رواية الماسة المكسورة
الفصل الثاني والسبعون 72 ج2
بقلم ليله عادل
قصر الراوي الخامسة مساءً
جناح سليم وماسة
الشرفة.
ماسة تجلس على الأرجوحة، صمت قاتل يطبق على صدرها كالكفن.
في تلك اللحظة، اهتز هاتف رشدي، الذي لم يفارق جيب ملابسها كما نعلم، وضعته على أذنها وأجابت بنبرة غليظة: خير؟
جاءها صوت رشدي من جهة أخرى، هادئًا ومشحونًا:
ادخلي الحمّام، أفتحي الدش، فيه احتمال كبير إن كراميلك مركّب كاميرات أو ميكروفونات.
تنهدت ماسة بعمق، ومسحت وجهها بضجر، ثم نهضت بخطى مثقلة واتجهت إلى الحمام. أغلقت الباب خلفها بهدوء، فتحت صنبور الماء ووقفت إلى جواره. رفعت الهاتف مرة أخرى، وتحدثت بصوت خافت، خالٍ تمامًا من أي انفعال: يلا، قول إللي عندك.
رشدي بنبرة خافتة تحمل تهديدًا مبطنًا: سليم ممكن يكون فتّش الأوضة، وممكن يكون زرع ميكروفونات أو كاميرات ياريت تاخدي بالك من تصرفاتك كويس وحاولي تخبي التليفون، علشان سلامتك وسلامة أهلك.
ماسة بضجر واضح: متصل عشان تقولي كده؟
أجابها ببرود: لا، متصل عشان أسألك، مش امتحاناتك قربت؟
ماسة بهدوء متعب: آه، آخر الأسبوع.
رشدي بنبرة مرتبة: هتحضري أول امتحانين عادي. بعد أول امتحان، هتروحي عند أهلك وترجعي القصر، وبعد التاني هترجعي هنا مباشرة.
ثم بنبرة مريبة: بس التالت... هو معاد هروبك يا ماسة.
تسارعت أنفاسها فجأة، واهتز جسدها كأن صعقة كهرباء اخترقته ابتلعت غصتها سألت بصوت متهدج: وبعدين؟
رشدي باقضتاب: وقتها هقولك.
ماسة بإختناق: في أوامر تانية؟
أجاب بسخرية لاذعة: سلام، يا ست الحُسن.
انتهت المكالمة.
نظرت إلى الهاتف بين يديها، عضّت عليه بأسنانها، وهمست بحنق وقهر: ربنا يخلّصني منك يا حقير.
(بعد أيام )
بقي الحال كما هو عليه، كانت ماسه تتجنب أن ترى سليم كذلك سلوى تتجنب أن ترى مكي، تتحجج بانشغالها في المذاكرة.
قصر الراوي
غرفة سليم، الخامسة مساءً
الشرفة.
سليم جالسًا على مقعده، شاردًا في الفراغ، غارقًا في دوامة من الألم لا نهاية لها دخّن سيجارته بصمت، ورشف من قهوته المرّة والثقيلة كأيامه
بعد دقائق، دخلت ماسة بخطى مترددة، توقّفت خلفه للحظات، مرّرت عينيها عليه وقلبها يعصف بها، يتألم لأجله، تدرك تمامًا أنها السبب فيما يمرّ به، لكنه سليم، حبيبها، قطعة من قلبها، كيف لها أن تراه في تلك الحال وتتركه؟ لم تشكّ يومًا في حبّه لها، رغم ما عرفته.
رفعت عينيها نحو السماء بتعب تنهدت، ثم اقتربت
مدّت يدها ببطء، وارتعشت أصابعها، في داخلها صراع: هل تلمسه؟ أم تتركه يغرق وحده؟ وبعد ثوانٍ، قلبها المحب انتصر بالطبع.
وضعت كفها المرتجف على كتفه، وانحنت نحوه بحنان غامر، ضمّته من الخلف، واستقرّت رأسها على كتفه، وطبعت شفتيها بقبلة صامتة طويلة على جانب جبينه.. أحاطت جسده بذراعيها، كما لو أنها تحاول أن تُسكت كل الصخب الذي ينهشه من الداخل.
اهتزّ سليم للحظة، كأنّ روحه تنفست بعد اختناق. شقّت وجهه ابتسامة حزينة، ووضع يده فوق يدها، يتمسك بها كما يتمسك الغريق بطوق النجاة.
مرّت لحظات، لا صوت فيها سوى أنفاسهما، ثم جلست بجانبه أخيرًا، وقالت بصوت خافت يكاد يُسمع: عامل إيه يا سليم؟
سليم بابتسامة ألم: لو إنتي كويسة يا ماسة، أكيد أنا هبقى كويس.
صمتت قليلًا، وعيناها معلّقتان بالأرض: سليم بكرة عندي امتحان.
أومأ سليم برأسه قليلًا: أنا عارف، عندك امتحان الساعة11 وهيخلص الساعة1 بس هو إنتي أصلًا عندك استعداد تدخلي؟ بتذاكري؟
أجابت ماسة بحماس كاذب: أيوه، بذاكر، أمال أنا كنت مختفية فين الفترة إللي فاتت؟
أومأ سليم بإيماءة خفيفة، وصمت فلم يعد يملك رغبة في المواجهة، أو حتى تكذيبها صار يتركها تكذب كما يحلو لها.
سليم بنبرة مكتومة: حاضر يا ماسة، إن شاء الله الساعة9 هاتلاقي العربية مستنياكي، ومكي وراوية معاكي.
تابع بنبرة أكثر صرامة لكنها حنونة:
أتمنى يا ماسة بعد ماتخلصي امتحانات، تكوني هديتى، عشان أنا مش هصبر تاني، ولا هقبل الوضع ده، اتفقنا؟
رفعت ماسة حاجبها، ونبرة دفاعية تغلّف صوتها:
هو إنت ليه محسسني إننا بقالنا شهور كده؟ على فكرة، الحوار كله على بعضه ماكملش أسبوعين تلاتة.. بابا مافكش الجبس غير أول إمبارح!
حاول سليم أن يتمالك أعصابه: والله؟ وأنا المفروض أفضل كام شهر يعني صابر وساكت وقابل إللي إنتي فيه ده؟
ماسة بضجر: قلتلك إن إللي أنا فيه ده زاد بسبب رد فعل ماما وبابا، إنت ماتعرفش هما عملوا معايا إيه؟!
أغلق سليم عينيه بتعب للحظة، وأخرج نفسًا ساخنًا، ثم فتح عينيه وقال بهدوء: ماشي يا ماسة... حاضر، أنا هسكت، بس مش مصدقك..
صمت للحظات، وهو يمرر عينيه عليها بضيق، ثم قال بمرارة:
هو إنتي جيتي ليه؟ جاية تديني شوية محبة ومشاعر وبعدين تاخديهم مني تاني؟ أنا مش هقبل يا ماسة بساعات محبة مزيفة، وأصحى ألاقي نفسي وحيد تاني، وأتوجع تاني، مش هقبل قلبي وحبي وعواطفي ليكي يبقوا لعبة، و وقت ماتحبي تقربي تقربي، ووقت ماتحبي تبعدي تبعدي، الشخصية التانية دي وجودها غير مرغوب فيه هنا.
رفعت ماسة نظرها إليه، ثم قالت بصوت مبحوح:
أنا مش جاية أديك شوية محبة واخدهم، ولا أنا دلوقتي في الشخصية التانية، أنا بس كنت جاية أطلب منك أروح الامتحان بكرة، ولما لقيتك قاعد زعلان كده ماستحملتش، هو إنت عندك شك في حبي ليك؟
سليم بثقة: لو عندي شك 1% إنك مابتحبينيش، كان زماني سبتك من زمان، بس أنتي فيكي حاجة، إيه هي؟ مش عارف، بس هعرفها.
خيم الصمت من جديد، لكنه لم يكن يشبه الصمت السابق، كان يحمل ثقلًا أكبر، كما لو أنّ الهواء صار أكثر كثافة.
بينما ماسة تنظر إليه نظرة طويلة، تريد أن تقول له ما بها، أن تزيح ذلك الحجر، وأن ترتمي بين أحضانه، لكنها خافت. خوفها كان أكبر من كل شيء.
فجأة، ضجّ صوت رشدي، الذي لم يتركها للحظة.
همس من جديد داخل أذنها، فكلما فكرت ماسة أن تقول لسليم، تستمع لصوته، كأنه يذكّرها بأنه هنا، ولابد أن تفيق.
هزّت رأسها مرة واحدة وهي تغمض عينيها، رفعت يديها أمام أذنيها تلوح لتطرده.
لاحظها سليم وسأل بهدوء مشوب بالقلق: هو إنتي ليه بتعملي كده كل شوية؟! كأن ودانك بتوجعك؟ أو في حاجة مش عايزة تسمعيها؟ولا هتقولي لي تاني بهش ناموسة.
هبطت ماسة يديها، وأجابت بسرعة غير مقنعة: لا... أصل أنا بعمل رجيم تقريبًا هو السبب؟
سليم بتعجب واستنكار: بتعملي رجيم ليه أصلًا؟
أصلا إنتي خسيتي ومش حلو إللي إنتي فيه ده، إنتي مش بتبقي حلوة في الرفع الزيادة.
ماسة بكذب: ما هو أنا شكلي هبطّله
سليم تساءل: بس ده ماله ومال ودنك؟ تعالي أودّيكي للدكتور، بتحسي بإيه؟
سكتت، نظرت إلى الأرض، ثم همست: بحس إني.. مش عارفة أوصفلك، بس يعني هو مش وجع، بس زي صفارة كده.
سليم بإهتمام: خلاص، بكرة بعد الامتحان، هاجي آخدك، وبعدين تروحي للدكتور، ممكن يكون عندك مشكلة في الأذن الوسطى، ومش عايز جدال، هتروحي.
ماسة بإستسلام: ماشي، حاضر، بس أنا هروح عند بابا بعد الامتحان، تكون إنت خلصت شغل، ونروح
أنا هروح بقى أذاكر.
نهضت من مكانها، وألقت نظرة عليه كانت ترغب أن تضمه، أن تسرق لحظة أمان واحدة فقط لحظة تنسى فيها كل شيء، لكن شيئًا ما أوقفها، لم يكن خوفًا، ولم يكن نفورًا. بل كان حاجزًا خفيًا، لم تجد له اسمًا.
شعرت أنّ دموعها أصبحت على وشك السقوط، وأنها لم تعد تقوى على التمثيل كتمت أنفاسها، وخرجت.
بينما تنهد سليم بعمق، نظر إلى آثارها بوجعٍ يغمر روحه، مسح وجهه بتعب ثقيل، ثم وضع يديه على قلبه، الذي يصرخ بصمت داخل حناياه، كأنه يحتضر بين الألم الضياع.
وبالفعل في اليوم التالي
توجهت ماسة إلى الجامعة مع الحراس لتخوض الامتحان، بالطبع كانت ماسة داخل الامتحان شاردة لكن عين الحراس التي عليها جعلتها أن تنظر في الأوراق كانها تقوم بالإجابة، في الخارج كان مكي في انتظارها هي وسلوى، لكن سلوى سبقتها في الخروج.
الجامعة الأمريكية، الساعة 12:30 مساءً
عند السيارة
اقتربت سلوى من السيارة بخطوات بطيئة، لكن ماإن وقع بصرها على مكي واقفًا حاولت أن تتماسك.
أخذت نفسًا عميقًا وقالت ببرود مصطنع: مساء الخير
اعتدل مكي واقفًا وردّ عليها بإهتمام: مساء النور، عملتِ إيه في الامتحان؟
سلوى وهى تنظر امامها: حليت كويس، هي ماسة ماخرجتش لحد دلوقتي؟
مكي: آه لسة، ميعادها الساعة1، إنتي اتأخرتي، المفروض تخلصي12؟! كلمتك تليفونك كان مقفول؟!
نظرت سلوى له وقالت بغلاسة: وقفت مع أصحابي شوية، ولا ممنوع أقف معاهم؟ بعدين إنت عايز تفهمني إنك ما كنتش عارف إن أنا واقفة مع أصحابي ومابعتش أصحابك يشوفوني فين.
نظر لها مكي من أعلى لأسفل بضيق، لكنه تجنّب الدخول في نقاش، ظل واقفًا وهي أيضًا، تعبث في شعرها مرة، وفي هاتفها مرة أخرى، كان يرغب في الحديث لكنه قاوم، يعلم أنه لو فتح معها مجال الكلام ستكذب، وقد سئم من ذلك، لكنه لم يستطع كتم السؤال وفجأة، قال بنبرة خبيثة:
مكي: بقولك إيه، هي ماسة لسه حد بيضايقها؟ يعني بيهددها؟
سلوى باستغراب مقتن: بيـهـددها؟! مين بيهددها؟! مش فاهمة، هو في حد بيهددها وأنا آخر من يعلم؟!
مكي حاول استدرجها: مش بالظبط، بس انتي عارفة فايزة هانم، بتحب تلعبها من تحت لتحت.
سلوى تبسمت بتمثيل: الموضوع عمره ما وصل للتهديد هو شويه معايره كده، وماسة ما بقيتش تسكت، من ساعة ما بدأت ترد وتقول لسليم كل حاجة، الوضع اتغير.
مكي هو يركز النظر في ملامحها: يعني، ماحصلش قبل كده إن حد فعلاً، هددها؟
سلوى بتأكيد: لا يا سيدي، مافيش حد يجرؤ أصلاً! دول بيخافوا من سليم زي القطط، مستحيـــل!حد فيهم يفتح بقه؟ لو في حاجه زي كده مثلا كانت قالتلي واكيد كنت هقول لك عشان تقول لسليم يلمهم.
هز مكي راسه بإيجاب قال بخبث: امتحاناتك هتخلص بعد 10أيام بالضبط.
سلوى بإقتضاب: عارفة.
مكي: يعني آخر امتحان ليكي يوم التلات؟
سلوى: تمام.
مكي يحاول استدراجها: كتب الكتاب هيكون يوم الأربع، أعملي حسابك.
سلوى بإرتباك: إزاي يعني؟ إحنا لسه ماجهزناش حاجة في الفيلا، ولا العفش، ولسة ما
قاطَعها مكي بنبرة قاطعة: هنكتب الكتاب، وبعدين تعملي إللي إنتي عايزاه، كل حاجة متجهزة، وإحنا بنقضي الهاني مون المهندس هايزبط كل حاجة، وبعدين ممكن نكتب الكتاب ونستنى شوية، مش لازم الفرح فورًا.
نظر لها ليرصد رد فعلها، كان يختبرها، يريد أن يتأكد من شكوكه، لكن سلوى كانت أذكى من أن تقع في الفخ.
سلوى هزت رأسها بإيجاب: خلاص ماشي، تمام بس خلينا نستنى شوية، أسبوعين تلاتة كده، بعدين نعمل الفرح ونسافر.
مكي مندهشا وهو يمد وجهه: غريبة!
سلوى وهى تعقد بين حاجبيها: وإيه إللي غريب؟ مش ده إللي إنت عايزه؟
مكي: الصراحة كنت متوقع ترفضي
سلوى وهى تضحك بإستنكار: وأرفض ليه؟ إحنا اتفقنا، وبعدين أنا مش عارفة ليه حاطت في دماغك إني متغيرة؟ عندي امتحانات، وهتجوز قريب، وماسة كمان زعلانة ومش فاهمة مالها، وأنا مشغولة بيها، كل الحاجات دي ومش عايز دماغي تشت.
حدّق مكي فيها لثوانٍ، ثم انحنى حتى أصبح في مستوى نظرها، قرّب وجهه من وجهها وقال وهو يركز في ملامحها: أنا همشي معاكي للآخر، رغم إن قلبي حاسس إنك... بتثبتيني.
سلوى بسخرية: ليه هو إنت برواز عشان أثبّتك؟
لم يضحك مكي، كانت ملامحه ساكنة كالموت، وقال بجمود: زي ما قلتلك 10أيام ونشوف.
سلوى تساءلت بشك: ولو الكلام اتغير بعد العشرة أيام؟ هتعمل إيه؟
مكي بنبرة بها ريبة: هعمل كتير.
سلوى برفعة حاجب: تهديد؟
مكي بجمود: لا معلومة.
قلبت سلوى وجهها وقالت بحدة: أوعى تستخدم معايا الأسلوب ده، عشان أنا عنيدة، وإنت عارف. مش هتجوزك بالعافية، ماتضايقنيش بالله عليك، لإن أسلوبك الفترة الأخيرة مستفز، وأنا بحاول أعدّي.
اتسعت عينا مكي وبرق لها ونظر لها بنظرة مرعبة، قال بصوت رجولي هادئ: سلوى صوتك ده ما يعلاش هنا، إحنا مش في البيت عشان أعديها، فاهمة؟ وماتتكلميش معايا بالأسلوب ده يا سلوى، مفهوم.
لكنها لم تهتز من نظرته، قالت بتحدي: هتكلم بالطريقة إللي تريحني، إذا كان عاجبك.
لف مكي بجسدة، قبض يده، وضرب برفق على رأسه من الخلف كأنه يحاول تهدئة نفسه، ثم عاد إليها وقال وهو يشير بإصبعه نحو وجهها: سلوى، سلوى ماتستفزنيش، لو في حاجة للمرة الألف، ردي وقولي!
سلوى ببرود: وللمرّة الألف، بجاوبك مافيش حاجة، إنت إللي أسلوبك متغير.
مكي بغضب خفيف: وأنا لو متغير، فده عشانك ومنك ماتقوليش تهيؤات، انا وسليم مش مجانين، عشان إحنا الاتنين نقول إنكم متغيرين، وهعرف وصدقيني لما أعرف، هزعل ولما مكي بيزعل إنتي مش عارفة بيبقى عامل إزاي ولو عرفت إن أختك السبب، ساعتها يبقى فيه كلام كتير..
سلوى بتحدي نظرت داخل عينه: أوعى تكون فاكر إني ممكن أختارك على أختي أوعى.
نظر لها مكي بقوة: إجابتك دي أكدتلي إن التغيرات بسبب ماسة، وهعرف السبب.
سلوى بحدة وهي تزفر: أوووف، بجد الكلام معاك بقى ممل وبيصدع، أنا عندي امتحانات وعايزة أركز فيها، مش طالبة النكد بتاعك ده.
فتحت باب السيارة ودخلت وأغلقت الباب بعنف، تطلع إليها مكي بضيق، ثم أغلقت سلوى النافذة في وجهه، فضرب مكي بكفه على سقف السيارة، بغضب ثم ابتعد.
وبعد وقت، جاءت ماسة ومعها الحراس وراوية.
توقفت ماسة أمام مكي وقالت بإستغراب: إيه ده؟هو إنت هنا؟
أجابها مكي، وقد بدا عليه الضيق: آه موجود.
ماسة بتعجب: ومادخلتيش ليه؟
مكي: عشان راوية معاكي؟ كان عندي حاجات مهمة بعملها.
ماسة: طب إحنا هانروح عند ماما، أنا أستأذنت من سليم.
مكي: عارف؟ اتفضلي.
توقفت ماسة أمام الباب، نظرت له برفعة حاجب وقالت بأمر: أفتح باب العربية
نظر لها مكي بإبتسامة وهز رأسه: أمرك يا ماسة هانم.
نظرت له ماسة بعينيها دون رد، ثم دخلت وجلست بجانب سلوى.
فهما يفهمان لبعضهما البعض، ويحاولان مضايقة بعض، وبطبع تستطيع ماسة التفوق بفضل سليم.
سلوى: عملتي إيه؟
ماسة: الحمد لله، حليت وإنتِ؟
سلوى: الحمد لله برضه، كان سهل.
جلس مكي بجانب السائق، بينما جلست راوية بجانب ماسة، وتحركت السيارة، تتبعها سيارة الحراس.
فيلا عائلة ماسة الثالثة عصراً
دخلت ماسة الفيلا برفقة سلوى. فهذه هي المرة الأولى التي تطأ فيها هذا المكان منذ طردهم لها ورفضهم لطلب الطلاق، كانت تشعر بالحزن؛ لم تكن ترغب في المجيء، لكنها جاءت لكي تنفذ خطة رشدي، فالبرغم أنها تحميهم بحياتها وبصمتها وبحبها الشديد لهم، إلا أنها تشعر بالخذلان والوجع، فكانت تريد لو قليل من الحنان معها لكن للأسف لم تجده.
كان مجاهد قد فكّ الجبس، لكنه ما زال لا يتحرك كثيرًا وفور دخولها، وجدتهما جالسَين في الهول.
سعدية بمزاح: جيتي يا مقموصة؟
ماسة اقتربت منهم قالت بنبرة خذلان: مش إنتوا إللي قولتولي ماتجيش هنا تاني؟
مجاهد بحكمة: إحنا كنا شداد معاكي علشان نعقلك، لإنك كذبتي وقلتي كلام ماحصلش، وأوعي يابنتى تكوني فاكرة إني هبقى ضدك، وإني باختار سليم أنا بوعيكي يا ماسة وبصحيكي من غفلتك بس إنتي حمارة.
ماسة وهي تقترب منه قالت بعتاب: أنا عارفة يا بابا، عارفة كل حاجة والله، بس أنا ماكنتش عايزاكم تبقوا قاسيين معايا.
سعدية بصوت مكسور وعينها مليانة دموع:
يا بنتي، خراب البيت مش بالساهل، ربنا عوّضك عن وجع سنين والبهدلة.. شفتي إيه يا ماسة من الظلم والبهدلةء؟!أنا شِلت وسكت، وكتمت جوّه قلبي لحد ماتعودت على الوجع،
بقهر فاض بها تابعت بحسرة:
شفتي إيه إنتِ بس؟ شفتي إيه في الدنيا؟ من مرمطة وبهدلة، إنك تنامي من غير عشا؟
وإنك تشوفي عيالك بيتبهدلوا قدامك؟
ماتقدريش تفتحي بقك، عشان لو فتحتيه، هاتترمي إنتِ وراجلك وعيالك في الشارع، ومش هاتلاقيي تاكليهم، ممكن عيالك يموتوا قدام عينيك من الجوع، وتضطري تحطي الجزمة جوه بقك عشان تعيشي إنتِ وعيالك! إنتِ مش عارفة حاجة يا ماسة، أنا وأبوكي شفنا قد إيه في حياتنا؟ ده احنا ماشممناش نفسنا غير بعد جوازك، اللي مزعلك دلوقتي؟ حاجات تهون، بس إنتي اتعودتي على الراحة، ومش قادرة تستحملي تعب جوزك، ولو قسيت عليكي ولا ضربتك، فكان عشان كذبتِ وخلّيتينا نشوف سليم بشكل وحش، ليه كده؟ إيه اللي حصلك؟ إحنا بنحاول نرجعلك عقلك، ولو سليم غلطان، والله ما هنسيبه
ماسة بصوت هادئ، وهي تنظر على الأرض:
مش عايزة أتكلم في الموضوع ده يا ماما بعد إذنك، أنا جاية أقولكم حقكم عليا، ماتزعلوش مني، أنا آسفة لو كنت تطاولت في طريقة كلامي بس كنت مخنوقة وتعبانة.
تنهدت سعدية، وسلّمت أمرها لله: ربنا يهديكي يا بنتي، ويرجعك لعقلك تاني يا ماسة.
مجاهد وهو يربت على خدها بحنان: إحنا مش زعلانين منك يا ماسة، إحنا زعلانين عليكِ وصدقيني يا بنتي، إحنا بنعمل كده لمصلحتك.
اقتربت ماسة وقبّلت رأس والدها: عارفة، قولي بس إنت عامل إيه دلوقتي يا بابا؟
مجاهد: الحمد لله. الدكتور قاللي أبدأ علاج طبيعي وهنشوف.
ماسة: على خير، وإنتي يا ماما، عاملة إيه؟ أخباركم إيه؟
سعدية وهر تربت على ظهرها: كويسين، وإنتي؟ عاملة إيه مع جوزك؟ اتصالحتوا؟
ماسة هزت رأسها بإيجاب: طبعاً.
سعدية بابتسامة: جوزك جِه هنا وبهدلنا عشانك، عشان تعرفي قد إيه بيحبك ومابيستحملش عليكي ريشه تجرحك.
تبسمت ماسة إبتسامة جانبية مغيرة الكلام: هتأكليني إيه النهاردة يا سعدية؟
سعدية: أنا عاملة طاجن بامية باللحمة الضاني ورز وملوخية.
ماسة: حلوين! أنا فعلاً نفسي في طاجن البامية اوي.
سعدية: خلاص، أنا قلت أستناكم، يا دوبك بس هطشّ الملوخية وخلاص.
تحركت سعدية، بينما توقفت سلوى وقالت لماسة:
تعالي نراجع سوا الامتحان ونشوف حلّينا إيه.
ماسة وهي تتوقف: طيب ماشي، بعد إذنك يا بابا.
وبالفعل، صعدتا إلى الطابق الثاني، ودخلتا الغرفة، وجلستا على الفراش.
سلوى بتوتر: ماسة، مكي تعبني أوي، مش عارفة لحد إمتى هفضل ماسكة نفسي من نظراته وطريقته... بتوترني النهارده بس كان حد مهددك بس بخباثه.
ماسه نظرت لها بتوتر: وانت عملت ايه؟!
سلوى: ما تقلقيش قلت له مافيش الكلام ده واقنعته بس انا مش عارفه لحد امتى هفضل متمسكه.
ماسة تنهدت وأمسكت يدها: لحد الأسبوع الجاي أنا هاهرب تاني الأسبوع الجاي.
سلوى بقلق: المرة دي إزاي بقى؟
ماسة مدت شفتيها بعدم معرفة: ماعرفش، هو قال لي تالت امتحان ليكي هاتهربي، وهيعرفني التفاصيل تعرفي هو السبب إني أجي النهاردة، عايز يعمل تمويه لسليم.
سلوى بحزن وهي تنظر أمامها: والله يا ماسة، أنا رأيي تقولي لسليم.
ماسة نظرت لها بعينين ترقرق بالدموع: كل مابقى على وشك أحكيله لساني بيتلجّم، صوت رشدي بقى جزء من حياتي، على طول شايفاه بيقتلكم، بأبشع الطرق، صوركم مابقتش تفارق خيالي، حياتي كلها بقت كوابيس، مابقيتش عارفة أفرّق بين الحلم والواقع، أنا مش هقول له حاجة، وده قرار أنا مش قدّهم. هما عايزني أبعد عن سليم؟ خلاص، هبعد المهم إن إنتوا تكونوا بخير يا سلوى بعدين بعدين بعد اللي كان هيحصل ليوسف قدام عينك والسم اللي كان محطوط لك في العصير كل ده بتفكري ان انا اتكلم استحاله وانت كمان لازم تشيلي الفكره دي من دماغك.
سلوى بقهر: هنفضل لحد إمتى في العِذاب ده يا ماسة؟
ماسة بدموع هبطت على وجنتيها قالت بمرارة: لحد ماموت ومايلاقوش حد يبتزّوه، أو أجيب آخري وأحرّق القصر بيهم في يوم.
طبطبت سلوى على قدميها: إحنا ربنا معانا، ربنا مابيرضاش بالظلم، وأكيد هاييجي وقت والحق هايظهر، وسليم يعرف لوحده، أنا كمان زيك، حاسة إن مكي وسليم لو عرفوا، ممكن يحافظوا علينا بس خوفي اكتر، رشدي بيخوفني، نظراته، وجودك في البيت مع فايزة وصافيناز، بيرعبني عليكي، بقيت أخاف على بابا وماما، حتى موضوع عمار، كنت مرعوبة يكونوا هم السبب فيه، ممكن يستغلوه ضدنا.
حسبي الله ونعم الوكيل، في إخوات كده؟
انهارت بالبكاء، فضمّتها ماسة وطبطبت على ظهرها، تحاول أن تواسي قلبهما المكسور.
بعد وقت، نادت سعدية عليهما لتناول الغداء، وجاء سليم ليأخذ ماسة للطبيب. لم يدخل الفيلا، بل انتظرها في السيارة.
السيارة، السادسة مساءً
كان سليم في المقعد الخلفي، ومكي بجوار السائق.
سليم بإهتمام: عملتي إيه النهاردة؟
ماسة: حلّيت، كان سهل الحمدلله، ماتقلقش.
سليم تبسم بثقة وأمسك يدها: أنا مش قلقان، أنا بثق فيكي يا قطعة السكر.
ماسة ابتسمت بهدوء وسحبت يدها، حكّت في خديها ونظرت من النافذة، بينما تنهد سليم وأشار بيده للسائق أن يتحرك.
العيادة، السابعة مساءً
جلست ماسة على الفراش، وقام الطبيب بفحص أذنيها.
الطبيب: بتحسي بإيه يا مدام ماسة؟
ماسة: بحس بحاجة، زي صفارة.
الطبيب: بتحسي بيها كتير؟
ماسة: يعني، مش دايمًا.
الطبيب: بصي، أنا مش شايف أي حاجة، وأكيد الرجيم مش هو السبب ممكن ناخد أدوية بسيطة واشوفك بعد أسبوع.
سليم بقلق وهو يمسح على ظهرها: يعني يا دكتور، مفيش حاجة خطيرة؟ محتاجة تحاليل؟ أشعة؟
الطبيب: لا خالص، الموضوع نفسي بسبب ضغط الامتحانات، هنمشي على فيتامينات وقطرات، وهاشوفي فرق كبير إن شاء الله، بس قولي لي بتحسي بأي ألم؟ بتاخدي شاور؟
ماسة: لا خالص.
الطبيب: تمام، زي ماقولت هنمشى على الأدوية مرتين في اليوم، وإن شاء الله تبقي أحسن.
ماسة: تمام، شكرًا.
خرجت ماسة مع سليم بعد أن كتب الطبيب الروشتة، وركبا السيارة من جديد.
ماسة اطمأنت إن مافيش حاجة خطيرة.
سليم: أنا مش هطمن غير لما ترجعي زي زمان، ضحكتك الحلوة... قطعة السكر إللي عرفتها.
لم ترد، واكتفت بالنظر أمامها.
سليم: تيجي نتمشى على الكورنيش؟ تاكلي ذرة؟ أشربك حلبسة؟ مش اسمه كده؟
ماسة تبسمت: أيوه، اسمه كده بس لا، عايزة أذاكر، المادة الجاية صعبة أوي، وبعدين إحنا متفقين بلاش ضغط.
سليم تنهد بتعب: آه متفقين، صح، ثم نظر للسائق: على القصر يا رمضان.
وبالفعل عادوا إلى القصر، ودخلت ماسة الجناح، لتُكمل ما تبقّى لها من أيام في هذا القصر كما خطّط رشدي، حتى جاء موعد الامتحان التالي، ذهبا إلى الامتحان، ثم عادت مباشرة إلى القصر.
كانت تتعمّد الانشغال بالمذاكرة أمام سليم وسحر، تحاول أن توحي بأنها لا تفكّر في شيء سوى دراستها إن كانوا يراقبونها بكاميرات أو ميكروفونات، فليكن. هذا ما يجب أن يروه.
أما سلوى، كانت تحاول أن تتحدث مع مكي بهدوء، تكاد تعصر على نفسها ليمونة، كما يُقال فقط لتهدئة الشك، فـسلوى وماسة كانا يتّبعان خطة "الهدنة" في تلك الفترة: رسم ابتسامة كاذبة، والتعامل بشكل عادي، لأن خلق المشاكل أو أي تغيير قد يثير جنونهما وهما لا يريدون ذلك.
ظلّت ماسة على ذلك السياق، حتى جاء اليوم الذي يسبق امتحانها الثالث، اليوم الذي يسبق هروبها... كان يوافق عيد زواج ماسة وسليم التاسع.
كانت ماسة تتذكّره جيدًا، فهو ليس مجرد ذكرى زواج، بل يوم ميلادها الحقيقي، ويوم ميلادها الآخر، حين تزوجت من سليم عشقها المستحيل، تحفظه عن ظهر قلب.
جناح سليم وماسة، الساعة الثانية عشرة بعد منتصف الليل.
جلست ماسة على الأرض، والكتب مبعثرة أمامها تسند وجهها بكفيها، غارقة في التفكير في الغد، وفي الخطة التي أخبرها بها رشدي عبر الهاتف بعد أن أجرت اتصالًا بسلوى لتُطلعها على الخطة كي تساعدها.
وبينما كانت غارقة في شرودها، مرّ سليم من الخارج، يحمل علبة هدايا في يده وبوكيه ورد قرنفل، النوع الذي تحبه ماسة توقّف أمام الباب لم تنتبه لظلاله في البداية.
كان سليم على الطرف الآخر مترددًا، يمد يده نحو المقبض، ثم يتراجع هل يترك الهدية وينصرف؟ أم يدخل؟ لم يكن يعرف، أفكاره مشوّشة يشتاق إليها، لكنه لا يريد أن يُظهر ضعفه لا يريد أن يشعر بلحظة سعادة ثم تُنتزع منه في اللحظة التالية، وهذا يعصر قلبه ألمًا.
رفع كفّه بتردد... وفي اللحظة نفسها، انتبهت ماسة، رفعت رأسها ببطئ، قلبها يرتجف، وعيناها على وشك البكاء، تتمنى في داخلها أن يرحل تهمس داخليًا: أمشي... أمشي.
لكنه لم يرحل، وفجأة، سمعت صوت طرق على الباب.
تنهدت بتعب، فهي لا تستطيع مواجهته، بالأخص في ذلك اليوم: حاضر... ثانية واحدة.
نهضت بسرعة، نظرت في المرآة، وجهها شاحب. وضعت قليلًا من الكريم على وجهها محاولةً إخفاء آثار التعب فتحت الباب.
تصنّعت المفاجأة: سليم؟ مادخلتش على طول ليه؟
سليم بهدوء: عادي كده أفضل، ومش عايز أسمع كلام مستفز.
صمت لحظة قال بابتسامة محبة: كل سنة وإنتي طيبة.
تصنّعت ماسة عدم الفهم، عقدت حاجبيها ونظرت له:
ليه؟ هو النهاردة إيه؟
سليم بحب: عيد جوازنا، وعيد ميلادك إحنا النهاردة ٦/٢٧.
ماسة ابتسمت ابتسامة مصطنعة: آه، معلش بقى الامتحانات أنت فاهم
مدّ سليم يده بالهدية وببوكيه الورد: اتفضلي.
مدّت ماسة يديها وأخذتهما بإبتسامة متصنّعة: شكراً يا سليم.
سليم بنبرة موجوعة: أنا عارف إن الفترة دي صعبة، بس مهما حصل، ماينفعش اليوم ده يعدي كده، حتى لو ماحتفلناش حبيت أقولك كل سنة وإنتِ طيبة يا عشقي الأبدي.
سكتت ماسة قليلًا، دموعها على وشك الانفجار، وقالت بنبرة مكتومة مبحوحة: وإنت طيب.
تقدّم سليم خطوة: مش هاتشوفي هديتك؟
ماسة، وهي لا تنظر في عينيه: بعدين.
وقعت عين سليم على الأوراق المبعثرة، فتقدّم بعض الخطوات وقال: ليه بتذاكري على الأرض؟ إنزلي تحت، ذاكري في المكتب بتاعي أو أجيبلك مكتب هنا نحطه في الركنة إللي هناك.
ماسة، وهي تضع الورد والهدية على الفراش: لا، كدة مرتاحة أكتر.
سليم بحماس: تيجي نرجع الفيلا بتاعتنا؟
نظرت له بدهشة: نرجع الفيلا؟
فجاة ضحكت ماسة ضحكة موجوعة، كأنه يتحدث عن أشياء إنتهى موعدها.
سليم معلقًا بإستغراب: بتضحكي ليه؟ هأمرهم دلوقتي ينظفوها، وبكره بعد الامتحان تروحي عليها... إيه رأيك؟
ماسة برجاء: أنا بكرة هروح عند ماما، لو سمحت يا سليم وافق.
سليم بلطف: ماشي، روحي براحتك، بعد ماتيجي من عند مامتك، نرجع فيلتنا.
ماسة معلقة بتعجب: والعصابة؟ مش إنت دايمًا شايف إن الأمان هنا في القصر؟
سليم تنهد: بصراحة آه. بس مش عارف، مش مرتاح. حاسس إن من ساعة ماجينا القصر ده، حياتنا اتقلبت، قوليلي بأمانة... ماحدش بيضايقك يا ماسة؟
ماسة بثبات: لو حد بيضايقني، هاجي أقولك إنت عارف مابقاش بيفرق معايا شيل من دماغك يا سليم حوار إن حد بيهددني اوحد بيضايقني مافيش الكلام ده، كلهم بيخافوا منك.
تنهد سليم بصمت نظر لها مطولا انتظر منها أي حديث لكنها صامتة مسح وجهه: طيب، أنا هرجع أوضتي بقى، كل سنة وإنتِ طيبة، كل سنة وإنتِ في حياتي لو احتاجتي حاجة تكلميني مهما كان الوقت هسيبك تكملي مذاكرتك سلام.
كان في داخله وجع يقتله، وهي كذلك، كل منهما يتمزق، لكن يحاول التماسك أمام الآخر.
وقبل أن يبتعد، نادته: سلــيم
توقف والتفت لها بلهفة قائلا بنبرة عاشقة بالتركي: أفندم، أشكم.
نظرت له طويلًا، كأنها تودّع ملامحه، تحتفظ بها في ذاكرتها قبل أن ترحل غدًا وتهرب للمرة الثانية، إذ ربما لن تراه مجددًا.. أتاه شعور قد تقول الحقيقة.
كالمعتاد، بدأت الهمسات السوداء تملأ أذنيها لكن تلك المرة شعرت كأن هناك من يهمس من خلفها، كأن شبحًا يقف خلفها استدارت بحركة عصبية فيها هلع.
لاحظ سليم ارتباكها قال بمزاح محبب: مالك؟ في إيه؟ شايفة عفريت؟
نظرت له ماسة بصوت غاضب قليلا: إنت بتهزر؟
سليم وهو يبتسم: لا، بس وشّك اتغيّر فجأة كأنك شفتي حد واقف وراكي.
لكن الصوت لم يرحل وضعت يديها على أذنيها، ونظرت خلفها مرة أخرى، فرأت وجوه صافيناز ورشدي وفايزة ينظرون لها كأنهم أشباح مخيفة تطاردها شعرت بالخوف يتسلل إلى قلبها وعقلها.
سليم بقلق وضيق: لسة بتسمعي صوت الصفارة ده؟
لكنها لم تكن تسمعه، كانت تستمع فقط لأصوات هؤلاء الوحوش الذين لم يتركوها لحظة.
ناداها سليم مرة أخرى: ماسة، بتبصي وراكي ليه؟
نظرت له فجأة بضعف وخوف، وبحركة تلقائية، مدّت يديها وضمّته أحاطت عنقه بيد، دفنت رأسها بين حنايا رقبته، واليد الأخرى تلف خصره.
سليم لم يتحرك في الوهلة الأولى، عيناه فقط تحركتا بإستغراب ثم رفع يديه واحتواها بذراعيه بحنان
كانت تشعر بالأمان فقط في حضنه لكن الخوف مازال يعصف بها.
همست بصوت مرتجف بعينين ترقرقت بالدموع: على فكرة في شعور تاني أقصد ثالث، أصعب كمان صعب أوي.
ضيّق سليم عينيه ولم يرد.
أكملت باهتزاز في صوتها، وهي تشد ذراعيها عليه كأنها تريد أن تحتمي به من الخوف، من هؤلاء الذين يقفون خلفها، وتستمع لأصواتهم:
الخوف شعور الخوف ده، وحش أوي أسوأ حاجة ممكن حد يتعرض لها أسوأ حتى من الصرخة المكتومة جواك، وأسوأ من إنك تتخذل في إللي بتحبه، أسوأ من كل حاجة إنك تفضل خايف، حياتك كلها كابوس بيخنقك.
أبعدها سليم قليلًا، وهو يحتوي كتفيها بكفيه، نظر لها وسأل بتعجب: خايفة وإنتي جنبي؟ خايفة من إيه؟ مين مخوّفك يا ماسة؟
ماسة سكتت، لم تعرف كيف ترد، لكنها وجدت نفسها تنظر في عينيه وتقول: إنت الشخص الوحيد إللي عمري ماخفت منه، أو خفت وأنا معاه.
نظرت خلفها باضطراب مرة أخرى، فرأت صور رشدي وصافيناز وفايزة مجددًا فيبدو أنها لم تعد فقط تسمع أصواتهم، بل أصبحت تراهم.
اقتربت منه من جديد، احتضنته مرة أخرى، وضعت رأسها على صدره، وهمست: زي ما قلتلك يا سليم أنا مابحسش بالأمان غير جوّة حضنك.
ضمّها سليم أكثر وقال بحب متعجباً: وده إللي مش قادر أفهمه، بتحسي بالأمان في حضني، طب ليه بعيدة؟ ليه معيشانا في العذاب ده؟
ماسة ابتعدت عنه، وهي تمسك كفّه وتقول بهروب حزين، بوداع مبطن: خلاص يا سليم، فاضل مادتين. كلها عشر أيام.
ابتسم سليم إبتسامة مريرة: وبعد العشر أيام؟ هتيجي تقوليلي أنا عايزة أبعد تاني، عايزة أطلق؟
ابتسمت ماسة ابتسامة حزينة لم تصل إلى عينيها، وقالت بصوت مبحوح: لا مش هقول كده وعد، مش هقول.
سليم تنهد بتعب: وأنا مستني.
نظرت له ماسة، وضعت كفها على وجهه، تحاول أن تشبع عينيها من ملامحه قبل أن ترحل قالت بصوت ناعم: تصبح على خير يا سليم ميرسي على الهدية وإنك لسه فاكر.
سليم بحب يخرج من عينيه العاشقتين لتفاصيلها لكن لم يخفى الحزن منهما: مستحيل أنسى أسعد أيام حياتي، اليوم إللي فيه حياتي كلها اتغيرت واتجوزت أحلى ست في الوجود.
مدّ يده وسحب كفّها، ووضع شفتيه عليها، وعيناه تحدّقان في ملامحها بصمتٍ عميق. ثم ابتعد وهو يتنهّد بثقل.
همّت بالابتعاد، لكنه جذبها من يدها وضمّها إلى صدره بقوة، وطبع قبلة طويلة على رأسها، وبقي على حاله لحظاتٍ دون حراك.
ثم أبعدها قليلًا، وتبادلا النظرات، نظراتٍ امتزج فيها الحب بالعتاب والوجع، أقترب منها ثانية، ووضع قبلة طويلة على عينيها، وفجأة، انخفض إلى شفتيها، وتبادلا قبلة عميقة، شوقها حار، ولهيبها أذاب كل تماسكٍ بينهما، كأنهما يرويان ظمأ سنوات.
مرّت الدقائق وهما كذلك، إلى أن ابتعدت ماسة فجأة كمن لُسِع، أنفاسها متلاحقة، وصدرها يعلو ويهبط بشدة، أما هو، فظلّ يحدّق بها في دهشة، فقد كانت قبل لحظات بين ذراعيه كوردةٍ تحتمي بغصنها ماذا حدث.
أشاحت ماسة بنظرها بعيدًا وأعطته ظهرها، لم تنطق بشيء، فلا كلمات تصلح الآن يكفي ما فعلته
تنهد سليم بتعب ومرارة، مسح وجهه بكفّيه، وغادر الغرفة بصمتٍ دون أن ينطق بكلمة.
دخل غرفته وأغلق الباب أخذ يضرب الجدران وكل ماوصلت إليه يداه، صرخ قلبه بصمت مزقه الغضب، الحزن ينهشه والحيرة تتلف أعصابه فهي كانت بين يده الان ناعمة شعر بمحبتها بشتيقها تريدة كما يريدها لكنه لا يعرف ما أصابها فجاة لكنه غاضباً بشدة وقلبه يحترق.
أما ماسة، فعادت إلى الأرض جلست وهي تضم نفسها تبكي بصمت، كما اعتادت دومًا، لكن هذه المرة كان الشعور مختلفًا، المكان من حولها بدا كـ بيت مهجور يعجّ بأشباح يطاردونها بلا رحمة، كل زاوية فيه تعجّ بالكوابيس والذكريات المؤلمة.
بعد وقت لم تستطع أن تحدد ما إن كان ساعات أم دقائق، نهضت من مكانها تشعر بألمٍ يلف جسدها، جلست على الفراش، أمسكت باقة الورد، قربتها من أنفها، واستنشقت رائحتها بعمق.
أغمضت عينيها، وغاصت في أحلامها الوردية، تلك الأحلام التي تحيا فيها ذكرياتها الجميلة مع سليم، تتذكره وكأنها تعيش شهر عسلها الآن، تلك السنة التي كانت من أسعد سنوات عمرها، الأيام التي كان فيها كل شيء بسيطًا وسعيدًا تلك القبلة العاشقة التى كانت على وشك تسقطها في حفرة.
فتحت عينيها ببطء، وضعت الباقة بجانبها، ثم مدت يدها نحو الهدية الملفوفة بشريط فيونكة أنيق فتحتها، فوجدت داخلها علبة صغيرة، فتحت العلبة، لتجد بلورة زجاجية شفافة، تحتوي على مجسم صغير لبيت.
شغّلت البلورة، فانبعثت منها موسيقى حالمة والوان مبهجه، ودار البيت من الداخل، ثم انفتح ليخرج منه تمثالان صغيران يرقصان وهما يضمان بعضهما البعض.
تجمّدت عيناها بدهشة... التمثال الأول يُشبه سليم، والثاني يُشبهها هي.
قالت في سرها: ده أكيد معمول مخصوص لينا!!
كان الثلج الصغير يتراقص حولهما، ثم أغلق البيت مجددًا، ودخلا داخله، ارتسمت على وجهها ابتسامة طفولية نادرة، لم ترها منذ اليوم الذي عرفت فيه حقيقة سليم.
وضعت يديها على قلبها، وقد شعرت بشيء يتحرك بداخله.
وجدت ورقة صغيرة ملونة، مكتوبة بخط يد سليم. أمسكت الورقة بيد مرتجفة، بعينين اغرورقتا بالدموع وقلب يعصفه الوجع، قرأتها بلسان سليم.
الرسالة 👇
"البيت اللي جوه البلورة ده هو بيتنا، زي ما اتمنيناه بسيط، دافي، ودايمًا في حضن بعض، وهتفضلي إنتِ بيتي وكل دنيتي، ومفيش أي حاجة هتبعدنا عن بعض، ومفيش أي حاجة هتغير حبنا، أنا واثق في ده، يمكن الحياة بعدتنا شوية يمكن الزعل غيرنا، بس إنتي جوا قلبي، لسة نفس البنت إللي كنت بصحى على صوت ضحكتها، وإللي بشوف سعادة الكون من عينيها، وبأعشق كل حاجة فيها، بحبك يا قلب سليم وهفضل أحبك لحد ماموت، كل سنة وإنتي طيبة يا قطعة السكر الحلوة إللي محلية حياتي، عيد جواز سعيد يا عشقي الأبدي، يا صاحبة أحلى عيون في الكون. عقبال عيد جوازنا الـ 100
سليم 💘
لم تكن كلمات كثيرة، لكنها كانت كافية لتجعل قلبها ينكسر، شعرت وكأنها تسمع صوته وهو يتفتت داخلها، يتكسر غصبًا عنها، احتدت أنفاسها، وأهتز جسدها، وكأن روحها تحترق، ثم بدأت تبكي، تبكي بحرقة لا تنتهي،
تذكرت حديث رشدي...كل أموال سليم حرام.
ضربت بيديها على قدميها بقوة، أمسكت بالبلورة والورد، كانت على وشك أن تُلقيهم أرضًا، أن تنفجر غضبًا، لكن فجأة، توقفت، وكأن شيئًا ما شد يديها وجمّدهمابدا صوت يهمس:
ده آخر حاجة منه، يمكن دي آخر ذكرى هتفضل عندي منه
رفعت رأسها إلى السماء، بعينيها المبللة، وكأنها تحدث الله في صمت: يا رب سامحني أنا مش هرميهم.
وضعت البلورة في شنطتها، تلك التي ستأخذها معها إلى الجامعة غدًا، انتقت بضع ورود، وضعتها داخل كتاب، ثم ضمّت باقي الباقة إلى صدرها، وتمدّدت على الفراش، تحتمي بين أزهارها.
لكنها لم تنم، ظلت عيناها مفتوحتين، والدموع تنهمر منهما، سرحت بخيالها وأخذت تتذكّر كل شيء منذ أن عرفت سليم، وحتى هذه اللحظة.
وبينما هي على هذه الحال، أذَّن الفجر، تنهدت تنهيدة ثقيلة، كأنها تودّع شيئًا داخلها لا تملك له اسمًا، قامت، توضأت، وفرشت سجادة الصلاة.
وقفت بين يدي الله، وبدأت تبكي مجددًا
لكن هذه المرة، لم يكن بكاؤها ضعفًا، بل رجاءً صادقًا:
يا رب ساعدني أهرب، يا رب مايحصلش حاجة، احفظلي أهلي من الشيطان رشدي وأعوانه، أكشف الحق، وخليني أشوف الحقيقة، وشيل من قلبي حب سليم، الحب إللي مخليني ضعيفة، مش قادرة أشوفه غير بالعين إللي بتحبه، خليني أكرهه خليني أشوفه إنسان وحش، خليني أكره ضعفي ده.
ظلت تردد الدعاء، والدموع لا تتوقف.
حتى جاء موعد الامتحان، مسحت وجهها ببطء، ارتدت ملابسها، وأخذت من الخزنة مبلغًا ليس كبيرًا، لكنه يكفيها لتعيش أو لتسير به نحو المجهول، حملت حقيبتها الثقيلة على كتفها... وغادرت إلى الجامعة.
داخل القاعة، جلست طوال الوقت تمسك القلم بين أصابعها، لكنها لم تكن تراجع إجاباتها، بل كانت شاردة تفكر في المجهول: كيف ستهرب؟ إلى أين ستذهب؟ وماذا سيحدث لها بعد ذلك؟ ظلّت تفكر حتى اللحظات الأخيرة للامتحان.
عندما خرجت، كان مكي والحراس في انتظارها. انتظرت قليلاً حتى وصلت سلوى بعد دقائق ثم صعدوا جميعًا إلى السيارات وتوجهوا إلى منزل عائلتها.
فيلا عائلة ماسة الثانية مساءً
في الصالون، جلست مع والدها الذي أصبح يتحرك بعكاز كانت حالته أفضل كثيرًا من قبل، وأثناء حديثهم، قالت سعدية لسلوى: قومي يا سلوى ساعديني عشان نغرف الغدا.
سلوى بملل: أمي، فكّك مني، أنا لسة جاية من الامتحان تعبانة إنت عندك خدامين جوة، جايباهم ليه؟ يشموا الهوا؟
مجاهد بتأييد: عندها حق، ماتخلي الخدامات يساعدوكي.
سعدية باستهجان: يساعدوني إيه يا راجل؟ ما هي بنتك جابتلهم صناديق قد كده، قالتلهم مش عارفة أعملوا إيه وجيبوا إيه.
سلوى بتوضيح: حاجات قديمة عندي من زمان، فقلت أوزعها للمحتاجين حطيتهم في صناديق عشان أوديهم البلد، كلمت خالتي وبعتت عربية تاخدهم أنا كده غلطت يا بابا !! كلامي فيه حاجة؟
مجاهد: لأ، عندك حق، ربنا يجعله في ميزان حسناتك.
ماسة بتصنع: فكرة حلوة أنا كمان هعمل كده، عندي حاجات كتير أوي.
سعدية وهى تنهض: طب أنا هقوم أعمل لكم الأكل، وإنتي روحي شوفي الخدامين دول خلصوا ولا لسه؟ عايزين نخلّص مش هانقعد طول اليوم في الهم ده.
سلوى: طيب تعالي معايا يا ميسو.
ماسة: طيب
صعدت سلوى وماسة إلى الطابق العلوي، كانت الخادمات يضعن بعض الملابس والمتعلقات الخاصة بسلوى في صناديق صغيرة، وكان هناك صندوق كبير أيضًا (يبدو أن هذه هي الخطة التي اتفقتا عليها)
غرفة سلوى
فور أن دخلت سلوى الغرفة نظرت إلى الخادمات غمزت لماسة.
سلوى وهي تلوّح بيديها قالت بضجر: إيه إللي إنتوا بتعملوه ده؟ الحاجات دي كلها تتحط في الصندوق الكبير إللي هناك، الصناديق الصغيرة، هاتتبعت فاضية يلا خلصوا، خالتي كلمتني وقالت العربية ساعة وهتكون هنا. أخلصوا.
إحدى الخادمات: يعني إنتي يا هانم عايزة نفضّي الصناديق دي ونحطهم في الكبير؟
سلوى بحدة: أيوه، أنا ماطلبتش منكم تحطوا الحاجة في الصغيرة. يلا، كل الحاجات تتحط في الصندوق الكبير وتتقفل كويس، تنزلوا بيهم صندوق صندوق، ترصوهم في العربية تحت، وأنا هخلي الحراس يساعدوكم.
اقتربت ماسة من سلوى وسحبتها من يدها بعيدا وقالت بهمس: أنا هقعد شوية، نتغدى، وبعدين هكلم رشدي وأمشي... وبعد كده نبدأ الخطة. لازم أبان قدام بابا وماما إني ماشية من هنا.
سلوى بقلق: هاتعمليها إزاي دي؟
أثناء ذلك استمعتا لصوت سعدية وهي تقول: انزلوا يلا.
ماسة بتوضيح: عادي، بعد الغداء، هقعد شوية وبعدين هخرج قدامهم من الباب، وبعد كده ألف في الجنينة، وأدخل من باب المطبخ أغير اللبس وأمشي.
سلوى تنهدت بتعب: معرفش إيه أفلام الأكشن إللي إحنا بقينا فيها دي؟ منك لله يا رشدي! حسبي الله ونعم الوكيل فيك إنت وأمك.
ماسة: خلينا ننزل بس.
وبالفعل، نزلتا للأسفل وجلستا على السفرة. بدأ الجميع بتناول الطعام وتبادل الأحاديث ثم توجهوا إلى الصالون واحتسوا الشاي وتناولوا بعض الفاكهة.
جلست ماسة وسط عائلتها، تحاول أن ترسم ابتسامة باهتة، بينما في داخلها كانت دقات قلبها تُحصي الثواني.
رفعت نظرها نحو والدها: أنا ماشية يا بابا اتأخرت.
نظر إليها مجاهد، وفي عينيه مزيج من الرضا:
ربنا يسهّلك يا بنتي ويهديكي.
سعدية بصوت مبحوح: يومين كده وهجيلك.
هزّت ماسة رأسها بإيجاب بعين مشتتة خائفة: ادعيلي يا ماما بالله عليكي.
سعدية وهي تكتم دموعها: بدعيلك والله يابنتي.ربنا يصلح حالك ويهديكي ويسعدك ويسهل أمورك.
هزّت رأسها بهدوء، ثم قامت تتحرك بخطوات ثابتة نحو الباب.
لحقت بها سلوى، وتحركتا في الجنينة مثلما اتفقتا، كأنهما تتجولان بلا هدف، كانت نظرات مكي تتبعهما.
سلوى بصوت خافت: أنا سيبالك شنطة فيها لبس ومكياج في حمام الخدامين زي ما اتفقنا.
ماسة بتنييه: تمام... الأهم تشغلي مكي، خليه يشك إن الصندوق الكبير فيه حاجة.
سلوى بقلق: خدي بالك من نفسك يا ماسة.
تمتمت ماسة بتوتر: ادعيلي خايفة أوي
سلوى بتمنى: يا ريت كان فيه حل ممكن أقدمهولك بس مفيش، إنتي بتضحي بنفسك وبحياتك عشان تنقذينا وأنا واقفة متكتفة مش عارفة أعمل حاجة
ماسة بتنبيه: الحاجة الوحيدة إللي لازم تعمليها إنك تسكتي وتحفظي السر، لازم تعرفي إنك بتحافظي على حياتكم بكتمانك للسر، ولما سليم ييجي يسألك لإن أنا متأكدة إنك أول واحدة هيسألها لإنه عارف إن سرنا مع بعض،ماتتكلميش تفضلي تقولي ماعرفش وبس، تليفوني إللي معاكي ده لازم تكسريه وتتخلصي منه لأنه أكيد هايفتش المكان، أنا هبقى أطمنك عليا بمعرفتي.
صمتت لحظات ثم ابتلعت غصتها المرة وقالت: هدخل دلوقتي عشان مش عايزة أمشي بالليل زي المرة إللي فاتت، تعالي معايا وبعدين أخرجي من الباب الرئيسي.
هزت رأسها بإيجاب وسارتا معًا في الحديقة حتى وصلتا إلى الجزء الخلفي، مرّتا من أمام الحراس دون أن تثيرا أي شك، ثم دخلتا من الباب الخلفي المؤدي إلى المطبخ.
المطبخ
كان المطبخ خاليًا من الخدم كما نعلم أن سلوى أشغلتهم في فض الصناديق ووضع ما بها في صندوق الكبير.
ماسة بخطة مرسومة: سلوى، إنتي اظهري قصادهم عادي، وبعدين اتعصبي واسألي الخدامة قدام ماما: خلصتوا ولا لسه؟ لما تقولك "لا"، قولي بعصبية: ليه كل ده؟ اطلعي!"
وزعقي على البوابة، أول ما يقربوا بالصندوق الكبير، قولي بتوتر: "خلي بالكم، كأنه فيه حاجة بتتكسر. خلي مكي يشك، وحاولي تثيري انتباهه فاهمة؟
سلوى بتوتر: طيب، ماتخافيش.
ماسة بتحذير: استني مني رنة علشان نبدأ الخطة، أول ماتسمعي خبر إن سليم عرف تعرفيني واتخلصي من التليفون أوعي تنسي.
سلوى بحزم: حاضر ماتخافيش والله.
نظرت ماسة لإسورة التتبع التي في يدها خلعتها خلي الإسورة دي معاكي.
سلوى مسكتها: ماشي.
تبادلتا النظرات بتوتر وخوف وحزن، ثم ضمتا بعضهما بوداع لدقائق و دموع ساخنة..
ثم خرجت سلوى إلى الصالون وهي تمسك طبق حلويات.. كأن شيئا لم يكن.
كان الخدم منشغلين بإنزال صناديق قديمة من الطابق العلوي مع الحراس ووضعها في عربية نصف نقل.
سعدية وهي تشير بيديها: ما كانش لازمته دلوقتي ده، كنتي استني لما تخلصي امتحانات.
سلوى وهي تجلس: معلش يا ماما كده أفضل، بعد كده هنشغل في حوارات الجواز.
على إتجاه آخر
دخلت ماسة حمّام الخدم بسرعة، فتحت الشنطة التي أعدّتها لها سلوى.
أخرجت مستحضرات التجميل: بدأت تضع كحلًا أسود ثقيلًا في عينيها، بودرة داكنة، عدسات سوداء، حسنة مرسومة بجانب الشفاه، رسمت حاجبيها بثقل
ارتدت عباءة سوداء فضفاضة، وطرحة ملفوفة بشكل عشوائي، ونظارة شمسية كبيرة تخفي ملامحها تمامًا.
رشّت على نفسها عطرًا رخيصًا، ومسحت أي أثر للعطرها المميز الفاخر الذي كانت تضعه.
نظرت لنفسها في المرآة لم تعد "ماسة" بشكل كبير، بل إمرأة أخرى إلى حدّ ما.
اتصلت برشدي: أنا خلصت، هخرج دلوقتي.
أتاها صوت رشدي من إتجاه آخر حيث كان يجلس في قاعة بلياردو ويقوم بضرب الكرات:
بنبرة ثابتة: أركبي ميكروباص، وإنزلي عند موقف رمسيس.
ماسة بتوتر: هو إنت مش هتبقى معايا؟
رشدي بصرامة: لا يا حبيبتي، سليم أكيد هيراجع الكاميرات. لو ظهرت جنبك هنتفضح هروبك لازم يبان منك لوحدك.
ماسة بصوت مبحوح: أنا خايفة يحصلي زي المرة إللي فاتت.
رشدي بحدة ناعمة: ما تقلقيش، هتركبي ميكروباص فيه ناس... وطول ما انتي معايا على التليفون، مش هتضيعي. بلاش تقلعي هدومك، خليكي لحد ماتوصلي بالعابيه.
أغلقت ماسة الخط، وهى تضغط على اسنانها: ربنا ياخدك يا حقير.
ثم اتصلت بسلوى: أنا خارجة دلوقتي يلا.
اغلقت الهاتف وضعته في جيبها وأخذت انفاسها
وخرجت بخطى بطيئة، منحنية الظهر كأنها عجوز، ومرت بجوار الحراس دون أن يلتفتوا لها.
في نفس اللحظة، كان مكي يقف يشاهد الصناديق.
اقتربت منه سلوى غاضبة: إنتو لسه مخلصتوش؟ الصندوق الكبير ده شيلوه بالراحة
مكي معلقاً: ويشيلوه بالراحة ليه؟ في إيه خايفة عليه يتكسر.
سلوى بتلعثم: وإنت، وإنت مالك؟
نظر للصندوق وقالت بتصنع كبير: ما تاخدوا بالكوا بقى، هو إنتم أغبياء.
مكي وهو يقترب ويشير بيده بشك: أفتحلي الصندوق ده.
حاولت سلوى منعه: ماتفتحش حاجة!
مكي بشدة: أنا من حقي أشوف كل حاجة بتخرج من هنا أفتحلي كل الصناديق
وقفت سلوى أمام الصندوق: لا، مش من حقك تشوف حاجة بتدخل أو بتخرج من هنا! ماتفتحش حاجة إنت وهو سامعين.
نظر لها مكي بغضب: بعد إللي عملتيه إنتي وأختك، لازم أفتش... وإللي بتعمليه ده بيأكد إن فيه حاجة غلط.
سلوى بإستهجان: غلط إيه؟ بطل هبل! الصناديق دي فيها حاجات خاصة!مكي ما تفتحش الصندوق من فضلك.
مكي بشدة: سلوى أوعي!
دفعت سلوى صدره: لا، مش هاوعى!
في تلك اللحظة، مرّت "ماسة" من خلفهما بخطوات هادئة، متنكرة كخادمة، وقالت بلهجة فلاحية وهي مغيرة صوتها:
أنا ماشية يا ستي هروح أجيبلك إللي إنتي عايزاه.
نظرت لها سلوى بلا رمشة: طيب يا نوال، متتأخريش بس.
عدّت من البوابة وسط الزحمة، ولا أحد شك فيها، الجميع كان منشغلًا مع سلوى وطريقتها بينما مكي ركز النظر في ملامحها.
صرخ مكي فجأة: أفتح الصندوق ده حالًا!
وبالفعل فتح الحراس الصندوق، لم يجدوا سوى ملابس قديمة وبعض المستلزمات الخاصة.
سلوى بضيق مصطنع: شفت بقى؟ إيه إللي بتعمله ده؟
تمتم مكي متعجباً: إصرارك هو إللي شككني، عملتي كده ليه؟
سلوى وهي تستدير: مش هبررلك... عن إذنك.
مكي بشك: ماسة فين؟
سلوى ببرود: جوه... هاتكون فين يعني.
أسرع مكي وأخرج هاتفه، ليراجع تحركات ماسة عبر إسورة التتبع، فوجدها ساكنة على الأريكة في الصالون... لم يدرك أنها خدعة.
على إتجاه آخر في الشارع الخامسة مساءً
في الشارع، كانت ماسة متوقفة على الرصيف، قلبها يدق بجنون والخوف متملك منها.
أوقفت ميكروباصًا، وصعدت مسرعة، ثم اتصلت برشدي.
بصوت خائف:. أنا في الميكروباص أهو... أعمل إيه؟
رشدي بهدوء: هتاخدي تذكرة لأول قطر رايح مرسى مطروح...معاكي فلوس؟
ماسة: آه، معايا.
رشدي: تمام، لما تركبي قوليلي.
أغلقت الهاتف، وقلبها لا يزال يقرع كطبول الحرب... لم تكن تعرف إلى أين تقودها تلك الرحلة، لكنها تشعر برعب يكاد يوقف قلبها.
في نفس اللحظة، في فيلا عائلة ماسة،
دخلت سلوى الصالون، وجدت الإسورة على الأريكة أمسكتها، فكرت للحظات، ثم بدأت تتحرك بها في أرجاء الفيلا.
دخلت الحمام بها لدقائق، ثم خرجت وجلست على الأريكة، بينما كان مكي يتابع تحركاتها عن طريق الهاتف
لم يعرف أن كل تلك الحركات مجرد تمويه، وأن "ماسة" صارت الآن خارج أسوار الفيلا تمامًا.
فى الحديقة
كان مكي جالسًا في الحديقة، يدخن سيجارته بصمت الهواء يمر على وجهه، وعيناه شاردتان في الفراغ قلبه غير مطمئن، شيء ما بداخله يهمس بأن هناك خطبًا ما... لكنه لا يستطيع تحديده.
تقدمت منه راوية بهدوء وقالت بصوت منخفض: مكي... ماسة هانم هتتأخر.
نفث مكي نفسًا طويلًا من السيجارة وأجاب: مش عارف، هشوف.
رمى السيجارة على الأرض، دهسها بطرف حذائه، ثم نهض بخطوات ثقيلة وأتجه نحو الفيلا. فتحت له الخادمة الباب بصمت، وتحرك إلى الداخل.
في الصالون
كان مجاهد، وسعدية، وسلوى يجلسون. نظر إليهم مكي، وعيناه تنتقلان بينهم ببطء، سأل بصوت هامس:فين ماسة؟
سعدية رفعت حاجبيها بدهشة: هو إنت مامشتش مع ماسة؟
توقف الزمن داخله للحظة، واتسعت عيناه، قالها بصدمة: ماسة إيه؟
أنزل نظره إلى الهاتف الذي يحمله، تفقد تطبيق التتبع... الإشارة قادمة من مكان سلوى.
تحرك مكي فجأة نحو سلوى، اقترب منها بخطوات ثابتة، لكنه تحكم في انفعالة
صوته خرج هادئًا حادًا: سلوى... من غير صوت عالي ومشاكل، ماسة فين؟
سلوى انسحبت قليلًا، ارتبكت، وقالت بتوتر: ماعرفش...هي خرجت وقالت إنها ماشية.
رمش مكي ببطء قائلا بغضب: إنتِ عايزاني أصدق إنك ماتعرفيش راحت فين؟!
مجاهد متعجباً: إنت بتتكلم كده ليه يا مكي خير؟!
لكن مكي لم يسمعه، لم يرَ أحدًا غير سلوى. رفع يده في وجهها وأشار بغضب: إللي إنتي عملتيه ده غلط كبير..ده كارثة!
سلوى محاولة الدفاع عن نفسها، صوتها كان عالي : أنا مش عارفة إنت بتتكلم عن إيه... أنا أصلاً لسه واخدة بالي إنك لسه هنا!
نظر مكي إلى يدها، ولاحظ الإسورة أمسك بها فجأة، وقال بنبرة ساخرة: فعلاً ماتعرفيش مكانها ولسة واخدة بالك.
صاح بها بصوت رجولي خشن: إنطقي يا سلوى... ماسة فين؟ قبل ماتحصل كارثة!
نظرت إليه سلوى بثبات، عيناها جامدتان: أنا بقول لك ماعرفش هي خرجت قدامنا كلنا، وقالت إنها رايحة على بيتها.
سكت مكي لحظة صمت مرّت كأنها دهر. في رأسه بدأت الصور تتلاحق: صناديق، خادمة غريبة، وسلوى التي حاولت منعه من تفتيشها وكأنها كانت تحاول لفت انتباهه. تذكر صوت الخادمة وهي تتحرك خلفه.
رفع يده وضرب جبهته، وتمتم: الخدامة... ماسة كانت الخدامة.
صرخ في نفسه: غبي!
ركض بسرعة إلى الخارج.
في الداخل، اقتربت سعدية من سلوى، ملامحها تعج بالقلق: فيه إيه؟ ماسة راحت فين؟
أجابت سلوى بجفاء: ماعرفش يا ماما..ما هي خرجت قدامكم أنا مالي؟
مجاهد تدخل بصوت مرتجف: لو تعرفي حاجة قولي... ما تسيبناش تايهين كده!
سلوى بغضب: هخبي إيه؟! أنا قاعدة قدامكم! أنا كمان قلقانة.
توقف مجاهد ونظر إلى سعدية: كلمي البت.. شوفيها راحت فين.
أمسكت سعدية الهاتف بسرعة: لأ... هكلم سليم.
مجاهد تحرك نحوها: لأ! ماتكلميش حد دلوقتي، نفهم الأول، بلاش نعمل مشكلة.
سعدية: طيب وبالفعل اتصلت بماسة،لكن هاتفها مغلق: مقفول، يا بنتي يا سلوى، لو فيه حاجة قولي!
سلوى ردت بضيق مصطنع: يووه!قلتلكم ماعرفش حاجة.
تركتهم ودخلت الحمام، أغلقت الباب وفتحت الماء كي لا يُسمع صوتها.أخرجت من جيبها الهاتف الذي أعطته ماسة لها قامت بالاتصال بها.
رفعت السماعة بصوت منخفض: أيوه يا ماسة، إنتي فين؟
أتاها صوت ماسة مرهقًا، يتردد صداه وسط ضوضاء محطة القطار: لسه داخلة محطة القطر يا ستي هركب قطر بيروح مرسى مطروح.
سلوى متعجبة: هتعملي إيه في مرسى مطروح؟!
ماسة باستهجان: الزفت ده قال لي أوصلي بس، وهقولك تعملي إيه...
سلوى: طيب بقول لك إيه مكي عرف خلاص إنك خرجتي... خدي بالك، ممكن يوصلك في أي لحظة انا هقفل التليفون أبقي طمنيني لما توصلي.
ماسة بقلق: طب أقفلي، أقفلي، عشان أكلّمه.
أغلقت ماسة الخط توقفت فى وسط المحطة. ضغطت الأرقام بيدين مرتجفتين واتصلت برشدي بعد ثواني رد: أيوه يا رشدي، أنا في المحطة ها روح أقطع التذكرة، مكي عرف إني خرجت، افرض ميعاد القطر لسة بدري أعمل إيه؟
رشدي متجمداً: شوفي أي قطر غيره طالع دلوقتي وأركبيه... ومن المحطة إللي هتكوني فيها، خدي من هناك لمرسى مطروح يلا إنجزي.
ماسة بقلق: حاضر حاضر.
تحركت حتى اقتربت من شباك التذاكر، وقلبها يدق بعنف
ماسة: لو سمحت، عايزة تذكرة لمرسى مطروح بس بسرعة.
الموظف: القطر بيطلع الساعة 11بالليل يا أستاذة.
ماسة بخوف: 11؟! لأ أنا عايزة حاجة طالعة دلوقتي، أي مكان، المهم أوصل مرسى مطروح.
الموظف: بصي يا بنتي، ممكن تطلعي قطر إسكندرية، طالع كمان 10 دقايق ومن هناك خدي مطروح.
ماسة: ماشي اروح إسكندرية.
دفعت النقود، أخذت التذكرة، وسألت عن رصيف القطار، ثم أسرعت إليه. جلست على المقعد، تنظر إلى ساعتها كل دقيقة، تدعو الله أن يتحرك القطار قبل أن يصل إليها مكي.
اتصلت برشدي مرة أخرى: أيوه يا رشدي، أنا في قطر إسكندرية، خلاص، هروح من هناك مرسى مطروح.
رشدي: جميل ماتروحيش بقى بقطر روحي بعربية بقولك إيه... نصيحة، غيري اللبس إللي إنتِ لابساه.
ماسة برفض قاطع: مش هركب عربيات تاني، لما أوصل هيبقى نص الليل القطر أأمن.
رشدي: أسمعي الكلام.
ماسة بضجر: لما أوصل إسكندرية، نبقى نشوف سلام.
أغلقت الهاتف، وأراحت رأسها على الزجاج، تدعو أن تمضي الدقائق سريعًا.
على إتجاه آخر في فيلا عائلتها
كان مكي يقف أمام الكاميرات، صاح بالحارس: افتحلي تسجيل الكاميرا من نص ساعة بسرعة!
ظهر التسجيل، ماسة تخرج مرتدية كالخادمة:
عايز كاميرات الشارع... إللي بعد الفيلا!
وبالفعل شاهدوا ماسة تتحرك في الشارع لكنها اختفت قال الحارس: لحد هنا وخلاص... مافيش كاميرات تانية.
مكي: خليك هنا.
خرج مكي. كان الحراس متوقفين: معايا يلا... هانشوف باقي الكاميرات إللي في الشارع لحد مانعرف ماسة راحت فين وركبت إيه.
راوية بصدمة: هي ماسة مش جوة؟!
مكي: هربت.
راوية بذعر: يا خبر إسود!
صاح مكي بها: مش وقت ندب.. يلا..
هرولا للخارج، وبالفعل انتشروا في المكان وبدأوا يتفحّصون تسجيلات كاميرات المحال والفيلات واحدة تلو الأخرى، حتى عثروا أخيرًا على كاميرا مثبتة في نهاية الشارع، تُظهر ماسة واقفة على الرصيف، تنتظر ميكروباص.
مكي: قربلي الصورة... عايز رقم الميكروباص!
امتثل الفني لطلبه، وقرّب له الصورة بقدر الإمكان.
أمسك مكي بورقة ودوّن الرقم بسرعة، ثم تحرّك نحو الباب قائلًا لراوية دون أن يلتفت: ماحدش يعرف سليم حاجة.
ركب سيارته بسرعة، وأثناء القيادة أرسل الرقم إلى أحد معارفه في الشرطة، طالبًا منه تتبّع المركبة.
وصلته الرسالة بعد دقائق: العربية دي بتوصل لرمسيس... تابعة للموقف هناك.
اتجه مكي فورًا إلى هناك، وبرفقته راوية وعدد من الحراس. وما إن وطأت قدماه المكان حتى صرخ بصوت جهوري هزّ الأرجاء:
دوروا عليها في كل مكان... دوروا على السواق ده!
صورهم معاكم على التليفونات، يلا... بسرعة!
بدأوا على الفور في سؤال السائقين وأصحاب المحلات المارة عن ماسة، لكن دون جدوى، دقائق مرت وكأنها دهر، حتى ظهر أحد الحراس يصطحب رجلاً تبدو على وجهه علامات القلق.
وقف أحد الحراس، وأشار إلى رجل يقف بالقرب من الميكروباص قائلاً باقتضاب: السواق، يا مكي باشا...
تقدّم مكي بخطوات سريعة نحو السائق، مدّ الهاتف أمام وجهه دون مقدمات، وحدّق فيه بعصبية:
أنا هسألك سؤال وتركّز فيه... شايف البنت دي؟
أظهر له صورة لماسة وهي ترتدي ملابسها التي هربت بها، وقد التقطتها الكاميرا وهي تنتظر على الرصيف. نظر السائق إلى الصورة وقد ارتسم التوتر على ملامحه.
تابع مكي بهدوء: هي ركبت معاك النهارده من حوالي ٤٠ دقيقة؟ شفتها
السائق وهو يشيح ببصره قليلاً: والله يا باشا ماشفتها... أصل أنا بركز على الأسفلت.
زفر مكي بضيق، ثم قال بصوت هادئ يخفي بركانًا داخله: ركز تاني...؟ ما خدتش بالك منها لمحتها؟ بص في الصورة دي كويس... طب استنى.
بدأ يقلب الصور في هاتفه حتى وصل إلى صورة لماسة بملامحها طبيعية، ثم مد الهاتف مجددًا نحوه:
خليك في دي... ركّز.
تأمل السائق الصورة لعدة ثوانٍ، ابتلع ريقه، وتمتم بصوت خافت: والله يا باشا، أنا ما ببصش على الركاب... أنا ببص على الطريق، والله ما شفتها، لو شفتها ها أقولك.
حاول مكي كتم غضبه، وشدّ على أسنانه: حاول تفتكر أي حاجة... طب في ست نزلت في وسط الطريق؟
هزّ السائق رأسه بعشوائية وقال بارتباك: والله فيه زباين نزلت وطلعت... ستات ورجالة... يا باشا الطريق طويل، ده أنا جاي من أكتوبر فوق.
لم يُجبه مكي، بل أشار له بالإنصراف في صمت. تراجع السائق بخطوات مترددة، فيما بقي مكي واقفًا في مكانه، يداه متدليتان، ونظره شارد، العالم من حوله يتهاوى، كل شيء تهاوى من بين يديه، وكأنه تائه في صحراء لا نهاية لها.
اقتربت منه راوية، وضعت يدها على كتفه وقالت بصوت خافت:
لازم نقول لسليم بيه إنها خلاص هربت إحنا حاولنا نداري، بس مش هاينفع نداري أكتر من كده إحنا مش عارفين يمكن ركبت عربية وسافرت، يمكن قطر، يمكن نزلت في وسط الطريق... لازم ندور على الكاميرات في كل مكان ممكن تكون راحت له، وده محتاج وقت، ومتهيألي لو طولنا أكتر من كده وماقلناش لسليم بيه، هاتبقى مصيبة، انت حاولت يا مكي، بس ماوصلناش.
مكي بصوت مبحوح: دي كارثة، كارثة! سليم مش،هيسامحني ومش هايرحمنا، ولا هايرحمهم، ولا هيرحمها هي، هي كده خلاص. فرصها خلصت، كل أبواب الصبر عنده اتقفلت. أنا عارف سليم... عارفه كويس.
طمأنته راوية: هنوصل لها، مادام الكاميرات جايباها هنعرف نوصل إسماعيل ممكن يساعد، وأنا أعرف ناس يقدروا يوصلوا لمعلومات.
مكي بقلق: أنا متاكد إننا هانوصل لها، أنا بس خايف من إللي جاي، ورد فعل سليم لما يعرف، بس فعلاً لازم أكلمه
تنهد بتعب، ثم أشار لها: تعالي، تعالي كده على جنب.
تحرك ببطء، واقترب من أحد الحراس، ثم أخذ هاتفه، واستعد للاتصال بسليم.
محطة القطار السادسة مساءً
القطار.
مازالت ماسه تجلس على المقعد تسند رأسها علي النافذة تحدق في السكة الممتدة أمامها كأنها تنتظر شيئًا لا تدري ملامحه، يديها على قدميها، لا تتحركان، بينما أنفاسها متسارعة، وعيناها لا تفارق عقارب الساعة في هاتفها.
كل ثانية تمر كأنها عام، وكل تأخير في إنطلاق القطار كأنه إعلان بالهلاك. أخيرا تحرّك القطار.
وهنا زفرت ماسة براحة: الحمدلله الحمدلله، يا رب... يا رب خليني أعرف أكمّل، قويني يارب..
همست بها لنفسها، وارتجف صوتها أول مرة تشعر أن شيئًا ما يبتعد، أن جدارًا من الحزن انكسر ولو قليلًا. لكنها رغم ذلك، لم تكن تعلم إلى أين تتجه، وماينتظرها.
أنا رايحة فين؟ هعمل إيه؟ طب بعد كده؟
تساءلت في سرّها، تحاول أن تسمع نفسها لتجد جوابًا، فلا تسمع سوى الصمت.
ظنت أن هذه الرحلة ربما تكون نهاية الألم، وربما بداية الخلاص، لكنها لم تكن تدري أن الطريق أمامها ليس طريق نجاة... بل بداية لعاصفة جديدة.
مجموعة الراوي، السادسة مساءً
مكتب سليم
جلس سليم خلف مكتبه، وعيناه تتنقلان بين الأوراق التي أمامه بتركيز بالغ. إحدى يديه تستند إلى جبينه بإرهاق والأخرى يدون بعض الاشياء.
لم يكن يعلم بعد... أن ماسة قد هربت للمرة الثانية.
على إتجاه آخر عند مكي
كان يتوقف في الشارع راوية والحارس إلى جواره والقلق بادٍ عليه.
الحارس بقلق: يا باشا بلاش نقوله دلوقتي... ده ممكن عقله يطير.
رفع مكي الهاتف إلى أذنه، صوته خرج بالكاد متماسكًا بصعوبة: لازم نقوله... استحالة نفضل مخبيين.
كان يعلم أن هذا الخبر سيكون كارثيًا على سليم.
في الوقت ذاته، رنّ الهاتف على مكتب سليم. سحب سليم نفسًا عميقًا، ثم أجاب دون أن يرفع عينيه عن الأوراق:
إيه يا مكي؟ لسة ماتحركتوش من الفيلا ليه كل ده؟
تلعثم مكي، يحاول السيطرة على صوته المرتعش:
أحم... في حاجة... لازم أقولك عليها.
ضرب سليم القلم فوق المكتب بملل: خير؟ مالها؟ مش عايزة ترجع معاك؟
ابتلع مكي ريقه، قال بتردد: يا ريت كده... بس
سليم بشدة: ماتخلص يا مكي! في إيه؟!
جاء صوت مكي خافتًا، مرتعشًا: سليم، ماسة هربت.
توقف سليم فجأة كمن لدغته صاعقة، اتسعت عيناه، وجحظتا من مكانهما: بتقول إييييه؟! ماسة إيه؟!
حاول مكي أن يشرح، لكنه لم يتمكن من النطق.
ما... ما..
قاطعه سليم بانفجار غضب: إنت هتمأ مأ؟! كنت فين وهي بتهرب؟! ياويلك يا مكي.. لو ماسة ماظهرتش، رقبتك هتكون التمن!
أنهى المكالمة بعنف، وإندفع خارج المكتب كالإعصار.
في الردهة، لمحته فريدة واقتربت منه مسرعة:
في إيه يا سليم؟ مالك؟
لم يجب. دخل المصعد بسرعة، هبط، وأنطلق كالمجنون بسيارته التي تكاد عجلاتها تحطم الطريق .
وخلال القيادة، ضغط على هاتفه: إسماعيل! إنت فين؟
جاءه صوت إسماعيل من غرفة نومه في منزله، حيث يجلس إلى جوار زوجته عبير المستلقية على الفراش، وقد بدا عليها المرض، كان يطعمها بيده.
إسماعيل موضحًا: أنا في البيت أصل عبير تعبانة و...
قاطعه سليم بشدة: أسمع، حالًا تسيب كل حاجة وتدور على ماسة، هربت.
وأغلق الخط دون أن ينتظر ردًا.
تنهد إسماعيل وهو يضع الهاتف جانبًا. نظرت إليه لبنى: ده سليم؟
إسماعيل مندهشا: أها، بيقول مراته هربت.
ضيقت عبير عينها بتعجب: هربت ليه؟ في واحدة تهرب من سليم الراوي؟
تبسم إسماعيل: ماتتغشيش أوي كده، سليم صعب.
عبير بطمع: إسمع، إنت لازم تروح تدور عليها.
إسماعيل متعجبًا: إزاي يعني؟ إنتي تعبانة، هعتذر له.
عبير بنصح: لأ، أوعى. ده اتصل بيك إنت دونا عن الكل دي فرصتك، لازم تستغلها، ولو وصلتلها، هتاخد عينه وثقته، ومكي هيتركن على الرف.
إسماعيل: عبير إنتي تعبانة، أسيبك إزاي؟
عبير بفحيح أفعى: أنا كويسة، ماما هتيجي عندي، إنت يا حبيبي لازم تصطاد فرصتك دي، علشان تقرب من سليم، لما تجيبها أكيد فيها مبلغ كبير وقبل المبلغ فرصتك... لازم تثبت نفسك قصاده وتفهمه إن رجّالته مالهمش لازمة، وإنك إنت رجله الأول، مش مكي إللي ماسة ضربته على قفاه وهربت منه.
إسماعيل هز رأسه وقد طاب له الحديث: عندك حق، لازم أقرب من سليم، لإنه الملك الجديد وسليم مابيديش ثقته لحد بسهولة، هقوم ألبس وأكلم أمك تيجي عندك.
طبع قبلة على جبينها، وتحرك ليبدل ملابسه، قالت له وهي تبتسم: طول عمرك حنين يا حبيبي، إن شاء الله توصلها بسرعة.
أما عند مكي كان يقف في الشارع بعد إغلاق الخط مع سليم، فقد كان يغلي من الغضب، يشعر أن هروب ماسة بسببه لإنه لم ينتبه لها، ولم يقم بعمله على ما يرام، ولم يستحق ثقة سليم.
شعور بالذنب كان ينهشه، تنهد ومسح وجهه، ثم أشار بيده:
يلا، خلينا نرجع الفيلا بسرعة قبل ما سليم يوصل.
صعدوا إلى السيارة وتحركوا فورًا.
أما سليم، فكان يقود السيارة بجنون.
أخذ يضرب دركسيون القيادة بيده، يصرّ على أسنانه، يتنفس كوحش جريح، يهتف بصوت مجروح:
ليه يا ماسة؟ ليه؟ ليه وصلتينا لكده؟ مابتحرميش إنتي مصممة تخرجي أوحش نسخة فيا لييييه؟! ماشي يا ماسة ماشي.
بعد وقت ..
وصل سليم أمام فيلا عائلة ماسة، أوقف السيارة بعنف، وترجّل كالمجنون. كان مكي واقفًا ينتظره، يقطر توترًا.
بمجرد أن وقعت عينا سليم عليه إندفع نحوه كأسد غاضب فك من عقال أسره.... استوووب
رجاء محدش ينسى يضغط لايك علشان تساعدوا الرواية تنشهر يا فرولاتي
تفتكروا سليم هايعمل فيهم إيه وبكدة ظهرت شخصيته القديمة إللي كانت موجودة قبل الفلاش باااك.
الفصل الثالث والسبعون ج1 من هنا