاثة أيام لم تذق فيها طعامًا سوى قطع من الشوكولاتة والكثير من الماء فقط، كانت آخر وجبة حقيقية تناولتها هي تلك التي أكلتها في القطار، يوم ذهبت إلى مرسى مطروح، فكل شيء أصبح أكبر من أن تتحمله، نظرت من حولها بضيق وحزن إلى الحائط، الذي بدا لها أشبه بأسوار السجن، لم يكن لديها أي دافع للنهوض، لا شيء يدعو لذلك، سوى صمت ثقيل وملل طويل، ويومٍ يمتد كالعقاب، وساعاته تمر كأنها سنوات تنتظرها، وضعت يدها بين كفيها وبدأت دموعها تهبط، تتمنى ألا تستيقظ، قلبها يؤلمها بشدة.


على إتجاه آخر في مكتب سليم داخل المجموعة، كان سليم جالسًا، عيونه تتابعها بصمت وحزن عميق عبر التابلت، دموعه تتجمع في عينيه لكنها ترفض الانسياب، قلبه يعاني لما يراه من حالتها، وصعوبتها التي تمر بها، لكنه يجاهد نفسه ليظل قويًا، لا يُظهر ضعفًا، داخله صراع بين قلبه الذي يقول له "كفى"، وبين عقله وغضبه وكرامته التي تفرض عليه أن يكمل طريقه، كأنها أصوات تحثه على الاستمرار رغم ألم قسوته عليها، تذكره بأنها تركته، وأنها دومًا تفعل ذلك، تنهد بعمق ثم رفع الهاتف وأتصل بسحر، قال لها بهدوء لكن حازم: حضري الفطار الهانم صحيت.


فهو على يقين بأنها لم تضرب على جرس لتخبرها بأنها استيقظت.


على إتجاه آخر عند ماسة.


مازالت ماسة متمددة على الفراش تسند رأسها الذي يدور على مؤخرة الفراش بصمت يثقل قلبها

لم يمرّ وقت طويل حتى فُتح الباب لم تنظر مباشرة تعرف أنها سحر.


دخلت سحر تحمل صينية الإفطار كالعادة بابتسامة مشرقة: صباحك هنا يا ست ماسة.


رغم جوعها الشديد وشعورها بالهبوط والهذيان، إلا أن بداخلها شيء أكبر من الجوع بكثير عناد لا يتوقف.


ماسة بنظرة حادة: مش عايزة أكل، ماتجبوش أكل هنا تاني. 


سحر اقتربت وجلست أمامها بحنان: يا ستي إنتي لازم تاكلي، وشك أصفر خالص، هتقعي من طولك.


ماسة تساءلت: سليم فين؟


سحر: في شغله.


ماسة بصوت منهك: دادا، هو إنتي بتعرفي منين إني صحيت؟


سحر: سليم بيه بيبلغني.


صمتت ماسة للحظة، تفكر في أمر، تحاول أن تعرف كيف يعرف، تشعر أن هناك كاميرات تراقبها لكنها ليست متأكدة بعد.


تنهدت ماسة وقالت بحزن: وطبعًا الخروج من الأوضة ممنوع النهاردة كمان.


سحر وهي تربت على قدميها:حقك عليا يا ست ماسة، والله أنا زعلانة عليكي، بس أعمل إيه؟


ماسة وعينيها بتدمع برجاء اقتربت منها: ماتعمليش حاجة، بس خليكي قاعدة معايا.


سحر بحزن: ياريت والله، هو رافض.


ماسة بهمس تحاول اقناعها: سيبك منه، لو حصلت حاجة، أنا هقفلك، ماتخافيش.

برجاء ودموع:

وحياتي يا دادا أنا زهقانة، مش قادرة، على الأقل أقعدي معايا، كلميني، هيجرالي حاجة والله.


سحر: طب إستني، أكلمه وأستأذن منه.


رفعت سحر هاتفها وقامت بالاتصال بسليم، بعد دقائق أتاها صوته.


سحر: ألو، ازيك يا سليم بيه؟


سليم بإقتضاب: نعم يا سحر.


سحر: أنا طلعت لماسة هانم الفطار، ممكن أقعد معاها شوية؟


سليم برفض: لا، إنزلي حالًا وأقفلي عليها، ماتتصليش تاني، مش عايز دوشة، عندي اجتماع مهم.


سحر حاولت أن تقنعه: طب يا بيه


لم ينتظرها لتكمل حديثها، أغلق الهاتف بينما نظرت سحر إلي ماسة بحزن وهي تضع عينيها على الأرض.


نظرت لها ماسة بدموع: رفض؟!


رفعت عينيها بحزن وهي تتوقف: آه، حقك عليا يابنتي.


توقفت ماسة وهي تمسك يدها بدموع: وحياتي يا دادا، خليكي معايا، بجد مش قادرة، ماتسبنيش لوحدي، والله هموت، مش قادرة ماتخافيش منه.


سحر بخوف: لا لازم أخاف ده سليم بيه طلع صعب.


ماسة أمسكت يدها بدموع: مش هيعملك حاجة، والله ماهيعمل حاجة، أنا عارفة سليم، آخره يزعقلك حبة.


سحر وهى تبتعد وتتحرك بظهرها: والنبي يا ست ماسة، ماتقطعيش عيشي حقك عليا.


خرجت سحر، وأغلقت الباب من خلفها.


توقفت ماسة في منتصف الغرفة، تنظر من حولها بقهر ودموع، الغضب بدأ يتسلل إليها، ينمو داخلها كوحش، ألتفتت بعينيها من حولها، ركضت نحوه الباب وبدأت تصرخ وتضربه بقوة ورفض.


أفتحي الباب يا سحر! والله لو مافتحتي، لموّت نفسي! افتحوا الباب! بقولك أفتحي الباب...كده طيب!


فقدت السيطرة ركلت الصينية على الأرض، بعثرت الطعام، وأخذت تكسر كل ما تصل إليه يداها وهي تصرخ، فتحت الدولاب، أخرجت ملابسها، ومزّقتها واحدة تلو الأخرى، تشهق، تبكي، تصرخ.


كأنها تحاول تمزيق القيود، تمزيق كل شيء، حتى قلبها.


ظلت تصرخ وهي تضرب الباب، أمسكت بالكرسي وحملته بكل ما أوتيت من قوة، وأخذت تضرب به على الباب وهي تصرخ:

افتحوووو الباب ده افتحوووووو.


ثم فتحت الشرفة، وأخذت تضرب على الحديد وتصرخ: أفتحوا الباب ده، حد يفتحلي الباب بدل ماوالله هموّت نفسي!


لم يشاهد سليم ماحدث بسبب وجوده في إجتماع مع بعض المهندسين.


صوت ماسة كان مسموعًا للأسفل، وصراخها وهي تطلب فتح الباب، خبطها القوى على الباب لم يتوقف لحظة، وكل شيء حولها تكسره. صوتها أصبح مبحوحًا من كثرة الصراخ.


صعدت سحر مرة أخرى وهي تتحدث من خلف الباب برجاء:

ست ماسة والله العظيم ماهقدر أفتحلك، حقك عليا

أهدي بالراحة هايجرالك حاجة.


ماسة بصراخ وهى تتوعد: أفتحي الباب يا سحر، لو مافتحتش الباب هموّت نفسي، والله هموّت نفسي!


سحر،: ماتقوليش كدة حرام عليكي.


ماسة وهى تضرب على الباب بكل ماأوتيت من قوة: الحرام إني اتحبس هنا.


سحر بحزن على حالها: طب استني طيب هكلمه. 

أخرجت سحر هاتفها من صدرها وامتمت: لا حول ولا قوة إلا بالله ..

قامت بالاتصال بسليم الذي لم يرد لانشغاله في الاجتماع لا تعرف ماذا تفعل. 


لكن ماسة لم تتوقف للحظة واحدة عن الصراخ وضرب الباب بقدميها وبيديها حتى رأسها.


سحر: إستني بس، والله سليم بيه مش بيرد، شكله في شغله


ماسة بتوسل وبكاء: بقولك أفتحي الباب يا سحر، أفتحي الباب حالًا! وحياة أغلي حاجة عندك مش قادرة خالص. 


سحر تمتمت: لا إله إلا الله.

فكرت سحر مرة أخرى، أخذت تتصل بسليم مرارًا وتكرارًا.


في الجهة الأخرى،كان سليم يقوم بشرح بعض الأشياء للمهندسين بتركيز، عندما لاحظ أن سحر تتصل به أكثر من مرة، تنهد، أعتذر منهم، وخرج لإجراء المكالمة.


سليم: خير يا سحر؟ عندي إجتماع مهم!


سحر بهلع: الست ماسة مش مبطلة صريخ بص، حتى سامع؟


اقتربت سحر من الباب، ورفعت الهاتف ليسمع.


استمع سليم لصراخ ماسة وهي تضرب الباب، وصوتها مبحوح، وهي تقول: افتحوا الباب! افتحوووووا الباب! 


سحر بتوضيح تابعت: الست من ساعة ماعرفت إنك رفضت أقعد معاها، وهي بقت كده، كسّرت الأوضة! أنا خايفة تعمل حاجة في نفسها تعالى بسرعة يا بيه والنبي. 


تنهد سليم وأسرع إلى الداخل، فتح التابلت، ظهرت الغرفة على الشاشة مدمّرة بالكامل، مقعد التسريحة مكسور من شدّة ماضُرب به الباب، وجزء من الباب نفسه محطّم. كل شيء في الغرفة تقريبًا ناله الخراب.


كانت ماسة تدور في الغرفة كالعاصفة، تكسر كل ماتصل إليه يداها وهي تصرخ بغضب وجنون، حتى السرير لم يسلم منها، حاولت قلبه فلم تستطع، فاكتفت بقلب المرتبة، وزجاج التسريحة حطّمته بضربة غاضبة، ثم اندفعت إلى الحمّام وأخذت تعبث وتكسّر فيه كأنها تبحث عن متنفس لألمها تصرخ دون صوت مسموع، لكن كل شيء كان يترجم أوجاعها


اتّسعت عينا سليم ذهولًا، لم يتخيّل أن يصل بها الأمر إلى هذا الحد من الجنون، خاصة أن حبسها لم يتجاوز يومين، لكن العزلة والضغط كانا كافيين لتفجّر أكثر الأرواح صلابة.


سليم بقلق رفع هاتف وعينه على الشاشة بصدمة: طب يا سحر، ماحدش يدخل عليها، أنا جاي حالا.


دخل سليم إلى المكتب مرة أخرى مسرعا:

سورى، يا باشمهندسين،  لازم أمشي، هنكمل الإجتماع بكرة إن شاء الله خلينا ماشيين زي ما إحنا تمام.


قال كلماته، ولم ينتظر ردهم. تحرك مسرعًا، كان مكي متوقفا في الممر بانتظاره.


سليم وهو يتحرك مسرعا: يلا يا مكي، بسرعة لازم أروح الفيلا.


صعدا المصعد، نظر مكي متعجباً قال بقلق: في إيه يا سليم؟


سليم وعينه على التابلت: ماسة عمالة تكسر في الأوضة.


مكي بلوم: قلتلك بلاش إللي بتعمله ده.


سليم: ماتتدخلش يا مكي خلينا بس نروح بسرعة.


وبالفعل هبطا للأسفل، صعدا السيارة، قاد مكي مسرعا حتى الفيلا.


فيلا سليم الثالثه مساءً


وصل سليم إلى الفيلا، كانت ماسة مثل الثور الهائج، مازالت تصرخ وتطلب الفرار، تضرب على الباب وكل شيء دون توقف، بالطبع سليم استمع إلى صراخها، هو ومكي من أسفل.


نظر سليم لمكي وسحر: استنوا هنا، ماحدش يطلع.


ثم أنطلق صاعدًا الدرج بخُطى سريعة، رغم الألم الحادّ في قدمه المصابة، كلّ خطوة تُعذِّبه، لكنه قاوم، قلبه يرتجف خوفًا عليها، وألمه لم يكن شيئًا يُذكر أمام قلقه العارم، لقد كان ذلك كافيًا ليكون إعلانًا واضحًا ماسة لا تزال تسكن قلبه كما هي.


وما إن بلغ الغرفة، حتى أخرج المفتاح وفتح الباب دون أدنى تردّد، حتى شعرت ماسة بحركة ألتفتت نحوه واقتربت بسرعة، وما إن عبر سليم العتبة، حتى أمتلأ وجهها بالغضب صدرها يعلو ويهبط بأنفاس متلاحقة وشديدة، وعيناها الزرقاوان تتوهجان بسواد الغضب، وذراعاها تحملان بعض الجروح والخدوش؛ ليست عميقة ولا خطيرة، لكنها كثيرة، متناثرة على امتداد الجلد.


رمقها سليم من أعلى إلى أسفل بأنفاس مثقلة، وقد بدا القلق والدهشة في عينيه حين وقعت عيناه على ذراعيها، دقّق النظر فيهما بخوف للحظات، ابتلع غصّته، لكنه لم يتحرّك، عندما تأكد أن ما في ذراعيها ليس مؤذيا لها..لكن هناك شيئ ما داخله ينهار.


اندفعت ماسة نحوه تريد الخروج، لكنه توقف في طريقها، ومدّ يده بهدوء، ودفعها من صدرها دون عنف وهو يقول.


سليم ببحة رجولية: رايحة فين؟ أرجعي.


ماسة بصوت مبحوح يخرج بصعوبة من كثرة الصراخ، وهي تحاول الخروج: أنا مش هقعد هنا دقيقة واحدة بعد كده.


حاولت الخروج مرة أخرى، لكنه دفعها بيديه مرة أخرى بعنف خفيف، عادت للخلف، أغلق الباب خلفه وتوقف أمامها، قال بنبرة حازمة، بعين لا ترمش:

مافيش خروج من هنا غير لما تكملي عقابك.


ماسة وهي تحاول أن تخرج مرة أخرى: قلتلك هخرج!


دفعها سليم مرة أخري لكن هذه المرة بشدة عادت للخلف كادت أن تقع لكنها تمالكت توازنها. 


سليم بنبرة رجولية جهورة حازمة: قلت مافيش خروج بطلي بقى!

نظر من حوله وهو يعقد حاحبيه على دمار الغرفة قال معلقا :

إيه إللي إنتِ عاملاه ده؟ وبعدين بطلي دوشة بقى، أنا عندي شغل، عندي حاجات أهم منك محتاج أركز فيها، خلصي عقوبتك، كلها أربع أيام.


ماسة بإصرار، وهي تتوقف أمامه برفض وعصبية: أنا هخرج من هنا،محدش هيمنعني إنت لو فضلت قافل عليا والله العظيم لأموت نفسي! أنا مستحيل أقعد دقيقة واحدة بعد كده، والله لأموت نفسي!


سليم بجمود أشبه بالثلج: موتي نفسك، يلا أنا واقف مستني.


ماسة نظرت له بتحدٍ: إنت فاكرني بهوش؟ طيب.


نظرت من حولها، ووقعت عيناها على قطعة من الزجاج المتناثر، أمسكتها وتوقفت أمامه وهي تقرّب الزجاج من معصمها وقالت:

لو ماسبتنيش أخرج من هنا، والله العظيم لأموت نفسي.


ضيّق سليم عينيه بابتسامة جانبية هادئة، وكأنه يشاهد مسلسلًا دراميًا خفيفًا، وهو ينظر إلى يديها، فهو يعلم في صميم نفسه أنها تقوم بإخافته فقط، وأنها لا تستطيع فعلها.


سليم بعين لا ترمش: يلا.


ماسة بتلعثم: إنت... إنت فاكرني بضحك عليك، صح؟


سليم تبسم واقترب منها، وأجاب بجمود: لا، أنا عارف إنك جدعة بتعرفي تموتي نفسك، يلا، عايز أتفرج.


ماسة بدموع قالت بتلعثم: يعني مش فارق معاك أموت؟!


سليم بجمود: لا.


اتسعت عينا ماسة بصدمة: لا؟ مش فارق؟!


أشاح سليم بوجهه فهو لا يستطيع النظر في عينيها قالها بكذب: أيوووه... 

نظر لها بتمثيل: يلا، وقفتي ليه موتي نفسك؟!


نظرت له ماسة وهي تجز على أسنانها، ودموعها تسقط بضعف، وهي تقرّب قطعة الزجاج من معصمها بتردد، لكنها لم تستطع فعلها فعلًا، فرمتها واقتربت منه بتوسل:

يا سليم، حرام عليك، إنت بتعمل فيا كده ليه؟ كفاية، حرام عليك، جبت القسوة دي منين؟!


سليم بخذلان: للأسف جبتها منك!


ماسة بوجع ودموع: أنا عمري ماكنت قاسية معاك.


سليم رفع حاجبه مندهشًا: والله؟! وإللي كنتي بتعمليه فيا في آخر الأيام ده كان إيه؟!


ماسة متعجبة بنبرة موجوعة: مسكت في آخر أيامنا، ونسيت كل حاجة حلوة؟ مافتكرتش غير الأيام الوحشة وبس؟ نسيت ماسة؟


تحرك سليم وهو يضع يديه في جيبه، وتحدث وهو يعطيها ظهره، وقال بنبرة مهزوزة فيها نوع من الحزن، وهو يحاول امتلاك نفسه كي لا يضعف:

لا، أنا مش ندل عشان أفكر بالطريقة دي، بس إنتِ مسحتي كل حاجة حلوة يا ماسة، بهروبك، وباللي بتعمليه معايا، دوستي على كل حاجة حلوة، و أولها دوستي على قلبي..


إلتفت لها وقال بحزم:

إنسي إني ممكن أسامحك، أو أديكي فرصة، خلاص، زمن الفرص إنتهى، حتى مش عايز أسمعك، مش عايز أعرف أسبابك، أنا كل إللي فاهمه حاجة واحدة،  إنك هربتي، بأكتر من طريقة، وأكتر من مرة، مافكرتيش فيا، وكنتي أنانية، حبي ليكي، وطلبي منك للفرص، وتوسّلي ليكي وأعتذاري ،كل ده مافرقش معاكي، فخلاص بقى إنتي كمان مش هتفرقي معايا، وزي ما إنتِ نسيتي الحلو، مش هقول لك إني هانساه، بس أنا اتوجعت يا ماسة، ولازم آخد حقي..


أكمل بنبرة قاطعة بنظرة حادة:

أنا قلتلك: إنتِ هاتعيشي هنا أتعس أيام حياتك، وهوريكي شخصيتي إللي كنتي بتتمني تشوفيها، وهاخد حق وجعي، وبعدين هرميكي، زي مارميتك من قلبي.


نظرت له ماسة بإهتزاز، مسحت دموعها: بس أنا مش قادرة أتحمل إللي إنت بتعمله ده، خلاص، هيجرالي حاجة، هموت! حرام عليك، طلقني يا سيدي، خلاص، ما دام إنت مش قادر تسامح!


سليم بشدة: قلتلك لما ييجيلي مزاج!


اقتربت منه بدموع ووجع: إللي إنت بتعمله ده مش صح، والله هاتندم!


ضحك سليم بشدة، ضحكة عالية متعجبًا:

"أندم؟!!"


اقترب من وجهها في مستوى نظرها، دقق النظر داخل عينيها بضيق و وجع تابع:

عارفة يا ماسة، أنا عمري ماعرفت يعني إيه كلمة ندم، ماعرفتوش للأسف إلا معاكي، لما اتجوزتك، أنا بكره اليوم إللي فكرت فيه إني أتجوزك، أنا ندمان على كل لحظة حبيتك فيها، وصدقتك، ووثقت فيكي


ابتعد وهو يزم شفتيه ويقول:

بعدين ماتستعجليش، ممكن أصحى بكرة مزاجي يقول لي: كفاية عليها كده، يلا أرميها، أو ممكن بعد ساعة، أو بعد سنة، إنتِ وحظك، وكل ما تبقي مؤدبة وما بتعمليش دوشة كتير، كل ماهتسرّعي من خروجك من هنا.


تنهدت ماسة ومسحت وجهها، فهي تفهم كل شيء.

تفهم طريقته القاسية، وجرحه الصامت الذي يصرخ في سكونه، بل إنها تسمعه، تسمع صوته القادم من خلف قلبه، من خلف عينيه، يتظاهر بالقوة، يتقن دور الرجل الصلب،لكنها ترى الحقيقة، في أعماقه يسكن رجلٌ عاشقٌ محطم لا أكثر.


حاولت ماسة استعطافه: طب يا سليم، أنا مش قادرة أستحمل السجن ده، أعمل إللي إنت عايزه يا سيدي، موافقة، بس موضوع إني أفضل في الأوضة دي لوحدي؟! والله هموت، هايجرالي حاجة.


تنهّد سليم وهو يشيح وجهه عنها: فاضلك أربع أيام، أتحمليهم،  وهو ينظر من حوله متعجباً:

بعدين دي زنزانتك المنفردة سبع نجوم، هو إنتِ تقدري تعيشي ساعة لوحدك في السجون الحقيقية؟!

إنتِ بجد، كنتي انتحرتي.


ماسة بدموع وتوسل: أنا مش قد ده، أنا أضعف من إني أتحمل ده، بلاش قساوة.


سليم تبسم نصف ابتسامة لم تصل الى عينه بوجع:

قولتلك القسوة اتعلمتها منك..


تنفخ بضجر وقال بزهق:

أسمعي الكلام يا ماسة، ويلا كلي، وعيشي الكام يوم دول، وهما أربع أيام، وهخرجك.


أمسكت ماسة يده وهي تنظر داخل عينيه بتوسل ودموع أخفت ملامحها:

والله ماهقدر أقعد دقيقة كمان، أنا عملت إيه لكل ده أنا مراتك مش عبدتك.. 

صمتت للحظة وقالت بتوسل وكأنها قد فاض بها:

يا شيخ، ورحمة حور وحياتها، طلّعني من الأوضة دي.


اتسعت عينا سليم بشدة واقترب منها: هشش، أوعي لسانك ينطق باسمها تاني، فاهمة؟ لسانك مايجيبش سيرتها تاني، أوعي عارفة يعني إيه أوعي؟


ماسة بغضب متعجبة: يعني إيه لساني ماينطقش بإسمها تاني؟! إنت مجنون؟ دي بنتي!


هز سليم رأسه بإيجاب، بعين حادة وبقهر: للأسف بنتك. بس الحمد لله إنها ماتت.


نظرت له ماسة بإتساع عينيها وكأن هناك من طعنها في قلبها، وقالت بنبرة مكتومة وكأنها تخرج بصعوبة:

إنت بتقول إيه؟! إنت اتجننت؟ بس يا سليم، أسكت مش للدرجة دي.


تابع سليم بنظرة حادة ونبرة مؤلمة: أسكت ليه؟ دي الحقيقة أنا بحمد ربنا إن حور ماتت، ولا يكون ليها أم زيك، أم أنانية مابتفكرش غير في نفسها، أوعي تجيبي سيرتها على لسانك تاني.


ماسة بنبرة مكتومة بصدمة: إيه إللي إنت بتقوله ده؟! إنت بتقولي أنا كده؟


هز سليم رأسه بإيجاب ودمعة ترفض الهبوط:

أيوه، بقولك إنتي كده، تخيلي لو كانت موجودة معانا، وإنتي كل يومين بحال! فجأة قريبة وفجأة بعيدة، عايزة تمشي، عايزة تقعدي، مش فاهم منك حاجة، تخيلي فجأة تصحى من النوم ماتلاقيش أمها وتيجي تسألني بابا، ماما فين؟ أقولها وقتها: ماما زهقت وسابتك ومشيت، مافكرتش فيكي؟! إنتي وإللي زيك ماتستحقوش تبقوا أمهات، إنتِ أكدتيلي إن كلكم غشاشين ومخادعين وزي بعض، بس كل واحدة بطريقتها...


تنهد وتابع على نفس الوتيرة:

عارفة أنا ليه ماتجوزتش لورجينا؟ مش عشان هي مش كويسة، بالعكس، كانت وقتها عندها مميزات كتير عنك.، بس المميزات دي كنت بشوفها كماليات، تقدري مع التعليم والتطور تكتسبيها، وده إللي حصل، بعد سنة من جوازنا، اتغيرتي كتير، وكل سنة التغييرات بتزيد، لحد مابقيتي ماسة هانم سليم الراوي، لو حلفنا قدام حد إنك كنتي بتشتغلي عند منصور ومن الأرياف، ومش دي طريقة كلامك، ولا دي لهجتك، ولا كنتي حتى بتعرفي تقرئي أو تكتبي، محدش هايصدق، أنا حبيت أبني معاكي عيلة، لإني شفت فيكي حاجات أهم من شوية الكماليات دي، شفت نقائك برائتك شفت فيكي البيت الدافئ  الأمان، إنك هاتساعديني يبقالي بيت وحياة أقدر أربي فيها أولادي زي ما أنا بأتمنى، لكن لورجينا ماكانتش هتقدر تتعلم ده، ولا أنا كنت هقدر أعلّمهولها، أو يمكن أنا نفسي قصير، أو حسبتها غلط.


تنهّد بمرارة وخذلان:

المهم النهاية إنتي كمان طلعتي ماتستحقيش إنّي أفكر أبني معاكي عيلة، وأكسر مبادئي، وأكسر وعدي لنفسي إني عمري ماهتجوز ولا أخلف، عشان مأعيش ولادي نفس المصير، مصيري أنا وإخواتي.


تابع بصوت متعجب بمرارة وهو يحرك يده:

فتخيلي بقى لو حور كانت عايشة وإنتي أمها! كنتي هاتصنعي منها شخصية عاملة إزاي؟! أكيد ماكانتش هاتفرق كتير عن لورجينا وصافيناز ولورين وأروى، وكل البنات دي تشوهات، كنا هنزيد المتشوّهين واحدة، ولو يعني وصلت معاها لأحسن مراحل التربية، هاتبقى زي فريدة، وأنا مستحيل كنت أسمح بده كفاية فايزة واحدة، فأنا بحمد ربنا إنها ماتت، وإني ماخلّفتش منك لحد اللحظة دي، 


ضحك وهو يضرب كف على كف متعجبًا بمرارة:

وأنا إنا كنت غبي، لحد اللحظة دي بتعالج وباخد إبر عشان أقدر أجيبلك طفل! حمار أنا، صح؟ بس الحمد لله، ماتت وارتاحت، وأنا فُقت من الغباء والعمى والحفرة إللي كنت رامي نفسي فيها.


كانت ماسة تستمع له، واهتزازات وطعنات تغرز في قلبها بلا رحمة، لا يوجد مايصف ما تشعر به من ألم ووجع وعذاب.


ماسة بنبرة مهتزّة وبخنق:

آخر حاجة كنت أتوقع إنك تقوللي أنا الكلام ده، مع إنك عارف، لو كانت موجودة، حياتنا كلها كانت هاتتغير، وإني مش الأم إللي إنت شايفها دي، بس إنت غضبك عاميك، بس ماتوقعتش إنه يوصل للدرجة دي، وإنك تظلمني أوي كده أنا مش هزعل منك، علشان أنا عارفة إن كل كلمة بتقولها بتقولها من جرحك، من وجعك، من غضبك، بس أقسم بالله العظيم، إنت ظالمني إنت أكتر واحد عارف ماسة كويس.


سليم مد وجهه برفض: لأ، أنا كنت فاكر نفسي عارفك، بس طلعت ماعرفكيش، ماسة إللي اتجوزتها، ماتت هي كمان بعد الحادثة بشوية.


وضعت ماسة يدها على جبينها، وقد بدأ الدوار يهاجمها من كل الجهات، وغشاوة ثقيلة خيمت على عينيها. لم تكن قد أكلت منذ ثلاث ليالٍ، وكل مافعلته اليوم من صراخ وبكاء وحركات متشنجة أنهك جسدها الهش، كلمات سليم الأخيرة كانت كطعنة في الروح، خصوصًا حين تحدث عن ابنتها فتلك الكلمات أنهت ماتبقى لها من قوة


ماسة بصوت مكتوم، بالكاد يخرج من صدرها لكنه لم يسمعها: إنت هتعرف كل حاجة، بس أطمن على ماما، وإخواتي،  وهقولك كل حاجة.


رمقها سليم بنظرة مشوشة، ثم همس بمرارة:

ماتعمليش كده علشان مش هاتصعبي عليا، أربع أيام، وماتحلفنيش بحد، علشان مش هتراجع.


رفعت عينيها نحوه، شاردة، باهتة، كأن روحها تتلاشى ببطء: ولا حياتي أنا، كمان خاطري بقى يهون عليك.


سليم هو يحاول مسك ماتبقى منه من قوة قال بنبرة ضعيفة هو لا ينظر لها: كان زمان.


نظرت في عينه بيقين بنبرة تخرج بصعوبة: تؤ لحد دلوقتي، متأكدة إنت ماتعرفش تحب إلا ماسة.


فجأة مدت يدها أمسكت يده وكأن ثقل جسدها كله تسنده بكفها على كفه، ثم نظرت إليه كأنها تسأله النجاة، ولم تجدها.


بدأ سليم يدقق النظر في ملامحها، التي أخذت تفقد لونها، كأنها تذوب كقطعة الثلج


أقترب منها بلهفة: مالك؟


وضعت يدها على قلبها، بينما جسدها يهتز بخفة:

حاسة إن روحي بتتسحب مني.


سليم بغضب ممزوج بالخوف: علشان مابتاكليش!


همست كأن صوتها يخرج من قاع بئر: سليم مش قادرة، حاسة إني بموت ألحقني يا سليم.


ثم إنهارت في حضنه بلا حراك. 


شهق سليم من شدّة الصدمة، وصرخ بإسمها وهو يضمها إليه بقوة: ماسة!

رجاء محدش ينسى يضغط على لايك عشان تساعدة الرواية تنشهر يا قمراتي وكتبولي توقعاتكم تفتكروا سليم هيعمل ايه ؟


       الفصل الخامس والسبعون من هنا 

     لقراءة جميع فصول الرواية من هنا

تعليقات
×

للمزيد من الروايات زوروا قناتنا على تليجرام من هنا

زيارة القناة