رواية في لهيبك أحترق
الفصل الواحد الأربعون 41
بقلم شيماء يوسف
يمكن لأي شخص أن يختارك في توهجك، لكني أنا سأختارك حتى حين تنطفىء
تأكد بأني وإن رأيت النور في غيرك سأختار عتمتك.
-شمس الدين التبريزي
في حياة كل منا هناك سنوات عجاف، تتعاظم على قلبك بها المصائب، وتصارع بها روحك الصعائب، تفقد بها العزيز ويأتيك الغدر من أقرب الأقارب...
ثم تمضي مسيرتك مثقل الكاهل في فترة مرهقة تسمى بـ"الابتلاء"، مليئة بالخير ولا يفوز بها سوي السعداء
وتسمي تلك الهبة بالـ. "العوض"....
العوض هو الشيء الوحيد الذي يستحق الصبر، في الحقيقة هو الشعلة المضيئة في آخر طريقنا المظلم، وهو النفق الذي ينتهي به دربنا المعتم، هو تلك الهبة القادرة على شفاء الروح والأبدان، وصرف كل ما أصابنا من غموم وأشجان، فالله بعباده رحيم، وإن أراد لهم الخير، أغدقهم بكل ما هو عظيم، كل ما يتحتم علينا هو الرضا، حتى يكافئك الغفور الكريم...
نطقتها بابتسامة مرتعشة ثم صمتت في رهبة وكأنها تُجبر عقلها على التصديق رغم علمها المسبق بالنتيجة، ولكن التوقع شيء والتأكد نعيم أخر، ارتجفت ووصلت ذبذبتها إلي أعماق روحه فارتجف في المقابل وقد ألجمته صدمة الخبر المدوية، كل ما راح يفعله هو تمرير عدستيه الزائغة بين وجهها وأسفل بطنها، بينما انفرج فمه في بلاهة حيث قُبضت رئتيه فأخذ يتنفس منه كبديل لإتمام أهم عملياته الفسيولوجية، وحذا حذو رئتيه باقي أعضاء جسده، فحتى عضلات وجهه أخذت تنبسط وتنقبض في عنف دليل على ما يمر به من جنون المشاعر....
بينما ترقرقت عدستاه بدموع الارتياح، يكاد من فرط الانفعال ينهار أرضًا وقد اُستجيبت دعواته حَقًّا!...
رفع رأسه ينظر إلى الأعلى في امتنان غمره من خصلات شعره حتى أخمص قدميه، ومن قبل تغمد روحه وفكره المعذب، وقد أُزيل عن كاهله ما أرّقه لأشهر طويلة والآن عليه الاعتراف بسوء ظنه في خالقه بل والتوبة إليه..
فمع مأساة زواجه الأول وبعد اكتشافه الفخ الذي نُصب له وسار هو إليه بكامل إرادته رفض رافضًا تَامًّا إنجاب أي طفل منها قد تشاركه صفاتها ويحمل طباعها، حتى أنه أخطأ وفي لحظة ضعف دعا الله أن يحرمه الذرية كي لا يربط بينه وبينها أي عامل مشترك، ثم ندم بعد ذلك أشد الندم على حماقته وبقيت ذكرى دعاء السوء تُعذب روحه، وقد تفاقم إحساسه بالقلق والندم بعد اجتماعه ب"رحماه"، وصار كل ما يخشاه أن يُحرم من الأبناء كما تمنى ودعا من قبل، ولكنه رب رحيم، أكرمه ومنّ عليه دون تأخير...
أما بالنسبة إليها وعندما لم يأتيها أي رد فعل منه ومع ملاحظتها تشنج جسده بالكامل، همست تقول اسمه وهي تقطع المسافة الفاصلة بينهم، بينما يدها لازالت تقبض على جهاز اختبار الحمل وكأنه كنزها الثمين :
-(( طاهر؟! ))..
أخفض في بطء رأسه يواجهها بعيون تتلألأ بالعبرات الشفافة، يفتش داخل وجهها عن التأكيد وكأنه غير قادر على التصديق، فهمست من جديد تقول في تفهم ونبرة مشجعة :
-(( حبيبي أنا حامل ومن فترة كمان ))
مد ذراعه يلصقها به بعدما قبض على قماش منامتها البيتية في قوة كأنها تخفي تحتها ما صار يخصه، ثم وبنعومة بالغة بدأ يتحسس بطنها متسائلًا في مهابة :
-(( أبني.. أنا؟.. في رحمك! ))..
اتسعت ابتسامتها وقد التمعت عدستيها هي الأخرى بالدموع مجيبة في حب، بعدما حاوطت خصره بكلا ذراعيها وأراحت رأسها فوق موضع قلبه الهادر :
-(( ابننا يا طاهر.. أو يمكن بنتنا مش عارفة ))..
لم يشعر بنفسه إلا وهو ينحني نحو فمها ويلتهمه في قبلة جائعة أعادت إليه جزء كبير من استيعابه، خاصةً وقد قابلتها هي بأكثر من مرحبة بعد مرور ما يعادل الشهران من الهجران التام، وبمجرد التحام ثغريهما معًا حتى بدأت ذاكرتها تستعيد حلاوة وجنون ما حدث ويحدث بينهم، قبل أن يتذكر هو حالتها فيبتعد عنها هامسًا في وجل :
-(( لا لازم ترتاحي.. بصي أنتِ نامي هنا وأنا هخلي أم الحسن تشوف كل طلباتك.. خليكي وأنا هنزل اجبلك الفطار وأطلع ))..
جذب كفها يدفعها نحو الفراش يحثها على الجلوس والتمدد فوقه، فسارعت توقفه معترضة من بين ضحكاتها :
-(( طاهر أنا حامل مش عاجزة.. وبعدين أنا حاسة بيه من فترة ))..
أسبلت أهدابها للأسفل تتهرب من النظر إليه وقد غمرها الشعور بالذنب خصوصًا بعد رؤيتها مدى حماسه وسعادته، ثم تمتمت تقول خجلة منه :
-(( من بعد حادثة مصطفى الله يرحمه وأنا حاسة بيه جوايا.. بس مكنتش قادرة أواجه الحقيقة دي وأتقبلها.. أنا آسفة ))..
عضت فوق شفتها السفلية المرتعشة، ثم أردفت تقول في خزي :
-(( كان المفروض أعرفك من وقتها شكوكي وأعمل التحليل.. بس مقدرتش كنت خايفة أتعلق بحاجة جديدة وتروح مني.. بس أوعدك خلاص مفيش هروب تاني.. زي ما قلتلي قبل كده.. هو أكيد عوض ربنا ليا.. لينا ))..
حرك رأسه متفهمًا بالتزامن مع راحة يده التي ارتفعت تمسد في نعومة أسفل بطنها حيث ركع على ركبتيه مقابلًا لها، ثم اقترب يطبع قبلة مطولة فوق قماش منامتها قائلًا في تفهم ونبرة حانية :
-(( رحمة احنا نبقى عيلة ))..
سرت ارتعاشة طفيفة على طول عمودها الفقري وقد وصلت إلى جلدها قبلته عبر ردائها، بينما أردف هو يقول واعدًا في قوة :
-(( متخافيش من حاجة.. وعد عليا هحميكم بروحي ومش هقصر لحظة.. ومادام ربنا عوضنا مستحيل يحرمك.. ممكن نفرح بهدية ربنا لينا ونحاول ننسى الحزن ))..
حركت رأسها موافقة وقد بدأت الدموع تتساقط وتتطاير مع ذرات الهواء تأثرًا بنبرته الحانية ونعومة لمساته، فبادر برفع جذعه وطبع قبلة مهدهدة فوق خصلات شعرها، بينما تمتمت هي طالبة في نبرة طفولية :
-(( ممكن النهاردة متنزلش وتسبني أنام في حضنك شويه؟! ))..
تحرك مستجيبًا لها كي يتمدد جوارها فوق الفراش فسارعت بالإفساح له، ثم استندت برأسها فوق صدره العريض، مستمعة إليه يقول ملاطفًا ويده تداعب وجنتها المبتلة :
-(( لا لو هرمونات الحمل هتخليكي بالحلاوة دي أحنا نعيد التجربة كل ٩ شهور ))..
همهمت موافقة في استرخاء وقد أدت ملامسات أنامله لبشرتها الأثر المطلوب قبل أن تعود وتغفي من جديد في أمان عالمة أن ذراعيه المحاوطة لجسدها ستكون دائمًا متاحة وموجودة فقط من أجلهم.
****************************
جلست فوق أريكة غرفة المعيشة تتكأ بجذعها فوق جذعه وتُريح رأسها فوق كتفه، هناك، بالقرب من ذلك العرق النابض في عنقه، بينما كفها يستند في كسل فوق موضع قلبه، مغمضة العينين في سلام تستمع إلى دقاته الخافقة في تناسق تام مع ضرباتها، وكأنهم قلب واحد صار ينبض في جسدين، تبتسم في بلاهة كلما تذكرت أيامهم الماضية والتصالح الذي غلف علاقتهم بعد اعتراف أحدهما للأخر بعشقه، وكيف حلق بها خلال الشهر ونصف المنصرم فوق السحاب رافضًا حتى الابتعاد عنها في أيامهم الأولى سَوِيًّا، ثم بعد ذلك عندما اضطر العودة إلى عمله وممارسة مهنته، كان يركض سريعًا إليها ويعانقها في اشتياق قبل أن يأخذها في دوامة جديدة من اللقاءات المحمومة التي لا تنتهي، فيثبت لها بما لا يدع مجالاً للشك بأنه توأم روحها، رجلها المثالي، من خُلقت له وعاش لها...
وما زاد من سعادتها هو اختفاء قريبته بعد تورط اسم "أبو المجد" في قضية شقيقها...
كانت تعلم أنها مجرد هدنة قبل ظهورها من جديد نعم، ولكنها تقبلت ذلك الوقت المستقطع بنفس أكثر من راضية.....
وبعد فترة من الصمت الهادئ ارتشف هو خلاله قهوته الداكنة، همست علياء تسأله بعدما رفعت رأسها قليلًا لأعلي حتى تتمكن من رؤية جانب وجهه :
-(( محكتليش النهاردة عملت إيه زي كل يوم.. ولا خلاص زهقت؟ ))..
ارتسمت فوق ثغره ابتسامة واسعة تعبر عن الكثير مما يحمله في قلبه لها، ثم أجابها بعدما أنحني ولثم ثغرها أولًا :
-(( أنا خايف أنك أنتِ اللي تزهقي مني ))..
قاطعته صادقة بعدما اعتدلت في جلستها وأصبحت تقابل وجهه :
-(( مشاركتك ليا تفاصيل يومك أحلى حاجة بالنسبالي.. بعد نظرة عيونك ليا ))..
تنهد وقد التمعت زمرديتاه في الحال بلمعة العشق الجارف، ثم قال في هيام بعدما رفع ذراعه وداعب ووجنتها المرتفعة :
-(( أما أنا بقي.. فكلك على بعضك بالنسبالي أحلى حاجة في حياتي مش بس في يومي ))..
عاود جذبها إليه يحاوطها بكلا ذراعيه، ثم أردف يقول في اهتمام بصوته الأجش :
-(( ما تسيبك مني.. أنا يومي مكنش فيه غير شغل وقوليلي أنتِ عملتي إيه النهاردة؟! ))..
قالت في فتور بعدما امتعضت ملامحها قليلًا :
-(( ولا أي حاجة.. كلمت ماما وبابا وبعدين جواد.. مش عارفة هو ناوي على إيه في موضوع جوازه.. كنت بحاول أقنعه يعمل فرح حتى ولو بسيط بس لقيته مش مهتم.. ولا معرفش مكنش مركز.. قعد يقول حاجات غريبة مش مفهومة عن أنه مش لسه هيشغل دماغه ويرتب ويضيع وقت ))..
أستمع إليها يحيى وابتسامته تزداد شيئًا فشيء، خاصةً وقد قام بفعل المثل البارحة مع صديقته المقربة "غفران"، ووجدها تهمهم هي الأخرى ببعض العبارات الغير مرتبة عن ارتباطهم وقتما سألها عن موعده، ثم أن الأمر لا يحتاج منه إلى كل ذلك التفكير لمعرفة ما أصاب رفيقة السنوات الماضية وبدل حالها هكذا، فقط كل ما يأمله أن يبادلها "جواد" شعورها وإن كان أغلب الظن يسير في ذلك الاتجاه المطمئن
مقاطعًا شروده صوت علياء تضيف في امتنان :
-(( بصراحة مش عارفة جواد ممكن يشكر غفران أزاي على اللي عملته.. لولاها مكنش خرج.. وطبعًا رضا كمان ابن عم بابا لولا وجوده في مجلس الشعب وواسطته مكنتش عرفت تسجل حاجة ولا أبو المجد ده يتورط الحمدلله ))..
صمتت لوهلة فشعر بذبذبات ترددها تصل إليه؛ وعليه همس يسألها مشجعًا بينما أنامله تمشط خصلات شعرها :
-(( كملي كل اللي في دماغك ))..
ابتسمت في خجل، ثم قالت على مضض :
-(( ومكنتش هرتاح من وجود جيداء معانا كل الفترة دي.. آه أنا عارفة أنك طلبت مني أتعامل عادي بس أنا من جوايا نفسي أخنقها بسببك.. وعشان تعاملها مع أبو الزفت ده اللي آذاك أنت وجواد وغفران ))..
ارتفعت زاوية فمه بابتسامة متفهمة، قبل أن يقول في رزانة اعتادتها منه :
-(( مش هقدر أجادلك.. وفاهم كل اللي أنتِ حساه وعذرك فيه.. بس قعادها عند عمتو الفترة دي كلها معناه أنها عاجزة ومش قادرة تعمل حاجة.. وعشان أكون صريح معاكي في جزء مني متعاطف معاها لسه.. عمري ما هنسي قهرة أن البنت ضاعت قدام عنينا وأحنا عاجزين مش عارفين نعمل حاجة.. وكل ده وأنا مش أبوها فما بالك بقي وهي أمها الحقيقية؟ ))..
تنهدت علياء في ضيق ثم قالت تجادله :
-(( يحيى.. مفيش مبرر لتصرفاتها.. مهما كانت دي ساعدت واحد يأذي البنات في الوقت اللي المفروض هي أكتر واحدة تحس بيهم.. وضحكت عليك وكنت هتروح فيها بسبب اتفاقاتها القذرة.. غير جواد وغفران!.. أنا عمري ما هسامحها أو أقبلها ))..
بلعت لعابها في عنف ثم أردفت تقول في عدائية صريحة :
-(( كل اللي مستنياه أن رضا يصدق في وعده ويعرف يقنع النائب العام يقبض على الزفت نادر ده بالورق اللي معاك أنت وغفران.. وكده يبقي أخد جزائه مع اتهام تشويه سمعة جواد وتضليل العدالة.. وجيداء دي كمان تاخد جزائها ومش عايزاها تكون في بيتي مهما حصل ))..
كان جسدها بأكمله يختض أسفل ذراعه من شدة غضبها، فسارع يحرك راحة يده فوق ذراعها لتهدئتها، قائلًا بصوته الحاني :
-(( تمام أحنا بنتناقش مفيش دَاعٍ للعصبية دي كلها.. إن شاء الله مسألة وقت قبل ما نشوف نادر في القفص.. خصوصًا بعد ما أتورط في قضية الاغتصاب دي فالبنات بدأت تتعاون معانا ومستعدين يشهدوا عليه.. ربنا يسهل بس ورضا ابن عمكم ده يخلص بعلاقاته الدنيا.. وبالنسبة لجيداء لو متورطة معاه مش هسمي عليها متقلقيش.. متفكريش بعد كل اللي حصل أن في قلبي حاجة ناحيتها أحنا تكلمنا في الموضوع ده من قبل وخلاص قفلناه ))
تهدلت أكتافها وقد التقط سبب عصبيتها الخفي، فهمهمت تعترف خجلة :
-(( أنا بغير من سيرتها ))..
قال مبتسمًا في ثقة :
-(( عارف.. ورغم أن غيرتك دي بتفرحني بس ملهاش لازمة ))..
رفع كفها وطبع بداخله عدة قبلات متتالية، قبل أن يقول في نبرة صادقة خرجت من صميم قلبه :
-(( أنا مبحبش غيرك يا علياء ))..
تاهت بين أمواج بحيرته الخضراء تحاول يائسة التقاط أنفاسها وقد اشتعلت كل حواسها تجاوبًا مع نظرته المتعطشة إليها، ثم همست تؤكد في ولع :
-(( وأنا مبحبش غيرك يا يحيي ))..
حرك جسده لوضع أكثر راحة قبل أن يرفعها إليه ويسحبها نحوه فسارعت تسأله في اعتراض واهن، بينما دقات قلبها المترقبة ترتفع وتيرتها وكأن نبضها هو الشيء الوحيد الذي يعمل من أجهزتها الحيوية :
-(( أنت هتعمل إيه ))..
همس في نبرة خافتة خطيرة، قبل أن يجتاح ثغرها الناعم بشفتيه، وبشرتها المنتفضة بيداه :
-(( هاخد حقي قبل ما نتخانق أول خناقة لينا سواء ))..
ضاعت وضاع منها الكلام أو القدرة على الاعتراض، وقد استجاب جسدها وكل حواسها لمطلبه، قبل أن يستسلم قلبها لقربه وأخيرًا عقلها، إذا اتفقا جميعهم على شيء واحد، ألا وهو حبه.
***************************
ما بال قلبها يرتجف كلما قفز اسمه فوق شاشة هاتفها كَغُصْين يواجه منفردًا عاصف الريح، ويتضخم بداخل صدرها الذي لا يكاد يتسعه كلما تدفق إلى قوقعة أُذنها صوته الذكوري المريح، فتتساءل في كل مرة متعجبة، ماذا لو همس لها هذا الصوت بعبارات الغزل الصريح؟!...
تنهدت في ضيق كلما اتخذت أفكارها ذلك المنحنى الخطير، لا تملك سوى الهروب منه علها بذلك تهرب من تأثيره المتزايد عليها، ولكنها تفشل في كل مرة إذ يستمر في محاصرتها بل وملاحقتها يريد معرفة أدق تفاصيل يومها وحركتها..
ولو يعلم ماذا تفعل بها أسئلته المهتمة وكيف تبعث الأمل بداخلها!، أمل مفقود!...
ارتفع رنين هاتفها للمرة الثالثة فأجابت مجبرة بعدما التقطته من فوق سطح المكتب هامسة في تردد :
-(( ألو؟! ))..
زفر في عنف اخترق أذنها بوضوح كتعبير عن حنقه منها، قبل أن يقول مؤنبًا :
-(( نفسي أرن عليكي وتردي من أول مرة!.. حقيقي بقيت بحس أنك متعمدة مترديش عليا.. زي مانتي متعمدة متشوفنيش كل الفترة دي ))..
رفرفرت بأهدابها بعدما ابتلعت لعابها بقوة دون تعقيب، فقط التزمت الصمت تحاول الخروج من هيمنة قوته التي يفرضها حولها في كل تواصل بينهم، حتى وإن كان من خلال الهاتف، بينما أردف هو يقول في غموض :
-(( عَمَّتَا هانت أوي.. من الليلة كل لعب العيال ده هيخلص )).
تنبهت كافة حواسها فور سماعها جملته، واستقامت في جلستها متأهبة، فمن خلال تاريخهم سَوِيًّا أصبحت تعلم بأنه لا يتفوه بما هو عابر، بل يقصد كل ما ينطقه، لذا همست تسأله مستفسرة في توجس :
-(( قصدك إيه يا جواد؟.. إيه اللي هيخلص ))..
صمت مطولًا حتى تيقنت من تعمده الصمت كل تلك المدة للتلاعب بأعصابها وقد نجح في مقصده إذ همست اسمه متوسلة تحثه على الإجابة، فأردف يقول موضحًا :
-(( قصدي أني كلمت والدك من شويه.. واستأذنته تروحي معايا البيت من الليلة.. واتفقنا بعد ما أمورنا تستقر سوا نعمل حفلة جواز صغيرة في البيت عندنا وهو وافق ))..
تشتت عقلها تمامًا وهدر قلبها بداخل أضلعها، تكاد تشعر بطنين الدماء الساخنة صم أُذنيها وقد انفصلت عن العالم وكل ما له علاقة بالحياة وبقت كلماته تتردد بداخل دهاليز عقلها مرارًا وتكرارًا، وبعد فترة من الضياع والمحاولة البائسة للسيطرة على جسدها وكل ما يمر به، همست تسأله في ارتعاش :
-(( أنت قلت كده لبابا!.. ووافق؟! ))..
في تلك اللحظة كان صوته الحريري الدافئ يداعب دواخلها، كما يداعب النسيم أوراق الشجر، مجيبًا في ثقة :
-(( آه طبعًا وافق. إيه السبب اللي هيخليه يرفض.. أنا قلتله أني محتاجك معايا وخصوصًا الفترة دي عشان لينة.. وبعد ما اقترحت عليه فكرة الحفلة رحب.. فحضري نفسك وبليل همر عليكي أخدك من البيت ))..
هل تحلم؟!.. نظرت حولها في كل اتجاه، ثم ضربت شطر وجهها وقرصت جلدها كي تتأكد من يقظتها!، إذًا أي جنون قد أصابه حتى يتحدث مع والدها في ذلك الشأن وهما من اتفقا مسبقًا على صورية تلك الزيجة!.. ومدفوعة بغضبها من استخفافه بأعصابها ومشاعرها المتنامية، هتفت معترضة في غضب أثار حنقه :
-(( بيت مين وحفلة لايه!!.. جواد أنت اتجننت!.. بيت إيه ده اللي أروحه معاك وبأي مناسبة! ))..
أجابها في نبرة خافتة ولكنها جامدة قاطعة أرسلت قشعريرة باردة إلى جلد ذراعها العاري :
-(( بمناسبة أني جوزك.. ولا نسيتي؟ ))..
لم تعد تحتمل كل هذا الضغط، يكفيها توترها في حضرته وعذابها في غيبته، حَقًّا سأمت واكتفت من تلاعبه بها، فتارة يتعامل معها كما العاشقين ويهمس لها بما يقطع الأنفاس، وتارة يتفوه بقول جاف فيجرحها حتى وإن كان دون قصد، كما الآن، فصاحت ترفض في حدة :
-(( جوزي على الورق وبس.. ولفترة مؤقتة.. وبما أنك فتحت الموضوع ده أنا بليل لما هروح هبلغ بابا أني مش مرتاحة ومش عايزه أكمل.. وكده يبقي خلصنا ))..
صمت مشحون لا يقطعه سوي أنفاسه المثقلة انتقل إليها عبر أثير الهاتف، يليها صوته الغاضب يقول في خشونة أرعبتها :
-(( هنشوف كلام مين اللي هيمشي يا غفران.. ولو وصلت هشيلك غصب من بيتك لبيتي ))..
قبل أن تفتح فمها للاعتراض أو تتيح لها الفرصة في جولة جديدة من الجدال، كان قد أغلق الهاتف في وجهها، فأخذت تلعنه في سرها متوعدة له بأشد أنواع العذاب، ذاك المتبجح المغرور من يظن نفسه؟ هل هو محور الكون وهي تدور في فلكه حتى يأمرها فتطيعه!، أو تنتظر طلبه الأحمق فتركض خلفه!، إن كان هذا ظنه بها فهو حتمًا واهم وسيري من منهم أشد عنادًا وإرادة.
*****************************
في أحد الشقق الفندقية الخاصة.......
جلس يفرك وجهه في توتر وهو يعاود محاولة الاتصال مرة بعد مرة دون رد، الأمر الذي زاد من حنقه وجنونه خاصةً وقد انغلقت كافة السبل أمامه وتخلى عنه الجميع فور تورطه في قضية الاغتصاب، بالكاد استطاع الخروج بكفالة ومراوغة القضاء فيما نسب إليه من تهم، أما الآن كل ما يشغل عقله ويؤرق مضجعه المعلومات التي وصلت إليه عن تحرك أحد نواب مجلس الشعب ضده..
ومع نفض الجميع يدهم عنه وجد نفسه يقف منبوذًا في العراء ينتظر هبوب العاصفة التي ستقتلع جذوره من أرضها إن لم يتحرك سريعًا...
فاندفع يضع في نفاذ صبر شريحة الهاتف الجديد التي ابتاعها من أحد منافذ البيع الغير مرخصة، ثم أخذ يطبع رسالة مهددة قبل أن يضغط سر الإرسال وينتظر النتيجة، وبالفعل ما هي إلا عدة دقائق بسيطة حتى ارتفع رنين هاتفه في اتصال ملح علم هوية الطالب رغم عدم ظهور الرقم، وكرد فعل مبدئي على كل ما لاقاه منه في الأيام الطويلة المنصرمة التي قضاها في محاولة التواصل معه، رفض المكالمة عدة مرات، قبل أن يقرر الإجابة قائلًا في استهزاء :
-(( أخيرًا الباشا أفتكر نادر!.. ولا الخوف بيخلي الواحد يفتكر اللي اتعمد ينساه! ))..
صاح الرجل الهام مجهول الهوية يسأله من الطرف الآخر في ضيق :
-(( خلص يا نادر.. عايز مني إيه بالظبط ))..
هتف يجيبه في عدائية وازدراء :
-(( عايز إيه!!.. بقولك اتورطت في القضية اللي أنت كنت السبب فيها بتعاملك الززفت مع البت إياها واسمي اتجاب في الرجلين والدنيا كلها اطربقت فوق دماغي في لحظة وأنت تقولي عايز إيه!.. عايزك تحللي المشكلة وتخرجني منها عشان ارجع لشغلي ))..
صمت الرجل لوهلة وكأنه ينتقي كلماته قبل أن يقول مراوغًا على مضض :
-(( مانا قلتلك هحاول أخرجك بس اديني فرصة ومتتصلش بيا خالص الفترة دي ))..
قاطعه يهتف في حنق :
-(( مانا سايبك شهر ونص عملت إيه يعني.. سبتني مني لنفسي ولولا علاقاتي اللي بيها عرفت آاجل القضية كان زماني مرمى في الحجز.. وأنت بتتهرب مني.. حتى التليفون مش بترد عليه! ))..
تذبذبت نبرة الرجل وقد ظهرت إمارات القلق جلية في نبرته خصوصًا عندما همس يقول في توسل :
-(( نادر أرجوك أنت عارف وضعي حساس أزاي.. لو أي حد اكتشف علاقتي بيك ولا تورطي في القضية دي سمعتي هتبوظ ومش بعيد اتفصل من المجلس بفضيحة )).
هنا هتف نادر يقول محذرًا في نبرة جدية قبل أن يغلق الهاتف ناهيًا بذلك النقاش :
-(( يا باشا اللي عندي قلتهولك في الرسالة.. لو وقعت اسمك أول واحد هيتجاب في الرجلين.. وهطلع اللي عندي صوت وصورة وعلي عينك الفضيحة يا تاجر.. مش هعيد كلامي مرتين.. سلام ))..
**************************
في المساء.. بداخل منزل غفران..
عادت إلى منزلها ليلًا مستنفذة الطاقة خائرة القوى، كل ما تريد فعله هو إسكات معدتها التي تزمجر طالبة حصتها من الطعام، ثم ارتداء منامتها القطنية والارتماء فوق فراشها الوثير بعد أخذ حمام دافئ يزيل عن عنقها تشنجه من كثرة الانحناء فوق ملفات موكليها التي لا تنتهي...
وما أن خطت قدماها داخل الممر المؤدي إلى غرفة الاستقبال حتى تهادى إليها صوته العميق يتسامر مع والدها والذي كان يضحك على دعابة ما ألقاها، بالطبع ومن غيره يمكن أن يكون خطيرًا إلى تلك الدرجة بجمعه الجد والهزل، القوة واللين، الصبر والصرامة
أما ما يكلل كل ذلك كالتاج فوق رأس شخصيته هي الشهامة
نفضت رأسها للمرة الأخيرة تود وضع حد لانسياق قلبها خلف رغباته التي تزداد مع مرور الوقت يتمنى صحبته، لا تريد معايشة معاناة الماضي والهجران مرة أخرى، يكفيها عذاب والبداية تأتي من تلك المواجهة، أن أراد مجابهتها فليتحمل منها ما رفضه وهنا، في دارها وأمام والدها...
وبكل تلك المشاعر التي تغلى وتمور بداخلها، اندفعت تقتحم غرفة استقبال الضيوف قبل أن تتسمر مكانها فور رؤيته يحتجز طفلته الصغيرة بين أحضانه والتي ما أن لمحتها حتى قفزت تاركة ذراعي والدها، تركض نحوها في تحيية حافلة استدعت الدموع إلى مقلتيها في الحال، فسارعت تنحني بجسدها وتفتح كلا ذراعيها كي تستقبل الجسد الصغير بداخلهم، والتي كانت تُتمتم بصوتها الطفولي الرائع :
-(( غفران.. بابي قالي أنك هتيجي البيت تعيشي معانا ))..
عادت تنتصب في وقفتها بينما ذراعيها تقبض على الطفلة بداخلهما وكأنها كنزها الثمين وأغلى ما تملك، تحاول جاهدة السيطرة على الدموع التي أوشكت على السقوط في غزارة قبل أن تسألها بصوت مرتعش مليء بالعبرات :
-(( أنتِ عايزانى أجي معاكم؟! ))..
حركت الطفلة رأسها مؤكدة ثم مالت تتكأ برأسها على كتف حاملتها كما طلب منها والدها الفعل وذكرها طوال الطريق....
لم يكن ابتزاز عَاطِفِيًّا... هذا ما برره لنفسه وهو يرى حالة الخضوع التي تمر بها وقد نجحت خطته، كل ما في الأمر أنه رجل أعمال جيد، يعلم مداخل كل شخصية ويعرف جيدًا أن تلك العنيدة الواقفة قبالته لا يمكن السيطرة عليها بالقوة إطلاقًا، بل بالحب
وهذا هو العرض الذي قدمه لها وقبل أن تجد الطريق للسيطرة على مشاعرها، عليه انتهاز فرصة إنزال دفاعاتها والتحرك قبل إعادتها رفع كل حصونها أمام وجهه، لذا تحدث يطلب من والدها في رجاء :
-(( عمي بعد إذنك.. محتاج أتكلم مع غفران دقيقتين بس على انفراد.. مش أكتر من كده ))..
حرك والدها رأسه موافقًا ثم تحرك وتركها بمفردها، تقف قبالته وتراقب بعدستيها اقترابه منها، بينما قبضتها تشتد فوق خصر طفلته كعلامة على عدم انتواءها تركها، فهمس يقول مطمئنًا بصوته العميق المتحشرج :
-(( خلي لينة معاكي.. هما كلمتين بس هقولهملك وبعدها قرارك بإيدك.. أنا مستحيل أغصبك على حاجة أنتِ رفضاها ))..
اتسع بؤبؤ عينيها تفاعلًا معه، الأمر الذي زاد من شجاعتها، إذا همس يقول في تروى متعمدًا ترقيق نبرته ولف ذراعه حول جسد صغيرته وصولًا إلى ظهر زوجته :
-(( أنا مش عايز أنفصل.. عايز فرصة نعيش حياتنا فيها سوا.. احنا ال٣.. كعيلة حقيقية.. مش تمثيل ولا كده وكده.. أنا شاكر للقضية أنها سرعت الأحداث مش أكتر.. لأن من جوايا كنت عارف أن اللحظة دي هتيجي هتيجي.. القضية مش اكتر من سبب للي كنت ناويه ))..
زفر مطولًا قبل أن يضيف في توتر جعل زفيرها يتصاعد في المقابل تجاوبًا معه وتأثرًا به :
-(( خلينا ندى لبعض فرصة زي أي اتنين متجوزين طبيعي ونشوف هيحصل إيه.. من غير تسرع ومن غير غصب.. كل اللي طالبه أنك تيجي تعيشي معايا وتتعودي عليا وعلي لينة وبابا وماما.. وبعدها شوفي قرارك إيه.. واعتبريني هنا العضو الخامل.. اللى تحت أمرك لحد ما أسمع موافقتك واشوفها في عينك.. بس لو موافقة بشكل مبدأي يبقي تعالي روحي معانا النهارده ))..
أنهى جملته بانحناء جذعه، وطبع قبلة عميقة فوق شعر طفلته أولًا، ثم فوق وجنة غفران التي كانت في حالة من عدم الاستيعاب أو ربما الذهول، وختمها بقبلة ناعمة علي طرف شفاها قبل أن يعود إلى موضع وقوفه الأصلي مبتعدًا عنها، ثم قال في ترقب :
-(( مستنين ردك ))..
تعمد إدخال طفلته في المعادلة للضغط عليها، وها قد أحرز هدفه إذ تحركت تضع الصغيرة بين ذراعيه، وعندما عقد حاجبيه معًا في حيرة، همست تقول في نبرة مبحوحة وابتسامة خفيفة :
-(( هروح أحضر شنطتي ))