رواية الماسة المكسورة الفصل الرابع والسبعون 74 ج1 بقلم ليله عادل

رواية الماسة المكسورة

الفصل الرابع والسبعون 74 ج1 

بقلم ليله عادل


{~" أحيانًا، يكون جرح القلب وخذلان من نحبهم بعمق، لا سيّما من أقرب الناس إلينا، كفيلًا بأن يجعلنا أشخاصًا قساة، نتعامل بغلظة مع من أمامنا، وكأننا نحاول أن نستردّ شيئًا من كرامتنا، نشبه الطائر المذبوح، الذي يُصارع لحظاته الأخيرة، يرفرف بجناحيه، يلطّخ المكان بدمه، وكأنّه يظنّ أنه سينجو، لكنه في الحقيقة يُعجّل بموته، دون أن يدرك. وهكذا نحن، في لحظات الغضب الشديد، والوجع العميق، نؤذي أنفسنا ونحن نظنّ أننا نحميها... نُمعن في النزف ونحن نُقنع أنفسنا أننا ننتقم.فاحذر أن تقع في الفخ...فلا كرامة تُسترد بالألم، ولا جرح يُشفى بالقسوة. "~} 


           [ بعنوان:  أنا لست قاسياً لكني أتألم ]


عماد بصوت منخفض، يتسلل من بين أصابعه القلق:

لقد اشتقت إليك، أريد أن أحدثك بأمر ضروري، قد يسعدك، بخصوص سليم والحادثة.


على الجهة الأخرى، جاء صوتٌ بارد متزن، صوت إريك ابن الرجل الذي أودى سليم بحياته عن طريق الخطأ التابيلو.. كان جالسًا على كرسي جلدي عريض في قصره الجبلي، يحتسي كأسه ببطء.


إريك دون اكتراث: ماذا لديك؟


ارتفع صوت عماد قليلًا، لكنه ظل يحمل الحذر ذاته:

ليس عبر الهاتف، أريد أن أراك، حدّد لي موعدًا يجب أن تعلم أن سليم يضعني تحت مراقبة دقيقة، هذا الرقم سأتخلص منه فورًا، أعطني موعدًا آخر لأتمكن من الإتصال بك مجددًا.


سأله إريك ببرود: ولماذا عليّ أن أراك عماد؟ لقد انتهت أعمالنا معًا.


عماد، وقد امتزج صوته بشيء من الرجاء المغلف بالدهاء: لديّ أشياء قد تعجبك... ثق بي.


تنهد إريك، ثم توقف عن الجلوس وتحرك بعد تفكير:

أعطني ثمانٍ وأربعين ساعة، واتصل بي في التوقيت ذاته.


ثم أُغلق الخط.


أنزل عماد الهاتف ببطء، وزفر كأنه خرج من غرفة مليئة بالدخان، التفت إلى صافيناز، التي كانت تقف خلفه تراقب تعابير وجهه المتصلبة، فسألته بصوت خافت: 


صافيناز: قالك إيه؟!


عماد دون أن يرفع عينيه نحوها: قال لي أكلّمه بعد يومين في نفس الوقت، المهم، إحنا لازم ناخد بالنا الفترة الجاية دي.


هزت صافيناز رأسها وهي تمسح على وجهها بضجر


♥️________بقلمي_ليلة عادل_______♥️


فيلا عائلة ماسة الخامسة مساءً 


خرج مكي من الفيلا كمن فقد السيطرة على ذاته، وكأن الشياطين بأصنافها تجرّه من تلابيبه إلى هاويةٍ لا قرار لها يركض كالممسوس، لا يرى ما حوله، ولا يسمع سوى هدير الغضب في رأسه، والنار المتقدة في عينيه تأبى أن تخبو، في ذات اللحظة، شاكر يراقب الموقف بعينٍ متربّصة، وقد أدرك أن مكي بات على علمٍ بكل شيء، دون تردّد، التقط هاتفه، وضغط على الرقم المحفوظ في ذاكرته جيدًا... سليم.


جاءه صوت سليم بعد ثوانٍ، بارداً باهتاً، كأنّه يخرج من قاع قبرٍ موصد، لا حياة فيه ولا رجع صدى، جالسًا في غرفةٍ معتمة، لا يرى من حوله سوى ظلال حزنه، ولا يسمع إلا دقّات قلبٍ أثقلته الخسارة، حتى بدت أنفاسه مجرّد صدى لوجعٍ لا ينتهي.


سليم بنبرة جليدية: عايز إيه يا شاكر.


شاكر بتوتر: سليم باشا! مكي شكله رايح يقتل إسماعيل!


انتفض سليم واقفًا كمن صُعق بالكهرباء: بتقول إيه! هو فين دلوقتي؟!


شاكر تنفس بسرعة وهو يقول: ركب عربيته وطار، كان عند أهل ماسة هانم وماعجبوش اللي إسماعيل عمله.


صاح سليم به وهو يتحرك هابطا الدرج بسرعة: وإنت ماوقفتوش ليه؟! فين عشري؟! صح ده معايا شاكر يلا بسرعة خذ الحراس وروح وراه اسماعيل بنسبة كبيرة في بيته! إلحقه بأي طريقة!


خرج سليم مسرعاً كأن قلبه انشطر نصفين، خطواته تُدوّي في الحديقة، يبحث عن عشري وما إن رآه حتى صرخ فيه: عشري


هرول عشري مقتربا: خير يا ملك؟!


سليم بشدة: هات العربية بسرعة عشان نلحق مكي.


أشار عشري بيده متسائلا: ايه حصل.


سليم بحدة: مش وقتك يا عشري المهم عايزين نلحق مكي بسرعه قبل مايحصل كارثة. 


جاءت السيارات، صعد سليم وقادها وهو يلهث، رفع هاتفه من جديد واتصل بإسماعيل.


سليم: أيوه، إنت فين يا إسماعيل؟


اسماعيل بهدوء: أنا في البيت.


صرخ سليم وهو يقود بسرعة: إنت عملت إيه مع أهل ماسة؟!


إسماعيل بصوت هادئ وهو يأكل تفاحة: ولا حاجة، لعبت معاهم لعبة الروليت الروسي، عشان ينطقوا، وفعلاً نطقوا. 


احمر وجه سليم من الغضب، وكأن الدم يغلي في عروقه: طب أنا قلتلك تعمل كده؟ (صاح به معنفا)

أنا قولتلك تعمل كده؟!


أغلق الخط، وزاد من سرعة السيارة حتى كادت تخرج عن السيطرة.


في تلك اللحظة، كان مكي قد وصل إلى العمارة، ترجل من السيارة، لم ينتظر المصعد، صعد السلالم ركضًا، درجة تلو الأخرى، وكأن جسده لا يشعر بالتعب، رغم أن إسماعيل يسكن في الطابق الثامن، لكنه بلغه في دقائق معدودة، كأن الغل يزفّه للأعلى.


طرق الباب بعنف هزّ أرجاء الشقة، حتى كأنّه جاء ليقتلع الباب من مكانه.


فتح إسماعيل الباب بهدوء ودهشة، لم مكي يمنحه الفرصة ليرى أو يتكلم، قبضت يده على فكه في ضربة خاطفة عنيفة، جعلت رأسه ترتطم بالجدار، وجسده يهتز رغم قوته الفائقة وطوله العريض.


انطلقت صرخة عبير ووالدتها من داخل الصالة، لكنها ضاعت وسط هدير العراك الذي بدأ بلا مقدمات.


اندفع إسماعيل بثورةٍ عارمة، قبض على قميص مكي ودفعه بقوةٍ إلى الجدار المقابل، ارتطم جسده بعنف، لكن مكي استعاد توازنه بسرعة، وركله في بطنه ركلةً أفقدته توازنه للحظة، انحنى إسماعيل من شدّتها، ما لبث أن انتفض، ووجه ضربة قوية إلى وجه مكي، فسال الدم من جانب شفتيه كطعنة حادة. 


مسح مكي الدم بإبهامه، ونظر إليه ساخراً: هو ده كل اللي عندك؟


فجاة اندفع مجددًا، ضاربًا صدر إسماعيل بقبضته، لكمه مكي في عينه، ثم أنفه، فتراجع إسماعيل مترين، لكنه عاد ليهاجمه، وأطبق ذراعيه حول خصر مكي فسقطا أرضًا يتصارعان بجنون.


ركب مكي على صدره، وسدد له ضربتين قويتين، لكن إسماعيل قلب الموقف، وضغط على عنقه. رفسه مكي بركبته في ضلوعه، فحرر نفسه، ثم دفعه بقوة ليصطدم بالحائط.


أمسك مكي شعر إسماعيل وخبط رأسه مرتين بالحائط، فسالت الدماء، لكن إسماعيل استجمع قواه وضرب رأس مكي في صدره.


تراجع مكي، والتقط طفاية زجاجية وضربه بها على الرأس. اهتز إسماعيل وتمايل، لم يُغش عليه، تمالك نفسه في لمح البصر، أخرج مكي مسدسه وقد غلبه غضبه حتى خفتت ملامحه تمامًا.


مكي بنبرة غاضبة بغل: قلتلك ماتلعبش معايا، بس شكلك بتحب تتعلم بالطريقة الصعبة.


ضغط الزناد، فانطلقت رصاصة صامتة استقرت في ذراع إسماعيل، الذي صرخ من الألم، بينما انطلقت صرخة عبير من الداخل كأنها تنزف مع دم زوجها.


اقترب والدها، محاولًا التدخل، لكن مكي نظر إليهم نظرة قاسية، عيناه تشتعلان: مش عايز أسمع حس حد فاهمين؟


اقترب من إسماعيل، وقال بصوت منقوع في السمّ:

دي لإيدك اللي فكرت تترفع على أهل سلوى.


ثم أعاد فتح الزناد، وحدّق في عينيه مباشرة:

أما دي بقى في دماغك عشان فكرت تتعامل معاهم زي المساجين اللي عندك يا روح أمك. 


رفع مكي المسدس صوب رأس إسماعيل، بينما عين اسماعيل لا تفارقه، لكنها اتجهت سريعًا نحو المسدس الآخر الموضوع بجانبه، كأنه ينوِي أن يلتقطه ليقاتل به مكي.


لكن فجأة، دوّى صوتٌ من خلفه، صوت اقتحم الغرفة بكل عنف: مكيييي!


كان سليم قد اقتحم الشقة كالعاصفة، وصرخ بصوته المزلزل، دفع يده مكي لأعلى فانطلقت الرصاصة، لكنها ارتفعت عاليًا واخترقت السقف، متناثرة معها ذرات الغبار.


صرخت عبير وسقطت أرضًا، بينما كان مكي ما يزال في عالمه الغاضب،مغيبا لايرى أحد. 


حاول سليم أن يمسكه: مكي كفاية!


لكن مكي دفعه بعنف: أوعى يا سليم، لازم أقتله.


صرخ سليم وهو يشدّه بقوة: اصحى بقى!


لكن مكي دفعه مرة أخرى، بكفٍه على صدره، وركله بقدمه في موضع الإصابة القديمة وهو يقول قولتك لازم اقتله  قليل الشرف.


صرخ سليم وهو يترنّح: آآآه


وقع على الأرض، قبض على فخذه، ووجهه يقطر عرقًا وألمًا، وهو يشعر بوخزٍ شديد يشبه صدمة كهربائية تسري في رجله.


توقف  مكي فجأة، كأن الوعي عاد له مع صرخة سليم.


التفت إليه، نظر إلى عينيه، لم يرَ فيهما سوى الألم والحزن.


اقترب منه بلهفة، سقط على ركبتيه بجانبه، ويده ترتجف: سليم، أنا...أنا آسف، ماكنتش شايف حاجة إنت كويس حقك عليا طمني عليك إنت كويس حصلك حاجة؟!.


لكن إسماعيل، رغم نزيفه، اندفع مسرعًا، أمسك مسدسه وحاول أن يوجهه نحو مكي من الخلف، لكن سليم، كان منتبهًا، أخرج بسرعه مسدسه من خصرة وصوبه في وجهه قائلاً بحزم:

ارجع يا اسماعيل.


لم تمر ثانية حتى امتلأ المكان برجال سليم، الذين قبض اثنان منهم على إسماعيل وأخذو منه المسدس.


سليم بصوت ثابت لا يحمل تردداً: ارجع يا اسماعيل ماتتجننش.


ورغم الدم النازف من كتفه، وضع إسماعيل يده على موضع الرصاصة، يقاوم ألمه بعناد: هدفعه التمن يا سليم لازم تفهم


حاول مكي أن يتحدث، لكن نظرة سليم أسكتته تماماً قائلاً بنبرة حازمة: مكي ولا كلمة سامع؟ عشري خد مكي وانزل، خليك إنت يا عثمان.


مكي صرخ وهو يُسحب: مش هسيبك.


سليم لم يلتفت، قال بحزم: قولت امشي، يلااا... 


جذبه عشري من كتفه وسحبه خارجاً، بينما جلس سليم للحظة على الأرض، أنفاسه مضطربة، عرقه يتصبب، لكنّه قاومه نهض توقف أمام اسماعيل، وكأنّ ما يشعر به في قدمه أضعف من الجمر المشتعل داخله.


توجه بعينيه إلى عبير قائلا بتهذب: مدام عبير، من فضلك ادخلي انتي و والدتك الأوضة.


كانت على وشك أن ترد، لكنه سبقها بنظرة صارمة:

اسمعي الكلام من فضلك.


تدخل إسماعيل بنبرة غليظة: اسمعي الكلام يا عبير خشي الأوضة.


دخلت عبير الغرفة يرتجف قلبها، والدتها تجرّها من يدها، وكأنهما يهربان من وحش لا يُرى.


اقترب سليم من إسماعيل ببطء، بنظرة لم تكن عادية، كانت نظرة قاتلة، مرعبة، لم تعرف الرحمة يومًا.


سليم متسائلا بنبرة متعجبة: كنت هتعمل إيه يا إسماعيل؟ هتقتل مكي؟


أجابه بصوت واثق رغم الألم: ما هو كان هيقتلني ياسليم.


نظر سليم له بحدة: مايقتلك، الرصاصة اللي كان هيقتلك بيها أرخص بكتير من حياتك، تفتكر لو كنت قتلته أنا كنت هعمل إيه؟ صدقني اللي بتعمله عندكم في المساجين كان هيبقى أرحم من اللي كنت هعمله فيك.. وإنت أصلاً إيه اللي عملته ده؟! أنا طلبت منك تعمل اللي إنت عملته؟


إسماعيل صرخ بعناد: أمال كنت هنطقها إزاي؟!


رد سليم سريعًا: بأي طريقة، أو كنت تقول لي الأول، مش تشتغل بأساليب قذرة.


إسماعيل يضغط على جرحه، يتنفس بصعوبة قال باستنكار:إنت كنت عارف أنا هعمل إيه؟! عشان كده اخترتني يا سليم.


ضحك سليم ضحكة جانبية، ثم قال ببرود:

أكيد كنت عارف إنك الوحيد اللي هتطلع منهم المعلومة، بس ماكنتش متخيل إنك ممكن ترفع المسدس على حد من أهل مراتي... تفتكر دي تمنها إيه؟


إسماعيل بشدة: أنا كنت بعمل شغلي، وبعدين المسدس كان فاضي.


أشار سليم برأسه، فانقض عليه اثنان من الحراس، أمسكوه بقوة اقترب سليم، أمسك دراع إسماعيل المصابة وضغط عليها بيده حتى صرخ صرخة موجعة.


سليم بنبرة باردة، قرب وجهه من وجه إسماعيل وقال بصوتٍ هادئ لكنه مرعب: لا لا، صوتك مايطلعش مافيش راجل بيصرخ، ده لو كنت راجل..


ضغط على دراعه أكثر بنظرة حادة، بينما كان الأخير يمضغ أسنانه محاولًا احتمال الألم، تابع سليم نفس ذات الوتيرة بتهديد:

بص يا إسماعيل، أنا مش هعمل لك حاجة المرة دي، هكتفي باللي عمله مكي، عشان لو إيدك التانية اتضربت بالرصاص، مش هتعرف تمسك بيها حاجة طول عمرك، هتبقى زي عماد كده، لأن أنا ماليش في ضرب الدراعات، أنا بضرب في الكفوف على طول، بحب أجيب عاهات وأسيب ذكرى يفتكرها كل واحد صورت له نفسه إنه يقدر يضايق سليم أو يقرب من حاجة تخصه.


تابع بأمر لا يتقبل النقاش:

أنت هتنزل دلوقت، مع مكي هتروح تعتذر لأهل ماسة، وتبوس إيد سعدية، وراس مجاهد، وتتأسف لهم، وتتأسف لسلوى كمان، ولو ماقبلوش اعتذارك، يا ويلك، الموت هيبقى رحمة ليك مفهوم.


نظر إسماعيل نظرة حادة، لم يعجبه مايفعله سليم، لكنه كخروف بين مجموعة ذئاب، لا مفر له سوى أن يظهر استسلامه ليتمكن من النجاة.


رفع سليم يده من مكان الرصاصة، وتحرك نحو علبة المناديل سحب بعضهما وبدا يمسح الدماء من كفه وهو يقول: أنا اللي خلاني أعديها، إني ماكنتش

قايل لك تعمل إيه؟! وفعلاً كنت مديك كارت أحمر، رغم إني قلت لك بشويش، بس نسيت إن البشويش بتاعتك دي طريقتها.


إسماعيل صرخ متحديًا: أنا رجعتلك ماسة، بدل ماتشكرني!


التفت سليم وضحك، ورفع إيده بإشارة ساخرة:

أنا ليه حاسس إنك بتهددني؟ 


اقترب منه ونظر داخل عينيه بنظرة لا ترمش، غيمها سواد خطر قائلا بتحذير ممزوج بتقليل:

اوعى تفكر فيها، عشان أنا معايا اللي يدمرك، بصباعي الصغير ده، حياتك هتدمر، أكيد انت عارف بتلعب مع مين؟ إنت شغال عندي، وقبلت إنك تشتغل عندي، وقبلت إنك تبقى بالحجم ده، فـ ماترفعش عينك، عشان خلاص عينك بقت مكسورة من زمان يا إسماعيل، وخلي بالك من مراتك وابنك، ها؟


كان إسماعيل يئنُّ بصوتٍ مكتومٍ يُخفي ألمه عن الرجال من حوله.


لكن سليم لم يُمهله فرصةً لالتقاط أنفاسه، تقدم نحوه، عيناه بارِدتان كنصلِ سكين، وصوته هادئٌ لدرجة تقشعرُّ لها الأبدان: والفلوس اللي وعدتك بيها خصمتلك منها تلات أرباع هتاخد الربع بس.


سكت إسماعيل و نظر له بارتباك، أكمل سليم:

والفيلا، والعربية، انساهُم.


توقف لثانية وهو يضيق عينه تابع:

واحمد ربك إنك لسه عايش إنت والمدام وابنك، ده فضل مني مش حقك.


وفجأة مد يده، أمسك ذراع إسماعيل المصاب، وشده بقوة وهو يسأله بنبرة باردة كالجليد:

إنت أشول، ولا أيمن؟


لم يفهم إسماعيل، ارتبك قليلاً، ورفع نظره: تقصد إيه؟ 


نظر سليم بلا رمشة: رد بدل ما أختار أنا. 


إسماعيل بتلعثم: أنا، أنا أيمن.


في نفس اللحظة، مد سليم يده الأخرى، أمسك بيد إسماعيل اليسرى، لفها عند كتفه، وضع المسدس في منتصف كفه... ارتعش إسماعيل بينما أقترب سليم، حيث مد رأسه بالقرب من أذن إسماعيل من الخلف، وهو يقول بنبرة هادئة هامسه، وجهه كما هو، هادئ، لكن صوته كان كسُمّ:

أنا مش هضربك المرة دي، بس المرة الجاية مش هتبقى في كفك، يا إسماعيل هتبقى بين عينيك، عشان سليم ما بيضربش في الضهر، مفهوم؟ أنا بس بفهمك الثمن.


تحرك وتوقف أمامه، اقترب أكثر، نظر في عينيه مباشرة:

نظرة الغدر اللي أنا شايفها في عينك دي بلاش منها، أنا سليم الراوي مش هقولك تاني المرة الجاية، حبايب القلب هم اللي هيدفعوا الثمن. 


نظر له وعقد حاجبيه متعجبًا، تسال مستنكرًا:

زعلان ليه؟ إنت اخترت الوضع ده والمقابل الفلوس، فزعلان ليه؟حتى لو رجعت للي مشغلك معانا هيقولك احمد ربنا إنه سابك عايش، شاكر هيبقى معاك، هيوديك للدكتور تخلص، تروح عند أهل ماسة تعمل اللي قلتلك عليه ومعاك مكي، مفهوم؟


قال كلماته تلك وتحرك مع بعض الحراس.


تركا إسماعيل واقفًا ينزف، وكانت نظراته تشتعل غلّاً وحقداً.


خرج سليم من المصعد ووجهه شاحبا، خطواته بطيئة وعرجاء قليلاً بسبب ضربة مكي، يتكئ على الحائط قليلاً، فالألم في قدمه لا يُحتمل.


كان، يتوقف أمام السيارة عشري ومكي، نظرات متوترة تشي بأن الحديث لن يكون سهلاً.


وقف سليم أمامهم، يرمق مكي بنظرة ممتزجة بين العتاب والتعب، لكنه لم ينطق.


مكي رفع عينه وقال ببرود متماسك: ماتبصليش كده، كنت عايزني أعمل إيه بعد اللي عرفته؟


سليم، بصوت متقطع ومرهق: بس مش لدرجة القتل يا مكي.


مكي، بنبرة حاسمة: كان هيحصل إيه يعني؟ هاتسجن بس بشرف؟ طب إنت عرفت هو عمل إيه؟"


سليم، وهو يغمض عينيه لحظة: أأيوه عرفت بس ماتجيش في وسط عمارة، وسط أهله، وكل الكاميرات شايفاك... كل حاجة جايباك! ترفع سلاحك عليه؟


مكي، بابتسامة ساخرة: كنت حاطت الكاتم.، وبقولك يا سليم، أنا مش ندمان واللي يحصل يحصل صدقني مافكرتش فيها ولو حتى كنت فكرت كنت هعمل اللي أنا عملته.


تنهد سليم بتعب، يشيح بوجهه، صوته يكاد ينكسر:

أنا مش قادر أجادلك دلوقتي، أنا تعبان

نظر له وبنبرة حاسمة:

اسمعني، هتروح معاه للدكتور، يطلع الرصاصة، وبعد كده هتروح لأهل ماسة معاه يعتذرلهم، خد بالك إنت اللي عملت كده، مش أنا، فاهم؟


كان مكي متجهم الوجه، صمت للحظة، ثم يهمس:

طيب، وإنت عامل إيه دلوقت انا حقيقي آسف؟


سليم، وهو يفتح باب السيارة بصعوبة: انا كويس، هاخد المسكن 


ربت على كتفه دخل سليم السيارة بصعوبة، ثم التفت إلى عشري: خليك معاه.


وانطلقت السيارة، بينما وقف مكي في مكانه، يتنفس ببطء


بعد دقائق هبط إسماعيل من العمارة متكئًا على شاكر، النزيف أضعفه كثيرًا، لكنه ظل واعيًا، كانت نظراته إلى مكي مشتعلة بالغضب والكره، بينما رد مكي بنظرة أكثر حدة، لا تحمل ندمًا، بل تحديًا واضحًا وصمتًا قاتلًا.


دون أن ينطق بكلمة، صعد مكي إلى السيارة وجلس بجوار السائق، تبعه عشري، بعد أن ساعد إسماعيل بصعوبة على الصعود، قاد شاكر السيارة بصمت ثقيل، دون أن يتبادل أحدهم الكلام.


توجهوا إلى إحدى العيادات الخاصة، سارع الطبيب بإزالة الرصاصة من ذراع إسماعيل، وجرى تعويضه ببعض الدم، لم يطل الأمر، إذ إن الرصاصة لم تكن عميقة، ما سمح له بالخروج معهم بعد وقت قصير.


ظل الصمت يخيّم على الأجواء، ثقيلًا ومتوترًا، حتى وصلوا إلى فيلا عائلة ماسة.


فيلا عائله ماسة السادسة مساءً


في الصالون


جميع أفراد العائلة جالسين، يتطلعون إلى الباب بين حين وآخر، يحملون على أكتافهم ثقل القلق والخوف، لا يعرفون شيئًا عن ماسة، ولا يستطيعون الوصول إليها ولا إلى سليم وبالطبع كان الحراس يتوقفون من بعيد كما هم.


بعد دقائق، دخل مكي وإسماعيل وعشري نظر الجميع إليهم بدهشة ممزوجة بالخوف.


توقف عمار بغضب: ايه، جايين تكملوا؟


رفع مكي يده بإشارة للتهدئة، ورد بنبرة صارمة:

إسماعيل جاي يحب على راسكم ويعتذر عن اللي حصل، ولو مش قابلين اعتذاره قولوا عادي.


كاد أن يذكر اسم سليم الذي بعثه، لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة، ثم تابع:

الرصاصة اللي في دراعه دي تمن رفع مسدسه عليكي يا خاله، وكنت ناوي أقتله، بس سليم أنقذه على آخر لحظة.


تدخل مجاهد وهو يشير بضعف من مكانه: احنا مش عايزين لا اعتذار ولا حاجة، سيبونا في حالنا يا ابني، وطمنّا على البت.


أومأ مكي برأسه باحترام، ورد بهدوء لكنه كان حادًا:

لو ماقبلتوش الاعتذار، ساعتها أنا اللي هقتله، والله العظيم.


عشري تدخل: خليه يعتذر يا جماعة و ياريت نهدي الموضوع عشان مكي والملك على أخرهم.


نظر لإسماعيل وحرك رأسه: اتفضل أدخل وخلصنا.


كان إسماعيل يشعر بالغل والقهر ،جز على أسنانه، يعرف أن مايفعله يفوق احتماله، لكن تهديد سليم أجبره على ذلك.


مد يده باتجاه سلوى، يحاول الاعتذار، لكن مكي أمسكه من ذراعه وهو يقول بابتسامة باردة:

من غير لمس يا حبيبي.


إسماعيل بصوت مكسور: أنا آسف يا هانم، بس ده كان شغلي، وكان لازم أعمل كده.


اقترب من مجاهد، وقبّله على رأسه: حقك عليا يا مجاهد


قاطع مكي بنبرة قاسية: عمي مجاهد ده زي والدك.


أغلق إسماعيل عينيه للحظات، ثم ابتسم ابتسامة مصطنعة: أنا آسف يا عم مجاهد.


أمسك يد سعدية وقبّلها: أنا آسف يا سعدية هانم، بس كنت مضطر أعمل كده عشان أعرف مكان ماسة هانم... حقكم عليا يا جماعة، آسف، حاجة تانية يا مكي باشا؟


هز مكي رأسه وقال بهدوء: لا يا إسماعيل، اتفضل، تقدر تروح لمراتك وابنك ربنا يخليهم لك، حافظ على حياتهم، عشان لسه صغيرين، عشان يكون لك ابن تاني.


فهم إسماعيل التهديد الصريح، نظر لمكي نظرة حادة، لكنه لم يجرؤ على الرد، ثم خرج.


عشري بابتسامة هادئة: ماتزعلوش يا جماعة، اللي حصل ده إجراء روتيني، ولو كانت سلوى اتكلمت من البداية ماكانش حصل كده، حصل خير، هستناك بره يامكي. 


أومأ مكي، ثم التفت للحراس: كل واحد يطلع بره، محدش يدخل هنا تاني، خلاص.


هز الحراس رؤوسهم وانسحبوا.


اقتربت سعدية منه، وقالت بشكوى:

ينفع يا مكي، اللي عمله فينا سليم؟ إنت مش عارف هو جه وعمل فينا ايه؟ بهدلنا وهددنا. 

دققت النظر في ملامحه، مدت يدها أمسكت وجهه:

ايه اللي في وشك ده، ايه اللي حصل؟


مكي بهدوء محملا بالأسف:

ما تشغليش بالك، وبالنسبة لسليم لما بيتعصب مابيبقاش واعي اوي للي بيعمله أنا باعتذر بالنيابة عنه.


تدخلت سلوى بغضب: مين قال لك إننا قابلين اعتذارك؟ احنا أصلاً مش مستنيين منك ولا منه أي اعتذار.


مكي حاول تهدئتها: سلوى، أنا عارف إن ليكم حق تزعلوا و.. 


قاطعه عمار بشدة: لينا حق نزعل؟ لا، احنا لينا حقوق نعمل حاجات كتير يا مكي، ولازم تفهمه إن أختي هنعرف ناخدها وهنعرف نطلقها منه،لأن خلاص حقيقته بانت، وإنت كمان لازم تفهم إن مالكش بنات عندنا.


نظر لهم مكي للحظات، ثم قال بهدوء قاتل:

عموماً، مش هينفع نتكلم دلوقتي، واضح إن الزعل والغضب مسيطرين عليكم.


عمار قال بحدة: لا، احنا في وعينا اوي 


مجاهد بنبرة هادئة لكنها موجعة: بص يا ابني، أنا كنت ضد بنتي، وجيت عليها كتير عشان خاطر سليم، بس بعد اللي جه عمله فينا هنا، وإنه يسمح لضابط يعمل كده معانا، خلاص يا ابني مبقاش ينفع.. 


أضافت سعدية بانكسار: أنا كنت بأضرب البت وبموتها عشان خاطره، ليه حق يزعل، بس يعمل فينا كده؟ ده يرضي ربنا؟


مكي وهو يشير إلى وجهه بهدوء: حضرتك سألتي من شوية إيه اللي في وشي؟ ده من سليم، تفتكري المفروض أزعل منه وأقطع معاه؟ أكيد مش هعمل كدة، أنا عارفه من زمان، لما بيتعصب مابيعرفش يسيطر على نفسه، بيكون وحش، ممكن يهد العالم، بس جواه طفل صغير.


سكت لحظات، ثم تابع بعقلانية: سليم الضغط عليه الفترة اللي فاتت كان كتير، انتوا ليكم حق تزعلوا، أنا مش بلومكم، بس تخيل يا عمار مراتك تهرب منك أكتر من مرة، من غير ما تعملها حاجة، ماتعرفش مكانها، وفي مرة منهم تتعرض للاغتصاب


اتسعت عينَا عمار بدهشة: إيه؟


مكي بهدوء: أيوه، ماسة كانت هتتعرض للاغتصاب لما هربت يوم الحفلة وسليم أنقذها، لكنه ما واجههاش ولا واجه سلوى رغم إنه عارف إنها ساعدتها وقبلها حاولت تهرب، لكنها تراجعت، ومن قبلها وهي مشوشة، وسليم مش فاهم سبب تغيرها حتى لو هو غلط في حقها، مش مبرر لتصرفها أنا كنت جنبها لحد الآخر، لكن ماسة خرجت من سليم شخصية مختلفة،  كنت نسيتها من زمان من بعد جوازها.


أضاف بعد تنهيدة: هو محتاج يومين يهدى، مش عايزكم تزعلوا منه، أنا آسف، أتمنى تتفهّموا ردود الأفعال، هي مش مبررة، أنا عارف، بس تتفهموا هي خارجة من إيه.


مجاهد وهو يهز رأسه: بص يا ابني، حتى لو بنتنا غلطانة، حتى لو بنتي هربت، الإنسان بيبان في غضبه وصاحبك عمل فينا اللي في حياتنا ما كناش نتخيله، بس بلاش نتكلم في الموضوع ده دلوقتي، الأهم عندي عايز أعرف بنتي فين، وحصل لها إيه؟!


مكي بتوضيح: ماسة كانت في مرسى مطروح، وإسماعيل جابها، وهي دلوقتي في فيلا على طريق مصر إسكندرية، بس للأسف مش هتقدروا تشوفوها الفترة دي، استنوا يومين، وأنا هتكلم مع سليم.


التفت لسلوى، قال بحدة وقوة: أنا راجل يا سلوى، ومستحيل أسمح إن حد يتعرض لك أو لأهلك بأي سوء.


سلوى بحدة: بقولك إيه؟ أنا لسه أخويا قايلك، إنت مالكش هنا بنات، احنا خلصت حكايتنا، أنا مستحيل أتجوز واحد زيك


تنهّد مكي بهدوء: طب يا سلوى، أنا هسيبك تهدي، وهاسيبكم كلكم تهدوا. أنا متفهم غضبكم، بس أنا عايزكم تحطوا نفسكم مكان سليم.


عمار بنبرة حادة: مش عايز تغلط صاحبك يعني؟


مكي بهدوء: لا مش قصة غلط أو ماغلطش،  كل الحكاية إني عايزكم تفكروا في الموضوع من جميع النواحي، عموما أنا هبقى آجي تاني، لان كلمنا ماخلصش لحد هنا. 


قال كلماته تلك وخرج للخارج، بينما سلوى أخذت تنظر لآثاره بغضب ممزوج بقهر، هبطت دموعها بوجع. 


اقترب مجاهد منها وهو يقول: قوليلي يا بنتي إيه الحكاية واغتصاب إيه اللي بيقولوا عليه إيه اللي حصل؟


التفتت له سلوى، مسحت دموعها، وقالت بصوت مكسور: مفيش، الراجل اللي ركبت معاه العربية حاول يتحرش بيها، وسليم لحقها، بس انتوا السبب، انتوا اللي مارضتوش تسمعوا لها من الأول.


عمار بضجر: احنا نكلم مكي ونعرف مكانها، ونروح نجيبها يا بويا، وتطلق منه، ونرجع له كل حاجة، حتى الشركة، أنا ليا واحد صاحبي في الجامعة، ممكن أشتغل عند أبوه، ونبدأ من أول وجديد، نجيب أوضة نعيش فيها، ولما ربنا يكرمنا نبقى نجيب شقة.


سعدية محاولة تهدئته: واحنا هنقدر عليه؟ نصبر شوية، مكي عنده حق، يمكن كل اللي بيعمله ده من زعله، دمه فار، وده اللي مخليه يتصرف كده.


مجاهد بتهكم وصوت عالي: نصبر؟ نصبر على إيه تاني يا سعدية بعد كل اللي حصل؟ وبعدين ماتتدخليش إحنا نصبر زي ما مكي قال، عشان نعرف نكلمه الأول.


سعدية وهي مستاءة: استهدوا بالله, الراجل مراته هربانة، وجاب اللي اسمه إسماعيل واعتذر، وحب على راسنا، يعني عايزيني أصدق إن مكي عمل كل ده لوحده؟ أكيد سليم له يد، وشفتوا قالكم إيه؟ قال لما بيتعصب مابيشوفش قدامه شوفوا عمل في مكي ايه؟! هو حس إنها داست على رجولته وكرامته لما هربت.. بصوا، احنا هنستنى يومين، وبعدين نروح نشوف البت، نتكلم معاها، ونشوف هيتصرف إزاي، هيعتذر والا لأ وساعتها بقى نشوف هنعمل إيه.


نظرت لعمار وهي تشير بيدها قالت بتوضيح:

بس أوعى تفتكر يا ابني إني هستحمل عليكم الإهانة، والا إن ضربتك اللي في عينك دي ماوجعتنيش، بس حط نفسك مكانه، زعل جوز أختك صعب، استهدوا بالله، خلونا بس نطمن على البت الأول.


تبادلا النظرات  بصمت


فيلا سليم، السادسة مساءً.


نرى سليم يجلس في الهول، على مقعد هزاز مميز على شكل طاووس، يدخن سيجار بهيبة وصمت، الهواء مشبع برائحة التبغ الفاخر، والسكون يخيّم على المكان حتى قطعه صوت خطوات خفيفة تخرج من المطبخ.


ظهرت سحر وهي تحمل صينية طعام، تتجه بها بهدوء لمحها سليم فعتدل قليلًا من جلسته وناداها بصوته الآمر: سحر تعالي من فضلك.


اقتربت سحر ووضعت الصينية على الطاولة المجاورة، ثم وقفت أمامه باحترام ظاهر في ملامحها:


سحر:  افندم يا بيه؟!


سليم متسأل: انتي هطلعلها الغدا دلوقت؟!


هزت سحر رأسها بإيجاب: آه يا بيه، زي ماحضرتك أمرت.


سليم أشار للصينية بعينه وهو يقول بنبرة جادّة:

طيب، يا ريت تخلي مواعيد الوجبات محددة، اختاري انتي المواعيد، انتي هتدخلي لها الأكل وتطلعي على طول يا سحر. 


تابع وهو يقول بتحذير وهو يشير بأصابع يده:

لو خرجت من باب الأوضة هحاسبك انتي، مافيش كلام كتير معاها، ماتخرجش مهما خبطت ومهما صرخت، مش عايزها تصعّب عليكي، أنا اخترتك انتي عشان عارف إنك بتحبيها وبتعتبريها زي بنتك،  بس أنا مش عايز العاطفة هي اللي تحركك، خلي المعلومات دي دايمًا حاضرة.


هزت سحر رأسها بايجاب دون أن تتحدث، أكمل سليم محاولا أن يطلعها على شخصيته الحالية، تابع: 

يمكن انتي ماتعرفنيش كويس يا سحر، بمعني ماعشرتنيش بشخصيتي دي، بس نصيحة... بلاش تشوفيها؟ عايز بس حاضر ونعم. مش عايز أسمع غيرهم خالص الفترة الجاية. حاضر ونعم، مفهوم؟


أخرج المفتاح من جيبه وناوله لها  تناولت سحر المفتاح: ده المفتاح، بتاع باب الأوضه تدخلي لها الأكل، وتقفليه عليها زي مافتحتيه.


سحر بطاعة: حاضر يا بيه.


صمت سليم للحظة، ثم نظر لها بنظرة أخفت وراءها شيئًا من الحنان، وقال بصوت أقل حدة:

ابقي دخلي لها كاتل شاي... وعصاير، وسناكس. هي بتحب الحاجات دي، الكلام ده يحصل بكرة وأنا مش موجود، كأني معرفش وممكن تقعدي تتكلمي معاها شوي دقيقتين كدة.


تبسّمت سحر بخفة، فقد شعرت بما أخفاه صوته من حنين رغم الغضب، وردّت: حاضر يا بيه. حاجة تانية؟


رفع إصبعه محذرًا: أوعي... أوعي لو طلبت منك تكلمي حد من أهلها توافقي، صدقيني، محدش هيتحاسب غيرك.


هزّت سحر رأسها بطاعة صادقة: حاضر يا بيه هعمل كل اللي حضرتك عايزه.


تساءل سليم: قولي لي يا سحر.، اليومين اللي فاتوا، ماسمعتيش أي حاجة؟


سحر: لا يا بيه، كل اللي سمعته قولته لحضرتك... يعني آخر حاجة سمعتهم بيقولوا إنهم متضايقين إن حضرتك رفضت المشروع اللي بينك وبين صافيناز هانم و رشدي بيه، وفي مرة كنت عايزة أسمع باقي الكلام بس أماني ندهتلي... ماعرفتش أعمل حاجة، أما الست ماسة، ماسمعتش منها ولا عنها أي حاجة، والله؟!


هزّ رأسه ببطء، وكأن الكلام لم يُرضِ فضوله ولا أطْفَأ شكوكه: طب يا سحر، اطلعي دلوقتي.


ترددت سحر لحظة قبل أن تقول بصوت خافت: مش عايزني أعملك حاجة يا بيه؟


سليم: لا يا سحر، شكرًا.. قوليلي، هتقدري على شغل الفيلا لوحدك؟ ولا أبعَت أجيبلك حد؟ يعني كده كده كل يومين في ناس بييجوا ينظفوا، مش مطلوب منك غير الأكل بس.


هزّت سحر رأسها وهي تمسك الصينية بين يديها: لو حسيت إني محتاجة حد، هقولك يا بيه


سليم: طب اتفضلي.


تحركت سحر وصعدت الدرج بخطى هادئة، بينما أسند سليم ظهره على المقعد، وعيناه نصف مغلقتين. بدا كأن الهواء نفسه يضيق به، وأن المكان قد تحوّل إلى قفص خانق، لم يكن الألم واضحًا على ملامحه، لكنه كان يسكن كل حركة من جسده، كل تنهيدة، وكل نظرة.


غرفة ماسة


صوت المفتاح دار في القفل بهدوء، ثم انفتح الباب ببطء.  

كانت ماسة جالسة على السرير، عيناها محتقنتان من أثر الدموع، خصلات شعرها المبعثرة تلتصق بوجنتيها، وقدماها ضمتا بعضهما بشدة،  ارتجفت قليلاً، وفور أن سمعت صوت الباب، قفز قلبها في صدرها ظنّت أنه سليم  فتراجعت خطوة إلى الخلف، وقلبها ينبض بالرهبة.


دخلت سحر وهي تحمل صينية الطعام، بصوت هادئ:

مساء الخير يا هانم... عاملة إيه؟


رفعت ماسة رأسها، وعقدت حاجبيها، نظرت نحوها باستغراب شديد: انتي هنا يا سحر؟


سحر بهدوء: آه يا هانم، أنا هنا جبتلك أكل عشان تاكلي، أكيد مكلتيش من الصبح.


عادت ماسة وجلست على السرير، وجهها ما زال محمرًا، وعيناها الزرقاوان الجميلتان اكتساهما الاحمرار من كثرة البكاء صوتها كان مبحوحًا وهي تقول: مش عايزة آكل يا سحر... ماليش نفس.


اقتربت سحر منها بخطوات حذرة: لا يا هانم، ماتقوليش كده... لازم تاكلي وتتغذي، الزعل مش على الأكل، وبعدين ده أنا عملالك الأكل اللي بتحبيه.


ماسة تنهدت بتعب: من فضلك يا سحر، خدي الأكل وامشي، هو هو سليم تحت؟


سحر: أيوه، تحت يا هانم.


توقفت ماسة وتحركت  وهي تقول: طب أنا نازلة تحت، عايزة أتكلم معاه شوية.


قطعت سحر طريقها فورًا وقالت برجاء: لا والنبي يا هانم، ماينفعش تخرجي من باب الأوضة.


نظرت لها ماسة باستغراب وعيونها تتسع بحدة:

هو إيه اللي انتي بتقوليه ده يا سحر؟ أوعي من فضلك.


سحر بخوف: والله العظيم ماهينفع يا ست هانم، سليم بيه مديني أوامر وأنا مش قده. 


ماسة: ماتخافيش يا سحر.


فجأة دوّى صوته من خلف الباب، نبرته غليظة وقاطعة: اتأخرتي ليه كده يا سحر؟ مش قلتلك تحطّي لها الأكل وتنزلي على طول؟


تحركت ماسة وتوقفت أمامه بنبرة متلعثمة: سليم! أنا عايزة أتكلم معاك!


سليم وكأنه لم يسمعها ولا يراها: انزلي تحت يا سحر... يلاا. 


تحرّك ليبتعد، أمسكته ماسة من معصمه فجأة بكل ضعفها وهي تقول بصوت متوسل: سليم، لو سمحت... استنى. خلّينا نتكلم.


نظر إليها بجمود، وسحب يده من بين يديها بقسوة:

لسه ما أذنتلكيش تتكلمي.


ماسة باستهجان: هو إيه اللي ما أذنتلكيش!؟


سليم بنبرة رجولية: صوتك عالي ليه؟


ماسة: على فكرة، ده مش أسلوب.. لازم نتفاهم!


رمقها سليم بنظرة من أعلى لأسفل باستنكار وكأنها شئ قليل، ثم التفت دون أن يرد، خرج من الغرفة وأغلق الباب بالمفتاح خلفه.


ركضت إليه، أخذت تضرب الباب بكفّيها وهي تنادي عليه: سليم! مش هينفع كده، يا سليم! اسمعني!


انهارت على الأرض، جلست وظهرها ملتصق بالباب، وراحت تبكي بحرقة، كانت شهقاتها تهز جسدها كله، وكأنها تفرّغ ما تبقى من الروح في كل دمعة.


بينما سليم تحرك في الممر وهبط للأسفل وكأن شيئا لم يكن..


ظلّت ماسة تبكي طويلًا حتى أنهكها البكاء، مسحت وجهها ودخلت الحمام، ثم أخذت حمامًا دافئًا، خرجت تلفّ منشفة حول جسدها، ودخلت غرفة الملابس، فوجدتها شبه فارغة، عقدت حاجبيها بإستغراب وتوجهت إلى الدولاب، فلم تجد سوى القليل من الثياب، أخرجت بيجامتها وملابسها الداخلية وارتدتها.


تمدّدت على الفراش، وأسندت رأسها إلى ظهره، كانت منهكة، عيناها محترقتين من السهر، لم تنم منذ ليلتين، فكرت في حديثها المؤلم مع سليم، لم تحزن منه، بل عليه... وعليهما معًا تظن أنه سيُخرجها غدًا على لأكثر وهو لم يصل اليها الا من بضع ساعات فـغضبوا ما زالوا متملك منه، وبعد لحظات، غلبها الإرهاق فنامت.


في الوقت نفسه، كان سليم يراقبها من خلال التابلت. فالغرفة مزوّدة بكاميرات وميكروفونات ،راقبها بصمت من فراشه، وقلبه لا يزال جامدًا. وحين رآها تغفو، استلقى بدوره، فهو الآخر لم يذق النوم منذ ليلتين.


منزل إسماعيل السابعة مساءً


دخل إسماعيل إلى الشقة بخطوات مثقلة بالغضب، ووجهه يشير بالكدمات والتعب، كأن المعركة لا تزال ملتصقة بملامحه، فور أن شعرت به، نهضت عبير من على الأريكة بسرعة ولهفة، وكأنها كانت تنتظر صوت الباب منذ ساعات.


عبير بقلق: إسماعيل! إيه إللي حصل؟ في إيه؟


رفع يده كمن يطلب لحظة صبر، ثم قال بصوت متعب: أصبري عليا... أنا تعبان. أمك فين؟


ردت عبير بسرعة وهي تقترب منه: قاعدة مع الولد جوه.


أسندت ذراعه، وساعدته على الجلوس فوق الأريكة. بدا منهكًا، كأن حمل العالم فوق كتفيه.


اسماعيل بصوت فيه وجع دفين: إللي حصل، إللي إنتي شفتيه، عملت إللي اتطلب مني، نفذت المهمة بالحرف والثمن؟ رصاصة في دراعي، وكأن حياتي رخيصة عندهم حتى الفلوس إللى وعدني بيها اخدهم.


توقفت عبير، ورغم التعب الظاهر على ملامحها، تساءلت بدهشة مشوبة بالغضب: أخد الفلوس؟! يعني إيه اخد الفلوس ؟ ليه إن شاء الله؟!


إسماعيل بمرارة: سابلي مبلغ صغير كده، بيقول عقاب


شهقت عبير، وأرتفع صوتها: بدل ما يديك زيادة علشان إللي عمله فيك؟ الحارس بتاعه إللي ماعرفش يوصل لمراته؟ وإنت هتقعد كده؟ حاطط إيدك على خدك وساكت؟


رفع إسماعيل عينيه نحوها، وكان بداخله بركان، لكن صوته ظل هادئًا: عايزاني أعمل إيه؟


عبير بشدة: إنت إسماعيل حافظ، ابن اللواء حافظ إبراهيم ظابط أمن دولة، مش واحد من رجالتهم.: سليم مش بني آدم عادي، ده شغله كله وس،خ تهريب وآثا ر  أكيد عندك عليه حاجة حتى لو تاب.


إسماعيل بهدوء: أي تصرف مني دلوقتي هيكشفني، وهيتعرف إن أنا إللي وراه وسليم اللعب معاه مش سهل،  ده شغال مع مافيا بتحميه منظمات دوليه لا أنا ولا اتخن مني يقدر عليه.


عبير بعصبية وعيونها تمتلئ بالغضب: يعني هتعمل إيه هاتفضل ساكت؟ كده خلاص؟ هاتسيب حقكك.


وقف ببطء، وكأن جسده يأبى الحراك من كثرة الإنهاك، وقال بصوت خافت حاسم: أنا مش هاسيب حقي يا عبير، بس اللعب مع سليم لازم يبقى بتكتكة سيبيني دلوقتي يلا


تحركت عبير غاضبة، نظراتها لا تزال معلقة به، بينما جلس إسماعيل مكانه مجددًا، عينيه تطلقان شررًا صامتًا، كأن النار في صدره تنتظر لحظة الاشتعال.

وغل في عينيه كبير.


في صباح اليوم التالي.


غرفة سليم، السادسة صباحًا.


يخيّم الهدوء على المكان. الغرفة شبه خالية من الأثاث، لا تضم سوى تسريحة، ودولاب، وسرير، وجرامافون. غرفة كلاسيكية تعكس بدقة شخصية سليم.


رنّ جرس المنبّه. بدأ سليم يتململ على الفراش، فتح عينيه، جلس، أغلق المنبّه، ومسح وجهه بكفه، أمسك التابلت ونظر إلى ماسة من خلال الكاميرات، كانت لا تزال نائمة، تنهد بعمق، ثم نهض، أخذ حمامه، ارتدى ملابسه، وهبط إلى الطابق السفلي، جلس إلى مائدة الطعام ليتناول فطوره بصمت.


في السفرة.


أثناء تناول سليم الفطور، كانت سحر تصب له الشاي في الفنجان، فقال: لما ماسة تصحى، طلعيلها الفطار.


سحر مسرعة: عينيا يا بيه، طب يعني ماتأخذنيش في السؤال، أنا هعرف منين إنها صحيت؟ حضرتك قافل عليها؟!


سليم بهدوء: النهاردة هبعت حد يركب جرس تنبيه، علشان لما تعوزك تكلمك، ولحد ما ده يتم  هكلمك لما تصحى.


اقتربت سحر منه، وتحدثت بتردد: ماتاخذنيش برده تاني يا سليم بيه إني باتدخل، بس يعني الست  ماسة طيّبة، ماتزعلش منها، الصراحة ماينفعش تفضل قافل عليها كده.


تناول سليم ما في الشوكة، رفع عينيه إليها بنظرة حادة: هو أنا قلت إيه إمبارح؟ 


سحر  بتلعثم وعينيها على الأرض: أقول حاضر ونعم.


هز سليم رأسه بإيجاب: بالظبط، يلا روحي على شغلك، عايز أكمل فطاري، عندي شغل.


سحر: أمرك يا بيه بعد إذنك.


تحركت وهي تهمس لنفسها بأسف وألم على حالهما: ربنا يسهل له كل أحواله، والله زعلتوني عليكم.


بعد وقت، أنهى سليم فطوره، ثم خرج متجهًا إلى المجموعة.


مجموعة الراوي


غرفة الاجتماعات، العاشرة صباحًا


نرى سليم يجلس وسط أفراد العائلة والمديرين، لكن رشدي لم يكن حاضرًا، كان الجو جادًا والأحاديث متزنة، والأوراق منتشرة أمام الجميع. بدا سليم مركزًا  يحمل مشروعًا ضخمًا لتحريك المياه الراكدة. أنهى عرضه بالتفصيل، وبدأت الردود تتوالى.


عزت وهو يتصفح إحدى الأوراق:

حقيقي مشروع هايل، بس مش شايف إن سنتين كتير؟


سليم بثقة:

سنتين مش وقت طويل، لإننا بعد سنتين من تاريخ شراء المصانع هننتج أول إنتاج لنا، ماتنساش المصانع هتتجدد بالكامل، وهنجيب عمالة جديدة وأجهزة حديثة، غير التوكيلات إللي هنأخذها هتكون حصرية للشرق الأوسط مش بس مصر، بفكر أقابل المهندسين لإختيار أفضل المكن والحصول على توكيل رسمي من المصانع اللي بتنتج المكن ده، علشان نشتريه بسعر أقل كممثلين رسميين، أهم حاجة ناخد التوكيل قبل مالمصنعين يعرفوا عن مشروعنا الكبير.


أحد المديرين قال وهو يدون ملاحظاته:

الفكرة ممتازة، تلات ساعات وهديك قائمة بأفضل المصانع إللي بتنتج المكن ده.


أنهى سليم الاجتماع وهو ينظر إليهم قائلاً:

كده الاجتماع خلص، أتمنى تكونوا جاهزين يوم السبت، لإن الاجتماع ممكن يطول، قدامكم تلات أيام، فخلصوا إللي ناقصكم، ويا ريت تبلغوا رشدي بالكلام ده. يلا، اتفضلوا.


وأثناء مغادرة الجميع، قال عزت: سليم، إحنا محتاجين نتكلم معاك شوية، أنا وفايزة.


أومأ سليم برأسه بهدوء: تمام.


نظرت إليه صافيناز بطرف عينها بضيق وخرجت 

بدأت فايزة الحديث بعد أن تأكدت من خروج الجميع من غرفة الاجتماع.


فايزة بابتسامة وتقدير: أنا مبسوطة إنك رجعت من تاني، هو ده سليم ابن فايزة رستم آغا ووريث عرش إمبراطورية الراوي. سعادتي لا توصف لما أشوفك رجعت مركز، المشروع إللي جايبُه ضخم، وإحنا من زمان مانفذناش حاجة كبيرة كده، أخر حاجة نفذناها افتتاح مجموعة مصانع في كذا دولة، ومن وقتها ماسمعناش عن مشاريع بالجمال ده.


سليم بنبرة ثابتة: صدقيني يا هانم، الموضوع مش بعدد المشاريع، ممكن تشتغلي على مشروع واحد يجيبلك مليارات، وممكن تشتغلي على عشرة ويدخلوا ملاليم، المهم قيمة المشروع إللي داخلاه، وقوته، مش العدد.


عزت وهو ينظر إلى سليم بتأييد: عندك حق، بس إنت برده الفترة الأخيرة ماكنتش مركز، المهم مش ده إللي إحنا عايزين نتكلم فيه، إحنا مش مبسوطين إنك هاتسيب القصر. 


سليم بهدوء: المهم إني أبقى مبسوط، وده هيريحني.


فايزة بصوت معارض: أنا مش موافقة إنك تسيب القصر ده قصرك.


ابتسم سليم بسخرية خفيفة: أنا ماطلبتش موافقتك يا هانم، أنا كده هكون مرتاح أكتر، وأتمنى تحترمي قراري.


فايزة بنبرة محمّلة بالتساؤل: يعني بعد ما كل حاجة بقت ملكك، لسة معاند؟


نهض سليم بنبرة جامدة: هو إنتم مش كل إللي يهمكم إني أرجع لعقلي؟ وأبقى منضبط؟ وأركز في المجموعة؟! خلاص سيبوني على راحتي، بعد إذنكم. أنا لازم أرجع  مكتبي أدرس موضوع التوكيل مع المهندسين،  لازم بكرة بالكتير نكون بنمضي على أوراق المصانع يا باشا.


هزّ عزت رأسه، وتحرك سليم وخرج من القاعة.


بينما تبعته فايزة بنظرة فرح ممزوجة بالدهشة، ثم تمتمت بإبتسامة: شفت، قلتلك هيرجع قوي، المفروض تهديني جزيرة بعد إللي حصل ده.


عزت، وهو ينظر أمامه بشرود: إللي يهمني إن سليم يبقى كويس وبس أتمنى يفضل كده، رغم إني حاسس إن قلبه موجوع وفيه حزن في عينيه، وإنه بيحاول يركز في الشغل علشان ينسى جرحه.


أجابت فايزة بثقة: هيوجعه شوية، وبعدها هيبقى كويس.


عزت بتحذير: ولو سمحتي يا فايزة لو ناوية تعملي أي حاجة تاني ياريت تبلغيني قبلها. 


فايزة: طول ما إنت موافق على خطتي، أكيد هقولك كده رجع عزت حبيبي إللي أعرفه، الحنية إللي كانت نازلة عليك على ماسة الخدامة ما كانتش لايقة عليك.


توقف عزت أمامها وقال بهدوء: أنا كان يهمني، بس سعادة ابني، وإني مش مأذي بوجودها، بس لما اتأذيت حتى سليم اتاذى بقيت معاكي.


على الجانب الآخر – مكتب سليم


سليم جالسًا خلف مكتبه، يحدق في التابلت حيث تظهر صورة مباشرة لماسة وهي ما تزال نائمة، لحظات ودخل مكي بعد أن طُرق الباب، وجهه يحمل بعض علامات التعب.


أشار له سليم بيده دون أن ينظر إليه: أقعد.


أغلق التابلت ووضعه على المكتب وهو يبتسم:

اتأخرت كده ليه؟ مقموص؟!


مكي بإبتسامة باهتة: أكيد لأ، بس تعبان شوية، إمبارح ماحسيتش بنفسي غير وماما بتصحيني بتقولي الساعة بقت تسعة.


سليم بهدوء: عملت إيه مع سلوى؟


مكي تنهد: كلهم زعلانين منك بسبب إللي حصل إنت عملت إيه معاهم؟


سليم يحاول أن يتذكر وهو ينظر للسقف: صدقني مش فاكر كل حاجة، غير إني ضربت عمار لما حاول يمسكني، وقلت لسعدية كلام تقيل شوية، بلاش تندمي، أو بلاش اللون الأسود يبقى المفضل عندك، حاجة كده… فاكر إني كلمتهم بأسلوب سخيف شوية، بس ماعملتش حاجة زيادة.


صمت لحظة قبل أن يكمل بحسم وهو ينظر في وجهه:

بس أكيد مش هعتذر، ولا هاممني أصلًا يشوفوني في صورة وحش، أنا واحد مراته هربت منه، بمساعدة أختها، من غير سبب! أعمل إيه يعني؟!


مكي يحاول تهدئته: إهدى بس، أنا حاولت أفهمهم، بس أظن الزعل غالب عليهم، بعدين هيهدوا ويتفهموا إنت أدرى بنفسك بتبقى عامل إزاي وإنت متعصب..


أشار نحو وجهه ليطلعه على ما يفعله حين يغضب. 


سليم بنبرة قاسية: المهم ركز معايا في إللي جاي ده الأهم، ماسة مش هتشوف أهلها تاني، غير لما أنا أقول، لازم تتعلم الأدب، وتعرف قيمتي، وتفهم إن الحياة إللي كانت عايشاها قد ايه كانت سعيدة، وقد إيه كنت بحبها.


مال برأسه قليلا وأكمل وهو يقول بتوضيح:

ولو عايز صداقتنا تكمل تخرج نفسك من أي حاجة تخص ماسة أو أهلها، إنت مجرد واحد شغال عندي  لما يجوا يكلموك، تقول: أنا شغال عند سليم بيه، ماتحطش نفسك في مواقف معايا.


مكي بصوت هاديء: بص، أنا عارف إنك متضايق ومعاك حق، أنا هبلغهم إن ماحدش يكلمك في حاجة لحد ماتهدى.


سليم بحدة: اسمها لحد ما أدي أوامر.


مكي بمهاودة: حاضر يا سليم، بس بالراحة شوية، دول أهل ماسة، وهما مالهمش ذنب في إللي حصل إنت بتعاقب مين؟


سليم ببرود: أنا عملت فيهم حاجة؟! أنا بس بفهمك، لإنهم أكيد هيكلموك ويقولوا: خلينا نشوف بنتنا. فإنت قول: أنا ماليش دعوة.


مكي بتنهيدة: إنت عارف إني مستحيل أقول الكلمة دي؟ بس سيبها لوقتها المهم… عملت إيه مع ماسة؟ الدنيا هتمشي إزاي؟


تنهّد سليم، مد وجهه بلا مبالاة: ولا حاجة، هتفضل في الفيلا الجديدة، مافيش خروج، ولا زيارات، لحد ما أشوف هعمل إيه؟! كل يومين ابعت حد ينضف، سحر  معاها هناك لوحدها، وتقعد مع عرفان تفهم منه نظام التأمين، أنا عاجبني، بس بص عليه إنت كمان، شوف لو فيه حاجة محتاجة تتظبط مش عايزين ثغرات.


هز مكي رأسه بإيجاب: اعتبر حصل 


سليم وهو يميل بجسده على المكتب تسائل: أنا كمان يهمني دلوقتي إنت هتعمل إيه مع سلوى؟! مش عايز أكون سبب إنكم تسيبوا بعض.


مكي وهو يزم شفتيه بحزن: سلوى؟ رمتلي الدبلة إمبارح، كانت متعصبة، وحقها تتضايق من إللي حصل من إسماعيل، إنت ليه ماخلّيتنيش أقتله؟


سليم بهدوء يقطر بالحكمة: علشان إحنا عاهدنا نفسنا، وعاهدنا ربنا مانقتلش تاني، أنا مش خايف من قتله، بس مايستاهلش نكسر عهدنا عشانه، إللي أنا عملته فيه أكبر من القتل،  أنا كسرته، خلّيته يعرف إنه مايساويش حاجة، أصغر واحد من رجّالتي مايقدرش يرفع عينه عليه، أنا ذلّيته، كسرته قدّام نفسه، خليته صغير، صدقني ده أصعب من القتل بمليون مرة.


استند إلى مسند المقعد تابع بهدوء: بص يا مكي، فهم سلوى إنك مالكش علاقة بحاجة، وتاني بقولهالك، خرج نفسك من أي حاجة تخصني أو تخص ماسة وأهلها، ارفع من على نفسك أي حرج.


مسح مكي وجهه بكفه، قال بنبرة هادئة لكنها حاسمة: بص يا سليم، لو سلوى بعدت عني علشان خاطر ماسة، يبقى أنا اختياري كان غلط، ويبقى هي ماحبتنيش كفاية، اليوم إللي المفروض تسيبني فيه، لازم يكون لإني عملت حاجة وحشة، مش لمجرد إن أختها زعلانة منك، ده اسمه عبط، لإن أنا كمان بدأت أحس إن إحنا حبنا كان عامينا، كنا عمالين نخترع لهم أي سبب لأفعالهم وطلع مافيش.


أسند سليم ظهره إلى الكرسي كمن يحاول حسم قراره: أنا كل إللي يهمني حاجة واحدة مش عايز أكون السبب، علشان كده إنت هاتبقى معايا هنا وبس الفيلا مش هتكون اختصاصك تاني.


نهض مكي من مكانه: ماتشغلش بالك بالموضوع ده. أنا هروح أشوف إللي ورايا.


هز سليم رأسه موافقًا بصمت وهو ينظر لآثار مكي وهو يخرج من المكتب دون أن يلتفت.


أدار سليم نظره نحو الأوراق المبعثرة فوق مكتبه، قلبها قليلًا دون تركيز.


ثم مد يده للتابلت، وبعينٍ فيها شيء من الحنين، راقب ماسة وهي لا تزال نائمة، ثبت الشاشة أمامه على وضع المشاهدة، وأكمل عمله، فكان كل بضع دقائق، يسترق النظر إليها.


فيلا سليم عند الثانية عشر ظهراً


بدأت ماسة تستيقظ من نومها، وفي تلك الأثناء انتبه سليم في التابلت نظر لها نظرة شوق لكنه سرعان ما كتم مشاعره واتصل بسحر لتجهز الفطار. أما ماسة، فغسلت وجهها وأدّت صلاتها، ثم حاولت فتح الباب، لكنه كان مغلقًا، فضربته بعنف وغضب، جلست مستاءة، وبعد قليل، فُتح الباب، فشعرت ماسة بالفرح، لكن ابتسامتها اختفت حين رأت سحر تحمل صينية الإفطار.


سحر بإبتسامة مشرقة: صباحك قشطة يا ماسة هانم عاملة إيه؟!


انتبهت وهي تضع الصينية على طاولة صغيرة لصينية العشا التى كما هي قالت: ليه ماكلتيش ده الأكل زي ما هو. 


ماسة بزهق توقفت: زهقت يا سحر، هطق باقولك إيه، أنا هفطر تحت.


سحر وقفت قدامها: مش هينفع والله يا هانم، إنتِ عارفة.


ماسة بإستعطاف: ياسحر ماتخافيش أنا زهقت بعدين الكلام ده إمبارح بس.


سحر بتوضيح: لاوالله يا هانم ده محذرني، وكلمني وأكد عليا إنتي أسبوع ممنوع تخرجي من عتبة الأوضة.


سكتت ماسة وهي تزم شفتيها ثم تبسمت: طب بصي أنزل ربع ساعة ماحدش هيقول له وحياتي يا سحر والله زهقت.


سحر بخوف: والله ماهينفع، حقك عليا، يا ست ماسة ماتعمليش مشكلة مع سليم بيه.


مسحت ماسة خلف رأسها بتعب فكرت للحظة: طب ممكن تكلميه في التليفون؟


سحر: حاضر.


أخرجت سحر هاتفها وقامت بالإتصال بسليم وكان سليم بالطبع يراقب كل شيء ويستمع من مكتبه، رد عليها.


سحر: ألو يا سليم بيه.


سليم بإقتضاب: عايزة إيه يا سحر؟


أخذت ماسة الهاتف: سليم لو سمحت، عايزة أنزل تحت.


سليم بحسم: لا.


أغلق الاتصال قبل أن ترد نظرت إلى الهاتف وضيقت عينيها بحزن وهي تجز على أسنانها.


اقتربت سحر منها ربتت على كتفها بحنان: معلش يا هانم، كلي دلوقتي ولما يجي إن شاء الله يخرجك.


ماسة رفعت عينيها التى تترقرق بدموع: طب ماتسيبنيش، أقعدي اتكلمي معايا.


سحر: والله العظيم هو محرج عليا، حقك عليا يا بنتي، بس بصي، مدت يدها بكيس بلاستك:

إمسكي الشنطة دي، فيها حاجات حلوة كليها.


ماسة بضجر وهى تجلس: أنا مش عايزة أكل، لازم تفهميه، لو فضل حابسني هنا والله العظيم ما هاكل  وإن شاء الله أموت.


ربتت سحر على شعرها: بعد الشر عليكي، سليم بيه طيب ومش هاتهوني عليه، لما يرجع من الشغل إتكلمي معاه بالراحة يا حبيبتي وإن شاء الله هيخرجك، حقك عليا كان على عيني والله، كلي حاجة إنتي ماكلتيش من إمبارح انا حطيتلك هنا كاتل عشان الشاي وحاجات الشاي لو عازتي حاجه نادي عليا.


خرجت سحر وأغلقت الباب، حدّقت ماسة لآثارها بغضب وقالت بعناد: طب والله العظيم ما أنا واكلة.


ظلت ماسة جالسة على الفراش لا تدري ماذا تفعل، ثم بدأت تتحرك في الغرفة الضيقة بملل، قبل أن تخرج إلى الشرفة وتتأمل الحديقة من خلف القضبان الحديدية، فلا حتى يوجد  أرجوحة بها، ولا شيء يبدّد الضجر الذي ينهشها، لكنها لا تزال تعتقد أنها ساعات فقط،  في الليل سيأتي ويفرج عنها، فهي تدرك أن ما تعيشه الآن نتيجة أفعالها، وعشقها له وتفهمها لتصرفاته يمنحانها الصبر لكنها لم تأكل، وسليم بالطبع كان يراقب كل شيء عن كثب.


     _______💕بقلمي_ليلة عادل💕_______


فيلا عائلة ماسة، السابعة مساءً


غرفة سلوى


نرى سلوى جالسة على فراشها، يغلب على وجهها الحزن، تحاول الاتصال بماسة، لكن هاتفها مغلق، ولا تعرف كيف تطمئن عليها، بعد دقائق، رن هاتفها، فكانت المكالمة من مكي، حدّقت في الشاشة قليلاً، ثم أغلقت المكالمة ومسحت وجهها بغضب.


في مكانٍ آخر، أمام حديقة الفيلا الجديدة الخاصة بسليم، نرى مكي متوقفا، شدّ على فكيه بإحكام، والنار تتقد في عينيه، وهو يمسك بهاتفه بعد أن اغلقت سلوى المكالمة في وجهه قبض على الهاتف بعنف ولكم الحائط بقوة، وعيناه تشتعلان غضبًا.


عند سلوى


هبطت سلوى إلى الأسفل، حيث كان مجاهد وسعدية يجلسان في الصالون، يحتسيان الشاي ويتحدثان في أحوال ماسة.


سلوى وهي تقترب: بابا، ماما... أنا عايزة أتكلم معاكم شوية.


مجاهد بهدوء: طب أقعدي، خير يا حبيبتي، في إيه؟


سلوى بقلق: هو إحنا كده مش هنعرف نشوف ماسة خالص؟


سعدية بحزن: أكيد هنشوفها. بكرة ولا بعده تروح يا مجاهد تكلم سليم، تعرف منه العنوان، ولا نكلم مكي نعرف هو وداها فين.


سلوى: أنا بحاول أكلمها، تليفونها مقفول.


مجاهد بقلق: أكيد تليفونها اتاخد منها، الله أعلم فيها إيه.


سعدية بأنين قلب الأم: والله العظيم قلبي واكلني عليها، إللي مصبرني إني عارفة إن سليم روحه فيها،وإنه مش هيئذيها. يا رب ظني يطلع صح.


سلوى بحدة: لحد دلوقتي لسه عندك أمل إنه كويس؟ بعد كل إللي حصل؟!


سعدية بهدوء: أنا بصبر نفسي يا بنتي، يا مجاهد، بكرة تروح تكلمه، بالله عليك نطّمن على بنتنا.


مجاهد هز رأسه بإيجاب: إن شاء الله، أكيد هاروحله. قولي يا سلوى، كنتِ عايزة إيه كمان؟


سلوى بتذبذب: أنا مش عايزة أكمل مع مكي، عايزاك تكلمه، يا بابا، ييجي ياخد شبكته، وأنا هاجهزله كل الهدايا إللي جابها.


سعدية مصدومة: أستهدي بالله يا بنتي؟ مكي راجل كويس، ماشفناش منه حاجة وحشة!


سلوى بغضب: يا سلام.


مجاهد بعقلانية: أمك بتتكلم صح، مكي ماعملش حاجة، هنحاسبه على ذنب سليم ليه؟ وبعدين شفتي إزاي جاب إسماعيل لحد هنا، وإيديه مكسورة ووشه متخرشم، ده واضح إن مكي ضربه.


سعدية: بالضبط، ماتحطيش ذنب سليم على مكي، وسليم مهما غلط، مانقدرش نغلطه أوي ماسة برده غلطت لما هربت منه بالشكل ده ،وإنتي بتقولي مش أول مرة فالراجل برده معذور مع إني زعلانة منه بس مش عارفه ليه حاسة مش قادرة أشيل منه.


سلوى متعجبة: معذور؟ ده ضرب إبنك، وزقني، وهددك! ولسة بتطلعي له مبرر؟!


مجاهد بهدوء لكنه حازم: ايوه يا سعدية، سلوى صح  معاكي لو مراتي هربت، أكيد هتجنن، لكن مستحيل أمد إيدي على حد من أهلها، الراجل الحقيقي بيتعرف وقت غضبه، وسليم، زوّدها، حتى لو ليه عندها حق، ضيع حقه باللي عمله، أنا مش هاستأمنه على بنتي تاني، بس دلوقتي إحنا بنتكلم على مكي، عايزة تسيبيه ليه يا سلوى؟ لازم يكون عندك سبب.


سلوى بخذلان: سليم ومكي نسخة واحدة، وأنا متأكدة إن مكي كان عارف إللي هيعمله إسماعيل. وسابه، ماوقفهوش.


مجاهد: لا يا بنتي مستحيل مكي يبقى عارف ويسكت.


سلوى بيقين: بص يا بابا، هو يومين وهاييجي، إنت بقى أسأله وشوف هيقولك إيه وبعدين قول له: أختار شغلك مع سليم، ولا جوازك من بنتي وهو هايختار شغله أنا متأكدة، وأنا مش هاعيش مع واحد بيختار صاحبه الظالم عن حبيبته إللي هتكون مراته مش هيعرف يوقف سليم عن الجنان.


مجاهد مندهش: لو هو فعلاً عمل كده، يبقى إحنا اتخدعنا فيهم هما الأتنين.


سلوى بحزن بعينين تترقرق بدموع: أعمل بس كدة يا بابا، وهتشوف، ولو اختارني، والله العظيم هتجوزه فورًا، بس أنا عارفة إنه مش هايختارني.


سعدية وهى تنظر إلى أعلى بقلة حيلة وتخبط على قدميها: كان مستخبيلنا فين ده بس يا رب يا ترى عاملة إيه يا بنتي دلوقتي عمل فيكي إيه؟!


مجاهد: إدعي لها يا سعدية إدعي لها.


فيلا سليم الخامسة مساءً 


دخل سليم الفيلا، استقبلته سحر في الهول.


سحر بترحيب: حمد لله على سلامتك يا سليم بيه.


سليم، وهو يتقدم دون أن ينظر إليها: الله يسلمك يا سحر.


سحر بتردد: سليم بيه، الست ماسة شكلها زعلانة أوي.


سليم ببرود: تمام يا سحر.


سحر بإستعطاف: طب ماتفتحلها بس تنزل و.. 


ألتفت سليم لها بحدة، نظر إليها بعين صارمة: لو فضلتي تزني كتير، أنا هامشيكي من هنا، أنا مابحبش الزن، روحي حضريلي الغدا.


تراجعت سحر بخوف: أمرك يا بيه.


دخل المصعد وتوجه مباشرة نحو باب غرفة ماسة  فتح الباب.


كانت ماسة تجلس على الفراش، كأنما الزمن متوقف داخل الغرفة، ما إن رأته حتى اندفعت نحوه.


ماسة بصوت متعب: بقولك إيه، أنا بجد زهقت خلاص، مش قادرة!


ضحك سليم بسخرية وهو ينظر في ساعته: ده إنتي لسة مابقالكيش٤٠ساعة تقريبًا هنا! لحقتي تزهقي؟ أمال هتعملي إيه بقية الأسبوع؟


تراجعت ماسة خطوتين قالت بتلعثم: إنت أكيد مش هاتحبسني أسبوع هنا؟


رمقها سليم من أعلى لأسفل بإبتسامة مستخفّة

رفع حاجبه متسائلا: وماحبسكيش ليه لأسبوع؟ مش إنتي سجينة وبتنفذي عقوبتك؟


ماسة بعينين دامعتين: ماتبطل بقى طريقتك دي.


سليم بحدة: صوتك مايعلاش، وتتكلمي معايا بأدب، فاهمة؟ بدال الأسبوع يبقوا عشر أيام!


ماسة بضجر: أنا ماقلتش أدبي، أنا باعترض!


تقدم سليم نحوها: مالكيش حق حتى تعترضي، إنتي تنفذي الأوامر وبس.


رفعت ماسة يدها باستسلام تحاول استعطافه: يا سليم، إللي إنت بتعمله ده مش طبيعي! طب بص، هاتلي التلفزيون، هاتلي أي حاجة تسليني، بجد هطقّ!


ضحك سليم بإستخفاف:طقّي وبعدين، ماكلتيش ليه؟


ماسة تشيح بوجهها كمحاولة لاستعطافه: مش واكلة، طول ما أنت حابسني هنا مش واكلة وإن شاء الله أموت، وأي حاجة هاتحصللي، هاتبقى في رقبتك.


تنفس سليم بصعوبة،حاول كبح غضبه: في رقبتي ليه؟! أنا بجيبلك أحسن أكل، عايزة إيه تاني؟! إنتي إللي مش بتاكلي بمزاجك أسمعي الكلام وكلي، خلصي.


جلست ماسة على طرف السرير وتلف ذراعيها حول نفسها بعناد: مش واكلة.


سليم بنبرة ساخرة: أوعي تكوني فاكرة إني هحنّ! لما تعملي كدة تبقي غبية!


فجأة، نظر لها نظرة جافة، وعلّى صوته بنبرة رجولية جهورة: سحر! سحرررررر!


جاءت سحر مسرعة، تنظر إليهما بخوف: أمرك يا بيه؟!


أشار سليم نحو الصينية وقال بصرامة: لآخر مرة بقول لك يا ماسة كلي.


توقفت أمامه وقالت بعناد: مش واكلة، إلا لما تجيبلي تلفزيون، ساعتها التلفزيون مقابل الأكل.


سليم تساءل متعجباً: يعني إنتِ عندك استعداد تتحبسي في الأوضة مقابل التلفزيون؟ وطبعاً بعد يومين هاتقولي عايزة حاجة تانية لا لا، أنا مش هالعب معاكي اللعبة دي مش سليم إللي يتساوم، أصلاً مافيش مجال عندك للاختيار..


سليم رفع صوته بوضوح: يلا للمرة الثالثة بقولك كلي يا ماسة.


نظرت ماسة في عينيه وقالت بثبات: مش واكلة يا سليم، يعني مش واكلة.


سليم بصوت غليظ: حلو أوي، عنك ما أكلتي.


ثم نظر إلى سحر: شيلي الأكل ده.


سحر حاولت الاعتراض: بس يا بيه.


صرخ سليم بها: قولت إيه؟!


انحنت سحر سريعًا: أمرك يابيه


حملت الصينية وخرجت من الغرفة، تغلق الباب خلفها كان سليم على وشك أن يغادر، لكن صوت ماسة أوقفه.


ماسة بصوت منهك: أنا عايزة أفهم يعني إللي أنا فيه ده هيفضل لحد إمتى؟


أستدار سليم إليها دون أن يقترب قال بنبرة جافة: قلتلك، بمزاجي أي حاجة هتحصل بعد كده، بمزاجي وبأمري.


ماسة بتهكم: وإنت شايف بقى إللي إنت بتعمله معايا ده طبيعي؟


سليم دون أن ترف له عين: آه، طبيعي، إنتي بتدفعي ثمن أخطائك، ماتلومينيش يا ماسة.


اقتربت منه ماسة وضعت يدها على صدره، تنظر إليه بعينين دامعتين بصوت متهدج تحاول استعطافه: انا مش بلومك أنا فاهمة إللي إنت فيه، بس أقسم بالله إنت ظالمني. 


ابتسم سليم ابتسامة جانبية بسخرية، تراجع خطوة إلى الوراء رفع يدها من على صدره: أنا قولتلك إني بحب دور الظالم، خليكي إنتي بقى عايشة دور المظلومة، الضحية، عن إذنك، يا قطعة المر.


تركها خلفه وأغلق الباب بقوة بالمفتاح، هرعت ماسة نحو الباب، تطرقه بكل قوتها وهي تصرخ وتبكي:

سليم افتح، بجد مش قادرة! هايجرالي حاجة! سليم، حرام عليك، أفتح بقى! سلييييم... سلييييم! أفتح كفاية حرام عليك يا سليم سليم.


سقطت أرضًا، تنفجر دموعها من عينيها كأنها لم تبكِ من قبل.


في الممر 


كان سليم يتحرك بعينين تغليان، روحه معلّقة خلف ذلك الباب، ضرب الحائط بقبضته، ثم دخل غرفته.

خلع جاكيته، فكّ أزرار قميصه كأنه ينزع ثقلًا عن صدره، ثقل قلبه الموجوع، جلس على طرف السرير، ضغط بكفه على وجهه، يحبس دمعة، يكتم أنينًا وهو يهمس لنفسه:

ماتتراجعش أثبت يا سليم، أثبت هاتضعف ليه؟!

مش هي إللي هربت منك؟ مش هي إللي وجعتك؟

خلاص تتحمل! أوعى تضعف أوعى تستهين بحبك وبوجعك أوعى تتراجع.


لكنه لم يحتمل ألتقط طفاية زجاجية وألقاها نحو الحائط بكل ما فيه من وجع، فانفجرت إلى شظايا، تمامًا كقلبه.

بدأت دموعه تخونه تنزف كما خانه قلبه.


احد الملاهي ليليه الوحدة صباحاً


الموسيقى تصرخ، الأضواء تلمع ، الأجساد تتحرك على الإيقاع، الكل يرقص بجنون.


في منتصف الزحمة، رشدي يرقص كامجنون كأنه فقد السيطرة، ثمل تمامًا.

قميصه مفتوح، العرق على جبينه، والضحكة السخيفة تعلو تغره.


يمسك بإيد احد الفتيات، يحاط بخصرها، يحضنها، ويتوجه بيها صوب الطاولة التى يجلس عليها أصدقاؤه.


رشدي بنشوة: تعالي يا قمر... تعالي هنا جنب رشروش.


يجبس، يلف دراعه حول رقبتها، يحتسى كاس خمر دفعة واحدة.


أحد أصدقائه ساخر: احنا قلنا خلاص بقى... رشدي استقال!


رشدي: كنت واخد أجازة... كان عندي محاولة كده، بس فشلت.


صديق يضحك وهو يتحدث: لازم تفهم إن احنا مش قدها أصلًا، هو أنا عندك مش عارف أي حاجه، وأسامة هو اللي ماشي الشغل... يعني لما يحصل نصيبه، أبويا هيهزقه هو لو اتقفشنا، هو اللي هيتحبس ويروح الكلابوش!


يضحك بسخرية: أنا بقى؟ أصحى وقت ما أحب، أنام وقت ما أحبآكل وأسافر وأهيص، بالفلوس!وهما؟ يشتغلوا ويتعبوا ويتحرق دمهم،وويجي لهم السكر وأنا؟ أهيص!

تابع متعجبا: أنا مش عارف إيه اللي كان في دماغك لما فكرت تنافس أخوك


سكت رشدي لحظة، ثم يضرب كاسه في الطاولة: كنت حمار... حمار مخطط! بس اهو... أنا فقت! ورجعت!


يرفع كاسه: وعشان كده، على شرف رجوعي

هاخدكم أي مكان في الدنيا تيجوا نطلع باريس؟


أحدهم يهتف: يلا بينا!


رشدي: خلاص!بكرة، تيجوا معاكم الباسبورات، أنا هظبطلكم كل حاجة، على حسابي، من أول الطيارة، لحد ما نرجع تاني، عشان تعرفوا يعني إيه رشروش!


يصفق، ويضحك، الكل يهتف، الكاسات تتصادم، والرقص يشتعل.


رشدي يسحب من جيبه كيس صغير فيه مسحوق أبيض يستنشقه...


صديق ينتبه: رشدي! بلاش البتاع ده...


رشدي بحده: فكك مني...


بعد وقت في لخارج


نرى رشدي يخرج وهو مترنح، شوقي حارسه الشخصي مستنيه، يسنده وهو يتحرك بخطوات غير متزنة، يصعدو السيارة، وبيتجهوا للقصر.


القصر الدراج


نرى رشدي يصعد الدرج، قدمه غير متزنه، بيترنح.

كاد ان يسقط، لكن شوقي مسكه.


فجأة، يظهر عزت، متوقف عند باب غرفته.


عزت بصوت جهوري: رشدي!


توقف رشدي بصعوبة، وزفره مخنوقة: خير يا باشا؟


عزت تحرك بعض الخطوات، ده منظر ترجع بيه؟ نفسي فايزة تهتم بمنظرك وانت راجع الساعة ٤ الفجر...بتطوح؟! زي مابتهتم بالحاجات الثانيه


رشدي بنبرة تحدي: بقولك إيه يا بابا... فكك مني...

ما تضيعش الكاسين. اعمل حسابك أنا مسافر كمان يومين باريس!


عزت بحزم: لازم تكون موجود، سليم محتاجك في المشروع!


رشدي: طظ! لا سليم، ولا مشاريع، ولا يحزنون.

أنا مش عايز غير فلوس... بس!


يلف ظهره ويصعد الى غرفته، يقفل الباب بعنف.


زفر عزت بضجر شديد، دخل الغرفه اعلق الباب بشدة استيقظت على الصوت.


فايزة بنعاس: عزت؟ إنت صاحي؟


عزت هو يتحرك في الغرفة بضجر.


عزت: جايلي مكالمة مهمة من جنيف، كنت بكلم ابنك السكري، بعدين، أنا بدأت أحس إن رشدي بيشرب حاجة تانية.


فايزة بتتمطى وبتتكلم بهدوء' سيبك منه بقى...

احنا خلينا في سليم رشدي عايز منه إيه؟!


عزت بغضب: كلهم أولادي، وكلهم بيشيلوا اسمنا!


فايزة ببرقة: عزت، ما تعليش صوتك من فضلك،اتكلم معايا بالراحة. رشدي طول عمره كده، بعدين بقاله كتير مش بيخرج ولا يسهر، إيه المشكلة لما ينبسط شوية؟يسافر؟ يغير جو؟ ده مش غلط.


عزت بنظرة حادة: ده تبريرك؟


فايزة: دي حقيقة، وبعدين خلاص، أنا هكلمه.

يلا، تعالى نام بقى.


عزت يتنهد، يهز راسه بضيق هستنى المكالمه بتاعتي نامي انت تصبحي على خير.


تنهدت فايزة وعادت لنومها: وهي تقول طب من فضلك ما تعملش صوت.


ظل عزت متوقفان يشعر بالضيق مسح وجهه

تحرك توقف عند النافذه: بصوت خافت: ايه يا نانا... صحيتك؟ طب بقولك إيه، ظبطيلي أنا وانتي سفريه آخر الأسبوع...أي مكان، سلام


تنهد بضجر واخذ ينظر من النافذه..


      الفصل الرابع والسبعون ج2 من هنا 

     لقراءة جميع فصول الرواية من هنا

تعليقات