رواية الماسة المكسورة الفصل الثالث والسبعون 73 ج2 بقلم ليله عادل

رواية الماسة المكسورة

الفصل الثالث والسبعون 73 ج2

بقلم ليله عادل


مرسى مطروح، الرابعة صباحاً 

غرفة النوم

ماسة مستلقية على جانبها فوق السرير، ذلك السرير الذي بدا وكأنه جزيرة معزولة وسط محيطٍ من الوحدة، لم تكن ترمش كثيرًا، وكأنها تحاول تثبيت الزمن عند لحظة واحدة لحظة نجت فيها من كل شيء، ما عدا الخوف.

ببطء، مدّت يدها نحو الحقيبة الصغيرة الموضوعة بجانبها على الفراش، فتحتها، وأخرجت منها البلورة. نفس البلورة التي أهداها لها سليم منذ أيام، في ذكرى زواجهما.

ابتسمت إبتسامة حزينة موجوعة، تطفو فوق بحرٍ من الذكريات المثقلة.

وضعتها أمامها وأدارت الزنبلك، فانبعثت موسيقى هادئة تتراقص خلالها الإضاءة. تأملت دوران الألوان بعين ساكنة، تستمد من الضوء طمأنينة صامتة ذلك البيت صغير، وتمثالان يحتضنان بعضهما، يشبهانها هي وسليم كما وصفهما  في رسالته: هذا حصنهما.


تحدثت بصوت خافت، كأنها تراه أمامها بعينين ترقرقت بالدموع بنبرة يملئها الألم: عارف يا سليم؟ برغم إن أنا مشيت وبعيدة، بس أنا لسه خايفة، هناك في القصر كنت حاسة بحاجة غريبة، كنت بجد خايفة، بس كنت حاسة بالأمان وإنت جنبي، رغم كل تهديدات رشدي، ورغم إن فيه أصوات بقت جزء من حياتي، أصوات مش حقيقية، عقلي أخترعها من كتر الخوف، بس لما كنت في القصر جنبك، كنت بحس إني محمية بسبب وجودك، حتى لما قدروا يوصلولي، لكن في صوت جوايا بيقول لي: سليم جنبك ماتخافيش، بس برضه فضلت خايفة، مرعوبة غصب عني دول أهلي، ومالهمش ذنب، مستحيل أغامر بيهم، وهفضل أقولها وجودك حواليّا كان فارق، أنا مش عارفة أشرحلك مشاعري متلخبطة، أنا موجوعة وخايفة أوي يا سليم. 


نظرت مجددًا إلى البلورة، وأدارتها مرة أخرى، أكملت بشجن:

الهدية دي بتحسسني إنك موجود، فيها صوتك، صورتك، ريحتك، كأنها بتحضني لما بشغلها..

سكتت لحظة، وزمّت شفتيها في محاولة لكتمان ارتجافة قلبها، ثم قالت: أنا مش عارفة بكرة فيه إيه؟ ولا حتى عارفة إذا كنت عرفت مكاني ولا لسه؟! بس أنا خايفة، مش مرتاحة، وحاسة إني محتاجة حضنك دلوقتي، بس برضه، مش هينفع أرجع، أعمل إيه؟ أنا أول مرة أواجه العالم ده لوحدي وإنت بعيد عني، ومش هشوفك تاني، لو كنت حكيتلي عن ماضيك، ماكنش كل ده حصل... تعرف إنت وحشتني، وحشتني أوي رغم كل حاجة بحبك ومحتاجلك أوي أوي والله. 


راحت عيناها تتبع دوامة الضوء داخل البلورة، لكن قلبها لم يكن هناك، بل على ذلك الفراش، تذكّرت كيف استيقظت فجأة، وكيف كانت لياليها الأولى في القصر...


فلاش باك، أول سنة في دخول ماسة قصر سليم


في ليلة شتوية لا تُنسى، الساعة الثالثة فجرا 


جلست ماسة على طرف السرير، تضم نفسها، ترتجف. عيناها لا تغادران الباب، وكأنها تنتظر شيئًا.


وحين فُتح الباب أخيرًا، ورأت سليم، لم تتكلم، ركضت إليه كما يهرب الطائر من العاصفة، وارتمت في حضنه.


سليم وهو يحيطها بذراعيه بقلق: مالك يا عشقي؟ حد مزعلك؟


هزّت رأسها بخفة، ودفنت وجهها في صدره، ثم رفعت عينيها نحوه وهمست: لا، بس إنت اتأخرت وخوفت أوي، ماتتأخرش عليا تاني، أنا مش بعرف أنام ولا أرتاح غير وإنت هنا وبخاف وأنا لوحدي.


ابتسم سليم ابتسامة صغيرة، ومسح على شعرها بلطف، ثم ضم وجهها بين كفيه، وقال بصوتٍ دافئ:

أنا دايمًا هنا جنبك يا ماستي الحلوة، كل ماتحسي إنك خايفة، غمّضي عنيكي وتخيّليني، هتلاقيني جنبك، حواليكي محاوطك بحضني وقلبي و روحي. 


عودة إلى الحاضر


عادت ماسة من ذكرياتها ودموع موجوعة تسيل على خدّها، أغمضت عينيها، وفي خيالها، كان سليم هناك، على الفراش بجوارها، روحه تسكن الحلم.


اقتربت أكثر، أرادت أن تلمسه، أن تستند إلى صدره، وهمست: إنت هنا؟


فابتسم سليم، وأجابها بصوته الدافئ: أنا دايمًا هنا ياقطعة السكر.


ابتسمت بألم، وأغلقت عينيها مطمئنة، لكن حين فتحتها، لم تجد سوى الوسادة، باردة، صامتة، خالية من طيفه. 


نهضت بسرعة، والدموع تتهافت بحرقة على وجنتيها، وكأنها توقظ أوجاعًا دفينة، أخذت نفسًا عميقًا، لكن الهواء لم يملأ صدرها، بدا كأنها تختنق.


تقدّمت بضع خطوات نحو الشرفة، فتحت الدرفه بهدوء، أغمضت عينيها واستنشقت بقوة، تحاول إنعاش روحها المتعبة.


وفي الصمت، تذكّرت صوته وهو يقول: أنا دايمًا هنا


مدّت يدها إلى صدرها، كأنها تحاول أن تحتضن شيئًا غائبًا، ثم رفعت نظرها إلى السماء تمتمت بصوتٍ مكسور: يا رب، خلي إللي فات يكون قوة، مش وجع وخليني ألاقي السلام، حتى لو بعيد عنه.


بعد ساعات، تسلّل ضوء الشمس من الشباك النصف مفتوح. كانت ماسة نائمة على جنبها كجنين، تحتضن البلورة بصمت، ودموعها تنساب بلا صوت، فجأة، دوّى طرق عنيف على الباب، ارتعشت عيناها واتسعتا، جلست ببطء، عقلها مشوش… من يطرق الباب في هذا الوقت؟!

نظرت إلى ساعتها: السابعة صباحًا، والطرق لا يزال مستمرًا.

نهضت ماسة، خطواتها بطيئة مترددة، اتّجهت نحو المطبخ وسحبت سكينًا بيد مرتعشة، قلبها يخفق بقوة، خوفها يسبق خطوتها.


عندما اقتربت من الباب، قالت بصوت مرتعش: مين؟


جاءها الصوت من الخارج، صوت مألوف لكنه مرعب: افتحي يا ماسة هانم، أنا عشري


اتسعت عيناها أكثر، قلبها خفق بقوة حتى سقطت السكين من يدها الصدمة أكبر من قدرتها على التحمل، تراجعت بخطوات إلى الخلف، وهي تحدث نفسها: إزاي وصلولي؟ إزاي؟


عشري كرر: ماسة هانم، أفتحي الباب لو سمحتي.


لكن ماسة وقفت في مكانها، مصدومة، غير قادرة على الحركة.


على إتجاه آخر قال إسماعيل: عشري، أكسر الباب مش هاتفتح.


عشري برفض: أصبر شوية يا إسماعيل (تابع بهدوء) ماسة هانم، من فضلك، أفتحي الباب، ده الأفضل لينا وليكي.


لا تزال ماسة متجمدة كثلج يأبى الإنصهار، عيناها تدمعان، وجسدها يرتجف.


أشار عشري للحراس كي يكسروا الباب، وبالفعل، بضربة واحدة، انكسر الباب، دخلوا، وسيطروا على الأجواء.


تقدم عشري نحوها بهدوء: ماسة هانم، من فضلك، من غير أي مشاكل، بعد إذنك، اتفضلي معايا


هزّت رأسها رافضه، دموعها تنهمر، حاولت راوية أن تلمسها: ماسة هانم، من فضلك يلا معايا.


دفعتها ماسة بعنف صاحت بهم: محدش يقرب مني، سامعين!


تراجعت وجلست فـ ساقيها اللتان لم تعودا قادرتين على احتمال المزيد، الصدمة تملأ وجهها، وعيونها تنزف بلا صوت، عقلها ما زال غير مستوعب أنهم استطاعوا الوصول لها بتلك السرعة. بعد لحظة، رفعت نظرها، بصوت هادئ.


ماسة بنبرة مكتومة: هو سليم فين؟


عشري: مستنيكي في مصر.


صمتت ماسة، ثم تمتمت من بين ارتجافتها: طب هدخل الحمام. 


رد إسماعيل مسرعاً: لا، أصبري، هنقف على الرست


عشر: إسماعيل، خف شوية.


إسماعيل بإحتجاج: ممكن تهرب!


عشري بنبرة حاسمة: قلتلك خف!


ثم نظر إلى ماسة: اتفضلي يا هانم، بس راوية هتبقى معاكي واقفة عند الباب، ومعلش.هدخل أبص جوة الأول، إحتياطي.


أومأت ماسة بصمت دخل عشري إلى المرحاض، نظر فيه ثم خرج، دخلت ماسة وتوقفوا في انتظارها في الخارج.


وقفت أمام المرآة كل شيء انتهى بسرعة، قبل أن يبدأ حتى، نظرت في المرآة كانها ترى حياتها التي انحرفت فجأة عن مسارها، لا تفهم إلى أين تتجه، كأنها قطار بلا سائق، يسير بلا وجهة، إلى أن يقرر القدر أين محطة الانتهاء، لم تنزل الدموع هذه المرة ولم تشعر بالوجع ولم تشعر بشيء فهذه مشاعر جديدة تخللت عليها، غسلت وجهها، وحاولت أن تهدأ.


سحبت الهاتف من جيبها هاتفت رشدي، نظرت بكراهية كأنه مصدر كل مصائبها التي تحدث لها، قبضت عليه، ورمته بكل غضب على الأرض فكسر، انحنت قليلا وأمسكت الشريحة وكسرتها ورمتها في المرحاض، سحبت السيفون، ثم رفعت باقي الهاتف المكسور، حشرته داخل السيفون، وأغلقت الغطاء بإحكام.


خرجت بصمت، دخلت الغرفة، توقفت عند الفراش، أمسكت بالبلورة بألم، وضعتها داخل حقيبتها جمعت أغراضها، وتحركت معهم بصمت غريب، واستسلام أغرب، هبطوا للأسفل صعدت السيارة مع اسماعيل وراوية فقط وانطلقت السيارة.

💞________________بقلمي_ليلةعادل⁦


سيارة إسماعيل على الطريق


ماسة تجلس بجانب راوية في المقعد الخلفي، تسند رأسها على النافذة بصمت، بينما إسماعيل بجوار السائق يقوم بإجراء اتصال بسليم.


إسماعيل بنبرة فيها سعادة وفخر: سليم بيه، أحب أقولك، ماسة هانم بقت معانا، تحب تكلمها؟


على إتجاه آخر عند سليم في جناحه مع تبادل الشاشة بينهما


سليم جالس على مقعد يدخن سيجارته، اليد الأخرى تتكئ على المسند الدخان يعلو أمام وجهه، يخفي ملامحه تحت ظلال قاتمة.


سليم بصوت هادئ دون أن يأتي بأي حركة، نبرته قاتلة، عينه شبه ميتة: لا. هبعتلك عنوان، تجيبها لي سلام.


أغلق الهاتف دون تردد، ثم توقف وتحرك بخطوات ثقيلة، توقف أمام المرآة.


حدّق في وجهه نظرة غريبة، كأنما يحاول أن يقتل قلبه، أو يقتل حبه، ربما يقتل ماسة من داخله، تنهد تنهيدة عميقة، ثم تحرك كأن كل خطوة منه تدفن مشاعره تحت الأرض.


دخل الحمّام. صوت الماء الساخن ينساب وكأنه يغسل ماضيه، خرج بعدها، ارتدى ملابسه كما لو كان يومًا عاديًا، لا شيء يدل على اقتراب العاصفة، هبط للأسفل لتناول الفطار بخطى روتينية، لكن كل شيء فيه كان أبعد مايكون عن العادي.


في السيارة عند إسماعيل 


أغلق إسماعيل الهاتف، عيناه انعكستا في المرآة، تتلصصان على ماسة التي تجلس بصمت غريب، مليئة بالوجع، بلا دموع، كأنها مجرمة صدر بحقها حكم الإعدام ظلمًا، تسند رأسها على زجاج النافذة البارد، تنظر إلى الطريق وكأنها ترى نهايتها.


إسماعيل، بنبرة فيها سخرية وهو يضحك: واضح إن سليم باشا محضرلك مفاجأة، حد يعمل إللي إنت عملتيه ده؟ كنتِ فاكرة إنك مهما تهربي، مش هعرف نوصلك؟ تبقي غبية، إنتِ بتلعبي مع سليم الراوي، أنا مش عارف إزاي جاتلك الجرأة تعملي إللي عملتيه ده، وعلشان إيه يعني؟ أنا فاكر إنك كنتي بنت فلاحة بسيطة، ماتحلميش حتى تتجوزي السواق الخاص بسليم باشا أو راجل من رجالته؟ فتخيلي بقى لما تتجوزيه هو شخصياً! ده لسه من شوية ناقذ أخوكي، وطلّعه من قضية كبيرة، قضية كان ممكن ترمي أخوكي ورا الشمس، خلي بالك القضية ممكن تتفتح من تاني في لمح البصر، زي ماتقفلت بمعرفتنا.


رفعت ماسة عينيها نحوه، نظرتها مصدومة، حاجباها معقودان في ذهول، حاولت أن تفهم، أن تستوعب، لكن كلامه كان كالسكاكين.


لاحظ إسماعيل نظرتها، فابتسم ببرود وسادية، ثم مال قليلًا برأسه تابع: مالك مستغربة؟ بتبصي كده ليه؟ ما هو ده طبيعي، تفتكري يعني سليم هيسامح بعد إللي كنتي ناوية تعمليه؟ تبقي غبية، هو ليه يفضل محافظ على حياة أخوكي وإنتِ هربانة منه؟ عشان إيه؟ وصدقيني، إللي بيحبوا يوجبو مع سليم باشا كتير أوي، كفاية بس يقول "أنا زعلان" تفتكري بقى ممكن يعملوا إيه؟ 


ماسة،فجأة وبصوت غاضب لكنه مكسور ، تلعثمت من الصدمة: هو إنت اتجننت يا إسماعيل؟ إيه إللي إنت بتقوله لي ده إنت واعي لنفسك؟!


إسماعيل، وهو يلتفت برأسه قليلًا، يرد ببرود ثلجي:

أنا بفهمك إللي ممكن يحصل فيكي وفي أهلك، على الأقل خافي على أهلك يا ماسة، علشان شعار سليم المفضل، لو عايز يقضي على حد، أو ينتقم من حد، ينتقم منه من أقرب حد ليه، من نقطة ضعفه. وإنتي عندك نقط ضعف كتير يا ماسة.


ماسة بثقة وبصوت مهزوز: مستحيل سليم يعمل كده فيا. 


ضحك إسماعيل بخفة مرعبة: يمكن زمان كان مستحيل، بس دلوقتي بعد إللي عملتيه ماعتقدش والدليل على ده إنه بعتني أنا بالذات ولا بعت مكي ولا بعت حتى عشري،لكن باعتني أنا كرسالة ليكي، علشان أنا العفريت بتاعه، وإسماعيل لما بيظهر؟ معناها إن سليم رفع الحماية، وإنه بينذرك: بالجحيم إللي جاي، لو استمريتي في أخطائك واللعب في النار.


نظرت له ماسة في ترقّب، تسلل الخوف شيئًا فشيئًا لعينيها قبل قلبها لكنها سرعان ما أشاحت بوجهها ونظرت للطريق من جديد. لم ترد، لكن كلماته لم تمر مرور الكرام، بل حفرت أثرًا عميقًا داخلها، ظل يرن في أعماقها بصمت.


قصر الراوي، السابعة صباحًا


السفرة


بدأ الجميع في التجمع حول المائدة لتناول الفطور، وكان سليم بينهم، وجوده جذب بعض الأنظار، إذ بدا الاستغراب واضحًا على وجوه رشدي، وفايزة، وعماد، وصافيناز، لم يتوقع أحد منهم حضوره، خاصة في هذا التوقيت.


فايزة وهي تنظر إليه بدهشة: غريبة يا سليم، ماتوقعتش إنك تفطر معانا! بقالك كتير مابتظهرش، لا على الفطار ولا العشا، ومابتقعدش معانا خالص.


سليم بهدوء، وهو يتناول الطعام: كان فيه شوية حاجات كده وخلصت 

رفع عينه نحوها متسأل: إيه مش مبسوطه بوجودي؟!.


ابتسمت فايزة ابتسامة خفيفة: أكيد مبسوطة بوجودك، وإنك رجعت تركز في شغلك، وإللي كان مشتتك، خلاص خلصت منه. 


سليم بثقة: أنا هبهرك الفترة الجاية يا هانم، أوعدك بده.


فايزة بنبرة تحمل الكثير من المعاني: يا ريت يا سليم، هو ده الوقت إللي أنا مستنياه، ترجعلي سليم إللي كنت أعرفه، ورغم إني مابحبش الشخصية دي، بس لو هترجعك زي زمان، فأهلاً بيها.


بدأوا في تناول الإفطار وسط أجواء حذرة بعض الشيء، وبعد انتهائهم، توجه كلٌّ منهم إلى سيارته. توقف رشدي للحظة أمام سيارة فايزة، والتي كان عزت بداخلها بانتظارها، لاحظ عزت همسات خافتة بينهما، وبدأ يشعر أن هناك أمرًا يُدار في الخفاء.


رشدي بصوت منخفض: بقولك إيه يا ماما، ماتنسيش تبلغي بابا إني لازم أحضر مؤتمر العلمين، إنتي فاهمة ليه طبعًا.


فايزة بهدوء: ما أنا قلتلك خلاص.


هز رشدي رأسه، ثم تابع متعجبًا: بس مش غريبة إن سليم راح المجموعة؟


نظرت إليه بخبث: إنت متأكد إنه مالقاهاش لسة؟


رشدي بسرعة: طبعًا لو كان، كنت عرفت.


فايزة، وهي تمسك بهاتفها: خلاص، خلينا على التليفونات وأنا هكلم عزت دلوقتي.


دخل السيارة وأغلق الباب، وتحركت السيارة، بينما بقي هو واقفًا ينظر خلفها بتفكير غائر.


داخل السيارة


نظر عزت إلى فايزة متسائلًا: حاسس كدة إنك إنتي اولادك بتخططوا لحاجة.


فايزة دون أن تنظر إليه: نخطط لإيه يعني؟


عزت بفطنة وبنبرة شك: مش عارف؟! بس في همسات ومقابلات بتحصل جوه أوض النوم كتير.


فايزة بهدوء مصطنع: أولادك مجننينّي علشان المشروع الجديد بتاعهم عايزينك تقنع سليم بيه.


ضحك عزت بسخرية: الكلام ده تقنعي بيه سليم لما الجواسيس بتوعه يقولوله على إللي بيحصل في القصر، او الكاميرات إللي زرعها تنقل له كل حاجة عن تحركاتكم..

قلب عينه نحوها، متسائلًا بنبرة قوية:

إنتي بتخططي لإيه يا فايزة؟ ماسة بقالها فترة غريبة، وسليم كمان مابيكونش فاقد اتزانه، غير لما تكون هي متغيرة معاه. أكيد إنتم ورا التغيير ده.


فايزة بهدوء حذر: إحنا مش ورا حاجة، بس بص يا عزت، في حاجة أنا لاحظتها، والنهاردة في الاجتماع هتأكد منها و وعد مني وإنت عارف فايزة لما بتوعد هقولك على كل حاجة.


هز عزت رأسه، وقال بنبرة تنذر بالخطر: يبقى في خطة، ونجاحها محسوم على طريقة سليم النهاردة.


أجابت بثقة: بالضبط.


عزت بصوت منخفض لكن بتهديد: فايزة، لو في حاجة حصلت ممكن تئذي اسم العيلة، أنا هحرقكم كلكم، ده لو لحقت قبل ما سليم يعملها.


رفعت حاجبها، وقالت بنبرة ثابتة: عزت، أولادك افتكروا إني غبية وسهل يتلعب بيا، رغم إني أنا إللي لعبت بيهم، أنا أكتر واحدة عارفة سليم، عارفة ابني كويس، ماحدش يعرفه قدي، لإنه شبهي في حاجات كتير، وإللي أنا شفته على السفرة، وإللي بنسبة كبيرة هيحصل في الاجتماع، هيتم زي ما أنا خططت ورسمت، ساعتها، أحب أقولك إنك هتشكرني على الخطة دي لإني هرجعلك سليم بتاع زمان.


قطّب عزت حاجبيه: يبقى إنتوا إللي ورا تغيّرات ماسة مع سليم وخليتوها تعمل مشاكل معاه؟؟ 


ردت ببرود: عزت خلينا نتكلم بعدين.


أشارت للسائق بيدها، فتدخل عزت ساخرًا: ماتقلقيش الإزاز إللي بينا وبين السواق مش هيسمع حاجة.


مجموعة الراوي،التاسعة صباحًا


غرفة الاجتماعات


نرى جميع أفراد عائلة الراوي في أماكنهم والمديرين أيضا، لكن الكرسي الأهم لا يزال خاليًا.


فايزة قطعت الصمت بنبرة قلق: ماحد يروح يشوف سليم فين؟


ياسين بهدوء، وكأن الأمر لا يستحق التوتر: أنا كلمته، مابيردش، وكلمت مكي، قال لي دقيقتين وهيبقى موجود.


اقتربت صافيناز من رشدي وهمست بصوت منخفض لا يكاد يُسمع: غريبة إنه جه؟


زم رشدي شفتَيه بتوجس وهو يهمس: فعلاً، المشكلة إن تليفونها مقفول.


صافيناز: تفتكر وصلها


رشدي: تبقى مصيبة، بس هنعرف إزاي.


وفي اللحظة ذاتها، فُتح الباب بهدوء، ودخل سليم لم يتغير في ملامحه شيء، لا توتر، لا انفعال، وكأن ماحدث بالأمس لم يكن سوى حلم عابر، خطواته ثابتة، ونظراته واثقة، والهيبة والشموخ لا يفارقانه مهما اختلفت الظروف.


ألقى تحية الصباح بصوت منخفض، وسحب مقعده وجلس إلى جوار عزت.


سأله عزت بجدية: اتأخرت كده ليه يا سليم؟


سليم وهو ينظر أمامه بثبات: كنت بصلي.


ابتسم رشدي بسخرية خفيفة، فلم يتأخر سليم في رد رفع عينيه نحو وجهه: بتضحك على إيه؟


رشدي وهو يتلاعب بالقلم: لا مافيش.


لم يُعِرْه سليم اهتمامًا، بل إلتفت إلى الجميع معلنًا بداية الاجتماع.


سليم بنبرة حازمة: خلينا نبتدي الإجتماع، بس في حاجة لازم أقولها قبل ما نبدأ، أنا مش هقدر أروح مؤتمر العلمين النهاردة، ياسين هيروح مكاني.


إعترض رشدي بنبرة متحفزة: بس أنا كنت عايز أروح!


قاطعه سليم دون تردد، بصوت قاطع: أنا قلت ياسين هيروح، وإنت هتفضل هنا عشان مشروعك إللي بقاله سنة وماطلعناش منه غير بوحدتين.


هتف رشدي مستنكرًا: وحدتين دول قليلين؟


سليم بهدوء: جـدًا، إنت قلت المشروع ده على ضمانتك، وإنت بتلعب وكتير مابتجيش المجموعة. وصافيناز نفس الكلام لو فضلتوا كده، أنا مش هامضي على المشروع الجديد إللي الباشا وافق عليه. أنا مش عايز لعب، أنا عايز تركيز.


اهتزت صافيناز في مقعدها وقالت بصوت لا يخلو من الاستنكار: بس إنت بقالك أسبوع غايب، يعني إشمعنى إنت عادي؟


ابتسم سليم بثقة، وعيناه لا تفارقانها: حتى وأنا غايب، كنت شايف ومتابع، وماقصرتش، وبصراحة، غيابي كان فرصة ليكم علشان تلعبوا براحتكم كإنها فسحة، بس خلاص من هنا ورايح، هتلاقوني كل يوم على مكتبي ومركز معاكم.


ثم أشار بيده: يلا، سمعوني أخبار المجموعة والشغل.


وبالفعل، بدأت المناقشات، لم يكن سليم حاضرًا فقط بجسده، بل بتركيزٍ فاجأ الجميع.


كان يبادلهم النظرات، يرد بدقة يعلّق بحسم، لم يكن ذلك الرجل المشتت الذي توقعوه، بل بدا كما لو أنه عاد أقوى مما كان.


وحين انتهى الاجتماع وبدأ الجميع في الخروج.


وقف عزت أمامه، وجهه مشرق بدعم أبوي خالص:

أنا مبسوط إنك سمعت كلامي وركزت، هو ده سليم ابني إللي أنا أعرفه، مافيش حاجة في الدنيا تقدر توقفك عن طموحك وأهدافك، هفضل أقولك الجملة دي، مافيش حد يستاهل إنك تخسر حياتك عشانه، صدقني، أنا بأوعيك.


رفع سليم عينيه إليه، نظرة مليئة بالإصرار: ماتقلقش، أوعدك، سليم إللي إنت تعرفه رجع، ومستحيل يتغير، إنت كان عندك حق يا باشا، العاطفة لما بتتحكم في إنسان، بتدمّره، بس أنا بستأذنك، ماتقفش قصادي عشان أنا هبقى زي القطر، مابقفش في المحطات وبيدوس أي حاجة ممكن تقف في طريقه. 


عزت بموافقة: طول ما ده هايوصلنا للحلم الكبير ويخلينا نملك العالم، مستحيل أقف..

تابع بتحذير: بس أنا كمان هفضل أقولك، بلاش تعمل عداوة مع إخواتك.


سليم معترضا بنظر حادة: أنا عمري ما بدأت عداوة مع حد، بس لو طموحهم وأطماعهم جم قصاد مصلحتي وهايئذيني، مش هعتبرهم إخواتي، هعتبرهم أعدائي، جو العواطف بتاع زمان ده والمسامحة والفرص كان زمن وانتهى. 


اقترب عزت أكثر، نبرة صوته ازدادت دفئًا وقلقًا: سليم انا مش عايزك تفقد إنسانيتك، هو أنت يا تبقى عاطفي بزيادة، يا تبقى من غيرها خالص، أنا مش عايز أشوف النظرة دي في عينك. 


تبسم سليم مستنكرا: صدقني يا والدي العزيز، إنت كنت صح، وفايزة كانت صح، وأنا زمان كنت صح خلينا ننسى الفترة إللي في النص دي عشان دمها تقيل، أوعدك بنجاحات أقوى بكتير، بس على شرط مش هنشتغل تاني في أي حاجة خطر.


صمت عزت للحظة شعر أن هناك شيء ما سأله بحذر: هو إيه إللي حصل مع مراتك؟ بعدين أنا عرفت إنك جبت فيلا جديدة، إيه هاتسيب القصر؟


هز سليم رأسه، ونبرة صوته عادت هادئة: آه، هسيب القصر النهاردة..

مرر عينه وهو يبتسم قائلا:

عرفت بسرعة؟ ده أنا لسه مامضتش العقود ولا حتى عرفت شكلها!


ضحك عزت بخفة: أنا لسة عزت الراوي برده ياسليم ، برغم إنك يعني، مش مخلي حد ميعرفش!


ابتسم سليم بثقة: بالظبط، هي دي الإجابة المقنعة، أنا إللي كنت عايزك تعرف، بقولك إيه يا بابا، أنا هخلص شوية شغل كدة وهمشي وأوعدك من بكره التركيز هيبقى 100%.


عزت بقلق: طب إيه إللي حصل مع مراتك فهمني؟


سليم بصوت منخفض: مافيش حاجة حصلت، عن إذنك.


تركه ومضى. زم عزت شفتيه وشعر بقلق وأن هناك شيء ما قد حدث. 


في مكتب فايزة،


دخل عزت الغرفة، وأغلق الباب خلفه بهدوء. اقترب منها، وعلى وجهه علامات الجديةوالصرامة


بنبرة لا تقبل المراوغة:بقولك إيه إحكيلي كل حاجة.


رفعت فايزة عينيها نحوه، وهمست بشفتيها من دون صوت: مش هنا ممكن يكون سليم سامعنا خلينا نخرج على واحدة نتغدى برة، أوكيه؟


أومأ برأسه، دون أن يعلّق.


في إحدى البواخر النيلية، الساعة الثانية مساءً


جلس عزت وفايزة أمام بعضهما على إحدى الطاولات يتناولان الطعام.


تساءل عزت وهو ينحني قليلاً نحوها، ضيق عينه متعجباً: إيه كل الاحتياطات إللي إنتي واخداها دي؟ هو إنتي فعلاً قلقانة من سليم للدرجة دي؟


فايزة بهدوء: طبعًا قلقانة.سليم بيراقبنا كلنا، وأنا متأكدة إنه بيراقبك إنت كمان، رجالتك كلهم ولاءهم لسليم؟مش ليك ولا ليا.


عاد عزت بظهره على المقعد وقال ببرود قاتل: أدخلي في الموضوع يا فايزة.


فايزة بلا رمشة، بنبرة حاسمة وكأنها تروي تقريرًا لا اعترافًا: إللي حصل، إن إحنا إللي ورا حادثة مجاهد، وخوّفنا ماسة، وقلنا لها: لو مابعدتيش عن سليم، هنقتل كل عيلتك، واستغلينا المشاكل إللي بينهم، خصوصًا تهديداته الأخيرة، كانت نفسيتها على الحافة وده سهل علينا كتير.


شهق عزت بصوت مكتوم: إنتي اتجننتي؟! إزاي تعملي كده؟ ومين ساعدك؟

ضحك باستهتار وتابع:

وهسأل ليه أكيد صافيناز، عماد، رشدي، ومنى وطه كمان!


فايزة بهدوء، وهي تتناول الطعام: منى وطه مالهمش علاقة، بالتأكيد ماكنتش هقف أتفرج على إنهيار سليم، وإنهيار سليم يعني إنهيار اسم العيلة، بعدين، أنا من الأول قلت لك: البنت دي لازم تمشي من القصر ويستحيل أقبل بالخدامة دي ومهما حصل هتفضل في عينيا خدامة وأهلها رعاع وصعاليك.


أكملت بفخر من نفسها وبإبتسامة ارتسمت على شفتيها: أصلاً بعد إللي حصل في الاجتماع النهاردة، المفروض تشكرني، سليم بدأ يفوق ورجع تاني سليم الراوي، وده محصلش غير لما عرف إن البنت دي ماتستاهلوش، وده بفضلنا وبفضل الخطة، إنت عارف إنها فعلاً هربت منه يوم الحفلة؟


عزت بابتسامة جانبية مستنكرة: أكيد إنتي إللي ساعدتيها تهرب يوم الحفلة.


فايزة ببرود، وهي تتلاعب بالشوكة في الصحن: إحنا  مكناش السبب المباشر، رمينا الطُعم، والبنت بلعته، صدقني لو كانت بتحبه بجد، كانت رجعت له، كانت عرفتك ما إنت عامل فيها الحما الحنين أو حتى اتكلمت معاه، لكن هي خافت واختارت تسكت.


عزت نافياً بثقة: ماسة مش زي منى، ولا هبة، دي بنت ضعيفة وبريئة جدًا، وإنتي استغليتي ضعفها.


فايزة بحسم ودون شعور بالذنب: إللي عملناه، سواء كان صح أو غلط، مش مهم، المهم إننا رجعنا سليم.


تنهد عزت: رجعتيه، بس إللي حصل في الاجتماع مش مقياس. 


فايزة بابتسامة اعترضت بثقة: بالعكس، إللي حصل النهاردة دليل، وبيأكد لك إن سليم الراوي رجع زي زمان، حتى لو مش هيشتغل في الشغل التاني مش مشكلة، دلوقتي إللي بيتحكم فيه عقله، مش قلبه، ولا شوية العواطف الفارغة إللي كانت مخلياه ضعيف ومذبذب.


عزت معارضاً بحكمة: شوية العواطف إللي بتسخري منهم، هما إللي خلوه إنسان، بيتعامل معانا برحمة وحنية، بلاش تقتليهم لإنك عارفة سليم كويس. 


قهقهت فايزة بمرارة: حنية إيه يا عزت؟ سليم عمره ما كان حنين معانا هو مش حنين غير معاها وبس.


كاد عزت أن ينطق لكنها تابعت بحدة وسيطرة:

بص يا عزت، سليم بقاله فترة مذبذب بسبب البنت دي إللي مسكاه من قلبه، مافقش لنفسه غير لما أنا بدأت في الخطة، عارف إمتى الواحد يعرف إن إللي قدامه مايستاهلوش؟ لما يشوفه بيهرب منه مش عايزة، حتى وهو بيحبه، وإحنا خلّينا ده يحصل، حتى لو عن طريق طرق كذابة، أو غير مشروعة.


سألها عزت بضيق: وعملتوا إيه تاني؟


رفعت فايزة كتفيها، وهي تتناول الطعام بكذب مصطنع: مافيش، هدّدتها بس، هي أصلاً كانت عايزة تطلق، بس مش قادرة تاخد القرار، وأنا خليتها تاخده.


عزت وهو يركز النظر داخل عينيها بشك: متأكدة هو ده بس إللي عملتيه.


فايزة بتأكيد دون أن ترمش: أيوة هنكون عملنا إيه مثلا أكتر من كدة التهديد والتنفيذ وقطعًا طلبنا إنها تزود عليه النكد عشان يكرهها. 


تساءل عزت، وهو يتناول ما في الشوكة: ماخفتيش؟ لو فقدت السيطرة وقالت كل حاجة لسليم؟


تبسمت فايزة بشر: إحنا ماديناهاش فرصة تفكر، خنقناها بالتهديدات، دلوقتي هي مش عند أهلها زي ما قال، هي هربانة، بس المرة دي من نفسها، وأنا متأكدة إن سليم وصل لها. لأنه ماكانش هييجي الاجتماع بالهدوء ده، إلا لو عرف مكانها.


هز عزت رأسه ببطء: كده يبقى سليم القديم رجع، وهيخلي حياتها سَوَاد. لإنه مابيسمحش لحد يهينه أو يجرحه خاصة لو سليم بيحبه.


تبسمت فايزة بتأكيد: بالضبط، وده إللي كنت عايزة أوصله..

تابعت بخبث ومكر ثعلب:

ولادك كانوا فاكرين إن سليم هيضعف، وهيكون مشتت، والمجموعة هتغرق، و وقتها هما هياخدوا مكانه، بس أنا كنت متأكدة إنه هاييجي في جزئية معينة، وهيقلب عليها هيفضل يستحمل، ويسامح وبعدها هتخرج شخصيته القديمة، وهو ده إللي كنت عايزة أعمله: إن هي تفضل تعمل معاه مشاكل وتزهقه، وتحاول تهرب أكثر من مرة، ويجيبها، ويسامحها، ويتحمل غضبها ورفضها ليه، وإنت عارف إن دي أكتر حاجة بتجنن سليم، إنه يحس إنه مرفوض من أكتر شخص بيحبه، كبرياؤه بيقتله وبيحس بألم كبير وخذلان، يعنى خلاص كلها أيام ونخلص من ماسة للأبد، وإحنا متأكدين إنها خرجت من قلبه كمان، وفي نفس الوقت ماخسرناهوش بالعكس، هيرجع أقوى من الأول، وهايصحصح لإخواته، وساعتها أنا وإنت هاندعمه دعم كامل، مش بس هانديله حق الإدارة.


تبسم عزت بانبهار: خطة شيطانية يا فايزة، بس خذلان سليم وجرحه والألم إللي هيشعر بيه مش هيبقى شيء عادي.


فايزة بعملية: بالتأكيد شئ غير عادي بس عشان نسترجع سليم لازم يكون فيه شوية خساير هيزعل حبه وخلاص لإن أنا وإنت هنبقى معاه ونفهمه إنها ماتستهلش يفكر فيها للحظة أو حتى يندم بالعكس ده يدوس عليها برجله ويكمل.


عزت بتأكيد: ولادك فاكرين إنهم بيستغلوكي، لكن إنتي إللي بتلعبي بيهم.


ضحكت ببرود، وهي ترد: طبعًا، هما كانوا فاكريني غبية، أنا لو مكنتش متأكدة إن تشتت سليم فترة مؤقتة، وكل ما ماسة ضغطت عليه، يبقى حفرت نهايتها بإيديها، ماكنتش وافقت على الخطه.


تنهد عزت، وأدار نظره بعيدًا: أنا مش هنكر، أن ماسة كانت عاملة لنا مشاكل، وخسرتنا كتير، وأثرت على عقل سليم لفترة، بس إللي إنتي عملتيه، رغم إنه قاسي، بس في الآخر بيصب في مصلحة المجموعة.


فايزة بحذر: المهم لازم ناخد احتياطاتنا أكتر من كده، وسليم مايعرفش حاجة.


عزت: سيبِي الموضوع ده عليا، أنا هظبط التغطية.

بس إنتي، متأكدة إنه فعلاً وصل لها؟


هزت كتفها، وقالت بهدوء: مش تأكيد كامل، بس كل إللي بيحصل بيأكد ده، هو رشدي إللي عارف وأنا مش هقدر أتواصل معاه إلا لما أرجع القصر بقولك إيه ماتقولش إنك عرفت.


عزت: أكيد علشان تبقى عيني عليهم.


فيلا ماسة وسليم على طريق مصر إسكندرية، الثانية مساء.


( تلك الفيلا التي ظهرت في أول الرواية )


دخلت سيارة إسماعيل من باب الفيلا، ماسة تحدق من النافذة بعينين تملؤهما الدهشة، لا تدري أين هي؟!


توقفت السيارة، ففتح لها أحد الحراس الباب، هبطت وهي تسترق النظر حولها بإستغراب عميق.


وفي تلك اللحظة، ظهر سليم عند باب الفيلا، يفتح ذراعيه بابتسامة تعلو ثغره وكأن شيء لم يكن.


سليم بإبتسامة عريضة ونبرة حماسية بها سخرية مبطنة:

حبيبة قلبي، حمد لله على السلامة، أتمنى الرحلة تكون سهلة وخفيفة عليكي.


نظرت له ماسة بعينين متسعتين من الاستغراب، بينما هبط سليم كام درجة واقترب منها حتى توقف أمامها.


سليم بنبرة مبهمة، لاتكشف ما وراءها غضب أو سخرية، لكنها تبث الخوف في القلب: معلش، عارف إنك مالحقتيش ترتاحي من السفر، القاهرة، الإسكندرية، لمطروح، ورجعتي تاني، الموضوع ماخدش ساعات، ماتقلقيش يا عشقي الأبدي، هاترتاحي كتير أوي الفترة الجاية.


ماسة بتلعثم وخوف: هو هو إحنا فين؟


سليم بإبتسامة هادئة: بعدين، هنتكلم فوق في أوضتنا يا عشقي الأبدي.


نظرت له ماسة بإستغراب، لم تستطع أن تحدد ما في ملامحه من غموض، كانت تتوقع أن يستقبلها بغضب متفجر وصفعات قاسية، لكنه هاديء كبحرٍ ساكن قبل هبوب العاصفة هذا الهدوء المريب يُثير في نفسها خوف أعظم من أي غضب تتوقعه.


رفع سليم عينيه بإعجاب نحو إسماعيل، قال بإنبهار:

برافو يا إسماعيل، أثبت إنك من أفضل رجالي، هحولك مليون دولار في حسابك في فرنسا، زي كل مرة هنقسمهم: شوية في فرنسا، شوية في ألمانيا، وشوية في سويسرا، ومش بس كده الشالية إللي يعجبك في أي مكان بنمتلكه داخل مصر قول لي عليه وبكرة هيبقى عندك وعربية للمدام كمان، هي برده سابتك تنزل وهي تعبانة وأنا عارف قد إيه إنت بتحبها زي ما أنا بحب مسموسة بالظبط.


إسماعيل: إحنا دايمًا في الخدمة يا سليم بيه أنا راجلك، يلا يا رجالة.


تحرك إسماعيل ومعه رجاله، بينما اقترب سليم من ماسة، كانت نظرته مرعبة، لكنها هادئة وغريبة، كأنه يخطط لشيء لا يُحمد عقباه.


سليم بإبتسامة: يلا بينا يا ماسموستي.


ماسة بتوتر: ممكن تديني فرصة أشرحلك؟


سليم وهو يمد وجهه بالرفض القاطع: تؤ.


فجأة أمسك يدها وسحبها بلا حديث.


تحركت معه بصمت، وهي تشعر بالخوف العميق، عاجزة عن أن تجد كلمة واحدة لتبرئ  نفسها، فهي في موقف لا يتمناه أحد.


دخلا المصعد، حتى الطابق الثاني.


جناح سليم وماسة.


كانت أثاث الغرفة يشبه إلى حد ما أثاث جناحهما بالقصر لكن للشرفة سور حديدي، يشبه الزنازين.


وما إن دخل الغرفة، حتى أفلت يديها وتوقف في منتصف، ظلّا واقفين يحدّقان في بعضهما بصمت ثقيل، مرت لحظات طويلة، سليم يتأملها بنظرة غريبة، ووجه أكثر غرابة، خالٍ من ملامح الغضب أو حتى الفرح، لكن قلبه، يغلي فالغضب، والحزن، والانكسار يتناوبون على صدره بلا رحمة.


أما ماسة، فكان الخوف صديقها الأقرب في هذه اللحظة، الموقف بأكمله صعب، وماجعله أصعب هو صمت سليم، هذا الصمت القاسي الذي لا يُحتمل.


ترددت، لم تعرف من أين تبدأ، لكنها اقتربت منه، بخطى بطيئة، كمن يخطو فوق الزجاج.


تلعثمت ماسة، نظرت إليه برجاء: سل، سليم لو سمحت.


قطع سليم كلماتها قبل أن تكتمل، رفع إصبعه إلى شفتيه، طالباً منها الصمت، نظر داخل عينيها بجمود:

هششش، من هنا ورايح، مش هتتكلمي غير بإذني.


ماسة بدهشة، وهي تعقد حاجبيها: يعني إيه مش هتكلم غير بإذنك؟ لا أنا لازم..


رفع عينيه نحوها، نظراته كالسيف قطعت كلمتها في حلقها قال بحسم: أنا قولت، مافيش كلام غير بإذني.


امتلأت عيناها بالدموع، ارتعش صوتها من شدة ماتشعر به: طب اديني فرصة أشرحلك أنا هفهمك بس إسمعني.


ابتسم سليم، ابتسامة جانبية باردة، تتناقض مع نبرة صوته التي كانت هادئة، كهدوء ما قبل العاصفة قال برفض قاطع: لأااا وقت الشرح خلص، وقت الكلام إنتهى، دلوقتي الكلام هيكون بإذني، فات الميعاد، على رأي أم كلثوم، إنتِ خلصتي كل فرصك يا ماسة، دلوقتي وقتي أنا، أنا بس إللي هتكلم، وإنتِ هتسمعي هاتقولي حاضر وأمرك يا سليم.


ضاق بعينيه قليلًا، وبصوت هادئ لكنه ينبئ بالخطر الكامن: سألتيني تحت: إحنا فين؟ إحنا في السجن..


اقترب منها أكثر، عيناه لا تفارقان ملامح وجهها، يتأملها بسخرية باردة تسللت إلى صوته:

مش كنتي بتقولي لي دايمًا إني عايشه في سجن وإني سجّانك؟ ده بقى سجنك الجديد يا ماستى المتمردة، ودي زنزانتك المنفردة..


ساد صمت قصير، لكنه كفيل بجعل قلبها يرتجف، تابع كلماته، بنفس النبرة الثقيلة:

خلاص يا ماسة، وقت المرافعات إنتهى، دلوقتي القاضي أصدر الحكم، والحُكم، إنك هتعيشي هنا في السجن ده، بعيد عن كل حاجة، وهاوريكي المساجين بيتعاملوا إزاي، والسجّان بيتعامل مع سجينته إزاي؟!


تحرك سليم قليلًا، وهو يعطيها ظهره، نبرة صوته، تحمل شرًا ناعمًا بإضطراب: 

أنا مش عايز أعيش طول عمري مظلوم وضحية، حابب أبقى ظالم أكتر..


إلتفت إليها، يبتسم ابتسامة غريبة كأنها لا تعرف هل تنتمي للفرح أم الجنون:

أصل الشخصية الظالمة ليها متعتها وجمهورها ومعجبينها، إنما شخصية المظلوم المكسور، مملة وبتتنسي بسرعة، لكن الظالم مدهشة، بتشدّ الانتباه، ودايمًا تحت الأضواء.


بدأ ينظر حوله كأنه يُريها لوحته الفنية، الزنزانة التي نسجها بيديه، ابتسم مجددًا، وتابع وهو يرفع حاجبه:

ماقلتيش إيه رأيك في زنزانتك؟ مدهشة مش كده؟


اقتربت ماسة منه، قلبها يدق بعنف، وكلماتها تتعثر وسط خوفها: إنت مش فاهم حاجة، ممكن تسمعني؟


اتسعت عيناه فجأة، كأن شرارة اشتعلت فيهما

قال بصوت غليظ، نبرته كالسياط:

هو أنا مش قلتلك ماتتكلميش غير بإذني؟ أنا مش عايز أفهم ولا عايز أسمعك؟ إنتي إللي هاتسمعيني من هنا ورايح وبس؟


نظر حوله، عيناه تلفّ الغرفة، وفجأة وقعت عينه على عصا البيسبول الموضوعة بجانب الأريكة، اقترب منها بخطوات بطيئة، مدّ يده وأمسكها، ثم نظر نحو ماسة بإبتسامة باردة: شايفة دي؟


نظرت له وهزّت رأسها بإيجاب، حاولت التحدث مرة تانية، لكن سبقها سليم بنبرة حادة كالموت وبصوت أقرب للأمر منه للكلام وأشار بأصابع يده:

هشش قلتلك مش عايزك تتكلمي غير بإذني وأنا ماذنتش 


تابع وهو يحرك العصا بين يديه بابتسامة جانبية باردة: العصاية دي يا قطعة السكر المر إللي في مرر حياتي، اسمها عصاية البيسبول أنا مابلعبوش، بس ليها منفعة حلوة أوي، زي ماتفقنا، دي زنزانتك المنفردة.


اقترب منها وأمسك بيديها، سحبها بهدوء غريب نحو الشرفة، فتح درفة الشرفة وأشار نحو السور الحديدي الملتف حولها، يشبه تمامًا شبابيك الزنازين، وقال وهو يبتسم بسخرية: 

دي البلكونة إيه رأيك؟ مدهشة صح؟ زي الزنازين بالظبط.


تحرك ومازال ممسكًا بها، ثم توقف وأشار ناحية المرحاض: ده حمّامك برضه؟ جبتلك حمّام، هاتعامل معاكي بآدمية وإنسانية، مش هاجيبلك اسمه إيه ده؟ جردل! عشان ماتقوليش عليا سجان شرير، وقاضي معدوم الرحمة.


ثم نظر لها بنظرة غريبة، عيناه تحملان اضطرابًا لا يُفهم، مال برأسه قليلًا وقال بصوت هادئ مشوّه: بس يا ماسة الزنازين مافيهاش شاشات.


وفجأة، رفع عصا البيسبول وضرب بها الشاشة بقوة، صوت الانكسار دوّى في الغرفة، وشظايا الزجاج تطايرت.


ارتجفت ماسة في مكانها، وهبطت دموعها في صمت.


تابع سليم بنفس الوتيرة، تحرك بخطى بطيئة كأن الغضب يُغذيها: ولا حتى فيها كمبيوتر، عاشان نلعب زوما ونسمع أغاني.


انهال ضربًا على كل مايتعلق به كالشاشة، السماعات، الكيسة، حتى الأسلاك لم تسلم من عصاه، كأن الغضب يسري في يده لا في قلبه.


بينما ماسة واقفة تنظر لكل ذلك، عينها تتابع بعينٍ دامعة لا تملك الشجاعة على التحدث، تفهم غضبه، أو على الأقل ما يحاول أن يفعله، أنه يفرغه في تلك الأشياء بدلًا منها اختارت الصمت، يبدو أنه منجاها الآن. 


دار سليم بعينيه في الغرفة، كأنه يبحث عن هدفٍ جديد، وقعت عينه على اللابتوب، تحرّك نحوه بسرعة، أمسكه بين يديه وقال وهو يبتسم باضطراب:

ده عرفان مظبطك، جايبلك لابتوب كمان؟! لكن برضو مافيش لابتوبات في الزنازين، مش عارف كان ظابط إزاي؟!


وفجأة، وبدون تفكير، كسره بين يديه لنصفين، بكل غضب العالم المتراكم في صدره.


اقترب منها بخطوات سريعة، عينيه تشتعلان بنار لاتُخمد، تراجعت خطوة للوراء بخوف، تظن أنه سيوجه لها ضربة، لكنه لم يفعل.


مدّ يده وانتزع الحقيبة من يدها، ألقاها أرضًا بعنف، تناثرت محتوياتها حول قدميها، انحنى قليلًا وأمسك بالهاتف الخاص بها، رفعه أمام وجهها وقال بنبرة باردة مرعبة اخترقت جسدها كصاعقة: ومافيش تليفونات.


حطّمه بيده، كسّره أكثر من مرة، حتى صار حطامًا، توقّف أمامها مباشرة، قرب وجهه من وجهها لدرجة أنها شعرت بأنفاسه تصفعها، قال بنبرة لا تقبل جدالًا ولا نقاشًا: واسمعي كويس، من النهاردة، مافيش بابا وماما، ولا سلوى، ومافيش خروج من الأوضة لمدة أسبوع.


ثم مال برأسه قليلًا وهمس بجانب أذُنها بجفاء: 

المحكمة أصدرت حكمها، أسبوع إنفرادي، أكلك وشربك هيجيلك لحد هنا.


ابتعد و نظر إلى ملامحها ورأى اندهاشها، ولسانها الذي على وشك الاعتراض، فتابع ببرود قاطع:

أنا شايف اندهاش في عينك؟ لو نطق لسانك بإعتراض واحد، هاحقق لك الأمنية التانية، وأسلسلك في السرير، بس هو كان كرسي ولا سرير مش مهم.


رفعت ماسة عينيها نحوه، وقالت بصوت متقطع فيه مزيج من الاستهجان والخوف: إيه إللي إنت بتقوله ده وبتعمله؟! يا سليم لو سمحت؟


اتسعت عينا سليم بشكل مرعب، وملامحه تبدلت في لحظة، تقدم خطوة واحدة بهدوء مريب، وقال بنبرة رجولية مشبعة بالغليان، وعيونه تطعنها بنظراته: 

هو أنا مش قلت ماتتكلميش  قوليلي: لو سمحت ممكن أتكلم يا سليم؟ ساعتها أقولك: يــا آه، يــا لا.


خطت ماسة خطوة للخلف، وقالت بنبرة فيها تحدي خائف: هو إنت فاكرني إني هقبل باللي بتعمله ده؟


نظر لها بحدة أكبر، قرب وجهه من وجهها:

صوتك مايعلاش، حسك ده ماسمعهوش، أحسنلك فاهمة. 


فجأة، ضحك ضحكة سريعة، لكنها أقرب إلى زئيرٍ مكبوت، تقدم نحوها أكثر، حتى كادت أنفاسه الغاضبة تلامس وجهها، قال بنبرةٍ باردة تقشعر لها الأبدان: إنتِ مش محتاجة تقبلي، ده مش عرض أو حتى اختيار، ده حكم، وحكم المحكمة نفذ، وإنتي من دلوقتي سجينة، وبدون إستئناف.


سكت لحظة، ثم مال صوب وجهها، وهمس بصوت ثقيل مليء بالتهديد: 

ومع كل محاولة تمرد، هازودلك العقوبة، من هنا ورايح، مفيش ماينفعش،في حاضر يا سليم، وبس.


بنظرة مرعبة خالية من الحياة خرجت من عينيه دون أن يرمش: صدقيني بعدها أنا إللي هافتح باب الفيلا دي وهارميكي.


أمعن النظر في عينيها، و وجهه يغلي غضبًا، ليس غضبًا عاديًا، بل مزيجًا من وجع قلبه، وإنكسار روحه، وضياع ثقته، تعبيراته حادة كالسيف، وبدأت أنفاسه تتقطع قليلًا، كأن نبض قلبه يقرع بقوة خلف صدره، وكل نفس يخرجه يبتلع وجعًا أعظم من الذي سبقه.


سليم بنبرة هادئة باردة:

أنا كمان مش عايزك، زي ما إنتي مش عايزاني،

وزي ما إنتي عايزة تمشي، أنا كمان عايزك تمشي، أنا كمان زهقت منك بس لأاا، مش هاتتقفل كده بالساهل أنا سليم الراوي، وأنا إللي أختار قفلتها، وأنا إللي هكتب النهاية، مش إنتي، أنا لازم آخد حقي، عشان إنتي خدتِي وشّ بزيادة، بزيادة أوووي يا ماستي المتمردة..


مرر عينيه عليها ببطء، نظرته ممزوجة بالخذلان والاستغراب، كأن قلبه يتهشم قطعةً قطعةً أمامها، يحاول أن يحفظ ماتبقى من رجولته، في وجه خيبة لم يتوقعها منها، عضّ شفته السفلى بقوة، كأنما يكبح شهقة مغمورة، أو دمعة خائنة تتسلل إلى أطراف جفنه.


بصوت مبحوح متكسّر، قال بنبرة تتأرجح بين الألم والغضب:

إنتي نسيتي نفسك، افتكرتي إن حبي ليكي ومسامحتي ومغفرتي هتخليكي تدوسي على كرامتي وقلبي؟ رغم إني حذرتك أكتر من مرة يا ماسة، بلاش توجعيني بحبي ليكي، لكن مافرقش معاكي، أتماديتي بزيادة، تماديتي أووي، ونسيتي نفسك، نسيتي ماسة كانت إيه وبقت إيه؟


أدار وجهه عنها لحظة، كأنه يخفي إنكسارًا، عاد ينظر إليها بعينين تغليان قهرًا:

نسيتي سليم، وإللي عمله سليم عشانك، إنتي كنتي بنت صغيرة مثيرة للشفقة، بتخاف من كل حاجة وبتجري عليا تتحامي فيا، وتستخبي في حضني، أنا كنت أمانك، وسندك، بس إنتي ماكنتيش أماني كنتي خوفي، الفترة الأخيرة ماكنتيش أمان ليا قد ما كنتي شوكة في ظهري بتئلمني أكتر من الرصاصة إللي في ضهري إللي ممكن تنهي حياتي في أي لحظة، بس مع ذلك اتحملت، وقلت هي عندها حق قاست كتير معايا، كنت بخلقلك الأعذار، بس لما خدتي مني وش، بقيتي بتتكبري عليا، بتتكبري عليا أنا سليم حبيبك، إللي حبك زي المجنون..


ارتعشت شفتاه، وبصوت كأنّه يخرج من أسفل ركام قلبه المحطّم:

أنا خليتك ملكة، ملكة على عرش قلبي وحياتي،

كنت شايلك فوق راسي، بخاف عليكي أكتر مابخاف على نفسي، بس إنتِ عشان لقيتني بحبك، اتماديتي افتكرتي إن حبي ليكي ممكن يخليكي تدوسي عليا عادي، وإني مسامحتي ليكي ضعف أو قلة كرامة؟ مش محبة وعشق كبير ليكي، وإن أعتذاري مش عدم رجولة مني، لكن لأني عارف إن أحيانًا كنت بغلط، لإني كنت بخاف عليكي ومش عايز حد يمسك بسوء، ده أنا مش خايف على نفسي زي ماخايف النسمة تمس شعرة منك، بس إنتي ماقدرتيش.


بدأ صوته يرتجف قليلًا، ودموع تلمع في عينيه، والوجع الذي يحاول إخفاءه بغضبه بدأ يتسلل، فخانته عيناه ونبرته تابع:

ده أنا أخترتك عن كل الناس؟! ده لو العالم ده كله في كفة وإنتي في كفة، كفتك إنتي إللي دايمًا بتكسب عندي، ماكنتش شايف في الدنيا غيرك، عينيّا كانت معمية بيكي، كنتي نور عينيا، ونبض قلبي، روحي وحياتي، وكل دنيتي، السبب إللي بيخليني أعيش وبتنفس، كنتي نفسي، كان عندي استعداد أحرق العالم كله عشان خاطر دمعة واحدة نزلت من عينيكي، ده أنا خسرت أهلي علشان خاطرك، فضلتك على طموحي وأهدافي، فضّلتك على أحلامي وعلى نفسي، كان إللي يقول لك كلمة جارحة أو حتى لأهلك كنت بدوس عليه، مهما كان مين، كلمة بس ماسة زعلانة، أو ماسة بتبكي؟ كانت كفيلة تقتلني، تقطع نفسي.


مسح الدمعة التي خانته وهو يقول لها بضيق وعتاب يخرج من قلبه قبل لسانه: 

بس إنتي برضوه مفرقش معاكي ومشيتي، مابصيتيش وراكي، مافكرتيش فيا للحظة واحدة، كأني ولا حاجة بالنسبة لك..


تابع بإستهجان وهو يشير بأصابع يده نحو جبينه بغضب:

أنا نفسي أعرف، أنا عملت إيه؟! شهور وأنا بفكر وبسأل نفسي أنا عملت إيه؟! يا ريت عندك سبب وأحد حتى بس مافيش..


أشار بيديه بحدة، وملامحه مليئه بالرفض وعدم التصديق:

بس أوعي تقولي الكلام الأهبل بتاع أنا عايزة أفكر، وعشان إنتي بتهددني، الكلام الأهبل ده خلاص مابقيتش أصدقه، أنا مش هصدق غير حاجة واحدة، إنك سبتيني يا ماسة، واتخليتي عني، وطعنتيني في ظهري، وكسرتي ثقتي فيكي وفي كل الناس. 


ارتسمت إبتسامة صغيرة على شفتيه لم تصل لعينه بمرارة قال بنبرة مكتومة مليئة بخذلان:

ده أنا مابثقش في حد؟!، وإنتي الوحيدة إللي وثقت فيها، الثقة إللي عمري ماكنت بديها لحد، إديتهالك، وإنتي دوستي عليها برجليكي، هُنت عليكِ أنا وقلبي، مافيش أسباب في الدنيا تخليكي تعملي إللي إنتي عملتيه ده غير إنك ماحبتنيش، وإنك قدرتي تخدعيني، إنتِ بس حبيتي الهالة إللي عملتهالك، حبيتي حبي ليكي، وإخلاصي، بس خلاص، زهقتي، وتخليتي من أول معركة.


سكت لحظة، صوته خرج، كأن روحه انسحبت من بين ضلوعه: 

أنا كنت فاكر إنك ضهري، طلعتي إنتي الضربة وطعنة العمر.


كانت كلماته تهبط عليها كالسكاكين، باردة وقاسية، تطعن قلبها دون رحمة، دموعها انهمرت بصمتٍ موجِع، ألمها يفتك بها من الداخل، كأنّ روحها تتشظى مع كل حرفٍ نُطق به، نظرت إليه بعينين مبللتين، ترتجف شفاهها دون أن تملك القدرة على الرد، فالصمت كان أبلغ من كل الكلمات. 


تابع سليم بنبرة حادّة، رافضة، مليئة بكرامة مكسورة، وهو يشير بيده بغضب ووجع دفين: 

أوعي تكوني فاكرة إن أي كلام هتقوليه ممكن يخليّني أسامحك وأعدي! لااااا...! إنتي خلصتي كل فرصك، هربتي مرّة ومارضيتش أخد رد فعل، رغم إنك كنتي هاتئذي نفسك، بس قولت خلاص، بلاش تقسى عليها هي دلوقتي مش عايزة غير حضنك وكلمة حلوة عشان تهون عليها وجعها، ماهنتيش عليا يا ماسة لكن أنا هنت عليكي! هنت عليكي يا خداعة، يا كذابة!


أخذ نفسًا عميقًا، أضاف بخيبة وتعجّب موجوع وهو يمرر عينه عليها:

غريبة! إزاي اتبدلتي كده؟ زمان كنتي بتترعبي من فكرة إني أسيبك، أو أطلقك؟! وأنا إللي كنت دايمًا بفكر أعمل إيه؟! عشان أثبتلك إني مستحيل أسيبك!؟ وإنتِ ماكنتيش بتصدقي، كنتِي بتعيّطي وتقولي: "فراقك موت!" ودلوقتي؟ إنتِ إللي بتهربي، إنتِ إللي عايزة تمشي وتسيبيني! فين وعدك؟ فين الكلام إللي كنت بعيش عليه؟ مش قلتلك قبل كده؟ أنا أكتر حاجة بكرهها هي الغدر، وإنتِ غدرتي! غدرتي بيا وإنتي بتضحكي في وشي.


صوته انشحن بالمرارة والخذلان، وهو يدفع نفسه للتماسك، مسح وجهه بيده بقرار مليء بالكرامة:

أنا مستحيل أسامحك المرة دي، يا ماسة، مستحيل، خلصت الفوضى بتاعة زمان، وإللي جاي إنّي هاخد حقي، حق وجعي، وكسرة قلبي وطعنك ليا في ضهري.


حاول تمالك نفسه، عاد بنبرة باردة وقاسية، بنظرة حادة:

أوعي تنسي نفسك، وتفتكري إن حبي ليكي هيخليني أتحملك، أنا مش زي مابتتخيلي، أنا قادر أكمل وأهدمك، والشخصية دي زي ما أنا عملتها، قادر أنهِيها وأرجعك زي زمان، ماسة إللي كانت بتخاف وبتترعب وجسمها كله ينتفض بمجرد مانطق اسمها بصوت عالي: مش ده كلامك؟ مش كنتي بتقولي إنت عليك ماسة تقطع خلفي وبترعبني؟ ماسة إللي كانت بتطلب مني أصالحها، علشان بتخاف تنام لوحدها، حتى لو كنتي صغيرة وقتها، عشان إنتي بتقولي الكلمة دي كتير..


نظر داخل عينيها ببرود وقسوة:

بس لو عندك 100سنة أنا هفضل سليم، إللي خلى ماسة تكبر وتبقى قوية وعندها شخصية وفاهمة الدنيا، وخلاها تاخد وش وتكبر، وتتكبر بس للأسف أول ماتكبرت وخدت وش كان عليا أنا للأسف.. 


ابتسم ابتسامة جانبية متعجبة بخذلان بنبرة مليئة بمرارة:

ما هو كدة الإنسان إللي ماعندوش أصل بينسى الخير، وأول إيد بيقطعها هي الإيد إللي اتمدت له بكل حب وبكل خير، إنتي أثبتي لي يا ماسة ماحدش يستاهل أي محبة وأن الناس كلها غشاشة ومخادعة وبتاعت مصلحتها، وإن مافيش حاجه اسمها حب، الحب ده كلمة تقيلة على القلب زي ما إنتي كنتي بتقولي.


تحدث من بين أسنانه بمرارة وبعينين اغرورقت بدموع القهر لكنه يحاول الثبات:

فعلاً هي مشاعر مستفزة وسخيفة، سخيفة أوي ودمها تقيل، تقيل على القلب، وإن إللي بيحب بيخسر كتير، بس أنا دائماً عندي نظرية، بتقول: إن طول ما الإنسان عايش طول ماهو هيقدر يصلح إللي فات، وأنا بقى هاصلح الغلطة إللي غلطتها من تسع سنين، إني حبيتك و وثقت فيكي واتجوزتك.


نظر إليها بهدوء قاتل وغضبٍ مكتوم، كأنه يريد أن يسترد حق وجع قلبه، كلماته تخرج من جرحٍ عميق صنعته ماسةُ بيديها.


نظر داخل عينيها تابع بنبرة باردة:

وزي ماقلتلك يا ماسة، أنا كمان مش عايزك، بس لازم نصفي الحسابات، كل الحب، كل الوجع، والعمر إللي راح وأنا بفكر فيكي، وفي سعادتك وفي رضاكي وقلبي إللي اتذبح، مش بالساهل كده هعديه و وهغفره، أنا مش طيب زي مابتتصوري، أنا بكون طيب مع إللي يستاهل وإنتي ماتستهليش أي حاجة، لازم ترجعي تعرفي مين سليم الحقيقي، مين إللي اتحدتيه، وكسرتي ثقته، ومش عايزة تعيشي معاه لدرجه إنك هربتي منه مرتين، مش كان نفسك تشوفي شخصيتي القديمة؟!


ضحك ضحكته المميزة المضطربة قال:

welcome back 

أمنيتك اتحققت يا قطعة المر يا متمردة،

أول عقاب ليكي؟ أسبوع حبس في الأوضة دي،

أكلك وشربك هايجيلك هنا زي ماقولتلك، ولازم تفهمي إن دي حياتك الجديدة، وإنك هاتعيشي هنا أتعس أيام حياتك بإذن الله، عشان لما تكتئبي يكون عندك أسباب حقيقية..


تابع بنظرة شرسة غاضبة مليئة بتهديد:

أنا هعرفك إزاي تعملي مع سليم إللي عملتيه، وآه بهددك وبأنفذ وده أول تنفيذ، وللمرة الثالثة بقولهالك عشان أثبت المعنى، مجرد ماحس إني أخذت حقي وفشيت غليلي فيكي هرميكي في الشارع إنتي وأهلك، عشان الاحترام طلع ماينفعش مع كل الناس، فايزة طلع عندها حق، قالتلي خد بالك، ماتستهلكش، ولا تستاهل حبك،  بس أنا مسمعتش كلامها، أول مرة يطلع عندها حق، أنا إللي كنت غبي، طلعت غبي أوي، بس أنا هصلح غلطتي أنا ندمان على كل لحظة وقفت قصاد أهلي علشانك فيها، للأسف يا ماسة طلعتي ماتستاهليش.


كانت تستمع له ماسة بصمت غريب دموع تنهمر بلا توقف ورعشة تجتاح جسدها تتفهم كل كلمة قالها، تشعر بجرح قلبه ورجولته المكسورة وتعرف جيداً إن كل ما يقوله من وراء قلبه وإنها الآن إذا توجعت أو تصنعت الوجع سيركض عليها بوجع يفيض قلبه.


لكن كلماته الأخيرة جعلتها تشعر بألمٍ واضحٍ، وظهر ذلك جليًّا على ملامحها، لاحظ سليم ذلك، ولم يكن راضيًا عمّا قيل في حديثه الأخير، فقط تحدث من جراح قلبه المكسور. 


صمت للحظة ثم قال لها وكأنه يعاتبها إنها جعلته يقول كل ذلك وبالأخص آخر حديثه بنبرة مهتزة بعينين ترقرقت بالدموع وهو يعض أسنانه الأمامية:

إيه رأيك يا ماسة؟! مش هو ده إللي إنتي عايزاه مبسوطة صح.


بغضب مكتوم وعنف مفاجئ، صاح بها جعلها تهتز وتعود للخلف وتبكي بحرقة أمسكها من كتفها بقسوة:

ردي عليا! مش ده إللي كنتي عايزاه؟ إن شخصيتي القديمة ترجع ؟! فضلت أقولك بلاش بلاش،بس إنتي غبية وأنانية ومش فارق معاكي حاجة غير نفسك، مافكرتيش فيا؟ وزي ما إنتِ مافكرتيش فيا وفي إللي هيجرالي أنا كمان مش هفكر فيكي، وهدوس على قلبي تحت رجليا، مش هاسامحك يا ماسة ولا عايزك في حياتي، مبسوطة ها، يا رب تكوني مبسوطة باللي وصلنا ليه.


صاح بها بعنف أكبر، بنبرة رجولية جهور بعروق نافرة بإتساع عينه وهو يهزها:

إنتي ولا حاجة سامعة ولا حاجة وهدفنك جوه قلبي يا ماسة وهامحيكي، من حياتي ومن ذكرياتي وهتشوفي.


دفعها بعنف للخلف، وقعت أرضا، بينما دموعها تسيل بصمت موجع.


وتركها وغادر الغرفة، مغلقًا الباب خلفه بالمفتاح، والغضب يتأجج في صدره، ينهش أعصابه كوحشٍ أفلت من قيده.


جلست ماسة على الأرض، والدموع تنهمر من عينيها بحرقة، وألمٌ شديد يعصر قلبها، تفهم سبب غضبه، وتعي ما قاله، لكنها لم تستطع أن تكبح مشاعر الغضب التي اجتاحت صدرها مازالت تحبه، ومازال ما يحدث بينهما يمزقها من الداخل، لم تتوقع قط أن يبلغ به الأمر هذا الحد، ظنّت أن حبسها في هذه الغرفة لن يدوم سوى بضع ساعات، يوم على الأكثر، لم تكن تعرف أن سليم هذه المرة ليس ككل مرة، لقد أيقظت بداخله الشخصية القديمة، بل نسخة أشدّ قسوة.


فالقلب إذا انجرح، وتألم، وكُسرت ثقته وطُعن فيه لا يعود كما كان، بل يصبح كالأسد الغاضب المغدور، لا يثور من قسوة بل من وجع، وهذا أصعب أنواع الغضب.


دخل سليم غرفة أخرى، وترك الباب خلفه يرتجّ من شدّة الضربة.


جلس على طرف السرير، أسند رأسه بين كفيه، وصدره يعلو ويهبط بسرعة، في عينيه شرر، وقلبه ينزف خرج صوته هامسًا، لكنه ممتلئ بالغضب:

أوعى تضعف ماتستاهلش مسامحتك، تخلّت عنك وسابتك، حبك بقى تقيل على قلبها، مش قادرة تتحمله، فراقك بالنسبالها حاجة عادي وسهل، لازم فراقها يكون عادي ليك إنت كمان، أوعى تضعف يا سليم أثبت، ماتستاهلش حبك، طعنتك في ضهرك، كسرت ثقتك هي اختارت تبعد، يبقى ماتجريش وراها، إنت اتطعنت من إللي كنت شايفها روحك.


سحب نفسًا عميقًا، توقف وبدأ يتحرك في الغرفة، وكأن الجدران تضيق عليه. كل لحظة، كل كلمة، كانت تحرقه لكنه كان يقاوم. يحاول أن يظل واقفًا، لا يضعف، لا يبكي.


قصر الراوي


جناح صافيناز، الخامسةمساءً 


نرى صافيناز منهارة بشكل هيستيري، والغضب يتفجر في ملامحها، صرخت بصوت مخنوق بالعجز، وهي تسقطت كل ما حولها، حطمت زجاج الطاولة الصغيرة، وتلتها بمزهرية ثقيلة، كان يقف إلى جانبها عماد وفايزة ورشدي، صامتون، عاجزون عن التدخل أو حتى التحرك. 


تنفست صافيناز بسرعة، واحتد بريق عينيها، صاحت بصوت مشحون بالحنق: إزاي ده حصل بعد كل إللي عملناه؟! رجعنا للصفر تاني؟! رجعنا من أول وجديد؟! أنا مش قادرة أصدق إن كل حاجة راحت، كل خطوة مشيناها رجعناها ألف خطوة لورا.. 


حاولت فايزة أن تسيطر، قالت بصوت هادئ: بالراحة يا صافيناز، مش كده ممكن حد يسمعنا.


إلتفتت صافيناز لها، وعينيها كجمرة نار: يعني إيه مش كده؟! يعني إيه؟هو لاقاها إزاي؟


رد رشدي وهو يقبض على هاتفه، ووجهه يغلي غضبًا، عيناه تشتعلان، خرج صوته خشنًا، محمّلًا بالقهر: ماعرفش حاجة! ولا حتى أعرف هي فين! اسألي جوزك!


عماد رفع راسه بصعوبة، بتوضيح: كل إللي عرفته، إن واحد من الحُرّاس وقع في الكلام، وقال إن سليم بيه وماسة هانم في الفيلا الجديدة، وإنه منتظرهم هناك، ولازم نمشي بسرعة، وفعلاً كل حراس سليم مشيوا.


وضعت صافيناز يدها على صدرها، وبدأ جسدها يترنح، وتنقطع أنفاسها، صدرها يرتفع وينخفض بعنف من الغل: أنا... أنا مش قادرة آخد نفسي، أنا حاسة إني هموت، كل حاجة راحت، كل حاجة راحت.. 


لمح في عيني فايزة بريقًا من السعادة المخفية رغم الاضطراب الذي يحيط بها، تشعر بالحزن لإن سليم قد وصل إلى ماسة، لكن في داخلها هناك جزء صغير يفرح بعودة قويةً مجددًا. فهي كانت واثقةً أنه سيرميها في أقرب فرصة


فايزة بنبرة محسوبة: إحنا مش عايزين نعمل أي ردود أفعال تخلّي حد يشك فينا، خلّينا عاقلين دلوقتي.


انفجر صوت رشدي قائلا بإستنكار: عاقلين إيه يا ست الحبايب! خلاص خدها وراح فيلا تانية، ومش هايرجع تاني! يعني خسرنا كل حاجة! سليم كسبنا! المشكلة مش إنه رجعها، المشكلة  إنكم شوفتوه النهاردة كان عامل إزاي! رجع زي زمان وأقوى!


فايزة بحدة: وإنت كنت عايزه يبقى مهزوز؟


نظر رشدي لها بقوة وعدم خوف: أكيد كنت عايزه يبقى مهزوز! وإنتي عارفة إني كنت عايز كده! إحنا ليه نضحك على بعض يا فايزة هانم؟ خلينا نلعب على المكشوف، أنا كنت عايز سليم يبقى مهزوز عشان أنط مكانه على الكرسي! وإنتي كنتي مستغلة كراهيتنا ليه علشان تطفشي ماسة وتقعدي سليم لوحده! لإنك عارفة إنه سواء ماسة قريبة أو بعيدة، سليم هيبقى قوي! بس أحب أقولك لأ! سليم إللي شفتيه النهاردة، رجع لإنه أطمّن على حبيبته! ماتبصليش كده، أنا كنت فاهم! وإياكِ تفكريني غبي! أنا بعمل غبي بمزاجي!


تنفس بصعوبة وأكمل: وابنك مشي من هنا علشان شاكك فينا، ولازم تتأكدوا إن المراقبة علينا هاتزيد أضعاف، يعني ممكن يحط لنا كاميرات في الحمّام المرة الجاية!

رفع يده قال بإضطراب مهزوم:

أنا استسلمت والله، ورفعت الراية، وبقول له لو سامعني: يا باشا البشوات... أثبت إنك باشا! 

رمق فايزة بعين تحمل تهديداً:

بصي بقى يا هانم، من هنا ورايح، مش عايز غير فلوس! وماحدش يقولي لأ! لو اتقالي لأ على حاجة، لساني ده هايقول كل حاجة، كله بمعنى كله ! من أيام ماسقطوا ماسة أول مرة وهي عندها ١٦ سنة، والمؤامرات العبيطة إللي كنتوا بتعملوها زمان لحد إللي حصل إمبارح، وممكن أتجنن وأزود كلام من عندي، مدام مش هاخد الكرسي، يبقى آخد إللي أنا عايزه! اعتبروه تهديد، أو معلومة! مش فارق! أنا لازم أكسب، مش هطلع خسران من كل حاجة.

تحول لعماد وصافيناز وأشار لهم:

وإنتوا الاتنين إوعوا تفكروا تقتلوني! عشان أنا مأمّن نفسي، عارفكم كويس! أندال و وس،خين! عندي إللي يجيبلي حقي منكم كلكم.


تركهم وخرج بخطوات تقيلة.


نظر عماد لآثاره وهو يتحرك، تمتم: رشدي اتجنن، بس عنده حق، نا كمان هاتجنن!


زفرت فايزة بحدة، وقالت بنبرة قاطعة: أنا مش عايزة كلام كتير يا عماد، ولا تصرفات غبية أو انفعالي، نستنى ونشوف إيه إللي هيحصل، وسيبك من رشدي!


خرجت فايزة حاملة في عينيها جبلًا من الغضب. وبعد أن تركتهم، نظرت صافيناز إلى عماد بصوت منكسر: هنعمل إيه يا عماد؟ كل حاجة راحت مننا، رشدي عنده حق في كل كلمة، خلاص خسرنا الورقة إللي كنا بنحارب بيها، سليم خدها مننا، ومش عشان يعاقبها! في حاجة شَكّ فيها.


عماد عض شفتيه بقوة، ونظر إليها بعينين ملتهبتين بالتركيز: في فكرة في دماغي، بس عايزك تجمدي قلبك وتوافقي، هما فكرتين.


حدقت صافيناز بعينيه المتحجرتين: إيه هما؟


عماد بهدوء مريب وكأنه يهمس بسر خطير: نقتل سليم وفايزة.


ساد صمت ثقيل، صافيناز كادت تخنقها الصدمة، نظرت له ببطء وهي تهتز برفض قاطع: إنت اتجننت يا عماد، مستحيل أقتل ماما، ولا حتى أقبل إننا نعملها تاني.


أكملت بنبرة مكسورة، فيها ندم وحيرة: صدقني أنا ندمت جداً بعدها، أنا حقيقي نفسي آخد مكان سليم، بس مش بكرهه، عمره ما آذاني، إللي ممكن يأذيني هو رشدي، ده إللي أقولك أقتله عادي! علشان كده وافقت نحط له المخدر،ات.


عماد ابتسم بسخرية، وعيونه تلمع بتّهكم: وماقولتيش ليه كده المرة إللي فاتت؟


هزت صافيناز كتفها بتردد، وعيناها تائهتان: كانت لحظة ضعف أو جنون، بس مش معناه إننا نعملها تاني، لا يا عماد مش هينفع، هو إنت فاكرني شيطانة بسهولة كده عايزني أوافق على قتل أخويا؟ لا وكمان ماما.


عماد كأن شيطانه استولى على عقله وتفكيره، قال بشراسة: خلاص، يبقى العرش مبروك لسليم، وإحنا نكون خدامين لسليم وماسة الخدامة وتحت رجليهم!

 أخفض صوته بفحيح أفعى رقطاء:

لازم تفهمي إن موته رحمة ليه من إللي هيحصله بعد فراق ماسة ولا إنتي عايزة تشوفيه مذلول؟


حاولت صافيناز أن تبرر، صوتها مزيج من الطموح والقلق: بص، أنا عايزة أكون الإمبراطورة، وفي الحرب كل حاجة مشروعة! مستحيل نقدر نتخلص من سليم إلا بالطرق دي، هو نفسه بيشتغل بيها دمر أعدائنا من نقطة ضعفهم، وكل الإمبراطوريات إللي حوالينا ماتبنتش إلا بكده، إنك تمسك عدوك من نقطة ضعفه، ده الطبيعي، أمال هو محاوط عليها ليه؟لإنه عارف إنها نقطة ضعفه، موت ماسة هيخليه تايه مذبذب وهيخليه يبعد عن المجموعة، وده إللي عايزينه، لكن أكيد مش هشمت فيه.


تنهّد عماد بغضب، وهو يلتفت ويعطيها ظهره: أنا مش موافق على الازدواجية دي، يعني ماسة تموت عادي؟! وسليم لا؟ اشمعنا؟ 

نظر لها بتعجب وحنق، متابعا: 

هي برضه مالهاش ذنب، عملتلك إيه؟ بالعكس هي أكتر واحدة مظلومة في الحكاية دي، على الأقل سليم زمان كان ظالم وعنده بلاوي كتير.


صافيناز قالت بصوت بارد، مصممة: بس هو هيفضل أخويا، أما ماسة دي حتة خدامة مالهاش سعر ولا لازمه.


عماد بحزم غير مستسلم: إسمعي يا صافي، الناس دول مابيفكروش كده، لازم كلامك معايا يكون واضح، إنتي عايزة إيه بالظبط؟


صافيناز بحسم وبريق في عينيها: نخلص من ماسة وبس، وساعتها سليم هيبقى ضعيف، لكن أنا مش هقتل أخويا تاني، جربناها مرة وخلصت، صدقني، أنا بجد حاسة بالذنب ناحيته.


عماد بحسم وأمل في صوته: خلاص، أصبري كم يوم وأسافر وأشوف رأيهم إيه؟!


تبادل النظرات بصمت


فيلا عائلة ماسة الخامسة مساءً


دخل مكي إلى الصالون بعد أن استأذن سليم في المجيء، كانت الأجواء مشبعة بصمتٍ مشحون، العيون تتبادل نظرات الغضب والتوتر، ولم يكن أحدهم يعلم أن سليم قد وصل إلى ماسة بالفعل.


وقعت العيون على مكي دفعة واحدة، نظرات امتزج فيها الحنق بالخذلان والانكسار.


عمار بنبرة لاذعة: جاي تكمل علينا إنت كمان؟ إيه المرة دي هاتربطنا في الشجرة وتدينا بالكُرباج؟


توقف مكي مكانه، نظر إليه بإستغراب، ضيّق عينيه:

في إيه يا عمار؟ إيه إللي حصل؟ أنا بلغني إن إسماعيل وصل لماسة، وجيت أطمن، سليم ماكنش مخليني أدخل الفيلا غير لما يوصلها.


سعدية بقلق: طب وهي كويسة؟


مكي: أكيد، بس لسه ماشفتهاش


مجاهد يسبّح بصوت خافت، يناجي ربه في علاه:

ربنا يسترها عليكي يابنتي. 


اقترب مكي خطوة، تساءل متعجباً: حد يفهمني، إيه إللي حصل؟ مالكم كده؟


في تلك اللحظة، انفجرت سلوى بغضب لم تعد قادرة على كبحه: على أساس إن إسماعيل يقدر يعمل حاجة من غير ماولي نعمتكم يأذن له؟ أو من غير علمك؟ جاي تطمن ليه؟! إنت فاكر نفسك مين؟ إنت ولا حاجة!


نزعت دبلة خطبتها من إصبعها، ورمتها في وجهه:

إنت من اللحظة دي مالكش مكان في حياتي، إنت فاهم؟ جاي تطمن؟! كفاية تمثيل! خلاص حقيقتكم القذرة انكشفت عمري ماتوقعت إن ده يحصل فينا منكم،  إزاي هنّا عليكم للدرجة دي؟ عملنا إيه علشان نستحق كل ده؟ ولا علشان إحنا كنا خدامين؟ مش قادرين تنسوا إننا كنا شغالين عندكم؟ فده يديكم الحق تدوسوا علينا بجزمتكم عادي!


مكي وهو يغلي من الغضب: إنتي بتقولي إيه؟ إسماعيل عمل إيه؟!


اقتربت منه خطوة، صوتها مكسور من شدة البكاء:

عايز تفهمني إنك ماتعرفش؟ إن إسماعيل رفع المسدس على دماغ أمي علشان أقول له مكان ماسة؟ وهددنا...


توقفت لحظة، وانكسر صوتها تحت وطأة البكاء:

واضطريت أقوله وقتها، لازم تفهم إن إللي يسمح إن أهل خطيبته يحصل فيهم إللي حصل ده مايبقاش راجل! وأنا مستحيل أستأمن نفسي مع واحد زيك، اتفضل أطلع بره، مش بس من البيت، من حياتي كمان.


تجمد مكي في مكانه، وجهه شاحب، وصوته خرج ضعيفا كأنه يخرج من بئر سحيق:

أنا، أنا ماكنتش أعرف،  إزاي تتصوري إني ممكن أسمح بده يحصل فيكم؟

نظر بعينه نحوهم:

عمي مجاهد، خالتي سعدية، عمار، يوسف, أنا أسف، وآسف كمان نيابة عن سليم حقكم عليا، أما بالنسبة لعديم الشرف إللي اسمه إسماعيل،وﷲ العظيم هيدفع التمن، وهجيبه لحد عندكم يبوس جزمتكم، وإلا ماكنش فعلاً راجل يا سلوي، ولو التمن هيكون حياتي.


قال كلماته تلك، ثم خرج مسرعًا من الفيلا. أغلق الباب خلفه بصوتٍ عالٍ، وترك خلفه نارًا مشتعلة، نارًا مازالت تكبر.


قصر الراوي السابعة مساء 

غرفة صافيناز وعماد


جلس عماد على الأريكة، الهاتف بين يديه، وكان يضع شريحة خطّ جديدة بداخله، لكن ننتبه أن الهاتف الجديد، ليس الخاص به.

صافيناز بتساؤل: هتكلمهم دلوقتي؟

عماد وهو يُغلق غطاء الهاتف: خليني أكلمهم دلوقتي وسليم مش هنا، ترتيب مقابلتهم مش بسهولة، ولا هيكون دلوقتي، وكل ماتحركنا بسرعة، كل ما كان أفضل. 

هزّت رأسها موافقة، بينما بدأ هو في كتابة رسالة سريعة، أرسلها فور تشغيل الهاتف.

انتظر بصمت، بدا الترقب والقلق واضحين على ملامحهما معًا، وبعد دقائق، رنّ الهاتف.


نظر عماد إلى الشاشة. الرقم كان "برايفت نمبر". تردّد للحظة، ثم أجاب، واضعًا الهاتف على أذنه، وقال بصوت خافت:

لقد اشتقت إليك، أريد أن أحدثك بأمرٍ ضروري، قد يسعدك بخصوص سليم والحادثة..

وهنا، وعلى الجهة الأخرى، جاء صوت...



     الفصل الرابع والسبعون ج1 من هنا 

     لقراءة جميع فصول الرواية من هنا

تعليقات