
رواية بعينيك أسير الفصل الخامس والثلاثون 35 بقلم شهد الشورى
فتحت ميان عينيها ببطء، لتعتاد على الإضاءة الخافتة سرعان ما انتفضت، وضمت قدميها إلى صدرها بخوف شديد وذعر، ربت فارس على خصلات شعرها برفق، وقال بصوت حنون دافئ:
حبيبتي، اهي...خلاص، كل شيء عدى دلوقتي أنتي معايا، ومحدش هيقدر يأذيكي
ألقت بنفسها داخل أحضانه، تبكي بحرقة، وتشكو إليه ما حدث، كأنها تحدث والدها:
كنت خايفة أوي يا فارس... اتأخرت عليا... ده... ده مريض... قتل وقال...
قاطعها بصوته الدافئ وهو يشدد من عناقها، مطمئنًا نفسه قبل أن يطمئنها:
كله عدى خلاص... ما تفكريش في أي حاجة يا ميان
دفنت وجهها في صدره، تنتحب بقوة، بينما والداها ينظران إليها بحزن عميق، جذب رأفت زوجته عليا للخارج، وتبعهما الجميع، تاركين الزوجين معًا
بعد دقائق فتح فارس ذراعيه مبتعدًا عنها قليلًا، ثم حاوط وجهها بيديه، واستند بجبهته على جبينها مرددًا بصوت متألم حزين :
روحي كأنها اتسحبت مني ورجعتلي برجوعك
ردت عليه بصوت مرتجف، ما زالت تحت تأثير الأيام الماضية التي عاشتهاء:
انا خايفة يا فارس
بمجرد أن أخبرته بأنها خائفة، وجد نفسه يجذبها إلى أحضانه مرة أخرى، يتمنى لو يستطيع أن يخفيها داخل قلبه ليحميها من أي أذى قد يصيبها، مضى الوقت وهما على حالهما، حتى ابتعدت عنه فجأة وقالت بصوت مرتجف :
طلقني يا فارس!!!!
نظر إليها بعدم استيعاب وهو يسألها بصدمة:
انتي بتقولي ايه؟
أشاحت بنظرها عنه، وردت عليه بصوت حزين :
بقولك طلقني، ايه ذنبك عشان يحصل فيك كل ده، انت كنت هتموت بسببي، وعمال تتأذى وكل ده بس عشان.....حبتني
قبل أن تنهي جملتها، رفع وجهها بيده ليجعلها تنظر إليه، وقال بعشق أرهق قلبه وعقله :
طب وهو حبك ده شوية، يجي ايه اللي شوفته جنب نظرة حب واحدة من عيونك
انهمرت دموعها بصمت، غارقة في تساؤلاتها لماذا يحبها بهذا القدر؟ كان ينبغي أن تشعر بالفرح لأن هناك من يحبها بهذه القوة، لكنها شعرت بثقل الحزن يعتصر قلبها، لأنها تدرك أنها عاجزة عن أن تمنحه ما يغدقه عليها من حب واحتواء، استفاقت من شرودها على وقع صوته الحازم الذي اخترق أفكارها، ليعيدها إلى الواقع من جديد :
اسمعي الكلام ده واحفظيه كويس عشان مش هعيده تاني يا ميان
نظرت إليه باهتمام وتعجب من تغير طريقته فجأة :
انا وعدت أبوكي قبل جوازنا اني احبك واصونك، أكون ليكي أب وصديق قبل زوج، وعدته اني عمري ما هسيب ايدك ولا أتخلى عنك إلا لما انتي تطلبي ده، بس ساعتها نكون وصلنا لحيطة سد مفيش حلول تانية
ردت عليه بصوت حزين ؛
طب ما احنا وصلنا لحيطة سد
تنهد بعمق ثم قال بسخرية :
لو انتي شايفة كده يبقى لازم نروح نكشف على نظرك عشان نطلعلك نضارة بسرعة
نطقت اسمه بحزن :
فاارس
رد عليها بقلب مرهق :
تعبتي فارس معاكي يا ميان
تمتمت بصوت مختنق :
عشان كده بقولك طلقني!!
استند بجبهته على جبينها وقال بعشق :
كل اللي يجي منك أحبه يا ميان.....حتى لو الوجع
ابتعدت عنه فجأة وسألته بدموع :
ليه بتحبني كده، ليه انت مثالي يا فارس، ليه بتعمل معايا كده وبتقبل مني كل ده
قاطعها وقال بصدق :
مش مثالي، بس بحبك الكلمة دي كفاية عشان أكون معاكي كده، انتي نفسك عملتي زيي زمان، قبلتي منه كل حاجة، حتى الوجع.....ليه شايفة اللي بعمله غلط وكتير؟
ردت عليه بقهر :
عشان ده الغباء بعينه، الغباء إنك تحب وتقبل الإهانة، لأن الكرامة فوق كل شيء، انا غبية لأني ما حسبتش كل ده، متبقاش غبي زيي يا فارس
نظر في عينيها بجدية وقال بحزم :
انا مش بعمل غباء، انا معاكي لأنك محتاجاني، ومعاكي لأني بحبك، كل تصرف بيطلع منك غصب عنك، لكن هو كان عذره ايه لما كنتي بتقبلي منه كل ده.....قارني صح يا ميان!!
ساد الصمت بينهما، ثم سألها بتردد وخوف من الإجابة:
رفضك ليا وللي بعمله....لأنك لسه بتحبيه وعايزاه يا ميان؟
انتظر الجواب، لكن الصمت كان سيد الموقف، التمعت عيناه بالدموع، استدار ليعطيها ظهره، وأغمض عينيه محاولًا كبح غصة مريرة بحلقه، كاد أن يخرج من الغرفة، لكنها تمسكت بكف يده وقالت بصوت مرهق وحزين:
خليك جنبي يا فارس، متسبنيش
تنهد ثم جلس بجانبها وهمس في أذنها بصوت متألم، رافضًا النظر إليها :
مش هسيبك وهفضل جنبك، لحد ما تقرري بنفسك عاوزة ايه، يا تكوني ليا، يا تكوني لغيري...المهم تكوني مبسوطة يا ميان
........
بعد عدة أيام عادت ميان لمنزلها هي و فارس و عادا الاثنان ينامان بغرفة منفصلة عن بعضهما من جديد، مما اثار غضب فارس وبشدة لكنه....اكتفى بالصمت
بينما ميان كانت تجلس على الفراش تتذكر حديثها مع والدة فارس قبل ان يسافروا من جديد :
شوفي يا ميان ربنا اللي يعلم انتي من يوم ما اتجوزتي فارس بقيتي بنتي زي ما هو ابني، والام مفيش حاجة تهمها غير سعادة اولادها ، وانتوا الاتنين ولادي
سألتها ميان بتوجس :
حصل حاجة مني !!!
تنهدت والدته ثم قالت بحزن :
انتي وفارس كل واحد فيكم قاعد في اوضة ، جوازكم لسه متمش لحد انهارده مش كده
كادت ان تتحدث ميان لكنها قاطعتها وتابعت :
من غير ما تكدبي انا عرفت ، سمعت كلامك معاه ، وكمان لما دخلت شقتكم ايام ما كنتي مخطوفة شوفت هدومك في اوضة و هو في اوضه تانيه و واجهته يومها
اخفضت ميان وجهها ارضاً بحرج، فتنهدت والدته وتابعت بهدوء :
شوفي يا ميان انا معرفش ايه الحكاية بالظبط بس اللي اعرفه انك مش بتحبي ابني و مش عاوزاه
نظرت لها ميان بصدمة لتتابع الأخرى :
منكرش اني لما عرفت مكنتش طيقاكي و كنت زعلانه منك اوي بس لما هديت و حطيت نفسي و بنتي الله يرحمها مكانك لقيت ان اللي حصل صعب على ايه بنت تتحمله
ثم ابتسمت بفخر وهي تقول:
ساعتها احترمت ابني و كنت فخورة بيه لأنه كان راجل معاكي و صبر.....غيره كان قال و انا مالي
ردت ميان تلك المرة بامتنان :
هو فعلاً كان راجل معايا و وقف جنبي ، ليكي حق تكوني فخورة بيه
ربتت الأخرى على قدمها وقالت بصدق :
ابني اول مرة يحب يا ميان ، اول مرة اشوفه ملهوف على حد كده ، أول مرة احس أنه مبسوط ، قربك منه بيبسطه لو انتي مش واخده بالك ، انا شايفه ، عيونه عليكي طول الوقت.....وكأنك الكنز اللي طلع بيه من الدنيا
ثم تابعت بحزن :
لو كنتي شوفتي حالته الأيام اللي فاتت كان تايه و روحه ردت ليه اول ما رجعتي لحضنه من تاني
تنهدت ثم تابعت بشرود :
ابني اختارك بنفسه و محدش جبره عليكي ، أول مرة اشوفه متمسك بحد و عايزة كده ، زمان من الزن بتاعي اتجوز انجي و ما ارتحش و لا كان مبسوط بالعكس كنت بحس انها حمل عليه
ثم نظرت إليها وقالت بابتسامة :
لكن انتي حبك بجد و قلبه قابل منك كل حاجة حتى الوجع زي ما قالك
اخفضت ميان وجهها بحزن لتتابع الاخرى بحنان :
انا ام و بتكلم دلوقتي مع اللي سعادة ابني بين ايديها و سعادتها هي كمان
ردت عليها ميان بحزن :
فارس يستاهل الأحسن مني
ربتت والدته على شعرها وقالت بحنان :
بس هو عاوزك انتي ، واختارك انتي
ثم تابعت باستنكار :
بعدين تعالي هنا هو في احسن منك ، والله العظيم يا بنتي مش ببالغ بس انتوا الاتنين بتكملوا بعض
صمتت ميان لتتابع الاخرى بابتسامة :
انا مش هطول في الكلام بس هنصحك نصيحة ام خايفة على بنتها و خديها مبدأ في حياتك حتى لو مالكيش نصيب مع ابني
نظرت لها ميان باهتمام لتتابع الاخرى بحنان :
اوعي يا بنتي تشتري اللي باعك مرة لأنه هيبيعك ألف مرة بعد كده، لأنك لو هونتي هتهوني طول العمر و لو قبلتي الاهانه منه و قبلتي بيه بعدها غصب عنك هتقبليها طول العمر
كانت تمسك بكف ميان و تعد عليه نصائحها بحنان :
اللي يشتريكي اشتريه الحب عمره ما بيدوم صدقيني ، لكن الاحترام و الموده هما اللي بيدوموا
ثم قامت بثني اصبع آخر وهي تتابع :
خدي اللي يسمعك و يكون امانك خدي السند ، خليكي مع اللي عمل مش اللي قال ، موتي من البعد عنه مرة و لا تموتي وانتي عايشه معاه الف مرة
ثم تابعت ببعض الحرج :
انا سألت جدك و اتكلمت معاه من غير ما ادخل في تفاصيل بينك و بين فارس و حكالي اللي حصل
ثم تنهدت بعمق وعاتبتها قائلة :
عايزة الومك و في نفس الوقت صعبانه عليا ، الومك عشان قبلتي تنقذي واحدة زي دي من الموت بجوازه طلعتي منها انتي بس اللي خسرانه و ياريتها شالت ليكي الجميل، بالعكس دي جت عليكي اكتر
ربتت على شعرها بحنان وتابعت بحزن:
يا بنتي احنا بقينا في زمن محدش فينا بقى بيفتكر الحلو إلا من رحم ربي ، نفسك لو ماخوفتيش انتي عليها محدش هيخاف عليها ، انتي اللي في ايدك ترخصي نفسك و في ايدك تغليها ، جريك وراه عشان تثبتي ليه حبك و انك بريئه خلاه يتفرعن ، كل افعاله معاكي كانت باينه اوي انه مش شاريكي
ثم تابعت بعتاب :
يا بنتي اللي شاري هيبرر هيسأل هيحط الف عذر لكن هو كأنه ما صدق ، عمل كل ده و هو عارف انك بنت خالته يعني قريبته لحمه و دمه واللي ملوش خير في أهله ملوش خير في حد ، قريبته و قال و عمل كده ما بالك و انتي مراته !!
ثم تابعت بتساؤل :
طب هو بس سؤال حبتيه على ايه !!
نظرت لها ميان وقالت بتبرير هي بالأساس لا تقتنع به لوقتنا هذا :
مكنش كده الأول و احنا صغيرين كان..... دقصت عليها كيف كان و كيف كانت حياتهما، وبعد ان انتهت ردت عليها والدة فارس بهدوء :
بتحبيه و انتي صغيرة ، يعني حب مراهقة ، كبرتي بيه و اتعودتي عليه ، ومين فينا محبش في السن ده
نظرت لها ميان بتيه لتتابع الأخرى بصرامه :
انا مش بقولك كده عشان فارس ابني لأ بقولك كده بصفتي ام مقدرتش اعرف كل ده و اسكت ، غلطانه يا ميان و الغلط راكبك من ساسك لراسك و هما كمان غلطانين بس انتي اللي عطيتي ليهم الفرصة يستخدموكي
انهت حديثها قائلة برفق :
اختاري اللي شاريكي دايما يا ينتي و اللي شايفك غالية عشان تفضلي في عينه غالية طول العمر
..........
"انا نحس اقسم بالله انا نحس" قالها عمار و هو يستند على لينا ليتمدد على الفراش بمنزله الذي طلبت لينا ان يكون ببناية رأفت والد ميان حتى تكون بجانب والدتها
ضحكت لينا عليه فهو لا يتوقف عن التذمر منذ ان خرج من المستشفى ليتابع عمار محدثاً نفسه بقهر و نبرة مضحكة :
يوم ما قولت خلاص اتجوزنا و هيتقفل علينا باب تحصل المصايب دي كلها
جذبها لتجلس بجانبه وقال بحسرة :
الظاهر مش مكتوب لينا ندخل دنيا ابداً و السرير.....
قاطعته قائلة بحدة :
بطل قلة ادب
ردد بمكر :
قلة ادب عشان قولت اومال ساعة الفعل ايه بقى
جاء صوت سفيان من الخلف قائلاً بتهكم :
يا اخويا قوم على حيلك الأول و ابقى فكر في قلة الأدب !!!
ركضت لينا للخارج بخجل فجلس سفيان بجانبه يسأله بحنان :
انت كويس يا عمار ، احسن دلوقتي
أومأ عمار له بحب وامتنان، لكن في أعماقه كانت الشفقة تغلب على مشاعره تجاه شقيقه الذي خسر كل شيء كان قلبه يعتصر ألمًا كلما رآه بهذه الحال الجميع بدأ حياة جديدة وأغلق صفحات الماضي، إلا هو، لا تزال صفحات ماضيه مفتوحة، تتقلب بين ذكريات موجعة وأحلام لم تكتمل
........
بعد مرور بضعة أيام، عاد كل شيء إلى مساره الطبيعي. كانت ميان تجلس على أحد المقاعد الخشبية، تنفخ في كفيها وتحكّهما ببعض لتدفئهما، بينما ترمق فارس بابتسامة دافئة وهو يعبر الشارع ركضًا نحوها.
وصل إليها بسرعة، وضع غطاء صوفي على رأسها، ثم لف شالًا صوفيًا حول عنقها، وألبسها قفازات ايضا، ثم جلس بجانبها وسألها بحنان :
لسه بردانة؟
نفت برأسها، وابتسامة صغيرة تزين وجهها، فجذبها إلى أحضانه ولثم جبينها بحب، أشارت ميان بيدها إلى بائعة الذرة المشوية، وقالت بحماس طفولي :
فارس انا عايزة منها
ابتسم بهدوء ثم نهض وغاب لدقائق قليلة، ليعود حاملًا الذرة في يده، ناولها إياها، فأخذتها منه بلهفة وبدأت تتناولها بشهية، رفعت عينيها لتجده يحدق بها، فتملكها بعض الحرج وقالت بخفوت :
بقالي كتير ماكلتهاش عش...
قاطعها قائلاً بابتسامة دافئة :
بالهنا والشفا
بادلته ابتسامة صغيرة، ثم عادت تأكل بصمت، سرعان ما ضحك فارس بخفوت وهو يتذكر اول لقاء بينهما :
حد يصدق ان اللي سلمت عليها وحضرت فرحها بعدها بكام ساعة...هي دلوقتي مراتي، وحبيبتي، وروحي اللي افترقت عني اموت
تنهدت بعمق ثم قالت بابتسامة خفيفة :
بصراحة، عمري ما كنت أتخيل....ومن غير زعل
أومأ لها لتتابع بتردد :
عمري كا تخيلت نفسي مع حد غيره
ساد الصمت لوهلة، فسألته بقلق وندم :
انت زعلت؟
حرك رأسه نافيًا، فتابعت ميان بنبرة حزينة :
قولنا من غير زعل
غير الموضوع وقال بهدوء ظاهر :
تعالي نتمشى شوية عشان ندفى
أومأت له، وبدآ يمشيان بجانب بعضهما، وبعد لحظات ضمته من خصره، وأسندت رأسها على كتفه، قائلة باعتذار :
أنا آسفة
جذبها إليه أكثر وهمس بصوت خافت :
بحبك
تابعا السير لدقائق، ثم بدأت قطرات المطر تتساقط من السماء، وسرعان ما تحولت إلى أمطار غزيرة، ضحكت ميان بسعادة، وهي تصفق بيديها كطفلة صغيرة
نزع فارس سترته ووضعها فوق رأسها ليحميها من المطر وهو يقول :
تعالي، نشوف تاكسي العربية بعيد، والمطر شديد اوي
لكنها نفت برأسها، ورفعت يديها مستمتعة بقطرات المطر :
سيبني، الجو حلو والمطر أجمل....طول عمري كنت نفسي أعمل كده
أخذت تدور حول نفسها، فاقترب منها، وضع يده حول خصرها، ثم أمسك كفها وجعلها تدور حول نفسها مرارًا، قبل أن يجذبها إليه ويراقصها تحت المطر بحب ورومانسية
فيما كان الناس يركضون بحثًا عن ملجأ من المطر، توقفوا فجأة عند رؤيتهم لهذا المشهد، فارس يرفعها من خصرها بحركة رومانسية، ثم أنزلها ببطء، مرددًا بحب صادق :
بعشقك....ياللي ماشوفت في جمالك، ولا هشوف
ابتسمت ميان بخجل، ثم التفت الاثنان ليجدا عددًا كبيرًا من الناس ملتفين حولهما، بعضهم يراقب والبعض الآخر يصور. أخفت وجهها في صدره، فضحك بخفوت، وجذبها بعيدًا عن الأنظار
بحث عن سيارة أجرة، لكن بعد ربع ساعة من المحاولات، لم يجد اي واحدة، بينما كانت الأمطار لا تزال تتساقط بغزارة، توقفت سيارة أمامهما، فُتحت النافذة، وظهر سفيان قائلاً بهدوء :
مش هتلاقوا، تاكسي فاضي دلوقتي...تعالوا، اوصلكم
نظرت ميان إلى فارس، الذي أجاب بجدية :
شكرًا، مش عاوزين
تنهد سفيان، وقال بإصرار :
ممكن هي تتعب في الجو ده، اعتبر نفسك ركبت تاكسي مع غريب.....كلها نص ساعة
نظر فارس إلى ميان، ثم إليه بتردد، واضطر أخيرًا إلى الصعود، ساد الصمت المشحون في السيارة، وبعد دقائق، ضغط سفيان على مشغل الراديو، لتبدأ أغنية تصدح في المكان، كلماتها اشعلت الجو أكثر " كنت هفضل كل ده مستني إيه، حب إيه اللي انت بتدور عليه "
تبادل سفيان وميان نظرات طويلة عبر المرآة، بينما فارس يجلس بجواره في صمت، كانت الكلمات تصف حالهما بدقة موجعة، وفارس يراقبهما، ونيران الغيرة تشتعل في صدره، فأغلق الأغنية بعصبية، سرعان أشاحت ميان بوجهها بعيدًا، بينما سفيان ابتلع غصته المريرة بصمت ثقيل
.........
كانت همس تتصنت على حديث والديها حيث الحت على والدتها لتتدخلؤ فوالدها منذ ان فعلت ما فعلت يوم زفاف لينا و هو يمنعها من مقابلة كارم بل يرفض تحديد موعد ليأتي و يطلب يدها رسمياً
رددت والدتها برجاء :
حدد ميعاد مع كارم بقى يا عاصم هتفضل لأمتى تأجل كده
نفى برأسه وقال بضيق :
لأ خليهم يتربوا عشان المسخرة اللي عملوها دي
عاتبته هبة بضيق :
يا عاصم بلاش عند غلطوا و اعتذروا بس ماتنكرش انك فرحت لبنتك ، كمل فرحتك و فرحتهم بقى ، واديك اهو هتسلمها للي يستاهلها بجد
اقتربت منه وقالت برجاء :
وغلاوتي عندك كفاية كده و رد عليه وحدد ميعاد لقراية الفاتحة ، دي مامته مش مصدقة امتى تيجي عشان تخطبها ليه وفرحانة اوي
صمت لدقائق ثم تنهد قائلاً بضيق :
نادي عليها اما اسألها اذا......
ضحكت هبة وقالت بمرح :
تسأل ايه يا عاصم دي بنتك اللي طلبت ايده قدام الكل اسأله هو موافق ولا لأ !!!
........
أيام تمر دون جديد، ميان ما زالت تتابع جلساتها مع طبيبتها النفسية، وفارس الذي يتابع مع الطبيبة دون علمها، وعاصم الذي صفح اخيرا عن كارم وهمس وحددوا موعد الخطبة بعد عودة كارم من سفره المفاجأ
بداخل مكتب الطبيبة النفسية الخاصة بميان "سهيلة " انتفض فارس غاضبًا أمامها وهو يضرب على المكتب بيده بعد أن أخبرته بأن ميان بحاجة لمواجهة سفيان :
يعني ايه تقعد معاه
ردت عليه بهدوء :
أيوة يا دكتور فارس، لازم يتواجهوا
شد قبضته وقال بحِدة :
اتكلموا قبل كده، ليه تقربيها منه تاني
نظرت إليه بصمت للحظات ثم سألته بهدوء:
انت خايف يا دكتور فارس!!!
أشاح بوجهه، وكأنه يهرب من المواجهة فتابعت الطبيبة بهدوء :
خايف ان المواجهة بينهم تطلعك الخسران....خايف ميان تضعف قدامه، مش كده؟
تنهدت ثم سألته بفضول :
"لو سعادتها معاه، انت تكره ليها السعادة
رد عليها بغضب، وكأنه يخوض حربًا داخلية:
ما يستاهلهاش... هيجرحها تاني
تراجعت في كرسيها وقالت :
يمكن اتغير... كلنا بنتغير، يا دكتور، الخسارة والندم بيغيروا فينا حاجات كتير
ثم سألته مرة أخرى بهدوء :
تكره إن ميان تكون مبسوطة
ردد باستنكار :
اكره!!!
جلس على المقعد خلفه وقال بحزن وهو شاردً بها كأنها امامه:
دي الابتسامة منها بتنور حياتي....بس أنا أناني، حبها خلاني أناني وعدتها أسعدها بأي حاجة، بس دلوقتي....مش قادر أوفي بكلامي، لأني قلبي مش مطاوعني أخليها تبعد عني بعد ما كانت بين إيديا
صمت لوهلة ثم سأل نفسه، كمن يبحث عن إجابة :
طب لو اختارته، أنا هعمل إيه من غيرها ؟
نظر للطبيبة بحزن، وقال بصوت خفيض :
مش هقدر، والله ما هقدر
ابتسمت الطبيبة، وسألته بلطف :
بتحبها للدرجة دي؟
أومأ لها وهو يردد بحب :
وما احبهاش ليه، كنت إيه انا قبلها، كنت مين، انا كنت مجرد شخص عادي، هي اللي حلت أيامي، معاها بحس اني أب وأخ وصاحب....انا عيشت كل دول معاها، مش مبالغة مني والله بس انا....انا بصحى كل يوم عشان أشوفها، وحاسس اني عايش غشانها
نظرت إليه الطبيبة بتعاطف وسألته :
ندمان إنك حبيتها، يعني عشان حبيت واحدة قلبها مع غيرك
رد عليها بصدق :
لو كان بأيدي اختار اللي قلبي يحبها كنت برده هختار ميان، لو الزمن رجع بيا برده هختارها، وعمري ما هكون ندمان، الندم اللي بجد لو كان العمر جري بيا وخلص وما قبلتهاش
نظرت له الطبيبة بإعجاب، وهي تتساءل في نفسها كيف لرجل أن يحب بهذا القدر؟ كان واضحًا أن فارس يعيش صراعًا داخليًا قويًا بين مشاعره تجاه ميان وبين خوفه من فقدانها، هذه المشاعر لم تكن مجرد حب عابر، بل كانت حبًا عميقًا يتغلغل في كيانه، كأنه لا يستطيع العيش دونها
بعد قليل
كان فارس جالسًا في مكتبه، غارقًا في التفكير، الخوف ينهش قلبه، خائف ان تختار ميان الابتعاد عنه، فجأة دخلت ميان بحماس دون أن تطرق الباب وهي تقول:
فارس انا دخلت مع دكتورة سلوى عملية ولادة، جابت بنوتة زي القمر، سموها تاج...
فجأة، جذبها فارس إلىه يحتضنها بقوة.يخشى أن يفقدها فسألته بصدمة :
فارس؟ مالك انت كويس
حاولت أن تفلت منه، لكنه تشبث بها أكثر، وقال بصوت متألم :
خليكي يا ميان... احضنيني كأنها آخر مرة، ممكن
نظرت إليه بقلق، ومررت يدها على شعره بحنان تسأله :
مالك يا فارس؟
لم يرد عليها، بل دفن وجهه في عنقها، مستسلماً للألم الذي يعصر قلبه. ظل على تلك الحالة حتى رفع رأسه أخيرًا، ليغرق في عينيها بنظرة كانت أعمق من أي كلمة يمكن أن تقال كانت نظرة محملة بكل ما يعجز اللسان عن التعبير عنه...خوف، ألم، وشوق عميق
شعرت ميان في تلك اللحظة بمدى قسوة ما يحمله قلبه، لكنها لم تفهم بعد ما الذي يخشاه...فجأة، قطع هذا الصمت العميق صوت طرقات على الباب، ليعيدهما إلى الواقع، كأن الزم توقف لحظة ثم استأنف حركته فجأة
دخلت الممرضة إلى الغرفة، وقالت بجدية لميان:
الدكتورة سهيلة عايزة حضرتك في مكتبها
استغربت ميان من التوقيت، وتساءلت في نفسها عن سبب استدعاء الطبيبة لها بهذا الوقت، خاصة مع وجود فارس في الغرفة. لكنها أومأت للممرضة التي غادرت بسرعة كادت ميان أن تخرج، لكنها توقفت فجأة على صوت فارس الذي نطق بكلمات حزينة ومفعمة بالحب:
ميان، أنا بحبك
منحته ابتسامة صغيرة، لكن قلبها كان مشوشًا...قلقها تزايد وهي تتساءل عن سبب تصرفاته الغريبة اليوم.
"ليه عملتي كده" قالتها ميان بحدة للطبيبة فور اكتشافها أنها استدعت سفيان لتتحدث معه
أجابتها الطبيبة بهدوء:
كلامك معاه مهم، اتكلموا مع بعض بهدوء، طلعي كل اللي جواكي عشان ترتاحي، مش يمكن بعد المواجهة دي تغيري رأيك وتقرر تعطيه فرصة تانية
صرخت عليها ميان بغضب :
مفيش كلام بيني وبينه ، ومستحيل افتح صفحة سفيان في حياتي من تاني بعد ما أخيرا قفلتها
أجابتها الطبيبة ببرود :
انتي فاكرة كده، لكن الحقيقة ان فيه كلام لسه متقالش
بعد صمت قصير، أكملت الطبيبة:
على فكرة، سفيان بدأ العلاج من فترة قصيرة، وأنا اتواصلت معاه لأنه محتاج العلاج.....يمكن أكتر منك
دخل سفيان بعد دقائق، وجلس أمام ميان، والطبيبة تراقب الحوار بهدوء، تترك لهما الفرصة للتحدث بحرية
سألها سفيان بصوت متألم، :
حبتيه يا ميان....حبيتي فارس!!
ردت عليه ميان بسخرية :
"إيه اللي يخليني محبوش، لكن السؤال هنا ليه أحبك أنت، ده سؤال بقالي فترة مش قادرة أتخطاه
أشارت لنفسها قائلة بحدة :
ازاي كنت بالغباء ده
أومأ سفيان لها قائلاً بسخرية مريرة :
عندك حق، أي واحدة تحبني تبقى غبية، حتى أنا بسأل نفسي نفس السؤال
صمتا لبرهة، ثم سألها بصوت متألم :
كل الطرق اتقفلت بينا، خلاص يا ميان، مفيش أمل، قلبك خلاص، مفيش جواه ذرة حب ليا، أقسم بالله هحارب لحد ما تسامحيني.....بس لو فيه أمل
أشاحت ميان بوجهها عنه، بينما هو تابع بحزن :
أنا حبيتك...
قاطعته قائلة بحدة :
ماتقولش حبيتك، أنت متعرفش يعني إيه حب، ولا حتى تعرف تحب
ثم تابعت شاردة في حياتها مع فارس:
الحب كلمة كبيرة، ومفهومها بعيد عنك، أنا كمان حبيتك او كنت بحبك او كنت فاكرة اني بحبك....مش عارفة بس اللي أعرفه إني مابقتش عايزاك، ولا حتى عايزة أسمع كلامك
بدأت دموعها تسيل وهي تردد :
أنا اديتك كتير، واستحملت منك كتير، وانت عمرك ما اديت لنفسك فرصة تسمعني، قدمت ليك ولعيلتك كتير وفي المقابل لقيت منكم كل اذى
ثم نفت برأسها وقالت بصدق:
الحب كلمة كبيرة اوي عليك، انا معرفتش الحب اللي بجد غير مع فارس اللي ربنا عوضني بيه عنك،
أخذت تعد على يدها ما قدمه فارس لها:
الحب أفعال وهو عمل وقال، وقعت وسندني، اتوجع مني، لكن عمره ما لف ضهره ليا زي ما أنت عملت، مع إنه كان له الحق يعمل كده، لكن أنت عكسه
نفت برأسها قائلة بتهكم :
عمري ما شوفت في عيونك نفس نظرة فارس ليا أنت عملت فيا حاجات كتير مش قادرة أنساها، حتى لما قولت هسامحك، كنت بدور على حاجة حلوة فيك تشفعلك بس ما لقيتش
رفعت يدها تضعها على بطنها، قائلة بدموع:
يومها كنت هسامحك عشان خاطر ابني، كنت مقهورة، لكن مع الوقت حمدت ربنا على اللي حصل، ربنا كان رحيم بيا، وانا فهمت ده متأخر، كل مرة كان بيحطلي إشارة عشان أبعد عنك، لكن أنا اللي كنت عامية وعاندت، حتى بعد اللي حصل، كان رحيم بيا ومرضيش يربطني بيك بطفل حتى
كان سفيان يستمع لها بقلب متألم، مسح دموعه التي انسابت من عيونه رغماً عنه، وقال بتأييد:
قدام كلامك ده كله، معنديش حاجة أقولها ولا عندي تبرير بالعكس، أنتي صح يا ميان، انا كمان ربنا كان كل مرة بيبعتلي إشارة، لكن انا عنادي كان عاميني، فضلت أتمرد لحد ما خسرتك بجد
مسح دموعه وقال بمرارة :
كنت زمان شايف نفسي كتير عليكي بس كنت غلطان انتي اللي كتير عليا، مش عليا انا بس انتي كتير على اي حد ،وفارس هو اللي يستاهلك بجد
توقف بعد لحظة، ثم قال بصوت مختنق وهو يهم بالخروج :
على قد ما انا مكنتش بطيقه، لكن هبتدي أحترمه عشان قدر يعمل اللي أنا مقدرتش أعمله، وصلح اللي انا بغبائي كسرته، ربنا يسعدكم سوا، بس عايز أطلب منك طلب
نظرت ميان له بصمت، فتابع برجاء :
لو في يوم قدرتي تسامحيني....سامحيني، ممكن
لم ترد عليه وخرجت من مكتب الطبيبة، وقد خمنت الآن السبب الحقيقي وراء تصرفات فارس، لقد ظن أنها ستختار سفيان
دخلت عليه، وقالت وهي تغلق الباب خلفها:
كنت عارف إني بتعالج عندها
أومأ فارس بصمت، وهو يتجنب النظر إليها، فسألته ميان بتعجب :
وما قولتليش ليه؟
أجابها بهدوء مفتعل :
لو كنتي عايزة تقوليلي، كنتي جيتي من الأول، ما حبتش أسبب ليكي حرج
سألته بذكاء :
طب وعرفت إن سفيان كان موجود النهارده !!
أومأ لها و ابتلع غصة مريرة بحلقه وقال:
شوفي، عايزة إمتى نتطلق عشان.....
اقتربت ميان منه، وسألته بصدمة :
طلاق إيه؟!
رد عليها بحزن وهو يتحاشى النظر إليها:
مش عايزة ترجعيلوا
حاوطت وجهه بيدها، وقالت بدموع :
انا عايزاك أنت يا فارس
ثم تابعت بصوت خافت وخجل:
عايزاك أنت وبس
سألها فارس بصدمة، وهو يشير بيده للباب :
طب وهو....
ضحكت ميان وسألته بمشاكسة:
هو مين؟
ثم تابعت بحيوية وهي تتحرك نحو الباب :
هسيبك بقى لما تفوق من الصدمة، ابقى....
جذبها إليه فجأة، وعانقها بقوة، شعرت ميان بدقات قلبه السريعة التي تتناغم مع دقات قلبها، وفي تلك اللحظة، نسي كل شيء، وكاد ان يقترب أكثر لكنهما انتفضا مكانهما فجأة عندما فُتح باب المكتب ودخل منه.......!!!