رواية شبح حياتي الفصل السابع 7 والثامن 8 بقلم نورهان محسن


رواية شبح حياتي

الفصل السابع 7 والثامن 8

بقلم نورهان محسن


الفصل السابع

حساسة بشكل مفرط ، تجرحها بعض الكلمات الصغيرة التي ربما لا أحد يلقى لها بالا ، تثرثر كثيرا ولكن بالوقت ذاته كتومة ، تخلق جوا من السعادة أينما وجدت ، إمرأه تسكن ملامحها براءة طفولية ، كفيلة بأن تجبرك بالوقوع في حبها من جديد كلما ابصرتها ، بسيطة جدا بكل تفاصيلها الصغيرة تلك ، ملفتة بحب ، بل و متلفة أيضا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقفت حياة تقوم بتعديل خصلاتها المتمردة خلف الطاقية ، وردت بعفوية ، دون أن تدرك ما تقوله ، لأنها كانت منشغلة بما كانت تفعله : عشان مديش لحد فرصة يتريق و يتنمر عليا

أنهت جملتها بينما بدر عيناه تلمعان بوميض غريب ، حيث عادت إليه هنا فقط ذكرى كاملة لما حدث في الماضي.

Flash Back

منذ سنوات كثيرة

كانت تجلس على درج الطابق الخامس من المبنى طفلة صغيرة لم تبلغ ثماني سنوات بعد ، كانت لديها شعر مجعد ملفوف بشكل متكرر باللون البرتقالي يطوق وجهها من الجانبين ويغطي كتفيها يصل إلي منتصف ظهرها ، فكانت تبدو في غاية البراءة و اللطافة.

تميزت بحيويتها وشقاوتها اللامتناهية ، لكنها فضلت اللعب بألعابها المنتشرة حولها التي كانت تلعب بها بمفردها ، لأنها لم تكن تحب الخروج للعب مع باقي الأطفال أمام المبني ، حتى لا يجذبوا شعرها ويزعجونها بسخريتهم وتنمرهم المستمر عليها كلما حاولت الاقتراب منهم.

كانت تحب اللعب بعروستها جميلة المفضلة إليها بشعرها الأسود الناعم ، عكس شعرها تمامًا.

وذات يوم ، بينما كانت تلعب ، كالعادة ، أمام باب منزلها في الطابق الخامس.

جذب انتباهها صوت يأتي من باب المنزل المقابل لها ، فوجهت وجهها ببراءة تجاه ذلك الشاب اليانع بعد أن خرج من المنزل الذي يعيش فيه مع والديه.

نظر إلى الفتاة الصغيرة بحاجب مرفوع ، وانزعاج منها بسبب الضوضاء التي تحدثها فى الطابق ، والتي تزعجه هو فقط ، لأن والدته سعيدة جدًا بتلك الفتاة الشقية التي تحبها وتعتني بها ، وكثيراً ما تخرج لإطعامها بنفسها وهي تلعب أمام بابها ، ولكن بالنسبة له يعتبرها متطفلة على حياته بسبب تكرار ذكر اسمها من قبل والدته ، وحضورها الدائم في منزله.

تنهد في سخط متجاهلا وجودها تماما ، ثم وقف أمام المصعد منتظرا مجيئه دون أي تعبير على وجهه إلا الجمود.

ظهرت ابتسامة طفولية على شفتيها ، تظهر أسنانها غير المنتظمة بطريقة مشاكسة ، ثم نهضت من الأرض وعروستها في يدها قائلة بمرح : المفروض لما تعدي علي ناس تقول سلامو عليكو

تطلع بها بطرف عينه مع ابتسامة جانبية على شفتيه ، متسائلا بسخرية لم تفهمها بسبب صغر سنها : هما فين الناس دول؟

أشارت إلى نفسها ببراءة وهي تقترب منه خطوتين ، ثم قالت بضحكة طفولية أزعجته أكثر : انا ناس!!

عبست ملامح وجهه ، وهو يتكئ على الحائط خلفه ، عاقدا يديه على صدره ثم إِستهزأ منها ببرود : لا انتي بنت سخيفة و مزعجة

تجادلت معه في دفاع طفولي عن النفس ، بينما أومأت برأسها بالسلب : انا مش دي اللي بتقول عليها

رفع حاجب واحد باستنكار ، و قد بدأت تثير غضبه تلك الحمقاء ، قائلا بنبرة حادة : لا انتي كدا واكتر عشان بسبب الدوشة اللي عملها هنا .. انا مابعرفش اذاكر ولا اركز في حاجة

حدقت فيه بعدم فهم لما كان يقوله ، وهمست بصوت طفولي رقيق : مش فاهمه هو انت بتزعقلي كدا ليه!!

زفر بدر الهواء المنحصر في صدره خلال اقترابه منها ، و دني إلى مستواها ، قائلاً بزمجرة : المفروض تنزلي تلعبي تحت مع العيال مش هنا كأنك نوغه

حنت رأسها في خجل طفولي ، وتقوس شفتيها إلى أسفل ، ثم همست بحزن : لا مابحبش ألعب مع العيال تحت بيتريقو عليا

لم يلاحظ نبرة الأسي في صوتها ، وكل ما خطر بباله أنها تحاول استفزازه بمجادلتها له ، لذا قرر صب جام غضبه عليها.

إشتعلت عيناه بلهب الغضب الناري منعكساً لما يعتري في صدره ، متناسيًا أن التي تقف أمامه مجرد طفلة لا تفقَّه معنى كلامه ، ثم أمسكها من ذراعيها وهزها بعنف دون وعي من شدة القهر في قلبه من أشياء كثيرة.

صاح بشماته وعيناه تتألقان من الحقد والاشمئزاز : ليهم حق طبعا .. عشان شكلك غريب بشعرك المنكوش اللي مش بتسرحيه دا .. وكفاية لونه يوجع العين اصلا

اتسعت عيناها في صدمة من تنمره عليها أيضًا ، وأصبح لسانها معقودًا ، فقد وجدته لطيفًا ، رغم أنها لم تتعامل معه من قبل بشكل مباشر ، ولكن كانت والدته دائمًا تخبرها عنه أنه عطوف ورحيم ، لكن ما تراه الآن هو شخص مخيف لا تريد أن تعرفه على الإطلاق.

زأر عليها بصوت شرس وتحذير مرعب ، عندما لم يتلق منها سوى نظرات مرتعبة والصمت المطبق منها ، حيث جعل قلبها يقفز من ضلوعها من شدة الفزع : اسمعي لو شوفتك بتلعبي هنا تاني .. هنزلك بإيدي للعيال للي تحت يعملو عليكي حفلة ويضربوكي بعد ما انا هضربك فاهمة

اهتزت مقلتا عينيها خوفاً بدموع ، وأومأت برأسها عدة مرات متفقة مع كلماته وهي تتعثر بين يديه القويتين قائلة بتلعثم : ف..ف..فاهمه .. فاهمه

دفعها عنه ببغض عندما ارتفعت شهقاتها من البكاء الشديد الذي كانت إنخرطت فيه ، والذي زاد منه أكثر عندما اصطدم جسدها الصغير بالأرض من قوة دفعه بعنف لها ، وتركها وراءه دون أن يوليها أدنى اهتمام.

منذ ذلك الحين ، لم تحاول مغادرة شقتها إلا للذهاب إلى المدرسة ، ورفضت دخول شقة والدة بدر لتجنب رؤيته.

أصبحت تمقته و تخافه في نفس الوقت ، وزادت الكراهية بداخلها تجاهه أكثر بسبب كلام أختها السيء عنه.

Back

شعر بدر بالاختناق في صدره يزداد عندما تذكر ذلك اليوم ، متذكرًا كيف كانت تنظر إليه في تلك اللحظة ، لكن لا يبدو أنها تتذكر شيئًا عن هذا الموقف بينهما ، بل إنه مخزّن في عقلها الباطن ، لذا فهي ترفض الكشف عن شعرها حتى لا يتنمر عليها الآخرون ، بعد أن فقدت الثقة في نفسها ، وهو شارك في هذا الشيء بكل حماقة.

همس بدر بحنو بالغ مليئ بالصدق لأول مرة يكلمها به ، ناظرا في عينيها العسلتين لتقبل كلامه : بس انتي لون شعرك جميل يا حياة ماينفعش تغطيه

أغمضت حياة عينيها بشدة ، وكان هناك شيء بداخلها يخبرها بفعل العكس ، ثم أشاحت عينيها تمامًا عنه ، ونظرت إلى المرأة حتي تضع القبعة على رأسها بلا مبالاة يغمره العناد : مايخصكش .. انا حرة

ضغط بدر على شفتيه غاضبا من أسلوبها المتمرد ، قائلا بعناد أكبر : لا مش هتلبسيها

ابتسمت حياة بسخرية ، وهي تعلم أنه غير قادر مطلقاً على فعل أي شيء ، قائلة باستخفاف : انت ماتقدرش تمنعني

زم بدر شفتيه حتى أصبحا كالخط المستقيم ، واحتقَن وجهه بغضب من استفزازها له ، ثم قال بتحذير ضاغطا علي كل كلمة ينطقها : ماتعصبنيش .. قولت مش هتلبسيها

انفرجت شفتيها بأوسع إبتسامة على وجهها ، وهي تلتفت إليه وتقول بلا اكتراث ، وهي تضع يديها على القبعة ، و تخرج له لسانها بمشاغبة حتي تثير غيظه : خلاص .. لبستها اهي حلوة

تأججت عيناه بنار الغضب وهو يحدق بها ، غير متقبلاً جدالها معه ، ثم ظهرت ابتسامة غامضة خطيرة على شفتيه ، وقال لها بخبث : افتكري انك انتي اللي اجبرتيني علي كدا

لم يمهلها وقتاً للتفكير في كلماته ، لانه انتهى من جملته تزامنا مع اقترابه السريع لها ، وإقتحامه جسدها حتى اصبحوا جسد واحد.

ارتعدت أوصالها بشدة ، وشعرت بدغدغة تهاجم جسدها ، وهي تصرخ بصوت عالٍ : ايه دا .. بتعمل ايه يا متحرش .. ابعد عني يا حيوان

حاولت حياة التحرك بشكل عشوائي ، لكن شيئًا ما منعها من السيطرة على نفسها ، حيث وجدت يديها مرفوعتين إلى الأعلى والقبعة سقطت من رأسها ، رغم مقاومتها الرهيبة لعدم حدوث ذلك ، لكنها لم تستطع فعل أي شيء ، فكان ذلك أقوى منها.

أنهى بدر مهمته ثم خرج جسدها ، فسقطت حياة على الأرض فجأة عندما دفعها بعيدًا عنه.

شعرت حياة بصعقة كبيرة ارتجف لها جسدها بالكامل وانهارت قواها تماماً ، ولم تشعر بأعصابها من شدة ذعرها مما حدث لها للتو.

وقف بدر بجانبها وهي على الأرض ، ينظر إليها من فوق ، بابتسامة منتصرة تحتل شفتيه ، وكم أرادت حياة في ذلك الوقت أن يكون على قيد الحياة ، حتى تقتله بيديها وتمحى تلك الإبتسامة السخيفة من الظهور مجدداً.

أشار بدر إليها بإصبعه ، وصدره يتحرك لأعلى ولأسفل ، وهو يلهث ، وقال بنبرة هادئة مليئة بالتحذير ، لكنها أقرب للتهديد : لما اقول علي حاجة بعد كدا تسمعيها و اوعي تعانديني هتندمي اوي

اتسعت عيناها بذعر ، وفرغت فاهها من الصدمة ، وهمهمت بصوت منخفض ، وهي تجز على أسنانها بقوة : منك لله يا عفريت يا ابن الجز*ة انت..

سرعان ما صرخت بإتهام ، وهي لا تصدق ما فعله وتشير عليه بغضب : وانا اللي كنت فاكرة انك طيب .. بس طلعت عفريت شرير وكنت هتلبسني حرام عليك يا شيخ

كان بدر يسيطر على نفسه بصعوبة حتى لا ينفجر ضاحكا عليها ، حمحم مدعيا اللامبالاة : بطلي كتر كلام مالوش لزمة وقومي يلا

استقامت حياة بعد عدة محاولات فاشلة في النهوض ، لأن قدميها أصبحتا كالهلام ، ولم تستطع السيطرة عليهم بسهولة.

وقفت تحاول ترتيب ملابسها المتبعثرة ، ومشطت شعرها الأشعث وربطته من الخلف مثل ذيل الحصان ، قائلة بكلمات غير مترابطة وهي تهرول للخارج : يخربيت سنينك .. المدرسة .. انا اتأخرت اوي

استمع بدر إلى كلماتها وهو يسير خلفها ، ثم وقف عند باب المطبخ ينظر إليها ، ويطرح سؤال مستفسراً : انتي بتشتغلي في مدرسة!!

صاحت حياة بضجر ، أثناء ما كانت ترمقه بنظراتها الحانقة بوجهها الطفولي المتورد من شدة سخطها مما فعله ، ثم أنزلت وعاء الحليب إلى القط على الأرض : الله يخليك في حالك بطل حشارية .. بسببك اتأخرت وهنزل من غير فطار كمان بعد الصدمة الكهربائية للي عملتهالي علي الصبح

لم تعطه فرصة للرد ، فاندفعت من جانبه كالسهم من عجلتها ، وأقسمت أنها ستعلمه درسًا بسبب ما فعله بها قبل قليل عندما تعود من الخارج.

★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••

أمام باب المنزل

أغلقت حياة الباب بسرعة ، ووضعت المفتاح في حقيبة يدها الصغيرة ، ثم كانت على وشك النزول ، لكنها توقفت عندما سمعت صوتًا رجوليًا يقول : صباح الخير

استدارت إلى جهة الصوت القادم من أعلى الدرج خلفها.

نظرت حياة إليه وأحست بداخلها أنها ليست المرة الأولى التي تسمع فيها هذا الصوت ، ثم قالت بنبرة لطيفة : صباح النور!!

أنهى الدرج سريعاً وسار نحوها بابتسامة جميلة على وجهه قائلاً بنبرة مرحة : ازيك يا حياة .. اكيد مالحقتيش تنسيني؟

حدقت حياة فيه بدهشة ، فأدرك أنها لا تتذكره ، وعذرها على ذلك ، مستأنف حديثه : انا اللي استنجدتي بيه علي السلم لما حسيتي بحرامي جوا البيت

فغرت حياة فمها منذهلة ، وهي تحدق في عينيه الأخضرتين مثل العشب ، واتسعت حدقتيها في هذه اللحظة فقط عندما تذكرت لقائهم الأول ، وهي تفرك جبينها بخفة ، قائلة بابتسامة محرجة : افتكرت معلش دماغي يومها كانت ملخبطة ومش مجمعة حاجة .. اهلا و سهلا بحضرتك

ضغط على كفها بود وهو يصافحها ​​، ثم لاحظ الآن أنها خرجت من شقة بدر فتساءل بفضول : منورة القاهرة .. انتي خلاص سكنتي هنا في شقة بدر

أمسكت حياة بيد حقيبتها على كتفها ، وهي تنظر إلى الساعة في هاتفها وقالت بعجلة : يعني دي حكاية طويلة ومعلش انا مستعجلة دلوقتي

أنهت كلامها وهي تتقدم نحو الدرج حتى تنزل ، لكنه لحق بها ونزل بجانبها قائلاً بهدوء : طب استني انا نازل معاكي

كلاهما لم ينتبه لبدر الذي ينزل بخفة وراءهما بملامح مقتضبة.

قلب بدر عينيه بنفاذ صبر عندما سمع صوت ذلك الرجل الغليظ الوسيم يقول : حياة مجدي مش كدا!!

نظرت إليه حياة بإستغراب قبل ان تتساءل : ايوه انت تعرفني ولا عم حمزة هو اللي قالك!؟

أجابها بضحكة خافتة : لا اعرفك من وانتي صغيرة ماكنش فيه حد اسمه حياة في العمارة وبشعر برتقالي الا انتي وكنت في الطالعة والنازلة بشوفك بتلعبي قدام شقتكو

لمست حياة شعرها من خلف القبعة بحركة لا إرادية ، ونظرت خلفها لتجد بدر نازلاً ورائها ، و يبدو عليه الغضب من عقدة حاجبيه ، لكنها تمتمت : شعري..

أعادت بصرها إلى الرجل ذو العيون الخضراء متسائلة بفضول : هو حضرتك تبقي مين!!؟

جاءها صوت بدر قائلا بسخرية لاذعة : دا دكتور مازن ساكن في الدور اللي فوقنا

أنهى بدر جملته تزامنا مع رد الآخر الذي قال بابتسامة جذابة : انا اسمي مازن .. مازن جلال دكتور باطنة .. وساكن مع ولدتي في الشقة اللي فوقك منك علي طول

تساءلت حياة بصوت مذهول : انت اخو مروة صح!؟

حملق مازن فيها بدهشة وتساءل : لحقتي تعرفي مروة كمان

أومأت حياة برأسها ، وأجابته بابتسامة حلوة : ايوه هي جتلي واكلمنا مع بعض .. عرفتني بيها وكلمتني عنك وعن مامتك

هز مازن رأسه بفهم ، ثم قال مازحا : مروة بتاخد علي الناس بسرعة .. ياريت ماتكونش دوشتك بكلامها الكتير

تأفف بدر بضيق ، وقال بحدة : انا علي فكرة مش حابب الدكتور دا .. شكله ملزق ماتتلكعيش وانزلي بسرعة

جعدت حياة حاجبيها من أسلوبه الوقح ، الذي يجعلها تتوتر بسرعة ، لكنها قررت تجاهل وجوده وقالت بنبرة صادقة : لا بالعكس دي لطيفة جدا .. انا اتشرفت بيك يا دكتور

ابتسم مازن لها إبتسامة واسعة ، وقال بنبرة هادئة : انا اللي زادني شرف و انبسطت من الصدفة اللي خليتنا نتكلم..

أردف مازن بفضول عندما وصلوا إلى مدخل المبنى : قوليلي هتفضلي قاعدة قد ايه في شقة بدر؟

فركت حياة حاجبها برفق وهي تفكر بماذا تجيب ، ثم قالت بهدوء : لسه مش عارفة .. بس غالبا لحد ما يرجع يلم حاجاته من شقتي عشان اقدر اقعد فيها

توقف مازن عن المشي والتفت إليها بكامل جسده قائلاً بابتسامة : عموما اي حاجة تحتاجيها تقدري تطلبيها مني .. احنا كنا صحاب قدام بس شكلك لسه ناسية

تمتمت حياة بإختصار وبصوت يلهث ، حيث تأكدت بداخلها أن فرصة العمل التي كانت تطمح إليها قد ضاعت : ان شاء الله يا دكتور عن اذنك

زفر بدر الهواء من صدره بملل قائلاً بعبوس : اخيرا هنخلص منه

رمقته حياة بنزق ، وكادت أن تتحرك إلى الشارع ، لكن صوت مازن أوقفها عندما قال بإستفهام : انتي رايحة فين!!

حدق فيه بدر بنظره ناريه قائلا بزمجرة : وبعدين بقي!!

نفخت حياة الهواء من صدرها بضيق شديد تجاه ما يفعله بدر ، لكنها نظرت إليه بتحد ، ثم أعادت بصرها لمازن وقالت بهدوء ظاهري : مدرسة...

تساءل مازن بإستغراب ، حين برزت فكرة في ذهنه : دي اللي علي اول الشارع من برا

دمدم بدر في أذنها سخطًا : امشي و سيبيه انتي مش عمالة تقولي متأخرة

تنحنحت بقوة لكى تجعل بدر يصمت لأن كلماته كانت موترة لأعصابها الهشة في تلك اللحظة ، ثم قالت بعناد ممزوج بالارتباك : أحم ايوه هي دي .. هشتغل مدرسة للاطفال والمفروض عندي مقابلة مع مديرة المدرسة .. بس اتأخرت نص ساعة عن الميعاد ومعرفش اروح ولا اعتذر وأجلها

تحرك بؤبؤ عيناي بدر إلى اليسار ، وهو يفرك ذقنه بعنف لردها بالتفصيل على مازن ، بينما هو عندما سألها لم يأخذ منها عبارة مفيدة ، ثم هتف بحدة : واضح أن الكلام معه مش هيخلص

تعجب الأخر من كلامها ، وقال بصوت هادئ : وليه تعتذري!! عادي ابن مروة في المدرسة دي .. ومديرة المدرسة معرفتنا بيها كويسة..

أضاف مازن بابتسامة مليئة بالعذوبة عندما نظرت إليه بعيون تائهة : اذا حابة اجي معاكي لو قلقانه انا في الخدمة!!

أطلق بدر سباب من تحت لسانه عندما سمع كلام مازن المبطن ، وكأنه يهدف للوصول إلى شيء ما : اه ياض يا ابن الص*يعة...

ثم صفق بكلتا يديه باستهزاء ، وقال بابتسامة غاضبة وهو يشير نحوه بإصبع الإبهام ، ثم حدق في حياة : لا برافو عليك .. دا بيشقطك يا انسة وانتي واقفة متنحة في جمال عيونه الخضرا

لوحت حياة بيدها أمام وجهها ، حين شعرت بامتعاض شديد قائلة بهمهمة بدر سمعها فقط ، وفهم أنها تسخر منه : النموس هنا فظيع..

أردفت حياة بعيون تتألق بالأمل : يعني هو حضرتك ممكن تعمل كدا بجد!!

لوى مازن شفتيه متظاهرا بالتفكير ، لكنه في الحقيقة كان يخفي ابتسامة سعيدة عندما رأى بريق الحماس يتألق في عسليتها الساحرة ، ومازحها بابتسامة : لو شيلتي من الجملة دي كلمة حضرتك ممكن اعمل كدا!!

استدار بدر ونظر إليها بغضب كاد أن يحرقها في مكانها ، فابتلعت لعابها بتوتر شديد ، وللمرة الأولى ترآه بهذا الإستهجان ، وازداد ارتباكها عندما صرخ بتهديد مضحك : النموس دا انا هخليه يلدغ أمه عشان يغور من هنا

اندهش مازن من صمتها ، لكنه أقنع نفسه بأنها تفكر في الأمر ، غير مدرك أنها في صراع داخلي ، من ناحية أرادت الموافقة ، من ناحية أخرى تريد تحطيم فك ذلك الأرعن بجانبها ، لكنها لا تريد أن تظهر مختلة عقليا أمام ذلك الرجل الأنيق الذي قال لها بسرعة يحثها على اتخاذ القرار : قولتي ايه موافقة!!


#الفصل_٨


الفصل الثامن

دعينا نختلف مرةً واحدة، لنذهب في إتجاهين مختلفين مثلًا، أنا بإتجاهكِ وأنتي بإتجاهي 🖤

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

استدار بدر ونظر إليها بغضب كاد أن يحرقها في مكانها ، فابتلعت لعابها بتوتر شديد ، وللمرة الأولى ترآه بهذا الإستهجان ، وازداد ارتباكها عندما صرخ بتهديد مضحك : النموس دا انا هخليه يلدغ أمه عشان يغور من هنا

اندهش مازن من صمتها ، لكنه أقنع نفسه بأنها تفكر في الأمر ، غير مدرك أنها في صراع داخلي ، من ناحية أرادت الموافقة ، من ناحية أخرى تريد تحطيم فك ذلك الأرعن بجانبها ، ولكنها كانت لا تريد أن تظهر مختلة عقليا أمام ذلك الرجل الأنيق الذي قال لها بسرعة يحثها على اتخاذ القرار : قولتي ايه موافقة!!

قلبت حياة عينيها عن بدر متجاهلة شعلة الغضب الملتهبة في عينيه ، ثم أومأت برأسها لمازن بهدوء وقلب مطمئن لأنها لن تذهب بمفردها بعد تأخرها ، قائلة بامتنان صادق : اكيد موافقة .. انا مش عارفة اشكرك ازاي علي ذوقك معايا

سرعان ما ارتفع جانب شفتيها باستياء ساخر لم يلاحظه أحد إلا بدر عندما سمعته يزمجر بحنق : انا خلاص جبت اخري .. مانتيش راكبة معاه يا حياة علي جثتي

بينما اتسعت ابتسامة مازن ، وأومأ برأسه لها ، قائلا بلطف : استنيني هنا لحظة واحدة .. هجيب عربيتي من الجراچ وراجع

تمتمت حياة بنبرة ناعمة دون أن تنظر في عينيه لأن فكرها كان منشغلاً بشيء آخر : اتفضل

عندما غاب عن عينيها تحولت نبرة صوتها من النعومة إلى الحدة ، وقالت بهمس غاضب وهي تستدير نحو بدر مرسلة له نظرات حانقة : ايه قلة الذوق دي يا كائن انت .. عمال زن زن علي وداني وتشوشر علي كلام الراجل .. ماكنتش عارفة ارد عليه وخليتني متلخبطة زي الهبلة قدامه

حدق بدر في وجهها بعيون ضيقة ، ثم صاح باستنكار : عايزاني اقف جنبك طبق دش ساكت ولا اعمل ايه!! وبعدين دا منحنح اصلا انا عارفو كويس

ارتفع حاجبها وهي تنظر إليه بشك ، ثم سألته : تعرفه كويس والله .. وايه مشكلته بقي!!

نظر إليها بدر في صمت لفترة طويلة ، ثم تمتم بسخرية : ابدا لسانه حلو مع كل الستات

ردعت حياة ضحكة صاخبة كادت أن تفلت من حلقها ، لكنها ابتسمت وقالت باستفزاز : دا عز الطلب .. مش احسن ما يكون محامي وكشري .. مابيعرفش يضحك حتي في الصور

لاحت شبه ابتسامة على فمه رغماً عنه ، وهو يغمغم : كأنك بتلقحي عليا بالكلام!!؟

هزت حياة كتفيها بلا مبالاة ، وهي تنظر في الاتجاه الآخر ، وقالت ساخرة : الحدق يفهم بقي

عادت عيناها بسرعة إلى عينيه ، وبداخلها نظرة مترجية ، وأردفت بإستماتة : انا ماصدقت حد يساعدني ماضيعش الفرصة من ايدي

هز بدر رأسه رافضًا لسبب غامض ، وعادت ملامحه جامدة مجددًا ، قائلاً بإصرار : بصي انا قولت كلمة .. علي جثتي لو ركبتي معه يا حياة

رفعت حياة يديها بشكل عفوي ولوّحت براحتيها بعدم تصديق ، ثم هدرت بإستنكار : لالا واضح ان عندك لبس في مخك .. انت مجرد شبح واحد ميت طلعلي .. مش ولي امري وانا حرة في تصرفاتي فاهم

..... : انسة حياة

عندما وصل صوت مازن إلي مسمعها ، صمتت على مضض ، وأبعدت عينيها عن بدر ، ثم هرولت مسرعة من أمامه نحو سيارة مازن ، بينما كان بدر محدقا فيها بعدم رضا.

"مازن كمال منصور"

"32 عام"

"طبيب باطني"

"لديه شخصية اجتماعية ، لطيف جدا ، طيب القلب ، خفيف الروح ، مبتسم دائما ، مفعم بالحيوية والنشاط ، والثقة بالنفس ، ولديه جاذبية قوية ، لكنه غير مستقر وهذا نابع من حبه الكبير للشعور بالحرية ودائما يغير رأيه في وقت قصير ، يتمتع جاذبية أخاذة ، ووجه مضيء ، حسن المظهر ، ويهتم كثيراً بأناقة ملابسه ، وهو دائمًا يحب التمارين البدنية والفكرية ، يعشق شرب الحليب يومياً ، يمتلك جسد طويل رياضي ، وشعر بني ، وعينين ذو نظر حاد وثاقب تتميز بلونها الأخضر المائل للون البحر."

★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••

في غرفة مكتب واسعة مع أثاث أنيق

حياة جالسة أمام مكتب مديرة المدرسة ، التي بدورها نظرت إليها بنظرة شاملة.

شعرت حياة بتوتر داخلي كبير وقلق ، خاصة في وجود ذلك البدر ، المقتضب وجهه بقوة ، من أسلوب مازن اللطيف معها ومجاملته الرقيقة لها كلما سنحت له الفرصة.

أولت حياة اهتمامها الكامل للمرأة التي يبدو أنها في أواخر الأربعينيات من عمرها ، عندما قالت متسائلة بعد إغلاق ملف حياة الورقي : كنتي بتشتغلي في مدرسة اسكندرية قبل ما تيجي هنا يا حياة؟

حاولت حياة تجاوز هذا التوتر بأخذ نفس عميق يجلب السلام لقلبها ، ثم ردت بابتسامة مهذبة : بالظبط حضرتك .. انا ادآب انجليزي وكان نفسي اشتغل في شركة سياحة .. لكن لسه مجتش فرصة شغل مناسبة

سألتها المديرة بهدوء : وانتي ليه عايزة تعلمي اطفال الحضانة .. الافضل انك تكوني مدرسة ابتدائي!!

ابتسمت حياة برقة ، وأجابت بلباقة : انا بحب الاطفال الصغيرين جدا ولما اتخرجت من سنتين تقريبا .. اشتغلت في مدرسة في اسكندرية بعلم الاطفال الصغيرة مش انجليزي وبس .. طريقة النطق الصحيحة والرسم وأنشطة تربوية تساعد في تأسيسهم قبل المرحلة ابتدائية

إنفرجت شفتي المديرة بابتسامة ، وقالت بإعجاب : حلو جدا يعني هتملي وقت الاطفال بأنشطة مفيدة

عاد إلي حياة الشعور بالحماس ، وهزت رأسها قائلة بثقة : إن شاء الله هعمل كدا

تدخل مازن في الحديث بخفة ظل ، بعد أن كان صامت يتابع الحوار بنظرة مليئة بالإنجذاب نحو حياة : علي خيرت الله .. نقول مبروك يا استاذة ميرفت علي قبولها معاكي

ابتسمت ميرفت بطبية لمازن ، ثم عاودت النظر إلى حياة التي شعرت بتشنج في بطنها من القلق والترقب ، وقالت بنفس الابتسامة ولكن بنبرة جادة : شوفي يا حياة انتي هتشتغلي فترة مؤقته .. اشوف فيها مدي شطارتك مع الاطفال .. دا عشان انتي ورقك قدامي مظبوط وحاسة بروحك الحلوة اللي هتبهج الاطفال وعشان مجية دكتور مازن لحد هنا .. بس مش هتتعيني رسمي الا مع بداية العام الدراسي الجديد

أومأت حياة برأسها متفاهمة ، ثم سألت بأدب : تمام يعني ابدأ احضر مع الاطفال من امتي ؟

أجابت ميرفت بنظرة حازمة تليق بمنصبها : من بكرا .. بس اهم حاجة عندي تكوني هنا في معادك مابحبش التأخير خالص

دمدمت حياة بابتسامة مجاملة ، في حين عاد لها الشعور بالقلق مرة أخرى وهي تفكر في كيفية الالتزام ، وذلك الوقوف وراءها دفع نفسه عنوة إلى حياتها البائسة : ان شاء الله .. ميرسي جدا

★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••

أمام المدرسة بعد بضع دقائق

خرجت حياة من البوابة الكبيرة ، تبعها مازن ، بينما مر بدر عبر الحائط ، فهزت رأسها استنكارًا منه ، حيث أصبح يزعجها بمطاردته إليها في كل مكان ، وهذا ما زاد من إضطرابها رغم عنها.

تنحنحت حياة بخفة ، وقالت بإبتسامة خجولة : انا اسفة اوي عطلتك معايا يا دكتور اكيد اتأخرت علي شغل والمرضي بيدعو عليا

عقد مازن حاجبيه بإعتراض ، ثم هتف بود : ماتقوليش كدا احنا جيران ودا واجبي

اتسعت ابتسامتها من أناقة أسلوبه ، وقالت بعذوبة : ميرسي اوي انت في منتهي الذوق

ابتسم لها مازن بهدوء وهو يفرك رقبته ، كأنه يشاور عقله في أمر ما ، لكنه متردد ثم سألها بتريث : تحبي اوصلك البيت !!

فجأة زأر بدر بوعيد ، وهو واقف بينهما وكأنه عازول : عارفة لو وافقتي هعفرت امه انا جبت أخري منكو انتو الاتنين

جفلت حياة بشدة وتبخرت شجاعتها عندما تذكرت ما فعله بها في الصباح ، ووجدت نفسها بسرعة تهتف الكذبة الأولى التي قفزت في عقلها ، وهي تلوح بيديها بشكل عشوائي : لالا مفيش داعي اتعبك .. انا حابة اتمشي شوية وهروح اشوف وحدة صحبتي قريبة من هنا

ابتسم بدر برضا من ردها ، بينما عبس مازن محبطًا لأنه استمتع برفقتها ، لكنه قال بابتسامة قبل أن يستدير لسيارته : زي ما يريحك اشوفك علي خير

اطلقت حياة زفرة راحة قائلة بخفوت : مع السلامة

★★★

انتظرت حياة عدة لحظات حتى اختفت السيارة تمامًا عن بصرها ، ثم التفتت إلى بدر بغيظ ، لكنها شعرت بسقوط قلبها عند قدميها عندما رأت ملامح وجهه مكفهرة جدًا ، وكادت أنفاسه الغاضبة أن تمزقها من أرضها ، لكنها قررت ألا تظهر أي خوف رغم أنها ترتجف كالورقة البالية في داخلها.

ظلت نظراتها العسلية العنيدة ثابتة في عينيه الغاضبتين ، كأنها تتحداه بتلك العيون وتستهزأ به ، ثم صرخت في وجهه بهجوم : ايه مشكلتك بالظبط؟ من الصبح مش طبيعي .. انت معصبني بتصرفاتك وكلامك علي فكرة

ازداد السخط في عقل بدر حين رأى وميض من الإعجاب يتلألأ في عينيها تجاه ذلك الطبيب ، وشعور غريب بالألم يندلع في قلبه حتى أنه لا يعرف لما يشعر بذلك الشعور.

هو فقط يفهم أنه غاضباً لأول مرة منذ أن قابلها ، أو بالأحرى عندما تذكر شجاره مع ذلك المازن منذ فترة.

استشاط غضبا جازا علي أسنانه بقوة ، عند وصوله لهذه النقطة من التفكير ، صائحاً بصرامة : لا والله .. الواد دا مش عايز يكون ليكي علاقة بيه مفهوم

ضيقت حياة عينيها مستنكرة سلوكه الغريب ، ثم قالت بخفوت : انت ايه !! كل شوية تهددني بالطريقة دي بأي حق!!

ثم أردفت بنبرة حانقة في محاولة منها ، لتجاهل دقات قلبها التي ارتفعت من عينيه الثاقبتين في عينيها : انا ماخلصتش من تسلط خطيبي واختي عليا عشان اقع في شبح عايز يقلبلي حياتي من غير وجه حق

رفع جانب شفته العليا وسألها باستهزاء : اومال عايزة حد زي الدكتور المنحنح دا في حياتك

حدقت حياة فيه بغيظ ، ثم حذرته قائلة بتذمر : لو سمحت ماتلبخش في الكلام ومايخصكش..

ثم استأنفت كلامها بنبرة منفعلة : وانا مش هرتاح إلا لما اشوف طريقة اصرفك بيها من حياتي

شعر بدر بوخز في قلبه لما قالته ، لكنه رسم ابتسامة مزيفة على وجهه وقال بكبرياء : ومين قالك اني عايز اكون معاكي حبا فيكي!! ماتتعبيش نفسك وتدوري..

عقدت حياة حاجبيها بتهكم على كلامه المتعجرف ، ثم استفسرت : يعني ايه؟

سحب بدر الهواء إلى رئتيه بقوة ثم تكلم ببرود : ساعديني افهم اللي جرالي دا سببه ايه!! في مقابل انك قاعدة في شقتي بدل بهدلة الأوتيلات

سكتت حياة قليلًا ، تفكر في إقتراحه ، ثم سألت بعناد ، و ذراعيها متشابكتان أمام صدرها : وانا ايه يجبرني اساعدك!!

أشار بدر إليها بذقنه باتجاه الطريق الرئيسي ، حيث كانت تقف تحت ظل شجرة كبيرة تمنع المارة من رؤيتها ، ثم قال بجدية : جربي تكلمي معايا قدام حد هتلاقيهم بيبصولك بإستغراب وشفقة .. عشان واقفة بتكلمي شخص مالوش وجود الا قدام عينك انتي بس..

وأضاف بنفس الجدية حين لاحظ عبوس ملامح حياة : مفيش قدامك غير إختيارين يا أما هيخدوكي علي مستشفي الأمراض العقلية اذا استمر الحال علي كدا .. يا توافقي تساعديني بجد وتعرفي اللي حصلي .. ساعتها اوعدك اني هسيبك في حالك

كانت تستمع إلى ما كان يقوله بصمت ، وهي مطرقة رأسها للأسفل محدقة في الأرض ، وبدأت تقلب تلك الكلمات القاسية التي تفوه بها بدر في حيرة شديدة تطوف داخل ذهنها ، و غيمة من الحزن حاوطت قلبها من شدة البؤس الذي غلفها فجأة ، إذا استمر هذا الوضع لفترة طويلة ، فإنها بالتأكيد ستفقد عقلها والعمل الذي سيجعلها تستقر هنا دون الحاجة إلى مساعدة أختها أيضًا ، هامسة في سرها : يعني خلاص انا ادبست فيه .. اشكي لمين انا ولا احكي لمين!! محدش هيصدقني .. اذا كنت انا نفسي مش مصدقة نفسي

كانت منغمسة في أفكارها ، حتى جاءها صوته البارد الذي يتخلله الترقب عندما تأخرت في الرد عليه : ها قوليلي قرارك ايه؟

رفعت حياة رأسها إليه ، وإستقرت عيناها المملوءة بالحنق فى عينيه الداكنتين اللتين لم يكن فيهما سوى بريق يتلألأ بآمال كثيرة تتعلق على كلمة واحدة منها.

تجعد حاجبيه بحزن عندما رأى ذلك اللمعان المتلألأ بالدموع في عينيها ، لكنه أغمض عينيه براحة تغلغلت بعمق في داخله على الرغم من نطقها بتلك الأحرف القليلة بتردد كبير : هساعدك

★★★

بعد مرور فترة وجيزة

وصلت حياة إلى مدخل المبنى وواضحة علامات الإرهاق على وجهها الشاحب ، على عكس ما خرجت منه في الصباح ، بسبب التفكير المستمر في ذلك القرار الذي اتخذته للتو ، وتساءلت في قرارة نفسها!!

هل يمكن أن تكون قد تسرعت عندما وافقت على ذلك الجنون الذي طغى على حياتها فجأة ، ليس هناك أي منطق فيما يحدث؟

في حين أن بدر التزم الصمت التام مثلها ، و سار خلفها بهدوء.

حركت قدمها لتصعد الدرجة الأولى من الدرج ، لكنها أمسكت بدرابزين الدرج بيدها اليسرى ، ورفعت يدها الأخرى على جبينها ، وهي تئن بصوت ضعيف عندما هاجمها شعور بدوار قوي علي حين غرة.

حاولت جاهدة المقاومة لكنها لم تستطع تحمل ذلك ، فلم يستغرق الأمر بضع ثوان حتى فقدت وعيها بالكامل بعد أن سمعت صوت نداء وصل إلى أذنيها من بعيد.

★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••

تركض بنشاط في المجمع السكني الذي تعيش فيه كالمعتاد يوميًا قبل الذهاب إلى العمل للحفاظ على وزنها المثالي ، مرتدية بدلة رياضية بيج مع خطوط متباينة الألوان واسعة ، حيث كانت السترة مصممة بفتحة أمامية بسحاب وكان البنطال من نفس الألوان ، ذو خصر مرن ، وفيه جيبان كبيران في الأمام وجيبان صغيران في الخلف يتناسبان مع جسدها ، ويبرز جمال قوامها الرشيق.

وصلت إلى منزلها ثم دخلت بخطوات خفيفة كالفراشة ، تتساقط بعض قطرات العرق من جبينها ، التى بدأت تجففها بمنشفة صغيرة أحضرتها الخادمة عندما قابلتها عند الباب.

تفاجأت عندما وجدته في غرفة الجلوس الفخمة ، جالسًا بشكل مريح على الأريكة ، باسطا يديه على ذراعي الأريكة وفارجا رجليه باتساع ، فتساءلت بدهشة : كريم!! انت بتعمل ايه هنا؟!!

حدق كريم بسخرية في ملامح وجهها المصدومة من رؤيته ، وأجاب بابتسامة مستفزة : هكون بعمل ايه!! قاعد مستنيكي يا اميرة هانم

شعرت أميرة بتصلب في جسدها من نبرة صوته ، التي جعلتها ترتبك رغم إرادتها ، لكنها حاولت التظاهر باللامبالاة وتحدثت باستفسار : اشمعنا .. وليه بدري اوي كدا.. ؟

أردفت بقلق ، وخطت نحوه خطوتين بعيون واسعة بترقب : في جديد حصل!!

أدار كريم عينيه بغيظ من قلة اهتمامها لأمره وكل ما يجول في خاطرها فقط الاطمئنان على نفسها ، ثم ابتسم بتهكم على أنانيتها التي لن تتغير ، قائلاً ببرود : قولتيلي هشوفك في النادي واختفيتي وماردتيش عليا من ساعتها .. قولت اجي اشوفك انا

تنهدت أميرة بارتياح ، ثم قالت بكذبة بدت في حركة عينيها الزائغة في كل مكان ما عدا عينيه الحادتين : عادي انشغلت شوية وماقدرتش اروح النادي مع ماما

أنهت جملتها تزامنا مع وقوف كريم بإستقامة أمامها بكل أناقته ، متألقاً في قميصه الزيتوني ، تاركا أزراره الأولى مفتوحة وبنطاله الأسود الذي وضع كفيه في جيوبه ، واقترب منها بينما يتمتم : هحاول اقتنع

زفرت أميرة الهواء بإستياء ، ثم اشاحت نظرها المشتت عنهُ وقالت بنزق : كريم .. لو في مفيد قوله ولا انت جاي تكركب معدتي علي الصبح وخلاص!!

لم يعجبه هروب عينيها منه ، دائراً وجَّهها بأبهامه واضعاً أياه تحت ذقنها ، حينها التقت عيناها الجميلتان مباشرة في عينيه الثاقبة لسبر أغوارها بضع ثوان قبل أن تنخفض عيناه إلى شفتيها الشهية ، و لمعت فيهم شعلة الرغبة ، وانحنى قليلاً في اتجاهها تلقائيا ، يتحسسهم بطرف ابهامه شاعراً بنعومتهم المهلكة لأعصابه ، وتساءل في همس مثير : مالك بقيتي عصبية اوي كدا؟

ابتلعت أميرة لعابها بتوتر وهي ترفع يدها وتبعد يده عن وجهها ، ثم استدارت خلفها بحذر وهي تقول بتذمر : يوووه تعالي نتكلم في مكتب بدر

أنهت كلامها تزامنا مع تحرك قدميها إلى اليسار ، بينما كريم يمسح وجهه بضيق ، ثم مشى خلفها بخطوات واسعة.

انتظرت أميرة حتي ولج إلى المكتب ، وأغلقت الباب خلفه ، قبل أن يستدير نحوها صائحا بتساؤل دون وعي منه : انتي لسه مضايقة من اللي حصل بينا!!

تجهمت ملامح وجهها الجميل ، وصرت علي أسنانها غضباً ، ثم همست بتحذير : لو سمحت وطي صوتك ماما في البيت .. والاحسن اننا مانفتحش الموضوع دا خالص و ننساه

تبدلت تعابير وجه كريم إلى صرامة بعد أن كان ينظر إليها بتساؤل ، وتحدث بلهجة هادئة ولكنها لا تخلو من بعض الحدة : ننساه ليه؟ انا قولتلك اني عايز اتجوزك .. واللي عملته دا كنت بعبرلك بيه عن حبي اللي لو كنتي حسيتي بيه من الاول ماكناش وصلنا للي عملنا دا!!

حملقت فيه أميرة بصدمة لبضع ثوان ، حتى استطاعت استيعاب ما قاله ، ثم تمتمت بحدة ناعمة : انت اتهبلت يا كريم جواز ايه؟ انا لسه علي ذمة بدر .. واللي انت عملته دا انا مش هسامحك عليه انا بنت خالتك وبس فاهم كلامي

رفع كريم حاجب بعدم تصديق مما تفوهت به أمامه ، ثم سأل باستنكار : والله ايه البراءة اللي بتكلمي بيها دي؟ كأنك ماشتركيش في اللي عملنا سوا في بدر جوزك!!

تساءل بسخرية لاذعة يشوبها حزن مصطنع في نهاية جملته قبل أن يتحرك نحوها قاطعاً الخطوتين التي تفصل بينهما ، وقبض على عضدها بعنف ساحبا أياها تجاهه حتى اصطدمت أجسادهم ببعضها البعض ، مردفا بهمس خطير كفحيح الأفاعي في أذنها : هي كلمة تحفظيها زي اسمك .. انتي بتعتي يا اميرة و خلاص بدر مات .. واول ماهتظهر جثته ونتأكد ان مفيش خطر علينا هنتجوز

تجمدت أوصالها للحظات دون أي رد فعل منها ، وتخدر ذراعها في أسر قبضته ، ثم سرعان ما انتبهت لما قاله ، وأنه قريبًا جدًا منها ، فدفعته بيدها وابتعدت عنه مسافة لا بأس بها ، قائلة بغضب : اوعي ايدك .. بلاش جنانك دا اللي هيودينا في داهية يا كريم!!

تنهد كريم بعمق ، وأغلق عينيه بقوة لبعض الوقت حتى يتمكن من السيطرة على نفسه المبعثرة من قربها المهلك من جسده ومشاعره.

فتح عينيه ببطء ، ثم تصنع الامبالاة ، متسائلاً ، وعيناه تراقب بابتسامة ما آلت اليه تعبيرات وجهها المتورد من التوتر والغضب : ماشي عملتي ايه مع البت اللي قاعدة في شقة بدر!!؟

"كريم فخري الجمال"

"32 عام"

"طبيب جراح في إحدي المستشفيات"

"أعزب"

"يبحث عن كيف يكون ثريًا ، حتى لو تطلب الأمر قتل ضميره ، يشعر بالغيرة الشديدة ممن حوله ، ولا يمكنه الاستقرار في العلاقات الغرامية ، لأن ما يحبه اليوم يمل منه غدًا ، والمرأة التي تستطيع أن ترضيه في عقله وقلبه وجسده معًا متزوجة من رجل آخر ، متهور إلى أقصى الحدود ، ولا يغفر أو ينسى حقده إذا أخذت منه شيئًا يريده أو إذا أساءت إليه.

جذاب ، وسيم للغاية ، ذو بشرة بيضاء وجسد رياضي وطويل ، وجه مستدير ، وخدود عريضتين وذقن مدببة مغطاة بلحية خفيفة ، ورقبة طويلة ، وجبهة عريضة ، وعيون حادة من العسل الفاتح ، وشعر بني فاتح ناعم."..



         الفصل التاسع والعاشر من هنا 

    لقراءة جميع فصول الرواية من هنا

تعليقات