رواية شبح حياتي الفصل التاسع 9 والعاشر 10بقلم نورهان محسن


رواية شبح حياتي

الفصل التاسع 9 والعاشر 10

بقلم نورهان محسن


الفصل التاسع

اللسان مجرم مسجون خلف الأسنان ، إن أفرجت عنه عند الغضب رماك في زنزانة الندم تحت حكم الضمير.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سمعت أصواتا غريبة من حولها ، لكنها لم تفهم منهم شيئا ، ثم بعد لحظات فتحت عينيها المتشربة بلون الشمس ببطء وحذر بسبب الضوء القوي في عينيها حتى تعتاد على أشعة الشمس الساطعة فوقها.

نهضت متكئة على مرفقيها ، تدير رأسها وتنظر إلى اليسار واليمين حتى تستكشف هذا المكان الغير مألوف من حولها ، لتجد نفسها كانت مستلقية على العشب الأخضر في أرض مستوية كبيرة ، ولا يوجد فيها مخلوق أخر سواها.

قالت بخفوت ، بينما علامات الاستفهام تحوم فوق رأسها : انا بعمل ايه هنا..!!

اتسعت عيناها في دهشة عندما لم يستطع عقلها ترجمة ما تراه ، ثم تمتمت ببلاهة ، وهي تنهض ببطء من الأرض : اكنش موت و روحت الجنة

: حياة

استدارت بسرعة عندما سمعت ذلك الصوت المحفور في ذاكرتها إلى الأبد ، واتسعت مقل عينيها النرجسية في عدم تصديق ، وتلعثمت من المفاجأة : ب بابا!!

ظهرت ابتسامة عريضة على ذلك الوجه البشوش محدقا بها بشوق ، قائلا بنبرة مليئة بالحنان : عاملة ايه يا حبيبتي!! طمنيني عليكي..

رمشت عينها عدة مرات ، حتى أدركت أنه لا يوجد أحد أمامها إلا والدها الحبيب ، وسرعان ما ملأت الدموع عينيها قبل أن ترد عليه بلهفة مقتربة منه : انا كويسة انت وحشتني اوي يا بابا

أردفت حياة بنوع من الحيرة بعد بضع ثوان من الصمت : بابا احنا فين هو انا موت و جيتلك الجنة!!

هز رأسه سلبا ، ثم قال بجدية : لا يا حياة انتي لسه عايشة وانا اللي جيت اقولك الحقيه

جعدت حاجبيها بعدم إستيعاب قبل أن تسأل : مش فاهمه قصدك مين يا بابا!!

وضع يده على ظهرها ودفعها برفق حتى تمشي معه ، متحدثاً بهدوء : حياة .. مش فاكرة لما كنتي دايما تسأليني انا ليه مختلفة عن باقي الناس

أومأت حياة بالإيجاب دون أن تنبس ببنت شفة.

أستأنف قولا بإبتسامة صغيرة : فاكرة كنت برد اقولك ايه؟ دي خلقة ربنا ليكي وعمر ابدا ما ربنا ماخلق حاجة وحشة .. وكل حاجة دايما ليها سبب يا حياة حتي لو ماكناش نعرفه بس السبب دايما موجود

ابتسمت له حياة ، وهي تخفض بصرها إلى الأرض ، وهم يمشون ، ثم همست بخفوت : ونعم بالله..

توقف والدها فجأة عن المشي وهو يلتفت إليها ، ثم مد أطراف أصابعه برفق ، ورفع وجهها لتنظر إليه ، ليكرر كلماته بإصرار أكثر : المرة دي انا جاي اقولك نفس الكلام وافكرك بيه .. مافيش حاجة مالهاش سبب حتي لو مانعرفوش

حدقت به لبرهة دون أن تجيب قبل أن تشيح بنظرتها عنه بفكر مشوش بادياً على ملامحها ، لكنه قطع حبل أفكارها حين هتف بجدية : هي دي مهمتك يا حياة افتكري انك جيتي الدنيا عشانه و لازم تساعديه يا بنتي .. يمكن تتعبي شوية بس مفيش مستحيل ولا صعب هيحوشك ان شاء الله ماتيأسيش

رفعت بصرها إليه بعد خروجها من حالة ذهول التي انخرطت فيها عدة دقائق ، ثم حاولت الاعتراض على ذلك قائلة بمجادلة : بس يا بابا انا...

قطعت كلامها حالما وجدت المكان خاليًا ولا أثر لأبيها ، ثم صرخت مندهشة وهي تنظر حولها : بابا انت روحت فين!!

رفعت رأسها إلى السماء متنهدة بقلة حيلة ، ثم بعثرت شعرها بكلتا يديها ، وأحاطت بها علامات التعجب والاستفهام من جميع الجهات ، ثم تمتمت في حيرة من أمرها : دا انا اللي محتاجة مساعدة يا حج .. باينك هتشربي المر بشاليمو يا حياة!

وضعت يدها فوق عينيها حتى تحجب أشعة الشمس عنها حتى ترى من يقف بعيدًا ، يدير ظهره لها ، لم تتعرف عليه في البداية ، لكنها سارت في اتجاهه بفضول ،  لعله يتمكن من مساعدتها.

اندهشت عندما لم تعد المسافة بينهما كبيرة حيث استطاعت تحديد هويته رغم أنها لم تفهم سبب وجوده هنا ، لكنها نادته بصوت عال حتي يلاحظ وجودها : بدر .. يا بدر

واصلت الركض نحوه حتى أصبحت المسافة بينهما بسيطة للغاية ، ولكن عندما التقطت أنفاسها حتى تتمكن من الكلام ، فجأة ، اهتزت الأرض بقوة تحت أقدامهم ، مما جعل حياة تفقد توازنها وتسقط على الأرض التي تغير لونها من تفقد الأخضر إلى الأسود.

شعر بدر أن الأرض تنفصل عن بعضها وتنقسم تحت قدميه ، لكنه لم يستطع الهروب وسقط في الهاوية.

صرخت حياة باسمه خوفًا ، وشعرت بألم يعتصر قلبها بشدة ، لكنها نهضت من الأرض وهرعت نحوه بأسرع ما يمكنها ، وعندما وصلت إلى حافة الأرض الممزقة ، نظرت إلى الأسفل بعيون منفرجة علي مصراعيها من هول ما تراه ، فالمسافة كانت شاهقة ومرعبة ، لكنها تنفست الصعداء عندما رأت بدر يتشبث بكلتا يديه على حجارة كبيرة تأخره عن الوقوع في تلك الهاوية التي في جوفها نار منصهرة.

جثت حياة على ركبتيها ، ومدّت يدها إليه لمساعدته ، تجمعت العبرات الساخنة داخل مقلتاها مهددة بالنزول ، صائحة بسرعة : بدر .. حاول تمسك في ايدي

ولكن قبل أن يمسك بيدها ، ظهرت مجموعة من الهياكل العظمية تحته ، محاطة بنيران مشتعلة ، وتمسكت بقدميه يرغبون أسقطوه بالقوة.

ألقى بدر نظرة إلى الأسفل وهو يقاوم من يجذبونه ، ثم نظر إلى حياة التي كانت تجتهد للوصول إلى يده الممدودة إليها بكل طاقتها ، وعندما كانت على وشك أن تلمس راحة يده ، قال لها : حياة .. لا تدعينني أرحل!!

★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••

بإحدي المستشفيات

داخل غرفة بيضاء على سرير صغير حيث كانت حياة مستلقية عليه بوجه شاحب بينما كان بدر جاثياً بجوار رأسها مباشرة ، يراقب ما يحدث حولهم بتركيز.

على الجانب الآخر من السرير ، وقفت ممرضة تتفقد المغذي المعلق في يدها ، قبل أن تتجه إلى حمزة ، الذي قد دخل للتو ، وقال بلهفة : طمنينا عليها يا بنتي!!

ابتسمت الممرضة وقالت بنبرة طبيعية : ماتقلقش يا عم الحج كان ضغطها واطي وهي دلوقتي نايمة لما يخلص المحلول هتروح معاكو

قالت كريمة بابتسامة بينما كانت الممرضة تغادر الغرفة : متشكرين يا ست البنات ربنا يطمن قلبك

أمسك حمزة بذراع زوجته وقال بصوت هامس : خلينا نستني برا لحد ما تفوق براحتها يا ام كرم

سارت بكريمة ، متكئة عليه بحذر ، وقالت بطاعة : حاضر يا حج يلا بينا

★★★

أما بدر فلم يسمعهما لأنه كان غارقًا في أفكاره ، وداخل ذهنه تساؤلات كثيرة تطرح نفسها مرارًا وتكرارًا ، ما هذا الألم الغريب الذي استوطن في قلبه؟

ما الذي يمر به الآن ، هل هذا ما يسمى الشعور بتأنيب الضمير؟

لأن حرفيًا فرت الدماء من عروقه بذعر عندما وجدها فاقدة للوعي أمامه.

كان شعوره بالخوف عليها في تلك اللحظة كافياً لإقناعه بأن ما يحاول الوصول إليه وإثباته.

ما هو إلا سراب وأنه ليس إلا في المكان الخطأ ، ثم يعود عقله يجادل مرة أخرى ، قائلاً هذا الأمل الأخير لدينا ، كيف يمكنه التخلي عنه بهذه السهولة؟ ولماذا يضحي بهذا الأمل من أجلها؟

ليصدح صوتًا مجهولاً في أعماقه ، ويكرر أن آخر ما يريده الآن هو أن يكون سببا في إذيتها التي من الواضح إذا استمروا معًا أكثر من ذلك ، ستحدث لها المزيد والمزيد من المشاكل ، لكن هناك شيء مخبأ بداخله منعه من المغادرة رغم أنه لا يعلم إلى أين وجهته دون أن يودعها على الأقل ، معربًا عن ندمه الشديد على ضغطه عليها خلال اليومين الماضيين.

همهمت حياة في غفوتها باسم بدر الذي تصلب بصره عليها ، بمجرد أن سمع اسمه من شفتيها الشاحبتين دليلا علي إرهاقها ، وهناك عبره هاربة من عينها ، رآها بوضوح.

تململت في السرير ، وحاجبيها مجعدان بوهن ، تشعر بعبء ثقيل على رئتيها ، فتحت عيناها سريعًا حينما مرت عليها تلك الأحداث المرعبة التى راودتها مؤخراً.

رفرفت رموشها عدة مرات بسبب عدم وضوح الرؤية أمامها حتى تعتاد على الضوء تزامنا مع صوت إغلاق الباب ، بينما عيناها تجولان في الغرفة التي تقطن فيها ، ثم عفويا أدارت رأسها إلى الجانب الآخر لتلتقي بعينيه الغائرتين التي كانت تحدق بها بهدوء.

استمرت حياة تتأمل في ملامحه القريبة من وجهها بشرود عدة لحظات ، قبل أن تتنفس الصعداء عندما أدركت أن ما رأته ليس سوى حلم.

انتظرته قليلا ليبدأ الحديث معها ، لكنه بقي صامتاً وهو يحدق بها بعيون هادئة فقررت بتر ذلك الصمت ، وهمست بصوت متهدج : هتفضل ساكت كدا!! محدش موجود ممكن تتكلم

وقف بدر أمامها بإستقامة قبل أن يجلس بجوارها على حافة السرير ، قائلا بنبرة حزينة دون أن ينظر إليها : مش قادر اقول حاجة بعد اللي حصل بس انا بجد اسف

إعتدلت حياة قليلا في جلستها مع بعض التعب ، قائلة بغير فهم : أسف علي ايه!!

رد بدر ببساطة : علي رقدتك دي بسببي

رفع عينيه ليلتقي بنظرتها التي كانت تحدق به بدهشة ، ثم أردف : انا كنت اناني لما ضغطت عليكي ووصلتك للحالة دي

أراد أن يكمل كلماته ، لكن حياة أوقفته بإشارة من يدها ، ثم قالت بنفاذ صبر : هش!! ممكن تسكت وتسمعني شوية .. اللي حصلي دا سببه حاجات كتير من قبل ما اشوفك اصلا..!

الآن جاء دوره لمقاطعة كلماتها بصوت خافت يملؤُه الاعتراض : بس برده دا كان تصرف بشع مني اني استغل مساعدتك ليا بالطريقة دي..

طأطأ رأسه محاولا ضمر ما يعترى قلبه من مشاعر سلبية ، مخاطباً نفسه دون أن يلفظ بلسانه أمامها : حسيت بضعف وعجز لما شوفتك مرمية علي الارض وانا مش قادر اعمل حاجة خالص .. لولا عم حمزة سمع صوتك وانتي بتقعي ونقلوكي علي هنا معرفش كان ممكن يجرالك ايه!!

نظر إليها ، بينما قناع من البرود الزائف مرتسماً على وجهه ، قائلا بهدوء يتناقض مع فوران النار الذي ينهش قلبه : انا حبيت اشوفك قبل ما اختفي خالص عشان اقولك انا اسف ومش هحاول ازعجك تاني

تستمع إلى كلماته ، وهناك شعور غريب برفض ما كان يقوله ، مسبباً لها إختناق مجهول المصدر ، لكنها سرعان ما تجاهلت هذا الشعور ، وهزت رأسها بشكل سلبي ، ثم صاحت معارضة بصوت مبحوح : انت جرا لمخك حاجة!! اللي بتقوله دا مش هيحصل لازم نوصل لسبب اللي انت فيه .. ماتسيبنيش يا بدر

نظر في عينيها بعمق وكأنه يسبر أغوارها ، مما جعل حياة متوترة في مكانها ، وبحركة لا أرادية ، أشاحت بصرها بعيدًا عنه عندما تساءل : وايه اللي خلاكي تغيري رأيك؟ مش كنتي بتقولي ان دا جنان!! ليه صدقتي فجأة؟

تنهدت حياة وهي تنظر إليه مجددًا ، وتقول بإنزعاج مزيف : ما انا لازم اصدقه ماقدميش الا كدا يا اما هتأكد اني مجنونة بكلم مجرد طيف مالوش وجود وانا متأكدة انك موجود وبصراحة فضولي هيموتني عشان افهم

مرت بضع ثوانٍ من الصمت ، كان بدر خلالهم يجول بعينيه في ملامحها العابسة بلطافة ، ثم كسر ذلك الصمت قائلا ببعض التردد : يبقي خليني اقولك علي حاجة قبل ما تقرري هتكملي معايا ولا لا!!

تساءلت حياة بنوع من التشوق : حاجة ايه دي؟

لم يرد عليها ، بل تأمل فيها بصمت ، خصلاتها البرتقالية الثائرة مثل سجيتها حول وجهها الجميل ذو السحر الآخاذ ، خصلاتها تتدلى على ظهرها وكتفيها ، ثم أجاب بهدوء : انا افتكرتك لما كنتي صغيرة

ربتت على شعرها خفة تقوم ترتيبه بتلقائية ، عندما رأت عينيه مثبتتين عليه ، ثم تمتمت بتعجب وهي تشير على نفسها : افتكرتني انا!!

ابتسم بدر علي فعلتها العفوية ، قبل أن يهز رأسه قائلاً بجدية : ايوه افتكرت موقف وحش اوي حصل بينا

اتسعت حياة عينيها بذهول ، ورغم إرادتها مال جسدها نحوه باندفاع ، متسائلة باهتمام : ايه هو!!؟

ابتلع بدر لعابه قبل أن يخبرها بما تذكره بنبرة حزينة : كنت طالع من البيت مضايق اوي عشان ابويا صمم ادخل كلية الحقوق وانا ماكنتش عايزها .. فضغط عليا كعادته معايا ورضيت بالامر الواقع

رفع مقل عينيه إليها محدقاً فيها بنظرة لم تستطع تفسيرها ، لكنه كان يستعيد في ذاكرته الضعيفة صورة مشوشة لها إلى حد ما ، قبل أن يردف سارداً : خرجت من شقتنا لاقيت بنوته جسمها صغير اوي كأن عندها اربع سنين مش تمانية .. كل وقتها كانت بتلعب علي السلم عشان بتخاف تنزل تلعب مع عيال الجيران قدام البيت وانا ساعتها كنت متعصب و شايط .. حظها الوحش خلها في طريقي يومها طلعت غضبي المكتوم كله فيها..

تشكلت ابتسامة جذابة على شفتيه ، واستأنف حديثه بصوت هامس بعد أن أمال رأسه بالقرب منها كأنه يخبرها سراً : بيني وبينك انا كنت بغير منها ساعات .. أصلها واخدة اهتمام امي مني .. تخيلي انها كانت قبل حتي ما تعشيني تسأل الاول حياة اكلت ولالا اقولها انا مالي ومالها .. تقولي اسكت يا واد احنا عندنا كام حياة لازم نهتم بيها

ابتسمت حياة بخفة ، لكن تلك الابتسامة تلاشت فور أن أكمل كلامه : قولتلها كلام جرحها ووجعها .. اثر فيها اوي خليتها تفقد ثقتها في نفسها وندمان انه خرج من بوقي اصلا وياريتني ما قولته .. بس وقتها عصبيتي عميتني

ساد الصمت بينهما ليكون سيد المكان ، كل منهما سابحاً في أفكاره ، لكن بدر قال بصوت خافت أمام وجهها فجأة : أقولك سر..

كانت حياة تنظر إلى أصابعها بتفكير كأنها تبحث عن تلك الذكري داخل طيات عقلها ، ولكن حالما سمعت صوته الدافئ رفعت رأسها إليه بإهتمام ، وهمست بعيون واسعة ببراءة : قول!!

قال بدر بابتسامة حنونة تحمل في طياتها الكثير من المشاعر المجهولة لكليهما : انا كنت معجب جدا بشعرها اللي لونه غريب اوي واللي مستحيل يليق علي بنوته غيرها وماكنتش عايزها تفضل قاعدة بيه قدام اللي طالع واللي نازل علي السلالم

وضع بدر يده خلف رقبته ، وفركها بخفة ، ثم أضاف إليها نظرة براقة لم تلاحظها : بس بسبب غبائي برده لون شعرها اتغير من كتر ما صبغته عشان تداري علي جماله .. بس انا هفضل فاكر لونه الحلو وعمري ما هنساه تاني

ابتلعت حياة غصة في حلقها ، وانهمرت الدموع في عينيها من تلك الذكرى التي عادت إليها منذ الصغر ، لكنها متفاجئة جدًا من نفسها ، لماذا لا تشعر بالحقد والكراهية تجاهه؟

كيف يمكن أن يتأثر قلبها بكلماته الرقيقة لها التي لم تنكر أنها جعلتها سعيدة للغاية عندما تلامست فيها الصدق ، وقالت بصوت مبحوح دون أن تتطلع إليه : انت خوفتني اوي يومها يا بدر

ظهرت ابتسامة آسرة على شفتيه عندما تلفظت اسمه لأول مرة ، بهذا الصوت الناعم الخالي من أي السخرية ، ثم همس بهدوء : حقك عليا يا حياة انا ندمان علي اللي عملته وعايزك ماتزعليش مني

رفعت جفنيها إليه ، محدقة في عينيه المشعتين ببريق يعكس صورتها فيه بشكل جعل خفقاتها تتسارع في صدرها وكأنها دخلت في سباق سريع ، خاصة أنه كان يرمقها بعيونه العميقة وحواجبه المسترخية ، ووجدت نفسها تهتف بإندفاع أخفى توتر جسدها ، وهي تبعد أحد خصلاتها خلف أذنها : ايه ماتبصليش كدا!! ماهو اكيد انا مش هسامحك بسرعة اوي كدا .. اديني فرصة اعمل نفسي مقموصة يعني

سرعان ما تحولت نبرة صوتها المشاكسة إلى ضائقة عندما تذكرت ذلك الحلم الذي حلمت به منذ قليل ، واستأنفت حديثها وهي تنظر إلى يدها المعلقة فيها المحلول : اخر مرة دخلت فيها مستشفي يوم وفاة بابا من ساعتها بقيت بكرهها اوي و بكره ريحتها عايزة اخرج من هنا بسرعة

أطبق بدر جفنيه قليلاً ، حيث أرهقته نغمة صوتها الخافتة الحزينة ورق قلبه لها ، ثم سرعان ما فتحهما متسائلاً بتردد : حياة .. ممكن نبدأ من اول وجديد!!

نظرت في عينيه الداكنتين لبضع ثوان ، لكنها اتخذت قرارها في النهاية ، ثم أومأت إليه بالإيجاب لأول مرة دون أن يكون هناك أي شعور بالتردد بداخلها.

★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••

جاء الليل يسحب ستاره بعد غروب الشمس

كانت حياة نائمة وسط سرير بدر بالعرض ، بطريقة فوضوية تمامًا ، وساقها تتدلى من السرير وتعانق الوسادة بوداعة تتعارض مع أسلوب نومها الغريب من وجهة نظر بدر ، الذي لا يفعل شيئًا سوى مشاهدتها.

رغم أنه يحب مظهرها البريء وهي نائمة ، لكنه يفضلها وهي مستيقظة وتتشاجر معه بدلا من أن تتشاجر مع ذاتها أثناء نومها هكذا ، منذ عودتها من المستشفى وهي على هذه الحالة وكأنها لم تتذوق طعم النوم منذ عدة أشهر ، ولا ينكر أن حالتها تحسنت كثيرًا عن الصباح ، وهذا ما جعله يشعر براحة بسيطة.

اكتشف أن رؤيتها متعبة أمامه دون أن يكون قادرًا على تقديم أي شيء للمساعدة ، يجعله ضعيفًا جدًا أمام نفسه ، لأن ذلك الوجه الملائكي لا يستحق الإرهاق والحيرة التي سيطرت عليها منذ دخوله حياتها دون موعد ، فإنقلبت رأسًا على عقب ، لكن رغبته في البقاء بجانبها تزداد مع مرور الوقت ، فماذا يمكنه أن يفعل؟

تململ بدر بضجر قبل أن ينحني بخفة أمامها على السرير ، ثم صرخ متذمراً : حياة .. يا حياة أصحي بقي ايه النوم دا كلو!!

فجأة رفعت حياة رأسها بعيون نصف مغمضتين بينما ارتدت مرعوبة على صوت صراخه الذي اخترق أذنيها أثناء سباتها العميق وقالت بفزع : يمه العمارة بتتهد .. فين تليفوني .. ايه في ايه!!

عبست ملامحه الجذابة في استنكار حيث سألها ببراءة متناقضة مع صوته القاسي : انتي ليه بتتخضي مني كدا كل ما بصحيكي؟ ولو البيت اتهد تنفدي بجلدك ولا هدوري علي التليفون!!

فركت حياة فروة رأسها ، وهي تتثاءب بصوت مسموع ، ودلكت قلبها بيديها في محاولة لتهدئة دقاته السريعة بعد أن امسكت هاتفها العزيز وقبلته بإطمئنان ، ثم ردت عليه بابتسامة ساخرة : صحيح تفتكر ليه بتخض !! طالعلي عفريت بيفوت من جوا الحيطة و دايما قاعد فوق راسي وانا نايمة .. المفروض اخدو بالبوس و الاحضان واعملو عشاء كمان مش كدا!!

همهم بدر يلمس أنفه بحرج ، وقال ببرود استفزازي : من باب الذوق المفروض تعملي كدا..

ألقت حياة الوسادة التي كانت تحت رأسها لتوها تجاهه ، وتمتمت بسخط بينما مرت الوسادة من خلاله : عبو رخامتك

زأر صوت ضحكته الرجولي عالياً قبل أن يقول بدهشة ، ويشير إليها بإصبعه السبابة : سبحان الله اللي يشوفك دلوقتي مايشوفكيش الصبح قد ايه كنتي رقيقة و هادية بتتحولي بليل ولا ايه!!!

أنهي بدر جملته وهو يغمز لها ، مما جعل نبض قلبها يرتفع في صدرها مفتونًا ، لكنها تجاهلت سؤاله الساخر ثم التفتت لتنظر إلى الساعة المعلقة على الحائط ، و هتفت منزعجة بعد أن ترك النوم عينيها : عايز ايه يا بدر!! حرام عليك الساعة 8 بليل كنت سيبتني انام للفجر

مط بدر شفتيه إلى الخارج ، وسألها بصوت مذهول : وانا هقعد لوحدي للفجر!!

تشدق صدغها بسخرية وهي تجلس متربعة أمامه مباشرة على السرير واضعة قبضتيها تحت ذقنها ، وهناك نظرة زائفة من الدهشة على وجهها ، ثم سألته بمكر : ليه بتتكلم زي ما تكون عيل صغير وبتخاف من القعدة لوحدك!! دا احنا دفنينو سوا..

صر بدر أسنانه بغضب من أسلوبها الاستفزازي معه ، ثم تمتم بسباب : يلعن ابو ملافظك .. بتفولي عليا!!

مدت لسانها تجاهه ، وهي تضحك ثم نهضت من السرير ، ولم ترد عليه بل تجاوزته ، وإتجهت نحو الحمام لتستحم.


#الفصل_١٠


الفصل العاشر

ضحكاته كالصغار ، أكاد اذوب ولهاً بهاتين الحفرتين على جانبي خديه ، ومستعدة انفق عمري كاملاً تقديسا لهذا الثغر المبتسم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بعد وقت قصير

كانت حياة بشعرها الرطب الذى تفوح منه رائحة الشامبو المنعشة برائحة المانجو المفضل لديها.

جالسة على الأريكة الفسيحة مع وعاء كبير من الفشار في حضنها ، تأكله بشراهة أثناء مشاهدتها فيلمًا بتركيز وشغف يتألق داخل مقل عينيها.

دفعت القط بمرفقها بعيدًا بلطف حتى لا يدخل برأسه في الطبق ، قائلة بتوسل وعيناها مثبتتان على الشاشة الكبيرة في منتصف الصالة : بس بقي يا ميجو الله يرضي عليك مش عارفة اركز دا احلي مشهد في الفيلم

: الله برده

هتفت حياة بحنق ونظرت إليه بعيون ضيقة عندما اقترب مرة أخرى بإلحاح أكبر ، فتمتمت بغيظ بعد أن وضعت بعض حبات الفشار أمامه ليأكل ويرضي فضوله : دا انت رخم زي صحبك .. خدههم و حل عني بقي شوية

لفظ بدر سهواً ، دون مقدمات : مالو صاحبو بقي!!

سمعت صوته الهامس الذي داعب مشاعر عميقة بداخلها لدرجة أنه من اندماجها الكبير في الفيلم الذي كانت تشاهده ، اعتقدت انها تتخيله ، لذلك غمغمت دون وعي : غمازاته .. تجنن

ومض وهج في عيني بدر مقرباً وجهه من جانب وجهها لتداعب أنفه رائحة شعرها الرائعة والغريبة لكنها راقت له كثيراً ، وإرتسمت ابتسامة جانبية على زاوية فمه ، وهو يهمس بسؤال : مين دا!!

عضت شفتيها إنشداه ظهر في عينيها ، التي فتحتها على مصراعيها بذهول مما قالته للتو ، ثم تمالكت نفسها بسرعة ، مبررة بنبرة بريئة مشوبة بالتوتر وهى تشير إلى الأمام بإصبعها : ها .. أحم دا .. دا البطل .. قصدي علي بطل الفيلم

كز بدر على أسنانه سخطًا من أسلوب المراوغة الذي من الواضح أنها جيدة فيه ، لكنه متيقناً أنها كانت تقصده خاصة بعد الإرتباك الواضح الذي طرأ عليها.

صمت على مضض ، بينما يجلس بجانبها على الأريكة ، بعد أن كان يقف خلف الأريكة.

قوست حياة شفتيها بحزن ، ثم سرعان ما هتفت بابتسامة حالمة : خسارة الفيلم خلص .. بس عارف دا تحفة بموت فيه وكل ما بيجي بتفرج عليه

ظلت تعبيرات وجه بدر المُتجهمة كما هي مركّزًا للأمام من شدة عبوسه ، احتجاجًا على اجابتها السابقة ، لكنه غمغم على مضض : فعلا!!

وضعت حياة الطبق على المنضدة ، ثم سردت بحماس شديد دون ادني اهتمام إلى تعابير وجهه المكفهرة ، بعد أن استدارت على الأريكة وهي تثني إحدى رجليها تحتها حتى واجهت بدر بشكل كامل : ايوه دا فيلم خيالي و رومانسي اوي .. بيحكي ان بنت جميلة عايشة في عالم سحري كان نفسها تعيش حب حقيقي مع امير و فعلا لاقت الامير دا .. لكن الساحرة الشريرة مرات ابوه بعدتها عنه .. بس ماكنتش عارفة ان دا لمصلحة البنت عشان لما راحت لعالم الواقع اللي نفتها فيه قابلت حبها الحقيقي وفضلت معه .. عارف البطل كان محامي زيك

بدر على الرغم منه ، ابتسمت ملامحه وهو ينظر إليها ويقول بنبرة ذات مغزى : والبطلة صوتها حلو زيك!!

ابتسمت له حتى ظهرت أسنانها ، ثم غمزت بشقاوة قبل أن تقول بصوت منذهل : دا انت متابع الفيلم ومركز من بدري بقي!!

جال بصره عليها في شرود ، ثم ردد مخاطبا نفسه : هو انا مركز غير معاكي

وأضاف بدر ، بعد أن افاق من أفكاره ، محاولاً تجاهل هذا الشعور الذي يطغي عليه معها بالسخرية منها : شوفت عينك هتبظ لبرا لما كانو بيرقصو مع بعض .. من حسدك ليهم الساحرة دي هجمت زي القضي عليهم

حدقت حياة به في عبوس ، منحرجة من كلماته ، ثم نظرت إلى الشاشة وتمتمت في استياء : يا دمك

صدح صوت ضحكه الرجولي العالي في المكان قائلا بعبث : عسل و شربات..

سرعان ما أومأ برأسه قائلا بجدية بعد أن تقلصت ضحكته : بس خلينا في المهم دلوقتي

تمتمت حياة بفضول ، وقد تأهبت حواسها لما سيقوله : ايه..!

استطرد بدر قولا بنفس اللهجة الجادة : عايزك تفتحي المكتب يمكن نلاقي حاجة تفيدنا

نظرت إليه بدهشة ، وقالت بعدم فهم : نفتحو ازاي!! وهو مقفول بالمفتاح..

أضافت بسرعة دون إعطائه فرصة للرد ، حيث وضعت إصبعها السبابة أمام وجهه بعد أن تربت على ياقة البيجامة خاصتها بغطرسة مزيفة : اوعي تكون عايزني اطفشو بطفاشة!! ماقدرش اعمل كدا بريستيجي مايسمحليش

رغماً عن أنفه وجد فمه يتلوى بابتسامة من مزاحتها ، ثم صاح ساخرًا : انتي اساسا شكلك محترفة في تطفيش الابواب يا ام لسانين .. بس مش هنحتاج لمهارتك دلوقتي المفتاح ورا الكتاب التالت علي الرف التاني في المكتبة اللي جنب باب المكتب

أشاحت حياة بصرها عنه إلى الخلف حيث يشير بيده ، ثم نظرت إليه بعيون مذهولة ، تهتف بعدم تصديق : نعم يا عمر .. انت كنت عارف مكانه وساكت دا كلو!!

لف عينيه بضجر وهو يقول بتذمر : انا بدر مش عمر وماجتش فرصة اقولك .. الاول كنتي لما بتشوفيني بتصرخي في وشي كأنك شايفة شبح

أنهى بدر جملته ، مستهزئًا بها وهي تنظر إلى زاوية فمه ، الذي ارتفع بإبتسامة لعوب ، كأنه يغيظها ليتشدق صدغيها باستنكار ، وهي تضع قبضتيها تحت فكها بعد أن أتكئت بمرفقيها على حافة الأريكة.

★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••

بعد مرور نصف ساعة

تجلس حياة متربعة على الأريكة وتضع جهاز الحاسوب المحمول في حجرها ، وبجانبها قعد بدر الذي كان يحدق فى الشاشة معها ، وهي تبحث بين الملفات بتركيز.

تنهد بدر بعمق قبل أن يزمجر بخيبة أمل : قولتلك ان اللاب مافهوش حاجة مهمة

ضمت حياة شفتاها بغضب تأجج في قلبها ، عندما شاهدت بعض صور بدر مع زوجته على الحاسوب ، بدا وكأنهما عشاق في شهر العسل وسعيدان للغاية.

لا تدرى تحديداً ؟

هل هذا شعور فطري بالغيرة المحمودة من جمال هذه المرأة الفاتنة أم من الغيرة على الجالس بجانبها؟

هل فقدت عقلها لتغار على شبح شخص ميت؟

سرعان ما استيقظت من أفكارها الحمقاء وبّخت نفسها داخلياً على ذلك ، ما علاقتها بهذه الأمور الخاصة بين الزوج وزوجته ، وقالت بنبرة هادئة بعد استنشاق الهواء بقوة : ماهو دا الحاجة الوحيدة اللي لاقينها في المكتب .. اصلا اول ما فتح معايا من غير باسورد عرفت ان اللي عليه حاجات عادية بس من باب الفضول قولت اشوفه يمكن نستنفع منه بحاجة

هز بدر رأسه لها مؤكدا ، وقال بجزم : معاكي حق .. اميرة ماكنتش هتسيبو لو عليه حاجة تستاهل

شعرت حياة باليأس في نبرة صوته الخافتة ، لذا هتفت بتشجيع مبهج : خلينا ننظر لنص الكوباية المليان ادينا عرفنا حد انت افتكرته في الصور اللي علي اللاب

صمت بدر ينظر إلى الأمام ، ويفكر بعمق ، ثم أدار رأسه تجاهها ، سألًا بجدية : انتي قولتي ان قصة العفريته اللي طلعت للراجل الطيب دي قتلوها عشان يستفيدو من موتها

أومأت له حياة بالإيجاب بصمت تحثه ليواصل حديثه.

قام بدر من الأريكة مستقيماً بجسده ، يتحرك ذهابًا وإيابًا أمام بصر حياة ، ليقول في استفهام ، وكأنه يتحدث إلى نفسه بصوت عالٍ : انا متأكد اني مطلق اميرة .. يبقي ليه بتقول انها لسه مراتي!!

رفعت حياة حاجبيها مندهشة ، وهي تضع الحاسوب بجانبها على الأريكة قبل أن تسأل باستفسار بنبرة منصدمة : يعني عايز تقول انها ممكن تبقي سبب في موتك!!

هز بدر رأسه عدة مرات بالإيجاب ، ثم قال بإصرار : حاسس أن ليها يد في اللي انا فيه .. اصل مين مستفيد من موتي غيرها!!؟

ارتجفت أوصالها من الانزعاج عندما نطق بكلماته الأخيرة ، وانتابها شعور بالضيق في أعماق قلبها ، لكنها قاومت بكل قوتها ذلك الشعور ، ولم تستطع الجلوس ساكنة بسبب توتّرها ، فوقفت على الفور غاضبة وكأنها لدغتها أفعى ، ثم قالت بسؤال جعل سحابة الحزن تسيطر عليها أكثر : وهي تموتك ليه اساسا؟ دي واضح انها بتحبك .. انت ماشوفتش كنتو مبسوطين في الصور ازاي تقولش عصافير حب في شهر العسل!!

نظر في عينيها مطولاً بعد أن وقفت أمامه مباشرة ، متجاهلاً لهجة السخرية في نهاية كلامها ، بينما يضع كلتا يديه في جيوبه ، ثم تحدث برزانة تليق به : ماتاخديش بالظاهر يا حياة .. مش كل حاجة بتلمع معناها انها مش هتأذي .. اكيد ورا الحكاية حكاية .. يعني انا اكيد طلقتها عشان حاجة كبيرة ولو افتكرت السبب دا هوصل لحاجات كتير مفقودة في الحكاية

نظرت بعيدًا عنه وهي تتجه نحو النافذة المطلة على الشارع الواسع ، وحل الصمت عليهم لبضع دقائق ، ولم تحاول كسره ، لأنها لم تعد ترغب في النقاش هذا الموضوع بعد الآن ، حتى سمعت صوته الهادئ من خلفها : حياة

ردت بضيق من شعورها بإنقباض في قلبها قبل أن تلتفت إليه بكل جسدها : نعم!

اقترب بدر منها قليلاً ، ولم تكن المسافة بينهما إلا بوصات بسيطة ، قائلاً بصوت أجش : لازم نروح في اقرب وقت لمكتب المحاماه بتاعي .. جايز نعرف اخر مرة شافوني فيها روحت فين بعديها

نظرت حياة بِحدقتيه مُضيقة عينيها ، بينما كلماته تدور في ذهنها ، إقتنعت أنه على صواب ، ثم قالت في حيرة : ماشي .. بس هنوصل للمكتب ازاي!!؟

أجاب بدر بموضوعية : خدي عنوان مكتبي من عم حمزة اكيد يعرفه

أومأت حياة برأسها بخفة ، وشبكت ذراعيها أمام بطنها ، وتحدثت بإستفهام : طيب بس برده قولي هنعمل ايه بالظبط!!

أجاب بدر بصوت أجش ، وعيناه تلمعان بغموض : سيبيها لوقتها

★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••

توقيت منتصف الليل داخل منزل أميرة

كانت أميرة تسترخي على أحد الأرائك في الردهة الفسيحة مع تشغيل التلفزيون دون إصدار صوت.

نظراتها شاردة في الفراغ ، حيث كانت أفكارها المتضاربة في ذهنها سافرت بها لبعيد.

تسأل نفسها بحزن ، كيف لها أن تسمح لأنانيتها أن تتحكم فيها حتى وصلت بها لما فعلته بالشخص الذي لم ترى منه شيئًا سوى الحب والاحترام طوال العامين اللذين عاشتهما معه.

تعترف في قرارة نفسها أنها لم تكن ضحية بالمعنى الحقيقي للكلمة ، بل هي التي أودت بحالها إلى ما هي عليه الآن بعد أن استغلها كريم بسبب حاجة والدتها للمال لإنقاذ سمعتهم وأقنعهما ببيع مجوهراتهم ، وجعلهم يشاركون معه في شراء المستشفى الذي يعمل فيه ، لكن لا أحد يعرف حتى الآن أنهم أصحاب ذلك المستشفى الحقيقين ، وهم مسؤولون بشكل أساسي عما يحدث داخله.

تشعر أن هناك شيئًا يحبس أنفاسها ، إحساس بتأنيب الضمير والشعور بالذنب ينهشها طوال الليل ، مهما حاولت الهروب منه ، فهو لا ينفك يطاردها ويؤرق نومها.

والدتها التي تدعي أسماء نزلت لتروي عطشها ، لكنها تفاجأت عندما رأت ضوء التلفزيون مشع.

مشيت إلى الأمام بخفة ورأت سريعًا ذلك الجسم الرشيق الذي يحتل الأريكة ، لذلك انحنيت ، وأمسكت بجهاز التحكم عن بعد وأطفأت التلفزيون ، قائلة بغرابة : ايه اللي مسهرك يا اميرة!!

عادت أميرة من السفر بأفكارها على صوت والدتها ، ثم أجابت بهدوء ، وهي لا تزال في مكانها : مش جايلي نوم خالص يا ماما

استأنفت حديثها بنبرة خافتة ، وهي تنهض على جذعها العلوى بعد أن رأت والدتها تجلس أمامها على نفس الأريكة : حاسة اني مخنوقة مش قادرة افضل في أوضتي انا وبدر .. كل ما بغمض عيني بشوفه قدامي

رفعت أسماء حاجبًا واحدًا مندهشة ، ثم سألتها بضحكة ساخرة : اللي يسمعك بتقولي كدا يفتكر انك بتحبيه بحقيقي يا اميرة!!

خفضت جفنيها متجنبة النظر في بؤبؤ عين والدتها ذات النظرات الثاقبة ، وبدأت في اللعب بأصابعها بإرتباك ، وهي تجيب بنبرة ناعمة : مش هكذب واقول بموت فيه .. يعني اول ماقابلته عجبني اسلوبه الهادي و شياكته و تقله في الكلام .. وزغللت عينيا عربيته الغالية .. بس بعد ما اتجوزنا لاقيت ان العيشة معاه عادية مش زي اللي كنت بحلم بيها دا خلاني امل بسرعة

قالت باندفاع بعد رفع روماديتها الساحرة التي ورثتهما عن والدتها ، لتنظر إليها : بس انا حبيته

أومأت أسماء نافية برأسها ، وتمتمت بقسوة : انتي ماحبتهوش خالص .. محدش بيحب حد ويأذيه مش يقتله

تجمعت دموعها في مقلتيها الرقيقتين اللتين تأسرا القلوب رغما عنهم ، وهتفت بانفعال مهزوز بسبب أعصابها المتوترة بشدة هذه الأيام : كنتي عايزاني اعمل ايه!! ضغط كريم علي اعصابي و تخويفه ليا من ناحية ومشاكلك مع صالات القمار من ناحية تانية اللي لو كان شم بدر خبر بيها كان هيكشف كل حاجة لانه مش هيسكت لو عرف

تنهدت أسماء بعمق ، وهي تنظر إلى الجانب الآخر ، وبررت بلا مبالاة كما لو أنها لم تكن سببًا رئيسيًا لما وصلت إليه ابنتها : احنا اتورطنا ودا كان الحل الوحيد والخلاصة زي ما قال كريم يا اميرة حياته كانت قصاد حياتنا كلنا

طأطأت أميرة رأسها متسائلة بخوف وقلق : طيب فرضي حد عرف حاجة عن اللي حصل ووقع الورق اللي كان مع بدر في ايد حد تاني

حدقت اسماء في وجهها بضيق ، وانتقلت لها طاقتها السلبية ، لكنها حاولت الثبات ، وقالت بنبرة صاقعة البرودة : صعب يتفهم معني الكلام اللي قي الورق دا و خلاص هو ادفن مطرح ما ادفن بدر يا أميرة .. واحنا ماعملناش حاجة بإيدنا عشان نخاف

وأضافت تحذيرًا هامساً ، وهي تربت بلطف على كف ابنتها : بس اهم حاجة ان محدش عارف انه رمي عليكي يمين الطلاق عشان تفضلي انتي في نظر الكل مراته حبيبته اللي كنتو بتموتو في بعض وبترجعو لبعض رغم اي مشاكل بتحصل بينكو .. واهو بقالو اسبوعين لا حس ولا خبر عنه يبقي مات و خلصنا وقريب الموضوع هيتقفل ولو عايزانا نسافر نعيش في اي حتة بعيد عن هنا انا معنديش مانع

زفرت أميرة بارتياح عندما همست والدتها تلك الكلمات التي جعلتها تطمئن قليلاً ، ثم قولت بإقتناع : معاكي حق يا ماما ماهو اكيد لو عايش ماكنش هيستني كل الوقت دا وهو في ايده دليل اثبات علينا

★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••

في اليوم التالي

عادت حياة من المدرسة بعد يوم مرهق قليلاً مع الأطفال ، وبالتأكيد رافقها بدر الذي لم يسكت وظل يتحدث معها طوال فترة عملها حتى يستفزها ، لعلمه أنها لن تستطيع التحدث معه بحرية أمام الجميع ، ثم أخذت حمامًا دافئًا لتنشيط جسدها واستعادة نشاطه وطاقته مرة أخرى.

وقفت داخل المطبخ تعد لها وجبة غداء خفيفة بينما كانت تهمهم بإحدى أغانيها المفضلة بصوت غاية في العذوبة ، ثم التفتت وراءها ولم تر معها بدر كما إعتادت في الآونة الأخيرة.

عقدت حياة حاجبيها بتعجب ، وهي تنظر إلى القط وتسأله مازحة : صاحبك المستفز دا راح فين يا ميجو .. طبعا مش عارف .. انت ريحة الاكل مجنناك و عينك راشقة في الغدا بتاعي يا طفس

سمعت نغمة هاتفها قادمة من الردهة ، فأطفأت النيران عن الطعام ، ثم خرجت متجهة نحوه.

نظرت حياة إلى الاسم ، فأشرقت ابتسامتها تضئ محياها ، وأجابت على الفور : الو

جاء الرد المرح من الجانب الآخر : ازيك يا جميل!!

اتسعت ابتسامة حياة بلطف من أجل تلك الودودة قائلةً بترحيب : بخير يا مروة .. انتي عاملة ايه!!

تنهدت مروة بخفة ، ثم تساءلت باهتمام : الحمدلله ماشي حالي .. طمنيني عليكي عرفت انك كنتي في المستشفي امبارح!!

أجابت حياة بلا مبالاة ، ثم ألقت بثقل جسدها على المقعد المنفرد خلفها : كانوا شوية ارهاق وبقيت احسن دلوقتي

تكلمت مروة بود : الف حمدلله علي سلامتك حبيبتي .. ايه بتعملي ايه كدا!!

أنهت مروة جملتها بفضول ، فسكتت حياة ثوان ، ضلّت ملامحها شاردة في الفراغ ، ثم رددت بتردد بعد أن حمحمت بصوت منخفض : الله يسلمك .. بصي انا كنت محتارة شوية في حاجة وعايزة رأيك!!

تساءلت مروة بنبرة فضولية : يا سلام ومالو قولي محتارة ليه؟

سحبت حياة كمية لا بأس بها من الهواء إلى رئتيها ، وجمعت شجاعتها بما فيه الكفاية ، ثم أجابت بكلمات سريعة مشوبة بالخجل : انا عايزة اروح اعمل شعري و اشتري شوية هدوم جديدة كدا .. بس معرفش الاماكن هنا كويس ومش عايزة يضحك عليا في الاسعار ف ياريت إذا ينفع تيجي معايا

اتسعت ابتسامة مروة بحماس على الجانب الآخر ، ثم سرعان ما هتفت بضحكة واثقة : جيتي في ملعبي .. محسوبتك تموت في اللف علي المولات و المحلات و دوشاهم بالاسئلة بس بغلبهم علي ما بشتري حاجة

ابتهجت أساريرها ، وسرعان ما سألتها بإستفهام : تمام اوي .. طيب انتي فاضية امتي؟

حكّت مروة رأسها في تفكير ، وأجابت على سؤالها بسؤال : انتي عايزة تنزلي علي امتي كدا!!؟

عضت حياة علي شفتها بحماس تمكن منها بسبب أسلوب مروة الجميل معها ، وأجابتها بعفوية : ياريت لو انهاردة عشان بكرا ورايا مشوار مهم اوي

همهمت مروة ، ثم قالت بضحكة خفيفة على نبرة حماستها : ماشي يا جميل خلاص .. هعدي عليكي كمان ساعة كدا اسيب يوسف عند ماما وننزل مع بعض

غمرت الفرحة قلب حياة ، حيث أنها لم تتذكر متى آخر مرة قامت فيها بالتسوق وشراء أشياء جديدة رغم أنها تحب ذلك ، وهتفت بسعادة : حبيبتي اقسم بالله ماتحرمش منك ابدا بدا .. اتفقنا .. سلام

★★★

: هتروحي فين

أدارت حياة رقبتها للخلف بسرعة ، تطالعه بإنشداه ، وهو مستلقٍ على الأريكة الكبيرة مسترخيًا جدًا.

كيف لم تنتبه لوجوده؟ ربما بسبب فرط حماستها ، ثم أجابت على سؤاله بمرح طفولي ، وهي تنهض حتي تستعد للخروج : زي ما سمعت يا بوده هخرج اشتري شوية حاجات جديدة

أنهت كلماتها بالتزامن مع انتصابها دون أن تنتبه لملامحه المصدومة من اللقب الجديد الذى نادته به ، وكادت أن تذهب من أمامه مسرعة ، لكنها توقفت متصنمة فى أرضها عندما سمعته يقول : هاجي معاكي

نظرت حياة إليه بدهشة وهي تراه يستقيم مستعدًا للنهوض ، فرفعت يدها وأشارت إليه برفض قاطع أثناء قولها بتبرير : لالاماينفعش تيجي يا بدر .. انت بتكون زي الراديو المفتوح جنب وداني ومابعرفش اركز نوهائي

توقف بدر عن الحركة على الأريكة ، ورفع حاجبيه غيضاً ، وقال باستنكار : لدرجة دي!! طيب

التفتت حياة إليه بعد أن أطفئت التلفاز ، وقالت بنبرة رقيقة خرجت منها بعفوية : ماتزعلش يا بوده .. انا هروح اشتري هدوم واعمل شعري وهرجع علي طول

نظر بدر إليها بعيون ضيقة مغتاظًا من طريقة ملاطفتها له ، وكأنه طفلاً من الأطفال الذين تتعامل معهم.

صمت قليلا كما لو انه كان يقيمها في ذهنه ، وقال متفاجئًا بشك : تعملي ايه في شعرك؟

جحظت عيناها مستاءة لأنه لم يفهم الأمر بديهياً ، ثم أشارت إلى نفسها و رددت ساخرة : ايه هو اللي هعمل ايه!! انت مش شايف .. ازاي هروح مكتبك بشكلي دا!!؟

تجمدت نظرته عليها ، كما لو كانت الطيور ترفرف فوق رأسها ، وتمتم بحماقة : مش فاهم .. مالو شكلك!!

نفخت خديها بسأم من قلة تركيزه ، رغم أنها أمضت الليل كله تفكر في حل لهذه المعضلة دون أن تصل إلى شيئا حتي أتت مكالمة مروة لها ، فكانت مثل طوق النجاة الذي قررت التمسك به حتى تتجرأ على قيام ما ستفعله بقلب قوي ، ثم ردت عليه بشرح بعد أن مسكت بشعرها المجعد على كتفيها بأطراف أصابعها : انا عرفت من عم حمزة ان مكتبك في محامين وناس كتير مستويات راقية .. عايزني ازاي ادخل عليهم المكتب بالكدش دا ولا بالكوتشي!! مش لطيفة خالص هيفتكروني متسولة وهو مش هيصدق اصلا اللي هروح اقوله ليه!!!!

حدق بدر للأمام وكأنه قد أدرك لتوه صحة كلماتها المقنعة ، ثم نظر إليها مرة أخرى ، وقال بإندهاش : تصدقي مافكرتش فيها دي!!

قالت حياة بابتسامة متعجرفة ، وهي تضع يديها في الجيوب الخلفية من سروالها الجينز ، بينما ترفع رأسها بشموخ : انا فكرت وعرفت هعمل ايه

حدق فيها بنظرة ساخطة ، بينما كان لا يزال جالسًا على الأريكة ، مع رفع حاجب واحد تساءل بإمتعاض : واشمعنا هتاخدي ست مروة هانم وانا لا

ساد الصمت لعدة لحظاتٍ قبل أن تجيبه...


  الفصل الحادي عشر والثاني عشر من هنا 

    لقراءة جميع فصول الرواية من هنا

تعليقات