
رواية بعينيك أسير الفصل الثاني عشر 12 بقلم شهد الشورى
رحبت عائلة مهران بعاصم وأسرته ترحيبًا حارًا، خاصةً أحلام لم تترك همس منذ وصولها، تحتضنها وتقبل وجنتها بين الحين والآخر، مبدية إعجابها بجمالها وأدبها، مما جعل الجميع يتعجب من تصرفاتها!!
كان صلاح يلعب الشطرنج مع عاصم، تاركًا للشباب مهمة شوي اللحم، بينما كانت زوجاتهم يشرفن على تجهيزات الطعام في المطبخ
أما همس، فكانت تقف بجانب يزن، ممسكةً مروحة يدوية مصنوعة من الريش، تهوي بها على الفحم، بينما هو بجانبها يقلب اللحم على الجانبين كانت تتابعه باهتمام وعناية، معجبة بوسامته في اللون الأزرق وهدوئه، وصمته الذي يضفي عليه كاريزما، كان يعجبها هذا الطبيب، ويجعلها تنجذب له، رغم أنها، كما تقول والدتها "لا يعجبها العجب"
دون أن تنتبه، لمست أصبعها قطعة الحديد الساخنة على الشواية، فألمتها بشدة، القت المروحة من يدها : آآه
التفت إليها يزن بقلق وهو يمسك يدها ليفحصها قائلاً :
انتي كويسة؟
أومأت له بنعم، لكنه لم يصدقها، إذ كان الألم واضحًا على ملامح وجهها فردد بسرعة وهو يبتعد :
استني لحظة، هجيب حاجة وراجع
لكن ما إن غاب عن الأنظار، اقترب منها ذلك الرجل كما اطلقت عليه في ذهنها "السمج" انه نادر زوج شقيقته ياسمين لم يتوقف عن النظر إليها بنظرات وقحة منذ وصولها فصمتت، مرغمة لأنها ليست في بيتها، ولو كانت الظروف مختلفة، لكانت لقنته درسًا لن ينساه
وقف بجانبها قائلاً بوقاحة :
ايه يا قمر، واقفة لوحدك ليه، اما يزن ده ملوش حق يسيبك كده، معندهوش نظر عشان يسيب وقمر زيك واقفة لوحدها
ردت عليه بحدة :
قمر دي تبقى خالتك
ثم جزت على أسنانها وتابعت بصوت خفيض :
اسمع يا بتاع انت، أنا ساكتة عن نظراتك وعينك اللي تدب فيها رصاصة دي عشان محترمة صحاب البيت، لكن قسمًا بالله، لو ما احترمت نفسك، ما هيهمني حد، وهمسح بكرامتك الأرض.....ده لو كان عندك كرامة أصلاً !!!!
قالت ذلك وغادرت، دافعة إياه بيدها باشمئزاز جعله يجز على أسنانه بغل، متوعدًا لها
جاء يزن اخيرًا وأوقفها قائلاً :
تعالي اقعدي، جبتلك كريم للحروق
ثم جذبها برفق لتجلس على المقعد، وانحنى على ركبتيه، ممسكًا يدها ووضع الكريم بلطف على أصبعها رفع رأسه فجأة، فتلاقت عيناه بعينيها، ليشرد للحظة، متأملًا جمالها كيف لها أن تثير كل هذا الانتباه؟ هي لا تختلف عن الكثير من الفتيات، لكن شيئًا فيها جعلها تترك أثرًا في قلبه لطالما كان يعجب بالفتيات الهادئات، ويحب بسمة التي تشبه شخصيته وعند ذكر اسم حبيبته الراحلة، انتفض واقفًا، عائدًا إلى وعيه، معنفًا نفسه على التفكير في فتاة أخرى
توقفت هي الأخرى، خجلة مرتبكة إلا أن رنين هاتفها جاء لينقذها من الموقف كان المتصل "كارم" اجابت على الفور ليأتي صوته من الطرف الآخر قائلاً :
همس، عايز أشوفك....ممكن
اجابته بتردد :
بس أنا بره البيت، هي حاجة ضرورية أوي يا كارم
عند ذكر اسم ذلك الضابط، نظر إليها يزن باهتمام وهو يتابع المكالمة فسألها كارم فورًا :
انتي فين، وانا اجيلك؟"
أجابته بتردد وهي تبتعد عن أنظار يزن، الذي كان يراقبها باهتمام :
أنا عند صاحب بابا، هبعتلك العنوان، وفي كافيه جنب الفيلا هقابلك فيه، وبعدين ارجع تاني
........
بعد دقائق وصلتها رسالة من كارم يخبرها بوصوله إلى المقهى فاستأذنت الحاضرين لتغادر، فسألها عاصم :
رايحة فين؟
اجابته بتوتر :
مفيش حد من صحابي قريب من هنا، هروح وارجع بسرعة
قالتها ثم غادرت، بينما يزن يتابعها بنظرة تضيق شيئًا فشيئًا، ليس فقط لكذبها الواضح، بل لأنه وجد نفسه يتساءل لماذا تكذب، وهل يمكن أن تكون هناك علاقة بينها وبين ذلك الضابط
بعد دقائق، دخلت همس المقهى لتجده جالسًا في انتظارها وما إن رآها، وقف على الفور بتلك النظرة التي حملتها عيناه دومً لها، نظرة مليئة بالحب والحنان، تذكرت كلمات والدته يومًا ما عن عشقه لها، عيناه تلمع بالحب حين يراها، وكأنها وحدها من في هذا العالم قادرة على جعله سعيدًا كطفل صغير رأى والدته بعد غياب
جلست أمامه بهدوء، وبعد لحظات من تبادل التحية، سألته '
ها يا سيدي، ايه الموضوع المهم اللي عايزني فيه ومش ممكن يستنى لبكره؟
ابتلع ريقه بتردد واضح، بدا خائفًا من ردها أكثر من أي شيء آخر، ثم قال بصوت حمل رجاءً حزينًا :
همس، مفيش أمل...يعني إنك توافقي...على الجواز مني، انا كل اللي بطلبه منك فرصة....فرصة واحدة بس، وأنا أوعدك هخليكي تحبيني!!!
خفضت نظرها، هاربة من عينيه اللتين تحملان الكثير، ثم اجابت بصوت حزين :
كارم، مش كنا قفلنا الموضوع ده من زمان، وقولنا احنا صحاب وأخوات وبس
قاطعها بنبرة تجمع بين الحزن والحدة :
اتقفل بالنسبة ليكي، بس بالنسبة ليا انا....ما اتقفلش
رفعت وجهها إليه بخجل وحزن، محاولة أن تكون تقول له ما تريد دون ان تجرح قلبه :
كارم، انا مش قادرة أشوفك غير كده...صاحب وأخ، ده مش معناه انك قليل أو حاجة، بالعكس، أنت تستاهل حد أحسن مني بكتير
صمت كارم للحظة، ثم قال بحزن ممزوج برجاء:
بس أنا مش عايز حد تاني....انا عايزك انتي وبس
تنهدت بعمق، محاولة كبح دموعها :
كارم، كل شيء قسمة ونصيب، والله مش بإيدي...مش عايزة أخسرك كصديق، بس لو بعدك عني أو إنك تبطل تشوفني هيساعدك تنساني، يبقى ابعد، انا مش أنانية، مش عايزاك تفضل رابط نفسك بيا، لأن في مليون بنت غيري وأحسن مني يستاهلوك
امسك يدها برفق، قائلاً بصوت حزين :
بس مفيش زيك، ومفيش أحسن منك، يا انتي....يا لأ
شعرت بوخزة في قلبها، ألمه كان ينعكس عليها، وهي تعرف جيدًا مكانته لديها، رغم أن لقائهما الأول لم يكن لطيفًا، إلا أنه مع الوقت أصبح واحدًا من أقرب الناس إلى قلبها، مثل ميان وهمس
تنهد كارم بصوت حاول أن يخفي به حزنه العميق، وقال بهدوء زائف :
زي ما قولتي...كل شيء قسمة ونصيب ومين عارف؟ يمكن في يوم من الأيام، تكوني من نصيبي في الآخر
قال كلماته بابتسامة باهتة، قبل أن ينهض، تاركًا همس تجلس وحدها، غارقة في أفكارها المتشابكة، بين مشاعرها المتضاربة ووجع قلبه الذي شعرت به كما لو كان وجعها هي
..........
مر ثلاثة أشهر، بعضها مر على البعض بالسعادة والبعض الآخر بالحيرة والحزن، كان رأفت يرى ابنته تذبل يوماً بعد يوم، وهو لا يستطيع فعل شيء لطالما كان سفيان لعنة حلت على ابنته تقتلها ببطء يوماً بعد يوم، وهو يقف مكتوف الأيدي
دخل إلى غرفتها، فوجدها كعادتها كل يوم، جالسة في الشرفة، شاردة في عالم آخر، تتناول طعامها بعد إلحاح كبير منه ومن والدتها، منذ أن أنهت اختباراتها منذ أسبوعين تقريباً، وهي على هذا الحال
اقترب منها، ممرراً يده على خصلات شعرها بحنان، قائلاً بابتسامة حنونة وصوت دافئ :
حبيبة قلب أبوها، مالها وإيه اللي واخد عقلها؟
اعتدلت في جلستها، وقالت بابتسامة باهتة لم تصل عينيها : هو في حد يقدر ياخد عقلي غيرك يا جميل
داعب وجنتها بأصبعه، قائلاً بابتسامة :
بكاشة من يومك، بس برده مش هتزوغي من الإجابة، فيكي ايه يا حبيبتي
ابتلعت غصة مريرة في حلقها، وقالت بكذب وهي تتجنب النظر في عينيه :
مفيش، بس خايفة من النتيجة، اصلها خلاص احتمال تظهر بكره أو بعده
تنهد بحزن ثم قال معاتبًا إياها :
بتكدبي عليا وفاكرة إني مش هعرف، مفيش اب في الدنيا ميعرفش ولاده بيفكروا إزاي ولا إيه اللي شاغلهم وامتى يكدبوا وامتى بيكونوا صادقين
رددت. ميان بحزن :
مش عايزة اتكلم، ومش عايزة اكدب عليك، ممكن متسألنيش يا بابا وانا هحكيلك كل حاجة، بس مش دلوقتي عشان خاطري
تنهد بعمق ثم قال بحزن :
خاطرك غالي يا بنتي، بس من غير ما تحكي، أنا عارف السبب....وهقولك كلمتين حطيهم حلقة في ودنك دايماً اشتري نفسك يا بنتي، وما ترخصيهاش، انتي غالية، وغالية أوى واللي مايخدكيش ويشيلك فوق رأسه ويخلي مقامك عالي عنده، ما تشتريهوش، انا أقعدك جنبي طول العمر، ولا أسلمك لواحد يشوفك قليلة في نظره
كادت أن تتحدث لكنه قاطعها قائلاً بجدية :
سفيان بايعك من زمان، بايعك من يوم ما اتجوز نرمين، ومن يوم ما بَعد عنك وعننا، لمجرد إنه والدته قريبتنا وخاف إنك تبقي زيها، باعك لما نسي العشرة، العيش والملح، وافتكر بس موقف وحش، فوقي لنفسك يا بنتي، ساعات الإنسان بيبقى معمي، ويفكر إن اللي بيحس بيه ده حب، لكن بعدين بيكتشف إنه مجرد تعود أو حب مراهقة
تنهدت بحزن وقالت بألم :
ياريت ميكنش حب، ياريت يا بابا، محدش بيحب وجع القلب
ربت على يدها بحنان قائلاً :
طب قومي يلا، جهزي نفسك ووضبي شنطتك هتروحي القاهرة، جدك اتصل وحالف يمين إنك تكوني عنده بكره الصبح، وحشتيه، ونفسه يشوفك وعمتك كمان ما بطلتش سؤال عنك، وبالمرة تغيري جو بدل الحبسة دي
أومأت له قائلة :
حاضر، بس ممكن نأجلها يومين، تكون النتيجة طلعت، وابقى أروح على طول وأنا هكلمه واقوله
أومأ لها ثم قبل جبينها، مغادراً الغرفة بحزن حتى وقعت عيناه على صورة صغيرة معلقة على الحائط بجانب عدة صور في الممر لابنه الذي أخذه الموت على غفلة، وبدون إنذار لو كان حيًا، لأطمأن على ابنته وانه ترك لها سندًا في الحياة من بعده
........
على الجهة الأخرى بمنزل لينا الذي يبعد عدة أمتار فقط كانت لينا تراسل عمار عبر تطبيق "الواتساب" وابتسامة جميلة تزين ثغرها، عيناها تلمع بسعادة، كم تعشقه وكم تعشق أفعاله التي ربما تبدو بسيطة بالنسبة له وللآخرين، لكنها تعني لها الكثير يجعلها تعشقه يومًا بعد يوم
أغمضت عيناها بخجل وهي تلمس بيدها وجنتها تتذكر كيف اعترف لها بحبه بكل رومانسية
حيث تفاجأت ذات يوم بميان تدخل عليها بفستان وردي جميل ومحتشم، وجعلتها ترتديه بحجة ذهابهم لحفلة زفاف أحد أقاربهم لكنها تعجبت ما إن وصلوا إلى هناك بميان تطلب منها الدخول وهي ستلحق بها ما أن تصف السيارة
لتتفاجأ بأنوار تضيء الأرض، تتخذ شكل ممر مشت فيه، لتجد بالنهاية دائرة كبيرة في المنتصف، تتوسطها طاولة مزينة بالشموع، والأرض مليئة بالورد الأحمر المنثور
تفاجأت بذلك الصوت الذي تحفظه على ظهر قلب يهمس في أذنها بنبرة عاشقة محبة :
والله إن قلبي بكِ مفتون ♡
التفتت تنظر إليه بصدمة قائلة :
انت بتعمل إيه هنا، وفين الفرح وميان...ايه اللي بيحصل بالظبط.....نا مش فاهمة حاجة
ابتسم قائلاً بمرحه المعتاد :
مفيش يا ستي، الموضوع ببساطة إني قررت أخطفك، أخطفك ليا وبس، اخطفك زي ما خطفتي قلبي من أول لحظة شوفتك فيها، ولا تكوني فاكرة ان انتي بس اللي من حقك تخطفيني.....لا انا كمان عندي الحق أخطفك زي ما عايز
ضحكت بخفوت، ولا زالت الصدمة تؤثر عليها قائلة :
بلاش هزار يا عمار، ايه اللي بيحصل بالظبط
ضحك بخفوت، قائلاً بابتسامة، وهو يلتقط يدها بين يديه برومانسية :
اللي حصل اني بحبك، وقلبي وعقلي ملكتيهم من أول نظرة
ثم تابع بابتسامة جذابة أسرت قلبها العاشق له :
مش عارف أقول إيه الصراحة، ومش عارف أعبر عن اللي جوايا، ومكدبش عليكي حفظت كلام كتير محضره، لكن نسيت كل الكلام أول ما شوفتك....انتي سحرتيني بجمالك أنا بحبك يا لينا، وعايز أتجوزك ولو وافقتي هكون أسعد واحد في الدنيا وهفضل مخلص ليكي وأحبك طول العمر، ولو أطول اجيبلك الدنيا كلها تحت رجليكي، مش هتأخر
صمتت للحظات ثم قال بتوتر :
تتجوزيني يا لينا؟
ابتسمت لينا وهي تبكي من فرط سعادتها، أومأت برأسها عدة مرات، فتنفس براحة وابتسم بتوسع قائلاً بسعادة :
موافقة
أومأت له مرة أخرى قائلة بخفوت وخجل :
بحبك ♡
ابتسم بسعادة، مقبلاً جبينها بحب وامتدت يده لتزيل دموعها بحنان ثم أخرج من جيب سترته علبة صغيرة من القطيفة ما إن فتحها التمعت عيناها بسعادة عندما أخرج منها خاتمًا رقيقًا غاية في الجمال، وضعه في إصبعها برفق مقبلًا يديها ثم قال بصدق : بحبك
لم تنتهي تلك الليلة على هذا الشكل فقط، بل ظل قرابة الساعة يرقص معها على أنغام الموسيقى الهادئة تحت القمر وتناولوا الطعام معًا، بعدها أوصلها إلى منزلها، متفقًا معها على أن يتحدث مع والدتها في أقرب وقت
لكن سعادتها لم تكتمل حتى الآن بسبب والدتها، التي أصرت على أن تسافر لقضاء العمرة لمدة شهر، وزيارة شقيقها الذي يمكث هناك منذ سنوات وانشغلت معها في تحضير مستلزماتها للسفر والآن هي وعمار ينتظرون عودتها ليكون ارتباطهم رسميًا وعن قريب تصبح زوجته
........
كان قصي يجلس على الأريكة بجانب والدته يشاهدان التلفاز، لكن عقله لم يكن معها بل شاردًا في عالم آخر لم يفق منه إلا على صوت والدته الحزين :
مالك يا قصي، حالك مش عاجبني
زيف ابتسامة على شفتيه ثم قال :
انا كويس يا ست الكل، مالي يعني؟
تنهدت بحزن وقالت:
ما أنا بسألك مالك، ساكت ليه، ومقاطع ابن عمك، كذا مرة يتصل على البيت عشان يكلمك وأنت تخليني أقوله نايم حتى جدتك مابتروحش تشوفها ولا تطمن على عمار غير بالتليفون والشغل بتتابعه من البيت.....بتهرب من ايه يا قصي!!
أمسك كف يدها يلثمه بحب ثم قال بمرح زائف متجنبًا النظر في عينيها :
مش بهرب من حاجة، بيتهيألك بس، كل الحكاية انك وحشتيني وقلت اقعد معاكي شوية في البيت، واعوضك عن غيابي
حركت رأسها بنفي، قائلة وهي تربت على قدمه :
أنا أمك، مفيش حد في الدنيا دي يفهمك قدي، من صغرك كل ما تكدب تهرب بعنيك مني
لم يرد عليها، فتابعت بحزن :
حيرتني معاك يا بني، ومحير نفسك كمان، بنت خالتك موجودة، شرياك ورايداك، وأنت كمان رايدها....ليه المكابرة والعند، ليه تضيع حياتك في حزن وحيرة وسعادتك قدامك
تنهد بحزن، وأشاح بوجهه عنها، فأدارت وجهه نحوه مجددًا قائلة بحزن :
بعد ما أبوك الله يرحمه مات، بقيت ندمانة على كل لحظة خصام وزعل قضيتها معاه، صحيح كان ما يعديش اليوم إلا لما يصالحني، لكني ندمانة على اللحظات دي كلها
رد عليها بحزن وخيبة امل :
اللي عملته سيلين ملوش مبرر، ومش سهل أسامح فيه
ربتت على يده وقالت بحنان :
هتقدر....لو بتحبها هتقدر تسامحها، روح عاتبها واتصافوا، وسيبوا الماضي وابتدوا مع بعض صفحة جديدة، ريح قلبي يا بني وريح قلبك انت وهي، المتاهة اللي انت فيها دي حلها عندك، بكلمة واحدة بس
لم يرد عليها، فنهضت قائلة قبل أن تغادر لغرفتها. :
هسيبك تفكر، ومتأكدة ن ابني عاقل زي ابوه، مش هيضيع حياته وسعادته من ايده
قضى الليل كله يفكر في حديث والدته، ليجد نفسه في اليوم التالي يتوجه إلى بيتها وما إن وصل سأل عنها :
هي سيلين مش موجودة ولا إيه؟
ردت فردوس بسعادة :
لا دي في الشغل من الصبح
سألها بتعجب :
شغل ايه، هي رجعت تشتغل في الكافيه
رد كمال تلك المرة بهدوء :
لا، دي بقت تشتغل سكرتيرة دلوقتي، وبتحضر نفسها للامتحانات السنة دي إن شاء الله
سألهم بزهول :
بتشتغل عند مين؟
اجابته فردوس بابتسامة واسعة :
عند أبو قريبة ابن عمك....ميان!!
ردد قصي بدهشة :
ميان!!!!!!
بعد دقائق خرج من البيت، لكنه توقف عند مدخل البناية ما ان رأى سيلين تقف مع شاب لم يره من قبل، اقترب منهما قائلاً بحدة :
سيلين!!!!
سألتها بهدوء :
قصي، انت كنت عندنا من امتى
لم يجيب عليها وسألها بحدة وغيرة :
مين ده؟
مد الشاب يده ليصافحه قائلاً بابتسامة:
أنا صالح، زميل سيلين في الشغل....وحضرتك؟
م يرد قصي التحية، فتنحنح صالح بحرج وقال :
عن اذنكم، متنسيش بكرة الساعة عشرة الصبح، متتأخريش
ما إن رحل، التفت إليها قصي وسألها بغضب وغيرة :
ايه هو اللي الساعة عشرة، وإزاي تسمحي لراجل يناديكي باسمك كده
ردت سيلين عليه بضيق :
متزعقش، أنا مش طارشة
لم يبالب وصرخ عليها قائلاً :
سيلين، مين ده انجزي انطقي
رددت بحدة :
بردو بتزعق، راعي اننا في الشارع، وان كده ميصحش
صاح فيها بغضب :
ميصحش ارفع صوتي، لكن يصح تقفي مع واحد غريب!!
زفرت بضيق وقالت :
ده مش غريب....ده صالح!!
ردد بسخرية حادة قائلاً :
ايه صالح ده، كيس شيبسيؤ ولا جوز أمك وأنا معرفش؟
عنفته قائلة بحدة :
قصي احترم نفسك
ثم تنهدت وقالت بضيق :
زميلي من أيام الجامعة وبنشتغل مع بعض في نفس المكان، صالح محترم وابن ناس
سألها بحدة وغيرة تنهش قلبه:
هتقابليه ليه، وفين؟
ابتسمت قائلة بمكر محاولة استفزازه :
مش ملاحظ انك زودتهاؤ دي حاجة متخصكش من الأساس
نظر إليها للحظة ثم سألها بتوتر :
مالك، متغيرة ليه؟
ردت عليه بهدوء :
متغيرة إزاي؟
صمت قليلاً ثم قال بتردد :
كنت فاكر...ااا....
قاطعته قائلة بهدوء :
كنت فاكر....انك هتلاقيني قاعدة ببكي ومستنية منك كلمة لكنك اتصدمت لما لقيتني قررت اكمل حياتي
أشاح بوجهه بعيدًا عنها، فتابعت سيلين بحزن :
أنا مش هضيع عمري في الندم، صحيح غلطت، لكن ما أجرمتشؤ اعتذرت كتير، وكل مرة كنت بتقولي نفس الجملة مش قادر انسى
تنهدت بعمق ثم تابعت بهدوء :
مش هطلب منك تاني تسامحني، ولا هطلب حبك، لو شايف إن ده الصح، اعمله لكن أنا مش ناوية أعيش مذلولة اكتر من كده يا قصي
اقترب منها خطوة وقال بحب ورجاء :
حبيني زي ما بحبك يا سيلين، هنسى كل حاجة، هقفل الصفحة دي، بس دي فرصتك الأخيرة معايا، متخسريهاش عشان خاطري
صمت للحظات ثم سألها بعشق :
تتجوزيني يا سيلين؟!
.......
بينما على الناحية الأخرى، كان سفيان مع زوجته في عطلة خارج البلاد منذ أسبوع تقريبًا، كم عانى ليحصل على غفرانها بعد الاتهام الشنيع الذي وجهه لها، لكن بالنهاية مرت الحادثة، واستطاع أن يصالحها
كان يجلس على طرف السرير ينتظر خروج زوجته من الحمام، وعقله لا يتوقف عن التفكير، لم يراها منذ ما يقارب الشهرين، يريدها أن تبتعد عنه، لكنه يريد قربها في الوقت ذاته، يشعر وكأنه داخل متاهة لا يعرف كيف يخرج منها، أو ربما يعرف لكنه لا يستطيع قبول الحل، فبالنسبة له أن يعيش هكذا أهون عليه من مواجهة الحقيقة
كان شاردًا ولم ينتبه لخروج زوجته أو لمناداتها عليه أكثر من مرة، لم يشعر بها إلا حين جلست على قدمه، تحاوط عنقه بيديها، قائلة بدلال :
سرحان في إيه يا روحي؟
ابتسم بزيف وقال :
الشغل يا حبيبتي
ابتسمت بتردد، ثم قالت :
حبيبي، ممكن أتكلم معاك في حاجة بس من غير ما تتعصب، خلينا نتناقش بهدوء، ممكن؟
أومأ لها بانتباه، منتظرًا ما ستقول فتابعت بتردد :
كاميليا.....والدتك عايزة تشوفك
كور قبضته، وقال بغضب مكتوم :
اقفلي الموضوع ده
لم تصمت بل تابعت بدلال :
بس يا سفيان، ما ي...
قاطعها قائلاً بصراخ حاد :
مش قولت اقفلي الزفت ده، يبقى تسكتي خالص
نظرت له بعتاب قبل أن تتركه وتتجه نحو الشرف، وقف ينظر إلى الفراغ، يعنف نفسه على عصبيته، لم يكن لها ذنبؤ يكفيه الخطأ الفادح الذي ارتكبه بحقها
تنهد بعمق، ثم لحق بها إلى الشرفة وجدها تبكي بصمت، لكن ياليته يعلم أن دموعها كاذبة ونواياها مزيفة كصاحبتها تمامًا ياليت عيناه ترى كم تشبه الحية وهي تتلون بمئة لون للوصول لما تريد
اقترب منها، وحملها بين ذراعيه، ثم جلس وجعلها تجلس على قدميه قائلاً باعتذار:
حقك عليا يا حبيبتي، بس انتي عارفة إن الموضوع ده مش بحب اتكلم فيه، أي حاجة ليها علاقة بالست دي مش بطيقها ولا عايزها، كفاية حياتنا اللي باظت بسببها، طمعها وقسوة قلبها اللي كانوا السبب في موت أبويا
ثم تابع بسخرية مريرة :
هو انا اللي هحكيلك يعني ده انتي عيشتي معايا كل حزني، سواء من كاميليا ولا من ميان اللي اتصدمت فيها لما سمعت كلامك وروحت اصارحهت بمشاعري وقولت هنسى الماضي، قاسمتيني الحلو والمر كله، ليه جاية تفتحي في القديم بعد ما قفلناه خلاص
رددت بحزن زائف:
قاسمتك في كل حاجة، ومع ذلك لسه مقدرتش أوصل للمكان اللي ميان وصلتله في قلبك، هي رقم واحد، وأنا رقم اتنين، مهما عملت لسه مش عارفة أملى قلبك زيها
حاول أن ينكر، لكنها لم تمهله وتابعت :
زي ما قلت، قاسمتك في كل حاجة. يعني حبك ليها مش بسهولة هينتهي، ومش هتقدر تنساه في يوم وليلة وتحبني أنا زي ما بتقول
نفى برأسه قائلاً بحزن :
بحبها، ما أنكرش، انا متعودتش أكذب عليكي، حبيتك وحبيتها، لكن انتي أغلى، وكسبتي احترامي، رصيدك في قلبي أكبر بكتير منها يا نرمين
ثم تابع بتردد :
فريدة طلبت مني أتجوزها عشان ترجع الفيلا، لكن انا رفضت واختارتك انتي وكل مرة هتكوني في اختيار، اتأكدي إني هختارك انتي وبس وعمري ما هتخلى عنك
ابتسمت بحب زائف وقالت وهي تعانقه :
ربنا يخليك ليا يا سفيان، انا بحبك اوي
أبعدها عنه ثم لثم جبينها قائلاً بحب :
وأنا بموت فيكي
ثم حملها بين يديه وقال بمكر :
تعالي بقى أقولك بموت فيكي ازاي
ضحكت برقة مبالغ فيها وهي تحاوط عنقه، بينما هو خطا بها إلى الداخل، حيث غرق كل منهما في عالمه الخاص هو في وهمه الذي نسجه بنفسه، وهي في عالمها المليء بالخداع
........
في اليوم التالي، عاد سفيان ونرمين من سفرهما بعد وصول ذلك الخبر المفزع له لقد تم نقل فريدة إلى المستشفى!!
ما ان علم لم ينتظر، وأخذ أول طائرة عائدًا
كان يركض في ممر المستشفى وخلفه نرمين، التي كانت تدعو في سرها أن تموت تلك العجوز التي لا تكف عن تعكير صفو حياتها
سأل سفيان شقيقه عمار بلهفة :
حصل إيه، فريدة مالها، طمني يا عمار
رد الطبيب الذي كان واقفًا بجوار عمار :
حالة فريدة هانم النفسية مش كويسة، عندها مشاكل في القلب، الظاهر انها في الفترة الأخيرة كانت مهملة في صحتها والأدوية مش بتتاخد في معادها، ضغطها مش مظبوط هتفضل في المستشفى فترة، وأهم حاجة تبعد عن أي ضغوطات أو زعل، لأن حياتها فعلاً في خطر!!
غادر الطبيب، فضرب سفيان الحائط بقبضته، يلوم نفسه على إهماله لها، دخل إليها بعدما سمح له الطبيب بخمس دقائق فقط لثم جبينها وقال بحزن :
حمد الله على سلامتك يا ديدا
رددت فريدة بصوت خافت متعب :
سفيان...عايزة ميان، ضروري تيجي دلوقتي
تحكم في غضبه بصعوبة، وكاد أن يعترض، لكنها سبقته قائلة بتعب :
انا مش قادرة أتكلم كتير، نفذ اللي بقوله.....هاتلي ميان
خرج من الغرفة بغضب، لا يعرف كيف يتصرف لا يريد رؤيتها، لكنه مضطر، طلب رقمها من عمار الذي أعطاه له بدهشة واتصل بها...جاءه صوتها تسأل عن هوية المتصل فرد قائلاً بضيق :
انا سفيان....انتي فين؟
سألته بصدمة :
أفندم، وانت بتسأل ليه؟
زفر بضيق ثم قال بحدة :
انجزي وقولي انتي فين
ردت عليه بغضب :
انت فاكر نفسك مين عشان تكلمني كده
قاطعها قائلاً بنفاذ صبر:
فريدة في المستشفى وعايزة تشوفك، نا في الطريق ليكي، انتي فين؟
سألته بقلق :
انا في مطعم....وصفت له عنوانها بالضبط ثم سألته بخوف :
فريدة مالها، هي كويسة؟
أغلق الهاتف بوجهها ورحل سريعًا لمكانها، غاضبًا ومتضايقًا من المهمة التي أجبر عليها
.......
تقف ميان تنتظر أمام المطعم، تعنف نفسها بصمت على إهمالها في السؤال على فريدة، كانت شاردة الذهن لم تنتبه لوقوفه بسيارته أمامها إلا حين باغتها صوته الساخر:
آسف لو هقطع عليك فقرة التأمل دي
قالها ثم تابع بحدة وهو ينظر إليها بعصبية :
انجزي، اركبي
رفعت ميان حاجبيها بتحدي وقالت بحدة هي الأخرى :
اتكلم كويس معايا، او قول اسم المستشفى وأنا هروح لوحدي، من غير ما أضطر أتعامل مع واحد كل كلامه مفتقر للذوق زيك
زفر بضيق ونزل من السيارة، وقبل أن تدرك ما يحدث جرها للداخل بالقوة، ثم دار ليصعد مكانه خلف المقود، فصرخت عليه غاضبة :
إيه الهمجية دي، إزاي تسمح لنفسك تمسكني كده
انطلق بالسيارة دون أن يكترث لغضبها، قائلاً بسخرية:
ماتعمليش فيها شريفة أوي، وان لمستي مضايقاكي، ده انتي سمعتك سبقاكي يا شيخة ميان!!
لم ترد عليه، بل استندت برأسها على زجاج السيارة تنظر إلى الطريق بحزن، شحوب وجهها، والطريقة التي قبضت بها على حقيبتها، جعلته يشعر بالشفقة للحظة، لكنها مشاعر سرعان ما أنكرها محدثاً ذاته بحدة :
إياك تتخدع فيها،كل اللي بتعمله تمثيل،ما تنساش إنها اللي بدأت وخانت
تنهد بضيق ثم قال بسخرية قاصداً إهانته ا:
ساكتة ليه، مش عمالة تتحايلي وتترجيني أرجعلك زي كل مرة، انزلي دمعتين بقى واعرضي شغلك الرخيص المعتاد
م تنظر إليه، بل قالت بصوت مكسور، يملأه القهر والألم :
انت بتصعب عليا يا سفيان....بجد بتصعب عليا، مش بس من اللي انت فيه، كمان من اللي هيحصل بعد كده، الندم وحش نصيحة مني ما تجربوش، أنا يأست منك، ومابقاش عندي طاقة للكلام معاك، فالأفضل اني أسكت وأريح نفسي
ضحك بسخرية مريرة، محاولاً استعادة سيطرته على الحديث :
مش على آخر الزمن هاخد نصيحة منك إنتي، ده انتي كفاية إنك تقربي من كاميليا، دي لوحدها ماركة مسجلة في قلة الأصل وحاجات تانية.....خليني ساكت أحسن
ابتسمت ميان بسخرية قائلة بتحدي :
انا يدوب بنت أختها، لكن الدور والباقي على ابنها اللي من لحمها ودمها وطبيعي يكون شارب منها أكتر
ثم تابعت بتهكم :
إذا كنت شايف إن بنت أختها طالعة زيها، فابنها بقى اللي من دمها مش هيكون طالع ليها، ده حتى يبقى عيب يا راجل، من النهاردة لازم أحذر منك، وشكراً إنك لفت نظري للجزئية دي، كونك ابن كاميليا يعني واخد نصيب كبير من رخصها وقلة أصلها.....مش كده ولا ايه يا ابن كاميليا !!
قبض على عجلة القيادة بقوة، ووجهه يشتعل غضباً، ثم قال من بين أسنانه :
تتكلمي بأدب أحسنلك، وإلا والله العظيم هنسى انك بنت وايدي هتنزل على وشك
غمغمت بتهكم :
يا راجل!!
ثم تابعت بغضب لا يقل حدة عن غضبه :
اقسم بالله لو إيدك اترفعت عليا لأكسرها، جرب وشوف عايزني أتكلم بأدب؟ اتكلم انت كمان بأدب، لأن لو حصل العكس إيدي هتنزل على وشك، أنا لا بخاف ولا بقول كلام في الهوا، وهفذ فعلاً فالأفضل إنك تحترم نفسك في الكلام معايا....يا بن كاميليا
نظر إليها بغضب مكتوم هذه الفتاة دائماً تسكته بكلامها، تضعه في موقف العاجز عن الرد، زفر بضيق شديد ولم يتحدث بعدها، وهي الأخرى لاذت بالصمت، كل منهما غارق في أفكاره الخاصة
بعد وقت قصير توقف بسيارته أمام المستشفى، فنزلت ميان على عجل وبلهفة، تبعها بخطوات سريعة حتى وصلا إلى غرفة فريدة
دقائق قليلة مرت، حتى تعالى صراخ سفيان وميان داخل الغرفة بغضب :
على جثتي ده يحصل يا قمر......