
رواية شبح حياتي
الفصل الخامس عشر 15 والسادس عشر 16
بقلم نورهان محسن
الفصل الخامس عشر
أحببتك في أيام سريـعة ، وأصـبحـت تملكَ كـل وقـتي ، لا أعـلم ماذا حدث لي ، ولكـن لا أطيق ابتعادك عني فهو يتعبني كثيـراً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قبل ساعات قليلة من بزوغ الفجر
داخل سيارة سوداء على الطريق السريع
حياة جالسة بجانب مازن الذي كان جالسًا خلف عجلة مقود السيارة ، وهي شاردة الفكر بما حدث بعد أن تلقت مكالمة هاتفية من المستشفى الذي يرقد فيه بدر في الإسكندرية ، على حد قولهم.
ظلت تنظر حول نفسها بضياع عدة دقائق ، من جهة أرادت الذهاب إليه ، لكن الوقت متأخر كثيراً ، وفي ذات الوقت لم تكن قادرة على الانتظار حتى الصباح.
يأست بعد أن حاولت عدة مرات الاتصال على جاسر ، لكن لم يصلها أي رد منه.
وضعت حياة يدها على فمها ، وغطت ابتسامة عريضة على شفتيها ، وهي تتطلع نحو النافذة المجاورة لها عندما تذكرت رد فعل بدر الغاضب عندما اقترحت عليه طلب المساعدة من مازن ، فهو الوحيد الذي سيوافق على توصيلها في ذلك الوقت المتأخر.
وقد حدث ذلك بالفعل بالرغم من معارضة بدر الشديدة ، لكنها ضاعت هباءاً عندما تجاوزته وتوجهت مباشرة إلى شقة مازن ، الذي رحب على الفور بمساعدتها ، فشكرته كثيرًا هو ووالدته التي وافقت على أخذ الهرة ، والاعتناء بها لحين عودتهم ، فلا أحد يعلم كم من الوقت سيغيبون ؟
عادت بسرعة إلى شقة بدر لإحضار حقيبة سفر صغيرة لها وبعض أغراض شخصية لبدر ، بينما بقيت في نفس الملابس التى قضت بها اليوم لأنه لم يكن لديها الوقت لتغييرها.
كان مازن أثناء قيادته يختلس النظر إلى حياة مستكينة بجانبه ، ويبدو أنها ضاعت في أفكارها داخل عالم آخر.
فجأة انقطع الصمت بصوت بدر الحاد الذي صر على أسنانه بقوة ، وتمتم من بينهم ، فهو بالكاد يمسك نفسه حتى لا ينفجر في حياة العنيده بشكل غير طبيعي يضايقه بخطورة : حياة .. انا مش مستحمل ضغط عصبي وركوبنا في عربية النحنوح دا خنقاني اكتر
لا شعوريًا ، تحركت في مقعدها ونظرت إليه وهو جالس في المقعد الخلفي ، ثم سرعان ما اتعدلت في مقعدها قائلة بتلعثم وارتباك : شكرا يا دكتور مازن عارفة اني ازعجتك في وقت متأخر...
لم تكد تنتهي من حديثها الذى زاد الطين بلة ، حتى صرخ عليها بدر في فورة غضب ، بعد أن خرج عن طوره ، وهو ينظر إلى مازن بعدائية : وحياة امك ماتبوسي علي ايده بالمرة
كتمت حياة ردًا لاذعًا كانت على وشك أن تقوله له عندما لاحظت الشخص الجالس على اليسار ينظر إليها ، فابتلعته قسراً أثناء الاستماع إلى إجابة مازن الهادئة : ماتقوليش كدا يا حياة .. انا لا مضايق ولا حاجة بس فهميني براحة الموضوع مالحقتش افهم من كلامك حاجة
استشعرت حياة تعجّبه الذى ارتسم بوضوحٍ على ملامحه ، ثم أردفت لتُوَضّح ما حدث بصوت هادئ نسبيًا : اتصلو بيا من اسكندرية و بلغوني ان بدر عامل حادثة و موجود في المستشفي اللي قولتلك اسمها في اسكندرية
قال مازن بتساؤل وعيناه مثبتتان على الطريق : ومعرفتيش ايه حالته!!؟
هزت حياة رأسها بنفى ، ثم واصلت حديثها ببعض الإحراج : لا مالحقتش افهم اي حاجة من اللي كلمني وماعرفتش اوصل للمساعد بتاع بدر ولا في وسيلة اسافر بيها بسرعة في وقت متأخر زي دا .. لاقيت نفسي بجري عليكو .. ميرسي لمامتك انها خلت ميجو عندها
تحدث مازن بابتسامة جذابة زينت ثغره ، جعلت القابع ورائه يغضب جزاً على أسنانه بغيرة ، ويضم قبضته الفولاذية بحنق ، لاعناً بداخله مازن وحياة أيضًا : انا مبسوط انك فكرتي فيا اول واحد .. والحمدلله اني وقتها كنت موجود في البيت
سرح عقلها في عدة اتجاهات مختلفة واختلطت المشاعر في قلبها بين الخوف والأمل والقلق والترقب ، بينما كانت عيناها تحدقان في الطرقات بصمت تام دام لحظات ، تدعى إلى ربها بأشياء كثيرة ، غير منتبهة إلى المشاعر المختلفة داخل الرجلين الموجودين في السيارة معها.
انقطع حبل أفكارها عندما حمحم مازن الذى أراد إخراجها من قوقعة أفكارها بطريقة غير مباشرة ، فابتسمت وقالت بامتنان صادق : شكرا يا دكتور معرفش من غيرك بجد كنت اتصرفت ازاي .. وانا اسفة علي الازعاج دا مرة تانية
شعر مازن بالانزعاج من تمسكها الشديد بعدم رفع الكلفة وإزالة الألقاب بينهما ، ليقول بنبرة هادئة حاول بها إخفاء ضيقه : ولا يهمك .. المهم نطمن علي بدر .. حاولي تنامي شوية لسه قدامنا وقت طويل في الطريق
اعتدلت حياة في مقعدها ، وأومأت برأسها لتقول بهدوء بعد أن أسندت رأسها على حافة المقعد خلفها : تمام هنام شوية
أثناء حديثهما ، كان بدر صامتًا على مضض ، وأغمض عينيه وشد قبضته بعنف مثل أنفاسه المضطربة من غضبه المفرط.
فلا يكفي الهالة العصيبة المحيطة به من جميع النواحي حتى يكتمل الموقف بالتصاق مازن بهم ، وبناءً على رغبتها تلك الغيبة لا تعلم شيئاً ، فلن ينسى الحوار الذي دار بين مازن وشقيقته بعد أن قاموا بتوصيل حياة أول البارحة ، عن خلافه معه بسبب شقة حياة ، وطبعا استمع للحديث بالكامل ولم يشعر أحد بوجوده.
زفر الهواء بقوة ، ربما يساعده ذلك على تهدئة أعصابه الثائرة.
★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••
بعد مرور عدة ساعات
أشرقت الشمس الدافئة على مدينة الإسكندرية ، معلنة حلول يوم جديد مختلف تماما يحمل طياته أحداثا جديدة وصادمة للجميع.
داخل المستشفى
تسير حياة بقلب مرتبك ومازن وبدر إلى جانبها.
سبقها مازن متجهًا نحو موظف الاستقبال ، وفي غضون دقائق عاد مرة أخرى ، وجعلها تصعد معه إلى أحد الطوابق فى الأعلى.
طرق مازن على أحد الأبواب ، بعد التأكد من أنها نفس الغرفة التي وصفها له الموظف ، ليدلفو معاً ، بعد أن سمح لهم بالدخول الجالس في الداخل.
: ايه المفاجأة دي معقوله!! ازيك يا دكتور مازن عاش من شافك
هتف رجل يبدو أنه في الثلاثينيات من عمره يرتدي معطفًا طبيًا أبيض ، بعد أن وقف مسرعاً بمفاجأة وهو يدور حول مكتبه ، فأجابه مازن بابتسامة وهو يصافحه بحرارة : الله يسلمك يا علاء اعذرني مشاغل الدنيا انت عارف
سأل علاء بدهشة ، وهو ينظر إلى حياة نظرة خاطفة : ايه جاي في زيارة لحد عندنا؟!
تنهد مازن بخفة ثم أشار إلى حياة التي تقف بجانبه وبدت متوترة ، ليرد على سؤال صديقه بجدية : لا الحقيقة احنا بنسأل عن واحد اسمه بدر عز الدين جالكم هنا في حادثة عربية
نظر إليه علاء متفاجئًا ، وتمتم : هو يقربلك!!
وضع مازن يديه في جيوب بنطاله ، ثم أجاب مصححاً : لا احنا جيرانه في نفس العمارة و بلغونا بالتليفون انه موجود هنا
عدل علاء نظارته الطبية على وجهه ، وأومأ بفهم مؤكداً : ايوه هو اتنقل من ايام بسيطة وكان وضعه مايطمنش ابدا
كانت حياة تتلفت بعينيها بينما يتحدثون في الغرفة تبحث عن بدر الذي اختفى عن نظرها منذ دخولهم غرفة الطبيب ، ثم هتفت للمرة الأولى متداخلة في الحديث لتتساءل بسرعة ، وامتلأت عيناها بالقلق : ممكن نعرف ايه اللي حصل بالظبط!!؟
هز علاء رأسه ليستطرد بجدية تامة : العربية عملت الحادثة في ساعة متأخرة من الليل و في منطقة مقطوعة من الناس .. استاذ بدر فضل في العربية اكتر من خمس ساعات قبل ما يلاقوه ولاد الحلال الفجر ويسعفوه علي مستشفي بسيطة في المنطقة
تابع حديثه بتأني بعد أن رأى بوادر استغراب ورهبة على ملامح حياة ، بينما كان مازن يستمع إليه بهدوء : دا اللي عرفته .. لما وصل هناك كان نزف كتير جدا للأسف المخ اتأثر ودا دخله في غيبوبة من وقتها .. حاليا جسمه بدأ يتعافي من الكدمات و الجروح دي علامة كويسة لكن مافيش اي استجابة من المخ لحد دلوقتي
جف حلق حياة من الصدمة ، لكنها لم تستطع الصمت قائلةً باندفاع : ليه محدش عمل بلاغ عن الحادثة دي يا دكتور!!
أومأ علاء برأسه مؤكدا بنبرة هادئة ومتوازنة : اتعمل محضر طبعا اول مادخل المستشفي .. بس زي ما قولتلكو المستشفي اللي كان فيها متواضعة جدا وامكانياتها مش عالية ودا برده كان سبب في تأخير تحسين حالته .. وكمان محدش اهتم بالموضوع بسرعة لان المريض كان معهوش اي اثبات شخصية .. لكن الظابط اللي بيحقق في الحادثة كشف عن العربية عشان نعرف هويته والمستشفي هنا اتصلو برقم بيته
: يعني هيبقي كويس يا دكتور .. هيبقي كويس!!؟
رددت حياة السؤال بلهفة ، دون أن تعى ذلك ، جعلت مازن ينظر إليها بريبة ويساوره الشك ، لكنه تأمل أن يكون هذا الاهتمام منها بدافع التعاطف مع بدر ، مقنعاً نفسه بأنها لم تره منذ أمد طويلاً.
تنهد الطبيب قائلا بموضوعية : املنا في ربنا كبير .. لكن مافيش استجابة منه لاكتر من اسبوعين مع مرور الوقت اذا استمر حاله علي كدا هنضطر نفصل عنه أجهزة التنفس في النهاية ونعلن وفاته انا اسف
قرع قلب حياة هلعاً لتصيح لا شعوريًا باندفاع : لا يا دكتور لو سمحت ماتعملش كدا!!
نظر علاء ومازن إلى بعضهما البعض ، وشعر الشخص الأول بغرابة تصرفها أمامه ، بدا أنها مهتمة بهذا البدر بشكل مبالغ فيه ليشعر بالدهشة والحيرة بداخله ، خاصة وأن مازن عرفها عليه بأنها جارته ليجيب عليها بسؤال : انتي مراته؟!
اندفَعت الدماء لوجنتيها ، معبرة عن خجلها ، بعد أن أدركت أنها تعجلت في الرد ، لتفرك كفيها معًا بإرتباك ، ثم أجابته بصوت منخفض : لا انا .. انا جارته
زفر مازن بضيق ، ثم استطرد بهدوء : مراته في القاهرة ولسه ماتعرفش
أومأ علاء برأسه متفاهمًا قائلاً بجدية : في الحالة دي هي اذا وافقت علي قرار فصل الاجهزة عنه مانقدرش نعمل حاجة
حدقت حياة بهم بحدة ، وقالت بمعارضة : بس هي مش مراته دي طليقته
رفع مازن حاجبيه مصدوماً ، وأردف بدهشة عارمة : ايه اللي بتقوليه يا حياة عرفتي ازاي الكلام دا اصلا؟!
: محدش هيفصل الأجهزة عن المريض الا بعد اذن مباشر مننا احنا يا دكتور
تجمدت حياة للحظة عندما سمعت ذلك الصوت المألوف في أذنها ، قبل أن تلتفت إلى الشخص الذي دخل الغرفة ، والذي فُتح بابها دون إذن ، لتتوسع عينيها بصدمة ، قائلة بإنشداه : معاذ .. انت بتعمل ايه هنا!!
نطق مازن بدهشة بعد أن وزع نظراته بينهما : هو انتي تعرفيه يا حياة!!
لم يختلف رد فعل معاذ كثيرًا عنها ، حيث صُدم أيضًا برؤيتها الغير متوقعة تمامًا وصاح بغرابة ، قاطعًا بصرامة رد حياة على مازن : انتي ايه اللي جابك هنا يا حياة ورجعتي اسكندرية امتي!!؟
: هو دا بقي معاذ اللي كان خطيبك
الآن ، لم يكتمل هذا الموقف المتوتر لحياة إلا بظهور بدر المفاجئ والمربك لنبضها عندما سمعت صوته بجوار أذنها ، لتتحرك حدقتيها تلقائياً تجاهه ، متعجبة من عودته إلى الغرفة بهذا الوقت تحديداً ، لكن لا وقت للتوتر الآن لتقول بصمود زائف بعد العودة للنظر إلى معاذ : انا اللي بسألك!!
وضع بدر إحدى يديه على خصره ، وقال ببغض متجاهلاً النظرة التحذيرية التي أعطتها إياه حياة : باين عليه سئيل
أجاب معاذ على سؤالها ببرود ليس جديد عليه ، فهو إما بارد كالصقيع أو غاضب كبركان ليس لديه وسط : ماشي .. انا الظابط اللي بحقق في حادثة بدر المحامي .. مين الباشا؟
تابع معاذ كلماته بنبرة تهكمية لاذعة بعد أن انتقلت عيناه ، لمازن الذي قال بصوت يتسم بالهدوء والثبات الانفعالي : انا دكتور مازن كمال جار بدر في العمارة
نطق معاذ ببحة ساخرة : تشرفنا يا دوك
الصدمة لم تكن من نصيب مازن وحده الذي لم يكن مرتاحا لأسلوب معاذ معه ، لكن أكبر جرعة كانت من نصيب بدر ، وهو يضغط على قبضته بقوة وهتف بصوت داخلى فى سخط ، وهو يحرك نظراته بين مازن ومعاذ : ليه يارب حظي مهبب كدا ليه؟! من دون كل الظباط دا اللي يكون من نصيبي .. مش كفاية المصايب اللي واقع فيها
أخذت حياة بعض الوقت لتفكر في صمت قبل أن تهمس بحسرة في نفسها من هذا الحظ العاثر الذي يطاردها ، والخوف نشب مخالبه في قلبها وخدشها بعنف ، أن وجود معاذ لا يبشر بالخير بل سيعرقل الأمر أكثر ، لكنها حاولت جاهدة عدم إظهار ذلك الخوف إليه : هي كدا كملت!!
عقد معاذ ذراعيه أمام صدره العريض بعضلات طبيعية نتيجة تدريباته الجسدية القاسية ، وسأل بتأنئ ومكر : دورك بقي تفهميني بتعملي ايه هنا يا حياة؟
وجدت حياة لسانها يرد عليه بتحدٍ دون تفكير : انا هنا عشان بدر
تحولت الغرفة إلى ساحة معركة بالنظرات بين معاذ الغاضب وحياة المتحدية ، وبدر الذى يقف بجانبها وعقله على مشارف الجنون من ذلك الدخيل إلى حياته المبعثرة.
أما مازن وعلاء ، فكانا يشاهدان ذلك المشهد بصمت ، ربما يفهمون شيئًا ما ، لتتركز أعينهم على معاذ وهو يقول بتوجس : وانتي تعرفيه منين؟
تجهمت ملامح بدر ، استطرَد الحديثَ بخشونة مستفسراً ، وكأن الآخر سيرد عليه أو يشعر بوجوده : وانت مال اللي خلفوك!!
أغمضت حياة عينيها محاولة السيطرة على انفعالاتها ، وهي تطبق بشفتيها للداخل ، بعدما كادت ضحكة مفاجئة أن تفلت منها ، ثم فتحت عينيها وقالت بصوت بارد : ممكن تبطل استجواب فيا مش وقته ولا مكانه
رمقها معاذ بنظرات حارقة بسبب حديثها الذي لم يعجبه إطلاقا ، محاولا إيصال رسالة مبطنة لها بعدم إغضابه ، فربما تتراجع عن استفزازه ، لكن لا حياة لمن تنادي : انتي شكلك نسيتي انك خطيبتي ومحتاجة اللي يفكرك يا انسة
قلبت حياة عينيها لتقول بملل وبرود ظاهرى ، لكن ذلك لم يمنعها من استشعار الخطر من رؤية عروقه التي أصبحت نافرة دلالة على غضبه المكتوم : واضح ان شغلك اثر علي ذاكرتك .. كان فيه وخلص دبلتك رجعتلك من اسبوعين
حمحم علاء بحرج لينبّههم بوجود آخرين في الغرفة معهم قبل أن يردف بجدية : معاذ باشا .. انت قولت اننا مانقدرش نفصل الاجهزة عنه الا بعد موافقتك ممكن اعرف السبب ؟
سرعان ما جمع معاذ أفكاره المشتتة بسبب البرتقالية قائلا بنبرة جادة قوية : لان الحادثة مدبرة بفعل فاعل فرامل العربية مفكوكة بالعمد وفي الحالة دي ممنوع تفصلو الاجهزة الا بأمر مني شخصيا
خرج مازن بصعوبة من الصدمة التي وقع فيها عندما علم بهوية معاذ وأنه خطيب حياة ، لينغمس في صدمة أقوى ، فرفع أحد حاجبيه ليسأله بإستنكار : يعني في حد قاصد يقتل بدر !؟
ارتجافة قوية إستهدفت قلب حياة في تلك اللحظة لتقول دون وعي : انا هدخل اشوفه فين اوضته ؟
كشّر معاذ عن أسْنانه وصاح فيها باستهجان غير مكترث بمن حولهم وقد طفح الكيل : نعم .. تدخلي فين!! انتي ماجاوبتنيش علي سؤالي انتي هنا ليه؟
حدقت به حياة بنظرة حادة ، فقد سبق لها أن ذكرت السبب بالفعل قبل أن تتجاهل الرد عليه تمامًا ، فلن تجد فائدة في الحديث معه لأنه لا يفهم الأمور إلا من وجهة نظره فقط.
نظرت إلى مازن الذي لا يفهم شيئًا ، وتحوم أسئلة فوق رأسه حول طبيعة علاقة حياة مع ذلك الضابط ، ليفيق من خواطره على صوتها الهادئ رغم الاضطراب المستعمر في روحها : ممكن يا دكتور مازن تفهم حضرة الظابط احنا هنا عشان نطمن علي بدر؟
أردفت حياة بأدب بعد أن نظرت إلى علاء : ياريت تقولي اوضة بدر فين يا دكتور من فضلك!!
أنهت كلامها ، التى زادت من عبوس معاذ اكثر ، ولم يخفي عليه السخرية الواضحة في صوتها ونظراتها إليه ، لتتجاوزه مغادرة الغرفة دون أن توليه أدنى اهتمام.
تساءل معاذ بتعجب في خاطره منذ متى كانت لديها تلك الثقة والثبات ، وما سبب هذا التغيير الملحوظ فيها؟
"معاذ الدرديري"
"31 سنة"
"رئيس المباحث بالإسكندرية"
"الأخ الأصغر لزوج ميساء"
"متعجرف ، عنيد ، يصعب إقناعه ، خاصة عندما لا يستسلم الآخرون لقيادته ، فهو سريع الغضب وسريع الإرضاء ، محب للقيادة والسلطة ، يتسم بالغموض وعدم الإفصاح عن أسباب أفعاله ، ولا يحب التبرير ولا يجد له داعي ، يظهر بخلاف ما يخفي ولديه ثقة عميقة بأن قيمته الشخصية تدعوه للسيطرة على العالم المحيط به ، فهو يقظ ، وجريء ، ومجازف ، ويحب الجمال والتحكم بالأمور ، يهوى استكشاف الألغاز ومغامراته العاطفية كثيرة ، ولا يشارك أحد في اتخاذ قراراته لأن هذا يمنحه ثقة أكبر ، يتعامل مع حياة وكأنها شيء يمتلكه فهو من النوع الغيور والأناني عندما يحب.
طويل القامة ، وعيونه فيروزية ساحرة ، وذو وجهًا دائري ، وملامحًا صارمة ، وشعرًا بني كثيفًا."
★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••
بعد مرور دقائق معدودة
ولجت حياة إلى غرفة بيضاء واسعة ، ثم تأملتها للحظة حتى وقعت عيناها عليه.
جسد بدر مستلقي على سرير في منتصف الغرفة بسكون بسبب فقدان الوعي العميق الذى سقط فيه ، ومحاطًا بالأجهزة الطبية التي تحافظ على استقرار التنفس والدورة الدموية من خلال استخدام إدخال أنابيب التنفس التى تنقل الأوكسجين إلى رئتيه.
تدريجيًا ، اتسعت ابتسامتها وهي تتجه نحو السرير ، وتقترب منه محدقة في ملامحه الباهتة ، لتهمس بغبطة لم تستطيع كبح جماحها : بدر .. انا مش مصدقة!! انت عايش مش ميت زي ماكنت فاكر اهو قدامي انت...
قاطعها صوته الهادئ قائلا بقلق : ايوه بس الكلام اللي قاله الدكتور مش مطمني يا حياة
رفعت أهدابها الكثيفة ، ونظرت إليه ثوان ، بعد أن أنهى كلامه ، ورأته واقفا عند الجانب الآخر من السرير.
أطلقت حياة زفيرًا قويًا قبل أن ترد بضيق بعد أن تذكرت ما حدث منذ قليل : ولا انا مطمنة خصوصا من وجود معاذ هنا .. يعني جه في بالي اشوفه بس مش اول ما احط رجلي في اسكندرية بنص ساعة
دمدم بدر بنبرة خافتة وثقيلة ، وهو يضيق عينيه في حالة من الاستياء : تصدقي بالله دي اكتر حاجة غيظاني من كل اللي بيجري .. انتي ليه ماقولتليش انه ظابط؟
اندهشت حياة من رد فعله المحتدم ، و ردت دفاعا عن النفس : كانت هتفرق لو قولتلك!! وبعدين انا مش حابة اتكلم عنه اصلا
حاولت تغيير مسار الحديث واستأنفت كلامها بعد أن أنزلت جفنيها على وجه بدر الراقد بسكون ، واقترحت بتفكير : سيبك من كل دا .. انت مش حاسس بأي تغيير وانت قريب من جسمك .. يعني حاول تدخل في جسمك يمكن يحصل اي تحسن وتقوم
هز بدر رأسه وفرك رقبته قائلا بيأس : جربت اعمل كدا وانتي واقفة معهم برا .. بس مافيش أي حاجة اتغيرت مش قادر أصحي ولا حصل اي استجابة
خطرت كلمات معاذ في ذهنها ، وتمتمت بقلق : الحادثة كانت جامدة عليك و كمان مقصودة
: بتكلمي مع مين!!
#الفصل_١٦
الفصل السادس عشر
أنتي جميلة ، أجمل من أن يتشوَّه مزاجك لحديثٍ
عابر يتسبَّب به كائن مُغفل ، لا يدرك كم أنتِ جميلة.
"البدر"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خطرت كلمات معاذ في ذهنها ، وتمتمت بقلق : الحادثة كانت جامدة عليك و كمان مقصودة
: بتكلمي مع مين؟
جفلت حياة وتجمدت ملامحها بمجرد أن سمعت صوته خلفها حالما فتح الباب دون سابق إنذار ، وربما الحب أيضا إخترق حصونها دون أن تدري مقتحماً قلبها سهواً ، لتنبُس بإستنكار متوترًا بينما تضع إحدى خصلات شعرها المتمردة على جبينها خلف أذنها بعد أن إستدارت بكامل جسدها إليه : انت ايه اللي دخلك هنا!!
رفع معاذ حاجبه مستاءًا من هجومها العدائي عليه ، وسرعان ما أظلمت ملامحه ، وانمحت الابتسامة المرسومة على محياه حتى يلطف الأجواء معها ، ليدمدم بثقة : انا ادخل المكان اللي يعجبني
تابعته حياة بعيون ضيقة ، وهو يتقدم نحوها بخطوات ثابتة بطيئة ، لتعقد ذراعيها أمام صدرها قائلة بتعبير مقتضب : مفيش فايدة! انت مابتتغيرش!! مش شايف ان دي اوضة مريض في مستشفي ماينفعش تزعق كدا
ارتفع حاجب معاذ غضبا على حديثها ، ليسأل بصوت خشن : ايه علاقتك بيه يا حياة؟ ومالك مهتمة بيه ليه وانتي مجرد جارته ودي اول مرة تشوفيه!!
أنهى معاذ كلامه بحدة ، لتجيب حياة مباشرة بأكثر نبرة هادئة تمتلكها ، على عكس الغضب الذي كانت تشعر به في نفسها : مايخصكش
زمجر معاذ بتهديد وصيغة أمر ، حيث أنها تضغط على وتر حساس فيه ، فأكثر ما يثير استفزازه ويخرجه عن طوره أن يتحداه أحد : ماتكلمنيش بالطريقة دي..
أكمل حديثه بصوت أهدأ قليلاً من ذي قبل ، بينما يشد على قبضته بعنف محاولاً السيطرة على غضبه : اسمعي انا صابر وماسك نفسي عنك بالعافية .. لولا اني انشغلت بالبني ادم اللي وراكي دا .. كنت جيت جبتك غصبن عنك من القاهرة
حررت يديها المطويتين على صدرها لترفع سبابتها في وجهه ، وتدمدم بغضب ، بينما بداخلها ترتجف من التوتر العصبي الذي يرافقها بسبب الظروف التي أحاطت بها ، خاصة مع اقتحام هذا المتغطرس نفسه فى حياتها من جديد ، ليجعل الأمور أسوأ بالنسبة لها : اسمه بدر والزم حدودك يا معاذ .. انا مش مجرمة ولا متهمة في القسم قدامك عشان تعاملني بالهمجية وقلة الذوق دي .. وانت ماتقدرش تعملي حاجة فاهم
اشتعل معاذ غيظا من لسانها السليط ، ونظرة الاستخفاف التي ترمقه بها ، حتى اندلعت شرارات متطايرة من عينيه ، محدقاً فيها وهو يصيح باستنكار : اظاهر ان انتي اللي اتغيرتي في الكام يوم اللي قعدتيهم في القاهرة!! من اول شكلك وطريقة لبسك .. لحد صوتك العالي ولسانك الطويل..
صمت لحظات ، بينما تتلألأ عيناه محركا اياها من أخمص قدميها إلي أعلي رأسها بوميض مختلف ، تزامنًا مع إنهاء جملته بعاطفة قوية لم يكلف نفسه عناء إخفائها عنها أو ربما حدث ذلك لا شعورياً منه ، لكنها تجاهلت ذلك عندما سألها بعبث : معقولة حالك يتشقلب في كام يوم بعدتيهم عني؟
إمتعضت ملامحها من الغضب ، وتسللت حمرة خفيفة إلى وجنتيها من نظرته الوقحة نحوها ، وقبل أن تجيب عليه ، استمع كلاهما إلى صوت الطبيب الذي جاء من عند باب الغرفة ، حيث نظر إليهما باستنكار و قال بنبرة هادئة : ايه يا جماعة!! انتو مش واخدين بالكو واقفين فين؟ تعالي معايا يا حضرت الظابط لو سمحت
كل هذا حدث أمام أعين بدر الذي يدعى البرود ، وهو بداخله يحترق من الغضب بسبب كلام معاذ ، لينظر إلى جسده الساكن بعيون حمراء من القهر ، وكأنه يقول له أنهض من سباتك حتى تلقنه درسًا لن ينساه ، لكن لا حياة لمن تناديها ، أيها البدر.
★★★
: حياة
نطق اسمها بهدوء بارد ، على عكس الفوضى التي تشكلت بداخله بعد أن غادر معاذ الغرفة بينما كانت حياة واقفة تنظر إلى الباب بجمود ، والأخر غير مدرك بما تفسر تعابيرها وهي موليه ظهرها له.
همست حياة بصوت خفيض مرتجف ، وكأنها تخاطب نفسها ويبدو أنها على وشك الانهيار : دي كانت غلطتي من الاول لما وافقت اتخطبلو .. من يومها وهو بيتصرف بالطريقة دي معايا زعيق و شخط و تحكم فيا كأنه اشتراني .. مش عايزني اعمل اي حاجة الا بأمره وعلي مزاجه وانا ماليش رأي .. وفي الأخر لما اشوفه قاعد واخد راحته و بيهزر مع وحدة ويحط ايده عليها بكل بجاحة في مكان عام واحاول الومه واعاتبه...
أنهت كلامها ، تزامناً مع استدارها إليه ، تطلعت إليه بنظرة احتوت فى طياتها الغضب والحسرة ، بينما عيناها انهمرت منها الدموع واحدة تلو الأخري بغزازة مثل غيمة ممتلئة بالمطر لفترة طويلة ، وظلت تؤجل موعد الهطول بدافع الكبرياء ، لتنهار الآن وتغرق الكون بأثره.
ابتلعت حياة غصة متوقفة بمرارة فى حلقها ، لتكمل بصوت ضعيف بعد أن سارت ببطء ، لتجلس على الأريكة أمام سرير بدر بعد أن شعرت أن قدميها أصبحتا كالهلام ، لم يعد بإمكانها السيطرة عليهما أكثر : عارف كان رد فعله ايه!!
اقترب منها بدر بثبات ظاهرى ليجلس بجانبها ، وينظر إليها بصمت ، كما لو أنه يحثها على استكمال حديثها ، لتغمغم بخفوت : ببجاحة قالي دي حاجة عابرة بس انتي اللي هتكوني مراتي
رفع بدر حاجبه سخطًا على حديثها ، الذي جعل الدم يفور بداخله ، لكنه ظل صامتًا حتى يجعلها تخرج كل الشحنة المليئة بالدموع والقهر الكامن في صدرها ، والذي كبته أيام طويلة فى أعماقها.
قضمت حياة شفتيها بقوة دون وعي منها بسبب تزايد قلقها واحتياجها لمتنفس ، وتذكرت بوضوح كلماته القاسية غير مهتم بمشاعرها ، بينما يتمعن فى ملامحها المصدومة بجمود تام.
منذ ذلك اليوم لم تستطع البوح لأي شخص بما تشعر به ، ولا حتى أعطت نفسها مهلة للتفكير في الأمر ، لتخرج ما تخفيه فى أعماقها الآن أمام شخص كان حينها الأبعد عن تفكيرها بل أنه اخر ما يمكن أن يخطر ببالها ، لكن هذا الإنفجار ربما يكون مفيدًا لها الآن حتى تغلق هذه الصفحة إلى الأبد.
فلا يوجد ثراء أعظم من عزة النفس ، ولن تقبل إهانة مشاعرها مرة أخرى ، وستمزق تلك الصفحة إلى الأبد من حياتها.
جال الصمت بينهما طويلًا ، لم يقطعه شيء سوى شهقاتها الخافتة ، مختبئة وجهها المحمر خلف ستار كفيها ، ثم بعد أن سيطرت على نفسها قليلاً وتجمعت شتات حروفها ، رفعت أهدابها الرطبة إليه حتى التقت أعينهما.
طرح عليها عقلها سؤال غريب ، أي منهما يستمد القوة من الآخر ، لتكمل بصوت مبحوح : حتي بعد ما رميت له دبلته شايف بيتعامل معايا ازاي!! انا سيبت اسكندرية عشان كنت عارفة ان اختي هتضغط عليا عشان ارجعلو .. بس انا جيت من اسكندرية وانا مقررة اني هعيش حياتي بالطريقة اللي تريحني مش هاجي علي نفسي تاني
مرهق بشدة العيش مع أشخاص يعتبرون أنفسهم دائمًا على صواب مهما ارتكبوا من أخطاء؟
★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••
بالأسفل في حديقة المستشفى
وقف معاذ يمسك سيجارة بين أصابعه وينفث دخانها بغضب بارد ، وبنظرة ثاقبة كالصقر الذي يقيم فريسته قبل أن ينقض عليها ، يشمل مازن الذي كان واقفا أمامه بتملل ، قائلا باستجواب : يعني ماتعرفش اي حاجة عن يوم الحادثة؟
هز مازن رأسه نافيًا ، ليقول موضحًا بينما كلتا يديه داخل بنطاله بدلته ذات اللون الكحلى : لا زي ما قولتلك يا معاذ باشا .. احنا جينا نطمن علي بدر .. لكن مانعرفش اي تفاصيل عن الحادثة
حدق معاذ بعيناه التي بدت نظرتها مخيفة تركزان على عيني مازن الخضر ، وهو يرمقه بنظرة حادة ليتمتم : انتو!!
ازدرد مازن لعابه بتوتر زلزل دواخله للحظة ، و زعزع إستقرار نبضه بسبب النظرات الحادة الموجهة إليه من قبل الآخر ، لكنه أجاب بلا تردد بصلابة يتخللها الإصرار : ايوه .. انا وحياة
أطلق معاذ هسهسة بجفاء ، وهو يحدق فيه بنظرات غامقة ومريبة ، قبل أن يردف بصوت بارد : بس لازم حد من اهله يكونو موجودين .. وجودك انت وهي مش كفاية
سعل مازن بخفة لأن أكثر ما يزعجه هو دخان السجائر ، وهذا الأحمق عن عمد ينفثه بوجهه الذي احتقن بإختناق ، لقد صمد أمام وقاحته طويلا ، ليهز رأسه قائلا بعبوس : تمام .. عن اذنك
نظر إليه معاذ ، وهو يبتعد بعد أن أشار إليه بالمغادرة في صمت ، مبعثراً شعره بغضب ، ورمي السيجارة ، وداس عليها بقدمه ، متزامنًا مع إخراج هاتفه من جيب بنطاله ، ثم أجرى مكالمة صوتية على رقم معين ، وبعدها وضع الهاتف على أذنه ، في انتظار الرد : ايوه .. ايه الاخبار!! انا كويس..
سرعان ما أردف بدون مقدمات : حياة هنا
زفر أنفاسه الحارة ، ليقول بصوت اهدأ : لما تيجي هقولك علي التفاصيل
سكت معاذ لحظة ، يستمع للطرف الآخر ، ثم أضاف بصوت أجش : ماشي ماتتأخروش .. باي
★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••
في غرفة بدر
اخترق صوت رنين هاتفها ، هالة الهدوء التي أحاطت بالمكان بعد أن أفرغت شحنة الغضب والإضطراب الذي اثار أعصابها ، معلنا عن وصول مكالمة.
فركت محجر عينها وهي تنفخ خدها الذي بدأ يعود إلى لونه الطبيعي ، وفهمت ما فعله معاذ ، ففصلت المكالمة سريعاً وألقت الهاتف على الأريكة التي تجلس عليها دون أهتمام.
لم يستطع بدر كبح السؤال اللامع في عينيه ، معبرًا عنه فورًا من غيرته المفرطة ، لكنه كافح ليجعل صوته باردًا : دا معاذ!!
ازدردت حياة لعابها لترد بصوت خافت مبحوح نتيجة بكائها : ميساء .. اكيد ماكدبش خبر وقالها كل حاجة
ارتفع حاجب بدر تلقائيًا في سخط ، وأدار عينيه للهاتف بشفاه مشدودة ثم تساءل : وهتعملي ايه؟
أطلقت حياة تنهيدة طويلة ، في محاولة للتخلص من كل مشاعرها السلبية معها ، لتفرك جبينها بخفة بعيون مغلقة وحواجب معقودة قبل أن تقول بتعب طفيف : انا حاسة بصداع ومش عايزة افكر في حاجة دلوقتي
اتكأ بدر بمرفقه على حافة الكنبة متعمناً النظر اليها ، ليقول بهدوء مشوبها عتاب لطيف يطوفه الإهتمام : بقالك يوم كامل مانمتيش فيه غير ساعتين وكمان مافطرتيش
تنهدت حياة بعمق ، واستقامت بجسدها حينها شعرت بألم ظهرها المتشنج من طريقة جلوسها الخاطئة ، لتتحرك ببطء نحو سرير بدر.
أطالَت النظرَ إِليه حيث عادت رباطة الجأش إليها ، لتشعر بالهدوء وانتظام دقات قلبها ، ثم بررت ذلك بنبرة خافتة : مابعرفش اكل وانا قلقانه يا بدر .. بس شوية كدا وننزل الكافيتريا
رمشت بأهدبها الطويلة قبل أن ترفع أطراف أصابعها بشكل عفوي ، لتمريرها بخفة على لحيته النامية على عظام فكه ، بعد أن انحنت قليلاً بجسدها تجاهه ، قائلةً بتذمر طفولي : شعر ذقنك طول جامد..
استرسلت الحديثُ لا شعوريا ، مشيرة بإصبعها إليه ، بعد أن رفعت عينيها إلى طيف بدر ، الذى وقف بجوار جسده المستلقي بسكون على السرير من الناحية الأخرى ، غافلة كلياً عن نظراته المبهمة التي اخترقتها بصمت : ذقنك دي مظبوطة و احلي .. لما تفوق لازم تخفها زي دي
أنهت حياة جملتها ، بالتزامن مع إزالة أصابعها عن وجه بدر الذي قال بغموض : اعملي كدا تاني..
رمشت حياة بدهشة ، وقالت ببراءة : اعمل ايه!!
حدق بها بدر لبضع ثوان ، ثم أشار إليها وأجابها : حطي ايدك علي ذقني
حسنًا ، لقد أدركت للتو ما فعلته أنها لمسته دون وعي منها.
اتسعت مقل عينيها بتفاجئ ، وتشبعت وجنتيها بحمرة الخجل من نفسها رغماً عنها ، لتبدو كثمرة الطماطم الناضجة.
تنحنحت بإرتباك لتقول بعدم فهم لحديثه : ايه دا .. اشمعنا!!
فرك بدر جبهته بضجر وصاح متذمراً : اسمعي الكلام لو مرة واحدة من غير لماضة
نفذت حياة ما طلب منها ، لتعاود النظر إليه ، وتتساءل بتوجس بانتظار اجابته : اهو .. في ايه؟
سلط بدر نظراته عليها بعد أن كان مخفضاً بصره نحو جسده لينطق بكلماته ببطء ، مدققاً فى ارتباكها ، واستكمل حديثه : انا حاسس بلمسة صوابعك علي وشي
نظرت إليه حياة بإنشداه ، لتغمغم بذهول : بجد .. دا معناه ايه!!
حدق بدر بها ، وهناك بريق جذاب في عينيه ، ليجيب عليها بعد ثوان من الصمت : ممكن روحي وجسمي لسه بينهم تواصل ببعض وجايز في امل أفوق
ارتفع صوتها من المفاجأة ، قائلة بابتسامة مشرقة بعد ان استقامت بجسدها : يارب يا بدر تفوق..
سرعان ما تبددت تلك السعادة وحلّت مكانهَا مشاعر أخرى بين الصدمة والغضب بمجرد أن سمعوا أحدهم يقول : امين يارب
استدارت حياة نحو الباب بإنشداه ، حيث مصدر الصوت الأنثوي الذي اخترق المكان ليقطع حديثهما ، والتي لم تسمع منه إلا الجملة الأخيرة من حياة ، لتردد أميرة بصوت ناعم الدعاء خلفها.
أصبح وجه بدر محتقناً عندما سقطت عيناه عليها ، ليشتغل داخلهما لهيب حارق ، حيث أن حياة رأت بوضوح الغضب والكراهية يبرزان من عينيه ولم تحزر السبب كثيرا ، فقد فهمت إحساسه جيدا ومن يستطيع أن يلومه.
تحدثت أميرة بنبرة هادئة بعد أن كانت تنتظر حياة تبدأ بالحديث ، لكنها ظلت تنظر إليها من دون رد فعل : ازيك يا حياة .. مش كدا!! شوفتي لسه فاكرة اسمك ازاي
ابتلعت حياة لعابها في محاولة للحفاظ على ثباتها الإنفعالى لتقول على مضض : اهلا..
ابتلعت بقية حديثها داخل جوفها عندما رأت دخول الطبيب المسمى علاء ، وبجانبه شخص غريب وغير مألوف لها.
تقدمت أميرة إلى منتصف الغرفة ، لتقف راسمة على وجهها الحزن ، وتقول بنبرة ناعمة ممتلئة بالقلق : ماصدقتش نفسي لما اتصلو بيا من مصر وقالولي ان بدر في المستشفي .. جيت علي طول انا وكريم ابن خالتي
أنهت كلامها ، مشيرة إلى كريم الذي كان واقفاً أمام علاء ، ليسأله بهدوء : هو زي ما قولتلي يا دكتور ان حالته مش بتتحسن
قال له علاء جديا : استجابة المخ بطيئة .. لكن كل شئ في إيد ربنا سبحانه وتعالي
جذبت حياة نفسها بالقوة من صدمتها ، بينما كانت عيناها تشاهدان ما يحدث في فضول انطلق كالسهم مغادراً شفتيها الوردية على هيئة سؤال موجه لأميرة : معلش .. ممكن اعرف مين بلغك بوجوده هنا!!
انتقلت كل الأنظار إليها ، لكن ما أثار شكوك بدر وأستفزه ، تلك النظرة الغامضة التي رمقها كريم بها بعسليته الماكرة.
استمر الصمت لمدة ثوانٍ ، ورفرفت الأفكار في أذهان كل من في الغرفة ، حتى جاءت الإجابة بصوت رجولي وجذاب أجش قادم من عتبة باب غرفة بدر : انا يا حياة .. المدام مراته وهتفيدنا كتير في اننا نعرف الحادثة حصلت ازاي!!
اتجه الانتباه إلى معاذ الذي كان واقفا محاطا بهالة من الثقة والبرود ، تثير التوتر في نفوس الحاضرين دون أدنى جهد منه.
بعد دقيقة من الصمت ، ردت أميرة بنبرة متوترة إلى حد ما : الحقيقة انا معرفش بالظبط!! كنت في الفيلا وهو كان مشغول طول اليوم ومعرفتش اوصلو لان تليفونه فضل مقفول
أمالت برأسها قليلا بينما كانت تفرك كفيها معًا واردفت : سوري انا متوترة شوية واعصابي بايظة من اللي بيحصل ولو ممكن تأجل التحقيق لوقت تاني
شملها معاذ بنظرته الثاقبة ، ليتمتم ببرود : تمام
تحدث كريم بلهجة هادئة بعد أن كان يتابع الموقف أمامه بصمت ، أو بالأحري كان محدقًا في ملامح حياة الواجمة بشكل غريب دون أن يلاحظه أحد من الواقفين بإستثناء واحد : دكتور حالته تسمح اننا ننقله لمستشفي ... بالقاهرة
انتفضت حياة في مكانها تزامنا مع انتفاضة بدر الذي فهم ما ينوي فعله ، فتبادلا النظرات بين بعضهما ، ليقول بدر بصوت مخنوق : لا يا حياة دي مستشفي كريم .. يعني اذا روحت هناك هيخلصو مني بسهولة
ابتلعت حياة كلماتها قبل أن تقولها حين سبقها معاذ ، ونظر إلى كريم ووجه له كلماته بحزم : خلينا نأجل القرار دا لحد ما نشوف رأي الدكتور المعالج و لحد الوقت دا هحتاج منك الاجابة علي كام سؤال
: ياريت الكل يطلع برا عشان هنفحص المريض دلوقتي التجمع دا ماينفعش
صمت الجميع يستمعون لكلام الممرضة التي جاءت مع أحد الأطباء بخطوات متوازنة ، تمامًا مثل صوتها ، لتزم أميرة شفتيها لبعضها البعض بقوة عندما لاحظت نظرات كريم إلى حياة ، ثم أرختها بتجاهل للأمر بالكامل ، ونطقت بهدوء : بس انا مالحقتش اشوفه ممكن افضل معه كام دقيقة علي انفراد يا دكتور
★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••
في ممر المستشفى بعد غضون دقائق
ابتعدت حياة عن الجميع لتكون بمفردها في الزاوية ، وأخرجت هاتفها وأجرت مكالمة ثم وضعت الهاتف على أذنها ، منتظرة بفارغ الصبر الرد ، ليأتي فعليًا بعد عدة رنات ، لتقول على الفور : الو .. انت فين يا جاسر مابتردش من امبارح عليا!!
جاء صوت جاسر الهادئ إليها : معلش يا حياة ابو شذي تعب فجأة بليل وكنت معاهم في المستشفي
لم تهتم بما قاله كثيرًا بسبب توتّرها ، وبالكاد استطاعت نطق تلك الكلمات بصعوبة : لازم تيجي حالا يا جاسر انا مش عارفة اتصرف لوحدي وبدر...
قطب جاسر جبينه ليقول باهتمام : اكلمي بشويش عشان افهمك مالو بدر .. حصل ايه!!
اتسع بؤبؤ عين جاسر ، وهو ينصت باهتمام لما تقوله حياة.
★★★
أنهت حياة من مكالمتها مع جاسر عندما سمعت صوت امرأة تنادي باسمها ، وعرفت على الفور لمن يكون هذا الصوت.
استدارت بوجه مقتضب تجاهها ، وسخرت قائلة : لحقتي تسيبي اللي وراكي وتيجي يا ميساء بعد ما معاذ نقلك الاخبار
وبختها ميساء بتعبير عابس : دا وش تقبلي اختك بيه وكأنك بايته في حضنها .. مش غايبة عنها اكتر من اسبوع و ماشوفتيهاش يا حياة
تنهدت حياة بإستسلام يتخلله الحرج من أسلوبها الفظ معها ، لتقبّلها بلطف على خدها ، وتقول بصوت رقيق : تعالي نقعد
جلسان الاثنان بجانب بعضهما البعض ، لتطرح ميساء سؤالاً : ادينا قعدنا .. ممكن اعرف انتي بتعملي ايه هنا؟
لفت حياة عينيها بملل ، لتقول ساخرة : يعني معاذ ماقالكيش؟
هزت ميساء رأسها نافية ، وأجابت على الفور : قالي انك هنا وبس .. جيت علي طول انا وحازم بس هو راح يشوف معاذ
خفضت حياة جفونها ، وعقدت ذراعيها على صدرها وقالت بخفوت : بدر عامل حادثة وموجود هنا في المستشفي دي
اتسعت حدقتى ميساء بتفاجئ ، وهمست بلا استيعاب وقد الجمتها الصدمة ثوانٍ : بدر عز الدين!!
رفعت حياة رموشها الكثيفة ، ونظرت إليها للحظة ، ثم أجابت بحزن : اه في غيبوبة هنا من اسبوعين ومحدش كان عارف مكانه
تساءلت ميساء بتوجس ملئ بالحذر : وانتي ايه علاقتك ببدر .. مش فاهمة..؟
قاطعت حياة كلامها قائلة بيأس : ولا هتفهمني يا ميساء
بعد فترة من الصمت ، سألت ميساء بإلحاح : لازم تقوليلي جيتي لحد هنا عشان بدر ليه!!؟
تجاهلت حياة سؤالها ، لتقول بنبرة خافتة مليئة بالانزعاج دون النظر إليها : مش قادرة اتكلم دلوقتي يا ميساء كفاياكي اسئلة و تحقيق معايا .. انتي عرفتي اني هنا خلاص ارتاحي بقي
تنهدت ميساء بخفة ، وتمتمت بابتسامة محاولة تلطيف الجو بينهما : مش هستريح الا لما تروحي معانا البيت
هزت حياة رأسها احتجاجًا ، وقالت بإصرار : انا مش همشي من هنا يا ميساء .. انا جاية عشان بدر وهفضل معه
عقدت ميساء حاجبيها مستنكرة ما قالته ، وهتفت بحدة : لا كدا انتي اتجننتي وعايزة تجننيني معاكي .. تعرفي بدر دا منين اصلا وعلاقتك بيه ايه؟
ظلت حياة تحدق بها بصمت ، وتفكر بما ستجيب لكن الصمت طال ، ولم تقل شيئاً فلم يكن لديها جواب...