رواية رحماء بينهم الفصل الواحد والثلاثون 31 بقلم علياء شعبان

           

رواية رحماء بينهم

الفصل الواحد والثلاثون 31

بقلم علياء شعبان


                      "كمثلِ الأُترُّجة".

»لا يصحو الوعي فينا إلا بتذوق مرارة التجربة، لا يوجد من يمتلك نُضجًا كاملًا دون أن يخوض».

•~•~•~•~•~•

بقى نظره عالقًا على النوافذ المفتوحة حيث الطابق الذي يعيش فيه صديقه ينتظر إشارة واحدة توحي له بأن الأمور تجري وفق ما يُرام؛ فلم يكُن يستطيع أن يرفض طلبها حينما أخبرته ببكاء وندم أنها لا تريد الانفصال عن صديقه وأن ثمة أخطاء فادحة صدرت منها ويجب أن تُعيد تصحيحها، ترجته مرات كثيرًا حتى أنها تذكرت الحادث السابق وشرعت تسأله بتوجسٍ هل كان هو مُنقذها فعلًا! ولم يزدها الجواب إلا ندمًا على لحظة أشبعته فيها اتهامات مُضللة دون أن تسمح لنفسها أن تتعرف على شخصه النقي.

أغلق "نوح" عينيه في هدوء وبسمة هادئة ارتسمت على شفتيه حينما أُضيئت أنوار الغرفة؛ فعلم أنه التقى بها ويبدو أن ثمة حديث على وشك البدء، في هذه اللحظة أسرع باقتياد السيارة مُبتعدًا على الفور ومُتجهًا إلى بيت المزرعة كي يطمئن الشيخ سليمان على ابنه ويُخبره أنه أراد النوم لفترة قبل أن يأتي إليه.


كانت مشاعرُ "نوح" تتأرجح دومًا بين مُناصرة صديقه والتطلع إلى ضعف امرأة تعود إلى صوابها في ندمٍ، أراد بشدة أن تصفو الأجواء بينهما ويلتقيان في سعادة ورغم أنه يعرف الأخير جيدًا الذي لا يتهاون في حق كبريائه بسهولة ولكنه واثق أن تليد سوف يُفكر ألف مرة قبل أن يكسر بها شيئًا؛ فيموت ولا يمسسها مكروه، أفلا يكون لها عنده خاطر!

•~•~•~•~•~•~•

-تيجي بالسلامة.. هبلغ الشيخ حالًا.. مع السلامة.


أردفت "مُهرة" بتلك الكلمات وهي تتحدث إلى "نوح" الذي أخبرها بخروج صديقه كي تشيع الخبر بين الجميع، ابتهجت روحها وهي تستمع إليه بينما أكمل بهدوء:

-أشوفك على خير.

أغلقت الاتصال ثم هرولت إلى غرفة الشيخ وما أن دخلتها حتى تابعت بحماس شديد:

-أستاذ تليد خغج الحمد لله يا جماعة.


تشخصت الأبصار إليها في دهشة، اِفتر ثغر الشيخ سليمان عن اِبتسامة دافئة دون أن يتكلم في حين تابعت "سكون" بلهفة:

-وهو فين دلوقتي؟!  هييجي على هنا؟؟

مُهرة بهدوء:

-موجود في شقته حاليًا لأنه كان محتاج ياخد غاحة وبكغا هيكون هنا إن شاء الله وباعت لك غِسالة يا شيخ سليمان بيقول لك إنه كويس وإنك لازم تاكل وبكغا هتفطغوا سوى.

سليمان بتنهيدة مرتاحة:

-الحمد لله، المهم إنه بخير.

شروق وهي تدعك كفيها بنفس القلق:

-مفيش أخبار عن وَميض، تليفون عمي علَّام وطنط سُهير اتقفل خالص.

مُهرة بأسف:

-للأسف بس إن شاء الله هتكون كويسة، وَميض تستحق كُل حاجة حلوة.

شروق بتنهيدة مهمومة:

-يارب.

•~•~•~•~•~•~•~•

أصبحت هوسًا بالنسبة له صار يتقفى أي أثر لها من موقع كُتب فيه اسمها أو مجلة أجرت معها حديثًا والغريب أنه لا يجد طيفًا لها حتى، هل هي سرابٌ؟ كيف لشخصية معروفة مثلها أن تتخفى بهذه الطريقة العجيبة، ألم يلتقط لها أحد الصحفيين صورة عُنوة أثناء تواجدها في سهرة ما أو مؤتمر؟! كور قبضة يده يضغطها بقوة فباتت كابوسه حتى أنه توقًا للقائه بها للحد الذي يجعله يقضي كُل وقته في البحث عن معلومة واحدة عنها عبر الانترنت.


دعك مُقدمة رأسه من شدة الصداع ولم يجد بُدًا من استخدام بعض الحيل التي يمتلكها حتى يحصل على صورة لهذه الشخصية أو يلتقي بها، التقط هاتفه المحمول ثم أجرى اتصالًا عاجلًا لثواني قبل أن يقول بلهجة صارمة:

-عايز شخص خبرة من أجهزة التجسس عندك!

صمت لثواني ثم أكمل:

-هيتقفى أثر شخص ويجيب لي معلومات عنه.

سكت مرة أخرى يتيح للأخير الكلام وفي النهاية قال:

-النهاردة يكون عندي، في انتظارك.


لاحت على وجهه مؤشرات حماسية وهو يصل إلى طريقة ناجحة في الحصول على كافة ما يرغبه عنها في غضون سويعات قليلة، في هذه اللحظة طُرق باب مكتبه بقوة ليدخل الطارق دون أن يحصل على الإذن، أطل "عُمر" بكرسيه من وراء الباب ثم توجه إلى مكتب والده قائلًا بصوت هادئ:

-بابا.. أنا عايز أروح لعمي سليمان.. إحنا لازم نكون جنبه في الظروف دي ونتطمن على تليد!

رفع "عثمان" أحد حاجبيه ثم قال بلهجة باردة:

-نكون جنبه ليه؟! إحنا على آخر الزمن نساند إرهابيين؟؟

عُمر بامتعاض واستنكار:

-إرهابيين!!!

عثمان بحدة:

-أه كُل المجلات والصُحف ومواقع التواصل الاجتماعي بتقول كدا!

عُمر متبرمًا في ضيق:

-وضميرك بيقول أيه؟ صل رحمك يا بابا.. جدد علاقتك بأخوك.. محدش هيحبك في الدنيا أده ولا يتمنى لك الخير مهما عاندت وشككت في دا.

هبَّ "عثمان" واقفًا في مكانه وهو يطرق بكفيه بقوة على سطح مكتبه:

-وإنتَ بقى اللي هتديني كورسات في الحياة يا مفعوص إنتَ!!

عُمر وقد استشاط غضبًا من إهانته له:

-أنا بحاول أكون صوت ضميرك وأوعيك لأن دا دورنا تجاهك لكن مش هسمح لك مهما كُنت تكلمني بالإهانة دي.


نبج صوته عاليًا لتأتي والدته في الحال تتساءل بقلق عما يجري بينهما، حدق "عثمان" فيه بحدة قبل أن يصيح بصوت جهوري:

-إنتَ صوتك بيعلى عليا يا عُمر!!.. طيب اسمع بقى.. البنت اللي ملهاش أصل اللي عاوز تتجوزها دي تنساها تمامًا أو خلي عمك سليمان يجوزها لك.

عُمر وهو يصيح باهتياجٍ:

-يعني أيه.. أهل البنت مستنيين زيارتنا.. هو كلام عيال.


في هذه اللحظة رفع "عثمان" ذراعه عاليًا ليسقط بقوة على خد "عُمر" الذي رمقه بعينين جاحظتين مصدومتين فيما تابع "عثمان" بجحود:

-اخرس.. دا آخر كلام عندي ويلا غور من وشي.


جاء "كاسب" فورًا ما أن ارتفعت أصواتهم بصورة كبيرة حتى أنه تابع المشهد من البداية وهو يقف وراء باب المكتب، تأذت مشاعره حينما سمع صوت اللطمة يتردد صداها في الغرفة، لمعت عينا "عُمر" في قهرٍ، استدار بالكرسي فورًا ثم توجه خارج الحجرة ليستقبله "كاسب" ويبدأ في دفع الكرسي بدلًا عنه، في هذه اللحظة التفت "كاسب" بنظراته الحادة والعدوانية نحو "عثمان" يُطالعه لبضع لحظات بعينين يملأهما الغضب والاهتياج وكانت هذه اللحظات كفيلة أن تبعث الرُعب في نفس عثمان الذي لم يفهم سر هذه النظرة العدوانية الكريهة!!

-ليه عملت كدا؟! حرام عليك.. عُمر ميستاهلش منك كدا!


أجهشت بالبكاء وهي تُلقي بنفسها على المقعد في حالة من الحزن والاختناق فيما تابع هو بصرامة:

-ولادي وبربيهم بطريقتي ومحدش يعدل عليا.

نبيلة بضيقٍ تصرخ:

-إنتَ كدا بضيعهم من إيدك مش بتربيهم.

•~•~•~•~•~•~•


خرج من غرفته يتمشى على أطراف أصابعه في توجسٍ بعد أن أختفى الصوت ولم يعُد يسمع لها همهمات أو نحيب كان يسيطر بقوة على أرجاء الشقة بعدما رفض الرضوخ لكلماتها التي تستجديه فيها وطلب الصفح والغفران عما اقترفته في حقه حتى أنها سألته مرات عديدة عن هويتها ومن هي وإلى أي مكان تنتمي؟!.. حاول بكُل طاقته أن يراوغ في الإجابة عن هذا السؤال وقرر الاحتفاظ ببعض الحقائق لنفسه حتى لا تتشوه مشاعرها بشكلٍ عنيفٍ؛ رفض الحديث معها وطلب ذهابها إلا أنها أصرت أن تحصل على أجوبة واضحة مُفصلة لجميع تساؤلاتها وجلست أرضًا وأبت النهوض أو الذهاب وفي هذه الحالة لم يكُن أمامه إلا الفرار منها والتوجه إلى غرفته علها تفهم رغبته في ذهابها وانهاء علاقتهما التي لم تبدأ في الأصل.


انتظر لسويعات قليلة يستمع من خلف الباب إلى صوت شهقاتها العالية المُرتجفة بينما هذه الشهقات المُنكسرة تلعب على أوتار قلبه المُشتعل في حُزنٍ لحالتها؛ لا يعلم هل يواسيها حينما يجور عليها القدر أم يتخذ موقفًا صارمًا كي تُدرك أن الحياة لا تسير على هواها وأن الخاطر ليس بعظمة يُمكن أن تُجبر من بعد كسرٍ!


يرق قلبه لها ويرجف اشتياقًا لقُربها وسجنها بين ضلعيه خشيةً عليها من صدمات قادمة ولكن جُرحه منها مازال حديثًا مُلتهبًا، قرر أن يسترق السمع إلى صوتها وانتظر أن تُغادر قبل أن يضعف ويهرول إليها يحتضنها بقوة حتى تنكسر عظامها أو يُشبع رغبته فيها؛ ولكن ما حدث كان عكس توقعه؛ فلم تيأس تهميشه لها وبقاءه نافرًا من وجودها كما ظنت حينما قرر المكوث في غرفته وبقيت تبكي جالسةً بالأرض تضم ساقيها إلى صدرها وتحيطهما بذراعيها حتى نامت دون أن تعي على نفسها.


تحرك بخطوات هادئة خارج غرفته حتى وصل إلى حجرة المعيشة فوجدها تضع رأسها على ساقيها في إرهاقٍ وقد غطت في سُبات عميقٍ من شدة ما مرت به من ألمٍ نفسي ألتهم طاقتها على الاستمرار، أغلق عينيه بندمٍ لقسوته عليها فحالها يُقهره ولا يمكنه البوح، تحرك بخطوات وئيدة نحوها ثم انحنى يُطالع وجهها الملائكي في حنين ولهفة ويتعجب لها، لم تتغير ملامحها البسيطة عما كانت عليه في طفولتها البتة، لا تزال تحتفظ بكُل تفصيلة ملكتها في صغرها، في هذه اللحظة أراد أن يلمس وِجنتها علَّه يعود بذكرياته لوقت أن كان يُدللها ويلمس وِجنتيها وخصلاتها بعفوية بريئة، تدفعه مشاعره لمعايشة نفس المشاعر معها مرة أخرى والتي لن تتكرر إلا بملامسة وجهها الملائكي وخصلاتها الذهبية الناعمة.


همَّ ثم تراجع؛ همَّ أن يلمس جلد بشرتها ولكنه سحب كفه فورًا يُعاند مشاعره ألا تضعف أمام سحرها الذي يخترق قلبه الذائب في بحور شوقه لها، ابتلع ريقه على مضض قبل أن يهمس بالقُرب من أذنيها في هدوء:

-أُترُچ!!!

توقف لوهلة وهو يتذكر كرهها الشديد لهذا الاسم فعدل حديثه قائلًا:

-وَميض!!

لم يجد ردًا منها؛ فعلم أنها ذهبت في اللا وعي ولا يمكنه إيقاظها مُطلقًا، دعك جبينه في حيرة وقرر أن يهزها برفق هامسًا باسمها:

-وَميض، اصحي!!


لم تستجب لندائه وبقى هو في حيرته حول أمرها ولم يجد في النهاية بُدًا من حملها بين ذراعيه ودثرها في فراشه حتى الصباح، أسرع بوضع ذراعه أسفل ساقيها والآخر ألفهُ حول خصرها ثم حملها على الفور وفي هذه اللحظة سقطت الدُمية من يدها، تجمدت عيناه على وجهها يُطالع كُل تفصيلة به في حب حتى دخل غرفته ووضعها على الفراش ثم ألقى الغطاء عليها بهدوء.


داهمته في هذه اللحظة مشاعرًا مُرتبكةً حول وجود محبوبته بجواره في غرفة واحدة؛ لكم تمنى أن يجتمعا في ظروف مُختلفة؛ أن يذهب إليها باكرًا ويُخبرها أنها حبيبته الأولى والوحيدة والتي علمته كيف يعشق ويتعلق قلبه بشخص آخر دون أن تمتلك هي أية مهارة لذلك وأن قلبه نبض أول مرة حينما حملها بين ذراعيه في طفولتهما فتسعد هي بذلك ويتجدد حُبهما مرة أخرى ثم يتزوجان؛ ليت قصتهما كانت بهذه البساطة ولم يطُل قلبيهما مثقال ذرة من وجعٍ!


لم يستطع النهوض من مكانه وبقى بجوارها يتأملها بلا توقف أو قدرة للسيطرة على مشاعره المتأججة جراء قربها منه لهذه الدرجة، وللمرة الأولى لا يُقاوم قوة سحرها عليه فبدأ يُقرب كفه من وِجنتها، مرر أنامله برفقٍ وكان قلبه يذوب بملامسة بشرتها الناعمة كالأطفال ويقسم في نفسه أنها مازالت تحتفظ بنفس الملمس منذ عشرين عامًا، خفق قلبه بقوة كأنما أوشك على القفز خارج جسده بأكمله، مرر أنامله مرارًا وتكرارًا يملأ الفراغ الذي خلفته وراءها منذ سنوات طويلة وقاسية حتى أنه لامس خصلاتها البارزة خارج حدود غطاء رأسها وراح يمسح عليهم بلُطف واشتياق، ظل على هذه الحالة وكأنه كالمسحورٍ يتصرف دون وعي وينجذب لكُل ذرة تحمل داخله مشاعرًا لها، بدأت أنامله تُداعب شفتيها وفجأة سحب كفه فورًا في لومٍ وتراجعٍ، نهض مُبتعدًا عن الفراش ثم خرج بسرعة ليُقرر إجراء اتصالًا بصديقه للاطمئنان على والده.

-كُنت عارف إنها موجودة؟!

ألقى سؤاله بلهجة حادة ما أن أجاب "نوح" على اتصاله، لم يُنكر الأخير علمه بالأمر وأجاب بشكلٍ صريحٍ:

-أه كُنت عارف لأني وصلتها بنفسي، هتسألني عملت كدا ليه؟!

تليد بحدة:

-ليه؟؟

رد الاخير بحزم:

-لأنك بتحبها ووجع البُعد عنها هياكل في قلبك يا صاحبي وأنا مش عايز أشوفك موجوع.

صمت لوهلة وحينما لم يجد ردًا منه تابع بهدوء:

-ألحيت عليه في الدُعاء علشان يجمعك بيها وربنا بمشيئته أراد إنها تكون ليك زيّ ما بتحلم، ليه عايز تبعد دلوقتي؟! ولا إنتَ عايز تحب شخص معندوش مشاكل ولا أزمات نفسية، عايزها زيّ الكتاب ما قال؟ أمال إنتَ دورك أيه؟! وليه شايف الناس كلها لازم تكون على قدر إيمانك وتدينك وعلاقتك بربنا!!!


تليد بغِصَّة تسري في حلقه يرد:

-كُنت عايزها على درجة متوسطة من مبادئ ودين!!.. دي أبسط حقوقي.

نوح باستنكار:

-واللي بيحب مش بينقي حبيبه، فوق يا تليد وبص للبيئة اللي نشأت فيها والراجل اللي رباك وبص لها هي؟ لو حكمت عليها من خلال معايير البيئة اللي نشأت فيها إنتَ تبقى ظالم، إنتَ ابن الشيخ سليمان السروجي وهي بنت عادية بسيطة متعرفش كتير عن دينها وربنا وهبها راجل خلوق زيك يعلمها، متقساش يا تليد.. سامح يا أخي واوعى تنسى.. "كذلك كُنتم من قبل فمن الله عليكم"!.

تليد بحُزن دفينٍ:

-صدق الله العظيم.

تنهد "تليد" تنهيدة ممدودة بعُمقٍ ثم قال:

-بس أنا مُشتت يا نوح.

نوح بتفهم:

-إنتَ أكيد عارف هتلجأ لمين في اللحظات اللي زيّ دي!

تليد بتنهيدة هادئة:

-أكيد.. دعواتك.


أغلق المُكالمة فورًا ثم قرر السجود بين يدي الله كي يدله على طريق الرشاد ويستخيره في الاستمرار أو الانفصال، تحرك خطوتين عائدًا إلى الغرفة ولكن سقطت عيناه على الدُمية فجذبها وذهب إلى الفراش التي تنام عليه ثم وضع الدُمية بين ذراعيها وفي هذه اللحظة قرر أن يفترش سجادة الصلاة بجوار الفراش وأن ينعم بلحظات نقية هادئة في مناجاة الله وتيسير أمره، قضى وقتًا طويلًا يتضرع على سجادته يدعو في خفوت ويلح في دعائه أن ينعم الله عليه بالراحة والحل وما أن انتهى حتى جذب كرسيًا ثم جلس بجوارها في هدوء، التقط المُصحف وقرر أن يفتح صفحة بشكل عشوائي عله يجد رسالة الله له فيها وما أن فعل حتى سقطت عيناه على آية كريمة، فتمتم يقرأها بتأثر وصوت مُتهدجٍ:

-“فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ".


لمعت عيناه من عظمة ما قرأ من رسالة تهدئ روعه وتُغدق على قلبه سكينة واطمئنان، تنهد بقوة شديدة كأنما يلتقط أنفاسه بعدما حاز على مُبتغاه بعد صبرٍ طويلٍ، أغلق المُصحف ووضعه جانبًا ثم مال نحوها قليلًا يستند بساعده على الفراش وكانت نظرته لها هذه المرة بمثابة انجراف سيل عاتٍ حيث انهمرت الدموع من عينيه سيولًا فأسند جبهته على طرف الفراش وشرع يبكي لآلامها ونزيف قلبها الدامي الذي يشتد رغم تخديره بالنوم فكانت تهلوس بأمور شتى ولا يتوقف لسانها عن سؤال واحدٍ:

-أنا مين؟!

لم يتحمل المزيد وانهارت قواه هذه المرة حتى أنه التقط راحتها وقبلها برفق قائلًا:

-سامحيني.. أنا وجعي يتداوى بس إنتِ متتوجعيش.. حقك على راسي.


قبل باطن راحتها مرة أخرى وأسرع بمحو أثر العَبرات الساقطة من عينيه ثم قرر الخروج والمبيت في حجرة المعيشة إلى أن يحل الصباح ويأتي معه بالحل.

•~•~•~•~•~•~•

جلس على كرسيه واضعًا وجهه بين كفيه يبكي في انهيار من أبٍ لا يسمع له أو يُقدر ظروفه كما أنه يتعامل مع ظروفه على أنها وصمة عار فدائمًا ما كان يسمعها منه صريحة أن "سكون" هي سنده الوحيد ولم يُنجب سواها وأنه مثل ورقة في مهب الريح تتأرجح بلا حول ولا قوة من هنا لهناك، تعمد دومًا أن يُشعره بعجزه، انسكبت دموعه تُقاوم كبريائه في الثبات، كان مُنكس الرأس يرغب في معايشة هذه اللحظات الضعيفة وحده وقد فهم "كاسب" عليه فظل جالسًا بالقرب من الموقد يصنع كوبين من الشاي لهما ورغم أن مشاعره تتأجج نارًا على هذا الصديق بقى صامتًا رزينًا.

صب الماء داخل الاكواب وما أن أصبح الشاي جاهزًا حتى حمل كوبًا منهما وتوجه به إلى "عُمر" قائلًا بابتسامة فاترة:

-روق يا عُمر واشرب كوباية الشاي دي.

حاول انتشاله من بين براثن أحزانه إلا أن "عُمر" لم يستجب على الاطلاق فوضع "كاسب" الكوب جانبًا ثم جثى على ركبتيه أمام مقعد الأخير وراح يلتقط كفيه يربت عليهما برفق قائلًا:

-الزعل مش هيحل حاجة يا عُمر!

رفع بصره إلى كاسب وقال بانكسارٍ:

-أنا حاسس طول الوقت إني تقيل على كُل اللي حوليا ومبقاش ليا قيمة من بعد ما بقيت عاجز.


تنهد "كاسب" بعُمقٍ قبل أن يقول:

-بس العجز دا مش اختيارك دي إرادة ربنا يا عُمر!!

أجهش باكيًا من جديد يُعبر عن سلبه حريته وكبريائه:

-بس أنا كاره وجودي على الكرسي دا، أنا حاسس إني في سجن وإني هكون زيادة في حياة أي حد ومليش إفادة، أنا حتى خايف أكون تقيل على البنت اللي حبتها وبدل ما أكون سندها أكون عبء عليها والحُب اللي بينا يتحول واجب، أنا دماغي مش بتبطل تفكير كل يوم!!!

ربت "كاسب" على ساقه قائلًا بابتسامة ودودة:

-أيه رأيك تاخد حريتك يوم من السجن دا!!

عمر بابتسامة ساخرة:

-إزاي؟! أنا الحالة الوحيدة اللي باخد فيها حريتي من الكرسي دا هي أحلامي بس.. أحلامي الوحيدة اللي قادر من خلالها أمشي وأجري وأكون إنسان طبيعي.

كاسب وهو ينهض من مكانه ثم يقول بحماس:

-هو مش إحنا صحاب؟!

عُمر قاطبًا ما بين حاجبيه مُتسائلًا في توجسٍ:

-أكيد.

كاسب بابتسامة مُشرقة:

-ومُسلمين؟!!!

عُمر بدأ يتجاوب مع روحه الإيجابية بابتسامة بسيطة قائلًا:

-الحمد لله.

كاسب وهو ينحني إليه قليلًا ثم يقول بدعم كبير:

-والقرآن بيقول "قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ".. صدق الله العظيم.


أنهى ترتيل الآية وأسرع بحمله بين ذراعيه بكُل ما أوتي من قوة وسط ذهول "عُمر" الذي صاح بدهشة:

-إنتَ بتعمل أيه يا جدع!!

أسرع "كاسب" فورًا بركل المقعد حتى أبعده عن طريقه وهو يقول بثبات:

-بكمل اللي ناقصنا من بعض.. خُد من قوتي واديني شعور الأخ للحظات بس.


تلألأت العبرات في عيني "عُمر" الذي تابع بصوت مُتهدج يوشك فيه على البكاء:

-إنتَ مكسب في حياة أي حد يا كاسب.

كاسب بضحكة هادئة:

-وإنتَ أخويا وحبيبي.


سكتا لوهلة ثم تابع "كاسب" بحماسٍ:

-أيه رأيك نطير على بيت الشيخ سليمان؟!!

عُمر بحماسٍ أكبر:

-يلا بينا نطير.


هرول "كاسب" فور انتهاء كلمات الاخير وسط فرحة "عُمر" لفوزه بصداقة رائعة كهذه، تحرك "كاسب" نحو سيارته ثم وضع "عُمر" على المقعد الأمامي ثم استدار حتى جلس أمام مقود السيارة وهو يتنفس الصعداء قائلًا بمرح:

-بس إنتَ تقيل كدا ليه يسطى؟

عُمر بثقة:

-عضلات يابا.. إنتَ شايل عُمر مش توتو صاحبتك.

ضحك "كاسب" ملء شدقيه وقال بسعادة:

-يا عضمك يا رضا.

•~•~•~•~•~•~•~•

في صبيحة اليوم الموالي

رمشت بأهدابها في كسلٍ وخمولٍ وهي تنظر بلا وعي إلى محتوى الغرفة ثم نزلت ببصرها إلى الفراش التي تنام عليه وحتى هذه اللحظة لم تكُن تتذكر شيئًا، اعتدلت فورًا في نومتها جالسةً للحظات إلى أن تذكرت كُل شيء مرت به بالأمس، أزاحت خصلاتها عن وجهها بإرهاقٍ ثم بدأت تشعر ببرودة تسري في أنحاء جسدها فراحت تمرر كفيها على ذراعيها رغبةً في تدفئة داخلها.

وصل الوعي إلى ذروته بشأن ما يُفترض أن تعيشه هذا اليوم وبسرعة قفزت عن الفراش وهي تبحث عنه خوفًا أن يكون قد ذهب إلى بيت الشيخ "سليمان" وتركها من أجل التجهز للحظة الطلاق، هرولت تخرج من الغرفة وعيناها تبحث عنه في كل مكانٍ وحينما تأكدت من عدم وجوده بدأت تهذي بصوت مهزوز مرتعب:

-ليه كدا يا تليد.. ليه بتعمل فيا كدا!!


أجهشت باكيةً بعد أن فقدت الامل في استعادته وبعد أن انهدمت حصون الثقة بينهما، ألقت بنفسها على الأريكة تبكي في صمتٍ وقهرٍ إلى أن سمعت صوت المفاتيح ترن في أذنيها وما هي إلا لحظات حتى وجدته يدخل الشقة ويحمل بين يديه أكياس كثيرة، أسرعت بمحو عَبراتها فورًا وهي تتنفس الصعداء أخيرًا كأنما أُلقي الامل والطمأنينة مرة أخرى إلى قلبها، تحركت بخطوات هادئة نحوه ثم نظرت إلى عينيه وهي تقول بحُزن:

-كُنت فكراك مشيت وسبتني!

أشاح بصره بعيدًا عنها ثم قال بلهجة شديدة:

-امسكِ.. لبس بدل المحزق اللي إنتِ لبساه.. ادخلي خدي شاور وغيري هدومك علشان نمشي.


ارتجف قلبها خوفًا وقالت:

-بس أنا مش عايزة أمشي.. مش عايزة الطلاق يتم يا تليد.. علشان خاطري افهم بقى!!

تليد يرفع حاجبه ويقول بحدة:

-قصدك إني مش بفهم!!

أجابته فورًا بنفي:

-لا مش قصدي.. بس أنا عايزة أكمل معاك.. ممكن؟!

قالت كلمتها الأخيرة وهي تستدير في مواجهته تمامًا محاولة التأثير عليه بنظراتها البريئة، ذاب في لمعة عينيها ولكنه قاومها عنادًا بها وهو يقول بحزم:

-مش عايزين نضيع وقت، ادخلي البسي من فضلك!


انصرف من أمامها بعد أن أسدى لها أوامرًا صارمةً، تحركت إلى الحمام مُذعنةً لأوامره تدعو الله في نفسها أن يلين وداخلها أمل كبير في أن يتمسك بها ولا يفرط بها هذه المرة أبدًا، غابت لدقائق داخل الحمام ثم خرجت منه ترتدي منشفة مفصلة على شكل سُترة تصل إلى ركبتها، كان يقف بالمطبخ يصنع كوبًا من الشاي حتى تنتهي مما تفعله ثم يذهبان وفي هذه اللحظة سمعها تقول بهدوء:

-أنا جعانة!

-خلصتي لبس!!

قال جملته ثم استدار بوجهه إليها ليجدها تقف أمامه بأريحية شديدة وهي ترتدي ثوب الحمام، حدق في صدمة ثم أولاها ظهره مرة أخرى قائلًا بغيظ:

-إنتِ واقفة قدامي كدا ليه؟! فين لبسك؟

مطت "وَميض" شفتيها باستنكار ثم ردت:

-هو أنا مش مراتك ولا أيه!

تليد بحنقٍ:

-تمام بس لكُل حاجة وقتها.

أومأت قائلةً بحُزن:

-طيب هلبس بس أنا جعانة!

تليد بتنهيدة طويلة ومازال يعطيها ظهره:

-تمام.. البسي وهعمل لك حاجة تاكليها.


تهللت أسارير وجهها حينما شعرت بتغيره معها عن الأمس بكثير، هل يا تُرى فكر في قراره ولم تهن عليه؟! تحركت على الفور إلى الغرفة لتُبدل ملابسها التي شعرت أثناء ارتدائها بأريحية شديدة كما أنها أبدت إعجابها بذوقه الراقي في اختيار ملابس النساء وكأن له تجارب من قبل، كان الفستان فضفاضًا جدًا وهذا الشيء الوحيد الذي ضايقها قليلًا لأن هذا الحجم يتطلب مكوث أخرى داخله أي يحتاج إلى فتاة بدينة عنها، تنهدت برضاء واستسلام ثم وضعت غطاء رأسها وتوجهت إليه مرة أخرى وهي تقول بصوت هادئ:

-واسع أوي مش كدا!


استدار على الفور ينظر إليها وما أن وقعت عيناه عليها حتى برقت بإعجاب شديد ولم يشعر نفسه وهو يبتسم ابتسامة زاهية تؤازر هيئتها الرقيقة الزاهية في هذا الثوب، حدقت فيه بدهشة ثم قالت بصوت سعيد:

-إنتِ ابتسمت مش كدا؟!

تجهم وجهه مرة أخرى ما أن أدرك خطأه ثم قال ببرود:

-إطلاقًا.. مش شايفه واسع إطلاقًا.. دا يا دوب.

سكت هُنيهة ثم تابع وهو يشير إلى الشطيرة:

-عملت لك ساندويتش.. كُليه علشان نمشي.


غادر المطبخ ما أن أنهى حديثه وكأنه يتعمد ألا يتواجد معها في نفس المكان، التقطت الشطيرة تلتهمها بجوع ونهمٍ ثم سارت خلفه إلى الغرفة فوجدته يختار ما سيرتديه ولا إراديًا اتجهت نحو الخزانة وبدأت تبحث بعينيها عن شيء ما وما أن لاحظ هو ذلك حتى التقط بذلة رسمية من اللون الكُحلي مُعلقة على شماعة ثم التفت ببصره إليها وقال بنبرة ذات مغزى:

-هاتي الجاكيت.

أسرعت تلتقط السُترة الموضوعة على الفراش ثم ناولته إليها ليرفع حاجبه قائلًا بهدوء:

-كدا ارتاحتي؟!

أومأت برأسها إيجابًا وهي تقول بابتسامة عريضة:

-ارتحت.

أدخل البذلة إلى الدولاب ثم التقط سُترة أخرى وأسرع بارتدائها وهو يقول بحسمٍ:

-يلا بينا.

اندفع فورًا خارج الغرفة دون أن يأبه لخفقات قلبها التي تعلو بعُنف كلما اقترب موعد ذهابهما، سارت خلفه على مضض وما أن فتح باب الشقة وهمَّ بالخروج وجدها مُتصلبة في مكانها لا تتزحزح عنه، رمقها بنظرات جامدة وقال:

-ما تيلا!

أومأت سلبًا بعينين دامعتين وبنبرة مخنوقة قالت:

-لأ

تليد بنبرة حازمة:

-بطلي دلع، المأذون مستني.

وَميض دون أن تتحرك:

-علشان خاطري مش عايزة!

تقدم منها ثم التقط راحتها بين كفه وراح يدفعها خلفه بينما صاحت هي بصوت باكٍ:

-خليني معاك يا تليد.. مش قولت لي إني بنتك؟.. ليه عايز تتخلى عني زيّ أهلي ما عملوا!!

تليد بتنهيدة حارة:

-بس أنا بحقق لك طلبك.. رجولتي متسمحليش أكمل مع واحدة غصب عنها.

وَميض بانفعال وقهرٍ:

-وأنا طلبي دلوقتي إنك تفضل معايا!

ضغط على راحتها يحثها على السير وقال في ثبات:

-معادش ينفع.

جذبها عُنوة خلفه فألقت بنفسها على الأرض وهي تصرخ بانهيارٍ:

-طيب استنى علشان خاطري.. هاخد عروستي!

تنهد تنهيدة طويلة قبل أن يترك راحتها، وقفت من جديد ثم تحركت نحو الأريكة التي تقبع عليها الدُمية وما أن التقطتها حتى صعدت فوق الأريكة فورًا ثم فتحت النافذة وقفزت على حافتها وهي تقول بصوت عالٍ:

-آسفة يا تليـــــد، سامحنـــــي!

انفتحت عيناه على وِسعهما ثم هرول مسرعًا نحوها ولكنه لم يلحق عندما رآها تُلقي بنفسها من النافذة أمام عينيه فصرخ بكُل ما أوتي من قوة وهلع:

-وَميـــــــض!!!!

يتبع 

          الفصل الثاني والثلاثون من هنا 

تعليقات