رواية الماسة المكسورة الفصل الواحد والسبعون 71 ج1 بقلم ليله عادل

رواية الماسة المكسورة

الفصل الواحد والسبعون 71 ج1 

بقلم ليله عادل


{"ثمّة وجعٌ يسكننا لا نُدرك كنهه، نشعر به في التغيّر، في البُعد، في نظرةٍ خلت من الدفء لا نعرف ما خطأنا، ولا نفهم لِمَ تبدّلت الحياة فجأة، كأنها تطعننا بلا رحمة، فعندما يسكن الخوف قلب الإنسان، يسقط في هاوية لا قرار لها، وأقسى من الخذلان، أن تظلّ حائرًا، تتساءل: لماذا؟ ولا تجد جوابًا"


              [ بعنوان: عقاب بلا ذنب]


مستشفى شمس الحياة، الساعة الثامنة مساءً.

توقفت سيارة سليم أمام المستشفى من الخارج،

( التي ظهرت سابقًا في أحداث قبل الفلاش باك.) 


خرج مكي أولًا من السيارة بخطوات واثقة، ثم فتح الباب الخلفي برفق، فهبطت سلوى بفستانها الأنيق، تلتها ماسة بفستانها الفاتن وكأنها نجمة خرجت من شاشة سينما، قبل أن يظهر سليم، بجاذبيته و وسامته المعتادة ونظراته الحادة التي خطفت الأنظار.


بدأوا بالتحرك، لم تمسك ماسة يد سليم لكنها كانت تسير بجواره، تمسك يد سلوى.


بالطبع كان الحرس خلفهم، ومكي الذي دخل أولًا، واستقبلهم في الداخل دكتور جلال(الذي ظهر من قبل هو الآخر) وكان الحراس محيطين بالمكان من جميع الاتجاهات.


دكتور جلال بترحيب حار: سليم بيه، المستشفى كلها نورت، أهلا بحضرتك.


سليم هز رأسه بمودة: أهلا بيك يا دكتور.


مد يده وصافح دكتور جلال، ثم صافح ماسة بابتسامة ترحيب.


 جلال: ماسة هانم، حقيقة الحفلة ما كانتش هتكمل من غير وجودك. أهلاً وسهلا.


ماسة برقي: ميرسي يا فندم، كومبليمو رقيق جدًا.


ابتسم جلال: لا دي مش مجاملة، دي حقيقة يا فندم.


أشار سليم نحو سلوى: سلوى، أخت المدام الصغيرة.


 جلال برأسه مرحبًا: أهلا وسهلا يا فندم، تفضلوا.


تحركوا جميعًا، سليم مع جلال، ومعهم ماسة وسلوى، حتى توقفوا عند إحدى الطاولات حيث كانت عائلة سليم قد وصلت قبله.


جلال: الوزير كمان شوية هيكون موجود.


سليم بلا اهتمام: مش فارق.


 جلال: عزت باشا وصل من شوية هو والهانم وأخوات حضرتك.


هز سليم رأسه بإيجاب: تمام.


 جلال: تيجي معايا أعرّفك على مستر عزمي، الشريك الثالث؟ هو اتعرف على عزت باشا. فاضل حضرتك بس تتعرف عليه.


سليم: اوكيه. 


نظر إلى ماسة: دقائق وراجعلك


ماسة بابتسامة: براحتك.


أثناء تحركه اقترب سليم من أذن مكي وهمس: سليم: فتح عينك كويس، أنا مش مرتاح، وحاسس إنها هتعمل حاجة.


مكي هز رأسه بإيجاب: ماتخافش، عيني عليها.


وحين تحرك سليم وابتعد، اعتدلت ماسة في وقفتها، تمسك كوب العصير بين يديها وتتلاعب به بنعومة، بينما عيناها تتعلقان بالمشهد أمامها كأنها تتابع الحفل. قالت بصوت خافت: إيه الأخبار، عملتي إيه؟


سلوى، وهي تنظر أمامها بضيق، تحدثت: ولا أي حاجة، لما بيكلمني، بخاف أعمل أي رد فعل ممكن يئذيكي. قلت أعدي اليوم ده، لحد ما تنفذي خطة الحقير التاني، وبعدها أشوف هتصرف معاه إزاي. والله ما هسيب حقي.


ماسة بقلق، وهي تنظر لها بهمس: أنا مش عارفة همشي إزاي أصلا. ما قاليش غير لما أرن عليك تخشي الحمام وتتصرفي.


تمايلت سلوى مع الموسيقى لكي لا تلفت الانتباه بابتسامة: وانتِ بقى عندك فكرة؟


ماسة هزت رأسها وهي تنظر أمامها: اممممم، شفتها في فيلم أجنبي، مش عارفة هتنفع والا لأ.


نظرت سلوى لها، ثم ضيقت عينيها: وإيه هي؟


ابتلعت ماسة ريقها بضيق هادئ: لما الزفت ده يتصل بيا، هدخل التواليت. وانتي هتيجي معايا. وقتها لما تدخلي جوه، افتحي سوستة فستانك واطلبي من راوية تدخل معاكي تساعدك، وأنا أهرب بسرعة... بس ده بعد ما أكح... السيم الكحة..


تساءلت سلوى: واللي واقف ورا ده هتعملي فيه إيه عامل زي الصقر.


هزت ماسة رأسها بعدم معرفة وهي تمد وجهها موضحة: رشدي قال لي هيتصرف.


صمتت ماسة للحظات وضعت الكاس التفتت بجسدها في زاوية سلوى وهي تقول بتوتر: أنا خايفة يا سلوى.


زمت سلوى شفتيها وأمسكت يدها بقلق: خدي بالك من نفسك.


ماسة بلا مبالاة: تفتكري ممكن يعمل إيه؟ هيقتلني؟ يقتلني..

تبسمت ابتسامة جانبية حزينة وأضافت: قتلي ده هيبقى رحمة ليا.. أنا بس خايفة عليكوا إنتم.


أخرجت أنفاسا ساخنة ونظرت أمامها وارتشفت القليل من العصير: غيري الكلام أفضل..


علت صوتها قليلًا وهي تنظر من حولها بتصنع: 

تعرفي دي أول مرة أحضر حفلة من بعد الحادثة، حتى الحفلات اللي كانوا بيعملوها كل سنة بطلوا يعملوها.


سلوى بتأكيد وهي تبتسم: صح، بقالهم فترة كبيرة مبينظموش حاجة، ليه


ماسة وهي ترفع كتفها: ماعرفش، بس الصراحة كانت حلوة أوي، كنت بحبها، تحسيها زي أفلام ديزني ضحكت: وياريتها فضلت أفلام ديزني، بدل حفلات الفامبير اللي احنا عايشين فيها دي.

ضحكت الاثنتان، وضربا كفوفهما ببعض.


في تلك اللحظة، اقترب سليم: وأخيرًا شفتك بتضحكي.


تبسمت ماسة بدلال: تخيل


نظرت إليه بعينيها الأنثويتين، وهي تحرك كتفها بخفة ودلال: ومش هيبقى عندي مانع لو طلبتني للرقص كمان.


ابتسم سليم بصمت، وأمال رأسه قليلًا، ثم مدّ يده وشبك كفّه في كفّها، وتوجّها سويًا نحو ساحة الرقص.


بدأا بالرقص، وأخذت ماسة تتمايل مع سليم على أنغام الأغنية، كان سليم ينظر إليها بشوق ومحبة، يتذكر تلك الليالي الماضية، كان يتمنى أن تطول الساعات وهي بين ذراعيه، جميلة، رقيقة، وهادئة كما كانت دومًا، لكنه رغم كل ذلك،  يشعر بشيء غريب بداخله شيء لا يملك له اسمًا.


أما ماسة، فلم تكن تلك الرقصة بالنسبة لها سوى وداع صامت، أو مسكّن مؤقت كي لا تلفت الأنظار لما تنوي فعله لاحقًا.


بعد انتهاء الرقصة، صفق الجميع والتُقطت بعض الصور، ثم التقطوا الصورة الشهيرة التي رآها مصطفى ومحمد في أحداث ما قبل الفلاش باك، عادوا بعدها إلى الطاولة، وشاركوا العائلة كأن شيئًا لم يكن.


فريدة معلقة: كويس انك جيتي.


ماسة مزاح: أخذت إفراج امال فين هبه وياسين بقلهم فترة مختفيين.


فريدة: في الجونه بقلهم شهر.


اومات برأسها بصمت.


رشدي نظر لسلوى ام نمش هتتجوزي امتي؟!


نظرت سلوى له وهي تقلب وجهها: بعد الامتحانات.


رشدي: عقبالي نظر اتجاة ماسة: وقريب.


أثناء ذلك اقترب طه من منى هامسًا.


طه: قوليلي  مافيش أخبار  جديدة.


منى: أنا وعدتك وعند وعدي بعدين من وقت قتل نيللي بعدت عن كل حاجة.


طه بشك: مش بيخططوا لشئ. 


منى بخبث: حقيقي ما أعرفش بس لو عايزني أعرف ها أعرف.


طه: لا خلينا بعيد أفضل.


نظر طه لسليم: كويس انك سمحت لماسة تيجي الحفلة.


كاد ان يرد سليم سبقته ماسة: ما انا بقول اخدت أفرج (ضحكت) الصراحه انا اللى مكنتش بحب اخرج سليم من  اول  ما وافق انزل جامعة بيسبنى براحتي.


نظرت له وتبسمت وتبادل معاها سليم الابتسامة بنوع من الشك


وأخذوا يتبادلون الأحاديث الخفيفة، وأثناء ذلك، لاحظت ماسة نظرات رشدي المركزة عليها، مستغلاً حديث فايزة مع سليم الذي كان متفقًا عليه، فهمت ماسة أن رشدي يريد منها أن تنتبه لهاتفها.


تنهدت نظرت ماسة لسليم، قالت له بهدوء: ممكن أروح الحمام؟


سليم برأسه: آه طبعًا.


توجهت ماسة إلى المرحاض ومعها سلوى، وخلفهم بالطبع راويه، التي كانت كظلٍّ لهم وقفت راويه عند الأحواض، ودخلت ماسة وسلوى كل واحدة إلى مرحاض مختلف.


أخرجت ماسة الهاتف الذي اعطاه لها رشدي كانت تخبئه في ملابسها، قرأت الرسالة وفهمت المطلوب، بعثت رسالة لسلوى وقالت لها: لما أكح، نادي راويه زي ما اتفقنا،وأمسحي الرسالة.


خلعت ماسة السوار التتبعي، ووضعته فوق مقعد المرحاض. وبعد دقائق قليلة، سعلت بصوت خافت، وهنا ارتفع صوت سلوى..


سلوى بصوت مرتفع من مكانها: ماسة، ممكن تيجيلي ثانية؟


ماسة: أنا لسه في الحمام يا حبيبتي. روايه، شوفي سلوى هانم محتاجة إيه.


راويه: حاضر.


توجهت راويه نحو سلوى. فتحت سلوى لها الباب ودخلتها.


سلوى بلطف وهي تعطيها ظهرها: معلش، ممكن تقفليلي السوستة؟


على الاتجاه الآخر.


عندما سمعت ماسة صوت انغلاق الباب، خرجت بهدوء من المرحاض مسرعة، ووقفت خلف الباب الرئيسي للحمّام. اتصلت برشدي، الذي ينتظر خارجًا عند الباب، فأرسل لها رسالة: هشغّل مكي، أول ما يديكي ضهره، اجري.


فتحت ماسة الباب قليلاً، وألقت بنظرة خاطفة بعينيها تراقب الأجواء.


على إتجاه أخرى في الخارج أمام باب الحمام.


مكي واقفا في انتظار ماسة، اقترب رشدي من مكي ليثير انتباهه: مكي، سليم فين؟


مكي وهو ينظر من حوله بعينه: هتلاقيه مع جلال. 


وفي اللحظة التي أعطى فيها مكي له وجهه، خرجت ماسة بسرعة وسلكت ممرًا آخرا قريبًا وجدت بابًا مفتوحًا، دخلت وأغلقت خلفها، أخرجت عباءة ونقابًا من حقيبتها وارتدتهما بسرعة، ثم فتحت الباب وخرجت.


تحركت وسط الحضور دون أن ينتبه لها أحد، لكنها تجنبت التحرك بجانب أحد ربما يعرفها، ثم خرجت للشارع، أوقفت تاكسي، ركبت، وطلبت منه أن يتجه للمكان المتفق عليه مع رشدي وهو موقف الميكروباص.


لكن ماسة ما إن تحرّك التاكسي بها في الطريق، حتى بدأت بخلع الإسدال والنقاب، لم تكن تدري أن هذه الفعلة، التي ظنّتها بسيطة، ستجرّ وراءها كارثة،كارثة لم تكن في الحسبان.


في نفس اللحظة فى مرحاض المشفى.


خرجت راويه من المرحاض، لاحظت أن المرحاض الذي كانت فيه ماسة مفتوح، نظرت باستغراب لم تجدها، ركضت إلى مكي


راويه بفزع: مكي الحق! ماسة هانم مش موجودة!


نظر مكي ورشدي لبعضهم باندهاش قال مكي بصدمة: إيه اللي انتي بتقولي ده؟ راحت فين؟


ركضا مسرعين إلى الداخل، في حين خرجت سلوى توقفت عند الطاولة وكأن شيئاً لم يكن، وبالطبع لم يجدوها. أسرعوا نحو سليم وأخبروه.


مكي وهو يلهث: سليم، ماسة مش موجودة!


وهنا اتسعت عينا سليم بصدمة وقع الكاس من بين يديه: إنت بتقول إيه؟


مكي بأنفاس متلاحقة: معرفش خرجت ازاي.


سليم بغضب أمسكه من قميصه وصاح في وجهه كالرعد: أمال مين اللي يعرف؟! بسرعة يا مكي، المخارج والمداخل تتقفل، اقلب المستشفى كلها! يلا، أنت لسه واقف!


ركض مكي وهو يتحدث في جهاز اللاسلكي الخاص بالحرس، وسرعان ما سُمعت أصوات إغلاق الأبواب وتحرك الجميع وحدث هرج ومرج كبير في القاعة.


أمسكت فريدة رشدي من يده بلهفة: في ايه يا رشدي؟!


رشدي بهدوء: ماسة مش موجودة، أنا مش فاهم حاجة. عماد تعالى معايا.


فايزة مدعية التعجب، رفعت حاجبها: إزاي يعني؟


عزت بشدة: معاهم يا براهيم.


في تلك اللحظة توجه سليم نحو سلوى وقال لها بحدة: راحت فين؟


سلوى بثبات، وبنبرة متهكم: مشيت، ومعرفش راحت فين، ولا قالتلي؟!


قرب سليم وجهه من وجهها بغضب يعصف به: اللي عملتيه ده غلط، وهتدفعي ثمنه.


رفعت سلوى أحد حاجبيها متعجبة وهي تمد وجهها: بتـهددني؟


سليم بنبرة باردة لكنها لا تقبل النقاش والحسم: أنا لسه ماهددتش.


تحرك سليم بعصبية، وأثناء ذلك نظرت سلوى لآثاره وتحدثت من بين أسنانها بقوة: ده أنت طلعت فعلاً غير اللي كنا متخيلينه.


كان سليم يسير كالأسد الهائج، يبحث عنها في كل مكان، ووجهه مشدود من الغضب والخوف. بدأ الهرج والمرج يزداد في المكان، وبدأ الكل يبحث عن ماسة. توجه سليم إلى غرفة المراقبة، وكان معه مكي شاهدوا الكاميرات، ورأوا ماسة وهي توقف تاكسي وتصعده.


وهنا ركض سليم إلى سيارته، قادها بجنون، وكأنه لا يرى شيئًا أمامه، كان عجل السيارة يصرخ خلفه بلا جدوى. عروق عنقه نافرة، تحدث في الهاتف بصوت جهور.


سليم صاح: حد يشوف التاكسي ده، حد يقفل الطريق! ماتخلوهاش تفلت!


أخذ يقود السيارة بجنون وهو ينظر بعينه يميناً ويساراً بحثاً عنها وهو يجز على أسنانه.


على الاتجاة الآخر عند ماسة.


ماسة تجلس في المقعد الخلفي للتاكسي، وقلبها يرتجف داخل صدرها كعصفور مذعور. نظراتها تتنقّل بين المرايا والزجاج الخلفي في هلع، تتلفّت كل ثانيتين، كأنها تتوقّع أن ترى سليم يخرج لها من أي زاوية، يداها ترتعشان، وصوتها بالكاد يخرج وهي تهمس للسائق: لو سمحت، ممكن تسرّع شوية؟ معلش مستعجلة أوي...


السائق، رجل في منتصف العمر، نظراته عبر المرآة تعبث بها دون حياء، تختلس تفاصيلها بشهونية، كأن عينيه تجردانها بصمت من ثيابها. نظراته تحمل نهمًا مقزّزًا لم تخطئه عيناها، الشره المتوحش المتربص بأنوثتها بوقاحة لا تعرف الخجل.


تساءل بنبرة مريبة: إيه اللي جابك المكان المقطوع ده يا آنسة؟


ماسة بحدّة، دون أن تلتفت: مالكش دعوة! سوق وإنت ساكت.


ابتسم ابتسامة خبيثة: بالراحة بس، إحنا بنتكلم يعني.


ضغطت على هاتفها بيد مرتعشة، واتصلت بـرشدي، صوتها كان مختنقًا بالخوف: إنت فين؟


رشدي من الطرف الآخر وهو يقود سيارته، بصوت متعجل: أنا جاي من اتجاه تاني، نفذي كلام، زي ما قلتلك: هتركبي الميكروباص اللي رايح  الساحل الشمالي من الموقف. 


تساءلت ماسة بتلعثم وخوف: سليم عرف!


رشدي: أيوه، وخرج على الطريق، وأنا كمان في الطريق، المفروض بندور عليكي دلوقتي.


ماسة بدموع ونبرة متحشرجة: أنا خايفة يا رشدي.


رشدي بهدوء: ماتخافيش، وبلاش تتصلي بيا تاني!


أغلقت الهاتف وهي تشعر برعب يمزّق أحشائها، تحاول تهدئة نفسها، لكن نبضها في أذنيها كان أقوى من صوت عقلها السائق كان لا يزال يلتهمها بنظراته، ينظر لعينيها ولمفاتنها، وهو يعض شفته السفلى بشهوة مريضة، حكّ ذقنه بنية غامضة، ونظر للطريق الهادئ أمامه، الطريق الذي لا أحد فيه كأن القدر منح له فرصة شيطانية دون شهود.

وفجأة، انحرف التاكسي نحو شارع جانبي مظلم. الشارع خالٍ من السيارات والشهود، لم تنتبه ماسة له بسبب عدم معرفتها الطريق إلا عندما توقفت السيارة فجأة.


التفتت نحوه بخوف: إنت وقفت ليه؟


السائق بخبث وهو يهبط: العربية فيها حاجة، ثواني أشوف.


تحرّك نحو الكبوت بتصنّع، لكن بدلًا من فتحه، التفت فجأة واتجه نحو بابها.


فتح الباب بعنف، وقبل أن تستوعب ما يجري، مد يده نحوها بطريقة مقززة، محاولًا لمسها.


اتسعت عيناها بصدمة: عايز ايه ابعد عني.


السائق بسوقية وشهوانية: أبعد ايه؟ ده انتي مزة وحركتي بيا حاجات كانت عطلانة من سنين 


صرخت ماسة وعادت للخلف برعب: إنت عايز إيه يا حيوان؟! ابعد عني! صاحت مستنجدة :حد يلحقني


لكنه لم يتوقف. ازداد وقاحة واقترب أكثر، وهي تقاوم، تبكي، تضربه بكل قوتها، ثم رفعت قدميها وركلته بعنف في بطنه جعل جسده يترنح للخلف.


اندفعت مهرولة من السيارة كمن يهرب من جحيم مشتعل، وصرخاتها تملأ الليل: يا ناس! حد يــلحقني!


هرولت بسرعتها، داخل مباني تحت الإنشاء، لا أعمدة فيها ولا أبواب، فقط، ظلام وسكون وخرسانة


لكن السائق لحق بها، وهو يصيح بصوت مرعب: هتروحي مني فين؟!


رفعت حفنة تراب من الأرض وقذفتها عليه محاولة يائسة للهروب، لكنه أمسكها من ظهرها، جذبها إليه بطريقة مقززة ضمها إليه كأنها فريسة.

ماسة بذعر: حرام عليك! أنا زي بنتك! ابعد عني!


فجأة ضغطت على قدمه بقوة جعلته يتلوّى، ويفلتها، ركضت من جديد والدموع تنهمر من عينيها، تصرخ حتى بحّ صوتها: حـــــد يلــــــحقنــــــي! يا نــاس حد يلــحقني يـــا نـــاس يا ناس


وفي الجهة المقابلة، سيارة تقترب من المكان، وخلفه سيارة الحرس، لكنه يسبقهم بمسافة، قلبه يصرخ بيقين أن شيئًا يحدث، لمح التاكسي متوقفًا بجانب الطريق المهجور، توقف، ترجّل من السيارة مسرعاً، نظر حوله لكن لم يجدها اتسعت عيناه بعدم فهم، فجأة التقط سمعه صراخًا مكتومًا يتردّد من بعيد.

حــد يـــلحقني

شدد على قبضته، وركض ناحية الصوت.

في اللحظة نفسها، كانت ماسة ما تزال تركض، لكن السائق تمكن منها، أمسك ذراعها بقوة، جذبها إليه، محاولًا تقبيلها، لمستة كان مثل الجحيم.


صرخت وضربته بقبضتيها، ثم عضته من أذنه بعنف جعلته يصرخ ويتلوّى. دفعت جسده وركضت، لكن حذاءها ذا الكعب العالي خانها، وسقطت بقوة على الأرض، زحف نحوها كوحش ضارٍ، يحاول السيطرة عليها.


عادت بظهرها زحفا للخلف وهي تبكي برعب متوسلة: حرااااام عليك سبني! انا زي بنتك أبوس ايدك، سبني ارحمني حرام عليك.


لكن قبل أن تكتمل المأساة، دوّى صوت قوي من بعيد كأنه الرعد في ليالي الشتاء القارسة إنه سليم، بنبرة رجولية جهورة: مــــــــــــاسة!


التفتت وهي تبكي بصوت عالي مستغيث بجنون: سـليم! سليم! الحقني! ســــــليم أنا هنا الحقنــــي ســــليم.


السائق متعجباً: مين ده؟


ماسة نظرت له بغل وهي تضربه: جوزي يا حقير!


وفجأة، اقترب سليم كالعاصفة، عينيه تشتعلان صدمة من المنظر، وفي لمح البصر، أمسك السائق من قميصه، وطرحه أرضًا وهو يقول: بتعمل ايه يا كـــلب يا حقير؟!! 


أخذ ينهال عليه باللكمات العنيفة، واحدة تلو الأخرى، كمن فقد عقله، كأنه يضرب كيس رمل لا إنسان، يصيح، ووجهه يشتعل غضبًا، وعيناه تقدحان شررًا، وعروقه نافرة تكاد تنفجر:

بتعتدي على بنت؟! على بنت وثقت فيك يا كلب يا وضيع يا خسيس كنت ناوي تعمل إييييييه؟!


كانت ماسة تبكي وهي ملقاة على الأرض، انكمشت على نفسها. وأخذ جسدها يرتجف بشدّة من الرعبد


أما سليم، لم يتوقف للحظة ممسكاً بالسائق كدميه بين يديه يعطيه لكمات وصفعات دون توقف، وقع السائق على الأرض الذي لم يدافع عن نفسه للحظة


انفجر جنون سليم أكثر، وأخذ يقوم بركله بقوة في وجهه وجسده حتى سال الدم.


توقف سليم لحظة وهو يركله في جانبه، وصاح بغضب:

كنت عايز تغتصب مراتي يا حقير؟ كنت عايز تتعدى على واحدة، وثقت فيك يا حثالة يا عديم الشرف...بل متحافظ عليها تتعدى عليها يا قذ ر، ياعديم الشرف، أنا هندمك يا واطي علشان تكون عبرة.


كان الرجل قد أغشي عليه من شدة الضرب، سال الدم من رأسه، وانكسرت أضلاعه، فجأة، أخرج سليم مسدسه من خصرة وصوّبه نحو رأسه.


عندما رأته ماسة اتسعت عينا، هرولات نحوه، ضمّت جسده، وصرخت بكل ما فيها: متعملش كده يا سليم أرجوك!


ماسة صرخت بدموع ورفض: لا مش هوعى نزل المسدس، ما توديش نفسك بمصيبة يا سليم.


نظر إليها بعينين ملتهبتين بالغضب، وعروق وجهه نافرة وببحة جهورة: عارفة كان هيعمل فيكي إيه؟ عارفة؟!


ماسة بتوسل ودموع: عارفة، اعمل فيه أي حاجة، بس ماتقتلهوش، دخله السجن، اعمل اللي انت عايزه، بس قتل لا، وحياتي عندك، أنت وعدتني، وعدتني! سليم مش بيخلف وعده، مش هيقتل، مش هيبقى قاتل؟


كان الحراس قد وصلوا، ومعهم مكي توقفوا بقربه. 


مكي متعجباً من المنظر: سليم في ايه؟!


لكن عين سليم على ماسة لا تتحرك، وهي أيضاً مازالت تتوسله: سليم نزل المسدس يلا وحياتي عندك. 


كان سليم ينظر بداخل عينيها ولتوسلاتها، مرت لحظات، والصمت يخيم، تبادلا النظرات هي متوسلة وهو رافض، جزّ على أسنانه فجأة من شدة الغضب حتى استمعت لصوت صريرهم، كاد أن ينفجر من قسوة ما يشعر به، كأن العاصفة التي بداخله كانت على وشك أن تلتهمه، أخفض المسدس ببطء أخيراً، تراجع في اللحظة الأخيرة، وكأن وعده الملعون لها كأن حزامًا ناريًا يلتف حول عنقه، يحرقه ويخنقه بلا رحمة.

في داخله غضب وغيظ يغليان كحمم بركان على وشك الانفجار، كأن الأرض تحت قدميه ستشقق من شدة الاحتباس، يريد بشدة أن يفجر رأس ذلك السافل، بلا رحمة، لكن ذلك الوعد الذي قطعه على نفسه يحجمه ويمنعه وجعل يده تتراجع.


بين حبه لها و وعده، وبين رغبته في قتله، كانت هي من انتصرت، رغم أن العاصفة التي تجتاح قلبه لم تهدأ.


فجأة، صرخ بنبرة رجولية جهورية، كزلزال هز كل من حوله، وأطلق طلقات في الهواء كمن يحاول تبريد النيران التي تشتعل داخله. كانت الطلقات محاولة ربما لتهدئة تلك العواصف الرعدية التي تسكنه، لكنه كان يعلم أن الغليان الذي بداخله لن ينتهي بسهولة.


ثم ركل السائق مجددًا فجعل جسدة يهتز من قوة الضربة، وقال وهو يشير نحوه: الحقير ده مايشوفش الشمس تاني، لازم يكون عبرة.


ثم التفت إلى ماسة، أمسك يدها بقوة، وسحبها نحو سيارتة دون أن يتفوه بكلمة واحدة، تحركت معه بصمت، فهي مازالت غير مستوعبة ما كان سيحدث معها والرعب كان متملكا منها.


عند سيارة سليم.


توقف سليم أمامها، ونظر إليها بغضب يكاد يحرقها، بينما كانت تبكي بحرقة، وألم والخوف قد غطى عينيها.


سليم بنبرة غاضبة، صوتها ممتزج بالرجولة والخوف والعتاب:

ليه عملتي كده؟ ليه وصلتي نفسك للدرجة دي؟ مستاهلة؟ للدرجة دي يا ماسة؟ للدرجة دي؟


صرخ بها حتى اهتزت: عارف كان ممكن يعمل فيكي إيه؟ لو ماكنتش وصلتلك في الوقت مناسب عارفة كان ممكن يحصل فيكي إيه؟ ليه عملتي كده؟! لـــيه؟ 


صرخ مرة أخرى، جعلها ترتجف وتهتز: عايزة تجننيني ها،  إنتي فعلاً جننتيني، كان فين عقلك ردي عليا  كان فين؟! هو العند للدرجه دي!؟


اهتزت بصمت، وانهمرت دموعها وهي تُطأطئ رأسها، كأنها مجرمة تتهيأ لتلقي جلدات جلادها


ضرب بكفه بقوة على سقف السيارة وقال بعينين يشتعلان غضب وقهرا من فعلتها: فهميني ليه عملتي كده؟! سبب واحد؟! طب لو كان جرى لك حاجة، أنا كنت هعمل إيه؟

افرضس مكنتش لحقتك افرضي كان قتلك؟! كنت هموت، هموت يا ماسة، كنتي هتخليني أقتل واحد بعد ماوعدتك، مستحيل أعملها.

ضرب بقبضته مرة اخرى على السيارة بغضب: ليه؟ فهميني ليه؟ عملتي كدة ... ليه .. ليه؟


نظرت إليه برعب شديد، جسدها ينتفض بصمت، ودموعها تنهمر بحرقة كطفلة مذعورة من عقاب والدها، احتضنت نفسها، عاجزة عن النطق، لا تدري ما الذي يمكن أن تقوله.


أخذ ينظر إليها، وهو يجزّ على أسنانه بغيظ شديد من فعلتها، التي كانت ستدفع ثمنها غاليًا لكن تلك الدموع التي تنهمر بلا توقف، وخوفها الشديد، وذلك المشهد، جعلا قلبه يلين. فـ غضب لم يكن من فعلتها، بل من خوفه عليها، كان يخشى أن يصيبها شيء.


فجاة سحبها من معصمها بخشونة محببه، واحتضنها بقوة، كأنما يحاول أن يطمئن نفسه أنها لا تزال حية، أنها في أمان.


وبينما هي بين أحضانه، كان يمسح على ظهرها وشعرها بحنان: خلاص، خلاص، محصلش حاجة يا عشقي، انتي هنا، في حضني، وأنا هنا جنبك ومعاكي، ماحدش هيقرب منك خلاص. أهدي، انتي جو حضني جنبي قلبي، ماتخافيش خلاص يا قلب سليم، أنا هنا جنبك مستحيل اسيبك ولا اسمح إن حد ياذيكي.


بعد لحظات، عدلت ماسة وضعها ووضعت رأسها على صدره، فأحاطها بكلتا ذراعيه، وهو يمسح على كتفها. وكأنها قد تناست كل شيء فجأة، لم تجد مكانًا للراحة ولا أمانًا لها سوى في حضنه، بجانب قلبه.


بعد لحظات، عدّلت ماسة وضعها، وأسندت رأسها إلى صدره. أحاطها بذراعيه ومسح على كتفها بحنان، وكأن ذلك الحضن وحده قادر على محو كل الآلام، نسيت فجأة كل شيء، ولم تجد للراحة ملاذًا، ولا للأمان موطنًا، سوى جواره هناك، حيث ينبض قلبه.


وبعد لحظات، اقترب رشدي، الذي عندما راي ذلك المنظر توقف مندهشا فلم يخطر بباله انه سيشاهد ذلك قال معلقا: إيه اللي بيحصل هنا؟


نظر مكي لرشدي الذي كان قد اقترب: تقريباً كان في واحد عايز يتعدى على ماسة السواق اللى ركبت معاه.


اتسعت عينا رشدي بصدمه بنبرة متلعثمة: ووأعمل لها حاجة؟


هز سليم رأسه بلا بصمت، وأثناء ذلك، كان أحد الحراس يسحب السائق من قدمه، زاحفًا على الأرض.


مكي تسأل: سليم، اعمل فيه إيه؟


فجأة، أخرج رشدي مسدسه وأطلق النار عليه، عيناه تشتعلان بالغِل. كيف تجرأ على التفكير في أذى ماسة؟! الغضب يعصف بقلبه، لمجرد أنه تخيل الخطر يقترب منه برغم انه يقوم بتهددها! كيف يحزن إن مسّها سوء، ويغضب إن خافت، ثم يكون هو مصدر الخوف؟


ابتعدت عن ماسة عن سليم ونظرت لرشدي متعجبه، من فعلتة بينما قال رشدي بحدة: لسه هتسأل؟ واحد زي ده، هو ده الرد اللي يستحقه، ولا انت شايف إيه يا سليم؟


سليم بنبرة باردة: ادفنه مكانه يامكي وبلغ اسماعيل.


فهذا ماكان يريدة سليم منذة البداية، لكن منعته ماسة لفعلها، لذلك لم يتحرك ساكناً على ما فعله رشدي بل كان راضياً.


ثم أمسك يد ماسة، وأدخلها السيارة برفق، ثم صعد من اتجاه المقود وتحرك وخلفه سياره الحراس.


أما رشدي، فاظل واقفًا، ينظر إلى السيارة وهي تبتعد، وقال في نفسه: لا كده يتخاف عليك يا ست الحسن جامد، نفكر فكرة تانية.


على الجانب الآخر، داخل سيارة سليم.


 سليم يقوده السيارة بصمت واضح، وغضب بادٍ على ملامحه، من حينٍ لآخر، كان يرمق ماسة بنظرات ممتلئة بالعتاب والضجر، فهي كانت ستسبب مصيبة لنفسها بفعلتها طائشة تلك

بينما كانت هي تضع رأسها قرب النافذة، منكمشة على نفسها، صامتة، لا تنبس بكلمة، وكأنها تحاول أن تختبئ من كل شيء، حتى من نفسها، دموعها الساخنة تهبط بصمت موجع على وجنتيها، وكان السكون يهبط عليهما كستار ثقيل، لا يقطعه سوى صوت المحرك الباهت.


قصر الراوي، الثانية عشر صباحاً 


وصلوا إلى القصر، حيث كان الجميع في انتظارهم في الهول. القلق كان واضحًا في عيون الحاضرين، وكل الأنظار اتجهت نحوهم فور دخولهم.


عزت بقلق: إيه إللي حصل؟


سليم بهدوء: مافيش حاجة. ماسة خرجت تشم شوية هوا، كانت مخنوقة وحابة تبقى لوحدها، وأنا فهمت غلط. يعني كبرت الموضوع.


صافيناز بخبث: بس إحنا سمعنا إنها هربت.


سليم رفع حاجبه مندهش: تهرب؟ تهرب من إيه؟ بلاش هلاوس. 


صافيناز بمكر: ما هو ده إللي استغربنا له.


سليم بهدوء حاسم: زي ماقلت، كانت مخنوقة شوية وطلعت تتمشى، وأنا خفت عليها، لإني ماكنتش عارف إنها خرجت.


عزت: المهم إنها بخير.


فريدة بتنبيه: يا ريت بعد كده تفكري قبل ماتعملي أي تصرف زي ده ياماسة، بلاش الأفكار الحماسية المتسرعة، فيه ناس حواليكي بيخافوا عليكي جدًا.


أكتفت ماسة بهز رأسها بصمت، بينما سليم أمسك يدها وسحبها معه إلى الأعلى، صاعدًا بها إلى جناحهما.


نظر عزت لهما ثم تمتم متسائلًا وهو ينظر إلى صافيناز: هو مش رشدي بلغك في التليفون إن في حد حاول يعتدي عليها؟


صافيناز جلست وهي تضع قدمًا فوق قدم، قالت بتأكيد: أيوة، بس أنا مافهمتش حاجة من إللي قالها، غير أن لما وصلهم، كانت خايفة وبتعيط، ومكي قاله إن فيه حد حاول يتحرش بماسة، ورشدي قتله.


طه بإنفعال: يستاهل، كان المفروض يشنقه.


ابراهيم: عندك حق، سليم أصلاً إزاي ماقتلهوش؟


عزت حسم الحوار: خلاص، مش عايزين نتكلم في الموضوع ده...أكيد هو مش هيحب الموضوع يتفتح، وواضح أنه مش عايز يشاركنا. لازم نحترم قراره، ونتعامل كأننا مانعرفش أي حاجة، ونبهي على رشدي يا فايزة مايفتحش الموضوع، وإنتي كمان فريدة،  ماتتكلميش معاها في أي حاجة، الموضوع هيكون  حساس إحنا محتاجين إنها تنساه. 


فريدة بتأكيد: أكيد مش هتكلم معاها، وموضوع إن ماسة هربت دي استحالة يا صافي، دي عبيطة مالهاش في الحركات دي.


فايزة بحدة: مظبوط استحالة، دي صعلوكة تهرب من ابني!! من سليم الراوي!!! أكيد عقلها يبقى خف، لو فكرت تعملها المكان إللي تستحقه هو سرايا المجانين،حقيقي مستفزة بوظت علينا الحفلة، مقرفة.

نهضت وهي تعدل شالها الفرو: يلا نطلع ننام، الوقت اتأخر. تصبحوا على خير. يلا يا عزت.


بدأ الجميع في التفرق والصعود، ما عدا صافيناز وعماد، اللذان خرجا إلى الحديقة. توقفا بجانب بعضهما، يتحدثان بصوت منخفض.


عماد بضيق: رجعنا للصفر تاني.


صافيناز بغضب: السواق الغبي ده، كان لازم يعني، أصلاً هي مش حلوة خالص.


عماد ضحك: لا،الصراحة البنت حلوة.


نظرت له صافيناز كأنها لا تريد الاعتراف: ماشي حلوة، بس ماكانتش لابسة حاجة مغرية تخليه يعمل كده كانت عادية خالص.


تنهد عماد باستنكار: هنعمل إيه حظنا فقري، خلينا نطلع أوضتنا، وبكرة نشوف رشدي هيعمل إيه.


جناح سليم وماسة.


دخلت ماسة الجناح مستندة إلى ذراع سليم، والتوتر والحزن ينهشانها من الداخل. ماتعرّضت له قبل قليل كان كافيًا لقتل ما تبقّى فيها من قوة. هشّة، محطّمة، جسدها لا يزال يرتجف ودموعها لم تتوقف بعد.


ساعدها سليم على الجلوس برفق، ووضع وسادة خلف رأسها كما يحب أن يفعل دومًا معها، وكأنها الشيء الوحيد الذي مازال يحسن معاملته.


جلس أمامها، أمسك بيديها وسألها بنبرة محبة: إنتي كويسة؟


رفعت ماسة عينيها نحوه، وأجابت بهزّة "لا" بصمت، امتلأت بالضعف والانكسار، ثم إنهارت باكية بحرقة.


ظلّ سليم يحدّق بها طويلًا، لا يدري ما يقول أو يفعل، مسح على عينه بأنامله بمزيج من التعب والتفكير.. عيناه تنطقان بكل ما يعجز عنه لسانه: ضيق، غضب، خوف، وحنان. أراد أن يصرخ، أن يضرب، أن يلعن، لكنّ حزنه وخوفه عليها كبله بسلاسل من نار في عتمة موحشة. يدرك أنّ اللوم لا يفيد الآن، وأنها بحاجة إلى صدر يحتويها لا عتاب يُقصمها.


ترك غضبه جانبا، وترك عشقه لها هو الذي يقوده، سحبها برفق إلى أحضانه، احتواها بدفء وحنان. وضعت رأسها على عنقه، تبكي بصمت، ربت على ظهرها، وطبَع قبلة على شعرها، ثم همس بصوت حانٍ: أرتاحي، ماتخافيش أنا جنبك، وطول ما أنا جنبك، ماحدش هيقدر يقرب لك، حتى لو على حساب حياتي. حضني ليكي، دايماً ليكي، ومفيش أمان غيره.


هي الأخرى ضمته بقوة، أغمضت ماسة عينيها وارتاحت برأسها على كتفه، وكأنها اخيرا وجدت أمانها، لكن بعد دقائق، فتحت عينيها بصدمة، كأنها تذكرت الحقيقة، الحقيقة التي تحاول دفنها، كيف لها أن ترتاح بين أحضان رجل مثل سليم؟ تاجر سلا،ح وأعضاء، عاش معها سنين بأكاذيب؟


ابتعدت عنه فجأة، كالملسوعة.


نظر لها باستغراب، لا يعي لرد فعلها: مالك.


أشاحت بوجهها جانباً،فلم تستطع تفسير ذلك، خائفة من أن تنفجر وتكشف كل شيء في لحظه ضعف، فتخسر حياة عائلتها وكل من حولها.


ماسة بجمود: أنا محتاجة أنام.


هزّ سليم رأسه موافقًا: ماشي تعالي أساعدك تغيري هدومك.


ماسة برفض: لأ، هنام كدة.


تمددت على الفراش، أحكم سليم عليها الغطاء، وظل جالسًا إلى جانبها، يضع يده على جبينها ويتأمّلها بصمت عقله يضجّ بالأسئلة.


بعد وقت حين تأكد أنها ذهبت في سبات عميق، مرر أصابع يديه على وجهها بحنان وضع قبلة على جبينها ثم نهض وتحرّك بخطواتٍ متعبة، جلس على الأريكة وأشعل سيجارته، بينما عيناه لم تفارق وجهها، نظراته ثابتة، لكن رأسه يعجّ بأفكارٍ متلاطمة، كأمواجٍ هائجة لا تعرف الرحمة، جال بخاطره: أحقا وصلت بيننا الحياة لدرجة إنها تتركه هكذا؟ أيتركها تذهب ثم تعود؟ أأضغط على نفسي وقلبي وأوافق؟! هل هو المخطيء وهي على صواب؟ 


بعد ساعات من التفكير، في قرارة نفسه، قرر أن يتركها تذهب لعائلتها أسبوعًا، فـ الوضع بينهما بات خطراً 


فيلا عائلة ماسة الواحدة صباحًا.


لم يعد مكي إلى بيته طوال الليل، بل ظل جالسًا في حديقة، مترقّبًا اللحظة التي تنزل فيها سلوى. كان يريد أن يفهم، أن يعرف كيف تجرأت وساعدت ماسة على فعل ما فعلته. لم ينبس بكلمة طوال الليل، يراقب صمت المكان وغليان صدره.


حتى جاة الصباح وفي إتمام العاشرة صباحاً، ما إن فتحت سلوى نافذتها، حتى رآها.


كان واقفا هناك عند التلّة المقابلة، عيونه مشتعلة، أشار لها بيده كي تنزل له.


نظرت إليه بإستغراب للحظة، ثم اختفت بعيداً عن النافذة وتوقفت خلف الستائر ودقات قلبها تعلو، والخوف يتسلل إلى صدرها. لم تكن تعلم بعد أن ماسة لم تستطع الهروب وأنهم أعادوها، ولم تكن تدري بما حدث بعدها.


ارتدت ملابسها على عجل، وهبطت درجات السلم حتى خرجت ووقفت أمامه.


نظر إليها مكي بعينين تشتعلان غضبًا، لم يمنحها فرصة للتفوه بكلمة، بل بادرها بصوت جهوري متسائلًا، كأن الاتهام قد سبق السؤال


مكي:  إيه إللي إنتوا عملتوه إمبارح؟


ابتلعت سلوى ريقها وهي تتصنع عدم الفهم: عملت إيه؟ أنا معرفش إنت بتتكلم عن إيه؟


اتسعت عينا مكي قال بشدة وبحه رجولية: لأ، بصي! أنا مابحبش الاستعباط، ردي.


أعطته سلوى ظهرها وقالت بإرتباك: وأنا، مابستعبطش. هي قالتلي عايزة تهرب، وقلت لها ماشي.


ارتسمت الصدمة على وجه مكي، وصوته خرج أعلى مما أراد: ومالك بتقوليها كده كأنكم كنتم خارجين ورايحين المول فطقت في دماغكم تروحوا الملاهي؟! إيه العبط إللي إنتي بتقوليه ده، بصي لي هنا؟! هو العقل بيقول كده؟! كان المفروض تمنعيها!


أقترب منها، يكتم رجفة غضب في صدره، وصاح بنبرة مملوءة بضيق: إنتِ عارفة إن الهبل إللي عملتوه ده كان هيعرّض ماسة للاغتصاب؟!


تجمدت نظرات سلوى، التفتت له، قالت بصدمة: إنت بتقول إيه؟!


رمقها مكى بنظرة مستفزة، تحدث من بين أسنانه: بقولك إللي حصل، السواق إللي ركبت معاه حاول يغتصبها. لولا إن سليم لحقها في آخر لحظة. وهي دلوقتي في القصر!


رفعت يدها وتشبثت بيده بتوتر، دموعها انهمرت دون مقاومة: هي... هي كويسة؟!


مرر عينه عليها بعدم رضا زفر بإختناق: أيوه كويسة.


صمت، كأن أنفاسه تعبت، قبل أن ينفجر من جديد:  أنا عايز أفهم، إللي حصل ده حصل إزاي؟ الفكرة دي جاتلكم منين؟


رفعت كتفها لأعلى قائلة بتوضيح: أنا معرفتش غير يوم الحفلة، هي بس قالتلي إنها عايزة تمشي، وإنه دايمًا كان بيرفض! وبعدين هي ماعملتش حاجه غلط كان غصب عنها.


نظر إليها مكي بصدمة قائلا بتعجب مشوب بالغضب: وعلشان حاولت كذا مرة وهو كان بيرفض، يبقى ده المبرر؟ بدل ماتعقليها وتتكلمي معاها، تساعديها تهرب؟! أنا بجد مش عارف أقولك إيه، والله العظيم هتجنن! مافيش حد فيكم عنده عقل؟! هي يمكن عندها أسبابها، بس إنتِ؟ إنتِ أختها، كان لازم تعقليها، مش تقفي قصادي دلوقتي وتقولي معملتش حاجة غلط! كان لازم تكوني الصوت اللي هيرجعها لعقلها.


رفعت صوتها فجأة، وكأنها تدافع عن نفسها من تهمة باطلة وهي تشير بأصابع يدها في وجهه: أسمع! إنت مالكش حق تزعقلي! مش هسمحلك تتكلم معايا بالطريقة دي!


نظر مكي لها داخل عينيها بقوة: ده إيه البجاحة دي! بدل ماتعتذري بدل ماأشوف في عينك نظرة ندم واحدة، واقفة تبجحي. 


أشاحت سلوى بوجهها وتحركت: وأندم ليه؟ مستحيل أندم...

التفتت له وقالت بقوة: ولازم تفهم، أنا ساعدت ماسة، وهساعدها تاني! دي أختي، إنت فاهم؟!


ترددت قليلًا، كانت على وشك أن تخلع دبلتها وتلقيها في وجهه، لكن صوت ماسة في رأسها أعادها تقول: طول ما أنا ماهربتش، يا سلوى، ماينفعش تسيبي مكي.


أغمضت عينيها وأخذت نفسًا عميقًا، ثم قالت بصوت منخفض لكنه حاد: بقولك إيه إللي حصل ده ماتحكيهوش لحد، إنت فاهم؟!


مكي بنبرة ساخرة: كويس إنك عارفة إنكم غلطتوا.


سلوى بسخرية: لا مغلطناش.


مكي بشدة: سلوى ماتكلمنيش بعوج. لا غلطوا.


صاحت سلوى به بتحذير: ولو مابطّلتش تطول لسانك عليا، المرة الجاية... أقسم بالله، هرمي الدبلة في وشك، وهنهي الخطوبة دي! أنا زهقت من طريقتك المستفزة، إنت هتعمل زي صاحبك ولا إيه 

مررت عينيها عليه بإشمئزاز: أقصد ولي نعمتك.


هز مكي رأسه ييأس: يلا يا سلوى أطلعي أوضتك، وإللي إنتي عملتيه ده لازم تفهمي أنه مش هيعدي كده طبيعي، وإنك فقدتي ثقة سليم.


سلوى بلا مبالاة: مش فارق لي أصلا أفقدها ولا مافقدهاش، إستنى، هلبس وأجي معاك توديني عند أختي.


مكي ويضع يده بجيبه: لأ. مش هتروحي عند أختك غير لما تتعلموا تتصرفوا بعقل.


سلوى برفعة حاجب: إيه ده! إحنا بنتعاقب بقى؟!


تبسم مكي ابتسامة مستفزة رد ببرود: بالظبط، بتتعاقبوا.


ثم استدار، وتركها واقفة، لا تعلم أتبكي على شقيقتها، أم على نفسها ركضت مسرعة إلى غرفتها قامت بالاتصال بماسة لكن لم ترد. 


جلست على الفراش وعينيها تسكنها الدموع تمسح على وجهها وهي تقول بصوت: مابترديش ليه يا ماسة إيه إللي حصل قلتلك بلاش، زفرت بإختناق


قصر الراوي، الحادية عشر صباحاً 


جناح سليم وماسة 


استيقظت ماسة أخيرًا بعد ليلة من الخوف والتوتر. وما إن فتحت عينيها حتى تفاجأت بسليم جالس على الأريكة، يدخّن بصمت، مثقلاً بالهموم. 


ماسة بإستغراب: هو إنت قاعد هنا من إمتى؟


سليم بإهتمام بنبرة ناعمة حنونة من القلب: من إمبارح... كنتي فاكرة ممكن أسيبك؟


أخرج أنفاسا ساخنة متعبة متوجهاً لها وجلس على الفراش أمسك يدها بإهتمام.. تساءل بحنان: عاملة إيه دلوقتي يا حبيبتي؟ أحسن؟


رمشت ماسة بعينيها وهبطت دموعها بألم: مستحيل أكون أحسن، وشكلي مش هأبقى أحسن. أنا خوفت أوي يا سليم خوفت أوي.


أخذت تبكي بحرقة جذبها سليم بين أحضانه بعينين تلمعان بالدموع وجعا عليها، أخذ يربت على ظهرها بحنان:  هششش خلاص يا حبيبتي، أنا جنبك هاننسى كل حاجة حصلت..


حاول ممازحتها لكي ينسيها قال:  وبعدين إنتي مش قلتي قبل كده نفسك تتخطفي وحد يحاول يغتصبك وأنا أجي اجبهولك بالبونيات أديني كسرت لك ضلوعه ودماغه كمان، خلاص إنسي، أنا جنبك وإنتي جو حضني ومع بعض هاننسى كل حاجة ونتخطاه سوا.. 


ضحكت ماسة بوجع: كنت هبلة، بجد إللي مريت بيه إحساس وحش أوي أوي.


ابتعدت وهي تنظر له. مسح دموعها بحنان:  خلاص يا حبيبتي إنسي إللي حصل مش عايز أشوف دموعك دي تاني.


تنهدت ماسة وقالت بابتسامة حب: عارف كلمة حبيبتي طالعة منك أحلى من عشقي.


نظر لها سليم بإبتسامة: بس كدة هقول لك يا حبيبتي من هنا ورايح، بس بردو هقولك عشقي أنا بحب أبقى مميز  وبعدين العشق ده مشاعر وأحاسيس اكبر من الحب كمان فأنتي، عشقي وحبيبتي وكل حاجه ليا في الدنيا دي.


تبسمت ماسة بصمت سرحت في وجهه بحب مرت لحظات، وفجأة عبث وجهها وكأنها تذكرت حقيقته سحبت يدها ومسحت وجهها وأشاحت بوجهها في اتجاه آخر.


أطلق سليم تنهيدة موجوعة، ثم قال متساءل بهدوء: أنا عايز أسألك سؤال وأحد وتردي عليا... للدرجة دي وصلت بينا الحياة؟ أنك تمشي بالطريقة دي وتخاطري بنفسك...؟!


تابع متعجباً لكن بداخله سيجن لكنه ظل محتفظاً بنبرته الهادئة وكأنه يعاتبها: أنا من إمبارح عمال أفكر.. مش عارف أوصل للسبب؟! ولا عارف أوصل للي كان في دماغك وقتها..

وصلت إنك تهربي!!! تهربي ياماسة،؟! وبالطريقة دي؟! كان فين عقلك؟! كان فين فهميني!؟ أنا مش لاقي كلام حتى أقوله! والله ما عارف أقول لك إيه؟! مش قادر أستوعب إللي حصل ...ولا أعرف حتى أعمل إيه؟! كأنك خلاص لو مانفذتيش إللي إنتي عايزاه هتفضلي كده، أنا هحاول أقنع نفسي إنه مش عند، وهصدق إن هو ده الصح علشان نحافظ على علاقتنا، وعشان أوريكي قد إيه أنا بحاول بحافظ على علاقتنا وبحميها وقد إيه بحبك..


صمت لحظات ثم أكمل بنبرة مختنقة:

أنا موافق يا ماسة، موافق تمشي أسبوع، أنا بقولك الكلام ده وأنا موجوع...بس بعد للي حصل إمبارح، واضح إن الموضوع أكبر حتى من إللي كنت متخيله،أنا عدّيت إللي حصل إمبارح علشان كفاية إللي اتعرضتي له

قلب عينه وقال بنبرة حادة قليلا:

بس أقسم بالله يا ماسة، لو كنا في وضع تاني، ماكانش هيعدي. وده مش تهديد لا، لا أنا عارف نفسي مش علشان أنا سليم بس مافيش راجل يقبل إللي حصل امبارح ويسكت.


صمت للحظات، ونظر لها وقال بحب لكن بنبرة حادة مزعجة بشدة: بس أنا هسكت علشانك بس هسألك سؤال لو كان حصل لك حاجة؟ أو الراجل ده موتك؟ كنت هعمل إيه؟ كنت هموت وراكي على طول يا ماسة بـ ثانيه واحده، حقيقي محتاج أفهم، جتلك الجرأة منين؟ عملتيها إزاي؟ ردي عليا مين ساعدك غير سلوى؟!


ماسة بهدوء مريب: محدش ساعدني، أنا لما لقيتك مصمم وكل يوم بتعب، شفت البطلة في الفيلم بتهرب بالطريقة دي، عملتها وكنت هروح عند واحدة صاحبتي.


نظر لها سليم للحظات،وكأنها سحبت فتيل الغضب الذي كان يحاول جاهدا أن يكتمه، توقف وتمتم بغضب مكتوم وهو يتحرك: شفتيها في فيلم؟


وفجأة، أمسك شاشة التلفاز وكسرها بعنف على الأرض.


ارتجفت ماسة من فعله بصوت مكتوم: إيه إللي إنت عملته ده؟


وضع سليم إصبعه على شفتيه إنحنى قليلا وهو يحاول جاهدا على لجم غضبه: هششش... بلاش نتكلم دلوقتي علشان أنا مش قادر أتمالك غضبي أكتر، وقت ماتحبي تروحي عند أهلك؟ قوليلي وأنا هوديك.


نظرت له ماسة، وقلبها يغلي نهضت وتحركت نحوه: أنا عايزة أطلّق ياسليم.


اتسعت عيناه، وقال متوسلاً: ماسة، أرجوكي، أرجوكي ماتخلينيش أغضب.


ماسة بإصرار و نبرة ضعيفة: سليم، أنا بجد مش حابة أعيش معاك أكتر من كده، أبوس إيدك، سيبني، أنا مش عايزة أكمل، بعدين إنت كنت هتقتل راجل إمبارح، أنا عايزة أسألك سؤال وترد عليا بصراحة...إنت قتلت حد الفترة إللي فاتت؟


سليم مندهشًا: إيه السؤال الغريب ده؟


ماسة هزت رأسها بإرتباك: لا مش غريب بسأل عادي.


سليم بنبرة واثقة: أيوه، ماقتلتش حد من ساعة ماوعدتك، من أيام محمود، ورشدي، بعدين هو إنتي ليه محسساني إن أنا قتال قتلة وماشي أقتل في الناس، وليه بتسألي السؤال ده؟!


رفعت عينيها نحوه للحظة شعرت بإرتباك عادت بشعرها خلف أذنها: أصل أصل مسكت مسدسك من يومين كده وكان فيه رصاصة فاضية.


سليم هز رأسه بتفسير: حصل موقف كده ومن غضبي ضربت نار في الهوا.


نظرت داخل عينه بترقب قال بنبرة مكتومة: إيه إللي حصل!


سليم: فاكرة اليوم إللي أنا دخلت فيه الأوضة قلت لك أنا عايز أنام في حضنك، قبل حادثة والدك بيوم. 


هزت ماسة رأسها بايجاب أكمل سليم: كان فيه واحد ماشي ورايا بالعربية معرفش هو مين وقفته وجبته، وقتها وأنا بتكلم معاه، لسة كان هيعترف لي مين إللي وراه حد ضربه بالنار.


ماسة بعدم تصديق: يا سلام!! 


سليم متعجباً: آه والله ده إللي حصل هكذب عليكي يعني؟! بس ماحبيتش أقول لك عشان ماخوفكيش انا مابحبش أحكي لك الحاجات دي.


قالت ماسة في نفسها باشمئزاز: كذاب كذاب وحقير ممثل عالمي شفتك بعيني يا كذاب شفتك بعيني. 


نظرت له بضيق: عادي يعني ممكن تكون مش عايز تقولي عشان ماتزعلنيش. 


سليم: إنتي عارفة كويس إني مابخبيش عليكي أي حاجة لو قتلته هقولك. بعدين هيبقى دفاع عن النفس.


نظرت في عينيه بترقّبٍ حذر، وأمسكت يده كأنّها تتشبّث بأملٍ أخير. كان الرجاء يطلّ من عينيها المرتجفتين، وكأنها تستجديه ألا يخذلها تمنّت، ولو للحظة، أن تكون الحقيقة بينهما عارية من الزيف، حتى وإن قادهم ذلك إلى شجارٍ مرير، إلى عتابٍ مؤلم، إلى غضبٍ يشتعل بين الكلمات... حتى وإن انتهى بهم المطاف إلى الفراق، أرادت منه أن يصارحها، لا من أجلها، بل من أجل عائلتها... لتطمئن. فهي في أعماقها تعلم أنّ لا أحد قادر على حمايتهم كما يفعل هو. وربّما حينها، تستطيع أن تسامحه... وربّما تعود إليه.


وحين رفعت نظرها إليه مجددًا، خرج صوتها خافتًا، مكسورًا: سليم إنت مش مخبي عليا أي حاجة؟!


ضيق سليم عينه متسائلا: عندك شك؟؟ 


ماسه بإرتباك بنوع من الذكاء: لا بس يعني مثلا يمكن مش عايز تقول عشان مابتحبش تعرفني الحاجات دي، زي ما قلت دلوقتي ما بتحبش تخوفني.


نظر لها سليم بإبتسامة صغيرة هز رأسه: لا مافيش هو بس موضوع الشاب ده وللأسف ماوصلناش لحاجة نفس الصفر.


نظرت بغضب يخرج من عينيها إليه: إنت واحد كذاب.. تاجر أعضاء وسلاح، مجرم...


صمتت ماسة. شعرت بأنّ إلحاحها في الأسئلة قد يوقعها في الخطأ، وربما يدفعه لإلتقاط شيءٍ ما، ليفهم أنها بدأت تشك. فهي لا تريد أن تُورّط نفسها في دوّامة لا مخرج منها؟ سليم، ذكي صمته كان كفيلاً بأن يُربكها أكثر. 


سألها سليم متعجباً: في إيه؟ بتبصيلي كده ليه؟


أدارت له ظهرها، لم تقل شيئًا. لم يعد يشغلها سوى الابتعاد عنه، بعد أن اكتشفت حقيقته. لم تعد ترى فيه من أحبّته، ولا حتى ظلّه، لم تعد تخشاه على نفسها، بل على عائلتها، ممن قد يؤذيهم إن تمادت.


التفتت له مرة أخرى ابتلعت ريقها، لكن هذه المرة بنظرة ممتلئة بالحسرة.


علق سليم متسائلا: هتبصيلي كده كتير؟ ولا هتتكلمي؟


أغلقت عينيها، كأنها تغلق على ماتبقى من ذكريات جميلة تحاول نفيها من رأسها.


تنهدت بتعب، ثم فتحت عينيها ببطء، وقالت بصوت خافت: أنا موافقة، همشي النهاردة.


هزّ سليم رأسه بإيجاب، لكن عينيه لم تفارقها، هناك نظرة شك تملأ ملامحه، كأنه يشعر أن هناك شيئًا مالم يُقال.


اقترب منها قليلًا، وسأل بنبرة حنونة مشوبة بالقلق: ماسة أنا حاسس إنك مش كويسة،فيكي حاجة؟ من ساعة حادثة والدك وإنتي مش طبيعية... فهميني أرجوكي كفاية سكوت.. ماتقوليش رد فعل طبيعي علشان بابا، لا يا ماسة لا، ده مش رد فعل طبيعي أنا مش هاتوه عنك.


ترددت ماسة، وارتبكت ملامحها: هيكون في إيه يعني؟ بابا كان هيـ... كان هايموت، عايزني أكون عادي؟خفت، بقى عندي هواجس من وقت،حادثتنا فهمت بقى.


سليم بهدوء محاولا طمأنتها: ماتخافيش، أنا دورت في كل حاجة، وفعلاً ماطلعش في أي حاجة، الحادثة كلها قضاء وقدر، والحمد لله إنه طلع منها بخير.


نظرت إليه ماسة للحظةٍ صامتة قبل أن تهمس لنفسها بصوتٍ بالكاد يُسمع: طلع منها بخير

تبسمت بحسرة، ثم التفتت نحوه سريعًا. أنا هقوللهم إنك، مسافر، إنت فاهم؟ شوية وهحضر هدومي عشان أمشي.


أكتفى بهزّ رأسه، ثم خرج دون أن ينطق بكلمة.


وما إن أُغلق الباب خلفه، حتى اندفعت تركض نحوه، فأغلقته بالمفتاح في عجالة. هرعت إلى حقيبتها، أمسكت بهاتف رشدي، بأنفاس متسارعة..

فهي كانت خائفة أن يكون سليم قد لاحظ شيئًا.


وفجأة، سمعت صوت طرق على الباب. فتحت، لتجد أمامها رشدي


تجمدت في مكانها، بينما هو دفعها برفق ودخل، ثم أغلق الباب خلفه.


اتسعت عيناها، وخرج صوتها خافتًا كأنها تسأل نفسها: إنت اتجننت، سليم هنا؟ أطلع برة


رشدي بضيق به غيرة: ماسبكيش من إمبارح؟ فضلت مستني يخرج مابيخرجش،ط.


ماسة بإستغراب: جوزي طبيعي هيكون معايا بعد إللي حصلي.


رشدي بقلق: إنتي كويسة؟ أذاكي قولي.


نطقت ماسة بغضبٍ مكتوم: كويسة؟! أكيد مش زفت كويسة، شُفت كان هيحصلي إيه؟ هي دي خطتك؟ أنا مش هسمع كلامك تاني،  مش هنفذ لك ولا خطة!


تحدث رشدي بنبرةٍ منخفضة بضيق: أكيد يعني، أنا ماكنتش راضي عن إللي حصل لك، والله اتضايقت. علشان كده قتلته، ماسة لازم تفهمي حاجة إن أنا مستحيل أقبل إن ده يحصل لك.


تنهدت ماسة بتعب، وقد بدأت تتراجع داخليًا: رشدي، أنا مش قادرة أصدق إن سليم وحش كده. حاسة إن فيه حاجة غلط! مستحيل دي تكون أخلاق واحد بيشتغل في الحاجات القذرة دي.


هز رشدي كتفيه بنفاد صبر: معلش، الحب أعمى. عارفة؟ إنتي مش هتصدقيني غير لما تشوفي وشه التاني، عمل معاكي حاجة إمبارح؟


نظرت إليه بإستغراب: تقصد إيه؟


ابتسم رشدي، ابتسامة غامضة: أصل أنا حافظ أخويا. هددك مثلا لو كررتيها تاني ممكن يئذي أهلك أو لو فكرتي تسيبيه تاني.


هزّت رأسها بثقة: لا ماعملش أي حاجة بالعكس، كان حنين جدًا، يعني سليم حبيبي إللي أنا عارفاه.


ضحك رشدي ساخرًا: علشان لسة خارجة من حادثة بشعة بس. لكن المرة الجاية، ساعتها هتشوفي الويل. ووقتها، احتمال معرفش أساعدك.


نظرت له ماسة متعجبة: للدرجة دي إنت عارف سليم؟ كأنك بتتكلم عن واحد ماعرفهوش. 


أجاب وهو يمرر يده في شعره: عارفه ومش عارفه الحتة دي حافظها صم. بس الوش الطيب الغلبان الحنين أنا ماشفتوش الصراحة بأسمع عنه منك، إنتي عارفة جزء وأنا عارف جزء، وأنا وإنتي بنكمل بعض.


أخذ نفسًا عميقًا وأضاف: طب أنا هقولك على حاجة اتصلي بسلوى واسأليها سليم قال لها إيه أول ماعرف الخبر.


نظرت ماسة بإستفهام: تقصد إيه؟


رشدي بخبث: اتصلي بس، إللي هتسمعيه منها، نبذة صغيرة من حقيقته.


تبسمت ماسة وتحركت قليلاً. تحدثت وهي تعطيه ظهرها:قالها هندمك،هوريكي.  أنا عارفة طريقته وهو متعصب بس عمره ما أذاني ولا أذى حد من أهلي بالعكس ده بيحبهم وبيحترمهم.


سألها رشدي بصوتٍ منخفض متعجباً وقد اقترب منها: هو إنتي لسة بتحبيه بعد كل ده؟


رفعت عينيها إليه ببطء ابتلعت ريقها بأهتزاز، لم تنطق، فقط ارتبكت، أمسكها من كتفها بقسوة، وجذبها نحوه قال بغضب:

لسه بتحبيه؟! لسة بتحبيه بعد كل إللي عرفتيه؟! وبعد ماعرفتي كل قذارته دي؟


ماسة بتعلثم: أنا أنا لا.


اقترب أكثر وهمس بثقة وعينه تقدح شررا: لا إنتي لسه بتحبيه. بس زعلانة إنه ماقالش. كان ممكن تسامحيه لو اعترف. وتغفري له... وتدي له فرصة يتغير. مشكلتك إنه ما قالش، مشكلتك الأكبر أهلك، إنتي خايفه على أهلك علشان كده قلبك عمال يحرقك،  لسه سليم بيجري في دمك وحبه ساكن قلبك، صورته جوه عينيك اسمه بين شفايفك، عندك استعداد تسامحيه يا ماسة اهلك هم اللي رابطينك ووجعينك، مش إللي عرفتيه عن سليم. 


دفعته عنها ماسة بقوة صاحت به: لو سمحت يا رشدي، أبعد وأطلع بره أوعى تدخل الأوضة دي تاني!


سكتت للحظة ثم قالت بنبرةٍ فيها قرار: سليم قال لي ممكن أمشي النهاردة وأروح عند أهلي، وهناك، هطلب الطلاق ولو رفضوا، وهو كمان رفض، ساعتها ساعدني أهرب ومش هارجع تاني، مش هو ده إللي إنت وعيلتك الكريمة عايزينه، خلاص بقى سبني في حالي أنا وأهلي.


نظر إليها رشدي طويلًا، ثم قال بشر: أنا في الأول كان هدفي تمشي من هنا، علشان سليم يوقع، ويبقى مجنون ومذبذب، بس دلوقتي هدفي تعرفي حقيقته، تعرفي إن هو قذر وإن رشدي إللي الكل شايفه ماعندوش دم وقذر مايجيش جنبه حاجة.


صاحت به ماسة بغضب مكبوت: أكتر من كده إيه؟ في أكتر من إللي أنا عرفته إيه؟!


رشدي ببحه رجولية صاح بها: كتير يا ماسة كتير. 


ركضت عليه وضربته في كتفه: وطي صوتك يا حيوان، هو إنت مش كنت عايزني أمشي ؟ وتسيبني في حالي أنا وأهلي؟


رشدي ببرود: أنا يهمني إنك كمان، تكرهي سليم.


نظرت إليه نظرة استنكار وشك: هو إنت عايز مني إيه بالظبط يا رشدي؟


ابتسم ابتسامة غامضة: بعدين هقولك أنا عايز إيه؟! بس أكيد هتمشي النهاردة.


استدارت عنه وهي تقول بألم: قولتلك، خلاص هلبس وأمشي.


نظر رشدي لها نظرة غريبة، غامضة. لكنّه ما لبث أن فتح الباب، وألقى نظرة سريعة بعينيه ليتأكد أن لا أحد في الخارج، ثم خرج.


أما ماسة، فجلست على الفراش، مختنقة، تتنفس كأنها تغرق...تفكر في كل شيء.تشعر أن عاصفة تضربها دون رحمة.


كل ما رأته، وماسمعته، وماشاهدته بعينيها، يقول إن رشدي كاذب، لكن سليم، هو من بدأ بالكذب عليها، هي رأته، رأته يقتل ذلك الشاب.


وعندما سألته، أنكر، كذب، وتجاهل الحقيقة التي رأتها عيناها.


ضربت رأسها وهي تبكي وتغلق عينيها بقوة، تحاول طرد كل ما يوجعها. أنفاسها تتسارع، والذكريات تهاجمها دفعة واحدة... كل شيء يقود لحقيقة واحدة: هذا هو سليم الحقيقي، لكن الأصعب... أنها مازالت تحبه، بكت بحرقة، تضرب قلبها، تنهدت ومسحت دموعها، دخلت المرحاض، أخذت حمامًا، وبدّلت ذلك الفستان الذي ترتديه منذ الليلة الماضية. توضأت، وارتدت إسدال الصلاة. وقامت تصلي.


انتهت من الصلاة، وجلست على السجادة منهكة.

انفجرت في البكاء، بكل ما فيها من ضعف، ثم رفعت يديها للسماء، ترجّت بحرقة: يا رب، أحفظ أهلي، ماتخلّيش حد منهم يبعد عني ولا يتأذي، أسألك باسمك الأعظم تحفظهم من كل شر وتقويني، أنا مابقتش قادرة، كتير عليا، والله كتير، تعبت، ده أكبر من تحمّلي، أكبر من طاقتي..أنا ضعيفة أووووي قويني يآرب يا كريم يا حافظ احفظهم لي بحفظك، لو حصل لحد فيهم حاجة، مش هقدر أتحمل الذنب.


صمتت للحظة، وبصوت مجروح خارج من قلبها قبل عينيها المرتجفين: يا رب... طلّع حبه من قلبي، أنا بحبه أوي، بحبه ومش عارفة أكرهه، مش قادرة أكرهه....خرج حبه من قلبي يا رب، خلّيني أكرهه، خلّيني أنساه،خلّيني أشوفه بعين تانية غير إللي شايفاه بيها.ماتخلنيش أضعف يارب، أنا نفسي أموت وأرتاح، أنا تعبانة... والله ما قادرة، عايزة أموت وأرتاح، بجد عايزة أموت.


وانهارت على الأرض، تبكي بحرقة، كأن قلبها يصرخ من أعماقه، لكن من غير صوت.


على إتجاه آخر بجناح فايزة وعزت.


جلست فايزة على الأريكة، ملامحها جامدة كالصخر، إلى جوارها رشدي، بينما وقفت صافيناز في الزاوية، تنظر إليهما بضيق ظاهر.


صافيناز والضجر شديد: إحنا رجعنا تاني لنقطة الصفر... لسة إمبارح كنت بكلم عماد، كل إللي عملناه راح في الهوا.


رفع رشدي حاجبه بلا مبالاة، وقال بإستهانة: بس عبط، مستحيل ترجع بعد إللي عرفته، وحتى لو سامحته، رقبة أهلها في إيدينا.


نظرت له صافيناز بدهشة حقيقية: أنا مش عارفة إزاي لسة بتحبه بعد كل ده.


ابتسمت فايزة بسخرية، وقالت بصوت مغموس بضيق: ده حقيقي حبهم لبعض كبير أوي، عامل زي الأفلام السخيفة


صمتت للحظات، ثم بدأت تتحرك أمامهما، وعيناها تشعّان بتفكيرٍ عميق. توقفت فجأة، والتفتت إليهما، والشرّ يلمع في عينيها، ثم أضافت بصوت منخفض ومليء بالغل: البنت دي لازم تخاف، تفضل على طول خايفة، عقلها مايهداش لحظة ويتساب للتفكير، لازم الخوف يبقى مصاحبها، إللي إنت عملته في مجاهد مش كفاية.


رشدي بحذر: الموضوع مش بالسّهولة إللي إنتي بتتكلمي فيها يا هانم. ده سليم! وسليم دلوقتي اللعب معاه لازم يكون متخطط صح، ومافيهوش لحظة تهوّر.


هزت فايزة رأسها بثقة، ثم اقتربت منه ببطء: ومين قالك إنك هتعمل حادثة تانية لحد من أهلها؟ لأ، إنت هاتعيّشها الرعب بالإيحاء.


واصلت السير، ثم عادت للوقوف أمامه مباشرة وهي تقول بفحيح افاعي: يعني تراقب عيلتها، وأي لحظة تشوف حد من إخواتها أو سعدية الحشرة دي، في الشارع تصورهم وتكلمها، وتقول لها إن رجالتك مستنيين إشارة مني،  ولما ترجع القصر تاني، لإن مش متخيلة إن أهلها هيوافقوا بسهولة على الطلاق، أكيد أهلها كمان هييجوا يزوروها... خلّيها تحس إن أكلهم وشربهم فيهم سم، وإن ممكن في أي لحظة رصاصة طايشة تنهي كل حاجة.


رفعت عينيها في عينيه بثبات وهي تؤكد بدهاء: الخوف لما يدخل قلب الإنسان، بيشل تفكيره ويخليه يفقد القدرة على أبسط رد فعل، بيخليه قابل للتلقين، يصدق أي حاجة تتقال له أو يشفوها، حتى لو كانت كذبة واضحة، وطول ما ماسة مرعوبة،عقلها هيشتغل ضدها، هيفضل يرسم أسوء السيناريوهات، موت أهلها، صراخهم،. كل حركة حواليها هترجمها تهديد، وكل سكوت هتشوفه فخ. وده المطلوب، إن الخوف يبقى جزء منها، يسكنها، يبقى هو إللي بيحركها، مش عقلها..لإن ماسة لو اتسابت لوحدها، ممكن تقول لسليم، في لحظة إنهيار منها، حتى أختها، إللي اسمها سلوى، دي كمان لازم تخاف مكي مش سهل، مكي مكّار كمان لازم الميكروفونات إللي إنتوا حاطينها تتشال، النهاردة.


ظهرت بسمة خفيفة على شفاه صافيناز وهي تقول بخبث: مكي هيكره ماسة قريب، لإنها هتكون السبب في تدمير العِشّ الرومانسي إللي كان مستنيه.

ثم تسألت بهدوء: بقولك إيه يا مامي.. اتكلمتي مع الباشا في المشروع بتاعي أنا ورشدي.


فايزة ببرود قاتل: نتخلص من ماسة، وبعدين نشوف مشروعك إنتِ ورشدي!


رشدي مؤكدًا، بنبرة فيها مزيج من الجد والسخرية:

خليكي عارفة يا هانم، أنا بعمل كل ده علشان خاطرك.


قاطعت فايزة كلامه دون أن ترفّ لها عين: لا طبعاً إنتم، بتعملوه علشان خاطر نفسكم يا رشدي!


رفع رشدي حاجبيه بإبتسامة وقحة: أيوه، وأنا مانكرتش. مصلحتي هي مصلحتك.إنتِ هتساعديني أقرّب من الباشا،والمقابل أمشّي لك ماسة، مصلحة قصاد مصلحة يا هانم. شفتي بقى إني مابعرفش أُحَوّر إزاي؟


ظلت تنظر إليه طويلًا، ثم قالت بسخرية لاذعة: ودي أحلى حاجة فيك... إنك مش بوشين. إللي في قلبك باين في عينيك.


اقترب منها رشدي ببطء، ونظراته تحمل وعيدًا صريحًا: بالظبط، إللي في قلبي وفي عينيّا واضح. ولو ما اتحققش... أنا هروح أقول للباشا ولسليم كل حاجة!


رفعت فايزة حاجبيها بدهشة مصطنعة: إنت بتهددني يا ولد؟


ابتسم رشدي بهدوء شديد: حاشا...؟ دي بس معلومة صغيرة، لو يعني حبّيتي تنقضي وعدك معايا، تبقي عارفة إللي هيحصل، مش أكتر.


نظرت له فايزة بضجر وهي تجز أسنانها بينما هو تبسم بمكر فهو من يمتلك خيوط اللعبة.


حديقة القصر 


عند سيارة سليم، الثالثة مساء


نرى سليم ومكي متوقفان بجانب السيارة، والضيق مرسوم على ملامحهما.


رفع مكي كتفه بحيرة: والله يا سليم، مش قادر أفهم. من يوم ماراحت لماسة، وسلوى متغيرة، موضوع عمار ده مادخلش دماغي خالص.


تنهد سليم وتساءل بهدوء: يعني هي كانت بعد الحادثة طبيعية؟


مكي بنبرة متزنة: آه طبيعية، صح كانت زعلانة على أبوها وخايفة عليه،بس كانت متماسكة..حتى إحنا تاني يوم كنا مع بعض وقضينا اليوم كله سوا، كانت مبسوطة جداً لدرجة إنها نسيت إن أبوها كان عامل حادثه قبلها بيوم، التغير الحقيقي حصل بعد ماجت هنا.


سليم وهو يتمتم: وماسة متغيرتش إلا بعد الحادثة. 


زفر وهو يضيف بحيرة: ماقالتلكش فكرة الهروب جات منين؟ أي حاجة؟


هز مكي رأسه: قالت إن ماسة ماجابتش سيرة الهروب غير في الحفلة، إن الفكرة جت لها من فيلم، بس أنا ماشتريتش الكلام ده، ومتأكد إن ماسة معرفاها من زمان، ممكن أصدق إن ماسة جابت الفكرة من فيلم.


ضحك سليم بسخرية وهو يهمس: أكيد كانوا متفقين، مابيخبوش حاجة عن بعض

تساءل متعجباً وهو يفكر: بس عرفت منين إن عندي حفلة؟


مكي وهو يمد وجهه بتفكير: ممكن تكون سمعتك وإنت بتتكلم في التليفون، أو كانت مستنية أي وقت تكون فيه برا وتشبط فيك وتعمل الحركة دي.


مد سليم وجهه متنهدا ببطء: ممكن برده، عمومًا، أنا عملت إللي عليا وزيادة، ووافقت تروح تريح أعصابها شوية، رغم إني مش مقتنع. ماكنتش عايز أعمل كده، خصوصًا بعد إللي عملته، كانت لازم تتعاقب. بس قلت أركن الغضب والعقل على جنب، وأمشي ورا قلبي.


مكي مطمئنًا وهو يربت على كتفه: بالظبط كده. صدقني، ده الأفضل ليكم دلوقتي.


في تلك اللحظة، ظهرت ماسة وهي تحمل حقيبة صغيرة.


نظر إليها سليم بدهشة معلقاً: هو ده بس كل إللي خدتيه؟


ماسة متعجبة: يعني إيه؟ المفروض آخد أكتر من كده؟! ده الطبيعي ده بالعكس المفروض لو أخذت أكتر من كده إنت إللي المفروض تستغرب.. 


ابتسم سليم بسخرية وهو يفتح باب السيارة: بهزر معاكي. يلا أركبي.


صعدت ماسة، تبعها سليم بعد أن ألقى السلام على مكي، وتحركت السيارة متجهة إلى فيلا عائلتها.


أمام فيلا عائلة ماسة، الرابعة مساءً 


سيارة سليم 


نرى سليم وماسة يجلسان في الأريكة الخلفية للسيارة. 


سألته ماسة: هتروح فين دلوقتي؟


سليم بهدوء: المجموعة(أضاف بتنبيه) أي مكان تروحيه، بلغيني. هبعتلك مكي و راوية.


ماسة وهي تنظر أمامها: مش هروح حتة، هفضل قاعدة في البيت.


سليم بنبرة محددة: الاثنين الجاي، هاجي آخدك زي النهاردة.


هزت راسها بإيجاب،وهبطت من السيارة، ثم نظرت إليه وقالت بصوت خافت: يا ريت تفكر كويس في علاقتنا.


سليم وهو ينظر أمامه بنبرة باردة: مالكيش دعوة بيا، فكري في نفسك، أنا عارف أنا عايز إيه؟! ومشكلتي إيه؟! إنتِ فكري في مشكلتك.


ماسة وهي تهم بالدخول: سلام.


صعدت درجات الفيلا ودخلت، بينما سليم ظل صامتًا، للحظات ثم نظر لعشري الذي كان يجلس بجانب السائق وقال: ماتسيبهاش ثانية، بس ماتخليهاش تحس إنك موجود. عايزك شبح.


أجابه عشري وهو يفتح الباب ويهبط منه: اعتبره حصل يا باشا.


أنطلق عشري نحو الفيلا بخفة، بينما سليم أشار بيده للسائق بالتحرك، وتبعته سيارة الحراس من الخلف.


وفيما كانت ماسة تدخل الفيلا، كان واضحًا أن الحراسة زادت بشكل ملحوظ حول الفيلا، رجال مسلحون في كل زاوية، لكن الغريب أن مكي لم يكن من بينهم.؟...لماذا؟


دخلت ماسة إلى الفيلا بعد أن فتحت لها الخادمة الباب.


سألتها ماسة: بابا وماما فين؟


الخادمة: في أوضة الليفينج.


تحركت ماسة نحو الغرفة، حيث كان مجاهد وسعدية يجلسان على الأريكة، يتناولان الكيك بينما تعرض شاشة التلفاز إحدى حلقات "ليالي الحلمية". ابتسم مجاهد فور رؤيتها، ومدّ قدمه المصابة بحذر، فيما أسرعت سعدية نحو ابنتها تعانقها بحرارة.


سعدية بإشتياق: إيه النور ده؟ عاملة إيه يا حبيبتي؟ وحشتيني!


ماسة بابتسامة مريرة: الحمد لله يا ماما، إنتي عاملة إيه يا حبيبتي؟


سعدية: والله الحمد لله.


اقتربت ماسة من مجاهد: إزيك يا بابا؟ رجلك عاملة إيه دلوقتي؟


مجاهد: الحمد لله، كده ماشفكيش غير يوم واحد!


جلست ماسة إلى جواره قالت بإعتذار: والله كنت تعبانة يا بابا، وبعدين كنت بكلمك كل يوم في التليفون.


سعدية بمزاح وهي تجلس: دي كانت مش مبطلة، كل شوية تكلمني تطمن علينا، كأن حد قايلها آخر الأسبوع هنموت.


أمسكت ماسة يدها وقالت بلهفة: بعد الشر عليكم يا ماما، إن شاء الله العمر كله ليكم.. قولي الدكتور قالك إيه يا حبيبي؟


مجاهد: لسة قدامي اسبوعين كده قبل ما أفك الجبس.


نظرت سعدية إلى ماسة وسألتها بنبرة مستفهمة: بقولك إيه يا ماسة، إيه الحراس دي كلها والكاميرات؟! كلمتك كتير موبايلك مقفول.


ماسة مبتسمة: عشان أنا جاية أقعد معاكم أسبوع. ده كان شرط سليم.


مجاهد متعجبًا: وهو وافق بسهولة؟


ماسة: آه، أصله مسافر أسبوع، نظرت حولها كأنها تبحث عن أحد: هي سلوى فين؟


سعدية: قاعدة في أوضتها بتذاكر.


ماسة: طب أنا هطلع لها.


وقبل أن تبتعد، ناداها مجاهد: ماسة، مالك يابنتي؟وشك مش عجبني. 


ماسة بإبتسامة باهتة: مافيش، أنا الحمد لله بخير، ماتقلقش عليا.


وضعت قبلة على جبينه وتحركت مبتعدة.


بينما كان مجاهد ينظر لاثارها: أنا حاسس إن فيه حاجة، حاسس إن ماسة وسليم زعلانين.


سعدية بشك: وأنا كمان. تفتكر لسة زعلانين من يوم ما البنت جت هنا.


مجاهد: بس الكلام ده فات عليه يجي ثلاث أسابيع.. 


وضعت سعدية يدها أسفل ذقنها: والله ما عارفة يا مجاهد عموما بناتك لسانهم في ودن بعض فهعرف. 


مجاهد متعجباً: هتتصنتي عليهم؟


سعدية وهي تقلب شفتيها بإستهجان: أيوه! فيها إيه؟ لازم أفهم إيه إللي بيحصل؟! بنتك من فترة بتعيط، وقالت إنه شك فيها، كانت جاية غضبانة وقالبة على الراجل، وبقالها فترة متغيرة سألتها كتير ومابتردش. خلاص،سيبني أعرف بطريقتي. 


مجاهد متنهّدًا:خيرًا إن شاء الله 


غرفة سلوى 


طرقت ماسة الباب بهدوء ودخلت، كانت سلوى جالسة على الفراش، مستندة برأسها وظهرها إلى الحائط، صامتة، شاردة، وملامحها باهتة. كأن عينيها تصرخ:ليه يا دنيا؟ ليه سرقتي فرحتي قبل ما تبدأ؟ياترى بتحبيني علشان كدة أنقذتيني قبل ماعيش كذبة مع واحد مجرم. ولا بتكرهيني علشان حرمتيني من اللي بحبه؟ ولا كنتي بتعملي فيا فخ من البداية؟ و وقعتيني في إيد إنسان كداب ومجرم!


لم تهبط دموعها، ربما جفّت أو انتهت، قلبها هو من كان يبكي، ملامحها تبكي، رغم سكون عينيها، وجهها كالبحر، يبدو هادئًا، لكنه يخفي عمقًا مظلمًا. من يقترب يغرق، ومن يحاول النجاة، تبتلعه التيارات بلا رحمة، راقبتها ماسة بنظرة مؤلمة، فهي تشعر بها، لأنها تعاني نفس الألم، نفس الصداع الذي يسكن قلبها لا رأسها.، لم تتحدث، فقط، جلست بجوارها، واحتضنتها بصمت، تضم رأس سلوى إلى صدرها وتربت على كتفها، ثم أسندت رأسها على رأس


    الفصل الواحد والسبعون ج2 من هنا 

    لقراءة جميع فصول الرواية من هنا

تعليقات