رواية الماسة المكسورة
الفصل التاسع والستون 69 ج2
بقلم ليله عادل
في جناح سليم وماسة.
جلست ماسة على الأرجوحة، وجهها شاحب يكسوه الحزن، تمامًا كما تركها سليم. تناولت هاتفها وتواصلت مع سلوى للاطمئنان على عائلتها، ثم اتصلت بوالدتها التي ما زالت في المستشفى. بعد المكالمة، خيم عليها الصمت، كانت غارقة في التفكير، تائهة لا تعرف أي طريق تسلك، يملؤها الخوف من مواجهة سليم، وتخنقها تهديدات رشدي التي لم تكن مجرد كلمات، بل أفعال واقعية. كانت عيناها تتأمل الفراغ وعقلها يتكلم وكأنها تتحدث إلى نفسها، تتحدث عن الألم الذي يسكن داخلها والعذاب الذي يحيط بها.
كأنها تقول:
قلبي مش قادر يتكلم، نفسي مش قادر يطلع، صوتي مخنوق جوايا ومش طالع.
أنا كويسة؟ معرفش، أنا بعيط؟ مش أكيد.
أنا ضايعة؟ ما أعتقدش…أنا ميتة؟ غالبًا.
فهي وقعت بين نارين، وفي قلبها حزن وألم عميقين بعد كل ما عرفته عن سليم.
وأثناء شرودها، وهي تحدق في الفراغ بعينين زائغتين، تراءت لها صورة شقيقتها، كأنها انبثقت من العدم، مجسّدة أمامها بكل ملامحها ودموعها.
رأت مخزنًا مظلمًا... والجدران تأنّ بصمت.
رجل يمسك بسلوى من ذراعيها، يثبتها بعنف وهي تقاوم، تحاول الصراخ، لكن صوتها يخرج مبحوحًا، مهزومًا.
آخر يقترب، وجهه مغطى، لكنه لا يخفي شهوته البشعة.
يمزق ثيابها قطعة قطعة، وسط صرخاتها التي اخترقت ضلوعها هي قبل أن تملأ الفراغ.
ثم... ظهر وجه رشدي.
يضحك، ضحكة باردة، جافة، تليق بالشيطان.
يمد يده إلى حزام بنطاله، يفكّه ببطء وكأنّه يستمتع بكل لحظة.
يتقدّم نحو سلوى بخطى ثابتة، والشر يتطاير من عينيه.
شهقت... لكنها لم تسمع صوتها. تراجعت... لكنها لم تتحرك... أرادت أن تصرخ: "كفاية!"، لكن الحروف تعلّقت في حلقها، تختنق بها.
لا تعرف... هل ما تراه حقيقة؟
أم أن عقلها بدأ ينهار، يرسم لها كوابيس من وحي الألم؟
قفزت ماسة من على الأرجوحة، وصفعت وجهها محاولةً أن تطرد هذه الصور المؤلمة، تهمس بجنون ورفض، بنبرة مختنقة بدموع:
لالا مش هيحصل، مهما حصل، مش هسمح إنه يحصل، مستحيل، مستحيل.
انفجرت باكية بحرقة، ثم أمسكت هاتفها بسرعة واتصلت بسلوى:
ماسة بلهفه:
انتي كويسة؟
جاءها صوت سلوى من الحديقة الفيلا، كانت جالسة بجوار مكي بهدوء:
ايوه يا ماسة، أنا كويسة، ما تقلقيش، أنا قاعدة في الجنينة، ومكي معايا.
ماسة، متعجبة:
مكي !! مكي عندك؟ بيعمل إيه؟ وجه امتى؟!
سلوى تنهدت بهدوء: لسه جاي يطمن علينا، يابنتي ركزي، ما إحنا روحنا من عند بابا، أنا وعمار ويوسف، ماما بس اللي فضلت معاه.
ماسة بنبرة متألمة:
طب خدي بالك من نفسك. سلام.
أغلقت الهاتف، وانهارت في بكاء جديد، ثم بدأت تحدث نفسها بصوت متقطع ممزوج بالبكاء:
يا رب، يا رب، أعمل إيه؟ أنا مش عارفة أعمل إيه، هو اليوم ده ما بيخلصش ليه؟ ليه طويل كده؟ أنا تعبانة اوي، حاسة إن روحي بتتحرق، عايزة أتكلم، عايزة أصرخ، مش قادرة يا رب، يا رب...
ثم همست بقرار مرتجف:
أنا لازم أكلم سليم، أنا لازم أقول له، لازم أطلب الطلاق وامشي، أنا مش هفضل كده، لازم أنهي العذاب ده، لازم أقول إني عرفت..
لكنها صمتت، تحدثت مع نفسها باضطراب:
بس، لو قلت له إني عرفت، رشدي هيقتل بابا وماما وإخواتي، هم اللي هيدفعوا التمن مش أنا.
تابعت بقهر وهي تتحدث بين أسنانها: بس أنا لا يمكن أعيش معاه دقيقة واحدة بعد اللي عرفته، طب أقنعه إزاي بعد اللي حصل بينا، هيوافق إزاي ويقتنع؟ مش هيقتنع، سليم ذكي هيفهم من التغيرات ان فيّ حاجة؟! هعمل إيه؟ هعمل إيه؟! يا رب، أعمل إيه؟ طيب ساعدني يا رب، ساعدني احميهم، أنا مش عايزة أي حاجة غير كده، لو أنا اللي هدفع الثمن أنا أموت بس هما لا، يارب متسبنيش.
بكت بحرقة وضعف، نظرت في المرآة باستغراب، وتساءلت في نفسها:
هو سليم بجد كده؟ استحالة، استحالة."ط
وفجأة، لمعت في ذاكرتها جملة قديمة قالتها لها العرّافة ذات يوم:
حياتكم كلها هتبقى دم وموت حواليك عقارب وأفاعي وعشقك هيبقى فيه هلاك يا صغيرتي.
مسحت وجهها ورقبتها، وهمست برفض:
لا، لا يا ماسة، دول ناس كذّابة.
لكن صوتها عاد يرتجف وهي تبكي:
بس.. هي شافت حياتي، كل حاجة قالتها تقريبًا حصلت، حذرتني منه، وأنا ما خدتش بالي. قالت لي: خلي بالك، عشقك ليه وعشقه ليكي، هيبقى فيه هلاككم.
فجأة، ضربت أصوات في عقلها تتلاطم في رأسها بقسوة، كأن هناك معركة داخلية بلا رحمة:
رشدي كذاب؟ لا، رشدي صادق ..
رشدي ما بيكدبش، كلهم قالوا إنه ما بيكدبش حتى سليم...
ثم اتسعت عيناها وهي تقول بوجع ودموع:
كل حاجة حصلت... كل حاجة شفتها بعيني. أنا الغبية، أنا اللي حبيته أنا اللي وثقت فيه. كنت بصدق كل كلمة بيقولها، كل حرف. الحادثة اللي حصلتلي وخسرت فيها بنتي. كل حاجة كانت بتقول إنه السبب، بس أنا... أنا اللي صدقت قلبي، صدقت سليم، كنت باثق فيه وباثق في وعوده، وهو كداب، مخادع، ضحك عليا، عرف يضحك عليا، عرف يخلي قلبي يصدقه، قلبي اللي كرهه، قلبي اللي دايمًا بيديله فرص.
ثم صمتت، وكأنها تتعلق بأي بصيص أمل:
بس سليم ممكن يكون تاب؟
ممكن يكون بعد عن كل حاجة، ورشدي بيحاول يوهمني..
بس سليم اتغير في حاجات كتير عشاني، يمكن دي حاجات من ضمن الحاجات اللي اتغير عشاني فيها وبعد عنها. هو قال لي: أنا بقيت واحد تاني عشانك."
مسحت دموعها:
أكيد، أكيد كان كده، وتاب. سليم مستحيل يكون كده، مستحيل يكون بيتاجر في البنات. هيتاجر في البنات إزاي وهو أنقذني قبل كده من رشدي؟؟
بس أنا شفت الفيديوهات، يمكن تكون فيديوهات قديمة من الماضي...
وفجأة، صرخ صوت عقلها:
أصحي، فوقي يا ماسة، حتى لو تاب، مش هينفع تعيشي معاه، لأن لو استنيتي أهلك هيدفعوا التمن. كل اللي لازم تفكري فيه دلوقتي، تمشي من هنا وبس، هيبقى ده هدفك، مافيش هدف تاني. لما تمشي من هنا، ساعتها ابقي فكري: سليم ظالم والا مظلوم؟
دلوقتي بس فكري في أهلك. زي ما رشدي قال..
رشدي وأهله ماكانش فارق معاهم تعرفي الحقيقة والا ماتعرفيهاش، تصدقيها أو ما تصدقيهاش. هما كلهم عايزينك تمشي من هنا، وإلا أهلك هيموتوا، رشدي قال لك الحقيقة عشان تبقى دافع ليكي. أنت لازم تمشي من هنا، لازم تعملي المستحيل عشان تمشي من هنا.
ثم، وكأن صوتًا آخر بداخلها انفجر، شعرت بطنين في رأسها، كأن الجن يهمس في أذنها اضطربت وهي تضع يديها على أذنيها، وكانت الكلمات نفسها تتكرر:
هعمل حفلة اغتصاب لأختك، هحرق أبوكي، هقتل عمار، هقتل يوسف، هقتل أمك.
ضغطت على رقبتها بعنف، واهتز جسدها، وضغطت على أسنانها بشدة.
كانت تريد أن تصرخ، لكن لم تستطع. لم تستطع لأن سليم في الأسفل، قد يسمعها، وحينها لن تستطيع الهرب من أسئلته، قد تنهار... وتتكلم.
وضعت يدها على فمها، كتمت صرختها في داخلها.. سقطت على الأرض بانهيار، وبدأت تبكي... وتبكي... وتبكي.
في فيلا عائلة ماسة الثامنة مساءً
الحديقة
جلست سلوى مع مكي، وبعد لحظات من إنهاء مكالمتها مع ماسة، قالت له:
سلوى متعجبه: بقت كل شوية تكلمني، كل ربع ساعة تقريبًا بتكلمني. بص، هتكلمني تاني والله، هتشوف.
مكي بقلق: هي ماسة كويسة؟
سلوى، وهي تهز رأسها:
آه، ماسة كويسة، هي بس الفترة دي... حواراتها مع سليم، لكن مافيش حاجة يعني. ليه بتسأل؟
كان مكي يريد أن يخبرها بما حدث صباح اليوم، بكسر البوابة ومحاولتها السابقة للهرب، لكنه تراجع، لا يريد أن يزيد ضغطها، خصوصًا بعد حادثة والدها.
مكي، تسأل بخبث:
عادي يعني؟ أصل النهاردة وهي في المستشفى... كان شكلها مش طبيعي.
سلوى بتأييد:
فعلاً، ما كانش طبيعي خالص. كل شوية تقول لنا: أنتم كويسين؟ أنتم حلوين؟ هي ماسة كده أصلًا، قلبها رهيف، خصوصًا بعد حادثة بنتها.
مكي محاولًا أن يفهم أكثر:
هو أنتم أول مرة تتعرضوا لحادثة زي دي يا سلوى؟ أو حتى حاجة مشابهة؟
سلوى بنبرة مختنقة:
الحمد لله، عمرنا ما حصل لحد فينا حوادث ولا الكلام ده. ده هي مرة كده زمان، عمار إيده اتكسرت من الكورة. يعني إحنا عمرنا ما مرينا بحاجة زي كده. الكوارث بالنسبة لنا كانت خناقات لورين ومنصور بس.
مكي باهتمام:
تمام، طب إنتِ عاملة إيه دلوقتي؟ قولي لي، طمنيني.
سلوى بلطف:
والله، الحمد لله، أول ما الخبر جالي، قلبي كان هيقف. أصلك ما تعرفش إحنا بنحب بابا إزاي. بابا طيب أوي، عارف ساعات تحسه شديد، بس بنعرف نتفاهم. أما ماما الصراحة، هي شديدة لكن أبويا... طيب.
مكي بابتسامة محبة أمسك يدها بدعم:
ربنا يخليه لكم يا رب.. ما تقلقيش، الكسر بسيط، وأنا كلمت الدكتور، ومافيش حاجة.
سلوى بقلق:
هو أنتم كنتم شاكين إن الحادثة دي مقصودة بجد؟
مكي بتوضيح:
كنا شاكين، لأن من ساعة الحادثة اللي حصلت لماسة وسليم إنتِ عارفة إن بقى عندنا هواجس من أي حاجة بتحصل، حتى لو بمبه اتحدفت، لازم نسأل ونحذر مش عشان في حاجة، بس... وقاية والا إنتي شايفة إيه؟
سلوى بتأييد:
إنت عندك حق الحمد لله، الحمد لله إنها جت على كده
مكي تنهد بهدوء:
طب أنا هقوم، أنا بس حبيت أجي أطمن عليك كده وأشوفك عاملة إيه وإن شاء الله بكرة هاجي لك على الظهر كده، عشان نجيب عمي مجاهد مت المستشفى.
سلوى هزت رأسها بإيجاب:
ماشي
تحرك مكي اخذت سلوى واخذت سلوى تنظر لاثاره بابتسامه ثم جلست مره اخرى تضع اليها على خدها
💞_______بقلمي_ليلةعادل________💞
إحدى الشقق المجهولة، الثامنة مساءً.
الرسيبشن
نرى رجل في منتصف الأربعينات يجلس بثبات على مقعد، يرتدي بدلة سوداء، وعيناه بالكاد ترمشان.
أمامه شاب في أوائل الثلاثينات، وجهه شاحب، وأصابعه ترتعش وهو يحتضن حقيبة جلدية صغيرة فوق ركبتيه.
مد الرجل يده ببطء، وضع حقيبة صغيرة على الطاولة بينهما، ثم قال بنبرة ثابتة:
اللي عملته ده الصح. الفلوس أهي. عايزك بقى تستمر على نفس الإجابات، كل مرة... نفس الكلام اللي قلته. مش عايز كلمة زيادة ولا كلمة أقل. فاهمني؟
تردد الشاب، مد يده نحو الحقيبة، ثم توقف فجأة. رفع نظره إليه بقلق:
مش هتقولي اشمعنى اخترتوني أنا يعني؟
ابتسم الرجل، أخرج سيجارة، أشعلها ونفث الدخان بهدوء مريب:
انت تقبض بس، ونصيحة مني... انت ماشفتنيش. لو شوفتني تاني...إنت ومراتك والنونو اللي جاي... هتعيشوا نفس أجواء الحادثة، بس المرة دي العربية هتتقلب بيكم. فاهم؟
أومأ الشاب برأسه، تمتم بصوت بالكاد يُسمع بخوف:
إنت وعدتني تشغلني في مستشفى الحياة...
نهض الرجل، واتجه نحو الباب:
مش هينفع دلوقتي... اصبر.
خرج بهدوء، أغلق الباب خلفه بصوت خافت يحمل بين طياته وعيدًا دفينًا.
ومن هنا... يتضح أن الشاب الذي جلس أمامه هو نفسه الطبيب الذي دهس مجاهد.
فلاش باك، قبل عدة أيام
في إحدى العيادات.
الطبيب يجلس خلف مكتبه، يرتدي معطفه الأبيض.
الرجل نفسه يجلس أمامه، متكئًا، وجهه جامد لا يعكس شيئًا.
الطبيب بنبرة مهنية:
بتشتكي من إيه يا فندم؟
الرجل وكأنه يوزّع أحلامًا سامة:
قولي... لو حد اداك مليون جنيه، ممكن تعمله إيه؟
ظهرت الحيرة على وجه الطبيب:
مش فاهم حضرتك تقصد إيه...
الرجل بهدوء قاتل:
كل اللي محتاجينه إن المدام، وهي عند مامتها، ييجي لها مغص... تتصل بيك تقول لك: حاتومي، الحقني، شكلي بولد! إنت من كتر التوتر، تاخد عربيتك وتنزل، تخبط راجل كبير بالعربية. بس خبطة خفيفة. ومقابل ده... تاخد مليون جنيه.
الطبيب بحدة:
ايه اللي حضرتك بتقوله ده؟!
قاطعه الرجل، وأخرج مسدسًا من جيبه، يتلاعب به بين يديه وكأنه قطعة ديكور مملة:
بقول لك... هتاخد مليون جنيه مقابل اللي قولته.
ابتلع الطبيب ريقه، يحاول التماسك، عينيه على المسدس:
ولو رفضت؟
اقترب الرجل قليلاً، ابتسم ابتسامة ضيقة:
لو رفضت عرضي؟ العيادة الجميلة دي هتتحرق.
والمدام، وهي بتولد؟ تفارق الحياة.
كلها حوادث قَدَرية.
الطبيب مترددًا:
ومين الراجل ده؟ واشمعنى أنا؟
رد عليه ببرود:
مين الراجل؟ هتعرف وقتها.
واشمعنى انت؟ يعني إنت الملائم... مش أكتر.
يا دكتور، ها، موافق؟
تنفس الطبيب بعمق، صمت للحظات، ثم قال:
موافق.
نظر إليه الرجل بتهديد صريح:
كده كده إنت كنت هتوافق.
بس حابب أقولك على حاجة... أنت لا شفت ولا سمعت ولا حصل حاجة، لأنك لو عملت غير كده، مش هتلحق حتى تندم.ومش أنت اللي هتدفع التمن... اللي حواليك، ست الحبايب، مدام هناء، هي والنونو... مش ولد، مظبوط؟
ارتبك الطبيب:
هو أنت عرفت كل المعلومات دي منين؟
نهض الرجل، أطلق ضحكة قصيرة مخيفة:
انت هنا تنفذ، ما تسألش.
احنا مش محتاجين غير تنفيذ المطلوب. واللي حصل ده... كأنه حلم وعدّى.
رمى له ظرفًا صغيرًا على المكتب:
اعتبره عربون... فيه خمسين ألف جنيه.
هكلمك وأفهمك التفاصيل كلها، اليوم، الساعة، كل حاجة.
بس خلي مراتك هي اللي تتصل وتقولك: أنا بولد.
متكلمهاش في التليفون خلي الكلام يكون بينك وبين بعض يكون بينكم وبين بعض تروح لها عند امها وتفهمها..
أومأ الطبيب:
تمام.
غادر الرجل، تاركًا خلفه صمتًا مشحونًا، وطبيبًا جالسًا لا يحرك ساكنًا، ينظر إلى الأرض.
=== العودة إلى الحاضر ===
أخذ الطبيب نفسًا عميقًا، فتح الحقيبة، نظر للمبلغ.
ابتسم ابتسامة شاحبة، تمتم لنفسه:
أنا مش عارف إنت مين ولا أنتم مين... بس يلا، مش مهم. والمليون بقوا معايا.
سيارة الرجل
جلس في المقعد الأمامي، وأجرى اتصالًا سريعًا.
صوت رشدي جاءه من الغرفة الأخرى:
إيه؟ عملت إيه؟وأديته الفلوس؟
الرجل:
كله تمام يا باشا، ما تقلقش.
أنهى المكالمة، ثم التفت إلى عماد، الجالس بجواره.
رشدي مع شعور بالراحة:
خلاص، الدكتور خد الفلوس.
تبسم بإعجاب وهو يقول:
بس حلوة الفكرة، سواق توك توك ملوش أي سوابق، عادي. والتاني دكتور ومراته على وش ولادة... خطة ماتخرش الميه. يخرب بيت عقلك يا عماد. بس إنت عرفتهم منين؟ جبتهم إزاي؟
عماد بابتسامة ثقة، وهو يحرك يده في الهواء بحركة خفيفة:
تحريات يا برنس، وإنت برضه دماغك سم، يا رشدي. بس طلعت معاك فيديوهات ما كنتش أتخيل إنك تمسكها على سليم.
رشدي وهو يجلس بارتياح على المقعد:
والله يا عماد، أنا اللي مش مصدق إنك إنت اللي ماسك على سليم... الفيديو بتاع الصياد.
عماد بمكر، عينيه تتسعان قليلاً:
قولت أكشف ورقي، زي ما أنت كشفت ورقك.
رشدي بسخرية، وهو يرفع حاجبيه:
بس أوعى تكون فاكر إن هو مش ماسك علينا فيديوهات، لأااا، ده تلاقيه ماسك علينا كل حاجة، عارف مقاس هدومنا الداخلية كمان.
ضحك عماد ضحكة خفيفة، يرفع يده ويهز رأسه: دي حاجة أكيدة... بس إزاي سليم، برغم قوته، ماعرفش يوصل للي عمل الحادثة؟"
رشدي وهو يرمق عماد بنظرة عميقة:
طبيعي ده إحنا هنا عندنا مفاتيح حاجات كتير ومش عارفين نوصل لها. عارف، أنا شاكك في بتوع بره. ممكن يكون اللي اسمه إيريك ده... اللي سليم قتل أبوه.
عماد مؤيدًا، وهو يفكر قليلاً:
مش مستبعد، بس عزت باشا سافر... وكلم باولو."ط
رشدي، وهو يدخل سيجارته في فمه بذكاء ويشعلها:
والله، هتلاقيه باولو هو و اللي ورا... بقول لك إيه، فكك... نخلص من اللي في إيدينا الأول، وبعدين نخش في مشكلة الحادثة. لازم نتخلص من ماسة، وناخد الرضا من فايزة... وبعدين نشوف هنعمل إيه.
أومأ عماد برأسه، عيناه تلمعان:
ماشي.
رشدي بحزن خبيث، وهو يعقد يديه أمامه:
مع إنها صعبت عليا.
عماد مذهولًا، وهو يفتح عينيه بدهشة:
صعبانه عليك؟
رشدي بتأكيد، وهو يضرب الطاولة بإصبعه:
أها والله، ما أنا إنسان والبت غلبانة وناعمة. بس أعمل إيه... مصلحتي ثم مصلحتي فوق كل شيء..
عماد بتنبيه، وهو يشير بإصبعه:
بس إنت لازم تضغط عليها أكتر من كدة لأنها ممكن تقول لسليم.
رشدي بابتسامة، وهو يلتفت نحو عماد قال بشر:
ده أنا هسويها على نار هادية ماتقلقش.
_________💞بقلمي_ليلة عادل💞 __________
جناح عزت وفايزة العاشرة مساءً.
جلست فايزة أمام مرآتها، تزيل آثار المساحيق عن وجهها بحركات بطيئة، كأنها تمسح همًّا ثقيلاً لا مجرد طلاء. يدها الأخرى كانت تفك خصلات شعرها بعناية، تتأمل انعكاسها بامتعاض..
خلفها يجلس عزت على طرف الفراش، يرتدي بيجامة من الساتان، كأن جسده يستعد للنوم بينما روحه لا تزال في ساحة قتال.
فايزة وهي تحدّق في المرآة بصوت خافت:
قل لي يا عزت... إيه رأيك في اللي ماسة عملته النهارده؟ أنا مش فاهمة حاجة.
رفع عزت حاجبيه مستغربًا، وردّ وهو يحاول جمع شتات أفكاره:
حقيقي غريب، أنا لسه تحت تأثير الصدمة... بس قوليلي، إيه اللي حصل بالضبط؟
استدارت فايزة برأسها إليه، صوتها هادئ لكن قلقها يفيض من عينيها:
ولا حاجة! كنا قاعدين في الصالون،أنا ورشدي وصافي بنشرب شاي وبيتكلموا معايا عشان أقنعك بمشاريعهم. فجأة سمعنا صوت تكسير عند البوابة! اتخضينا، أنا قلت في هجوم. كلنا جِرينا، حتى الجاردات... ولما وصلنا؟ شاكر قال إن دي ماسة هانم، كسرت البوابة بعربية صافيناز!
هز عزت رأسه غير مصدّق:
أنا برضه مش قادر أفهم. البنت دي طول عمرها رقيقة وبسيطة، الحكاية دي مش طالعة منها خالص... وبعدين، بباها اتخبط بعربية؟ وده مش مستاهل كل اللي عملته !
ارتفع صوت فايزة قليلًا، نبرة قلقة تتسلل إلى حديثها بخبث:
بالضبط! في حاجة مش مفهومة. تصرفها مش طبيعي، وبيخليني مش مرتاحة. إنت لازم تتكلم مع سليم. هو بيتقبل منك الكلام لكن انا مستحيل يقول لي معلومة واحدة، ما شاء الله علاقتكم هايلة.
ابتسم عزت بتعجب خفيف:
انتي بتحسديني.
نظرت فايزة إليه نظرة ضيق:
الفاظك بقت بلدي اوي ياعزت، أنا مستغربت ليه بيتعامل معايا بالطريقة دي؟ حتى لو أنا ما كنتش قريبة منه وهو صغير، كنت بعامل الكل كده. بس هو الوحيد ليه طلع بيكرهني..
تنهد عزت وقال بعقلانية
هو ما بيكرهكيش، بس زعلان... وبعدين، أوعي تكوني مبسوطة بقرب صافيناز ورشدي... الاتنين دول مصلحتهم في قربك. إنما ياسين وفريدة؟ أوقات بحس إنهم مش ولادنا أصلًا!
ضحكت فايزة وهي تطأطئ رأسها، ثم رفعت عينيها وسألت: هو أنت كنت فين أصلًا؟
أجابها عزت بصوت متوتر:
قلت لك، كنت في شغل في بورسعيد... وماحبيتش أرجع.
صمتت فايزة للحظة ثم قالت:
طيب...هتعمل إيه في مشاريع صافي ورشدي؟
ردّ عزت بجدية:
قلت لهم يشتغلوا عليها، عايز أشوف دراسة وافية. وبعدين أعرضها على سليم... دلوقتي لو عرضتها؟ هيحدفها في وشهم!
تقدمت نحوه بخطوات غاضبة، وكلمات تنضح بالسخرية
هيحدفها؟ ده أنا متأكدة إنه هيوافق! سليم بقى متذبذب، مش مركز... وده مضايقني. وكل ده ليه؟ عشان البنت الفلاحة زعلانة شوية.
علت نبرة صوت عزت، وقد بدأ الغضب يتسرب إلى ملامحه
بصي، ما تتكلميش معايا في الموضوع ده! الموضوع ده معصبني جدًا... مش قادر أصدق! سليم؟ القوي، العاقل، المنظم؟ بقى كده بسبب الحب!
جلست فايزة امامه، نظراتها تضيق بتصميم عنيد:
وعشان كده، لازم نتخلص من البنت دي. ماسة هتضيع سليم. بقت طماعة وأنانية... برغم كل حاجة بيعملها معاها، مش عاجبها! يعني في الأول كنا متفاهمين أسباب غضبها واكتئابها... بس دلوقتي؟! دخلت الجامعة وخرجت ولسه مش عاجبها!
عزت بتردد:
يمكن سليم مضايقها...
قاطعته فايزة بصوت مرتفع ونبرة عنيفة:
أنا مش هقول لك ابني يعمل اللي هو عايزه، حتى لو هيحطها تحت رجله، ما تقولش غير شكرا! بنت الفلاحين دي الجربوعة! المشكلة إنه بيحبها. شايف لو حد مننا بس قال لها مساء الخير بطريقة مش عاجباها؟ بيعمل فينا إيه؟! ده بيتمنى رضاها... مش عارفة على إيه! وهي؟ طماعة، مدلعة، وما بتستاهلش..
ساد الصمت، قبل أن يقطعه عزت بإحباط ثقيل:
طب والحل؟ أنا فعلاً متضايق... سليم امبارح كان مركز، النهاردة تائه. وبعد اللي حصل أكيد مش هيكون فايق خالص. والسوق اليومين دول فيه منافسين كتير... مش هقبل إنه يبقى قوي يوم، وضعيف عشرة. الحب لما يبقى بالشكل ده ويضعف كده، لازم ينتهى... للأسف، سليم وقع في حفرة العشق الملعون.
أومأت فايزة برأسها ببطء، وتحدثت بعقلانية باردة:
بص... إنت لازم تتكلم معاه وتفوقه. لازم يفكر في مستقبله في هدفه، في اللي بناه بإيده. مينفعش يضيع كل ده عشان واحدة! سليم كان عايز يبقى مكانك، وكان بيشتغل في أمريكا ليل ونهار عشان يكبر... كل ده راح؟ عشان ماسة؟ رجعه لعقله وفكره وقوله إن الحب اللي ما بيكبرش الواحد ولا يقويه، يتدفن تحت التراب أحسن.
استعاد عزت صلابته، وقال بنبرة حاسمة:
أكيد هكلمه. مش هسيب ابني يغرق في الوهم ده! الست اللي ما تستاهلش الحب تترمي. وماسة لو فضلت في العند ده، سليم لازم يتخلص منها... وتبقى مجرد صفحة في حياته، وتتقطع ويدوس عليها ويكمل.
ابتسمت فايزة ابتسامة ماكرة مشوبة بالخبث والتحريض:
أيوه يا عزت، ورّيني بقى هتعمل ايه؟ قوتك راحت فين؟ بقالها زمان واخدة أجازة.
ردّ عزت بصوت خفيض:
كنت عايز أرتاح... وأشوف ولادي وهم بيكبروا ويبنوا الإمبراطورية دي... لسه الأمل موجود، بس خايف عليه. البنت دي مأثرة عليه أوي... وأنا مش هسمح لحد يأثر على ابني بالشكل ده.
فايزة بحدة
خد بالك... سليم لما بيحس إن اللي قدامه مايستاهلش حبه؟ بيتحول. وبيكون بشع... وهي بعندها بتقرب من الحافة. ولو استمرت، هيقلب عليها! ووقتها؟ هيقطعها ويرميها في الزريبة اللي خرجت منها.
ضحك عزت بمرارة:
وطبعًا انتي بتتمني من قلبك تفضل زي ماهي...عنيدة بترد عليه، مش مريحاه، بتجرحه، ويا سلام لو زودت وقلة أدبها! ساعتها سليم يتعصب أكتر، ويتضايق أكتر، وساعتها؟ تكرهه فيها بإيديها... ووقتها يتحقق المراد،اللي وانك تتخلصي من ماسة. بس لازم تفهمي، لحد ما نوصل للخطوة دي؟ ممكن نخسر كم مشروع.
فايزة بجبروت لا يتزحزح:
هقولك على حاجة... لو ده المقابل إني أسترجع ابني، وأمشي البنت دي من القصر هو التمن أنا موافقة..
اعتدل عزت في جلسته، ثم تمدد على الفراش، وصوته يأتيه من عمق يأسه
أنا هنام دلوقتي... عندي اجتماع الساعة تسعة الصبح، ولازم تحضروه..
جناح سليم وماسة الثانية عشر صباحاً.
كانت ماسة تجلس على الأرض، عيونها مملوءة بالدموع، وكل دمعة كانت تهبط وكأنها تحمل جزءًا من قلبها المكسور. حاولت جاهدة أن تسيطر على نفسها، لكن مشاعر الألم كانت تفتك بها، وكأن روحها تنهار تدريجيًا. كل لحظة مرت، وكل كلمة قالها رشدي، كانت تلاحقها وتذكرها بكل ما عانته في صمت كانت تتذكر كل شيء حدث بينها وبين سليم كل الذكريات الجميله والوعود بابتسامه وتاره دمعه تاره بالم.
عقلها كان في حالة من التشوش. من جهة، كانت تتمنى أن تفضفض وتتكلم مع سليم، لكن هناك شيء أكبر يمنعها. رشدي... هو التهديد الذي يلاحقها في كل لحظة. إذا اكتشف سليم الحقيقة، إذا أخبرته بما عرفت، فإن كل شيء سيكون في خطر. عائلتها، حياتها، كل شيء ستفقده. إذا قامت بالكشف عن السر، ستكون العواقب كارثية.
حتى عائلتها، تريد ان تخبرهم لكي يحافظوا على حياتهم من شرور رشدي وتلك العائلة التي تشبه الافاعي....
كيف يمكنها أن تخبرهم؟ كيف يمكنها أن تضعهم في مواجهة هذه الحقيقة الصادمة؟ كانت تعلم أنهم لن يتحملوا ذلك، ولذلك قررت أن تبقى صامتة، رغم الألم الذي يعتصر قلبها. كانت تحاول إقناع نفسها بأنها لا بد أن تسكت، لا يجب أن تظهر ضعيفة.
لكن داخلها، كانت تتمنى لو أنها تستطيع مواجهة الحقيقة، لو كانت تستطيع أن تحكي كل شيء، ولو كان بمقدورها تحطيم تلك الجدران التي بنوها حولها. لكنها كانت تدرك أن كل كلمة، كل اعتراف، قد يكون بمثابة القشة التي تكسر ظهر البعير.
وفجأة، جاء الصوت. خبط على الباب.
كان الخبط قويًا، وكأن هناك شيئًا يوشك على الانفجار.. نظرت باستغراب ثم نهضت لتفتح. وعندما فتحت الباب، فوجئت بوجود رشدي يقف أمامها مبتسمًا بابتسامة خبيثة.
رشدي:
مسموسة الحلوة، ولا بيقولوا لك إيه؟
نظرت له ماسة بدهشة، ثم أجابت بصوت منخفض مليء بالاستفهام: رشدي، إنت عايز إيه؟
ابتسم رشدي بابتسامة غامضة، وقال:
لا لا لا... النبرة دي ماتكلمنيش بيها.
زغدها بإيده ودخل الغرفة، متوقفًا في منتصفها. نظرت له ماسة بعينين مليئتين بالدهشة.
ماسة بصدمة:
إنت اتجننت؟! اطلع بره!
التفت رشدي إليها وقال:
بالراحة يا ماسة، كده... اقفلي الباب عشان نقدر نتكلم شوية.
جزت ماسة على أسنانها وأشارت بيدها بحسم:
اطلع بره، يا رشدي! اطلع بره، سليم ممكن ييجي في أي وقت.
لكن رشدي اقترب منها بنظرة باردة، ثم أغلق الباب بالمفتاح في يده.
ماسة نظرت له بقوة:
اللي انت عملته ده ممكن يخلي سليم يقتلك، ممكن أصرخ وأقول إنك بتتحرش بيا، وساعتها انت عارف هيعمل فيك إيه.
رشدي بابتسامة باردة تهديدية:
مش مهم، مش هموت لوحدي. أهلك كلهم هيموتوا ورايا، عشان أنت مش فاهمة، أنا لو حصل لي حاجة، هما كمان هيموتوا.
ماسة بغضب:
إنت إنسان خسيس وحقير، مجرم منحط ووس،خ.
نظر رشدي في عينيها بقوة:
بلاش قلة أدب، عشان أنا كمان قليل الأدب وأيدي طويلة أوي، لمي لسانك وركزي.
أخرج من جيبه هاتفًا وقال وهو يمد يده:
التليفون ده هكلمك عليه عشان يكون في تواصل بينا، وأبلغك بكل جديد... واسمعي بقى يا حلوة، اللي أنا عايز أقوله كويس ..
الأيام دي هتزيدي النكد على سليم، هتطلبي منه أي حاجة، حتى لو طلبتي الطلاق، عشان يوم ما أهربك من هنا، يبقى جاهز.
ابتسم رشدي ابتسامة شيطانية وهو يمرر عينيه عليها بانبهار:
على فكرة، اللي عملتيه النهاردة بجد، أنا كرشدي اندهشت. طلعت مبهره يا ماسة، ما طلعتيش سهلة زي ما كانوا يتخيلوا. أنا لازم أعمل لك حساب، يعني لو ما كانش عندك نقطة ضعف، كان زمانك دلوقتي مغرقانة مع سليم.
أضاف بنظرة شرسة تهديدية:
بس اوعي تنسي أهلك في إيدي، مكالمة تليفون تنهي كل حاجة. إخواتك دلوقتي في الفيلا، صدقيني، لو دوسّت على تليفوني ده دلوقتي، الفيلا كلها هتولع. أو تحبي نعمل اختبار صغير؟ نعمل حريق صغير في المطبخ..
استني، شكلك مش مصدقة إني أقدر أعمل ده.
كاد أن يقوم بالاتصال، فأمسكت ماسة يده ببكاء وتوسلت:
رشدي، من فضلك، ما تئذيش حد من أهلي.
رشدي بهدوء:
طول ما أنتِ ماشية صح، وبتسمعي الكلام، ومفيش مشاكل، مستحيل أقرب لأهلك. لكن لو قلتي عقلك، هيبقى مقبرة للعيلة ملجئهم.
مد يد باالمفتاح وهو يهز وعينه عليها
شدت ماسة المفتاح منه بنظرة كلها كره، ثم ابتلعت تلك الغصة الثقيلة في قلبها، وتوجهت نحو الباب. وقبل أن تضع المفتاح في القفل، انتبهت لفتح الباب من الخارج. اتسعت عيناها بصدمة.
طرقت الباب من الخارج، وصوت سليم يملأ الجو.
سليم بتعجب:
ماسة قافلة عليكي بالمفتاح ليه؟ افتحي.
اتسعت عينا ماسة، بينما رشدي ابتسم بخبث.
يبدو أنه يخطط لشيء.....
استووووووب
لقراءة جميع فصول الرواية من هنا