رواية شبح حياتي الفصل السابع عشر 17 والثامن عشر 18بقلم نورهان محسن


رواية شبح حياتي

الفصل السابع عشر 17 والثامن عشر 18

بقلم نورهان محسن


الفصل السابع عشر

تجنب الحديث أثناء الغضب⁣⁣ ، قد يكون كلامك صحيح⁣⁣ ، لكن حتماً أسلوبك خاطئ⁣⁣.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مر الوقت دون أحداث ، وأتى المساء سريعا وانجلى القمر بدرًا.

استدار مازن نحو حياة ، وهو يحمل بين يده كيسًا صغيرًا يحتوي على شطيرة ، بعد أن قدم إلى ميساء فنجانًا من القهوة ، متحدثًا مع الأولى بلطف بالغ : اتفضلي يا حياة .. انتي ماكلتيش حاجة من الصبح .. اختك اجدع منك كلت وبعدين شربت قهوة .. كفاياكي انتي شرب قهوة من غير اكل..

رفعت حياة بصرها نحوه ، وحدقت فيه بذهن شارد ، ومنحته ابتسامة لطيفة لتقول بامتنان ، متجاهلة ما قاله منذ لحظات : شكرا يا دكتور مازن .. انت تعبت معانا من امبارح و مانمتش حتي .. تقدر تسافر عشان ماتعطلش شغلك

حدق مازن في ابتسامتها لبضع ثوان ، و لم يخفى عليه بحة صوتها المرهقة ، ثم أجاب بلباقة : ايه اللي بتقوليه دا!! بدر جاري ومتربيين مع بعض وماينفعش اسيبو في الظروف دي وبعدين انا بلف علي العيانين هنا وبشتغل برده

أردف بإصرار ، ومدّ يده إليها من جديد ، وابتسامة جذابة تعلو شفتيه : اتفضلي كلي

هزت حياة كتفيها رفضًا ، و ردت بعد أن وجهت وجهها إلى الجانب الآخر : ماليش نفس

تتابع الموقف عينان بدر الذي يقف أمامها على الجانب الآخر فى الممر الموجود به غرفته ، يتكئ بهدوء على الحائط ، ليهمس بنبرة دافئة وحنونة جعلت جدران قلبها تقرع بجنون : خديه منه يا حياة عشان ماتتعبيش تاني وتقدري تكملي لو حياتي تهمك

امتثلت لأمره لا شعورياً ، وأخذت الشطيرة من مازن بابتسامة مجاملة بعد أن نظرت إلى بدر الذي كان ينظر إليها بابتسامته المميزة.

قضمت جزءًا صغيرًا منها ، ومضغتها دون أن تشعر بأي طعم لها ، لكنها أجبرت نفسها على الأكل حتى تتجنب الشعور بالصداع الذي يكاد يفتك برأسها.

ساد الصمت التام في رواق المستشفى بعد ذلك ، حتى سمعوا وقع الأقدام تسير باتجاههم.

نقلت حياة بصرها بين معاذ وأميرة والطبيب وكريم ، الذين وقفوا للحظة يتحدثون أمام باب غرفة بدر ، قبل أن تولج أميرة أولاً الغرفة بابتسامة متلهفة ليدخل الجميع بعدها ، بما في ذلك حياة التي رأت أميرة تندفع إلى بدر الذي كان مستلقيًا على السرير بكل هدوء و سكون ممسكة بيده بين كفها قائلة بنبرتها الرقيقة : خلاص يا حبيبي .. هاخدك من هنا ومش هسيبك ابدا

اتسعت عينا بدر الواقف بجوار حياة التى بدورها تقف تطبطب الأرض بقدمها فى غيظ من أسلوب أميرة وحديثها لبدر بكل هذا الشغف ، حتى لو كان يرقد في سبات عميق ، فليس لها مطلقًا الحق في لمسه.

لكن ما فاجأ بدر هو شيء آخر تماماً ، إذ لم يستطع أن يشعر بلمسة أميرة عليه.

حدث شيء مشابه أيضًا عندما جاءت الممرضة ، ولمسته للتحقق من حالته فلم يشعر بها.

محتمل هذا دليل على أنه بدأ يفقد إحساسه بالحياة تدريجياً ، وأنه على وشك مغادرة ذلك العالم إلى الأبد.

سرعان ما خرج من دوامة افكاره على صوت حياة التى نبست بسؤال : تقصدي بإيه هتاخديه من هنا!!

في حين أن عيون كريم شملت حياة بتعمق ، بدءًا من ملامح وجهها إلى جسدها بالكامل دون أن يلاحظه أحد ، فهو لديه أساليب خاصة بالنظر دون أن يتم فضح أمره ، في ذهنه يعترف أن عينيه أعجبت بها مثل الفتيات الأخريات اللائي يمررن به يوميًا ، لكن تلك البرتقالية لها جمال خاص تحاوطها هالة من الغموض يريد أن يستشفّ ما يدور في عقلها ، لأن تواجدها الغير مفهوم يثير شكوكه بشدة ، وهذا ما ناقشه مع أميرة قبل ساعات.

انتبه كريم لسؤالها وتولى مهمة الإجابة بدلاً من أميرة ، قائلاً بنبرة هادئة يشوبها الكثير من الخبث الخفي داخل مقل عينيه الذهبية : الدكتور سمح لينا اننا نسفر بدر علي القاهرة .. لانه خلاص مابقناش محتاجين نستني في اسكندرية و التحقيق هيتكمل من هناك .. مش كدا يا دكتور علاء؟

أومأ علاء بالموافقة قائلا بموضوعية : تمام مافيش مشكلة .. الصبح كل حاجة هتكون جاهزة ان شاء الله عشان يتنقل للمستشفي في القاهرة بشكل أمن من غير مايحصلو مضاعفات بالطريق

ضغطت حياة على قبضتها ، وصاحت فجأة احتجاجًا على هذا الكلام ، ثم تقدمت أكثر نحو سرير بدر بتلقائية ، ووضعت يدها على كتفه في حركة دفاعية : لا بدر مش هيتحرك من هنا

اتسعت كل العيون المثبتة على حركاتها بدهشة من كلامها ، بينما اتسعت حدقتا بدر حالما شعر بلمسة أصابعها ، التي كانت أشبه بلسعة كهربائية لذيذة جعلت الخلايا في جسده ترتعش دون أن تلحظ هى أيا من ذلك ، مثل المرة السابقة تماماً.

وقع عقله فى حيرة رهيبة مما يحدث ، وهو ينقل عينيه بين من يحاولون تقرير مصير حياته ، بينما يظل صامتا بعجز لا يستطيع التدخل في الأمر ، لينظر إلى جسده قائلا في سره : هتفضل كدا لحد امتي يا متر؟ ياريتك تصحي وتتصرف مع كل البلاوي دي

حاولت أميرة أن تتماسك ، رغم أن أعصابها توترت بسبب أسلوب حياة في الكلام ، إلا أنها قطبت حاجبيها عندما رأت حركة حياة ، لتسألها بغرابة : انتي بتزعقي كدا ليه!! واصلا ايه علاقتك ببدر عشان تقرري حاجة تخصه؟

عقدت حياة ذراعيها إلى صدرها بتحدى ، وحدجتها بعسليتها بتفحص ، ثم أجابت عليها بابتسامة ساخرة تقلب سؤالها ضدها ، بينما ترمقها بنظرة ذات مغزى : انتي اللي بصفتك ايه تقرري تاخديه لمستشفي دكتور كريم او اي مكان تاني!!

شعرت أميرة بسخرية حياة منها ، فتدحرجت عينيها تلقائيًا نحو كريم الذي كان يقف مثله مثل أي شخص آخر بالغرفة ، يتابع المشهد بريبة وعدم فهم.

ازدردت أميرة رمقها ، بينما ترمش بخفة ، و ردت دفاعًا عن نفسها : انا .. انا ابقي مراته

بدأ الغضب يندلع في بؤبؤ عينها من استمرار تلك المرأة فى الكذب ، واحتدت نبرتها الرقيقة لتصبح مثل نصل حاد ، ولم تستطع السيطرة على لسانها وهي تصيح في اندفاع : لا انتي مش مراته .. عشان هو رمي عليكي اليمين وانتي عارفة كدا كويس

طغت الصدمة على وجوه الجميع بلا استثناء.

أمعنت حياة النظر فى ملامح أميرة التي قفزت من ثناياها الصدمة العارمة ، حتى انها استطاعت شم رائحة الدخان المنبعث من أعصاب أميرة التى احترقت كليًا ، وتفتت قشرة الرقة والهدوء التي كانت تصتنعها منذ أن وصلت إلى هنا ، ولكن اغتالها الخوف مما سمعته منها للتو.

أسرعت أميرة تقول على الفور ، وارتجف جسدها في توتر شديد ، وهي تتجنب النظر إليها : ايه الجنان والتخريف اللي بتقوليه دا؟ انتي مجنونه!! انا مراته بالقانون يا حبيبتي .. انتي اللي وجودك هنا غير مرغوب فيه واتفضلي اطلعي برا وجودك مابقاش له لازمة هنا

أضاءت عينا معاذ بغضب نارى ، وغيظ من كلام حياة السخيف معتقدا أنها حجة منها لإبعاد بدر عن زوجته.

في هذا الوقت بالتحديد ، بدأت أجراس الإنذار تدق جدران عقله ، بل أنها نيران الغيرة مستعرة بداخله.

جز على أسنانه ، ووبخها بعنف : حياة .. اعقلي ايه الهبل اللي بتقوليه دا !! انتي اجننتي يلا اتفضلي معايا..

أنهى كلامه ممسكًا بذراعها يأسره بين قبضته ، محاولًا إنهاء ذلك الحوار الذي خرج عن سيطرة العقل والهدوء ، وصار مهزلة يجب عليه أن إحتوائها قبل أن تتفاقم أكثر ، ليجذبها معه بخفة لإخراجها من الغرفة ، ولكن حياة أبعدت يده عنها بقوة الدفع غير متقبلة فكرة لمسه لها ، و ذلك لاحظه حين حدجته ببغض ، وهي تصرخ محذرة إياه بغضب : اوعى سيبني .. مالكش دعوة بيا يا حضرة الظابط

استقرّت أعين حياة العسلية الثائرة في عيون أميرة الرمادية التى تقذف الصواعق من شدة الغضب بسبب تطاول الأخرى ، وكأنهم يعلنون الحرب من خلال النظرات.

قطعت أميرة التواصل البصري معها قائلة بتحدى مرتجف ، وتشير إلى الجميع : يا دكتور .. لو سمحت كفاية طلعهم كلهم برا والصبح بدري تجهز العربية اللي هتنقل بدر من هنا غصبن عن عين اي حد

فرجت حياة فمها راغبة في الصراخ في وجهها ، لكن الباب انفتح فجأة من خلفهم ، وجاءت اجابة حازمة من صوت رجولي بدلًا عنها ، مما زاد الحطب على نيران الأجواء المشحونة بالغضب في الغرفة : بدر مش هيروح اي مكان الا بعد موافقتي انا يا مرات اخويا

أنهى كلماته بصيغة المضارع لعدم وجود دليل قاطع على ما سبق أن قالته له حياة.

سألت أميرة في ارتباك منغمس بشئ من الجنون بعد أن فقدت السيطرة على نفسها تمامًا بسبب خوفها ، والصدمات التي تتلقاها واحدة تلو الأخرى دون فواصل : اخوك مين؟ لا اكيد انتو كلكم نصابين وعاملين مؤامرة علي جوزي

كادت حياة أن تسير إليها بعصبية مفرطة ، وهى تزمجر بشيء مثل إعصار الغيرة ، وقد حررت كل شياطينها التي حاولت بصعوبة حبسها : انتي لسه بتكذبي!! ماتقوليش جوزك دي والا هنتفك زي البطة البلدي في ايدي

معاذ تحدث بصوت حازم محاولا تهدئة الموقف بعد أن طوق جسد حياة بذراعيه مثل الأفعى ، ليمنعها من الانقضاض على أميرة التى انكمشت على نفسها خوفا من هجوم الآخري الشرس عليها : بس محدش يكلم كفاية .. يعني ايه اخوك يا استاذ و تطلع مين سيادتك؟!

رد عليه جاسر بنبرة واثقة وهو يمد له هويته الشخصية : انا جاسر عز الدين بدر المحامي .. اخو بدر و ليا الحق في الوصية عليه لحد ما يتعافي ودي بطاقتي

★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••

: كفاياكي عناد يا حياة انا تعبت معاكي والله

أنهت ميساء كلامها بنبرة ملحة إلى حد ما ، بينما هزت حياة رأسها ، لتقول بإصرار : ماتتعبيش نفسك يا ميساء انا هسافر مع بدر

رفع معاذ حاجبيه مستنكرًا ما تقوله ، وهو يضغط على شفته السفلى من غل قلبه ، كأنه يفرغ الغضب بداخله نحو حياة في تلك الحركة ، وعيناه البارزة تكاد تلتهمها حية.

لم يستطع السيطرة على نفسه عند هذا الحد ، لقد جن جنونه منها ووصل للسماء.

صرخ بإنفعال دون أن يأخذ في الاعتبار مكان وقوفهم في الردهة ، بينما يرقد المرضى في الغرف بجوارهم : انتي مجنونة!! ماتظبطي ايه اللي بينك و بينه مخليكي لازقه فيه بالشكل دا؟

كان سؤاله الغاضب و كلماته الجارحة بمثابة صفعة قوية على وجه حياة جعل صبرها ينفذ ، و هتفت بغضب مشابه للبركان الكامن الذي تحررت حممه أخيرًا لتنفجر فيه : انت ماتدخلش في الموضوع من اساسو .. انت كل اللي كان همك تخلي اميرة تاخد بدر من المستشفي بأي طريقة عشان ابعد عنه .. رغم معرفتك ان في حد قاصد يقتلو وبدل ما تحميه وتشوف شغلك يا حضرت الظابط .. لا بتفكر في نفسك وبس لكن انا مش مستغربة هو دا انت معندكش دم وشكاك

شهقت ميساء ، ووضعت يديها دون وعي على فمها ، ثم هتفت في حياة بعتاب : حياة مايصحش اللي بتقوليه دا!!

لم تهتم حياة كثيرا بما قالته شقيقتها ، ورمقت معاذ مرة أخرى بنظرة نارية تليق بالقذيفة التي ألقتها عليه فى وسط حروفها : لو سمحتي يا ميساء سيبني براحتي .. انا مابقتش صغيرة ومش هسيب حد بين الحياة والموت عشان واحد اناني و همجي زيك يا معاذ فاهم .. عن اذنكم

أنهت حديثها بسرعة ، وهربت من أمام وجهه الذي لم تعد تتحمل النظر إليه خاصة في هذه اللحظة ، وأيضًا لا تنكر أنها خافت بسبب الغضب الذي كان واضحًا في نظراته النارية لها.

هتفت ميساء من ورائها بعد أن ابتعدت عنهم فى محاولة فاشلة منها حتى تجعلها تعود : يا حياة استني..

منع حازم زوجته قائلا بنبرة ذات مغزى ، وهو يحدق في معاذ ليقابله بنظرات باردة ، لكنها تفوح منها رائحة دخان نتيجة الحريق الناشب داخل ضلوعه من كلماتها القاسية له : خلاص سيبيها يا ميساء براحتها اللي جرالها من الباشا ماكنش قليل بس احنا واثقين فيها دي تربيتي

★★★

استمرت حياة في السير بالرواق الطويل بعد أن خرجت من المصعد حتى وصلت إلى فناء المستشفي الخلفى.

توقفت في مكان خافت الإضاءة لتنظيم أنفاسها ، حيث تلهث بشدة من انفعالها منذ قليل ، لكن على الرغم من ذلك ، فإنها تشعر براحة غريبة تسري بدفء في عروقها.

ظهر من العدم خلفها ، تاركًا مسافة بينهما ، مرتكزاً بنظراته على شعرها الذى يتطاير بفعل الرياح الباردة لبضع لحظات ، ثم حرك شفتيه يقول إسمها دون أن يصدر صوت.

شعرت بنبض قلبها يرتفع بلا سبب ، و أدارت رأسها تلقائيًا للخلف ، فاتسعت مقل عيناها بتفاجئ ، ونطقت بفم مبتسم ، وكأن مزاجها اعتدل بثوانٍ فور رؤيته : بدر!!

أسرت عيناه السوداوان المتلألأة كسماء مرصعة بالنجوم ، عسليتها المتوهجة مثل شروق الشمس ، لتجذبها إلى طريق مشع بالسحر.

لا تستطيع أن تفسر الشعور الذى يسيطر على حواسها ، وهو يحدق بها بنظرته العميقة ، والتي رغما عنها تخطف أنفاسها ، مما يجعلها تلهث وكأنها في سباق ماراثون.

استمرت تلك النظرات الصامتة دون محاولة منهم ، لنطق أي شيء حتى قرر بدر كسر ذلك التواصل البصري عندما تدحرجت عيناه بعيدا عنها ، قائلاً بهدوء : جاسر قاعد فوق في اوضتي قولت جيت اشوفك..

جعد بدر حاجبيه ، وأردف متسائلاً : ليه ماسمعتيش كلامه لما اقترح تاخدي اوضة المرافق تريحي فيها للصبح؟

اختفت ابتسامتها واستبدلتها بالعبوس ، وأجابت على الفور : ماعتقدش هيجيلي نوم بعد المشاكل اللي حصلت دي .. حياتك كانت هتبقي في خطر اكتر من الاول بسبب تصرفات معاذ الفظيعة

تأمل فيها بروية وتفكير يراجع ما سيقوله في ذهنه أولاً ، ثم قال بتردد : انا سمعت كلامك مع اهلك من شوية

ضيقت حياة عينيها تنظر إليه بإستغراب لحظة ، وقبل أن تبرر ما فعلته ، قال بنبرة حازمة : ماكنش يصح اللي عملتيه واللي قولتيه دا يا حياة

طرقت حياة رأسها ببراءة ، وكأنها عادت إلى الوراء سنوات عندما تخفق فى أمر ما وتحاول الدفاع عن نفسها أمام والدها ، لتقول بخفوت : طول الوقت بسمع كلام ميساء علي طول متحكمة في حياتي .. كأني ضيفة شرف و ان دي مش حياتي ومن حقي اختار المناسب ليا..

استأنف بدر حديثه ببرود متجاهل الرد على ما قالته للتو : حياة .. انتي لازم تسمعي كلامهم و تفضلي هنا

رفعت حياة عينيها ، ونظرت إليه وهي تفكر للوهلة من الزمن ، غير قادرة على استيعاب ما قاله ، لتتمتم بعدم تصديق : بتقول ايه!!

★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••

داخل ممر المستشفى

ظل معاذ في مكانه متصنما ، بينما تعصف الافكار المتشابكة رأسه بعد أن فرت حياة بسرعة من أمامه ، و رحيل ايضاً أخيه وزوجته.

رغب بشدة تهشيم فكها بسبب الكلمات السخيفة التي قالتها في وجهه بعيون ثابتة بتحدى وثقة كبيرة في صوتها ، وهذا جعله يفقد صوابه ، منذ متى كانت تتحلى بتلك القوة كما ظهرت عليها اليوم.

زفر الهواء بحنق ، وبأصابعه أعاد شعره إلى الخلف بغل وغيظ دفنهما في أبعد نقطة بداخله حتى يتمكن من التفكير بعقل.

قرر التريث في خطواته للأيام القادمة حتى يستعيد قبضته على اللجام بشكل صحيح للتحكم فيها كما يشاء ، لعلمه أنه إذا أطلق العنان لغضبه الجامح ، فإنه سينطحها بكل تأكيد ، لكنه لا يريد ذلك.

أغمض عينيه للحظة ، وفتحهما ، ثم اتجه إلى دورة المياه.

★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••

في فناء المستشفي

رفعت حياة عينيها ، ونظرت إليه وهي تفكر للحظة ، غير قادرة على استيعاب ما قاله ، لتتمتم بعدم تصديق : بتقول ايه!!

نظر إليها بدر بجمود تتذكره حياة جيداً ، هذا الوجه رأته من قبل ، وبالتحديد في اللحظة الأولى عندما التقيا ، ليردد صدى صوته الرجولي القاسي ، بإختصار مؤكداً على أذنها ما قاله منذ لحظات : اللي سمعتيه

شعرت حياة بنيران مشتعلة في قلبها وامتلأت عيناها بالدموع ، لتقول لا شعوريًا : لا انا مش هسيبك بعد ما لاقيتك

خفق قلبه بعنف حينما سمع تلك الكلمات البسيطة تخرج من شفتيها ، ليتمتم ، منتظرًا إجابتها بلهفة : ليه؟

رمشت حياة عدة مرات وكأنها استوعبت ما قالته بتسرع ، وأجابته بصوت خافت ، متلعثمة بحروفها : عشان .. عشان انت طلبت مساعدتي ولازم اكون قد كلمتي معاك

على الرغم من قناع البرود والجمود الذي يرتديه أمامها ، لم يكن الأمر كذلك من الداخل.

للحظة غمره الأمل ، وكاد أن ينسى اتفاقه مع نفسه ، وتمنى بأعماق روحه أن يسمع شيئًا آخر منها ، لكنه قال بثبات : جاسر معايا هو اكيد هياخد بالو عليا .. يعني وجودك مابقاش له داعي وكمان هيسبب مشاكل زي ماقولتي في اول كلامك ليكي و ليا كمان

استطاعت أن تلاحظ عينيه ، اللتين أنقشعت عنهما غيمة البرود ، لكن لم تتمكن من تفسير نظراته ، لأنه أبعدهما عنها سريعاً.

كافحت حياة لكبح دموعها المهددة بالنزول في محاولة فاشلة منها لإجبار لسانها المعقود على النطق ، لتخرج حروفها متلعثمة من الغصة المتشكلة في حلقها : يعني .. انت بتطردني .. من حياتك .. بعد ماوصلت للي كنت بتدور عليه

التفت بدر لينظر إليها ، و رأى بريق الدموع في عينيها ، ليقول بلامبالاة أزعجتها : الموضوع انتهي لحد هنا يا حياة .. خلاص انا بكرا هسافر مع جاسر وهكمل علاجي في القاهرة .. وانتي ارجعي لحياتك القديمة .. لمعاذ وابعدي خالص عن اي حاجة تخصني

أنهى بدر كلماته بصيغة آمر ، تاركًا وراءه حياة مُتصنمةً في مكانها ، والدموع تنهمر من عينيها بالألم والصدمة بينما تحدق في ظهره وهو يسير بثبات.

حينما ابتعد بدر عن مرمى بصرها ، توقف مغمضاً عينيه بقوة ، وبالكاد يحاول السيطرة على روحه ، التي تحثه على العودة إليها ، لكنه ببساطة لا يستطيع ذلك.

يريد أن يبكي ، وبداخله رغبة عارمة في ضرب شيء ما لإفراغ كل طاقته السلبية فيه ، لكنه غير قادر بتاتًا على فعل أي من تلك الأشياء ، فقد أصبح مجرد روح ضائعة بدون الحياة التي وقع لها متيمٍ اكثر من رغبته فى العودة لهذا العالم القبيح.

★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••

بعد فترة قصيرة من الزمن

ولجت حياة شقة أختها بعد أن فتحت لها الباب متجاهلة سيل الأسئلة التي أمطرتها بها بقلق ، وذهبت مباشرة إلى غرفتها لتضيء أضواءها.

تجولت عيناها في جميع أنحاء الغرفة ، وكان كل شيء بداخلها لا يزال كما تركته قبل مغادرتها ، وها هى عادت إليها مرة أخرى ، ولكن بمشاعر مختلفة تمامًا عن تلك التي شعرت بها أثناء مغادرتها منها.

حركت قدميها ألياً نحو السرير ، وهى تشعر بسكون تام بداخلها ، ربما مازالت تحت تأثير الصدمة ، لتجلس عليه بهدوء.

جعدت بين حاجبيها بألم حينما بدأت في خلع الحذاء ذو الكعب من قدميها ببطء ، لأنها كانت تتألم منه بشدة.

وقعت عيناها لا إرادياً على الحقيبة التي ألقتها بإهمال على الأرض ، وتذكرت ما حدث منذ أكثر من ساعة ، بالضبط عندما تركها بدر وراءه دون أن يكلف نفسه عناء سماع ردها.


#الفصل_١٨


الفصل الثامن عشر

تعتقد بأنك فوق الغيوم ، وفجأة تشعر بطعم التراب بفمك ، هذا ما يفعله السقوط السريع بأسهم السعاده لديك!!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حركت قدميها ألياً نحو السرير ، وهى تشعر بسكون تام بداخلها ، ربما مازالت تحت تأثير الصدمة ، لتجلس عليه بهدوء.

جعدت بين حاجبيها بألم حينما بدأت في خلع الحذاء ذو الكعب العالى من قدميها ببطء ، لأنها كانت تتألم منه بشدة.

وقعت عيناها لا إرادياً على الحقيبة التي ألقتها بإهمال على الأرض ، وتذكرت ما حدث منذ أكثر من ساعة ، بالضبط عندما تركها بدر وراءه دون أن يكلف نفسه عناء سماع ردها.

Flash Back

ظلت علامات الصدمة تحتل ملامحها ، محدقة في مكانه الخالي بعد رحيله ، فيما ساد الهدوء المكان و ركدت الريح حولها.

التفتت إلى الجانب الآخر لتغادر المستشفى وتبتعد عن كل شيء ، وما زالت عيناها تسيل منها الدموع ، بينما تمشي مطأطأة رأسها ، اصطدمَت بجسدها الواهن بشيء صلب.

انطبقت شفتيها على بعضهما وهي تحاول التحكم في شهقتها ، وكادت أن تسقط على الأرض ، لذا أغمضت عينيها ، وهي تستعد للارتطام على الأرضية الصلبة تحتها ، لكن يدًا أمسكت بها في الوقت المناسب لتجذبها فوراً بإعتدال.

رفعت رأسها ببطء ، ناظرة إلى منقذها لعدة لحظات في حالة من الصدمة.

أخرجها صوته من شرنقة البلاهة التي أصابتها ، حالما قال بنبرة صوته التى تنم على مدى خوفه وقلقه عليها ، حين رأى حالتها المزرية : حياة .. انتي كويسة .. مالك بتعيطي ليه؟ ايه اللي حصل!!

حاولت حياة منع دموعها من الإنهمار أكثر عندما مدت أصابعها بشكل عفوي لمسح عينيها ، بينما تتراجع خطوتين ، لتقول بصوت هادئ يتخلله نغمة حزينة بعدما أصابتها خيبة أمل حطمت قلبها إرباً : مفيش حاجة يا دكتور مازن .. كنت مضايقة شوية و خرجت اشم هوا

حدق بها مازن بغرابة ، متسائلاً بحيرة يشوبها الفضول ، منتظرًا بفارغ الصبر إجابتها : اعذريني في السؤال دا خطيبك حاول يضايقك تاني؟

حياة على الرغم من الألم الذي يعصف بروحها في تلك اللحظة ، إلا أنها سرعان ما أومأت برأسها بنفى ، قائلةً بهدوء ظاهري : معاذ مش خطيبي .. لو سمحت انا عايزة شنطتي اللي عندك في العربية

إنفرجت شفتيه بابتسامة سعيدة بعد الاستماع إلى كلماتها الأولى ، لكنه حاول أن يخفيها ، وحمحم بخفة ، ليقول بنبرة هادئة رجولية : من عيني .. بالحق كنت بدور عليكي عشان اقولك انك هتيجي معايا في عربيتي بكرا .. يعني الاحسن انك ماتركبيش في عربية الاسعاف مع بدر تجنبا للمشاكل

حركت شفتيها بابتسامة مزيفة لم تصل لعينيها وهي تهز كتفيها ، قائلة بهدوء حتى يبدو عليها أنها غير مبالية بالأمر ، وتقضم شفتها السفلى في محاولة وقف ارتجافها ، عندما رأت عينيه الخضر تتسعان في دهشة من كلماتها المفاجئة له : مافيش مشاكل هتحصل ولا في داعي لوجودي خالص انا مش هسافر معاكو

Back

انقطع حبل أفكارها بمجرد سماع صوت طقطقة خافتة على الباب.

سمحت لأختها بالدخول بعد أن رفعت جذعها العلوى علي السرير بعدما كانت مسطحة عليه ، ثم مسحت الدموع العالقة بين ثنايا رموشها.

دخلت ميساء بهدوء ، لكنها سرعان ما رفعت حاجبيها معًا ، وتقلصت ملامحها في حالة استياء من جلسة الأخرى على السرير بملابسها.

هزر رأسها بقلة حيلة على حالة أختها الصغيرة الغريبة في الفترة الأخيرة ، لتقول بحنان : لسه مغيرتيش هدومك ليه؟ ولا زي عوايدك لما تكوني تعبانة هتنامي بيهم

أجابت حياة المقتضبة بإيجاز : كنت هغير وانام دلوقتي

ابتسمت ميساء لها ، وهي تتحرك للجلوس بجانبها على حافة السرير محاولة تلطيف الأجواء بينهما قليلا ، لتهتف بإعجاب صادق : ثم تعالي قوليلي هنا هو السفر بيحلي اوي كدا .. الهدوم دي شيك جدا ولايقة عليكي يا يويو ياريتني اسافر انا كمان

أنهت ميساء جملتها بنبرة مرحة ، اكتست حمرة محببة خدي حياة من اطراء أختها ، وقد فهمت ما تحاول القيام به ، فابتسمت لها وقالت بلطف : مش محتاجة للسفر .. انتي دايما حلوة يا ميساء

اتسعت ابتسامة ميساء واحتضنتها بحب ، لتقول بصدق بصوتها الرقيق : حبيبة اختك والله وحشتيني اوي

بادلتها حياة العناق بإحتياج وشوق ، حيث أن الشخص ريثما يكون على حافة الإنهيار النفسي ، يحتاج للأحتواء أكثر من حاجته للنصح والعتاب ، ونطقت بكلماتها بصوت مخنوق كأنها على وشك البكاء : وانتي كمان..

بترت حياة باقى جملتها بسبب الغصة التى توقفت فى حلقها ، ثم استطردت ميساء بقلق ، وهي تخرجها من حضنها متأملة في ملامح حياة الباكية : لو علي اللي عملو معاذ انهاردة معاكي انا هخلي حازم يوقفو عند حدو بس ماتزعليش كدا

نفت حياة برأسها بسرعة ، محدقة فيها بعينين مهتزتين و قناع زائف مرتسم على ملامحها ، لكن سرعان ما تنهمر دموعها بغزارة ، دمعة تلو الأخرى بضعف.

عانقتها ميساء بسرعة وهي تربت على ظهرها ، وهتفت بحنان وهي تحاول تهدئتها : طب اهدي بس وفضفضيلي زي زمان .. مالك ايه اللي مضايقك اوي كدا و ليه رجعتي بعد ماكنتي مصممة تفضلي مع بدر!!

أخرجتها ميساء بسرعة من بين ذراعيها عندما قفز هذا الاستنتاج في ذهنها ، لتصيح بغيظ : عروسة المولد مراته دي ضايقتك في الكلام تاني

كيف ترد عليها الآن ، هل تخبرها تلك القصة الخرافية التي لن يصدقها عاقل ، أم تشكو لها من الألم الذي تسبب به بدر لها بما فعله معها من عدة ساعات قليلة.

الشيء الأهم لماذا هى حزينة للغاية ، ولماذا تفعل كل هذا من أجله ، ولماذا تتحدى الجميع من أجله ، وفي النهاية يتركها وراءه ويمضي بهذا الشكل الذي أهان كرامتها وحطم قلبها ، حتى بدون أن يكلف نفسه ويقوم بتوديعها.

لماذا تشعر بكل هذا الشوق في قلبها له من الآن؟

إنه شعور قاتل أن يكون هناك عتاب على شخص بداخلك ، ولا يمكنك حتى التعبير عنه لنفسك.

★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••

مرت الأيام والأسابيع والشهور

داخل أحد الأماكن الراقية ، في حديقة واسعة مليئة بالأضواء الساطعة والموسيقى الصاخبة ، طاولات مغطاة بأغطية أنيقة ومزينة بالورود ، عليها بعض الأطعمة والمشروبات المختلفة ، وبعضها موزعا حول حمام السباحة.

دخلت حياة تتأبط في ذراع معاذ بثقة ، ولكن بداخلها ترتجف بشدة مما سيحدث في تلك الحفلة بسبب وجوده ، رغم أن معاذ وشقيقتها وزوجها بجوارها ، لكنها كانت متوترة جدًا مهما حاولت جاهدة ان تدعى الثبات.

ترتدي فستاناً طويلاً لونه أزرق غامق ، بلا أكمام ، ضيقاً إلى الخصر ، ثم يتسع بإنتفاخ بسيط مع طبقات من الشيفون يصل إلى الكاحل.

هذا الفستان أعطاها لمسة أنثوية رقيقة ، معاكساً مع بشرتها البيضاء الناعمة وشعرها البرتقالي ، المصفّف بتصفيفة رائعة للأعلى و تنسدل منه عدة خصلات على جانبي وجهها الفاتن.

نقلت حياة عينيها في كل الاتجاهات ، مفتونة بجمال المكان وعدد المدعوين الكثيرين للحفلة.

حركت بصرها لتلتقى بعينيه مباشرة وتنبهر بوسامته التى تخطف الأنفاس ، وبدوره لاحظ دخولها المميز ، ولم يستطع أن يرفع عينيه عنها للحظة ، بدت وكأنها أميرة من قصة خرافية ، وحتى أكثر جمالا.

ظلت عينيه تومض بمشاعر عديدة ، تحكي الكثير عن مدى الحب والشوق والإعجاب بإطلالتها الرائعة والساحرة للغاية ، ممزوجة بغيرة شديدة من تشابك يدها بيد ذلك المعاذ.

لديه رغبة شرسة في التوجه إليهم ، وجذبها للوقوف بجانبه دون السماح لها بالابتعاد على الإطلاق ، لكنه لن يتمكن من فعل ذلك لأن رد فعلها لا يضمنه.

بالتأكيد ، لن يكون سببًا لتخريب زفاف أخيه الوحيد وخلق مشكلة ، بل سيستخدم حنكته في التعامل وانتظار اللحظة المناسبة ، لذلك ضمر كل مشاعره تحت قناع البرودة واللامبالاة واستمر في حديثه مع أحد المدعوين بكل ثبات انفعالى يمتلكه.

خاصة بعد أن رآها تذهب للعروسين لتهنئتهم.

على الجانب الآخر

توجهت حياة مع عائلتها نحو العروسين المبتسمين ، والذين يتلقوا التهاني بفرحة كبيرة.

شذى في ثوبها الأبيض ، مثل قلبها النقي ، متشبثة بجاسر الذي فرحته بها مثل طير النورس يحلق بسعادة في كل أجواء السماء.

قدموا التهنئة الحارة مع الابتسامات العريضة لتستغل حياة انشغالهم عنها بمحادثاتهم الجانبية ، وهى تختلس النظر إليه من حين لأخر بشغف ، فأن كل وجه شارد له قلب يحن.

يرتدي بدلته السوداء الفاخرة التي تنسجم مع جسمه الرياضي والعضلي كما لو كانت مصممة خصيصًا له ، لحيته الخفيفة التي تزين ذقنه المنمقة ، وحاجبيه السميكين إلى حد ما ، بالإضافة إلى شعره الأسود المصصف للأعلى ليبرز جبينه العريض.

نظراتها إليه تعبر عن الشوق الكبير المختبئ في قلبها الذي لا تهتز نبضاته إلا بالعشق له ، وروحها المتيمة لا تريد شيئًا بقدر ما ترفرف تجاهه.

انقطع حبل أفكارها ، أو بالأحرى ، خفضت نظرتها المسروقة والهائمة فيه ، حينما تحولت نظراته عن ذلك الذي يقف أمامه لتلتقي بعينيها العسليتين الصافيتين.

ابتلعت حياة لعابها بتوتر واحمر خديها بشدة ، وأدارت وجهها إلى الجانب الآخر لتلاحظ جاسر الذي قال في دراما مليئة بالمرح : يا تري الانسة حياة تسمح ترقص معايا

تحركت عينا حياة بعفوية تجاه شذى التي كانت تبتسم لحركات عريسها ، ثم أشارت إليها تحثها على الموافقة.

ظلت ترقص مع جاسر بينما كانا يتجاذبان أطراف الحديث معًا تحت نظرات بدر الخاطفة بفضول ، لتسمع جاسر يهمس إليها بمكر : واخدة بالك ان بدر بيبصلك من تحت لتحت

هزت حياة رأسها ، قائلة بهدوء ظاهري : ملاحظة بس من تحت لتحت برده

جعد جاسر بين حاجبيه مندهشا من الإهتمام المتبادل بينهما ، فلماذا هذا العناد المتبادل أيضاُ ، ثم همس لها بضحكة : ليه مش عايزة ترضي عنه و تديلو فرصة؟

قرع قلبها حالما لمحته ينظر نحوها ، لتقول باندفاع : وهو يعني حاول يكلمني وانا كنت رفضت اكلمو .. من يوم ما رجع وهو منفضلي

تجمد جاسر من ردها الصريح للحظة قبل أن يقهقه بخفة ، ويدمدم بسخط : عشان لسه فاكر انك مخطوبة لمعاذ يا هانم

هزت رأسها بنفي ، رافضة الخوض في هذا النقاش الآن ، قائلة بنبرة مرحة : مابلاش نكلم في الموضوع دا انهاردة خلينا في فرحك و ركز في ليلتك انت يا عريس لو سمحت

تمتم جاسر على مضض : ماشي يا ستي .. من غير ما تلوحي رقبتك بدر جاي علينا مع موكلة عنده في المكتب

اختلست النظر إليهم من زاوية عينها بفضول أثناء استدارها بالرقص ، لتلمحه يقترب بتلك الشقراء التي تسير معه بخيلاء إلى ساحة الرقص ، يمسك يدها بيده ، وبدأوا يرقصون بجانبهم ، دون ان يخلو الموقف بنظرات خاطفة منها و منه و من جاسر لبعضهم البعض.

مرت لحظات قليلة قبل أن يسمعوا ضحكًا عاليًا من المرأة الشقراء عندما لاحظت نظرات بدر موجهة إلى تلك البرتقالية ، لتنظر إليها حياة بغيظ مستتر خلف ابتسامة صفراء ، بينما كانت ترقص مع جاسر ، لكنها افاقت من أفكارها الغاضبة على صدمة عارمة عندما هتف جاسر متحدثا إلى بدر : بدر .. لو معندكش مانع نتبادل سوا لان عندي موضوع مهم مع الهانم

كاد بدر أن ينطق ، مغتنماً هذه الفرصة الذهبية ، لكن بادرت الشقراء لترد بسرعة ، بينما رن في أذن حياة نغمة الخبث التي اندلعت من نبرتها : الحقيقة انا وبدر بنحكي في موضوع ممكن نأجل كلامنا يا عريس لما اجي المكتب

زاغت نظرات بدر بعدم رضا من ردها بدلاً عنه ، ليقول بنبرة هادئة ، بينما بدأ الارتباك يعصف بعقلها المشوش : لا انا موافق مفيش مشكلة

ابتعد جاسر معه تلك الشقراء إلى الجانب الآخر من ساحة الرقص لدفعها بعيدًا عنهما ، ثم أمسك بدر بخصر حياة ووضعت حياة راحة يدها في يده دون أن يضغط عليها.

بدأت ترقص معه بسلاسة وخفة بعد أن جذبها قليلا نحوه ليقربها إليه ، بينما حياة مرتبكة للغاية منذ البداية بسبب قربها منه ، وعيناه التي اخترقها بنظرات مليئة بالشوق والحب تحاول الهروب منها بالنظر إلى صدره ، فهي لا تملك الشجاعة بعد لمواجهة نظراته العميقة.

بعد فترة انتهت المعزوفة ، وهتفت حياة بابتسامة مشوشة وهي تستدير وراءها كأنها كانت تبحث عن شيئًا ، وأخيرا وجدته : المزيكا وقفت

صُدم بدر للحظة بقطعها حديث ، كاد أن يخرج من فمه ، سرعان ما تدارك الموقف عندما شعر أنها ستترك يده وتنوي الفرار منه ، لكنه كان أسرع منها حينما صدح صوت معزوفة أخرى ليضغط على يدها التي مازالت في يده ، وسحبها تجاهه أكثر حتى تقلصت المسافة الفاصلة بينهما للغاية ، ووضع يدها التي كان يأسرها بين يده مباشرة على قلبه النابض باسمها ، بينما كانت عيناها تتبعان ما يحدث بصدمة وبلاهة.

شعرت بنبضه العالي ، الذي انتقل تلقائيًا لتسمعه في قلبها أيضًا ، بينما سيطرت حرارة لذيذة على المكان من حولها.

غمر حياة إحساس بالخجل والارتباك ، حينما حدجها بنظراته المُرتكزة في عينيها بلون العسل الصافى المرسومة بالكحل بشكل رقيق وجميل سلبته أنفاسه ، وجعلته ينسى كيفية التنفس.

أما حياة بين يديه ، فهي تشعر أنها تمتلك العالم ، لا تسمع ولا ترى إلا هو ، مسحورة بنظراته المليئة بالعواطف تجاهها ، ولا يمكنها الهروب من آسرها.

جال الصمت لفترة بينما كانوا ينظرون لبعضهم البعض بينما أعينهم تتحدث بلغة أبلغ من أي كلام ، فالعيون ما هي الا نواطق بما نستتره داخل القلب والروح.

ظلت تتمايل معه بخفة مثل الفراشة بين الزهور و قلبها مليئا بالسعادة والسرور ، بينما يحدق إليها بعمق لا يمكن تفسيره بالكلمات ولا تحتاج إلى ذلك ، عيناه أشبه برحلة عبر المجرات.

تشعر أن كل ما يمر بها يضيء ، كأنه قمر يجعل ظلام روحها يتوهج بالحياة.

فجأة انطفأت كل أنوار روحها عندما شعرت بشيء لزج لمس أصابعها يدها ، الذي كان بين راحة يده ، لتثبت بصرها عليه بمجرد أن رأت عينيه تذبل بضعف غريب.

تساءلت في ذهنها ما الذي يحدث معه ، لكن أطرافها تجمدت وكأنها مشلولة عندما رفعت يدها عن صدره ، ورأت سائلًا أحمر يلطخ بدلته وأصابعها.

أجاب عقلها صراخًا أنه دم ، وقبل أن تستوعب هوى جسد بدر على الأرض ، وسقطت معه تلقائيًا على ركبتها ، ملامسة مكان الرصاصة التي اخترقت صدره.

حركت شفتيها ، في محاولة لتكوين جملة مفيدة ، لكنها لم تستطع.

نظرت خلفها ورأت الجميع في حالة هرج ومرج ، بعضهم تصلب بدهشة ، وبعضهم يركض في أماكن منفصلة حتى يعلموا من أين أتت تلك الرصاصة الصامتة لتضربه من مكان مجهول ، وتسمعهم يتحدثون بصوت لم تفهمه بسبب صدمتها.

التفتت إلى بدر الذي يضع رأسه في حجرها بسكون ، ولا يزال يمسك بيدها على قلبه ، وعيناه نصف مغمضتين ، بينما عيناها تنهمر بدموع لا تتوقف ، وتغمغم بما يشبه الهذيان باسمه في حالة من عدم التصديق والذعر مرتسما على محياها : بدر .. بدر قوم

حرك بدر شفتيه ، جاهدًا في النطق بكلمة واحدة ، لكنه لم يستطع ليغلق عينيه في الاستسلام ، بينما تركت روحه جسده بلا رحمة ، وانتهى كل شيء بعد ذلك.

كل ما تبقى هو صمت ، الدم والذعر والصدمة وقلب مكسور وجثة هامدة.

★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••

ارتعاش جسد حياة بعنف لتهب جالسة على السرير والعرق يتساقط من جبهتها ، بينما أصوات أنفاسها المتهدجة والسريعة ، تملأ زوايا غرفتها.

فركت عينيها حتى تتمكن من التركيز ، وقلبها يتألم من قوة نبضاته المجنونة.

تنهدت بعمق عندما أدركت أخيرًا أن ما رأته كان كابوسًا مزعجًا قبل أن تزيل غطاء السرير عنها لترى أنها لا تزال ترتدي الملابس التي جاءت بها ، لتتذكر أنها قد نمت دون أن تبدل ثيابها من كثرة التعب والبكاء في حضن أختها.

عندما يأتيك شخص تحبه في الأحلام ، فهناك إحتمال كبير أن يكون هذا الشخص مشتاق لك ، وتفكيره بك صنع التواصل الروحي اللا محسوس.

نزلت بقدميها على الأرض ، واستقامت تمط جسدها في بطء ، ثم سارت نحو الحمام الملحق بغرفتها للاستحمام ، على أمل إراحة أعصابها المتشنجة بعد أن أخرجت لها ملابس نظيفة من الخزانة.

خرجت من الحمام بعد وقت وجيز تفوح منها رائحة المانجو المنعشة ، مرتدية إحدى بيجاماتها القديمة التى بدت كالطفلة فيها ، بينما رفعت يديها تزيل مشبك شعرها ، لينسدل على كتفيها بحرية.

ألقت المنشفة بإهمال على الكرسي أمام طاولة المرأة ، فوقعت عيناها على الحقيبة التى جاءت بها لا تزال في مكانها حتى الآن ، لتتجه نحوها ، وترفعها على السرير وتبدأ في إخراج محتوياتها على السرير بلا مبالاة ، اتسعت عيناها بإستيعاب ، لتقول بصوت هامس بينما تضع إصبعين على ذقنها : هدومه ازاي سها عليا اسيبهالو في استقبال المستشفي!!

أغمضت عينيها ، تقاوم الدموع من التصاعد إلى مقل عينيها ، وتفكر بحزن لماذا لا يتركها ما يخصه و كما ابتعد عنها و رحل.

لم تستطع أن تقاوم احتضان ذلك القميص الذي كان بين يديها إلى صدرها ، مستنشقة رائحة عطره بإنجذاب وشوق كبيرين ، بينما ظهرت ابتسامة حزينة على شفتيها.

فوجئت حياة بطرقات خافتة تدق على باب الغرفة ، فأسرعت تخبأ القميص داخل الحقيبة ، ثم زفرت بحرارة و مضت إلى الباب لتفتحه.

اتسعت ابتسامة ميساء قائلة بهدوء : كنت جاية اشوفك صاحية ولالا عشان نصلي الفجر حاضر زي ما متعودين يا يويو

فركت حياة أنفها بخفة قبل أن تحمحم قائلة برقة : هحط الاسدال عليا و اجي وراكي يا ميساء

كادت حياة أن تغلق الباب ، ولكن فجأة دخل طفل صغير ركضاً ، يكاد يصل طوله إلى ركبتيها ، يهتف بفرح طفولى وهو يرفع يديه نحو حياة ، قاصداً أن تحمله : خالتو وحشتيني

ثنت حياة ظهرها لتحمله وتضمه بشوق ، ليلف قدميه على خصرها النحيل ، فقبلته على خده الممتلئ بلطف قائلة بابتسامة صادقة : روميو حبيب قلب خالتو .. انت اللي وحشتني اوي اوي

مسح الطفل خده بتذمر ، فهي تعلم أنه لا يحب التقبيل ، لكنها تتعمد مشاكسته ، ليقول بعد ذلك بشغف طفولي : فين العربية اللي وعدتيني بيها!!

انفرج فاه حياة بدهشة وهي تتمتم بصوت مذهول ، بينما تنظر إلى ميساء التي عادت لترى هذا المشهد : يا اروبة انت مابتنساش حاجة ابدا واخدني علي الحامي كدا

زمجرت ميساء بنفاذ صبر ، وهي تمد يديها لتلتقط الطفل من حضن حياة و تنزله على الارض : هاتي الواد دا بعد الصلاة ابقو كملو كلام .. و عربية ايه ياض يا رامي مش ابوك خدك الملاهي بعد زنك عليه اسبوع كامل مابتشبعش طلبات ابوك كدا هيطلقني بسببك

حاول رامي الهروب من قبضة والدته على تلابيب قميصه ، ليصرخ بمكر طفولي بينما يرسم الانزعاج على وجهه : ما انتي بتطلبي من بابا اللي انتي عاوزة و لا هي جت عندي وهيطلقك

أنهِى كلماته ثم هرول بعيداً حتى لا تمسك به مرة أخرى لتركض ميساء خلفه ، بينما تصرخ أيضًا بوعيد : وحياة امك لا احرمك من الايباد سنة بحالها لو لسانك دا مالمتهوش

لحظات ثم إنفجرت حياة وهي تضحك بقوة على ابن أختها المشاغب ، وأوصدت الباب ، بينما تمسح دموعها من جانبي عينيها من الضحك المفرط.

لا تعرف هذا الشعور الذى داهمها حنين إليه أم لعائلتها؟..


    الفصل التاسع عشر والعشرون من هنا 

    لقراءة جميع فصول الرواية من هنا

تعليقات