رواية وبالحب اهتديت
الفصل الاول 1
بقلم سلمى خالد
» هُدايا وهُداكِ وبينهما العشق»
(مُقَابَلَة حَادَّةٍ)
تصبح الحياة أكثر ألمًا عندما تحاول الهروب من جرحٍ غائرٍ بداخلك، ولكن مهما طال الطريق ستقع بمواجهة هذا الجرح المليء بذكرياتٍ قاتلة، وستصبح المواجهة أكثر ألمًا.. قسوة.. خسارة!
تطلعت نحو الطبيب بصدمةٍ وعينيها تلتمعان بقهرٍ على ابنتها، بينما تقدم الطبيب من فاطمة حتى وقف أمامها مباشرةً يردف بترقب يشير نحو ناهد:
_ مش عارفة مين دي يا فاطمة؟!
نظرت فاطمة نحو بتشويشٍ، يمر شريطًا سريع أمام عينيها لها، أمسكت برأسها في قوةٍ ثم قالت بألم غلب كلماتها:
_ مـ.. ماما.
تساقطت الدموع من عيني ناهد، تتنفس بصعوبةٍ من الخوف، في حين أكمل الطبيب بسؤالٍ آخر عن يقين مُشيرًا نحوها:
_ طب ومين دي؟!
ادارت فاطمة رأسها تنظر نحو يقين التي أحمر انفها وفمها من أثر البكاء، ثم قلت بعدما تذكرت كلمة مميزة:
_ وجه الأرنب.
ضحكت يقين وسط دموعها المتساقطة بغزارة وكأن عينيها سحاب فاض بيه فأمطر بقوة، بعد ذكرها للقب الخاص بهما، اومأ الطبيب براحةٍ، ثم تمتم بهدوءٍ:
_ طب أنتِ عارفة أنتِ مين؟!
اومأت فاطمة بإيجابيه، تجيبه بعدما خف ألم رأسها:
_ آه أنا فاطمة محمد.
تنهد الطبيب براحةٍ كبير، ثم أردف أخر سؤال:
_ طب النهاردة موافق كام؟!
نظرت له بتشويش، ثم هاجمها ألم رأسها مجددًا ولكن بعنفٍ شرس، تردف بألمٍ وهي تمسك برأسها بقوةٍ:
_ مش عارفة.. آآآه.
:_ أهدي يا فاطمة خلاص مش مهم تفتكري.
قالها الطبيب بنبرة قلقة عندما انكمشت فاطمة على نفسها بألمٍ، ثم بدأت تردد بتشنج:
_ 4/8/2022.
وقعت صدمة على مسمع الجميع، فكانت بمثابة صخرة حادة قُذفت فوق رؤوسهم ليقفوا بجسد متخشب، فقد فقدت من ذاكرتها عامين كاملين، أشار الطبيب لأحد الممرضات بأن يحضروا حقن مهدئة، واسرعوا بحقنها كي تهدأ، لتمر دقائق تهدأ تشنجات جسدها التي ازدادت منذ لحظة سؤاله.
خرج الطبيب ومعه ناهد وشقيقتها اللتان لا يزالان أسفل تأثير تلك الصدمة، حتى تحدث الطبيب بنبرة جادة مهتمة:
_ هي الآنسة فاطمة تعرف خطيبها من امتى؟!
فاقت يقين من شرودها عندما وقع السؤال على مسمعها، لتجيبه بتأكيد:
_ من سنتين بظبط.
اومأ الطبيب بإيجابية، ثم باغتها بسؤالٍ آخر:
_ طب ممكن تحكي تفاصيل الحادثة؟!
اومأت يقين بإيجابية، ثم اجابته بأعينٍ تدمعان حزنًا:
_ أنا معرفش تفاصيل أوى لأني يومها كنت في البيت بس هحكي اللي شوفته.. أحمد وفاطمة اتخطبوا من سنتين وفاطمة كانت بتحبه أوي لأنه كان حنين عليها وعوضها عن موت بابا الله يرحمه وكذلك الوضع مع أحمد كانت فاطمة كل حياته لأنه مقطوع من شجر، بس اتخانقوا قبل الحادثة بيومين خناقة كبيرة واتخاصموا وكانت فاطمة اللي غلطانة عشان في شاب وقفها وقعد يتكلم معاها وهي ردت بعفوية وأحمد حذرها إنها متكلمهوش، المهم هي قررت تعملوا مفاجأة وتصالحوا في مطعم وظبطت كل حاجة ليه بس الطقم بتاعها اتبهدل و روحت غيرت بسرعة بس كانت بعتت لأحمد اللوكيشن المطعم، وقالتله أنها ممعهاش فلوس وصاحب المطعم رافض يسيبها تخرج وبعدها خرجت وأنا كنت قاعدة في البيت بس فجأة رنت عليا وهي منهارة من العيط وبتقولي أنا قتلت أحمد وبس معرفش حصل إيه لانهم نقلوا أحمد وهي للمستشفى.
نظر لها الطبيب قليلًا ردد بشكٍ:
_ أحمد جالنا وهو متوفي من حادثة.. بعد نزيف حاد في المخ.. ودا من خبطة كبيرة على دماغه، وكسر في ايده الشمال.. هي فاطمة معاها عربية وبتعرف تسوقها؟!
اومأت يقين بإيجابية، ليسترسل الطبيب بتوضيح:
_ احتمال تكون فاطمة خبطت أحمد بالعربية بس غريبة لأن الكشف أكد أن اللي كانت بتسوق العربية مكنتش متحكمة فيها خالص.. المهم فاطمة دلوقتي فاقدة جزء من الذاكرة.. عقلها مش قادر يستوعب إنها كانت السبب في موته وعشان كده قرر يحذف الجزء اللي فيه أحمد من أول لما ظهر في حياتها لحد الآن.. أنا هبعتلك رقم دكتورة نفسية تتابعي معاها بس من غير ما فاطمة تعرف لأن واضح أن لو افتكرت هيحصلها انتكاسه ومضاعفات ومش هنعرف نسيطر عليها.
اومأت يقين بإيجابية، في حين وجه الطبيب حديثه لناهد التي تذرف دموعها بصمتٍ:
_ مدام ناهد أنا هكتب تقرير بحالة فاطمة وهتدفعوا كفالة ليها وهتخرج من القضية دي والأفضل تاخديها وتسافروا لأي مكان بعيد عشان تريح اعصابها قبل ما تدخل في فترة العلاج.
نظرت له ناهد بأعينٍ حمراء، تردف بصوتٍ مبحوح:
_ حاضر.
غادر الطبيب كي يكتب تقريرًا بحالة فاطمة وتنتهي تلك القضية بكفالة ستدفعها للحكومة، بينما ذهبت معه ناهد لإنهاء باقي الاجراءات في حين بقت يقين مع شقيقتها بالغرفة، تمسك كفها قائلة بحزنٍ:
_ حصل ايه بس وقت الحادثة يوصلك للحالة دي!!
************
سار بعكازه في خطواتٍ بطيئة، لا يزال يحاول الاعتياد عليه، فتكمن الصعوبة في الاعتياد على الجرح وليس الجرح نفسه، ويكمن الجرح فيما من هو سبب في هذا الجرح وليس بما فعله الجرح.. فالاعتياد والمسبب للألآم هما أصعب وجهان يمكن رؤيتهما.
وقف غفران أمام تلك البركة الكبيرة من الماء، فلابد من أن يسير بجانبه وهو غير قادر على ذلك سيقع أرضًا أن فعلها، استمع لصوت أحد الرجال العابرين بالقرية:
_أساعدك يا غفران بيه؟!
نظر له غفران بأعينٍ جعله يرتد للخلف، يردد بنبرة قاسية حادة:
_ ومن امتى بعوز مساعدة من حد.. خليك في حالك واخفى من وشي حالًا.
هرول الرجل مختفيًا من أمام هذا الصقر الجريح، ليعود غفران متأملًا تلك البركة ثم قرر أن يسير بها فلن يسمح بوقوعه على الأرض، تلوث نصف بنطاله من الطين وحذاؤه ممتلأ بالمياه، ولكن تجاوز تلك البركة بصعوبة، أغمض عينيه بألم من التشنجات التي اصابت قدمه ثم قرر الرحيل إلى المنزل سريعًا كي لا يراه أحد ضاغطًا على قدمه بقوة، وبالفعل وصل إلى منزله يصعد للغرفة دون أن يدع فرصة للحديث مع أحد، أغلق باب غرفته ورمى هذا العكاز بقوة، يتقدم بتلك العرجة الواضحة نحو المرآة يتطلع لشكله، فوجهه متصبب عرقًا يعتريه التعب، ملابسه التي اتسخت من الطين والماء، انفاسه التي يحاول أخذها بعد تلك الحالة الانفعالية الشديدة التي يمر بها، أمسك غفران بتلك الفازة الموجودة على السراحة ثم ألقها بقوة على المرآة صارخًا بقوة يخرج انفعالاته، تلتمع عينيه بالدموع ولكن سرعان ما اختفت تلك الدموع يمنعه كبريائه من النزول وحل مكانها ظلام حالك مخيف، يعلن أن أول فتاة ستقع بين برثن هذا الوحش سوف يُقضى عليها.
انطلق إلى المرحاض يبدل ملابسه، يستمع لصوت طرقات والده وأخيه الصغير خلف باب غرفته المغلق، ابدل ملابس وألقى الأخرى بسلة المهملات، لا يريد تذكر ما حدث معه اليوم، ثم انطلق نحو الباب يسير فوق الزجاج المكسور لينغرس بقدمه بقوةٍ.
لا يعلم أ هو ينتقم من ذاته لأنه أحبها أم لماذا! فتح الباب وعاد مجددًا بخُطى تزداد عرجتها بسبب انغرس الزجاج بها، جلس على الفراش يفرد قدماه على السرير وجسده بالكامل في حين دلف خليل وعامر ينظران بصدمةٍ للزجاج المتناثرة على الأرض والمرآة المكسورة، قاطع صدمتهم صوت غفران يردد ببرود:
_ خلي حد ينضف الأزاز دا ومحدش يغير المراية دي سبوها زي ما هي.
نظر عامر نحو ثم قال بفزعٍ:
_ ألحق يا حاج ابنك سايح في دمه.
انتفض خليل بقلقٍ ينظر نحو غفران، ثم رفع هاتفه يتصل بالطبيب واخبر أحد السيدات بالمنزل أن تأتي لتنظف الزجاج، وبالفعل أتت سيدة وبدأت بالتنظيف حتى انتهت وأتى خلفها الطبيب ينزع عن غفران الزجاج الموجود بقدمه، لم تتغير ملامح غفران يثبت لذاته أن هذا الألم ليس سوى قطرة مما فعلته ابنة خالك، همس عامر لوالده بذهول:
_ ألحق اكشف على احساس ابنك عشان شكله بقى حلوف.
رمقه خليل بنظرة حادة، ثم قال بحدة:
_ اخرس خالص بدل ما اجيب ازازة دي ارشقها في رقبتك.
اتسعت عين عامر بذعرٍ يردد وهو يشيح بيده:
_ أنا ايه اللي وقعني مع عيلة كلها جزارين كده.
سار عامر بطرقة المؤدية للردهة ولكن صوت جبران العالي وكأن هناك من سيقتله فورًا جعله ينتفض من مكانه ثم هبط على الأرض يزحف إلى الطاولة بسرعةٍ حتى اختبأ أسفل يختفي من أمام جبران، يهمس بداخله:
_ يارب يارب ما يجي جنب الترابيزة المرة دي.. أنا كل مرة يمسك في حاجة ويحدفها ترشق فيا لما هتجلط منه.
انتفض من مكانه بعدما خرج جبران يهدر بعصبيةٍ مفرطة:
_ مين دخل الأوضة! مفيش غيرك يا عامر اللي دخل بجزمته في الأوضة وساب التراب دا صدقني مش هرحمك.
نظر عامر بسخطٍ على شقيقه ثم بصق عليه يردد باستحقار:
_ اتفوه على دي اسباب وتفاهتك يا أخي.
لم تمر دقيقة وارتعد من مكانه بعدما ركل جبران الطاولة بقوة، لتهتز بقوة ثم مالت بجانبها لتسقط فوق رأسه بعنفٍ، صرخ عامر متألمًا، في حين استدار جبران نحوه يمسكه من تلابيب ثيابه متمتمًا بشرسة:
_ هو أنا يلا مش قايلك متدخلش الأوضة بتاعتي.
وضع عامر يده على رأسه يتأكد من عدم وجود دماء، يتمتم بخوف:
_ مدخلتش دا أبوك كان عايزك ودخلت اشوفك من على العتبة وملقتكش ومشيت… أقسم بالله مشيت.. وملمستش حاجة لو مش مصدق هات المصحف واحلف عليه.
ألقه جبران بقوةٍ على الأرض ثم تركه وغادر نحو غرفته لينظف هذا الجزء الذي لمسه عامر، يشعر باشمئزاز من أن يلامس أحد اغراضه، في حين صرخ عامر بألمٍ يمسك بظهره قائلًا:
_ طب اقول الله يخربيتك ولا اشتمك ولا ادعي عليك وأنتِ ربنا مبتليك اساس ولا أقول ايه..
نهض من مكانه يمسك ظهره بيد واليد الأخر على رأسه يأن بألمٍ طفيف منطلقًا نحو غرفته، يدعو الله بأن يسترد حقه.
تلك الأحداث مرّت أسفل نظرات الجد جبران، يتأمل ما يحدث وعلى ثغره بسمة ساخرة، حرك رأسه بغموضٍ ثم دلف لغرفته ولكنه أرسل إلى ابنه خليل بالحضور.
**********
كانت يقين تساند فاطمة في الحركة، والدلف إلى الشقة، في حين تسير خلفهم ناهد وهي تتأمل ابنتها بأعينٍ يمتلأها الحزن، استدارت يقين بجزعه متمتمة:
_ ماما متنسيش ملك!
اومأت ناهد بإيجابية، ثم صعدوا ثلاثتهم إلى العمارة التي يقطنون بها ووصل إلى الشقة، دلفت يقين ومعها فاطمة لها، في حين طرقت ناهد على باب الشقة الخاصة بجارتها، وما ان فتحت حتى ابتسمت لها ناهد بحب متمتمة:
_ شكرًا حقيقي على تعبك معايا.
اجابتها بودٍ:
_ مفيش حاجة.. وملوكة زي بنتي برضو.. وهي كانت هادية خالص.
نظرت ناهد نحو ملك لتجدها تجلس على الأريكة بملامحٍ جامدة خالية من أي تعبير، أشارت لها ناهد بأن تأتي معاها وبعد عدة مرات من الأشارة تحركت معها ملك ببطءٍ، تسير نحو شقتهم، وما ان دلفت حتى دخلت لغرفتها سريعًا تاركة والدتها بالردهة، جلست ناهد على الأريكة ثم وضعت رأسها بين راحتي يدها تبكي بألمٍ على ما وصل ببناتها.
**********
دلف خليل إلى غرفة والده بتوترٍ فيبدو أن ما يريده سوف يكون صعبًا، نظر نحوه بتوترٍ، في حين هتف الجد جبران بحدة:
_ حال عيالك دا عجبك!
ظهرت سحابةً من الحزن على حدقتيه، يردد بنبرة حزينة:
_ لا طبعًا يا با...
قاطعه الجد جبران بنبرة حازمة قوية:
_ يبقى خلاص انتهى الأمر.. من بكرة هجيب اختك وبناتها اللي فشلت هي كمان في تربية عيالها.. وهنعيش سوا وأنا بنفسي هتولى أمر تربيتهم كلهم اظاهر إن لما ربيت ولادي نسيت اعلمهم ازاي يربوا ولاده مش يسيبولهم الحبل لحد ما اتقطع.
نكس خليل رأسه بحزنٍ، بينما أشار له الجد بالخروج مرددًا بسخط:
_ أنا هسافر القاهرة وراجع تاني في نفس اليوم لأن للأسف فقدت الثقة في انك تعرف تسيطر على الوضع من تاني… اتمنى ملقيش المسخرة اللي شايفها النهاردة في الوقت اللي هسيبك فيه.
أومأ خليل بإيجابية ثم غادر من الغرفة تاركًا والده يستعد، يضع يده على قلبه بعدما مر بتلك النغزة القوية، نظر للأعلى يشعر بثُقل الحمول على عاتقه ولم يعد قادرًا على حملها.
***********
استعد الجد جبران وانطلق بقطار الفجر المتجه نحو القاهرة، يفكر بحلٍ لأحفاده، فمن يرى حالهم سيسخر بشدة، فالأول أعرج والأخر يعاني من وسوس قهري والثالث يلهو ولا يعلم كيف يحمل مسؤولية لذاته، أما ابنته فالأولى بحادث ولا يعلم عواقبه والثانية لا تفعل شيء بحياتها سوى اللهو واللعب والضحك، والثالثة تعاني من توحد، زفر ببطءٍ لعله يخفف على قلبه المنفطر لأجلهم، نظر للساعة ثم إلى المحطة ليجد أنه يجب ان يستعد فقد سرقه الوقت ولم يشعر بمرور اربع ساعات.
توقفت السيارة أمام العمارة التي تقطن بها ابنته، ثم صعد الدرجات وطرق الباب وما هي إلا دقائق حتى وجد الباب يُفتح ويخرج دخان كثيف من الشقة، اتسعت عينيه بصدمةٍ، في حين هتفت ناهد وهي تسعل بقوةٍ:
_ ازيك يا بابا.. تعالى اتفضل.
نظر لها بسخرية بعدما تخلص من صدمته، يشتم رائحة البخور التي تفوح من الشقة، وعلم أن ليقين يد بالموضوع فهي عاشقة للبخور، ردد بسخطٍ:
_ بنتك هتولع فيكم! وازاي تولع بخور وملك معاكم!
نظرت له بحرجٍ تجيبه في محاولة التخلص من سعالها:
_ملك وديتها مركز للعلاج من التوحد وفي الوقت دا يقين بتولع البخور.
دلف جبران إلى الشقة وما أن رأته يقين حتى قفزت بسعادة متمتمة وهي تركض نحوه تحتضنه بقوة:
_ جدو وحشتني.
لا يعلم لِمَ خانته تلقائيته وابتسم لها واحتضنها أيضًا، يردف بنبرة حنونة:
_ وأنتِ كمان يا حبيبة جدو.
نظرت له يقين وهي تزداد من ضمه قائلة:
_ اقعد معانا يومين يا جدو طالما وحشتك كده.
ربت جبران على ظهرها بحنوٍ، يردد بنبرة ذات مغزى:
_ أنتِ اللي هتيجي يا يقين تعيشي مع جدو أنتِ واخواتك.
نظرت ناهد بصدمةٍ لوالدها فهي لم تذهب إلى البلدة منذ خمسة عشر عامًا، في حين رفعت يقين رأسها تنظر نحو جدها بسعادة قائلة:
_ ايوة بقى يا جدو يا مدلعني.. هروح اقول لفاطمة.
ركضت لغرفتها تخبر شقيقتها، بينما نظرت ناهد نحو والدها قائلة بصدمةٍ لا تزال عالقة بها:
_ نيجي أزاي يا بابا؟!
اجابها بسخرية:
_ زي الناس هتيجوا تعيشوا معايا مستحيل اسيبكم هنا وخاصةً انك اثبتي فشلك في تربية البنات.
أدمعت عين ناهد بألمٍ من حديثه، في حين رق قلب جبران لها لم يستطع الضغط عليها بعدما رأى معالم وجهها المتهالكة من التعب، تقدم منها يسحبها بأحضانه، بكت ناهد بداخل احضانه وكأنها كانت تنتظره منذ زمن، تتمسك بملابس جبران الأكبر مثل طفلة، تشهق وسط دموعها التي فاضت بكثرة، في حين قلق جبران عليها بشدة، وبدأ يربت على ظهرها يرتل بعض الآيات القرأن الكريم لعلها تهدأ من روعها.
مرت وقت كانت لا تزال ناهد داخل أحضان والدها، ولكنهما يجلسان على الأريكة، ليهتف جبران بحنوٍ:
_ مالك يا ناهد؟!
شعرت بحاجاتها للبوح لتخبره بما مرت به بالفترة السابقة، فأشفق عليها جبران وهتف وهو يربت على كتف ابنته بحنانٍ:
_ خلاص يا بنتي دي فرصة نريح اعصاب فاطمة في البلد شوية.. وهنحجز لملك في مركز هناك وننقل كل حاجة عندنا.. مش هينفع تشيلي الحمل لوحدك وتعيشي في محافظة أنتِ والبنات لوحدكم ولا سيما ملك وحالتها الخاصة.
اومأت ناهد بموافقة فهي بالفعل في أشد الحاجة للابتعاد عن القاهرة، نهضت تعد حقيبتها وحقيبة ملك، بينما اعدت يقين وفاطمة أغراضهما واتت ملك من المركز بعدما أخذت جلستها، ثم انطلقوا جميعًا إلى البلدة.
**********
وصل الجميع إلى المنزل بالبلدة، يدلف جبران الأكبر وخلفه ناهد التي تمسك بالفتيات، وقفوا جميعًا بالردهة، وما هي إلا دقائق حتى أتى خليل سريعًا ينطلق نحو شقيقته يضمها بحبٍ، في حين ابتسمت ناهد تحتضن شقيقها بسعادة مرددة:
_ وحشتني يا خليل.
تراجع خليل مردد بحب وهو يضم فاطمة ويقين بأنٍ واحد:
_ وأنتِ أكتر يا ناهد.. عاملين إيه يا بنات.
اومأت الفتيات بخجلٍ له، في حين وقف خليل أمام ملك رفع كلتا يديه لها قائلًا بحنان:
_ عاملة ايه يا ملوكة؟
نزعت ملك سمعاتها تردد بكلمةٍ جامد:
_ تمام.
ثم صافحت خليل ببطءٍ ونزعت يدها سريعًا، هبط عامر من أعلى الدرج يصرخ بحماسٍ:
_ عمتـــــــــــــو.
ولكن قبل أن يكمل نزوله وضعت ملك يدها على اذنها بقوةٍ، تتراجع إلى الخلف، تدمع عينيها قائلة بألمٍ:
_ لا لالا.. صوت عالي مش عايزة صوت.. ابعد عني.
وقفت ناهد أمامها سريعًا تحاول أن تمتص رعبها، تضع السماعات على اذنها مجددًا قبل أن تستمع لصوتٍ آخر وتفقد السيطرة عليها وبالفعل بدأت تهدأ ملك قليلًا في حين شعر عامر بحرجٍ مما حدث وتراجع إلى غرفته ما أن رمقه والده بنظرةٍ قاسية.
نظر جبران الأكبر لهم ثم ردد بحنانٍ لهم:
_ يلا يا ناهد اطلعي اوضتك وخدي مالك عرفيها اوضتها وأنا هقول للبنات على اوضهم.
اومأت ناهد برأسها ثم انطلقت نحو الطابق الثاني في حين استرسل جبران يتحدث للفتيات قائلًا بجدية:
_ فاطمة اوضتك هتلاقيه اخر الطرقة على الشمال اللي قبل الأخيرة وأنتِ يا يقين اوضتك هتلاقيه تاني اوضة بعد الأولى في أول الطرقة.
ارتفع رنين هاتف جبران، ليتركهم ويدلف إلى مكتبه يتحدث بجدية، في حين نظرت يقين نحو فاطمة متمتمة بحيرة:
_ هو قال تاني اوضة فين؟!
نظرت لها فاطمة بأعينٍ زائغة، ثم قالت بتعبٍ:
_ مش عارفة.. أنا مش فاكرة غير اوضتي
عوجت يقين فمها بضيقٍ، ثم قالت بحنقٍ:
_ ما هو حظي اللي شبه فردة الشراب المقطع اللي لابسها قالي مرة واحدة وأنا بستوعب بصعوبة الاتجاهات.
صعدت كلاهما إلى الطابق الثاني ووصلت فاطمة لغرفتها بينما حاولت يقين أن تعيد حديث جبران ولكنها نست لتردد وهي تتحرك مع حديثها:
_ أول اوضة بعد التانية في أول الطرقة تقريبا.
دلفت للغرفة بهدوءٍ فلم تجد أحد ولكن كانت الغرفة مرتبة بعناية، تعجبت من الطابع الذكوري الموجود بها ولكنها حركت كتفيها بلامبالاة، تقدمت نحو السراحة وامسكت زجاجة العطر وأخذت تشتمها لتجد بها طابع الذكور، وضعتها بإهمالٍ، ثم انطلقت نحو الخزانة لتجد بها ملابس ذكورية ألقت بها على الأريكة الموضوعة بالجانب بالقرب من الشرفة ورددت بتعجب:
_ هو جدو مديني اوضة رجالي ليه؟
:_ مين سمحلك تدخلي اوضتي وتلمسي حاجتي!
انتفضت يقين برعبٍ ما أن رأت ذلك الشاب يقف على اعتاب باب غرفته ينظر لها بأعينٍ كجمرتين من نار، ينتظر اجابتها لينفجر بها، في حين تراجعت يقين بتوترٍ دون أن تشعر حتى سقطت على الفراش لتصبح بصمتها بكل أنشٍ بالغرفة التي يُمنع النظر لها وليس الدخول فقط، فمن يدلفها يعلم أنه لعب بعداد عمره!
**********
وضعت فاطمة اغرضها بخزانتها، وانتهت من ترتيب كل شيء، وقررت الخروج من الغرفة للجلوس مع أحد، ولكن ما أن خرجت حتى تفاجأت بغفران يقف يستند على عكازه بألمٍ ظاهر على وجهه، نظرت إلى الأرض لتجد دماء منتثرة بها، يبدو كأنه قرر التحرك عليها حتى نزف بتلك الطريق، تقدمت منه فاطمة بقلقٍ متمتمة:
_ أنت كويس! رجلك بتنزف!
رفع غفران رأسه ينظر نحو فاطمة أعينٍ شرسة قاسية، يردد بملامحٍ متهجمة ونبرةٍ شرسة يدفعه بعكازه لتقع على الأرض:
_ لو خيالك فكر يقرب مني هيبقى أخر يوم في عمرك.. أخفي من وشي حالًا وإلا..
قاطعته فاطمة وهي تأن بألم قائلة بضيق ممزوج بغضب من تعجرفه:
_ وإلا إيه! أنا مبخفش على فكرة.. ثم اتكلم على أدك الأول.
كانت تلقي حديثها على جرح قدمه ولكن أظلمت عين غفران وهو يظن أنها تعايره بقدمه العرجاء!....