رواية الماسة المكسورة الفصل الثالث والسبعون 73 ج1بقلم ليله عادل
رواية الماسة المكسورة
الفصل الثالث والسبعون 73 ج1
بقلم ليله عادل
{"لا، لم أكن أرغب في عودة تلك الشخصية إلى حياتي. كنت أريد حياةً مختلفة... كانت لديّ أمنيات، أحلام، أشياء كنت أتوق إلى عيشها. لكن يبدو أن ليس كلّ ما نريده يتحقّق. لم أرغب فيما حدث، ولم أُرد أن أفعل ما فعلت... لكنني أُجبرت. لا أحد يملك الحق في معاتبتي، فأنا لست سوى ردّ فعل. أنا نتاج ما فُعل بي من قسوة. قلبي الذبيح الآن يحاول فقط أن يستريح..يحاول أن يحافظ على ما تبقّى له من كرامة "}
[ بعنوان: رد فعل ]
هبط سليم من السيارة، وبمجرد أن وقعت عيناه على مكي اندفع نحوه كالأسد الغاضب الذي ينقض على فريسته، ينهشها بلا رحمة، أمسكه من عنقه في موضع الخنق، وبحركة سريعة دفعه إلى مقدمة السيارة، ضغط عليه بكل ما أوتي من غضب.
وصوته خرج كالرعد، وملامحه تهدر من شدة الغيظ، عيناه يتطاير منهما الشرار وعروقه نافرة قال:
إزاي هربت منك يا مكي؟ إزاااي؟ هتدفع الثمن غالي يامكي مش إنت بس، كلكم.
لم يحاول مكي المقاومة، ظل صامتًا، يعرف سليم حين يثور، لم يجرؤ حتى على النظر في عينيه، كان يشعر أن روحه تزهق بسبب تلك الخنقة، لكنه استسلم تمامًا.
أكمل سليم صائحا في وجهه: رد عليا يا مكي!
مكي بصوت مرتعش بخنق: الموضوع حصل في لمح البصر، إهدى خليني أشرحلك.
أفلت سليم عنقه بعنف، لكنه لم يهدأ: هتقول إيه؟إنها استغفلتك وهربت، خسارة يامكي خسارة؟
نظر للجميع وأشار بأصابعه وهو يهدر: كلكم هتتحاسبوا حساب عسير على إللي حصل ده! وادعوا ربنا إني ألاقيها، عشان لو مالقيتهاش، رقاب أهاليكم هتبقى التمن.
اعتدل مكي بصعوبة وتوقف، يتحسس رقبته، قال بصوت مكسور: إنت ليك حق تعمل أكتر من كده، بس ماسة أذكى من مما كنا متخيلينه.
سليم بغضب: بلاش الكلام الخايب ده!
في تلك اللحظة، توقفت سيارة، هبط منها شاكر ومعه عشري وبعض الرجال.
إلتفت إليهم سليم، عيناه مشتعلة: شاكر، هتدخل معايا جوه برجالتك، عشري، تستناني هنا، وكلم عثمان والرجالة، خليهم يجهزوا.
ثم نظر إلى مكي بنبرة خذلان حاد أضاف: ومكي من اللحظة دي إجازة، يلا على البيت يا حبيبي.
رفع مكي عينيه بصعوبة، يعلم سليم جيداً ويعرف ماذا سيفعل قال بصوت منخفض: سليم إللي ناوي تعمله مش هينفع، القرارات الانفعالية دائماً بتودي في داهية.
رمقه سليم بنظرة باردة، صوته هادئ لكنه يقطر مرارة: مكي أنا مش عايز أخسرك، علشان كده مش لازم تكون معايا في أي حاجة هعملها من اللحظة دي.
مكي محاولا تهدئته،: طب إسمعني.
قاطعه سليم بنبرة ونظرة شرسة: لا مش هسمع إزاي هربت منك، ولا حتى عايز أعرف إنك راجعت الكاميرات وماوصلتش لحاجة، أنا عارف إنك حاولت، واتصلت بيا بعد ماعملت كل إللي تقدر عليه.
مكي بصوت خافت: أنا عارف إني غلطت، بس صدقني أنا مش.
قاطعه سليم فجأة، ثم استدار: بدل ماتحكيلي، روح دور عليها أفضل ليك عشان العد التنازلي بدأ.
أكمل بنبرة لا تحتمل النقاش بأمر: عشري! مكي مايدخلش من على البوابة مهما حصل.
عشري بثقة: تمام يا ملك، هنفذ إللي إنت عايزه.
وإندفع سليم إلى داخل الفيلا، والنار تتأجج في صدره.
اقترب مكي من عشري وقال له بتحذير: عشري سليم مش ناوي على خير لو وصل لها مش هايسيبها ولا هايسيبهم جوه، أنا عارفة، صحصحله وحاول توقفه عن جنانه.
عشري وهو يربت على ظهره: ماتقلقش أنا فاهم الكلام ده وإنت حاول توصل لحاجة علشان الملك دلوقتي زي الأسد المسعور.
دخل سليم إلى الفيلا مصحوبًا برجاله المسلحين، كما لو أن إعصارًا داهم المكان دون سابق إنذار لم يكن يرحم من يعترض طريقه، ولا يأبه بردّات الفعل، لم يسبق له أن اقتحم فيلا عائلة ماسة بهذه الطريقة القاتلة.
حاصروا المكان من كل جانب، أعينهم تترصّد كل حركة، وكل نفس.
غرفة الليفنج.
جلس كل من سلوى وعمار ومجاهد وسعدية، يتبادلون أطراف الحديث في توتر، قبل أن يتجمد كل شيء، لحظة واحدة فقط كانت كفيلة بقلب الموازين؛ حين انفتح الباب بعنف، ودخل سليم كعاصفة ثائرة.
ارتبكت سلوى بخوف، تجمّدت سعدية في مكانها، توقف عمار وهو يتلفت يمنةً ويسرةً بقلق، بينما مجاهد لم يفهم مايحدث الدهشة تملأ الوجوه.
دوّى صوت سليم الجهوري الرجولي في أرجاء الفيلا: فين سلوى؟ سلوى فين؟
سعدية بتوتر: خير يا سليم؟ في إيه؟
عمار متعجبا: إيه إللي بيحصل؟
مجاهد بقلق: في إيه يا ابني مالها سلوى عملت إيه؟
لكن سليم لم يُعر أيًا منهم انتباهًا، ويده لا تزال قريبة من سلاحه، يتحرك نحو هدفه فقط، وما إن وقعت عيناه على سلوى، التي كانت تجلس على المقعد، حتى توقّف أمامها، حاولت النهوض، إلا أنّه مدّ يده فجأة ودفعها برفقٍ حاسم من أعلى صدرها، جلست مكانها، حاصرها بجسده الثقيل، وضع يده اليمنى على ذراع الكرسي الأيمن، ويده اليسرى على الجانب الآخر، وأطبق عليها.
سليم بصوت منخفض، بنبرة باردة قاتلة وهو يحدّق بعينيها: ماسة فين يا سلوى؟
رفعت سلوى عينيها إليه، حاولت أن تتماسك، لكن صوتها خرج بالكاد: ماعرفش.
أغمض سليم عينيه، عضّ على أسنانه بقوة، ثم فتحهما ونظر إليها بنفس البرود القاتل: مش هقولك تاني، ماسة فين يا سلوى؟
لم يُعجب عمار المشهد، اقترب منه بخطى ثابتة، ووضع يده على كتف سليم قائلًا بنبرة رجولية:
إيه إللي إنت بتعمله ده؟ أبعد عن أختي، إنت في بيت رجالة، بتتكلم كده ليه؟ في إيه؟
فجأة ألتفت سليم بسرعة، دون تردّد، ولكمه في وجهه لكمةً عنيفةً أطاحت به للخلف من قوتها.
صرخت سعدية: يالهويييي... ابني!
وقبل أن ينهض عمار من الأرض ويهمّ بالرد، كان رجال سليم قد أمسكوا به، وأغلقوا الطريق على الجميع، وقوفهم الحازم كان رسالة واضحة.
رفع سليم صوته بقوة: مش عايز أسمع صوت حد، ماسة فين؟
تقدّمت سعدية بخوف وارتباك، وعيناها تترنحان بين الدهشة والرعب: إيش عرفنا؟ ما هي روحت من شوية قدّامنا!
أقترب منها سليم بعنف، وصوته اتخذ نغمة أثقل:
بنتك ماروحتش، بنتك هربت للمرة التانية بمساعدة أختها.
شهقت سعدية واتسعت عيناها: بتقول إيه؟
أجاب بجمود دون أن يرمش: إللي سمعتيه يا سعدية، إللي سمعتيه.
عاد إلى سلوى واقترب منها، إنحنى بجسده نحوها، أغلق عينيه للحظة وكأنّه يستجمع الهدوء ثم فتحهما وقد غطّى السواد نظراته: من تاني يا سلوى، ماسة فين؟
أجابته سلوى وهي تقاوم الغضب، تتحدث من بين أسنانها: قلتلك معرفش.
ابتسم سليم، ضيّق عينيه وهو يقبض على كفّيه: مش خايفة يحصل لها زي إللي حصل قبل كده؟
ردّت بصوت ثابت رغم توترها: مش هيحصلها حاجة، وبجد معرفش، كل إللي أعرفه إنها مشيت، بس ماقالتليش رايحة فين.
النار اشتعلت في صدره، حاول ضبط أنفاسه، ليبقي الغضب حبيسًا.
سليم وهو يعتدل في وقفته، نبرته أكثر برودة: كدة حلو أوووي، خسرِتي فرصتك الأخيرة.
أضاف بحدة: أنا هعرف أوصل لها بطريقتي، بس ساعتها، هندمك يا سلوى.
إلتفت نحو سعدية ومجاهد، وصوته امتلأ بالتهديد:
ولو عرفت إن حد فيكم ساعدها، والله يا سعدية، لعيّشك عمرك كله ندمانة إنك ساعدتيها.
ثم نظر لعمار، وعيناه ترعدان: وإنت؟ إنت بالذات، تبعد عني أحسنلك، حبيت توريني الرجولة؟ الرجولة دي بتتعلّم عندي، خد بالك لو فكرت تعيد إللي كنت ناوي عليه تاني، سكت لحظة وتبسم بسخرية تابع بنبرة تحمل في طياتها الكثير: خليها مفاجأة، أنا بحب المفاجآت.
أشار للحارس بجانبه قال بأمر: شاكر، محدّش فيهم يخرج من الفيلا، لا الجنينة ولا غيرها، كله ممنوع، لحد ما أدي أوامري الجديدة، اسحبوا تليفوناتهم، كلها، أشار نحو سلوى، ودي بالذات، تليفونها أول واحد.
صرخت سعدية، وقد تملكها الفزع: هو إيه إللي بتعمله ده يا سليم؟
صاح سليم بها بقسوة: بعمل إللي كان لازم أعمله من زمان، يا سعدية، ولما تيجي تتكلمي معايا تتكلمي بصوت واطي فاهمة؟!
اقترب منها خطوة، وقال: ونصيحة لو عارفة مكان بنتك، قولي لها ترجع برجليها، عشان لو أنا اللي جبتها، زي ما النهاردة خسرت أختها، هتخسركم كلكم.
كادت سلوى أن تتحدث، ففهم نيّتها، وسبقها ونظر إلى الدبلة في يدها بنبرة جافة لا تحتمل النقاش: ششش، إنتي بالذات ماتتكلميش، أنا إللي مانعني عنك الدبلة إللي في إيدك، بس أوعي تعتمدي على ده، عشان أنا مابيهمنيش.
أكمل بنبرة قاسية مليئة بالتهديد: أنا لحد دلوقتي بحاول أصون العِشرة والعيش والملح، لكن لو ماسة ماظهرتش وعرفت إنكم عارفين وساعدتوها، أنا أهو بكرر تاني، ساعتها يا سعدية، وإنت يا مجاهد، هخلي اللون الأسود يبقى لونكم المفضل، ووقتها مش هعرف ها أبدأ بمين، ممكن نعمل قرعة، لإن الاختيار هيكون صعب وقتها بس الأكيد الندم هيكون أعز اصدقائكم.
قال كلماته الأخيرة وبدأ بالتحرك بينما تمتمت سلوى مصدومة: ده فعلاً بيهددنا.
وأثناء توقف سليم عند الباب، أشار بإصبعه لشاكر الذي اقترب سريعًا، قال في أذنه بنبرة صارمة:
بالراحة عليهم، محدش يضايقهم وماتتكلمش معاهم، أنا بس عايز ودانك مفتوحة حط ميكروفونات من غير ماياخدوا بالهم، عينك ماتترفعش من على سلوى بالأخص، وتاني مش هقولك محدّش يضايقهم، ولا حد يعمل لهم حاجة، سيبهم يتحركوا في الفيلا زي ما هما عايزين بس مايطلعوش برة الفيلا؟ يتعاملوا كويس، مش عايز غلطة.
شاكر بطاعة: تمام يا باشا، أنا عارف، ماتقلقش.
توجه سليم للخارج وكان في إنتظاره حراسه وإسماعيل قد جاء.
اقترب عشري منه مسرعاً: أوامرك يا ملك.
سليم بنبرة هادئة: مكي فين؟
عشري وهو ينظر بعينه نحو السيارة: في العربية.
نظر سليم لراوية: رواية خليكي هنا وراقبي سلوى.
وهنا اقترب إسماعيل من سليم: ماتقلقش يا سليم هجيبهالك أنا شفت الكاميرات هي ظاهرة شوية، هتابع باقي الكاميرات كلها لأنها للأسف قافلة تلفونها أنا والله سبت مراتي تعبانة جداً علشان خاطرك يا سليم.
قاطعه سليم بنبرة بها غلظة: أنا مش جايبك عشان تحكي لي أخبارك وأخبار مراتك، أنا جايبك علشان تنفذ شغلك من غير كلام كتير.
إسماعيل بجدية: طب أنا محتاج أستجوبهم.
سليم برفض تام: تؤ، ده آخر حاجه ممكن تعملها، إنت هاتدور ولو ماعرفتش دي هاتبقى آخر وسيلة ممكن تعملها مالكش دعوه بيهم يا إسماعيل..
صمت لحظات ثم قال: مافيش أي معلومات.
اسماعيل موضحا: لسة أنا قعدت مع مكي وفهمت منه شويه حاجات وشفت الكاميرات بس لسه هكمل هتبقى عندك خلال ساعات خلي عندك ثقة فيا.
سليم بتهديد صريح وهو ينظر داخل عينه: هي لازم تبقى عندي لأنها لو مابقتش عندي كلكم هاتدفعوا الثمن بلا استثناء والثمن هيبقى بأغلى ماتملكون إنت عارف سليم بيعرف ياخد حقه إزاي، يلا اتحرك واقف ليه.
تحرك إسماعيل مهرولا ليقوم بمهامه، بينما تحرك سليم فتح باب السيارة وجلس بجانب مكي الذي يجلس محل القيادة وهو ينظر أمامه، كاد مكي أن ينطق.
أوقفه سليم بهدوء وبنبرة قاتلة وهو ما زال ينظر أمامه أشار بيده: إطلع.
تنهد وأخرج أنفاسا ساخنة، وبالفعل تحرك مكي دون حديث كان الصمت مخيما عليهما طول الطريق.
على إتجاه آخر في فيلا عائلة ماسة.
بعد خروج سليم، أحاط رجاله بالمكان كالسياج الحديدي.
كانت سعدية، ومجاهد، وعمار في حالة من الذهول، خصوصًا عمار، الذي تحولت عينه إلى قطعة زرقاء منتفخة إثر لكمة سليم، لم يكن الألم في الضربة وحدها، بل في الإهانة أيضًا.
اقتربت سعدية من سلوى، والغضب يتطاير من عينيها صاحت بها: فهميني إللي حصل! ولو قلتيلي ماتعرفيش حاجة، والله لهديكي على وشّك، إنتوا لسانكم جوّة لسان بعض! إنطقي يابت..
سلوى بصوت مرتعش: قلتلك ماعرفش.
لم تكمل سلوى حديثها، إذ صفعتها سعدية فجأة بقوة على وجهها وأمسكتها من شعرها: إنطقي يا بت الك"لب! إيه إللي حصل؟ أختك هربت ليه وراحت فيـــن.
نهض عمار مسرعاً وحاول إبعادها: ياما أوعي ياما هو ده وقته.
حاولت سعدية أن تهجم على سلوى لكن عمار قام بصدها والوقوف أمامها..
صرخت سعدية معنفة: خليها تنطق، والله هي عارفة كل حاجة،ما تقوم يا مجاهد، قوم شوف البت إللي محدش قادر عليها دي بقت عينها قوية، هي وأختها فجرووا.
ألتفت عمار لسلوى وقال بصوت عالي بغضب: يا ستي لو عارفة حاجه قولي وخلينا نخلص.
سلوى، وهي تبكي: ماعرفش حاجة! كل إللي عرفاه إنها عايزة تمشي، بس ماقالتليش هتروح فين؟! كانت عايزة تبعد عنه، عشان إللي إنتوا شوفتوه ده، سليم بقى بيضربها وبيهددها ومبهدلها طول الوقت، بس هي كانت ساكتة ساكتة لحد ماخلاص فاض بيها.
سعدية بصوت متهدج: قولي حق الله!
سلوى بتهكم: عايزة الحق؟ سليم ومكي الاتنين أزبل من بعض..
تابعت همسًا بين أسنانها، وهي تنظر إلى الرجال الذين يحيطون بهم: أنا مش قادرة أتكلم، في ناس واقفة وبتسمع كل حاجة.
سعدية، بصوت مخنوق: أستغفر الله العظيم يا رب لا حول ولا قوة إلا بالله، كان مستخبي لنا فين ده يا رب لا إله إلا الله، يا رب لو كابوس فوقني منه، فوقني يا رب.
ثم اتجهت نحو عمار، ومدّت يدها إلى خده: إنت كويس يا ابني؟
صاحت فجأة: إنتي! يا زفتة إللي اسمك إنجي، هاتي تلج بسرعة!
عمار بصوت مبحوح من الغضب: والله العظيم ماهسيبه، إللي عمله ده مايتسكتش عليه!
صرخت سعدية: إنت تسكت خالص لحد مانفهم إيه إللي بيحصل! هتعمل إيه؟! ده سليم الراوي يا حبيبي، عارف يعني إيه سليم الراوي؟هو إحنا قدهم إحنا مداس ليهم، حسبنا الله ونعم الوكيل.
صاح مجاهد بغضب: ماتسكتي يا ولية بقى خلينا نفكر في البت إللي اختفت دي، يا ترى راحت فين ولا حصل لها إيه؟! ليه يا ماسة كده؟ ليه يا بنتي؟!
في تلك اللحظة، اقترب شاكر، الذي كان واقفًا يستمع لكل ما قيل: أنا من رأيي تتكلموا مع بعض وتفهموا سلوى، يمكن تقول أي حاجة، يمكن الباشا يخف عنكم، لإن إللي جاي، أصعب من إللي هتتخيلوه.
سعدية بنبرة تهديد:إيه إللي إنت بتقوله؟ هو إنت بتهددنا؟
شاكر بهدوء مريب: أنا بس بديكم فكرة عن إللي ممكن يحصل.
جذبت سعدية سلوى من يدها: تعالي معايا!
وقف شاكر أمامهما: رايحين فين؟
سعدية بتهكم: هندخل الحمّام، ولا ممنوع.
فتح شاكر الطريق: اتفضلي يا هانم ياريت تعقليها وتخليها تتكلم.
نظرت له سعدية دون أن تتفوه بكلمة وتحركت.
داخل المرحاض
توقفت سلوى وسعدية أمام بعضهما، كان يبدو على ملامح سعدية الغضب الشديد.
سعدية: إنطقي بدل ما أموتك هنا، أهو بقينا لوحدنا قولي أختك فين؟!
سلوى بصوت منخفض: هو إنتي فاكرة كده إنهم هيسيبونا؟ ممكن يكونوا واقفين بيتصنّتوا على الباب.
سعدية، وكأنها ترجوهًا: يابنتي ريحي قلبي، فهميني أختك هربت ليه؟ شافت لها شوفة تانية؟ ها، قولي! أنا بس عايزة أفهم أي حاجة!
صرخت سلوى بغضب بصدمة: شوفة تانية؟! إيه إللي بتقوليه ده عيب يا أمي، حرام عليكي، دي ماسة بنتك وتربيتك!
سعدية وهي تصرخ: لا يا ختي، مش تربيتي! تربية جوزها وأهل جوزها، بنتي إللي خرجت من باب سرايا منصور ماتعملش إللي عملته ده! قولي يا بت، بدل ما أدبح،ك، قولي أختك فين؟ جوزها لو لقاها هيموّتها! قولي!
سلوى بإصرار: قلتلك معرفش غير إللي قولته! ماسة مشيت، بس مش عارفة راحت فين!
سعدية بتعجب: وإيه حكاية هربت للمرة التانية دي؟ قولي يا سلوى، ويمين الله لو مانطقتيش بحق، لأكون مبهدلاكي!
تنهدت سلوى: هربت مرّة قبل كدة، وسليم لحقها يوم الحفلة.
صرخت سعدية: الله يخرب بيتك على بيتها! فيها إيه يعني لما تتضرب ولا تاخد بالجزمة؟! مانسوان كتير بتتضرب! هتبقى أحسن مني يعني؟ما إحنا ياختي عايشين أهو وشايلين الهم فوق دماغنا وراضيين، طلعالنا فيها ليه؟!
سلوى بضجر: ماما إنتي مش فاهمة حاجة! بقولك سليم بيضربها وبيهددها! هو ده الإنسان إللي هي عايشة معاه! حتى بعد ماشفتي بعينك مش مصدقة؟! وعايزاها تستحمل؟! هتصدقي إمتى؟لما يد،بح لك بنتك!؟ إحنا عيالك، أوقفي في صفنا مرّة!
سعدية باستهجان: أنا أصدق إللي بشوفه بعينيا، وسليم ده كان نسمة!
سلوى بقوة: بالظبط كان، وكان خلص! ولازم تصدقي! وبكرة تعرفي إللي عملته ماسة هو الصح، إنتي لسه لحد دلوقتي ماتعرفيش مين"سليم الراوي"! لازم تعرفي إني كمان هسيب مكي! علشان هو نسخة منه! وأعملي إللي تعمليه، إن شا الله تموتيني، مش فارق معايا بس انا أهو بقولك أنا ومكي انتهينا.
خرجت وتركتها، بينما كانت سعدية واقفة، غير مستوعبة ما يحدث...
هضبة المقطم الثامنة مساءً
هبط سليم من السيارة، خطواته ثقيلة وساخطة، والغضب يتأجج في عينيه كجمرٍمشتعل،بينماالحراس توقفوا على الجانبين، يراقبون عن بعد، وقد تجمّدت نظراتهم بين الترقب والدهشة.
ما إن أغلق سليم الباب خلفه، حتى إلتفت صوب مكي، وبلا مقدمات، ضربه في وجهه بروسية" عنيفة، أطاحت به إلى الأرض بقوة، وسط ذهول الحراس الذين لم يجرؤ أحدهم على الاقتراب أو التدخل.
اندفع سليم فوقه، ينهال عليه باللكمات كأنها طعنات مشتعلة، وصرخ بصوت مجروح، يغلي بالغضب:
أنا كنت سايبها معاك علشان تحافظ عليها إنت بالذات.
وجه له ضربة أخرى، أكثر قسوة، ارتد منها رأس مكي إلى الجانب وهو يسترسل: مش عشان تسيبها تهرب! إزاي ده حصل؟! إزاي تسيبها تهرب منك؟!
لم يحاول مكي المقاومة، اكتفى برفع ذراعيه ليحمي وجهه، يتلقى الضربات بصمت، يتألم داخليًا، لكنه لم يصرخ قال: إضرب يا سليم، إضرب براحتك، مهما تضرب فيا، ومهما تقول، مش هالومك، حقك تعمل اكتر من كده، بس والله العظيم، أنا ماخنتكش ولا أهملت، إنت عارف إني مستحيل أخذلك.
توقفت يد سليم في الهواء، كأنها تاهت بين الرغبة في الانتقام والوجع المكتوم، جسده تجمّد، نظراته اشتعلت بنار حادة، تخترق الأرض ولا ترحم، صدره يعلو ويهبط بأنفاس متقطعة، وأسنانُه تصطك من فرط التوتر.
ذاك هو مكي، صديقه الأقرب، ظله، ومرآته التي يعرفها أكثر مما يعرف نفسه، كيف يضربه؟ كيف يرفع يده على من كان يومًا ظهره وسنده؟ هو يعلم، يعلم أن مكي لا يمكن أن يهمل في عمله، لا عن ضعف، ولا عن خيانة، لكن الغضب أعمى، والشك سمّ، والكبرياء حين يُجرَح لا يرحم.
وفجأة، صرخ سليم. صرخة عالية، مفجوعة، كأنها خرجت من أعماق قلبه المنكسر صرخة رجل لم يحتمل ثقل الظنون ولا وجع الخذلان، حتى وإن لم يقع بعد.
ابتعد عنه، وأدار وجهه جانبا، كمن يحاول أن يمنع نفسه من المزيد، لحظة صمت الحراس لا يزالون يراقبون، أنفاسهم معلقة، لا يجرؤون على الحركة.
مكي، وهو يتكئ على كوعه، قلب جسده للجانب الآخر وقال بنبرة ساخرة، محاولا أن يخفف وطأة الضرب: خلاص خلّصت كل غضبك؟ ولا تحب تديني بوكس في الجنب ده؟ مش مضروب كويس!
أخرج سليم منديلاً صغيرًا من جيبه، وألقاه على الأرض بجانبه دون أن ينظر إليه: إمسح دمك، وقولي، إيه إللي حصل؟
أخذ مكي المنديل، ضغطه على أنفه، وبدأ يمسح الدماء ببطء، يتحدث بصوت متهدّج بين كل كلمة: مافيش سلوى طلعت بره، عملت مشكلة على الصناديق، ومن ساعتها، الدنيا اتشقلبت
سرد له كل شيء، بدقة وتفاصيل متلاحقة، حين انتهى، نظر إليه وقال بسخرية باهتة: نفسي أعرف بتجيب الأفكار دي منين؟
سليم، وعيناه ثابتتان في الفراغ قال بإستفزاز: واخداه من الأفلام، ما هي قاعدة طول الوقت، ٢٤ساعة فاضية، ماوراهاش حاجة، بس أقسم بالله، المرة دي ماهسامحها.
مكي، وهو لا يزال يمسح وجهه، تمتم بصوت خافت:
أنا المرة دي مش هقولك حاجة، هي ملهاش أي حق تعمل إللي عملته، خصوصًا بعد إللي حصل معاها، في حاجة كمان لازم تعرفها...
تنهد بتلعثم قليل:
ماسة حاولت تهرب قبل كده، يوم مشكلة الصيدلية، بس تراجعت في آخر لحظة، مارضيتش أقولك وقتها، كانت مستأمناني على سرّها، ساعتها قالت لي إن الأفكار دي طالعة من واحدة صاحبتها، ممكن نراجع الكاميرات، نشوف أصحابها، نسألهم.
اقترب منه سليم، نظر إليه للحظات بعينين جامدتين، إلتقط حفنة من التراب من الأرض، وألقاها عليه، في صمتٍ قاتم.
نهض وهو يقول: طب يلا، قوم. خلينا نشوف صحباتها الأول، ونراجع الكاميرات.
مدّ له يده ليساعده على النهوض، وأضاف بنبرة متماسكة تخفي الغليان: ولا أوديك المستشفى الأول؟
نهض مكي بصعوبة، أنينه يفضح آلامه، قال وهو يتنفس بثقل: أنا تمام، بس إيدك تقلت جامد.
أسنده سليم وبدآ في التحرك معًا، خطواتهما ثقيلة،
سليم يتمتم ببرود: إحمد ربنا إني سبتك عايش.
وبينما يقتربان من السيارة، أضاف بتساؤل دون أن يلتفت إليه: تفتكر راحت فين؟ سلوى عارفة، بس مش عايزة تقول، مارضيتش أضغط عليها، علشانك وعشان ماسة.
أومأ مكي و وضع يده على ضلعه: أيوه، عارف إنها عارفة، ووقتها كانت غريبة فعلاً، هي مش عايزة تقول وأنا برضو محبتش إتك عليها وأخليها تقر، في الأول وفي الآخر دي سلوى زي ماقلت، خلينا نشوف صحابها الأول، يمكن راحت عند حد منهم.
هزّ سليم رأسه بيقين: لا، مش هتبقى عند حد منهم، بس ممكن يكونوا عارفين وساعدوها.
صعدا إلى السيارة. جلس سليم خلف المقود، بينما جلس مكي بجانبه، فتح سليم هاتفه وأتصل بعرفان: عرفان، أنا عايز فيلا فاضية فورًا، في طريق إسكندرية أو الإسماعيلية، عايز تجهيزات خاصة، أكبر من فيلا المريوطية... لا يا حبيبي النهاردة تبقى موجودة اتصرف اتشقلب، إن شاء الله حتى تقولك تعزيمة وتجيبلك عفريت يجيبلك الفيلا مايخصنيش تجيبها إزاي.، المهم تجيبلي.. وأسمع في شوية تفاصيل كده هبعتها لك برسالة عايزها تبقى موجودة في الفيلا مفهوم؟ أغلق الخط، وأتصل بآخر:
إيه يا إسماعيل وصلت لحاجة؟ يعني إيه لسة؟! كل مالوقت بيعدي مش حلو عشانك.
أغلق الخط بعصبية، وألقى الهاتف على التابلوه بعنف.
إلتفت مكي إليه،تساءل بقلق: هو إنت هتعمل إيه؟
سليم وعيناه لا تفارقان الطريق قال بنبرة مستفزة من الوجع: مش هي بتقول عليا سجان، بما إنها بتحب دور المسجونة، نحققلها أمنيتها ونوريها المسجونات بيتعاملوا إزاي.
قاد سليم السيارة، يتبعه الحراس في صمتٍ ثقيل أمّا النار في قلبه، فما زالت مشتعلة، ولن تنطفئ قريبًا.
لم ينطق مكي، ولم يعلّق. تركه ينفّذ ما يشاء، فهو يعلم جيدًا أن سليم الآن كبركانٍ خامد، يلتهم كل مايعترض طريقه، وإن تجرأ على الاعتراض أو حتى التعليق، فقد يشعل نارًا لا تُطفأ، وربما يتضخم الأمر أكثر مما يحتمل فأختار الصمت، على أمل أن تهدأ نيران سليم.
توجّه الاثنان إلى القصر، تتزاحم في صدريهما الأسئلة. راجعا تسجيلات الكاميرات بدقة حتى وصلا ليوم محاولة هروب ماسة، المحاولة التي لم تكتمل.
مرّت زيارات الأصدقاء والوجوه المألوفة، ومع الوقت بدأت الشكوك تحوم حول كارمن، أقرب صديقاتها وآخر من زارها. سجلات المكالمات كشفت عن محادثات طويلة بينهما يوم الهروب وقبله. دون تردد، توجّه سليم إلى فيلا كارمن بصحبة الحراس ومكي.
عند ماسة، قطار الاسكندرية.
ماسة ما زالت جالسة تحتضن حقيبتها كأنها آخر ما تبقّى لها. الخوف والحزن ينهشانها، وأفكارها تائهة خلف أسئلة بلا أجوبة: إلى أين تذهب؟ وما الذي ينتظرها؟ دموعها تنساب بصمت،لكنها كافية لتخنق أنفاسها وتُشعل بداخلها صراخًا مكتومًا.
عند إسماعيل، مركز المراقبة.
إسماعيل واقفًا خلف الكرسي، يراقب الشاشة بتركيز أمامه جلس الهاكر، يده تتحرك بسرعة على لوحة المفاتيح، بينما إنشغل مساعدوه بمراجعة اللقطات مرارًا وتكرارًا ظهر وجهها أخيرًا.
لقطة وهي تهبط من الميكروباص، ثم تدخل محطة القطار، ثم تشتري التذكرة، ثم تصعد قطارًا متجهًا إلى الإسكندرية، لكن الصورة تنقطع هناك.
سأل إسماعيل بصوت بارد: مافيش حاجة بعدها؟
الهاكر وهو يعيد اللقطة الأخيرة: ممكن نتابع باقي المحطات، بس لحد دلوقتي مش واضح إذا كانت نزلت في الطريق، أو كملت للآخر.
شد إسماعيل على فكه، قال بنبرة حاسمة: عايز إجابة، مش احتمالات.
رفع الهكر عينيه عن الشاشة، قال بصوت منخفض:
إحنا ممكن نراجع المحطات إللي القطر وقف فيها ونركز على إللي طالعين ونازلين، بس ده هياخد وقت، وكاميرات كتير مش بتغطي كل الأبواب، وبعدين هي مش شرط تنزل من نفس الباب إللي طلعت منه، ولا حتى من نفس العربية يا باشا.
لم يرد إسماعيل، بل اكتفى بالتحديق في الشاشة بعينين ضيقتين، وأصابعه تضرب سطح المكتب بإيقاع ثابت ينمّ عن توتره.
أضاف الهكر بعد لحظة: يعني وارد نراجع كل حاجة وفي الآخر مانوصلش لحاجة أكيدة زي ماقلت لحضرتك بعض المحطات مش كل الكاميرات بترصد جميع الأبواب.
زفر إسماعيل بحدة، ثم قال بنبرة جادة حاسمة:
كده بقى واضح إن مافيش حل غير إننا نسأل أختها، نكلم سليم بيه ونستأذن منه.
ساد الصمت، ولم يجرؤ أحد على التعليق، ذكر اسم سليم وحده كان كفيلاً بأن يُدخل رهبة في نفوس الجميع.
محطة قطار الإسكندرية، العاشرة مساءً
نزلت ماسة من القطار بخطى مثقلة، لا تحمل معها حماسة الوصول، بل رعب المجهول، رغم أن المسافة بينها وبين سليم باتت تُقاس بالكيلومترات، إلا أنها لم تشعر بالأمان؛ كل ماحولها بدا غريبًا، مريبًا، الشوارع، المارة، حتى صوتها الداخلي خذلها.
ورغم أنها تناولت الغداء قبل الرحيل، كان الجوع يعتصرها، ربما ليس جوعًا حقيقيًا، بل فراغ غريب يحتل صدرها، نظرت حولها بتوجس، هذه أول مرة تسافر فيها وحدها، لا أم و لا أب، لا أخت، لا صديقة. فقط هي، ومدينة باردة لا تعرف عنها شيئًا.
همست لنفسها: لازم أكون قوية، مفيش وقت للضعف دلوقتي.
تحركت دون وجهة محددة، خطواتها تتخبط، إلى أن استوقفت سيدة تمر بجانبها وسألتها بصوت خافت:
لو سمحتي، أنا كنت عايزة أخد تذكرة لمطروح، قطر مطروح يعني، ممكن تقوليلي منين؟ أنا مش عارفة.
ابتسمت السيدة في ود وأشارت لها: بُصي يا بنتي، هتمشي لحد آخر الرصيف، تخشي المبنى إللي هناك، هتلاقي شباك التذاكر جوه.
هزّت ماسة رأسها شاكرة: ميرسي جدًا يا هانم.
وصلت إلى شباك التذاكر، وحصلت على تذكرتها، لتكتشف أن القطار المتجه إلى مرسى مطروح سيتحرك في تمام الحادية عشرة، ساعة كاملة تفصلها عن الرحيل، والوقت يمرّ ببطء قاتل، جلست على الرصيف، وضعت كفيها على خديها، تفكر وتتألم.
أخرجت هاتفها واتصلت برشدي: إيه يا رشدي، أنا وصلت إسكندرية، وقاعدة في المحطة.
جاءها صوته ثابتًا كعادته: حلو. بصي بقى، إركبي أي ميكروباصات رايحة مرسى مطروح، أول ماتوصلي هناك كلميني، وأنا هقولك تعملي إيه، وصحيح سليم لحد دلوقتي مارجعش القصر.
ماسة: ماشي.
رشدي بصرامة: إركبي ميكروباص، عشان ماتظهريش في الكاميرات.
ماسة بمهاودة: آه، حاضر... سلام.
أغلقت الهاتف، وضغطت على شفتيها في غيظ مكبوت وهمست: مش راكبة ميكروباص، مش هستغنى عن نفسي. حسبي الله ونعم الوكيل فيك، وفي أمك وأختك. ربنا ينتقم منكم كلكم.
وقفت تنظر حولها، ثم اقتربت من أحد المارة وسألته عن أقرب محل طعام دلّها على مكان قريب، فخرجت من المحطة، اشترت بعض المأكولات الخفيفة، ثم عادت إلى مقعدها القديم على الرصيف اخذت تأكل ببطء، وهي تهمس لنفسها: أنا حاسة إني ماعنديش دم، واحدة تانية، في ظروفي، ماكنتش تاكل دلوقتي، بس خليني آكل، يمكن بكره ما ألاقيش الأكل، وأبقى محتاجة أكون مركّزة خليني أعد الفلوس إللي معايا الأول، فتحت الشنطة وعدتهم وجدتهم ٧آلاف جنيه.
بدأت تتناول الطعام، وأفكارها تزداد ارتباكًا، وهي تقول في عقلها: أكلم سلوى؟ لا، أكيد دلوقتي عندها، وممكن يكونوا بيراقبوها، لما أوصل، هبقى أشوفلها تصريفة، هخلي الزفت ده يطمنها عليا.
أكلت لقمة صغيرة، وفجأة داهمها ألم مفاجئ، كأنه نهش في صدرها، وبدأت دموعها تهبط دون إرادة منها، تتساقط بصمت، وكأنها تعلن هزيمتها المؤقتة في معركتها مع الحياة.
وظلّت على حالها جالسة، حتى حان موعد القطار. صعدت إليه وجلست في المقعد، وما إن تحرّك بها نحو وجهتها الأخرى، حتى بدأت أولى رحلاتها في درب المعاناة.
لكن يجدر بنا الانتباه جيدًا إلى أن كاميرات محطةالإسكندرية التقطت صورتها أثناء صعودها، وأيضًا خلال تحرك القطار بها.
داخل فيلا كارمن الحادية عشر مساءً
دخل سليم وخلفه الحراس ومكي، وخطواته تدك الأرض بثقل، الغضب والقلق كان ظاهرًا عليه، بينما كانت كارمن ترتبك كلما ألتقت عيناها بعينيه. جلسوا في الصالون،والسكون الثقيل يخيم على المكان.
سليم بنبرة حادة هادئة في آنٍ واحد: كارمن، هسألك سؤال ومش عايز لف ودوران، علشان صدقيني، لو لفّيتي هتزعلي، وأنا مش عايز أزعلك، إنتي حاولتي تهربي ماسة قبل كده، صح؟
ترددت، ثم أجابت بصوت خافت: لا، ماحصلش.
ضرب سليم الطاولة بيده، فاهتزّت كارمن من مكانها، وتجمد الدم في عروقها.
لم يرفع صوته، لكنه نظر إليها نظرة حارقة، ثم تابع بهدوء أثقل من الغضب: إحنا اتفقنا نكون صُرحاء مافيش كدب يا كارمن ولا تلاعب في الكلام علشان الأسلوب ده مايليقش بيكي.
صمت للحظات، ثم دارت في رأسه فكرة، قالها بدهاء ليوقع بها، بصوت منخفض يشوبه القلق: إفهمي يا كارمن، في ناس مهددني بيها، خايف يوصلولها لو عندك أي معلومة، لازم نعرفها دلوقتي.
شعرت كارمن بالخوف، ووقعت في الفخ، فقالت وعيناها تلمعان: أقسم بالله أنا معرف حاجة، هي المرة الوحيدة إللي كانت عايزة تمشي فيها ماكانتش بتهرب، كانت متضايقة منك، من طريقتك، يعني من موضوع إنك كل شوية تهددها الموضوع ده كان مضايقها، وجارح قلبها..فـأنا اقترحت عليها تيجي تقعد معايا، وجوزي مسافر، يعني حسيت إن ده أنسب حل، بس وهي في المحل، تراجعت، خافت على زعلك، وقالتلي إنها ماتقدرش تكسر ثقتك وأن حبها ليك أكبر من كدة.
التفت سليم إلى مكي، وسأله بصوت منخفض يحمل غضبًا دفينًا: الكلام ده كان قبل حادثة باباها بقد إيه يا مكي؟
أجابه مكي فورًا: تلات أيام بالظبط.
سليم وكأنه يتذكر، تمتم بصوت خافت: هو اليوم إللي اتصالحنا فيه، وتاني يوم حصلت الحادثة، وتالت يوم حادثة باباها، ومن بعدها اتغيرت.
هز سليم رأسه، كأنه يجمع القطع المتناثرة في عقله، ثم قال بصوت داخلي: يعني كانت لحظة ضعف بجد، وعشان كده رجعت وحاولت تمشي وعملتها تاني؟! لأ لأ، مستحيل، في حاجة غلط، لا يا سليم، مافيش غلط، هي مش عايزة تعيش معاك، حبك تقيل على قلبها، عشان كده مشيت .. لا طبعاً أنا متأكد إنها بتحبني.
زفر بإختناق ثم نظر لها وسألها بتركيز: ممكن يكون فيه حد بيساعدها من صحابكم؟
هزت كارمن رأسها بنفي: استحالة، ريتال مستحيل تعمل كده، ولا حتى تفكر فيها، داليدا مسافرة، وهبة إنت فاهم، ريماس؟ مش قريبة منها أوي، إحنا أقرب ليها أصحاب الجامعة؟ هي قطعت معاهم من زمان، وبعدين ماسة نفسها قالتلي إنها بتخاف تمشي لوحدها، كانت متوترة جدًا، وأنا إللي قلتلها تروح فين وتاخد إيه.
وقف سليم، وهو يهم بالخروج: لو كلمتك، تعرفيني على طول،أنا خايف عليها.
توقفت كارمن قالت بتوتر: حاضر، ما تقلقش. بس سليم... هو ممكن يكون حد خطفها؟
رفع سليم حاجبه نافيًا: لا، مشيت بمزاجها بس أنا خايف يعني حد يوصل لها ويأذيها عن إذنك.
ثم تحرّك سليم إلى الخارج، يتبعه مكي بصمتٍ ثقيل لا يُكسر، كأن الهواء من حولهم مشحون بما هو آتٍ.
بينما يتجهان نحو السيارات.
سليم بنبرة صارمة لا تقبل النقاش: إتصل بإسماعيل، شوفه وصل لفين، وعرفان جاب الفيلا ولا لسة، وخلي بالك من النهاردة أي حاجة تخص ماسة وأهلها، إنت براها، هتبقى معايا في إللي يخصني أنا وبس.
لم يُجب مكي، فقط نظر إليه نظرة طويلة ثم أومأ برأسه، متجنبًا أي تصعيد، هو يعلم أن الوقت ليس مناسبًا للاشتباك، فاختار التماسك والهدوء، على أمل ألا يزداد الوضع سوءً.
ثم قال بهدوء: هو إسماعيل إتصل كذا مرة لما كنا مع كارمن، أنا هكلمه دلوقتي، نشوف وصل لإيه.
وبالفعل، أخرج هاتفه وإتصل، لكن فتح الميكروفون.
مكي تساءل بهدوء: إسماعيل، وصلت لحاجة؟
جاءه صوت إسماعيل على الطرف الآخر: إحنا تقريبًا رايحين ناحية إسكندرية، هي غالبًا ركبت قطار في الاتجاه ده، بس مش متأكدين نزلت فين، أنا جبت أحسن هكر عندي، ومشغل رجالة في كل الدوريات والكماين. صورتها منتشرة خلاص، بس محتاج منك يا سليم باشا إذن باستجواب سلوى، يمكن نطلع بحاجة، إنت قلتلي إنهم قريبين.
سليم بنبرة مشدودة: روح، بس على خفيف.إنت مش بتستجوب مساجين.
إسماعيل طمأنه: ما تقلقش يا باشا، كله تحت السيطرة.
أغلق سليم الهاتف، بينما قال مكي بقلق فهو يعرف كيف يعمل إسماعيل وطريقته: ما تخلّي عشري هو إللي يروح يا سليم.
نظرة سليم له كانت حادة وقال بحدة: قلتلك ماتدخلش، وأكيد مش هخلي إسماعيل يستخدم معاهم أساليبه، رجالتنا هناك، شاكر هناك، وراوية كمان. هيقولولي إللي حصل.
سأله مكي: طب، إنت هتعمل إيه دلوقتي؟
توقف سليم أمام السيارة بعد أن فتح له الحارس:
هروح القصر، بس كلم عرفان شوفه عمل إيه، وصحيح ماحدش يعرف إن ماسة هربت، خصوصًا العيلة.إللي هايتقال إنها عند أهلها... مفهوم؟
مكي تمهّل قليلاً قبل أن يقول: طب بقولك إيه، ماتسيبني أروح أتكلم مع سلوى شوية؟
سليم وهو يهم بدخول السيارة: إتكلم زي ما إنت عايز، بس مش النهاردة لما أوصل لماسة.
ثم أضاف، بنبرة خالية من العاطفة لكنها حاسمة:
قولتلك ما تقلقش، أكيد أنا مش هقبل إن أخت مراتي، وإللي المفروض تبقى مرات صاحبي، حد يتعرض لها بأي سوء.
مكي بنبرة حازمة: طب أنا بقولك، لو إسماعيل ضايقهم، أنا هازعله.
نظر له سليم بصمت، وكانت نظراته كافية للرد. نظرة لا جدال فيها، لا رد بعدها، كأنها تعني أنه لن ينتظر أي رد فعل من مكي من الأساس.
ثم صعد السيارة، بينما وقف مكي مكانه للحظة، يراقبه في صمت ثم جلس على المقعد الأمامي وتحركت السيارة نحو القصر.
قصر الراوي، الثانية عشرة صباحًا
دخل سليم القصر، وكان الظلام والهدوء يسودان المكان فمعظم من فيه نائمون منذ وقتٍ مبكر كالعادة، والباقون مستغرقون في سهراتهم داخل غرفهم الخاصة.
خطواته متثاقلة ومضطربة، كأن الأرض تمسك بقدميه، وعقله يغلي بأفكار لا تهدأ ماسة وهروبها، الغضب يعتصر صدره كإعصارٍ لا يرحم ولا يهدأ، إتجه نحو المصعد. جسده منهك، لكن ما في قلبه أضعاف التعب، تحرّك في الممر الطويل حتى وقف أمام جناحه، مترددًا، هل يدخل؟ أم يفرّ منه كما فرّت هي؟ لكنه لم يختر، ساقاه اختارتا عنه، فدخل، ما إن عبر العتبة، حتى ضربه شعور مباغت بالفراغ والحزن والإنكسار معًا.
لأول مرة يدخل جناحه وماسة ليست فيه، لم يتخيّل يومًا أن يأتي عليه وقت يدخل فيه جناحه وهو خائف ألا تعود، أو لا يعرف إلى أين ذهبت.
هذا الجناح لم يكن مجرد غرفة، كان وطنًا، وعشًّا، وضحكة وسعادة ، أما الآن؟ فهو صدى موحش، وريح باردة تهبّ من داخله لا من نوافذه.
تحرّك ببطء وأغلق الباب خلفه بصمت، وعيناه تجولان كأنهما تبحثان عنها في الفراغ، حيث يختلط الألم بالحزن
أين ذهب دفء الغرفة؟ متى ماتت الحياة هنا؟ متى تحوّلت الذكريات إلى سكاكين؟
ذلك العش الجميل، الذي كان يعجّ بالحب والسعادة،
تحوّل إلى مكان خانق ومؤلم، اختفت السعادة والطمأنينة، والحياة.
تساءل في صمت: ما الذنب الذي اقترفه حتى يحدث كل هذا؟ ما الذي جعَلَ ماسة تتركه هكذا؟
لم يفعل سوى أنه أحبّها بكل جوارحه، فقط كان يودّ أن يراها سعيدة وضاحكة، ويفعل كل ما بوسعه لإرضائها، كان يرضى بكل شيء، إلا فراقها، قد يصرخ، يثور، لكنه دومًا يعود معتذرًا، ربما خوفه وغضبه مفرطين، وربما هدّدها، لكنه لم ينفّذ يومًا شيئًا مما قاله بقسوة أو عنف، كل ما فعله بدافع الحب والخوف عليها.
فلماذا فعلت هذا؟ كيف تتركه؟
كيف تترك من يحبّها، توأم روحها، الذي كانت تخشى فراقه؟ وتقول: "فراقك موت"؟
وها هي قد رحلت، وتركت وراءها قلبًا ممزقًا وروحًا تائهة، تركته بطريقة مؤلمة، ليست في القلب المحطّم فحسب، بل في الخوف الذي يعصف به، ويأكله، ويجعل رأسه يحترق من التفكير بها والقلق عليها.
هو غير مطمئن عليها، لا يعرف أين هي، ولا ماذا ستفعل؟!
يعلم جيدًا أنها ضائعة في عالم لا يرحم مظلم، لا تعرف عنه شيئًا..
وجعه تحوّل إلى غضب، غضب شديد كالجحيم، نارٍ في صدره لا تنطفئ. وما أشعل غضبه حقًا لم يكن سوى الجراح التي خلّفتها في روحه يوم تركته، والخوفُ من أن يصيبها مكروه، كما حدث من قبل.
رمق الغرفة بنظرة طويلة متأملًا إيّاها، تذكّر تلك الليالي الربيعية التي كانوا فيها كالعصافير، يحلّقون فوق الورود في ليالي الربيع الجميلة، الليالي التي كانا يضحكان فيها على لا شيء، ضحكتها التي تطمئنه، وهمسها الذي يهدّئ روحه.
اقترب من التسريحة، فوقعت عيناه على بعض أدواتها:
أحمر الشفاه، البودرة، فرشاة شعرها وغيرها..اخذ يتلمسها بأطراف أنامله.
التقط الفرشاة، مرّر يده عليها وكأنه يلامس شعرها الحريري حقًا، أغمض عينيه وابتسم ابتسامة حزينة.
أعاد الفرشاة إلى مكانها، ثم أخذ عطرها المميز ورشّه في الهواء، فانتشرت رائحته التي تواسيه، توقّف ليتنفسها، هبطت دمعة من عينيه، مسحها سريعًا وكأنها خائنة لقلبه عادها مكانها، وتحرك بخطوات بطيئة، جلس على السرير، أمسك البرواز الذي يحمل صورتها من على المنضدة،وسأل نفسه سؤالًا واحدًا:
لماذا فعلتِ هذا؟ هل يستحق أن تهربي بهذه الطريقة؟ أم ظننتِ أن حبّي لكِ يخولكِ أن تفعلي ماتشائين، دون أن تفكّري في جراح قلبي؟
عاد بظهره المثقل إلى الفراش وتمدّد كمن سقط مهزومًا في حرب على يد أعز أصدقاءه، بجسدٍ منهكٍ بندوب الوجع، وألمٍ يعصر قلبه بعنف، وغضبٍ ينهش روحه، لا يطلب شيئًا سوى إتصالٍ يطفئ النار المشتعلة في صدره، إتصالٍ يخبره بأنهم قد وجدوها
وأنها بخير.
💞_____________بقلمي_ليلةعادل。◕‿◕。
في غرفة صافيناز
جلس كل من رشدي وعماد على الأريكة، القلق يسيطر عليهما، أما رشدي جالسًا على المقعد المجاور، يدخن سيجارته بصمت وتركيز.
عماد بتحذير: إنت لازم تخلي ماسة تختفي من مرسى مطروح على بكرة.. تروح مكان تاني.
رشدي بدهاء: ما أنا هعمل كده، بس لازم أروح لها الأول.
سألته صافيناز: وهتروح لها إزاي؟ إنت ناسي إن بكرة فيه مؤتمر في العلمين؟
تبسم رشدي بخبث: أنا هخلي الهانم تقنع الباشا إن أنا إللي أروح، كده كده سليم أكيد مش هيروح، مراته هربانة وعقله مش فيه، فاهروح أنا، وساعتها هخلع من المؤتمر كام ساعة، أروحلها وأرجع، بين العلمين ومرسى مطروح ساعتين أو أقل كمان.
علق عماد: علشان كده اخترت مرسى مطروح؟ طب ليه مش إسكندرية؟ الاتنين قريبين.
أخذ رشدي نفسًا من سيجارته: مرسى مطروح أبعد. لإني ناوي أوديها السلوم، ومنها على ليبيا، ومن هناك، تروح على أي مكان.
نظر من حوله وخفض صوته وهو ينهض محذرًا: المهم، احنا مش عايزين نتقابل كتير في الأوض بتاعتنا، ماتنسوش الكاميرات في الممرات، وفي احتمال كبير إن تليفوناتنا مهكرة، ده غير طبعًا سحر الرامية ودنها في كل حتة، والهانم قفشتها قبل كده وهي بتتصنت علينا، حتى الكلام هنا مش آمن.
انفعلت صافيناز: إحنا قافلين التليفونات وبنتكلم بهمس! هنعمل أكتر من كدة إيه؟ أنا مش عارفة إيه إللي إحنا فيه ده، حتى مش عارفين ناخد راحتنا في أوضنا!
عماد بنبرة جادة: رشدي صح، لازم تفهمي إن اللعب مع سليم مش سهل بصي دي...
أطلعها على كفه محل رصاصة:
الرصاصة إللي سليم سابهالي زمان شايفاها؟ هو ده سليم الراوي.
تابع وهو ينظر إلى رشدي وصافيناز بنظرة تحذير: إنتوا لازم تتقابلوا في أكتر من مكان في القصر، واتكلموا عن المشروع، لازم يوصله إنكم متضايقين من أسلوبه.
رشدي وهو يطفئ السيجارة: إحنا فعلاً لازم نسمّعه إللي إحنا عايزينه يسمعه، ونخليه يفتكر إن اجتماعاتنا دي عشان نمشيه من المجموعة، ومايجيش في دماغه ولو للحظة إن إحنا بنلعب لعبة تانية.
صافيناز: هو بعد كده هنتقابل وهنتكلم إزاي؟!
رشدي: نحاول نقلل الفترة دي خلي الكلام أكتر عن المشاريع إن إحنا متضايقين منه، وبعدين نشوف كده كده مافيش حاجة يعني محتاجين تعرفوها.
فيلا عائلة ماسة، الثانية عشر صباحًا.
كانت الأجواء كما تركهم سليم منذ المغرب، يجلسون في صمت، لا يعلمون شيئًا، والقلق لا يفارقهم، مجاهد يسبّح بهدوء، بينما سعدية لا تستقر على حال، تتقلب في جلستها كأنها تجلس على جمر، عمار غارق في تفكيره، يعيد كل الأحداث في رأسه دون أن يجد لها تفسيرًا.
لم يفهموا ما حدث مع ماسة، ولا إلى أين ذهبت، لكن قلوبهم كانت معلقة بها، ينهشها القلق والخوف،خاصة بعد ما فعله سليم معهم.
سلوى تدعو الله أن تكون شقيقتها بخير، تحرك شفتيها بكلمات متقطعة، لا تسمع، لكنها كانت ترفع إلى السماء.
الحراس يحيطون بهم بصمت، يراقبونهم كتماثيل متحف، لا يرمشون ولا يتكلمون.
دخل إسماعيل الفيلا بعد دقائق دون أن ينطق بكلمة بهيبته كضابط أمن دولة مخضرم، خلفه رجاله
(من هيئتهم هم الآخرون في جهاز الشرطة)، سحب كرسيًا وجلس أمام سلوى كأنّه في بيته، وكأنّ الأمر عادي تمامًا نظر الجميع بإستغراب شديد ولم يفهموا شيئا حتى أنه لم يعطهم وقتا للتحدث.
نظر الى سلوى نظرة متفحصة للحظات، ثم أسند كوعه على ذراع الكرسي، وضع أصابعه على خده، ثم حدق في عينيها وقال: يلا بقى إحكي، إحكي الحكاية من أولها، قلتي إن ماسة كانت قاعدة معاكي، وفجأة قالت عايزة تمشي؟
توقف عمار ورفع صوته بغضب: هو في إيه؟ إنت مين وداخل كدة ليه؟!
تدخل شاكر بهدوء موضحاً: إسماعيل باشا، ظابط أمن دولة، جاوبوا على الأسئلة بتاعته عاشان يقدر يوصل لماسة هانم.
مجاهد بغلب وقلة حيلة: يا ابني إحنا مانعرفش حاجة، والبنت تليفونها مقفول، إحنا والله متوغوشين على البت. ليه ماحدش مصدقنا؟ ومكي فين؟!
إسماعيل رد بصوت صارم: أنا مش عايز أسمع قصص إنتم تردوا على الأسئلة من سكات، عشان نخلص.
ثم عاد بنظره إلى سلوى، هذه المرة بنبرة أقسى، كأنّه يستجوب متهمة: آه، يلا جاوبيني، كانت معاكي وسبتيها في الجنينة مش ده إللي قلتيه؟
هزّت سلوى رأسها بالإيجاب، والخوف يملأ ملامحها.
واصل إسماعيل على ذات النبرة: بس الكاميرات يا سلوى؟ جابت إنكم اتمشيتوا شوية في الجنينة، وبعدها دخلتوا المطبخ سوا، يعني ماسبتهاش لوحدها ولا حاجة !! لا وكمان بعد مادخلتي بشوية، خرجتي من باب الفيلا، وعملتي مشهد كده سخيف على مكي، والحمار صدق!
ثم تابع بإستهزاء وهو يبتسم ابتسامة جانبية:
ما هو كده، الحب بيخلي الواحد أعمى، (أكمل بجدية)وماسة خرجت بعدك بدقيقتين من باب الخدم، وهي طبعًا متنكرة.، وعدت من ورا مكي وكلمتك كمان.
حك في خده متساءلا بإستغراب: إزاي بقى بتقولي ماتعرفيش؟ يلا جاوبي بالذوق بدل ما أنا عندي طرق مبهرة تخليكي تجاوبـي.
سلوى بعصبية: هو إنت بتهددني؟
إسماعيل بهدوء قاتل: تهديد ونصيحة في نفس الوقت يلا يا ماما، ورانا شغل، إحنا مش فاضيين للوع ده.
سعدية بتهكم: قولي يا سلوى لو إنتي عارفة، خلينا نخلص منهم حسبي الله ونعم الوكيل.
إسماعيل نظر لها قالها بسخرية ناعمة، كأنها مديح لكن فيها تهكم مبطن: إنتي ست عشرة على عشرة، إسمعي كلام ماما.
ثم عاد بنظرة لسلوى بمعنى جاوبي، ردت سلوى بضيق: إللي قولتيه ده هو إللي كنا متفقين عليه؟ غير كده، لأ.
إسماعيل هو يزم شفتيه: غير كده لأ.
سكت لحظة، ثم نادى بصوت جهور وعينه على سلوى: راوية.
دخلت راوية وتوقفت: افندم.
إسماعيل بقسوة: فتشيها، خديها الأوضة وفتشيها تفتيش ذاتي، خدي أمها معاها، تتفتش هي كمان.
ثم نادى من جديد: سامي، والرجالة دول نفس المعاملة تفتيش ذاتي يقلعوا لحد مايبقوا بلابيص، إحنا شكلنا مطولين والسهرة صباحي خليهم يعملوا شاي، لإنهم مش هيتكلموا بسهولة، الفيلا كلها تتمسح، وكل التليفونات إللي معاهم تتجمع وتيجي لي هنا.
حاولت سلوى تتفلت من يد راوية: أوعي كده، ماتحطيش إيدك عليا، إنتي اتجننتي؟
مجاهد إنفعل: كده ماينفعش يا ابني، سليم مايرضاش بكده!
حاول عمار التدخل، لكن الحراس أمسكوه صاح بهم: أوعى إنت وهو، ماتحطش إيدك على أمي وأختي!
سعدية بتهكم: إللي إنتم بتعملوه ده هيخلي سليم يقلب عليكم إحنا أهل مراته، وهو مايرضاش بكده.
اقترب مجاهد من إسماعيل، وقال بعصبية:
إللي بتعمله ده عيب، وسليم ومكي مش هايسكتوا على بهدلتنا، هو عارف.
رفع إسماعيل عينيه وقال بحدة: مالكش دعوة. عارف ولا مش عارف مش شغلك، هو طلب مني أجيب له مراته، وأنا بشتغل وسليم عارف شغلي كويس، ما هو لو كان عايز حد يطبطب، كان سابلكم الرومانسي بتاعه مكي، بس هو خلاص أقاله، وده يعني كارت أحمر من سليم إني أعمل إللي أنا عايزه.
سعدية لوّحت بيدها: إحنا مش مصدقين أي حاجة بتقولها.
تبسم إسماعيل بهدوء أخرج هاتفه، وإتصل بسليم.
مع تبادل الشاشة بينهما
جناح سليم وماسة بالقصر
كان سليم مازال نائمًا على ظهره على الفراش وعينه بالسقف.
سليم بنبرة متعبة: إيه يا إسماعيل، وصلت لحاجة؟
إسماعيل رد وهو يراقبهم: لا، أنا لسه هناك، مش عايزين يتكلموا طلبت إني أفتشهم تفتيش ذاتي، مش مصدقين إنك موافق يا باشا.
سليم: إفتح المايك.
فتح إسماعيل المايك، فدوى صوت سليم في أرجاء الفيلا: ياريت تسمعوا الكلام وتنفذوا الأوامر عشان نقدر نوصل لماسة بسرعة، نخلي إجاباتنا سريعة، كل ماكانت أسرع، كان أحسن ليكم.
قال كلماته تلك ثم أغلق الخط، نظر إليهم إسماعيل: شفتوا بقى؟ رفع عنكم الحماية.
ثم إلتفت إلى مجاهد: بقولك إيه يا مجاهد، إنت راجل كبير، مش حملي، أخلع بالذوق، خلينا نخلص.
ثم قال لراوية:
يلا يا راوية خديهم، وأمشي بالذوق يا سلوى، عشان المرة الجاية مابعتش معاكي راجل.
بدأت سلوى وسعدية تتحركان معهما بضعف وقلة حيلة، ودموع في العيون.
اقترب الحراس من عمار ومجاهد لبدء تفتيشهم
لكن في تلك اللحظة، وصلت رسالة من سليم إلى هاتف إسماعيل، تأمل إسماعيل الشاشة
إسماعيل، خف عليهم بالراحة، إنت مش بتتعامل مع مساجين، في الأول وفي الآخر، دول أهل ماسة ماتكترش، بهدوء وبعقل، ولو عرفت إنك تطاولت عليهم، هتندم مافيش تفتيش ذاتي ولا زفت، فاهم؟
لم تعجبه لهجة الرسالة، ولا قلب سليم الحنون الذي أوقف كل شيء بلحظة.
تنهد إسماعيل وقال في نفسه: دي مشكلتك، قلبك حنين.
ثم نظر للحراس وأشار بيده: خلاص، بلاش بلابيص. خلي على الهدوم بس فتشوهم عدل وروح قل لراوية وتوقف عند الباب، ما تدخلش.
الحارس: حاضر يا باشا.
إسماعيل بأمر: وإنتم يلا، فتشوا الفيلا كلها.
بعد دقائق، عادت راوية مع سعدية وسلوى بعد التفتيش، ومعهنّ التليفونات.
راوية: إسماعيل باشا، لقيت معاهم التليفونات دي، ده بتاع الست الكبيرة، وده بتاع سلوى.
وأثناء حديث راوية، وهي تعطي الهواتف لإسماعيل، رمشت سلوى بعينيها وتذكرت شيئًا.
فلاش باك:
بعد أن أغلقت سلوى المكالمة مع ماسة، هبطت إلى المطبخ وفتحت أحد الأدراج، وأخذت منه مطرقة، ثم عادت إلى غرفتها، وضعت الهاتف على الأرض، وبدأت في تحطيمه بالمطرقة حتى إنكسر إلى فتات صغير، ثم أحرقت ماتبقى منه تنهدت وقالت: ربنا معاكِ يا ماسة، لقد تخلصت من الهاتف، ولذلك أصبح من الصعب الوصول إلى ماسة، إلا إذا نطقت سلوى بمكانها، لذا اختار إسماعيل طريقة للضغط عليها كي تنطق بما تعرفه وتخفيه، فهو على يقين بأنها لا تعرف مكانها.
عودة إلى الحاضر:
أشار لها إسماعيل بيده لسلوى وهو يمسك بهاتفها:
أقعدي.
جلست سلوى بصمت، والغضب يشتعل في صدرها، لكن لا شيء يمكنها فعله الآن.
سألها وهو يحدّق في عينيها مباشرة: معاكي رقم تاني غير إللي في التليفون ده؟
سلوى بمرارة، تحاول أن لا تبكي: ما إنت فتّشتني وفتّشت الفيلا، هخبي الرقم فين يعني؟
إسماعيل بلهجة آمرة: ردي بإجابة.
سلوى بصوت منخفض: لا.
تنهد قليلًا، ثم قال بنبرة ثقيلة: إحنا هنجرب كدة محاولة يمكن تنفع، كلمي ماسة.
ومدّ لها الهاتف. ترددت سلوى وهي تأخذه، التوتر ينهش صدرها كانت على يقين بأن هاتف ماسة مغلق.
سلوى بصوت مهزوز: تليفونها مقفول.
أخذ اسماعيل رشفة من الشاي الموضوع أمامه، ثم مال بجذعه نحوها، صوته صار أكثر خطورة، وعيناه لا تغمضان: بصي يا سلوى، أنا عندي يقين إنك عارفة حاجة، وعارفة مكانها، وعارفة هتقعد فين، هي أكيد قالتلك، بس إنتي بتلاوعي وأنا أكتر حاجة بكرهها في حياتي الحريم إللي بتلاوع، فنعمل إيه بقى؟ أكيد مش هنقعد طول الليل نرغي؟ وأنا خُلقي ضيّق.
وفجأة، أخرج مسدسه بهدوء، ووضعه أمامه على الطاولة، صوته صار أكثر حدة، وهو يشير به:
المسدس ده فيه ١٢رصاصة، في لعبة كده، أكيد شفتيها في الأفلام اسمها الروليت الروسي، بيحطوا رصاصة واحدة، ويلفوا الخزنة، ويلعبوا، أنا بقى هحط التاتش المصري، هحط ١١، وأشيل واحدة! ونلعب اللعبة، نبدأ بمين؟ تيجي نعمل حادي بادي؟ وإللي ييجي عليه، يبقى هو الهدف، يلا بينا!
أخذ يمرر عينيه عليها كصقر يتفرس في ملامح فريسته عينه لا ترفع من عليها تابع سعدية، روحي أقفي جنب جوزك وابنك.
ثم إلتفت فجأة وسأل: ابنك الصغير فين؟ مش اسمه يوسف؟
أحد الحراس: في رحلة.
صاح إسماعيل بصوت حاد: يلا، حد يجيبهولي. اتحرك!
ثم تابع بسخرية: مطلعة إبنك رحلة يا سعدية؟
إحنا لسة مطلعين الكبير من قضية مخدرات، وبتليفون صغير مني، أفتحله قضية من تاني، والحشيش يبقى هيروين، وياخد مؤبّد ٢٥سنة. وممكن جوه السجن حد يخلص عليه كلب ولا يسوى.
عمار، وقد انفجر غضبه، صرخ والحارس يقوم بإمساكه: هو إنت عمال تهدد فينا ليه؟ إحنا مانعرفش حاجة! وبعدين حتى لو نعرف، مستحيل نقولك! أنا مستحيل أسيب أختي تعيش مع واحد زي سليم، بيخلي رجّالته يعملوا فينا كده!
نظر إليه إسماعيل نظرة صامتة، ثم توقف وتحرك ببطء حتى وقف أمامه. قال بهدوء قاتل: غلطان يا عمار، إحنا لسة ماعملناش حاجة، إحنا لسة محترمين.
مد يده إلى المسدس، وبدأ يلف الخزنة، نظراته تلتهمهم ببطء، تنغرس كالمسامير في أعصابهم. ثم قال وهو يشير بهم إلى رؤوسهم كأنه يختار: يلا نبدأ...
ثم بدأ العد بصوت غليظ، وكأن الموت يتكلم: حادي بادي سيدي محمد البغدادي شالوا حطوا كله عادي
توقف المؤشّر على "سعدية".
ابتسم إسماعيل بسخرية: حظك يا سعدية، يلا يا ستي، إنتي كام سنة؟ ٥٥؟ كفاية عليكي لحد كده.
رفع صمام الأمان، ووضع فوهة المسدس على جبينها.
تحرك مجاهد وعمار بعنف وهما يصيحان، لكن الحراس أمسكوهم بسرعة بشدة، ورفعوا أسلحتهم نحوهم. صاروا غنائم في قبضة الذئاب.
قبل أن يضغط إسماعيل على الزناد، صاحت سلوى فجأة، وركضت نحو سعدية، ووقفت أمامه بدموع ورعب: مطروح! هي في مرسى مطروح! دي آخر حاجة كنت عارفاها، وأقسم بالله العظيم ماعرف حاجة تانية!
انهارت باكية، واحتضنت سعديةوأخذت تصرخ بنهنهة:
قالتلي هتركب من إسكندرية، علشان مالقيتش قطر من هنا، ودي كانت آخر مكالمة بينّا! أقسم بالله العظيم، هو ده إللي حصل! والله ده إللي حصل! وأعرفه!
أخذت تبكي بحرقة، بينما إسماعيل ابتسم ابتسامة هادئة: ما كان من الأول، الذوق ليه مابينفعش معاكي؟ كنتي بتكلميها بأرقام غير أرقامك طبعًا.
سلوى بخوف دموع: أيوه، كان معايا رقم، وهي كمان، بس والله العظيم ماحافظاه، كان على التليفون إللي أنا كسرته أقسم بالله ماحافظاه، ومش مسجّلاه على الرقم ده علشان خُفت لما تفتشوا تشوفوه.
إسماعيل بنبرة ساخرة: من غير حلفان، صادقة، بس كده إنتي سهّلتِ عليّا كتير، يعني هي في مطروح، وركبت من، إسكندرية، لعلمك، أنا كنت عارف إنها ركبت قطر إسكندرية، بس ماكنتش عارف هاتنزل أنهي محطة، أنا كنت عايزك تطلعي كل إللي في بطنك يا حلوة.
ثم تابع بنبرة تهديد: لو اتصلت بيكي، نصيحة، تبلغيني بالذوق، أديكي شفتي إللي بيعند معايا بيحصل له إيه.
نظر إلى سعدية وقال بتحذير: بقولكم إيه يا سعدية، إنتي وجوزك وابنك، لو عارفين حاجة تانية، يا ريت تقولوا، علشان لو اكتشفنا إنكم كنتوا عارفين وساكتين، وقتها هاتندموا، وهاتدفعوا تمن غباء بنتكم، أوعوا تتهوروا مع سليم، سليم مش طيب، وأي حد بيقف قدّامه، بيمسحه من عالخريطة، وعلى فكرة، أنا أطيب رجالته! بلاش يبعتلكم حد غيري، سلام.
نظر لشاكر وقال: خليك موجود، ونفذ أوامر سليم بيه.
قال كلمته الأخيرة، ثم استدار وانصرف، يجر خلفه ظلال الرعب التي خيّمت على المكان.
فور خروج إسماعيل ورجاله، لم يتبقَ سوى رجال شاكر، الذين تمركزوا حول الفيلا من الداخل، لكن على مسافة آمنة نسبيًا.
شعرت سعدية بدوار مفاجئ، وضعت يدها على صدرها وهي تحاول التنفس بصعوبة، انتبه لها عمار فورًا: أمي!
أسرعت سلوى وعمار نحوها، أسنداها وساعداها على الجلوس قالت سلوى بخوف: ماما، إنتِ كويسة؟
بينما مجاهد جلس في مكانه، ملامحه مصدومة وعينيه زائغتين، كل ماجرى أكبر من قدرتهم على الاستيعاب.
أحضرت سلوى كوب ماء عن الطاولة، وناولته لوالدتها، شربت سعدية رشفة بصعوبة ثم قالت وهي تشرق: الله يسامحك يا سلوى، كنتي عارفة وساكتة؟ الله يسامحك يا بنتي الله يسامحك.
سلوى بتهكم مُرّ: كنتِ عايزاني أعمل إيه؟ أقولهم مكانها؟!
تدخل مجاهد بصوت هادئ لكن معاتب: ماقلناش تقولي له، بس على الأقل تفهمينا إحنا، تاخدي رأينا، مش تاخد بعضها وتهرب! هتروح فين؟
ضرب قدمه بغضب:
أهو هيوصل لها، والله أعلم ممكن يعمل فيها أو فينا إيه! أختك ماتعرفش حاجة هتعمل إيه وليه كل ده؟!
عمار وهو يكتم غضبه: أنا عايز أفهم، فهميني كل حاجة.
سلوى بهدوء متوتر: مافيش حاجة ممكن تفهموها غير إن سليم اتغيّر جامد بقى يهددها، يضربها وجات هنا، حكت لبابا وماما، وطلبت الطلاق، لما كنت مسافر، رجعوها بالعافية وضربوها كمان.
سعدية بتبرير مرتبك: ماكناش نعرف يا ابني إنه ممكن يعمل كده قلنا البت بتتبلّى عليه.
عمار وهو يضيق عينيه في شك قال بتهكم: وماسة تتبلّى على سليم ليه؟! ولو حتى بتتبلى عليه تضربوها وترجعوها بالعافية؟! بدل ماتحموها!! أهي هربت والله أعلم إيه إللي هيحصل لها؟!
باستغراب شديد أضاف:
أنا مش قادر أستوعب ولا أصدق إن إللي جه هنا وعمل فينا كدة كان سليم، أنا حسيت إنه واحد تاني، جبار زي منصور وأهله، وإللي رجالته عملوه وهو عارف وقابل؟ إزاي يسمح إنهم يعملوا فينا كدة؟! هو لو كان اتجوز واحدة تانية غنية كان قدر يعمل كده ولا عشان إحنا فقرا وغلابه، وما لناش ظهر؟!
نظر لسلوى وقال برجاء: يا سلوى، لو في حاجة تانية تعرفيها، قوليها، ماتسكتيش!
ترددت سلوى، نظرت لهم بخوف، تذكرت تهديدات رشدي، وكلام ماسة. قالت بصوت منخفض: مافيش حاجة تانية، كل إللي أعرفه قلته، ماسة حاولت تهرب قبل كده، وسليم لحقها.
مجاهد بعدم تصديق: لا، في سبب أكبر من إللي قلتيه. مافيش ست بتهرب من جوزها علشان بس بيهددها أو بيضربها
سلوى بصدمة وكلامها يخرج بصعوبة: حتى بعد كل إللي عمله قدامكم؟ وضربه لعمار؟ وطريقته معايا؟ وإللي اسمه إسماعيل ده وإللي عمله فيا وفيكم؟! لسه بتدافعوا عنه؟!
عمار بضجر: مش بندافع، بس مش قادرين نستوعب!
سلوى بحزن ودموع: أنا كمان أنا كمان ماكنتش أتوقع إن كل ده هيحصل من سليم، بس خلاص هيوصلوا لها، والله أعلم هيعملوا فيها إيه؟! وفينا إحنا كمان، هو ده إللي يستحق نفكر فيها سامحيني يا ماسة، سامحيني
سعدية كأنها تسترجع شيئًا: بس يا أبو عمار، فاكر لما جه هنا؟ كان بيقول محدش يتدخل، ونظرته كانت بتخوّف، هو من ساعتها، قلب فجأة زي البحر. بس المرة دى مختلفة، حتى لو فاكرنا ساعدناها يعمل فينا كدة ده هدد الواد يعمله قضية.
مجاهد وهو يهز رأسه بقلق: مش عارف يا سعدية، مش عارف أفكر كل إللي يهمنا دلوقتي البنت، لو وصل لها، الله أعلم هيعمل إيه؟! أنا خايف عليها..
تابع مع شعور بالذنب: إحنا غلطنا يا سعدية كان لازم نسمعها ونصدقها كان لازم نطبطب عليها مش نضربها ونطردها.
سعدية بتبرير: كنا هنعمل إيه يعني إحنا كنا خايفين عليها.
مجاهد: بس إحنا غلطنا برضو وتصرفنا غلط..
نظر لسلوى وقال بعتاب أبوي:
وإنتِ كمان غلطانة يا سلوى، ماكانش لازم تخليها تعمل كدة، كنتِ جيتي وقلتيلي بس إنتم قولتوا وأنا مصدقتش كلامكم حقكم عليا يا ولادي.
سلوى بصوت مكسور بدموع: إن شاء الله مش هيعمل لها حاجة.
بينما كان إسماعيل في إتجاهٍ آخر، أجرى اتصالًا بسليم، الذي لا يزال على الفراش في نفس الوضعية الحزنيه التي تهيم على وجهه..
إسماعيل بصوت خافت: سليم، أنا عرفت مكان ماسة.
أعتدل سليم مسرعاً وجلس: فين؟
إسماعيل: في مرسى مطروح، بس لسة هعرف المكان بالظبط، أنا رايح دلوقتي أشوف الكاميرات، إن شاء الله كلها ساعات وهتبقى عندك.
هز سليم رأسه بصمت، أغلق سليم الهاتف، وتمتم بقهر متعجباً: مرسى مطروح، يا ماسة!!
ووضع الهاتف بجانبه عاد إلى وضعيته السابقة، مستلقيًا على السرير، يحدّق في السقف بمرارة، وأفكار ثقيلة تضرب رأسه بلا رحمة.
مرسى مطروح، الثانية صباحًا
هبطت ماسة من القطار بخطى مترددة، عينيها تتفقدان المكان بإرتباك، الليل ساكن والهدوء يلف المدينة الساحلية وكأنها نائمة على أطراف البحر،لا تعرف إلى أين تتجه، أخرجت هاتفها قامت بالاتصال برشدي
ماسة: إيه يا رشدي، أنا وصلت مرسى مطروح.
أتاه صوت رشدي من غرفته: كويس هتركبي تاكسي دلوقتي، وأول ماتركبي، قولي له بالحرف: لو سمحت، عايزة مكان يكون قريب من البلد، ولو في سمسار كويس ويكون على ضمانتك، إحنا أول مرة نيجي مطروح، أنا وأخواتي البنات وأمي، أكيد السواق هيقولك أنه يعرف واحد.
ماسةبتوتر: طب وليه كل ده؟ ماتجيبلي إنت حد؟ عايز تفهمني يعني إيدك مش طايلة هنا؟
رشدي بغرور: يا بنتي إيدي طايلة لكوكب المريخ! بس ماينفعش أظهر في الصورة دلوقتي أفهمي، الدنيا مقلوبة عليكي، بيدوروا عليكي في كل حتة، هو إنتي ركبتي القطر؟
ماسة بمراوغة: لا زي ماتفقنا ميكروباص.
رشدي: كويس اسمعي، لما توصلي الشقة عرفيني،وماتخديش أول سعر السمسار يقوله أرفضي، أعملي نفسك ماشية، هاينده لك وقولي له: ده موسم امتحانات وحاولي تتكلمي بلهجتك القديمة، وشخصية أمك أم لسان دي.
ماسة: طيب ماشي بقولك إيه ممكن تكلم سلوى تطمنها عليا.
رشدي: بعدين مش دلوقتي علشان سليم مفتح عينيه سلام.
أغلقت الهاتف وهي تتمتم: داهيه فيك إنت وأمك وإخواتك... حسبي الله ونعم الوكيل فيكم.
خرجت من المحطة، استوقفت تاكسي ونفذت تعليمات رشدي بالحرف، سألته عن سمسار، فأخبرها أنه يعرف أحدهم واصطحبها إليه.
وقف التاكسي أمام عمارة، جلس رجال عرب حول طاولة خشبية أمامها.
السائق:
السلام عليكم يا أبو ياسر، الأنسة عايزة شقة حلوة ليها هي وأمها وأختها، خد بالك منها. أنا همشي.
أبو ياسر: ماتقعد تشرب شاي؟
السائق: لا مشغول شوية، السلام عليكم.
أبو ياسر ملتفتًا لماسة: أيوه يا أنسة، عايزة شقة كم أوضة؟
ماسة بلهجتها القديمة: كفاية أوضتين، أنا وماما وأخواتي البنات، بس عايزين حاجة حنينة ونضيفة كده.
أبو ياسر: اليوم بـ200جنيه.
ماسة بإندهاش: 200جنيه إيه يا عم؟ صلي على النبي! إحنا لسة في شهر 6، والامتحانات شغالة، وبعدين هنقعد أسبوع ويمكن أكتر.
أبو ياسر: تدفعي كام؟
ماسة: 100جنيه.
أبو ياسر بإستهجان: 100جنيه إيه يا أنسة؟ قليل أوي!
ماسة وهي تبتعد: خلاص، سلام عليكم.
أبو ياسر نادى عليها: طب تعالي بس، هاديهالك بـ150. أوضتين، في الدور الرابع، وشايفة البحر.
ماسة: بس البحر بعيد.
أبو ياسر: لو وقفتي في البلكونة، هتشوفيه. البحر آخر الشارع ده.
ماسة بمهاودة: خليها 130، علشان هنقعد أسبوع، ويمكن أكتر لو الجو عجبنا، دي أول مرة نيجي مطروح، مفروض تكرمونا.
أبو ياسر: خلاص، ماشي. بس لازم تدفعي 500 تأمين.
ماسة: خد دول 1000، خليهم معاك لحد ما أمي تيجي وتشوف الدنيا، وأديك الباقي.
رفعت هاتفها، وتظاهرت بأنها تتحدث مع والدتها بصوت مرتفع ولهجتها القديمة.
ماسة بتصنّع: إيه ياما، أنا وصلت أهو، خدت الشقة، الدور الرابع. هبعتلك العنوان علشان لسه مش عارفاه،
لسة هشوف فيها مواعين؟
هز الرجل رأسه أكملت حديثها: أيوه، بيقولدلي آه. ماشي ياما، 130 جنيه، والله يا مااا لفيت ياما مافيش بقى خلاص ماشي، توصلي بالسلامة يلا سلام، يلا يا يلا يا عمي والنبي طلعني فوق بقى الواحد تعب من اللف.
صعدت الشقة خلف أبو ياسر، كانت شقة بسيطة، من تلك التي تُستأجر للمصايف، لا كماليات، لا شيء مميز، لكنّها كانت كافية.
نظرت إليه بابتسامة شكر: شكرًا جدًا.
أخذت المفتاح، وأغلقت الباب خلفه، لاحظت وجود قفل إضافي، فأغلقته، وأغلقت الباب بالمفتاح من الداخل، وتركته فيه.
جلست على كرسي خشبي في المنتصف، تتفقد المكان بعينيها التائهتين، كأنها تبحث عن أمان مفقود.
تبسمت ابتسامة جانبية حزينة، هي لم تكن تريد الكثير، شقة بسيطة مثل تلك، تعيش فيها مع سليم وأطفالهما، لم تطلب رفاهية، لكن الحياة كانت أنانية معها لم تمنحها سوى الألم والوجع والوحدة...والآن لا سليم، لا عائلته، ولا حتى ماسة نفسها، أصبحت امرأة أخرى لا تعرفها، ارتجفت، وكأن برودة الليل اخترقت جسدها برغم حرارة الجو، ضمت نفسها بذراعيها، وراحت تبكي.
على جانب آخر بالقاهرة.
كان إسماعيل يتابع لقطات الكاميرات بتركيز بالغ الكاميرا الأولى أظهرت ماسة في محطة الإسكندرية، والثانية وثّقت لحظة صعودها إلى قطار مرسى مطروح، بعدها، ظهرت في محطة الوصول، ثم التُقطت لها بعض الصور وهي تستقل إحدى سيارات الأجرة، أبطأ إسماعيل الفيديو، دقق في رقم السيارة، ودوّنه سريعًا، ثم أتصل فورًا.
إسماعيل: ألو، عدلي باشا؟ أخبارك إيه؟ صحيتك من النوم؟ معلش، عايزك في حاجة ضرورية، في بنت هبعتلك صورتها، وصلت عندكم في مرسى مطروح في القطر 2، ركبت تاكسي، هبعتلك رقم العربية وصورة السواق، كل إللي طالبه تعرفلي التاكسي نزلها فين، مافيش حد يحس بحاجة، الموضوع يتم في هدوء وبحذر تام، أنا دلوقتي هركب وجايلك، وعايز وأنا في الطريق كل، المعلومات تكون عندي، سلام.
أنهى المكالمة، وبدون تضييع وقت، أتصل بسليم:
إيوة يا سليم إحنا عرفنا مكانها، أنا رايحلها دلوقتي، عشري معايا. راوية هتيجي ولا لأ؟
على إتجاه آخر في جناح سليم وماسة.
رد سليم الذي ما زال على نفس الوضع منذ ساعات، صوته كان مبحوحًا ومرهقًا: لا، روح هاتها بنفسك ولما ترجع، هبعتلك عنوان تيجيلي عليه سلام.
مسح وجهه، وتنفس بارتياح. لأول مرة منذ سماعه خبر هروبها، شعر بشيء من الطمأنينة السكون، لأنه ببساطة وجدها.
في نفس اللحظة، إسماعيل قد صعد إلى السيارة، ومعه رجال سليم، ينطلقون في طريقهم نحو م...
تعليقات
إرسال تعليق