
رواية الماسة المكسورة
الفصل الثامن والسبعون 78 ج3 والاخير
بقلم ليله عادل
{"يا هوى القلب بجنون، وتعشق الروح حتى حدود الهوس، ويتعلّق الجسد بالجسد كأن لا خلاص.. وحين يبلغ الحب ذروته، تولد الكارثة.فالغضب حين يولد من عمق الوجع، بعد عشقٍ أعمى،قد يصير طوفانًا لا يرحم. لا تحزن... إنه فقط عشقٌ}
[بعنوان: وما كان الوجع الا منه، الهروب الاخير ]
بلا تفكير، نزع الحزام من خصره ببطئ، ووجهه صار مسخًا مشوهًا من الألم والغضب ينظر لها بعين غامت بسواد الخطر لا ترمش.
تجمدت ماسة في مكانها، عادت زحفا للخلف بسرعة، الى مؤخرة الفراش تحاول أن تبتعد بنظرها، بجسدها، بروحها لكنها لم تستطع الهرب منه.
بنبرة مكسورة، خرج صوتها بصعوبة يتوسل: سليم، سليم لا، بلاش، ماتتجننش، إنت ناوي تعمل إيه؟
صرخ وهو يرفع الحزام بعصبية تفوق الوصف:
مش أنا مجنون!؟ فأنا هوريكي المجانين بتعمل ايه؟!
وفجأة انهال عليها ضربًا بالحزام، يصفع جسدها بقسوة متكررة، كانت تصرخ ماسة بأعلى صوتها وهي تبكي تتوسل له ان يرحمها لكن لا جدوى، تتململ على الفراش تحاول أن تحتمي بيديها، أن تختبئ، أن تختفي،لكنه واصل هجومه بتوحش، يسحق قدميها، ظهرها، بطنها، بعنفٍ لا يُطاق وحين حاولت الفرار، كانت قبضته أسرع، وذراعه أقسى.
أمسك بشعرها، لفه حول يده وجذبها نحوه بقسوة،
اقرب وجهه من وجهها حتى كاد أن يلتصق به، باتساع بؤبؤ عينه، وعروقه نافرة، تنبض بالغضب وبنبرة مرعبة، قال: رايحة فين؟! تعالي هنا!
ألقاها مجددًا على الفراش بقسوة، ثم انقض عليها، يضربها على وجهها بكفّه، يصفعها دون توقف وهي تصرخ حتى سال الدماء من شفتيها.
تابع بنظرة غامقة كسواد الليل بنبرة مخيفه مضطربة وهو يميل عليها بجسدة: مش إنتي إللي قلتي لي إنك ممكن تديني حقي؟ أنا هاخده، بس بطريقتي أنا! بطريقه مستحيل كنت أفكر أعملها معاكي بس أنتي متستهليش.
فجأة، نزع أحد الحمالات بوحشية، فاتمزقت، كما تمزق بداخلها شيء، وتهاوت معها بقايا الأمان الأخيرة في روحها، انقضّ عليها كسَبُع جائع، لا يرى فيها سوى فريسة يجب أن يلتهمها حيّة دون رحمة لا يرى في عينيها توسّلات ولا يسمع صراخها، فقط جسد يجب أن يُخضعه، ويكسر مقاومته.
أخذ ينهشها بقبلات قاسية، رغمًا عنها بوحشية قبلات لا تشبه الحب في شيء كمن يحاول انتزاع انتماء بالقوة كانه يُعلن سيطرته لا حبّه، يُمزقها بنظراته، ويُشرّع على جسدها حدود قسوته. يده قبضت على عنقها، كأنّه يُطبق على أنفاسها، أحكم ذراعيه حولها، وكأنه لا يريد فقط احتجاز الجسد، بل الروح.
كانت الدموع تنهمر من عينيها كالمطر الغاضب، لا تجد من يحتويها، ولا مفرّ منه، ولا حتى موضعًا تلجأ إليه من قسوته.
وحين حاولت ضمّ ساقيها لتحتمي، ليبقى ما تبقّى من كرامتها سليمًا، أمسك قدميها بعنف، يحاول أن يُجبرها على الاستسلام، لكنها كانت تقاوم، تغلقهما بكل ما تملكه من ألم، كأنها أمام مغتصب، لا زوجها الذي عاهدته ذات يوم لم يجبرها على فعل شيء رغمه عنها، وكأنها تصارع كي تحافظ على نفسها.
أخذت تتوسل اليه وهي تصرخ بتوسل: سليم لا لا..
لكنه لا يستمع لا يرى مغيب بالكامل، ما زال يحاول معاها لكنها كانت لا تستسلم.
اقترب منها أكثر، أمسك بذقنها بثباتٍ مروّع، أجبرها أن ترفع وجهها، أن تراه، أن تتلقى كلماته بكل وضوح، وهمس بصوتٍ مرعب، وعينين يتسع فيهما الجنون، وعروقه نافرة من شدة الغضب: بتحبي العنف، عنيا؟
ثم صفعها صفعة تلو الأخرى، بقسوة، بلا رحمة، بلا أي أثر لتردّد حتى كاد وعيها يتلاشى، ويخذلها جسدها، وهي تُدرك أنها لم تعد تملك شيئًا... لا الكرامة، ولا القوة، ولا حتى البكاء.
انقضّ عليها مرة أخرى، وهو ينهش عنقها بشراهة، لا يسمع أنينها، ولا يرى التوسل في عينيها، فقط عاصفة سوداء تسيطر عليه، تدفعه لالتهامها كمن يريد أن يمحوها من الوجود، وكأنه عاده للماضي الذي تخلص منه لسنوات عديدة.
صوتها خرج بصعوبة، متهدّج، يتقطّع ما بين شهقات وانهيار وكان ذلك هو اخر شيء ربما يجعله لا يفعلها:
بلاش كده يا سليم، عشان خاطري، ماتقتلش آخر حاجة حلوة بينا، الحاجة الوحيدة اللي بحترمك فيها. وحياتي عندك! ارجوك متعملش كده
كانت الكلمات تتهاوى من بين شفتيها كما يتهاوى الدم من قلب جريح، رجاء أخير يختنق تحت وطأة الخوف، قبل أن ينكسر بداخلها آخر إحساس نقيّ، ذاك الإحساس الذي طالما أوهمها أن سليم، مهما قسا، لن يطأ يومًا هذه العتبة... عتبة الفقد الكامل للرحمة.
رفع رأسه ونظر إليها بوحشيّة، عيناه تضجّان بظلال الجنون وصدروا يعلوا يهبط: مش إنتي إللي كنتي بتقوليلي خد حقك؟ ولا كنتي بتكذبي، علشان عارفة إني مستحيل أعمل كدة فعلًا؟
ماسة بإنهيار، صوتها يرتجف بين الخوف والانكسار:
بس إنت كده مش بتاخد حقك، دي مش رجولة، ولا حب، ولا حتى وجع، دي إهانة، إهانة ليك قبلي أنا! ماتشوهش صورتك في دي كمان إنت مش كدة.
ههز رأسه بعنف، وكأنه يرفض حتى صدى صوتها، ثم أمسك شعرها بقسوة، شدّه بقوة وهو يصرخ:
أنا مريض؟ ماشي! أنا مريض! بس انت عندك حق، أنا مش كده، ومستحيل ابقى كده، ولا هخليكي حتى تخليني كده.
صفعها من جديد، كأنّه يصفع الذكرى، الحب، الأيام التي ظنّها حلوة، ضربها بجنون، في كل موضع من جسدها ووجهها، وكأنّه لا يرى، لا يشعر، لا يعقل، كأنّه لم يعد سليم، بل ذلك الآخر القديم، الذي دفنوه وادّعوا أنه تغيّر.
راحت تضربه على صدره وظهره، تدفعه عنها بهلع، تصرخ وتحاول التملص من قبضته، امتدت يدها المرتجفة إلى عنقه، فخربشته بأظافرها. شدت قميصه من الأمام بعنف، فانفرجت أزراره الأولى. كانت تقاتل بكل ما فيها لتدفعه بعيدًا.
لكنه لم يتوقف عن صفعها، لم يرحم دموعها، ولا رجاءها، كأن شيئًا في داخله أنقلب، وانبعث منه وحش لا يعرف للشفقة سبيلًا.
لم يكن يضربها فقط، بل كان يُخرج في كل صفعة احتياجه وجرحه وانكساره، رفضها له بعد كل ماحدث بينهما، رغم كل أمل، رغم شعور السلام الذي ظنه عاد، رغم لحظة رقصهما، تلك التي حفرها داخله وكأنها بداية جديدة، لكنها أنهتها بجملة واحدة، سحبته من قمة الجبال إلى قاعٍ مظلم، لا يملك فيه شيئًا سوى الغضب والخذلان
فمن شدّة غضبه، لم يستطع أن يسمع حديثها بالشكل الصحيح، كل ماوصله منها، أنها ترفضه، تعيده لنقطة الصفر، كأن كل ما حدث بينهما كان عبثا لا وزن له، ولا قيمة، رغم أن ذلك لم يكن صحيحًا.
فكانت على وشك المسامحة، تقف على حافة الرجوع، تمد يدها المرتجفة نحوه، تحاول أن تستوعب، أن تفهم، أن تغفر، لكن عماه لم يترك لها فرصة، غضبه سبقها، أحرق الجسر الذي كادت أن تعبره، فكان مجنونًا، فقلبه كان يرى الود، لكن عينه لم تبصر إلا الخذلان.
وأخيراً استطاعت أن تدفعه بكل قوتها، وركضت، ألقت بالكوب الزجاجي عليه، لكنه تفاداه في اللحظة الأخيرة اندفعت راكضة، وأسقطت المقعد في طريقها محاولة عرقلته، لكنه كان خلفها، صوته يزأر: تعالي هنا!
لم تتوقف، استمرت في الركض، القت عليه الوسادة، ثم كوبًا آخر، أي شيء تقع عليه يدها...
لكن أخيرًا أمسك بها من الخلف، قبض على شعرها بعنف، شدها نحوه، وصوته يجلجل كالرعد:
تعالي هنا هتروحي مني فين؟! لازم تفهمي، مش هتتحركي من هنا غير بأمري! كل حاجه هتحصل هنا بعد كدة بامري، كلمه بامري حتى تفكيرك بامري مش مسموح ليكي باي حاجه حتى النفس بامري.
صرخت ماسة وهي تحاول أن تتفلت من قبضته، دموعها تخنق صوتها:
أبعد عني!، إنت فعلاً مش طبيعي! مش بني آدم! إنت إنسان مريض بجد! أنا همشي! مش هرجعلك تاني في حياتي! والا حتى هسامحك! إنت ماتستاهلش حد يسامحك!
شدّها بعنف، دفعها على الحائط، ثم انقضّ عليها كوحش فقد آخر ذرة عقل حاول تمزيق ملابسها، وتقبليها بجنون، وهي تقاوم، تضربه، تصرخ: أوعى! بكرهك! أبعد!
ووضع شفتيه على شفتيها قبلها بوحشية، عضّته في شفته، فتراجع لحظة، شهق من الألم، نظراته تشتعل.
صرخت ماسة بجنون، صوتها أنفجر في الغرفة وهي تبتعد بظهرها: ماتقربليش! والله ما هتاخد حاجة منى إلا برضايا لو على موتي أنا مستحيل أعيش معاك لحظة بعد إللى عملته ده.
تقدّم نحوها بخطوات متخبطة، أنفاسه متلاحقة، صوته مضطربا بين الجُرح والغضب: هتروحي فين؟ مافيش مكان تروحي له غير هنا!
ماسة، بصوت يتهدج، بين بكاء متقطع وإنهيار:
ليا أهلي! هروح عند أهلي! أنا بقيت بكرهك وبحتقرك!
خليتني أكره الحاجة الوحيدة إللي كنت بحترمك فيها! كنت بقول سليم استحالة يعملها بس عملتها، زي حاجات كتير كنت بقول استحاله اصدق تعملها وعملتها، أنا هطلق منك يا سليم! مش هتقرب مني تاني لا بمزاجي ولا غصب عني!
تبسم سليم ابتسامة صغيرة مضطربة وهو يقول بصوت هادئ ويقترب منها بخطوات بطيئة:
مين قالك إنك هتخرجي أصلاً من باب الأوضة مين هيسمحلك بده.
رفعت صوتها بأعلى ما فيه، كأنها تمزّق سنين الصمت والوجع قالت بتحدي:
هخرج! هخرج لو هموت وأنا خارجة! أنا مبقتش ملكك يا سليم! أنا مش لعبة في إيدك! أنا إنسانة، ليا كرامة وحرية ومشاعري مش سلعة عندك!
كانت عيناها تشتعلان، بالخذلان العميق، بالخوف الذي تحوّل غضب، وكانت وقفتها تلك، آخر حافة قبل الانهيار.
تابعت بصوت يرتجف من الإنفعال: أنا خلاص، ماعدتش بحبك! وحتى لو قلبي لسة بيحن، فعقلي خلاص، قفَل! إللي بيحب ما بيكسرش، ما بيذلش، مابيوجعش بالشكل ده! أنا هخرج، وهسيبك،ولو على جثتي!
تابعت بنبرة تهديد موجوعة:
ومش هتعرف توصل لي تاني، وهرفع عليك قضية خُلع! وهقول للناس كلها إنك كنت حابسني! وهتجوز واحد تاني! وهاعيش معاه كل إللي أنت كنت بتحلم تعيشه معايا، بس برضايا أنا!
توقف سليم فجأة، كأن الزمن انكسر داخله، كأن جملتها سكنِت بقلبه كالطلق.
قال بصوت يخرج بصعوبة من الصدمة: تتجوزي واحد تاني؟!
ماسة، بصوت متحدّي، مستفزة، عينيها تلمع بالدموع وبالوجع: أيوه... وهاعيش معاه إللي إنت بتتمناه وهتبقى بالنسبه لي مجرد ماضي ماضي بندم عليها وهنساك يا سليم وهخرجك من قلبي لو الثمن اني موت نفسي هعملها.
صرخ سليم بصوت مجنون، مختنق: يبقى هقتلك! هقتلك وهقتل نفسي يا ماسة!
ركض نحوها كالثور الهائج، لكنها سبقته بالهرب، جسدها كان أسرع، لكن خوفها أبطأها، أمسك بشعرها، جذبها بقسوة للخلف، دفعها فصطدم رأسها بالحائط بعنف، أنهارت على الأرض، تاهت لحظة، وأختل توازنها.
لم يرحمها، بل انقضّ عليها من جديد، كوحش مفترس، بلا عقل، بلا وعي، بعينين لا تريان من أمامهما سوى الغضب والخذلان جميع حواسه كانت خارج النطاق لم يكن سليم بل شخصا اخر.
ركب فوق بطنها، وضع يديه حول رقبتها، يخنقها ببطء، وهو يهذي بجنون:
مش هسيبك، مش هسيبك غير وإنتي معايا، هموتك يا ماسة، هموتك عشان ماتروحيش لحد غيري! مش هاعيش أشوفك في حضن حد تاني، ولا حد تاني يشوف ضحكتك! ولا يسمع صوتك! ولا يشوف طرفك! ولا يذوق طعمك! ولا تبصي له نفس البصة إللي كنتي بتبصيها لي! أنا آخر راجل هيكون ليكي! آخر نفس هيكون على إيدي! هموتك وهموت نفسي مستحيل تتجوزي واحد تاني، مستحيل تتجوزي واحد تاني، ولا تبقي لحد تاني، فاهمه مش هتبقي غير لسليم وبس، ولا حتى هسمح انك تسبيني، مش هسمحلك تبعدي عني، الموت بس اللى هيفرقنا.
عيناها كانت تتسعان، تتوسلان، يده تضغط، ونَفَسها يضيع تضربه بكل قوتها الضعيفة، لكن الصخر لا يتحرك، وكانت اللحظة، على حافة الموت.
بصوت مبحوح، مختنق، خرجت كلماتها من عمق روحها: سليم فوق أنا بموت، سليم، أنا ماسة فوق مش قادرة أتنفس بموت! سسس سللليم فوووق بموت سليم بمووت
لكن لا شيء يصل إليه، كان جسده هنا، لكن روحه ضاعت في غياهب الغضب والجنون، يصرخ من أعماق الحقد والألم وهو مستمر يقول:
هموتك! وأموت نفسي! هموتك! وأموت نفسي!
كانت أنفاسها تتلاشى، عيناها تغيم، وجسدها يرتجف، مدّت يديها بجانبها، تتحسس الأرض في يأس،حتى لمحت طفاية زجاجية ثقيلة بجانب السرير.
أمسكتها وفي آخر رمق، في لحظة حياة مقابل موت، رفعت يدها بكل ما تبقّى فيها من قوة، وضربته بها على رأسه.
تأوّه سليم من شدّة الألم، سقط بعيدًا عنها، جسده يرتجف، يترنح فاقدًا لتوازنه، شبه فاقد للوعي، لا يدرك ما حوله، ولا يشعر بالدم الذي بدأ يتسلّل ببطء من موضع الضربة.
أما هي فقد سحبت نَفَسًا غائرًا كأنها تنتزع الهواء من بين أنياب الموت، أنفاسها متقطّعة، مختنقة، تتلوّى في صدرها كأنها تحاول أن تعيد الحياة إلى نفسها.
وجهها ينزف، وعنقها يحمل آثار أصابعه بوضوح... جسدها كله يرتعش، لا من الألم فقط، بل من الصدمة، من الذهول، من الخذلان العميق الذي أصاب قلبها في مقتل.
نظرت إليه للحظة، إلى الرجل الذي أحبّته يومًا، إلى من حلمت أن يضمها عمرًا كاملاً بين ذراعيه، ولكنه الآن بات غريبًا... مجرمًا... مخلوقًا لا تعرفه مرعبًا لا لشيء، سوى لأنه كان يومًا أمانها.
كانت دموعها تنهمر في صمتٍ هادر، وشهقاتها تخرج من أعماقها، تقطع صدرها قطعًا، وقفت بصعوبة، قدماها بالكاد تحملانها، لكنّها وقفت.
لم ترغب في شيء سوى أن تهرب فقط .. الهرب لتنجوا بحياتها من ذلك المختل.
فتحت الباب بسرعة، هبطت السلالم بخطوات متعثّرة، جسدها يرتجف، وروحها تئنّ.
لم تكن تركض لتنجو منه، بل لتنجو بنفسها، ما عاد عقلها قادراً على الاستيعاب، وما عادت قدماها تتحركان بإرادتها، كأن جسدها يركض وحده، يحاول الإفلات من الموت الذي تذوّقت طعمه قبل قليل.
تركض والدموع تنهمر دون توقف، شهقاتها تسبقها، ونبضها يتسارع حدّ الاختناق، تشعر بالبرد رغم العرق، بالفراغ رغم الثقل الذي يسكن صدرها، وكأن روحها تُسحب منها شبرًا شبرًا.
كل ما بداخلها يصرخ: كفاية... كفاية بقى! تركض لا لأنها قوية، بل لأنها لم تجد سبيلًا آخر لتعيش.
كانت خائفة... مذعورة... متكسرة، تشعر أن العالم كله ينهار تحت قدميها، وأن الخطوة التالية قد تكون آخر ما تبقّى منها.
لم تكن تهرب، لم تكن تعرف حتى أنها تهرب كانت قدماها تتحركان وحدهما، كأن غريزة النجاة قادتها، كأن جسدها يركض بينما عقلها لا يزال هناك في الأعلى على الأرض، بين يديه.هي فقط تحاول ألا تموت
💞_______بقلمي_ليلة عادل_______💞
خرجت ماسة من باب الفيلا الداخلي المطل على الحديقة وهي تهرول لا تدري إلى أين تذهب قدماها العاريتان تلامسان الأرض، وقلبها يقرع كالطبل في صدرها، تبكي بصمت، الدموع تجري بلا انقطاع، وملامحها شاحبة كأنها خارجة من قبر.
جسدها أشبه بخريطة للألم، كدمات متفرقة على مختلف جسدها، علامات أصابعه على عنقها، دماء على طرف شفتيها، وشعرها مبعثر، متطاير، لم تنتبه حتى أنها خرجت بقميص النوم، ركضت في الحديقة كأن شياطين الانس والجن تطاردها، لا تعلم الطريق، لا تملك خطة، فقط تركض.
وقعت فجأة، ارتطمت بالحجارة، سقطت على جنبها، وصرخة مكتومة خرجت من أعماق حلقها، ركبتها نزفت، وساقها تؤلمها، لكن لا وقت للألم
نهضت مسرعة وهي تجر قدمها، تهرب من شبحه، من يديه، من نظراته، من كلماته التي كانت كالسكاكين.
وبسبب الحراس الموزعين حول القصر كانوا على مسافة بعيدة بأوامر قديمة من سليم، لإعطاء ماسة حرية ترتدي ما يحلو لها كما نعلم لم يشاهدوها..
لكن نتتبه على طرف أخر من الحديقة كان عثمان فقط هو من لمحها، وكان يراقب في صمت.
اقتربت ماسة من نقطة الحراسة، وبدأت خطواتها تتباطأ وفجأة، ظهر عثمان من بين الأشجار، أقترب منها ببطء، فرفعت عينيها نحوه بذهول، ثم ارتجف جسدها بأكمله.
عثمان بهمس وهو يشير بيده: ماتخافيش أنا هساعدك.
عينها ما زالت مرتعبة أنفاسها تعلو وتهبط برعب، التقطت مقصًا كان ملقى بجوارها بين نباتات، ورفعته في وجهه بنبرة شرسة حادة.
عثمان يحاول يطمئنتها: والله العظيم أنا مش ضدك، أنا معاك أرمي بس من يدك، أحسن ماتأذي نفسك، يلا أمشي ورايا، بس أمشي دلوقتي حالًا.
ماسة وصدرها يعد يهبط بصدمه قالت بضجر: وصدقك ليه ؟!
عثمان بهدوء: وماتصدقنيش ليه؟! ماتخافيش انا هساعدك اديني الثقة يلا بس بسرعه.
ترددت للحظات ثم لحقت به، كان يتحرك بحذر، شاهد أحد الحراس أشار لها لتتخبىء.
كان يتقدم بخطى حذرة، يتوقف عند كل زاوية، يراجع المكان بعينيه، ثم يعود إليها، يمسك يدها، ويقودها معه خطوةً بخطوة.
وحين وصلا إلى البوابة الخلفية، أوقفها خلف شجرةٍ سميكة الجذع، تُخفيها عن الأنظار.
عثمان بهمس: خليكي هنا.
هزت راسها بإيجاب بصمت، اقترب من اثنين من الحراس عند البوابة الخلفية.
عثمان ببحة رجولية: مين إللي واقف على السور التاني عند الضلمة؟
الحارس: تقريبا مراد.
عثمان: طيب خليكم مصحصحين.
توجه عثمان صوب مراد حتى توقف جانبه،
كلّ ذلك كانت تتابعه ماسة من خلف الشجرة، تتوارى بجسدها الممزق عن الأنظار، بينما عيناها لا تفارقان المشهد برعب شديد، ودموع لا تنقطع، وصدرها يعلو ويهبط كأنها تصارع الحياة، وعقلها لم يكن معها، ما يزال عالقًا هناك، في الغرفة، في الضربة، في صوته حين صرخ، في اللحظة التي كانت فيها على حافة الموت... حين تحول لوحش.
أخذت تراقبهم، تسمع همساتهم، وتكاد تخونها قواها، لكن الخوف كان أقوى من الألم، والرغبة في النجاة صارت آخر ماتبقى لها من الحياة.
عند عثمان
توقف عثمان أمام الحارس وهو يضحك: أخبارك إيه يا مراد؟
مراد: كله تمام يا باشا.
عثمان بخبث: شكلك عايز تشربلك كوبايه شاي.
مراد: آه والله، بس مافيش حد يجيبه.
عثمان: طب روح جيبه بسرعة، وهشيلك من الكاميرات.
مراد بتردد: بس يا باشا مكي.
عثمان وهو يضع بده على كتفه: أنا واقف مكانك، يلا بسرعة دلوقتي نايم.
ركض مراد وفي تلك اللحظة.
أشار عثمان لماسة فركضت نحوه توقفت أمامه ومازال يخفي ملامح وجهها الخوف.
عثمان بهمس: يلا نطّي، بس اسمعيني، أنا ساعدتك، بس لو الباشا جابك ماتتكلميش خليكي جدعه معايا زي ما انا جدع معاكي.
كانت ماسة بالكاد تلتقط أنفاسها، لكنّها اكتفت بهز رأسها موافقة، رفعها بين يديه، وساعدها على التسلّق فوق السور وبالفعل، قفزت، لكن في لحظة السقوط على إتجاه آخر، انغرس زجاج في قدمها، شهقة ألم كادت تفلت من فمها، لكنها كتمتها بكفها المرتجف.
نزيف... ألم... وظلامٌ يبتلع كل شيء بدأ المط يزداد والبرق والرعد..
نظرت حولها فراغ صحراء ساكنة، لا شيء فيها سوى السماء فوقها، والأرض تحتها وسليم في قلبها، يقتلها للمرة الألف.
تذكرته يده وهو يطبق على عنقها عيناه، حين كان مذعورًا وهو يحطّم كل ما حوله.
تذكرت ذلك الحب الذي أنكسر في لحظة، ومات مختنقًا في أضلاعها ..
ركضت ركضت رغم الألم، رغم الدم الذي ينزف من قدمها، رغم أن الطريق أمامها كان غائمًا لا يُرى كانت تريد النجاة. تريد الحياة.
ركضت حتى وصلت إلى المشهد الذي بدأنا به الرواية
المطر يهطل السماء تصرخ. وهي ترتجف في مكانها، حتى سقطت أمام سيارة مصطفى.
🌹________بقلمي_ليلة عادل______🌹
في الجهة الأخرى، داخل الفيلا
كان سليم مازال ممدّدًا على الأرض، فاقدًا للوعي، وكل ماحوله حطام.
المقعد مقلوبة، الكوس محطّمة، الزجاج متناثر، والهواء مشبع برائحة الدم والندم.
عند عثمان
كان عثمان متوقفا عند البوابة في صمت لكن متوتر.
أقترب مراد وهو ممسكاً بالشاي، وضعه على الطاولة، ثم أنصرف دون أن ينطق بكلمة.
هرول عثمان نحو غرفة الكاميرات، فتح الشاشة بسرعة، أصابعه تتحرك بثباتٍ وخوف.
بدأ بمسح كل شيء، كل أثرٍ لخطواتها. كل لقطةٍ تُظهرها وهي تهرب.
وكأن ماسة لم تكن وكأنها كانت مجرد سرابٍ مر من هنا.
أخرج هاتفه، اتصل برقم خاص، لا يحمل اسما على الشاشة بعد ثواني قال
عثمان بإبتسامة: عماد باشا، عندي خبر هايبهرك.
عماد بحدة: عثمان؟ إنت متصل بيا٢ الصبح ليه؟
عثمان بهدوء: الهانم هربت.
نهض عماد من نومته بفزع: بتقول ايه؟
عثمان بإبتسامة: بقولك الهانم هربت، وهي واخده علقه موت، وأنا إللي طلعتها، مسحت كل الكاميرات، وهشوف حوالينا بس ابعتلي هاكر محترف يساعدنى.
سكت عماد لحظة، وكأنه يفكر ثم قال بسرعة: أديني نص ساعة.
أغلق عماد الخط، بابتسامة مشرقة، فأيقظ صوته صافيناز.
صافيناز وهي بتتاوب: بتكلم مين دلوقتي؟
عماد نظر لها: عثمان، بيقولي ماسة هربت، بس سليم ضربها علقة موت.
صافيناز ضاحكة: ما أخويا طفس! حطتلها حبة زي المخدر في العصير تخليها متعصبة ومش عارفة تسيطر على أفعالها عشان كلمتني بأسلوب رخم ومعرفتش أرد عليها هو اللي شربها، بس مكنتش عارفه أن مفعولها بطيء.
عماد: مش مهم، المهم إن اللي نفسنا فيه حصل وبعيد عننا. بس جبتيها منين؟
صافيناز: من حد من صحابي اللي هناك، كنت عايزه اعمل فيها مقلب وأضحك عليها بس سليم شربها، لكن بجد هربت؟ متأكد؟
عماد: طبعًا بس مش عايزين نعرف حد، لحد ما نشوف إيه هيحصل.
عند عثمان
كان متوقعاً يفكر فما سيحدث وفي تلك اللحظات ومع سقوط الامطار الغزير قطع التيار الكهربائي، نظره عثمان من حول وهو يبتسم بارتياح شديد وهو يقول: كده هتتظبط بالمسطر.
خرج خارج غرفه المراقبه وهو يقول بصوت جهور:شوفوا المولدات بسرعه.
عند سليم في الغرفة
الوقت يمر ببطء، وبدأ سليم يستعيد وعيه فتح عينيه بتثاقل كان يتألم، قميصه الأبيض تمزق من الأمام، وتلطخ بالدماء من أثر ضربة ماسة فتح عينيه نصف فتحة، ما زال غير مستوعب لما حدث كل جزء في جسده يؤلمه، أنفاسه ثقيلة، رأسه يدور، جلس، وضع كفه على رأسه، ثم على موضع الجرح، وأخذ ينظر حوله المكان مهشم، صامت وبارد.
يبدو أن سليم الذي نعرفه قد عاد أخيرًا بصوته الطبيعي، بملامحه التي افتقدتها لم يكن ذلك الوحش المجنون الذي انفجر منذ لحظات، بل سليم، سليم الحقيقي، وكأن شيئًا أفاقه فجأة يبدو أن أثر المخدر قد اختفى
نادى بصوت خافت متقطع: ماسة.. ماسة.
لم يأتيه رد
ألتفت نحو باب الحمام المغلق، أفترض أنها بداخله.
بصوت أعلى، يتشبث بالأمل: ماسة إنتي فين؟
لم يأتي رد ..
أخرج أنفاس متعبة ونهض بصعوبة، قدماه تؤلمانه، ووعيه لا يزال مشوشًا، يتلفت بعينين نصف مطفأتين
توقف أمام باب الحمام، وضع كفه عليه وبدأ يطرقه بلطف ورجاء: ماسة أنا مش عايز أسمع غير كلمة واحدة، إنتي كويسة.
لم ترد
أسند جبينه على الباب تابع وهو يتوسل بنبرة نادمة بأنفاس مختنقة قلقة بعينين غرورقت بدموع:
أنا عارف إني غلطت حقك عليا، بس والله كنت مضغوط، وإنتي استفزتيني، ماكنتش في وعيي، ردّي عليا، حتى بكلمة أفتحي بس، خلينا نتفاهم، والله العظيم ما هضربك تاني والله ما هعملك حاجة وعد وعد ياماسة افتحي يا حبيبتي اسمعني لمرة أخيرة والله معارف عملت كدة فيكي إزاي آسف والله اسف.
لم يكن هناك أي رد.
صمت للحظة تابع متوسلا: طب أقفلي النور أعملي أي حركة أي صوت يطمني، ماتسيبينيش كده، أنا خايف عليكي، هكسر الباب يا ماسة، بالله عليكي طمني قلبي اللي هيموت من قلقله عليكي... والله هكسره.
لم يسمع شيئًا.
جز على أسنانه بغضب، فجأة ضربه بكتفه انفتح بسهولة لكن الحمام كان خاليًا.
وقف في مكانه لثوانٍ، يتأمّل الفراغ كأنّه لم يُدرك مايحدث، اتّسعت عيناه، اختنقت أنفاسه، استعاد وعيه بالكامل تحت وطأة الصدمة والخوف من فقدانها، ركض نحو الأبواب والنوافذ، يقلب الغرفة رأسًا على عقب بحثا عنها بجنون.
سليم صرخ كمن فقد شيئًا من روحه ببحّة رجوليّة مجنونة: مااااسة!!! لاااااا مااااااسة لالا مستحيل.
هرول إلى خارج الغرفة، هبط الدرج بعنف، ينادي بلا توقف: ماسة ماسة !! فينك؟ ردي عليا!! مااااسة.
وصل الردهة، وجهه مشوه من الهلع، نظراته تبحث في الظلام.
ظهرت سحر من الجهة الأخرى مفزوعة.
سليم بنبرة حادة مسرعة: الهانم راحت فين؟
سحر بتوتر: معرفش يا بيه، كانت فوق! معاك؟
صرخ بها وهو يشير بيده بعنف: روحي دوري عليها بسرعة، واقفة تتفرجي؟!
خرج للخارج وهو يتحرك كالمجنون، قدمه المصابة تمنعه من الركض لكنه ظل يزحف بها رغم الألم، هنا ظهر الحراس واقتربوا منه.
كان المطر لا يزال ينهمر بغزارة، بينما البرق يشقّ السماء والرعد لا يهدأ، كأن الطبيعة نفسها تُعلن غضبها.
سليم بصوت أعلى: ماسة فين؟!
نظر الحراس لبعضهم بصمت، لا أحد يجرؤ على الرد، وملامح سليم لا تبشر بالخير.
زمجر سليم بصوت عالٍ وهو يصرخ فيهم: فينها؟ فين الهانم؟! حد يرد
وقفوا في توتر، لا أحد يجيب لا احد يستطيع الرد
عاد يصيح بجنون: كنتم نايمين؟! ماحدش شافها؟! إنتو لسه واقفين بتتفرجوا؟ يلا اقلبوا الفيلا عليها، وحواليها بسرعة!
أحد الحراس حاول التماسك وهو يقول: ماحدش خرج من البوابات يا باشا.
اندفع سليم نحوه كإعصار، قبض على رقبته بكف مشدودة، كأنه يهم بخنقه. كان وجهه غارقًا في العرق رغم المطر الذي ينهمر بلا رحمة، وصوته... أجش، غليظ، كأن الرعد استعمر حنجرته.
سليم بعيني غامض بالسواد باتساع بؤبؤه عينه: اسمها حاضر.. حاضر.
تركه سليم، فسقط الحارس أرضا، ثم ركض مبتعدًا، وبدأ الجميع في التحرك فورًا.
اقترب سليم من عثمان بخطوات متثاقلة، قال بغضب مكتوم: مين كان على الكاميرات دلوقتي؟
عثمان بتوتر متقن: أنا.. مكي طلب يرتاح شوية، وأنا إللي كنت بأراقب بس هي ماظهرتش خالص.
نظر له سليم بحدة، عينيه متجمّدة: قدامي على الأوضة، دلوقتي حالًا.
وفي الوقت ذاته، كانت ماسة قد ركبت بالفعل مع مصطفى السيارة، وقد ابتعدت مسافة طويلة عن الفيلا، تبتعد كأنها تهرب من حياة كاملة.
عند غرفة المراقبة
جلس سليم كالمجنون أمام الشاشات، يتنقل بين الكاميرات بعيون زائغة، يبحث عن أي أثر، أي ظل، لكن لا شيء.
سليم بصوت غاضب مرهق: في إيه؟! فين التسجيلات؟! من ٢ إلا ربع لأثنين إلا عشرة في خمس دقائق اختفوا
عثمان أتوتر: النور قطع يا باشا، المولدت عقبال مابتشتغل بتاخذ لها من ثلاث دقائق لخمس دقائق، وتشغل الكاميرات وترجع كل حاجة زي ما كانت، كمان المطر عامل عطل في الكاميرات الخارجية، الصور كلها مشوشة، بس أكيد هي هنا، محدش فينا أتحرك من مكانه!
وفي تلك اللحظة، دخل مكي، وكان صوته مضطربًا:
في إيه يا سليم؟!
سليم توقف، ألتفت إليه بوجه شاحب وصوت واهن:
مش لاقيين ماسة.
مكي بصدمة: إزاي يعني؟! أكيد هنا مستحيل تخرج!
إستنى بس.
اقترب مكي منه، نبرة صوته انكسرت وهو يرى الدموع في عين سليم،
سليم بصوت مهزوم: سابتني خالص.
اوما مكي برأسه إلى عثمان كي يخرج فورًا من الغرفة، لا يريد أن يرى أحد سليم بهذا الضعف.
أمسك مكي سليم من ذراعه جعله يجلس على المقعد اقعد بس أرتاح.
سليم وهو يقول باضطراب وهو ينظر أمامه بنبرة مميتة: مشيت، هربت. ماسة سبتنى خلاص.
وفجأة بدأت عيناه تغيب، ووجهه شحب أكثر، الضربة في رأسه بدأت تؤثر، ثم سقط على الأرض دون وعي
اتسعت عين مكي صرخ: سليم!! سليم فوق!!
حمله بسرعة على ظهره، وخرج به يصرخ: حد ينادي على الدكتور فورًا!
ركض الحراس نحوه لكي يساعدت في حمله
لكن رد مكي بصوت عالي: أوعى إنت وهو ماحدش هيشيله غيري! حد يتصل بدكتور بسرعة... يلاااا!
ظلّ مكي حاملاً سليم على ظهره حتى وصل إلى الفيلا، وضعه على الأريكة، وكان وجهه شاحبًا وكأن الحياة تُنتزع منه.
أحد الحراس جلب زجاجة عطر بسرعة، وسكب مكي القليل منها على الجرح وعلى وجهه سليم، وضغط بقوة لإيقاف النزيف.
جاءت سحر من الداخل ومعها وفية والخوف يمسكهما: نعمل حاجة؟
مكي وهو بيشد بصوته: أعملي له كوب ليمون بسرعة!! وهاتي حاجة اقفل بيها النزيف ده.
وفي تلك اللحظة، كانت الفيلا تغلي ارتباك، فوضى، صرخات، أصوات خطوات تتجه في كلّ الاتّجاهات الحراس ينتشرون في الحديقة، يفتشون كلّ زاوية، كل ظل، كل شجرة، بين الممرات، خلف الأسوار لكن لا أحد يجد شيئًا.
في تلك الأثناء
كان مراد وعثمان واقفين بجانب بعضهما عند البوابة، ملامحهما متجمدة من الصدمة، وعيونهما تملؤها رهبة
همس مراد بصوت خافت، بالكاد يُسمع وهو ينظر أمامه: عثمان أنا مرعوب، يمكن تكون هربت وأنا كنت بعمل الشاي.
حدق فيه عثمان بعينين حادتين، وهمس بنبرة منخفضة لكن قاطعة: ماحدش فينا هيفتح بقه خليك عارف، لو فتحت بقك، هتموت ..
أضاف وهو يحاوطه بزراعه مع الخوف والتهديد:
مش بس إنت أمك وأبوك كمان أنا شغال مع العيلة دي من سنين وهو بيقتل إللي بيحبوه اسأل فتحي وصبحي، اسأل الناس القديمة شفت عمل إيه في أهل مراته؟
ابتلع مراد ريقه بصعوبة، وقال بصوت مرتعش: عندك حق... بس هربت إزاي؟
ألقى عثمان نظرة سريعة حوله، وعيناه تتحركان بقلق بين الزوايا والظلال، ثم قال بصوت مرتجف: ماعرفش أنا كنت واقف براقب، بس خلينا نسكت ونحافظ على السر ده، مانتكلمش خالص، ألا سليم باشا يذبحنا إحنا ولا شفنا ولا سمعنا ولا اتحركنا من أماكننا هشش، وأنا شلت من على الكاميرات اللحظة إللي وقفت فيها مكانك وحظنا حلو النور قطع بعدها بكام دقيقه.
مراد: تمام.
في تلك اللحظة، وصل عشري مسرعًا، أوقف السيارة بجنون أمام الفيلا، وترجل منها راكضا دون أن يغلق الباب خلفه. ركض نحو المدخل وهو يلهث، بينما كان الذعر بادياً على وجهه.
استمرت عمليات البحث، لكن بلا جدوى، رجال سليم انتشروا حول الفيلا، بعضهم بدأ يخرج من الطريق الخلفي، والبعض الآخر استكمل تمشيط المنطقة بإستخدام الكلاب المدربة والكشافات لكن لا أثر لأي شيء يرشدهم إلى أين ذهبت.
فالطريق الذي ركضت فيه ماسة كان خاليًا تمامًا من الفلل، بإستثناء فيلتهما ، القائمة في نهايته كما نعلم، منعزلة كأنها جزيرة
كان هو من أختار هذا المكان، مكانٌ ناءٍ، كالسجن،
وللأسف، كان لذلك عواقب وخيمة.
في ذات الوقت
بدأ سليم يستعيد وعيه تدريجيًا، كان وجهه شاحبًا، وعيناه محمرتين من شدة التوتر والانفعال.
جلس على الأريكة، يتنفس ببطء، بينما قدمت له وفية كوبًا من الليمون، كانوا بانتظار الطبيب لكنه لم يصل بعد.
فجأة، دخل عشري إلى الغرفة، وجهه متوتر وصوته مرتفع: في إيه؟ إيه إللي حصل؟
رفع سليم رأسه، بعينين متوهجتين، وقال بصوت مخنوق: وصلتوا لحاجة؟
في تلك اللحظة، تحدث مكي في جهاز اللاسلكي، يحاول التنسيق مع فرق البحث: منطقة3 حد وصل لحاجة؟
جاءه صوت خافت من الجهاز: لسه يا باشا، بندور، بس مافيش حاجة لحد دلوقتي، هي مش جوة الفيلا.
ضغط مكي على الزر مجددًا وهو يتحدث مع فريق آخر: شاكر، عثمان، سامعيني؟
كان كل منهما يتحرك في إتجاه مختلف، ومعه رجالة، لكن الرد كان مخيبًا: ماوصلناش لحاجة.
نهض سليم واقفًا فجأة، رغم إرهاقه: أنا هدور بنفسي.
تدخل مكي على الفور، محاولًا منعه: أقعد بس، ارتاح أنا هدور عليها، أنا وعشري، وهكلم عرفان.
عشري بشدة: حد يفهمني في إيه؟!
ثم ألتفت لعشري بسرعة: روح دور على ماسة مش لاقيينها، تقريبًا هربت.
اتسعت عين عشري للحظه بصدمه ثم، ركض خارجًا بأقصى سرعته.
وأثناء ذلك، دخل الطبيب برفقة أحد الحراس، يحمل حقيبته الطبية وخطى سريعا نحو سليم.
الطبيب بقلق وهو ينظر حوله: خير؟ في إيه؟
أشار مكي نحوه بسرعة: سليم اتضرب في دماغه، في جرح فوق الحاجب وراسه من الجنب.
اقترب الطبيب وفحص رأس سليم بعناية، ثم تمتم مطمئنًا: لا لا... الجرح سطحي خالص، مش عميق. هانحتاج غرزة واحدة بس، والجرح اللي فوق الحاجب مافيهوش حاجه.
مكي بقلق: بس ده فقد والوعي يا دكتور ونزف.
الطبيب: عادي مافيش حاجة أثر الخبطة ماتقلقش.
فتح الطبيب حقيبته، ووضع أدواته على الطاولة الصغيرة، ثم بدأ في تجهيز المخدر والقطن والخيط، وطلب من مكي أن يساعده بتثبيت رأس سليم قليلًا.
وبهدوء واحتراف، بدأ الطبيب في تخدير الجرح، ثم خياطته بدقة، أنهى عمله خلال دقائق، ثم أعطى سليم حقنة مسكن، وقال بهدوء وهو يجفف مكان الجرح:
خلاص كله تمام، بس لازم تشرب لبن يعوض شوية الدم إللي نزل، ويهدي المعدة مع المسكن.
جمع أدواته سريعًا، وألقى نظرة أخيرة على سليم قبل أن يغادر:
أرتاح شوية، ولو حصل أي صداع أو دوخة اتصلوا بيا فورًا.
غادر الطبيب، تاركا الغرفة خلفه في صمت ثقيل.
نظر مكي إلى وفيه وقال بنبرة هادئة: يلا، هاتيلي كوباية لبن بالعسل بسرعة.
ركضت وفيه، وبينما هي تبتعد، قالت سحر وهي تميل برأسها: سلمتك يا بيه.
جلس مكي بهدوء على المقعد بجوار سليم، ثم قال لسحر: سبينا لوحدنا يا سحر.
تحركت سحر بهدوء إلى الخارج، بينما كان مكي يراقب سليم، وقال بنبرة ثابتة: ها احسن دلوقت.
لم يتحرك سليم حتى لم يرمش ظل يحدق أمامه بندم واضح يذكر كل ما فعله مع ماسة وكيف تحول لوحش بلا احساس ورحمه، كانت عيناه دامعتين، وهز رأسه نافيًا، كأنه يعاند وجعه.
تابع مكي بتأكيد: هتبقى كويس المسكن هيريّحك.
وهنا ارتسمت على شفتي سليم نصف ابتسامة لكنها لم تكن سوى وجعٍ صامت، خانته دموعه، فانحدرت بصمت.
قال بصوت مختنق بالألم: إنت فاكر إن الوجع هنا؟
أشار لرأسه هز راسه بنفي بندم وحزن وهو على نفس ذات الوتيره: لا، الوجع هنا
ووضع يده على قلبه أضاف بندم فتك قلبه:
يا ريت كان في مسكن للقلب، يا ريت في دوا يمحي ذنوبك، او يرجع الزمن ساعه واحده يمكن تقدر تصلح اللي عملته في لحظه جنون، لكن مفيش الوجع كله هنا، والألم كله هنا، شغّال في النص، في نص قلبي... هنا بالظبط.
سكت لحظة، ثم أضاف بصوت خافض محشرج:
مش عايز أتكلم دلوقتي.
هز مكي رأسه بصمت، وقال بأسف: اهدا... هنلاقيها، هتروح فين؟ دا مكان معزول، مش زي القصر.
بوجع خنق نبرة صوت بدم يعصف بقلبه: المشكلة مش في أن الاقيها، المشكلة في المغفرة، المغفرة يامكي وانها تسامح.
سادت لحظات من الصمت حتى دخلت وفيه وهي تحمل كوباية اللبن الدافئ، ووضعتها على الطاولة بهدوء وخرجت.
كان سليم ما يزال يحدّق أمامه، يغمر الصمتُ والحزنُ ملامحه، وكفّه مستقرّة أعلى قلبه، كأنّ الندم قد استولى على وجهه، فلم يترك فيه أثرًا لشيء سواه.
مد مكي يده بكوب من اللبن نحو سليم، وقال بإلحاح: أشرب اللبن الدكتور قال لازم تشرب.
سليم بضجر: ماليش نفس انا هتجنن هتكون فين خايف عليها دي متعرفش حاجة عبيطة بتعمل نفسها قوية وهي بتغرق في شبر مية.
مكي بشدة: ماتبقاش عنيد، إنت لسة عندك دور لازم تعمله هتدور عليها إزاي وإنت كدة أسمع للكلام.
ظل سليم صامتًا للحظات، ثم أخذ الكوب ببطء فقد اقتنع.
رفع الكوب إلى شفتيه، وراح يحتسي منه على مهل. لم يكن يرغب في اللبن، بل كان يريد فقط أن يبقى مستيقظًا أراد أن تظل طاقته حيّة، وعقله يقظًا، وقلبه مشدودًا نحو أمرٍ واحد لا غير: العثور على ماسة وطلب السماح.
فجأة هز رأسه بلا وكأنه لا يستطيع تهدئة عقله الذي يشعر وكأن هناك مدق يدق في منتصف رأسه ألقى بالكوب توقف فجأة فهو يشعر بالاختناق والغثيان، وعيناه متسعتان بالصدمة، تدوران في اللاشيء.
وضع يده على قلبه الذي كاد أن يتوقف من شدّة الألم، كأن الألم قد تمركز فيه ليستقرّ هناك إلى الأبد.
صوت ماسة ظل يدوي في رأسه، يلتف حوله، يشتد، لا يرحمه وهي تقول:
مش هبقى ليك مش عايزاك في حياتي أنا عندي أموت ولا أعيش دقيقة ثانية واحدة وأنا مراتك وهروح عند أهلي وهرفع عليك قضية خلع ..
تذكر قبضته على شعرها صفعه لها وضرب رأسها في الحائط، وكل ما فعله من جنون ومحاولة خنقها..
في تلك اللحظة توقف مكي أمامه يحاول تهدئته: سليم إهدى، هانلاقيها، هي هاتروح فين يعني.
لكن سليم لم يكن هناك، كان في عالم آخر، عالم تتأجج فيه نيران الغضب والخذلان، ضغط على أسنانه بقوة، وكل ماخطر في ذهنه أن ماسة قد تكون لجأت إلى عائلتها، أو أنهم على الأقل يعرفون مكانها، لم تكن لتتحرك خطوة واحدة دون علم أحدهم، ربما استنجدت بعمار، أو حتى بسلوى.
تلك الفكرة وحدها كانت كفيلة بأن تشعل النيران في دمه مجدداً، كان يريد إحراقهم جميعًا، لا لشيء إلا لأنهم كانوا في محيطها، ربما فكروا في مساعدتها، أو فقط تمنوا لها الخلاص.
مكي لا يزال يحاول: هانلاقيها، بس خلينا نفكر بالراحة، أستريح.
لكن سليم لم يكن يرى ولا يسمع، سوى صورة واحدة... ماسة وعائلتها، حتى لو لم يكونوا السبب المباشر، فبالنسبة له، كانوا السبب الجذري لإنهياره، لإنهيار عشه الوردي مع زوجته، وأنهم السبب أن ماسة توقفت عن حبه وابتعدت عنه
قلبه تلون بالسواد، وجهه اشتد، عينيه اشتعلت فيهما شرارة شيطان.
مد يده إلى مسدسه المعلّق على خصره، وأندفع نحو الخارج كالإعصار، يضغط على أسنانه، والغضب يسبق خطواته.
ركض مكي خلفه: إستنى! رايح فين!
أمسك بكتفه يحاول تهدئته: يا ابني أصبر! ماتغلطش تاني.
لكن سليم كان كالمجنون دفعه دفعة عنيفة أطاحت به أرضًا وهو يقول اوعى يا مكي.
وقعت عيناه على سيارة الحرس المتوقفة أمام الفيلا، لم تكن سيارته، لكنها جاهزة صعدها، وأنطلق.
كل ذلك حدث في ثوانٍ.
مكي، وهو لا يزال يحاول النهوض من الأرض، رأى السيارة تنطلق بجنون، شعر أن مصيبة قادمة لا محالة.
صرخ بأعلى صوته: هاتوا عربية بسرعة!
في لحظات، كانت سيارة أخرى بين يديه، صعدها وطار خلف سليم.
على الطريق، اقترب منه، حاول أن يوقفه، يشير له من النافذة
مكي برجاء: سليم! أقف يا سليم، كدة إنت بتغلط!
لكن سليم لم يكن ليستجيب، كل ما كان يدور في رأسه أنه يستخلص كل من دمروا حياته.
مكي كان لا يزال يحاول، ضغط على البنزين، يحاول تجاوزه، أن يعرقله، أن يمنعه.
لكن سليم ناور بسيارته، لف وتجاوز، وواصل السير.
استمرت المطاردة، ومكي بجانبه يصرخ من السيارة
مكي يتوسل وهو يصيح ببحه رجولية: يا سليم! أقف يا سليم! أقف بالله عليك بلاش تعمل كارثة! فوووق
سليم صرخ من السيارة: مالكش دعوة.
لم يكن هناك فائدة، الغضب كان قد أبتلع كل شيء داخله.
فجأة، أخرج مسدسه، ووجه طلقة إلى إطار سيارة مكي.
العربة إنحرفت، لكنها لم تنقلب مكي سيطر عليها وأوقفها.
كان سليم يبطئ قليلًا، يتأكد من أنه بخير،
وحين تاكد ان مكي بخير أقترب منه للحظات وقال بنبرة حادة: ماتجيش ورايا
ثم أنطلق، خرج مكي مسرعًا من سيارته، حاول اللحاق به حيث ركض خلفه بتلقائية، لكن سليم كان قد اختفى في الأفق.
نظر مكي حوله يبحث عن سيارة أخرى، لكن لم يكن هناك ما يفيده.
صرخ بغضب أخرج هاتفه على الفور، وأتصل بالحراس في فيلا عائلة ماسة
مكي بتوتر: إنت مين؟ أسمعني ماتفتحش البوابة! سليم باشا جاي، ما تفتحش مهما حصل! أنا وراه، بقولك ماتفتحلوش،! إنت مش فاهم.
عند سليم..
في هذه اللحظة، كان سليم لا يرى سوى طريق واحد، لا يسمع سوى صوت الكره، كمجنونًا، وعيناه تغليان بألم السنين.
في رأسه كانت الذكريات تتصارع، ضحكاتهم في الحفلة، نظراتهم، صوت ماسة وهي تهمس له ذات يوم بشيء يشبه الحب.
حمص الشام... ليالٍ قديمة كانت تضحك فيها، سنين عاشها ظنًّا منه أنها حقيقية.
تذكر حين قالت له:
إنت إللي عملت كدة، لو كنت قادر توعدني، كنا سافرنا، كنا بقينا سعداء، كنا هانعيش في حب... إنت مستحيل تتغير إزاي أكون مطمنة وأنا شايفة سكينة في ضهرك؟ شايلها لأهلي لو عملوا أي حاجة، حتى لو من غير قصد، هاتأذيهم! إنت إللي وسعت المسافة مش أنا واعدي وانا هبقى ليك.
فجأة، فرمل بجنون، لم يكن يفصل بينه وبين البوابة سوى أمتار قليلة تلك الجملة جعلته يعود إلى صوابه
ترجل من السيارة، يحاول التنفس، لكن صدره يضيق
رأسه تغلي، وقلبه يخبط بقوة، كأن وجعه له صوت
عينه تمتلئ بالدموع، وقف لثوانٍ، كأنه في لحظة تردد.
هزّ رأسه بقهر، وفجأة، صرخ صرخة مجنونة، بنبرة مملوءة بالحزن، ببحة جهورة تقطع نياط القلب، كمن يحتاج أن ينفجر، أن يُفرغ ما بداخله عنوة أخرج سلاحه، وأطلق رصاصات في الهواء، واحدة تلو الأخرى، كأن كل رصاصة تحمل شظايا من روحه، كأنها تنتقم له من الداخل.
في تلك اللحظة، توقفت سيارة أجرة على بعد أمتار خرج منها مكي على عجل، وقد ألقى النقود للسائق دون أن يلتفت.
ركض نحوه، وعيناه على يده سليم، تحديدًا، على السلاح المرتجف في قبضته. اقترب وهو يلهث:
سليم... إهدى... إهدى يا صاحبي.
بهدوء حذر، أمسك بيد سليم، أغلق أصابعه على المسدس، وانتزعه منه، ثم وضعه في خصره بحركة خفيفة، كي لا يزيد التوتر.
مدّ يديه الاثنتين، وضعهما على كتفيه، وربّت عليه بحنان وهو يقول: كل حاجة هاطتبقى كويسة، هانلاقيها، بس مش كده، مش هينفع نغلط تاني، خلينا نفكر بهدوء، زي ما دايمًا بنفكر.
كان نفس سليم لا يزال مضطربًا سريعًا بشكل مخيف، كل شيء فيه كان يئن جسده، وجهه، وعيناه التي تشرد في الهواء قلبه كمعزوفة كاملة من الألم، لحن موجوع لا يتوقف.
تحرك سليم ببطء إلى الخلف، حتى اصطدم بظهره بكابوت السيارة، وسند عليه كأنه لا يقوى على الوقوف.
أقترب منه مكي، مسح على وجهه براحة يده، شعر للحظة أن سليم بدأ يهدأ، بدأ يعود لنفسه شيئًا فشيئًا، تقدم أكثر حتى توقف أمامه..
بدأت دموع سليم تتساقط في صمت موجع، صرخات وآهات تخرج من أعماقه، من صمته، من أوجاعه، وكأنه لم يعد قادرًا على التوقف.
شعر بعدم توازن، وكأن جسده بدأ يخونه كما خانه كل شيء من قبل، سقط أرضا وجلس، منهارًا على ركبته.
قال سليم بنبرة مقهورة موجوعة:خلاص يا مكي، خلاص... راحت مني حب حياتي وعمري كله ضاع من بين إيديا، إزاي كنت غبي كده؟! كانت قصادي فرصة، كان ممكن أستغلها، بس بسبب غبائي ضيعت فرصتي راحت خلاص مش هتسمحنى إلا بمعجزة انا خسرت ماسة خلاص.
مسح دموعه بعنف، وصرخ برفض وكأنه يتشبث بقشة أمل أخيرة:
بس لأ... أنا هلحقها! وهرجعها! وهتغير عشانها مش هسمح إن حياتي تفضل كدة.
رفع عينيه إليه وابتسامة أمل باهتة ترتسم على وجهه، كأنها تحاول النجاة من بين الركام:
بس شفت؟ أنا ماكملتش، عرفت أوقف نفسي في نص الطريق، آه، عندي أفكار انتقامية، ونفسي أخلّص عليهم، بس عرفت أسيطر على نفسي، وده معناه إني بتغيّر، إني ماكنتش كارههم قد ما كنت متخيل، كنت فاكر إني لو عرفت إنهم السبب، هولع فيهم بس مجرد ماسمعت صوتها ومعتبتها، رجعت خطوة لورا.
مد مكي يده ووضعها على كتفه، وهو يحاول مساعدته على الوقوف قال: أكيد ده دليل إنك قادر تسيطر على غضبك، تعال بس معايا.
نهض سليم ببطء وتحرك نحو السيارة، فتح مكي الباب وجعله يجلس بالداخل.
جلس سليم في الزاوية قدمه بالخارج، صامتًا، بينما توقف مكي أمامه ينظر إليه في صمت مليء بالقلق.
ينتظر منه كلمة أي إشارة أي دمعة تسقط، وتقول إن الغضب هدأ، وإن سليم عاد من حافة الجنون.
ساد صمت لثوانٍ، قبل أن ينظر مكي نحو سليم بنظرة مليئة بتسأل: محتاج افهم، إيه إللي حصل؟ مش كنتوا راجعين مع بعض؟ أنا شوفتها كويسة جدًا في الحفلة.
ظل سليم صامتًا، ثم تمتم بصوت غليظ، فيه وجع وغضب وإنهيار: ضربتها خنقتها بإيديا كنت هموّتها.
استفزّتني.
انقبض وجهه،، ثم تابع بصوت أقرب للبكاء:
بس لا هي ماغلطتش، ماقالتليش حاجة تخليني اتجنن عليها كده بس أنا كنت تعبان سنة كاملة وهي لسة مش عايزة تسامح ..
صمت للحظة وكأنه يعترف بالحقيقة لنفسه قبل مكي بإختناق وألم:
بس أنا السبب أنا إللي ماخلتهاش تسامح عشان ماعرفتش احتويها ماعرفتش أقولها: ماتخافيش على أهلك مني، أنا كنت مهددها قلتلها: طول ما إنتي قاعدة هنا، أهلك في أمان، أول ماتفكري تخرجي، هاتلاقي جثثهم بتنزل مطر عليكي.
هز رأسه ببطء، وعيناه ثابتتان إلى الأمام، تابع وهو على نفس الوتيرة، والغضب يتأجج في صدره لم يكن غاضبًا من أحد، بل من نفسه:
ماكنتش بقول تهديد أنا كنت هعمل كده فعلاً، أنا بدفع دلوقتي ثمن كل حاجة أنا زرعتها.
سكت لحظة، ثم تنهد بمرارة بضجر:
إيه المشكلة لو كنت جبت أهلها؟ لو حد منهم عمل حاجة، كنت مشيته، وساعتها على الأقل كان هيبقى عندي حجة أقول لها: شفتي كنت صح؟ بس أنا بنيت افتراضات، وعلى أساسها هددت بسبب خوفي.
نظر للأرض، ثم همس بوجع تابع:
أنا حبيتها غلط كنت عدوها أكتر ماكنت أمانها، أنا إللي بإيدي هديت حياتي، أنا خايف من نفسي، عايز أروح عند بيت أهلها دلوقتي وأولع فيهم كلهم، لأنهم السبب إن حياتي تبوظ.
هز راسه برفض بإضطراب: بس لا هم ماكانوش السبب، أنا السبب.
ضرب صدره بيده برفق وهو يتمتم:
أنا إللي كنت غيران إن فيه حد بيشاركني حبها، كنت عايزها تحبني أنا بس، زي ما أنا بحبها هي بس، كنت عايز أكون رقم واحد زي ما هي رقم واحد، لكن إللي حصل، إني كنت رقم واحد لوحدي فعلاً، بس بغبائي ضيعت حبي.
ابتسم بحسرة وهو يتابع بأنين:
أنا مريض زي ما كانت دايمًا بتقول بس غصب عني.
رفع عينيه وكأنه يحاول نفي الاتهامات عنه، كأنما يبحث عن الكلمات التي تبرّر أفعاله، عن الحقيقة التي تشرح منبعها من أين جاءت؟ ولماذا فعل ما فعل:
غصب عني ماحدش حبني غيرها، أمي نفسها ماحبتنيش ولا اختارتني حتى إخواتي حتى ياسين، فريدة كنت فاكرهم بيحبوني، بس لأ، بيحبوا ولادهم أكتر، بيحبوا أزواجهم أكتر لو اتحطيت في كفة، مش هيختاروني كنت خايف أخسر الحب ده كنت بحاول أحافظ عليها بس طلعت بضيعها بحبي.
نظر بعيدًا، ثم قال بنبرة منكسرة:
كانت هي الوحيدة إللي ممكن تخسر كل حاجة عشاني بس أنا ضيعتها خليتها تختارهم بدل ماتختارني، بسبب أفعالي، والله ما كنت قاصد، ماكنتش قاصد أخنقها بحبي، أنا ماصدقت لقيت حد بيحبني من قلبه، مش عشان مصلحة، كنت عايز أحافظ عليه مش عايزها تروح مني، مش أنانية، والله العظيم بس حب.
نظر لمكي الذي يستمع له بتأثر وأسف تابع:
صدقني يا مكي لو كنت حسيت لحظة إنها مش بتحبني كنت مشيتها، كنت حررتها، بس هي بتحبني، كل تصرفاتها كانت حب، لحد اخر لحظه كانت حب، بس أنا إللي ما كنتش طبيعي في تصرفاتي حتى دلوقتي؟!
صمت لحظة، مسح دموعه بيده، بصوت مكسور:
عارف، هروبها ده هو إللي هايبين، أنا اتغيرت وأتعلمت ولا لأ؟ هعرفها إني أستحق فرصة..
وأنا كمان هعرف لو آذيت أهلها، يبقى أنا ماستحقهاش، وأموت نفسي أحسن لي، عشان ساعتها كل كلمة قالتها عني هتكون صح.
سأله مكي بهدوء: تفتكر راحت عند أهلها؟
هز سليم رأسه ببطء، قائلاً بثقة مختلطة بالخوف:
استحالة، مش هاتخاطر بيهم.
ثم تابع بنبرة فيها حزم مهزوز: كلم إسماعيل خليه يشوف كل الكماين، كل حاجة جنب الطريق هنا إحنا لازم نلاقيها، لازم يا مكي.
مكي بهدوء: أنا كلمته أهدى بس.
سليم وهو بيتنفس بسرعة: توقف إيه؟ لازم نتحرك وندور عليها يلا معايا.
وبالفعل، تحرّك سليم برفقة مكي، وبعد أن تحدّثا مع الحراس وتحققا من أن ماسة لا توجد في أي مكانٍ مجاور.
استقلا السيارة وشرعا في البحث عنها، سلكا الطريق نفسه الذي سارت فيه ماسة برفقة مصطفى، ومما يثير الدهشة حقًا، أن سيارة سليم التي كانت ترافقها فرقة الحراسة، قد مرت بجوار سيارة مصطفى المتوقفة في الاستراحة، في اللحظة التي كانت فيها ماسة تغيّر ملابسها وتصلح مظهرها داخلها.
على إتجاه آخر
بطبيعة الحال، كان عثمان يتابع الأمور خطوة بخطوة، أخذ رجاله وتوجه إلى الاستراحة، طلب منهم البحث عنها، ربما تكون قد اختبأت، أو لعلّ أحدًا قد رآها، وزعوا صورتها على الموجودين، وشرعوا في التحري والسؤال.
لكن عثمان، وحده، هو من دخل لمشاهدة تسجيلات الكاميرات، دون أن يصحبه أحد في تلك اللحظة يخاف أن تكون جاءت هنا...
وبطبيعة الحال، لم ير شيئًا يذكر، إذ إن ماسة لم تترجل من سيارة مصطفى أمام الكاميرات التي أطلع عليها.
وكان عثمان في الأصل قد مسح المشهد الذي ظهرت فيه ماسة وهي تصعد إلى سيارة مصطفى، وذلك في بداية عملية البحث، مستغلًا إنشغال عشري بالتحرّي في مكانٍ آخر، ووجود مكي إلى جانب سليم.
لكنه، رغم ذلك، أحتفظ بنسخة من التسجيل، وهي ذاتها التي شاهدناها في بداية الرواية.
ولهذا السبب، لم يتمكن سليم من الوصول إلى أي خيط.
💞______________قلمي_ليلةعادل。◕‿◕。
سيارة سليم الثالثة صباحا.
نرى سليم مكي إسماعيل متوقفين أمام سيارة في إحدي الطرق.
سليم بجدية: ها يا إسماعيل؟ وصلت لحاجة؟
إسماعيل، وهو ينظر في هاتفه بإنشغال:
أنا لسه هبدأ أدور، بس بعت صورتها واسمها لكل الكامين إللي على طريق مصر إسكندرية، ومطروح، والساحل الشمالي، الخط كله، هيبدأوا يدوروا عليها، بس يا رب ماتكونش عدت قبل مانوصلهم صورتها.
مكي بشك وهو يأخذ نفس من سيجارته: مش بالضرورة تكون سافرت ممكن تكون لسة في القاهرة.
أشار إسماعيل بيده، متحدثًا بثقة: إحنا هنمشي على كل الاتجاهات.
تغير وجه سليم، بنظرة مخيفة: إسماعيل هي هتبقى عندى بكرة صح؟
إسماعيل بجدية وهو يقترب منه: المشكلة إنك واخد الفيلا في حتة مافيهاش أي حاجة جنبها فيها كاميرات هي مافيش غير كاميرات الفيلا الخارجية، وكاميرا واحدة على أول الطريق.
مكي: سليم راجع كاميرات الفيلا مع عثمان مافيش حاجة جايباها النور قطع وعشان الكاميرات ترجع تشتغل تاني بتاخد من ثلاث دقائق لخمس دقائق غير المطر.
إسماعيل بأسف: هي دي المشكلة ممكن تكون وقت هروبها كان وقت قطع الكهرباء عموما هي كاميرا واحدة لو ماوصلناش منها لحاجة يبقى الموضوع صعب، لإن هي كمان مابتغطيش جميع الاتجاهات
رمش سليم بعينيه قال بتوتر مبطن: يعني ممكن تكون عدت قدامها وما جابتهاش؟
هز إسماعيل كتفيه بأسف: للأسف، الكاميرا دي محطوطة، شكليات، ممكن كمان تكون عطلانة.
أدار سليم وجهه بسرعة وهو يصرّ على كلماته: دور يا إسماعيل، دور.
إسماعيل: ممكن يكون حد من أهلها ساعدها؟
لكن سليم أنفعل بقوة، وصوته علا بنبرة حادة:
أهلها مش هيعرفوا حاجة!، ماحدش هيعرف إنسى أهلها، ماتحطهمش في أي جملة عشان مانعيدش نفس الأخطاء، أنا عايز أنسى مش عايز أركز فيهم، اعتبرهم مش موجودين أصلاً!
اقترب إسماعيل، ووضع يده على كتفه محاولًا تهدئته: إهدي بس… إهدي همشي أنا.
تحرك إسماعيل مبتعدًا، فاقترب مكي من سليم وهمس له:
تفتكر إسماعيل هايساعدك بعد إللي حصل المرة إللي فاتت؟
أخرج سليم سيجارة من جيبه وأشعلها بهدوء، ثم قال وهو ينفث الدخان: هنشوف، هو قدامه ساعات النهار لو ماوصلش لحاجة، أنا محضرله مفاجأة
هتبهره.
سليم وهو يهم بالتحرك بحيرة: خلينا نكمل تدوير المشكلة إن ماسة مالهاش مكان معين تروح فيه، تعال نروح محطة القطر والمواقف كلم عرفان يدور فيهم كل موقف كل محطة قطر يراجعوا الكاميرات بتاعتها.
مكي: تمام يلا.
وبالفعل، استقلوا السيارات وبدأوا رحلة البحث، ولكن دون جدوى تذكر. توجه سليم إلى محطة قطار مصر، بحث في أرجائها، وتفحص الوجوه، وتحرى كل زاوية من زوايا المكان حتى الكاميرات لكنها لم تكن هناك.
كذلك عرفان وإسماعيل، لم يتأخرا؛ فقد وزّعا رجالهما على مواقف السيارات في مختلف أنحاء القاهرة، حتى رجال سليم انضموا إلى عملية البحث، فانتشروا في المحطات والمواقف والأسواق، لكن النتيجة كانت واحدة: لا أثر، حتى الكاميرات الأمنية لم تلتقط شيئًا يذكر، عند هذه النقطة، باتوا شبه متيقنين أن ماسة لا تزال داخل حدود القاهرة، لم تخرج.
أما سليم، فكان يصارع الوقت، كل ساعة تمر، كانت تنهشه كالعمر الضائع.
ورغم كل ذلك، لم يقترب من أهل ماسة، لم يفكر حتى في السؤال عنهم، وكأنهم جدار يجب أن يظل خلفه لا يراهم، ولا يروه.
مكي، وعشري، وحتى إسماعيل، جميعهم ألحوا عليه أن يتواصل معهم، عل هناك معلومة ما، خيط، إشارة لكنه أصر على الرفض، كان يخشى أن يسمع ما لا يحتمل، أو أن يعرف ما قد يدفعه إلى الجنون ويعيد نفس الخطأ مرة أخرى وهذا الذي لم يرضى به.
الكل كان على يقين بأنها لم تقترب من الفيلا، فالحراس هناك لا يتركون شاردة أو واردة تمر دون أن تذكر، ولو رأوها، لأبلغوا فورًا،
مع مرور الوقت، وتراكم الساعات، دفعهم لإعادة التفكير.
وكانت فكرة مكي أن يتواصل مع عائلتها، لكن بأسلوب غير مباشر، يتظاهر بأنه يطمئن على سلوى، لا أكثر، ورغم دهاء الفكرة، إلا أنها لم تكن مضمونة، فالاحتمال الأكبر أنهم سيلتفون حولها بالكلام، وسيضيع الوقت أكثر.
لذلك، لم يعد هناك خيار سوى تتبع المكالمات الأخيرة، تحديدًا في الفترة بين الواحدة والنصف والثانية ونصف صباحًا الوقت الذي يرجح أنه لحظة هروب ماسة لكنهم لم يصلوا لي شيء.
والجدير بالذكر أن سليم، منذ أن وجد بماسة في هروبها الاخير، كان قد رفع المراقبة عن عائلتها، كان يرى أن الأمر قد انتهى، وأنه لم يعد بحاجة لمراقبة أحد، فكل شيء قد انكشف، وما زاد الأمر سوءًا، أن أرقامهم لم تستقبل أي مكالمة غريبة
مما جعله يدرك أن عليه أن يعيدهم جميعًا تحت المراقبة، ويضع هواتفهم مجددًا تحت الرصد أي أتصال في أي وقت، قد يكون هو الخيط.
وفي تلك الأثناء
كانت ماسة قد وصلت إلى الإسكندرية، وتركت مصطفى، وبدأت رحلتها تلك التي كنّا قد رأينا بدايتها في الحلقة الثانية.
مرت الساعات، وبدأ صبر سليم ينفد، بدأ يفقد صوابه.
وكان يرى أن إسماعيل هو الأقرب لأن يحمل أي معلومة، بسبب خبرته الأمنية، وعلاقاته، وأجهزته التي تفوق الجميع تقنيًا. لكنه لم يكن يرد على الهاتف، ويا ليته فعل.
قرر سليم أن يذهب إليه بطريقته الخاصة.
أمام باب منزل إسماعيل الواحده ظهراً
نرى سليم والحراس ومعهم مكي متوقفين أمام الباب، أومأ سليم برأسه لأحد الحارس، الذي أخرج أداة صغيرة وفتح الباب بهدوء.
دخل سليم، ومعه مكي وأثنان من الحراس، أما باقي الحراس انتشروا في الشقة، دون صوت.
أشار سليم برأسه لأحدهم هز رأسه وتحرك…كان الجميع يفهم الإشارة.
توجه سليم نحو باب غرفة النوم، فتح الباب بهدوء ودخل معه اثنين من رجاله، بينما وقف مكي عند العتبة، يده على سلاحه.
كان إسماعيل مستلقيًا بجوار زوجته، عبير، يقبّلها، وعلى وشك أن يبدأ لحظة حميمية معها، لكن ما إن شعر بشيء… حتى ارتجف.
صرخت عبير فجأة، وقفز إسماعيل فزعًا، غطت عبير جسدها بسرعة، بينما إسماعيل في ذهول لا يوصف.
جلس سليم على المقعد المقابل، بهدوء قاتل، ثم قال بصوت خفيض، وكأنه يهمس تحت التراب:
قاعد بتتبسط مع مراتك ولا بترد حتى على التليفون؟ وسايبني هاتجنن؟! وفين الشغل؟ فين المهمة إللي إنت مكلف بيها يا سيادة العقيد؟! فين هاجيبهالك وعيني ليك؟! إنت بتلعب يا إسماعيل، أنا حذرتك، بس إنت مابتتعلمش عارف ليه؟ علشان مش حاسس بيا مراتك في حضنك، وأنا ماعنديش غير وجع.
ثم نظر سليم لوجه عبير، لكن كلماته ظلت موجهة لإسماعيل بنبرة حاسمة: ألبسي يا مدام، أنا هخرج بره أنا ورجالتي، 3 دقايق كفاية، علشان ماضطرش أدخلهم وهما أللي يلبسوكي.
صرخ إسماعيل بغل: سليم! إنت كدة بتغلط!
وفجأة، سمع صوت صراخ الطفل، ابن إسماعيل، في الخارج.
خرج إسماعيل مهرولًا، ولحقه الجميع مكي، سليم، والحراس.
كانت عبير بدأت أن ترتدي ثيابها بسرعة، أما بالخارج، فأحد الحراس كان ممسكا بالطفل.
أنقض الحراس على إسماعيل بسرعة، فـالأمور كانت قد خرجت عن السيطرة.
وقف سليم أمام إسماعيل، نظراته جامدة، وصوته هادئ كالسكين: سليم، إنت كدة بتغلط، أنا من رجالتك!
هز سليم راسه بنبرة حادة بعين غامت بالسواد: لا، إنت عمرك ما كنت من رجالتي، رجالتي مابيخونوش، لكن إنت؟ كنت ناوي تغدر، ولولا إني لميتك في اللحظة الأخيرة، كنت هاتبيع..
نظر له نظرة من أسفل الجفن،ثم تابع:
أنا هستضيف مراتك وابنك عندي في السيف هاوس، مراتك مقابل مراتي، هاتجيب لي مراتي؟ هترجع تاخد مراتك، اوكيه.
دخلت عبير، تبكي بخوف: سليم والله، إسماعيل بيدور.
ردّ سليم، وهو لا ينظر إليها: عارف إنه بيدور، بس أنا عايزه يدور وهو حاسس معنى كلمة مراتي مش جنبي علشان يدور بضمير هتمشي معايا بهدوء؟ ولا أمشيك بطريقتي؟
إسماعيل بغيظ يتحدث من بين أسنانه: إنت كدة بتعاديني.
سليم ضيق عينه: من رأيي ماتهددش..
نظر من حوله: بص أنا فين، وإنت فين.
أشار سليم للحارس، فأخذ عبير والطفل معه.
ثم اقترب من إسماعيل، وقال له بنبرة أكثر قسوة:
روح إلبس ودور إنت ظابط أمن دولة، برتبة عقيد، بتعرفوا تجيبوا الإرهابيين من جحر التعبان، ومش عارف تجيب ماسة؟
تبسم بهدوء: ماتقلقش، مراتك وابنك في الحفظ والصون، أنا بس عايز أوريك الوجع،عشان تدور بضمير.
تحرك سليم برفقة الحراس ومكي، بينما كان إسماعيل توقف، يراقب المشهد والنيران تأكل صدره. وفجأة، أنطلق صوته غاضبًا في صرخة مدوية شقت الصمت.
في المصعد
كانت عبير تحاول المقاومة هي وابنها، لكن سليم كان ينظر إليها بنظرة باردة، قاتلة، لا تحمل أي ذرة من التردد أو الشفقة.
اقترب منها بخطى ثابتة، ثم تحدث بصوت هادئ أقرب للتهديد منه للطمأنينة:
ماتعمليش دوشة عشان إنتي كدة كدة مش راجعة، خلينا بالراحة كدة، وصدقيني مش هتندمي، أنا مش هعملك حاجة، بس مابحبش الصداع فما تصدعنيش، دي نصيحة.
حاولت عبير أن تتماسك، أن تحتمي ببعض الكلمات:
إحنا ماعملناش حاجة… أنا مالي؟
ابتسم سليم بسخرية، ثم اقترب أكثر:
والله الجملة دي كنتي قلتيها لجوزك، يوم ما قولت له شوف شغلك ...وهو راح ... مش وقتها يعني؟
أرادت الرد، لكنه قطع عليها الطريق دون أن يغيّر نبرته:
قلتلك مابحبش الصداع، ومابحبش أعيد كلامي مرتين.
وصلوا إلى الطابق الأرضي.، خرج الجميع من المصعد، وتوجهوا نحو السيارات المتوقفة.
سليم ألتفت نحو شاكر، ونظر إليه بحدة وهو يعطيه تعليماته:
طبعا يا شاكر إنت عارف إنت هتعمل إيه؟! عرفان هايستناك.
هز شاكر رأسه دخل إحدى السيارات، ومع إشارة بسيطة من سليم، بدأت السيارت في التحرك.
في السيارة الأمامية.
جلس سليم في المقعد الأمامي، بينما كان مكي يتبعه بنظراته الغاضبة يبدو أنه لا يرضى على ما حدث.
فتح باب السيارة وجلس مكان السائق، وهو ينفخ من ضيقه.
سليم بحدة: واقف ليه؟
مكي بغضب: إللي إنت عملته ده ما كانش صح إسماعيل مش سهل.
سليم نظر له بإستغراب: إنت هتفهمني أنا أعمل إيه؟
مكي بإنفعال وجه جسده في زاويته: أيوة هفهمك تعمل ايه؟! ماتخليش حبك يجننك ويخليك تغلط، إنت مش بتلعب مع حد بسيط، إسماعيل ده نابه أزرق وإنت عارف ده كويس.
تنهد سليم، وأسند ظهره إلى المقعد، ثم قال بصوت بارد: أنا مش هخاف من إسماعيل آخره رصاصة طول ما مراته وابنه معانا، مش هيقدر يعمل حاجة.
رد عليه مكي بضيق: طب وبعد ما يرجع ماسة؟ تفتكر هينساها لك؟
سليم ببرود قاتل: لا، بس لما يجيبها هياخد رصاصة وخلاص، هو بالنسبالي كدة كدة بقى كارت محروق.
مكي عقد بين حاحييه متعجبا: هو إنت مش كنت قايل إننا هنبعد عن القتل والطريقة بتاعت زمان؟ فين الكلام ده؟ فين عهدك لنفسك؟
سليم بإنفعال موضحا: أعمل إيه؟ كل حاجة بترجعني تاني؟! ترجعني لنفس الطريق، وبعدين أنا هقتله عشان ما يقتلنيش.
مكي متعجباً بضجر: طب وليه عملت كده؟ ما كانش لازم، مش لازم إسماعيل بالذات، فيه ناس كتير يقدروا يخدموك.
سليم بنبرة مهتزة: بس إسماعيل هو الوحيد إللي عرف يرجعهالي قبل كدة.
مكي منفعل من طريقة سليم قال بضجر: رجعها علشان سلوى عرفته مكانها، مش علشان هو شاطر، عموماً إنت خلاص عملت إللي عملته، أنا أصلا ماكنتش متخيل إنك هتعمل كدة افتكرتك هاتهدده، تخوفه، بس مش تخطف مراته!
ضرب على التابلو بإنفعال أكبر تابع:
أعمل إيه في دماغك؟ بقولك إيه من هنا ورايح، أي حاجة ناوي تعملها تقولي، عشان أقسم بالله لو سبتك هاتودّي نفسك في داهية.. ولو ما قلتليش يا سليم واتفاجأت، أنا بقى همنعك وقتها، أبقى ورينى هتعمل إيه؟! لازم أوقفك عن جنانك ده، أوقف إعصارك ده قبل ما يضيعك، عيل غبي صحيح انت عارفيني أنا في جناني ببقي ازاي.
سليم بهدوء وهو ينظر أمامه: صدقني لو كنت مكاني، كنت عملت زيي
مكي بحسم: لا مكنتش هعنل كدة، مش هفتح على نفسي جبهات عداء، وأنا عارف إنهم بيكرهوني، مش إنت إللي علمتني كده؟ بس دماغك دي..
زفر بغضب تابع:
أول ما الموضوع يدخل فيه ماسة، بتتجنن، مابتعرفش تحط كنترول على تصرفاتك.
تنهد سليم بتعب: طب خلاص بقى سوق يلا خلينا نروح ندور نعمل أي حاجة.
مكي تساءل: طب فهمنى الخطة إيه؟ أكيد إسماعيل هايدور وهايلاقي مراته.
سليم بثقه: لا هفهمك ...
أثناء شرحه، كان صوته مستمر، لكن المشهد كان يرى بأعيننا لا بأذاننا.
كان شاكر يرافقه رجاله، وقد اقتادوا عبير داخل سيارة مظللة، تنطلق في طريق هادئ طويل في منتصف الطريق، توقفت المركبة عند نقطة معزولة، فبدّل الجميع ملابسهم سريعًا، وانتقلوا إلى سيارة أخرى بلا لوحات كرر المشهد مرة تلو الأخرى؛ سيارة جديدة، زي مختلف، وخط سير دقيق لا يترك أثرًا وفي الخلفية، تم تعطيل جميع كاميرات المراقبة، وكأن عقلًا محكمًا يدير كل شيء من خلف الستار.
نعود لسليم وهو يقول: عرفان مش هيسبهم هيفضل معاهم على طول خطوة بخطوة ويهكر أي كاميرا يشوفها معاه ناس هكر تقيلة جدا لحد ما يوصلوا فيلا كدة صغيرة في الواحات.
مكي متعجبا: فيلا مين إللي في الواحات دي؟
تبسم سليم: راجل جريجي هو ومراته مأجرينها، بيحبوا الهدوء.
ضحك مكي وهو يهز رأسه: إحنا رجعنا شقاوة زمان ما شاء الله.
سليم بصوت فيه ندم: أعمل إيه؟ كل حاجة بتشدني لزمان، بس أنا هحاول لما أرجع لزمان، آخد منه إللي ينفعني وأسيب إللي هيشوّهني. أنا لازم أتغير، يلا سوق بقى إنت بقيت رغاي اوي.
نظر له مكي بضجر أخرج انفاس غاضبة وقاد السيارة
واستمر بحثهما، كما تعلمون ولم يعثرا عليها.
والباقي تعرفونه جيدًا، فقد قرأتموه في ما سبق من الحلقات الأولى، قبل الفلاش باك الطويل.
💞_______بقلمي_ليلة عادل________💞
(وأخيرًا …نعود إلى الحاضر)
كانت ماسة ما تزال جالسة على تلك الأريكة، تحيط بها عائلة مصطفى في صمتٍ عميق.
الكل ينظر إليها بدهشة وذهول، أعينهم غارقة في التأثر، وملامحهم مشحونة بالصدمة والحزن، الدموع في الأعين، أنفاس متلاحقة، وجوه لا تصدق أن فتاة صغيرة مرت بكل هذا وحدها.
أما ماسة، فقد بدت كأنها خرجت من معركة طويلة وجهها متورم، عيناها حمراوان من شدة البكاء، ويديها ترتجفان، وصوتها يخرج ممزوجًا بإنكسار عمره عشر سنوات.
قالت ماسة بصوت منكسر: هي دي حكايتي، مع سليم الراوي، لو كنتوا مكاني، كنتوا عملتوا إيه؟!
وهنا… نسدل الستار.
إلى هنا تنتهي أحداث الجزء الأول 💔
لكن الحكاية… ما خلصتش♥️
انتظرونا في الجزء الثاني، حيث نكمل الرحلة.
استنّونا في ملحمة، هتكون أقوى، أعمق، وأوجع.
دمتم بخير يا أحلى فراولات 🍓
وخليكم فاكرين…
دي كانت بس البداية....
تمت بحمد الله
لقراءة جميع فصول الرواية من هنا
وأيضا زرونا على صفحة الفيس بوك
وايضا زورو صفحتنا سما للروايات
من هنا علي التلجرام لتشارك معنا لك