رواية الماسة المكسورة الفصل السابع والستون 67 ج2 بقلم ليله عادل

رواية الماسة المكسورة

الفصل السابع والستون 67 ج2 

بقلم ليله عادل



مسح سليم عينيه بأطراف أصابعه، يحاول ضبط غضبه الذي كان يتزايد داخله. "لا إله إلا الله... يا ستي، مش هحرمك من الجامعة. هوديكي الجامعة، هعملك كل إللي عايزاه. أنا بسحب تهديداتي. أنا مش قد تهديداتي. كنت بقولها لحظة غيرة، خلاص، الله يهديكي يا ماسة. كفاية، دي مش حياة. أعمل لك إيه تاني؟ ما أنا أهو، بأعتذر لك، بعترف إن تعاملي مع الموقف كان غلط...إنتي  خلاص عنادك مسكك وعاميكي وعمالة تستفزيني في الكلام،  وبعدين تزعلي على رد فعلي! 


أكمل بإختناق وزهق: 

بقول لك إيه؟ أنا هروح أنام في أوضة تانية النهاردة، لحد ما ربنا يهديكي، عشان بجد أنا مش عايز نتخانق مع بعض.


ماسة كانت لا تسمع ولا ترى، كأن شيطانها سيطر عليها قالت: براحتك... أعمل إللي إنت عايزه بس أنا بفهمك أهو... أنا لمّيت هدومي، وهمشي. وهروح عند أهلي.


سليم وهو يضيق صدره: مش هتمشي يا ماسة. وأسكتي بقى عشان أنا خلاص بدأت أفقد السيطرة على غضبي.


ماسة بصوت عالي وغضب: تفقد ولا ماتفقدش، أنا مالي؟ أعمل إللي إنت عايزه. هخاف مثلاً؟


تبسّم سليم وهو يحاول السيطرة على غضبه، وقال:

لا يا ماسة، مش هاتخافي... بس أسكتي بقى، كفاية 

و وطي صوتك ماتعليش صوتك عليا.


ثم حاول التحرك للخارج لكي ينهي ذلك الخلاف الآن ، لكنها توقفت خلفه، وكأنها تتحدى غضبه علنًا. 


ماسة بعند: أنا همشي يا سليم. همشي يعني همشي.


توقف سليم فجأة، وألتفت إليها وهو يهز رأسه برفض، وفي عينيه نظرة حاسمة وقوية: مش هتمشي يا ماسة، وأوعي تعانديني.


نظرت له ماسة بثبات: همشي يا سليم... ولو مش همشي قدام عينك، همشي من وراك.


ارتسمت على شفتي سليم نصف ابتسامة ساخرة، حك أذنه، وقال بنبرة مندهشة: تعمليها يا ماسة؟


اقتربت ماسة منه، وقالت بتحدي: أعملها يا سليم.


أخذا ينظران إلى بعضهما البعض لثوانٍ في تحدٍ، وكأن عينيها تقول له: "نعم، سأفعلها، وأستطيع فعلها، بينما كان هو يجيب بعينيه: "لن تتمكني، لا تتحديني.


وبعد لحظات، أنفجر سليم ضاحكًا، وهو يضرب على أحد قدميه ضربات متتالية، وكأنّه يحاول كبح غضبه، ثم أمسك بأقرب شيء، وألقاه بقوة على الأرض بعد لحظات.


اقترب منها وأشار بأصابعه في وجهها بحسم وبنظرة مخيفة، وقال بصوت هادئ وهو يتك على اسمها:

ماااسـة.... ماسـة،... ماتعاندينيش. إنتِ مصر ليه توصلي حياتنا لطريق مسدود. لحاجة تخلينا نندم سوا.


ماسة، بصوت مفعم بالوجع وعينيها مليئتين بالدموع:إنت إللي عملت كده مش أنا. طب... 


صمتت للحظات، مسحت وجهها بدأت بالتراجع عن موقفها محاولة استعطافه.ديبدو أنها شعرت أن تحدي سليم ليس في صالحها:

طب، سليم، من فضلك.. أنا عايزة أروح عند أهلي، محتاجة أرتاح و أفكر كفاية.


سليم بحسم، ونظرات جادة: وأنا قلت لك لا، مافيش خروج من هنا. عايزة تفكري؟ فكري هنا، أقعدي في الأوضة دي، وأنا هقعد في الأوضة التانية.


كادت ماسة أن تنطق، لكنه صاح في وجهها بصوت عميق، بحة في صوته جعلتها تهتز. تلك البحة، وتلك النظرة التي يبدو أن ماسة قد نسيتها


فعنادها وإصرارها على سلك ذلك الطريق، أيقظت فيه شخصيته القديمة التي كانت غائبة منذ سنوات.


سليم بقوة وحسم: وكلمة "طلقني" دي مش عايز أسمعها منك تاني، فاهمة؟ أنا مش هقفل الباب بالمفتاح، بس أوعي... أوعي تعملي حاجة تخليني أعمل حاجة نندم عليها سوا.


ماسة وهى تتك على أسنانها بضيق: بردو بتهدد.


أكمل سليم حديثه بنفس القوة وبتهديد: أنا مسافر بكرة، وهرجع بعد بكرة. هبقي أشوف بقى جنانك، وعندك ده آخرهم إيه؟!


خرج سليم بسرعة، وأغلق الباب خلفه بقوة، حتى كاد أن ينكسر.


ظلت ماسة متوقفة تحدق في الباب المغلق بغضب، مشاعرها متصارعة. دموعها كادت أن تنهار، لكنها ألقت بنفسها على الفراش، وبدأت تبكي بحرقة


في إحدى صالات الجيم، التاسعة مساءً.


نرى عماد ورشدي يتنقلان بين الأجهزة المختلفة، يتبادلان الضحك والنقاش.


رشدي: يوم تقيل النهاردة... بقيت حاسس إنّي مابقدرش أشيل الأوزان بتاعة زمان، شكلي عجزت.


ضحك عماد وهو يلتقط المنشفة ليمسح عنقه: كل ده علشان كام تمرين؟


انتقلا سويًا إلى جهاز آخر، ومع كل حركة، بدا عماد أكثر راحة، كأنّه ينتظر لحظة بعينها.


أنهيا التمرين، فجلس رشدي على حافة مقعد، يتنفس ببطء.


عماد: هاتمشي ولا قاعد شوية؟


رشدي: عادي يعني، أقعد شوية. 


عماد: طب خلاص، تعال نقعد نشرب عصير... عايز أتكلم معاك شوية بعيد عن القصر.


هزّ رشدي رأسه بإيجاب، بينما نهض عماد إلى البار في طرف القاعة. طلب العصير من العامل، وبعد أن أحضره، ألقى نظرة سريعة نحو رشدي، الذي كان منشغلًا في هاتفه.

أخرج كيسًا صغيرًا من جيبه، وفتح أحد الأكواب، أفرغ فيه البودرة البيضاء بهدوء قاتل، وقام بتقليبها بالشاليمو.


عاد وجلس إلى جواره، مدّ إليه الكوب بإبتسامة خفيفة.


عماد: هتعمل إيه في إللي جاي؟


رشدي بثقة: قربت.


عماد بضجر: إنت عمال تقول قربت قربت... أنا عايز أفهم، إنت هتعمل إيه؟ فهمني إللي في دماغك.


رشدي بفرض سيطرة: أنا مش هفهم حد أي حاجة، المرة دي تنفيذ وبس. كل إللي أنا بقوله... هيحصل.


تساءل عماد: المهم نكون قربنا، علشان حاسس إنّنا بقينا ماشيين في دايرة ملهاش آخر.


رشدي وهو يحتسي العصير: قربت أوي... هي دلوقتي بتفرفر.


عماد متعحبا: أقولك على حاجة؟ ماكنتش أتخيل إنك هتستغل ماسة تاني... يعني ساعات كنت بحس إنك بتحبها.


رشدي بشر: طب ما هو أنا بحبها... بس بحب مصلحتي أكتر منها، وإللي أنا ه

عمله ده... هايخليها تبقى معايا.


تبسم عماد نصف ابتسامة ساخرة: تبقى معاك بعد إللي إنت ناوي تعمله؟... بتحلم.. بس عموماً، هانشوف آخِرها.


ظل عماد يراقبه بصمت، نظراته متلذذة وهو يرى رشدي يرفع الكوب إلى فمه ويشرب، دون أن يدرك أن السائل الذي يرتويه... قد يحمل له بداية النهاية.


قصر الراوي العاشرة مساءً 


قضى سليم وماسة ليلتهما كلٌ في غرفته، سكون مشحون بالغضب خيم على القصر كله. لا راحة حلّت، ولا نوم زارهما. ماسة كانت تشعر أن شكه فيها إهانة، حتى وإن لم يكن شكًا حقيقيًا، فطريقته في السؤال وحدها كانت كفيلة بكسر قلبها. ملت تهديداته، تعبت من تكرارها، أسلوبه لم يتغير. أما هو، فكان مقتنعًا بأنها تتعمد عناده، تتحداه في كل شيء، وكأنها لا تبالي.


في الصباح التالي، غادر سليم إلى مدينة السويس لإنهاء بعض الأعمال. جلس في مكتبه يحاول التركيز،


على إتجاه آخر


عند ماسة استيقظت ماسة على ألم في رأسها من شدّة البكاء. بحثت عن هاتفها واتصلت به لكنه لم يرد 


عند سليم أثناء انشغاله في عمله، هاتفه بدأ يهتز... ماسة تتصل. لم يجب. يعرف طريقتها حين تعند، تظل تتصل مرارًا دون توقف. ترك الهاتف يهتز وكتم أنفاسه.


أما ماسة، فحين لم تجد منه ردًا بعد تكرار الإتصال في أوقات متفرقة، هبطت من جناحها بخطوات غاضبة، وتوجهت إلى الحديقة حيث كان مكي يجلس يحتسي قهوته.


ماسة بضيق: مكي، ممكن تكلملي سليم؟ مش بيرد عليا.


مكي باستغراب وهو يخرج هاتفه: فيه إيه؟ مالك؟


ماسة من بين أسنانها: أتصل بس.


أتصل، وحين رد سليم، اختطفت ماسة الهاتف منه.


ماسة بحدة: إنت مابتردش عليا، وبترد على مكي؟!


سليم بجفاء: عندي شغل ومش فاضي للعب العيال بتاعك.


ماسة بضيق: طب أنا عايزة أروح عند ماما.


سليم بحسم: مافيش مرواح عند ماما، يا ماسة.


ماسة بعند: لا، فين مرواح! أنا مش هقعد هنا لوحدي، هروح أقعد هناك لحد ماحضرتك ترجع.


سليم بقسوة: قلت لا، يعني لا. وماتتصليش تاني.


وأغلق الخط.


شعرت ماسة بالإهانة، نظرت إلى مكي بعيون دامعة.


ماسة بحزن: ينفع كده؟ ده يبقى اسمه زوج؟ بقى صاحبه بيكلمه يرد، وأنا لأ؟! ده أسلوب ويقولي بتتعصبي ليه؟!


تنهد مكي وهز رأسه قائلا: طب إهدي…إنتو مش كنتوا اتصالحتوا؟؟ 


ماسة بحزن: اتصالحنا، بس اتخانقنا تاني! ومنعني من كل حاجة، لا جامعة، لا خروج، ولا حتى أشوف أهلي! بقى التهديد عنده زي اللبانة… حاسة إنه شاريني من سوق عكاظ!


تنهد مكي بهدوء: طب، استني  هكلمه تاني.


أعاد مكي الاتصال، لكن سليم لم يجب. فأرسل له رسالة: أنا مكي… رد ضروري،، ثم أتصل 


رد سليم بجمود: عايز إيه؟


مكي: سيبها تروح عند مامتها.


سليم بنبرة جافة: مش هتروح وماتدخلش نفسك في إللي مالكش فيه.


مكي بعقلانية: سليم، اسمعني بالله عليك…إهدى بس، مافيش مشكلة لو راحت. خليها تهدى، وتفكر.وإنت كمان تهدى، هترجع تاني لما ترجع من سفرك.


سليم باستهجان: مش هتمشي كلامها عليا!


مكي بعقلانية: هي مش بتمشي كلامها… بتطلب تهدى، بس كده.يا راجل أفهم… مش بتتحكم فيك. هي دلوقتي مش قادرة تستحمل. شايفها؟ مش طايقة القصر، مش طايقة الوحدة. سيبها تهرب من الجو ده شوية.


سليم باستهجان: مكي إنت ماتعرفش ماسة هي بتعاند؟ بعدين أنا لو مشيت كلامها هتفتكرني ضعيف.


مكي بحكمة: يا سليم، إنت أكبر من كده،إنت بتحبها… وده مش ضعف، دي حكمة. لما تسيبها تروّح، مش معناها إنها كسبت. معناها إنك إنت إللي بتحافظ على البيت وبتفكر صح.


سليم بتنهيدة طويلة: أنا عارف ماسة… لو راحت مش هترضى ترجع. وهانخش في دوامة مالهاش آخر.


مكي بطمأنة: وحتى لو… طول ما هي مع مامتها وسلوى، هيهدوها. بلاش العند، العند مش بيجيب غير كسر أكتر.


زفر سليم بقوة: خلاص،خلاص وديها إنت. بس بلغها أول مارجع هكلمها ترجع. ولو مارجعتش …


قاطعه مكي مسرعاً: هاترجع. يلا أقفل وكمل شغلك.


أغلق سليم الخط وهو يجز على أسنانه بغضب، ثم ألقى ما على المكتب من أوراق بيده فما يحدث بينه وبين ماسة يجعله عصبيا وغير قادر على الإتزان. 


عند ماسة....


بمجرد أن أغلق مكي الخط، نظر إلى ماسة.


مكي: ماسة، يلا غيري هدومك، وحضّري شنطتك، وأنا هاستناكي. بس لو سمحتي يا ماسة، ماتصغرنيش… هاترجعي لما سليم يرجع.


رفعت ماسة نظرها وقالت بخزي: صاحبك بيشك فيا، وأنا مش هرجع لراجل شكاك، أنا بفهمك أهو علشان ماتقولش صغرتيني.


قرب مكي منها متعحبًا: إنتي كده بتكبّري الموضوع… شك إيه؟!


ماسة بنبرة مكسورة: مش لازم تفهم… هو هايفهمك.


قالت كلماتها تلك وغادرت لتجهز نفسها.


حك مكي في خده واتصل بسليم مرة أخرى لكي  يستوضح أمر ما حدث بينهما..


بعد وقت، كانت ماسة تجلس في غرفة بمنزل أهلها، ساكنة، لا تتحدث مع أحد، حتى سلوى حين دخلت عليها، وجدتها صامتة، لا ترد، وعيناها مشدودتان إلى السقف، كأنها لا ترى شيئاً. كأن الصمت يحيط بالغرفة وكأنها دخلت في عالم آخر.


في إتجاهٍ آخر... السويس 


نرى سليم في قاعة المزاد عن الأراضي. جلس في الصفوف الأمامية، شاردًا. وجهه متجهما، ولكن عقله كان في مكان آخر، كلمات ماسة تتردد في رأسه، وصوتها يعلو بداخله....


فاتته الفرصة، فاتته... الأرقام، فات عليه الفوز.. خسر المزاد، ولكن ما خسره فعلاً لم يكن المال.


قصر الراوي, الحادية عشر مساءً


جناح سليم وماسة


دخل سليم الغرفة منهكاً بعد عودته من مدينة السويس، وألقى بنفسه على الفراش متمددًا، أسند ظهره ورأسه على طرف السرير، أمسك بهاتفه وأجرى اتصالاً بماسة التي مازالت في منزل عائلتها. 


أتاه صوت ماسة بعد قليل مع تبادل الشاشة بينهما:


ماسة بجمود: ألو؟


سأل سليم بضجر: ماجيتيش ليه؟ مش قلتلك إني في الطريق؟


ماسة بتنهيدة: سليم، أنا قلت لك عايزة أبات عند ماما كام يوم، محتاجة أريح أعصابي بعد إللي حصل وأفكر .


سليم بنبرة حاسمة وأمر: وأظن إني رفضت، وطلبت منك تيجي، يلا يا ماسة تعالي بدل مضطر أجي أخدك، ووقتها هاتندمي، يلا هبعتلك السواق يجيبك، ومش عايز كلام كتير.


أغلق الخط قبل أن ترد ماسة، التي عضت شفتيها غاضبة وقالت بعند: طب والله ما أنا راجعة! ووريني هتعمل إيه؟


فاعقلها مقتنع أنه شك بها وهذا الأمر جعلها تستاء بشدة وكسر نياط قلبها ولا تريد العودة هذه الفترة حتى تهدأ وتفكر في علاقتهما.


على إتجاه آخر..

أمسك سليم هاتفه مرة أخرى واتصل بأحد رجاله بجمود:

ألو؟ خد العربية ومعاك عشري، وروحوا هاتوا الهانم من عند أهلها 


أغلق المكالمة، وفتح ألبوم الصور في هاتفه وبدأ يتأمل صور ماسة. بحب وحزن على حالهما... 

تحدث بأنين و وجع يعصف بقلبه الذي يعشقها حد الجنون همس بصوت منخفض:

قولي لي، إيه إللي ممكن أعمله عشان يرضيكي؟ بعمل كل حاجة عشانك، وبرضه مش راضية، عمالة تصعبيها علينا ليه؟ وبعدها معاكي يا ماستي الحلوة تعبتي قلبي معاكي إللي مالهوش غيرك، وإللي يتمنالك  الرضا والله.


تنهد بألم وظل يفكر في حالهما بإختناق حتى غفا من شدة الإرهاق فهو لم ينم من الأمس 


في فيلا عائلة ماسة


كانت ماسة في غرفتها مع أختها سلوى، تتحدثان، كانت ترتدي بيجامة مريحة، طرقت الخادمة الباب لتخبرها أن السائق في انتظارها. ردت ماسة بإيماءة ناعمة ونزلت معاها.


ماسة للسائق: خير؟


السائق:حضرتك، سليم باشا بعتني أرجعك القصر.


ماسة بثبات: لا، أنا قلت له إني هبات هنا، وقال ماشي. روح إنت.


السائق بإمتثال: حاضر.


غادر السائق، ليجد عشري في انتظاره بالخارج.


عشري تساءل: فين ماسة هانم؟


السائق: قالت إنها استأذنت من سليم باشا إنها هاتبات هنا.


عشري بشك: إنت متأكد؟


السائق: أيوة، هي إللي قالت كده.


أخرج عشري هاتفه وهو يغادر المكان عائدا إلى السيارة وهو يتصل بسليم الذي لم يجيب بسبب نومه، حتى عاد إلى القصر.


في جناح سليم وماسة بعد ساعتين


استيقظ سليم ليجد الساعة تجاوزت الواحدة بعد منتصف الليل. نظر حوله في الغرفة، يبحث عن ماسة لكنه لم يجدها  تنهد متعجباً؟! ظن أنها ربما تكون في غرفة أخرى أو تجلس في الأسفل، أمسك بهاتفه وحاول الإتصال بها مراراً دون جدوى

.

نهض من فراشه يبحث عنها في أنحاء القصر، متنقلًا بين الغرف،توجه للخارج وهو مازال يتحرك في ممرات الحديقة، وما زال ممسكاً بهاتفه يحاول الاتصال، لكن دون رد. حتى أغلقت هاتفها ...وصل أخيراً إلى السائق الذي يجلس بقرب الجراج.وسأله بغضب:


سليم: ماسة هانم فين؟


توقف السائق باحترام: الهانم قالت إنها استأذنت حضرتك إنها تبات عند أهلها.


جز سليم على أسنانه بغضب وضيق: روح جهزلي العربية دلوقتي.


تدخل عشري: رايح فين يا ملك؟


سليم بحزم: ما تدخلش يا عشري!


جات السيارة بعد دقائق وصعد سليم السيارة متجهاً نحو فيلا عائلة ماسة، والغضب والتجهم يشتعلان في عينيه..وصل أخيرا وهبط من السيارة بخطوات حازمة. طرق الباب بقوة، فتحت له الخادمة بفزع.


سليم: ماسة فين؟


الخادمة: فوق في...


لم يعطِها سليم الوقت لكي تكمل كلمتها، فاندفع نحو السلالم صاعدًا بسرعة، حتى وصل إلى باب غرفتها. فتحه دون طرق، فوجد ماسة جالسة على السرير. فور أن رأته أمامها، اتسعت عيناها لحظة من الصدمة، فلم تتوقع مجيئه. تنهدت وحاولت التماسك، توقفت.


ماسة بجمود: إيه إللي جابك هنا؟


سليم بأمر: غيري هدومك ويلا.


ماسة برفض وعناد: قلت لك مش هاجي بعد شكك فيا.


تحدث سليم من بين أسنانه: قلت لك، أنا ماشكيتش فيكي مش هنفضل نرغي في نفس الموال، ويلا بالذوق، بدل ما أقسم بالله هشيلك بلبسك كدة أنا على آخري منك ومن تصرفاتك. 


ماسة بعناد أكبر وهي تنظر في عينه: وأنا قلت لك مش هرجع يا سليم! يعني مش هرجع.


جزَّ سليم على أسنانه،قبض على كفه ونظر إليها بعينيه الغاضبتين. فجأة، سحبها من يدها وحملها على ذراعه، وتحرك بها للخارج هابطًا إلى الأسفل. بينما صرخات ماسة تملأ المكان، وهي تضربه وتحاول الفكاك منه، ولكن دون جدوى. استيقظ الجميع على أصواتهما، وهرعوا نحوهم بسرعة.


مجاهد وهو يهبط الدرج: خير يا ولاد؟ في إيه؟ مالكم؟


اضطر سليم أن ينزلها لكن مازال ممسكا بمعصمها بقسوة ليقول: مافيش، مروحين بس.


ماسة بعناد أكبر  هي تحاول فك يده: قلت لك مش هروح معاك، إيه هتاخدني بالعافية أوعى بقى.


اتسعت عينا سليم بقوة وقال بصوت منخفض: ماسة، أسمعي الكلام وبطلي عند كفاية بقى.


مجاهد بهدوء: خلاص يا ولاد، مافيش داعي لكل ده، صلوا على النبي. الساعة بقت 2:00 بالليل، يا سليم، يابني إيه المشكلة؟ لما تباتوا.


سليم بإعتذار: معلش يا عمي، لازم نمشي.


ماسة بضجر: وأنا مش همشي معاك، أمشي لوحدك.


مجاهد بعتاب: عيب يا ماسة، أسمعي كلام جوزك و روحي معاه مادام عايز يمشي. خلاص يا حبيبتي، تعالي باتي في وقت تاني.


ماسة بحزن: يا بابا، إنت مش فاهم حاجة.


مجاهد بشدة: ولا عايز أفهم، مادام جوزك قال لك يلا، خلاص، يلا روحي.


ماسة بحزن ودموع وهي مازالت تحاول فك قبضة سليم من معصمها: بس أنا عايزة أفضل هنا النهاردة. محتاجة أكون هنا النهاردة ماتخلوهوش يخدني. 


سليم بغضب: هو أنا هفضل أتحايل عليكِ كتير؟ ولا إيه؟ قلت يلا.


سحبها من يدها بعنف وهو يجرها للخارج، لم تكن ماسة تتوقع تلك القوة، ولم تكن تعلم أن الخذلان سيأتي من أكثر من جهة.


نظرت سعدية له بعدم فهم: سليم! مش كده، بالراحة!


سليم بصوت قوي وهو لا يلتفت لها: من فضلك، ومع كامل إحترامي ليكي، ماحدش يتدخل.


عمار متعجباً بضجر: يعني إيه محدش يتدخل؟ إنت مش شايف طريقتك؟ واخد أختي من إيدها وساحبها وراك كأنها مش بنى آدمه! أختي مش هتمشي معاك غير لما نفهم فين إيه.


مدّ يده وجذب ماسة من يد سليم، فأشتد التوتر.


سليم بنبرة حادة: والله أنا حر، دي مراتي!


عمار بهدوء ظاهري يخفي نبرة غليظة: حر إزاي؟ هي مش عايزة تمشي معاك! وبعدين دي قاعدة في بيت رجالة، إزاي تاخدها كده؟ حتى لو مراتك!


سليم محاولا تمالك أعصابه؛ عمار، ماتدخلش!


عمار بصوت أعلى: لا هتدخل! دي أختي يا سليم! هو في إيه بالضبط؟!


سعدية ارتبكت ورفعت صوتها: صلّوا على النبي يا جماعة، لا إله إلا الله… هو في إيه؟!


سليم بعنف: أنا مش مجبر أبرر


اقترب مجاهد خطوة، يحاول أن يحتوي الموقف بصوته الهادئ: سليم بيه، حضرتك على راسنا، وإنت مننا وفينا، إحنا دايمًا بنشوفك واحد من العيلة… شكلك زعلان منها، طب تعالى نقعد ونتفاهم.


سعدية أضافت وهي تنظر لإبنتها بحدة:

ولو بنتي غلطانة، هكسر رقبتها بإيدي وأجيبها تبوس جزمتك، بس فهمونا إيه إللي حصل، أول مرة نشوفكم كده.


سليم بنفاذ صبر: هو حرام آخد مراتي وأمشي؟! وأرفض إنها تبات، وتعصب باتصل عليها مش بترد عليا وقفلت تليفونها، مع إني كلمتها وبعتلها السواق… وهي مشته بالكدب.


ألتفت مجاهد إلى ماسة: إنتي عملتي كده فعلاً؟


نظرت ماسة له بصوت منخفض: أيوه… بس 


قاطعها مجاهد دون أن يمنحها فرصة قائلا بحدة: أمشي مع جوزك.


حاولت ماسة أن تشرح: طب أسمعني… أفهم أسبابي.


مجاهد بغضب: أسمع إيه؟! المفروض إنتي إللي تسمعي كلام جوزك! مادام قالك لأ، يبقى عيب عليكي!


صاحت ماسة؛ هو شَكّ فيا!


سعدية شهقت: شك فيكي؟!


اقترب سليم من أذنها، وهمس بكلمات لا يسمعها سواها: لو اتكلمتي…إنتي إللي هتخسري.


رفعت رأسها، شعرت بقلبها ينهار، ونطقت بتحدٍ وهي تنظر لهم جميعًا وكانها تتوسل لهم ان لا يخذلوها:

واحد زميلي جه وقعد مع واحدة صاحبتي… الحراس صوروني وبعتوا الفيديو للبيه… بدل مايعاتبني أو يفهم، ورّاني الفيديو كأنه دليل إدانة!


تدخل سليم سريعًا: واعتذرتلك بعد كده.


مجاهد وهو ينظر إليها: طب خلاص… مادام اعتذر، عايزة إيه تاني؟ جوزك بيطلبك ترجعي، ترفضي ليه؟ عيب! يلا مع جوزك، وبوسي راسه واعتذر ليه هو اصلا ما كانش المفروض يعتذر انت غلطتي.


ماسة بالم: بقول لك قاعد مع واحده تانيه انا ما ليش علاقه و.


قطعتها سعدية وهي تلوح بيدها بتهكم: من إمتى بنقعد مع صبيان يا ماسة؟ من إمتى بنتنا بتكلم شباب، إنت إللي دلعتها يا سليم، وأنا بقولك أهو…أكسرها! مراتك محتاجة تتربى.


شعرت ماسة أن أنفاسها تضيق، والهواء من حولها صار خانقًا. الكلمات طعنت قلبها، لم تعد تملك مقاومة، ولا حتى دموع.  أمسك سليم يدها من جديد وسحبها بعنف نحو السيارة، بينما هي تتحرك بصمت، كأنها فقدت القدرة على الدفاع عن نفسها.


دفعها للداخل وأغلق الباب خلفها بقوة، ثم أدار المحرك بسرعة، وأندفع بالسيارة كمن يهرب من ساحة معركة.


ماسة بصوت مجروح: إنت شايف إللي بتعمله ده ينفع؟!


سليم وهو ينظر أمامه: ينفع… مادام مافيش سمعان للكلام.


ماسة وهي تلتقط أنفاسها: إنت عارف إللي حصل… وأنا زعلانة منك.


سليم بنبرة باردة: كل إللي أنا شايفه… إنك بتعاندي وبس.


زفرت بقوة، فتحت النافذة، وأخذت نفسًا ثقيلًا وهي تنظر للخارج، تحاول الهروب من ذلك الاختناق الذي يملأ صدرها.


قصر الراوي 


جناح سليم وماسة، الثالثة صباحا 


دخل سليم وماسة إلى الجناح، يده تقبض على كتفها بقسوة كأنها متهمة تُساق إلى مصيرها، بعد أن جلبها من فيلّا عائلتها.


كان الغضب يكسو ملامح وجهه، يطمس تفاصيله، وعيناه تومضان بشرٍ مكتوم وصمته يسبق زأيره.


ترك كتفها فجأة، وقد تركت أصابعه علامة حمراء بارزة على بشرتها.


جلست ماسة على طرف الفراش، منحنيّة قليلًا، ووجهها منكس نحو الأرض، كأنها تبحث فيه عن ملجأ ..يدها على قدميها بقلة حيلة. 


بينما سليم في منتصف الغرفة يتحرك يمينًا ويسارًا كذئبٍ جريح، تائه بين الألم والجنون. الإرهاق ينخر جسده المنهك بعد يومين بلا نوم، ولا راحة لكن الغضب كان أقوى من التعب، يشدّه للبقاء مستيقظًا... ليواجهها.


نظر إليها ويده تهتز بإتهام، صوته خشن، مليء بالرجولة المكسوة بالقوة والغضب والتهديد نبرته خرجت كالرعد: 

إنتي فاكرة إللي عملتيه ده هايمر كده بسهولة؟

كل مرة بقول خلاص... هتعقل، هتفهم...ماسة هتتعلم من أخطائها.. بس لأ! بتعيدي نفس الغلط... وتزودي عليه كمان! إنتي عايزة إيه؟ فهميني! إنتي عايزة إيه؟!

ضيق عينه متعجباً بشدة أضاف:

إزاي أصلاً تتجرأي وتعملي إللي عملتيه ده؟!

أكلمك وأقولك أرجعي، وأبعتلك الحارس... يرجع فاضي؟ يعني كلامي مالوش قيمة؟ ليكِ حق تعملي أكتر من كده أنا غلطان ! عارفة ليه؟!


كان صوته يعلو، يتخلله وجع مكتوم لم يعرف كيف يخرجه، وإشارات يديه المرتجفة تكشف أن مابداخله أكبر من أن يُحتمل:

علشان كل مرة أحذرك لو أخطاءك اتكررت هتشوفي وش هتندمي عليه، لكن مابنفذش أي حاجة بقولها... لا وكمان بأعتذرلك.. كل ده علشان بحبك..وبحترمك، بس شكلك فهمتي حبي ليكي غلط! افتكرتي تهديدي هزار؟ أو لحظة غضب، متعرفيش مين هو سليم؟

أنا لما بحب... بسامح وبغفر كتير، وتخيلي لما الشخص ده يكون "إنتي"، فأكيد مسامحتي ليكي هاتبقى أوسع. بس توصلي إنك تدوسي على كرامتي

ورجولتي؟ وكلمتي لأاا ! إنتي بتلعبي بالنار... وأنا بطلت أتحمل عنادك ولحد هنا وكفاية.


جز على أسنانه وقلب وجهه قال بنبرة رجولية حاسمة بأمر:

أسمعي كويس...مافيش جامعة، مافيش زيارات، مافيش مرواح عند أهلك تاني، مافيش خروج حتى من باب القصر! حتى الجنينة ممنوع..ومافيش اعتذار..كلمة واحدة زيادة، والله...والله ماهتشوفي النور من الشباك! أنا خلاص... على آخري منك ومن عمايلك دي.


أضاف بضيق وخنقة وكأنها صرخة عتاب:

كل شوية في موال جديد، كأنك بتدوري على المشاكل وتخلقيها، الأول اتهمتيني إني حبسك برغم إنك فاهمة السبب، وبعدين مش عجبك شروطي إللي بحافظ بيها على حياتك وبحميكي من أي حاجة ممكن تأذيكي، وبعدين بتشك فيا علشان رفضت وضع غلط.. لما اعتذرت عاندتي أكتر

ادلعتي بزيادة يا ماسة، حبي ليكي خلاكي تتمادي مش عايزة تفهمي ولا تستوعبي حجم الكوارث إللى حوالينا أو ممكن تحصلنا من وقت الحادثة عمالة تدوسي وتضغطي عليا مش رحماني، كفاية المشاكل إللي عندي، وجعتيني كتير وتحملت لإني بحبك بس كفاية.


كانت كلماته كالسياط، تنهال على رأسها، بينما بقيت هي صامتة تستمع له بصمت ثقيل، رأسها مازال منحنيًا، لكن ملامحها مشدودة كوتر قبل انقطاعه، وصوتها الغائب كأنه يُهيئ نفسه للإنفجار.


فجأة... رفعت رأسها، وقاطعته بنبرة مبحوحة، بصوت خرج كأن الحنجرة تتمزق من الألم:

أسكت...كفاية...إنت إللي كفاية أسكت. أسكت... ماتكملش.


ساد الصمت لثوانٍ، توقفت كالإعصار الذي يضرب ما أمامه دون اهتمام كانت دموعها تنهمر صوتها مبحوح قوتها متلاشية وكأنها تخرج كل ما كان في قلبها منذ سنوات صاحت به بإنهيار..ثم جاء صوتها كالعاصفة، متقطعًا كأنها تنتزع الكلمات من قلبها:


ماسة بوجع قطع نياط قلبها:

خلاص بقى كفاية ارحمني، ارحمني هتفضل لحد إمتى كده، كأنك إنت بس إللي دفعت الثمن، إنت بس إللي موجوع، إنت بس إللي طلعت من الحادثة فاقد كل شيء، كأني مادفعتش الثمن زيك، ولا اتوجعت وجع مالوش علاج، ولا كأني وقعت معاك في نفس الحفرة وبصرخ على حد ينجدني، أنا محدش شايفني الكل معمي عن وجعي مش شايفين إلا وجع سليم وبس.


مسحت دموعها، وعينان تغليان من الألم والضيق، تتحدث من بين أسنانها بألم يعصر قلبها، ممزوج بسخرية مرة من الوجع:

سليم بس إللي اتضرب بالرصاص في الحادثة وكان هيفقد حياته، أما أنا ماحصليش أي حاجة، كأني ماتضربتش بالسكينة، كأني ماكنتِش برضو على وشك أموت زيك بالظبط، تؤتؤ... سليم بس إللي فقد بنته، وأنا لا... كأنها بنتك لوحدك مش بنتي أنا كمان...

كأني ماقضيتش... ست سنين... بتتمنّى اللحظة دي، واتحَرّمت منها في ثانية، وكل أحلامي اتهدت فوق دماغي...


هزّت رأسها بألم قهر فؤادها، ودموع لا تتوقف، بوجع خنق نبرة صوتها وهي تشير على نفسها:

أنا مافيش حد فكر فيا... الكل بيفكر فيك إنت! حتى إنت... حتى إنت مافكرتش غير في نفسك، ووجعك، وإللي خسرته!

مافكرتش إننا الاتنين اتكسرنا في نفس اللحظة... إننا خسرنا سوا! إننا مشتركين في نفس الوجع..

كأني ماكنتش معاك في العربية... كأني ماشفتش إللي إنت شوفته يوم الحادثة. ماحدش فكر يطبطب عليا.


كاد سليم أن ينطق ويدافع عن نفسه لكن شعر أن لديها الكثير والكثير لتقوله فاختار الصمت الآن كي يستمع لأنين قلبها الذي أعلن عن وجعه بينما هو يستمع لها بكل حزن ووجع عصف قلبه. 


صمتت لحظة، وكأنها تسترجع كل شيء... خطواتها تهادت للأمام، كأن الذكرى تشدها، واسترسلت بقهر ووجع يصعب حتى وصفه:

أنا لقيت نفسي فجأة باتضرب بالسكينة... قبل ما أولد بعشر أيام! 

قبل ما أحقق حلمي إللي عشت عليه سنين... ولما فُقت من البنج، قالوا لي إن بنتي ماتت! بنتي إللي ماشُفتهاش لحظة..ماشمّيتش ريحتها لحظة

بنتي إللي فضلت أكتر من ست سنين أتمناها، من أول لحظة اتجوزتك فيها وأنا بحلم بيها...

آه، صح... مش أول مرة أتوجع. ولا أول مرة أفقد جزء مني... أنا فقدت جزء مني مرتين!

بس أول حمل ليّا لما نزل... أنا ماكنتش فاهمة... ماتأثرتش قوي، كنت صغيرة... مش مدركة...ولإننا مارتبطناش ببعض! وإنت... إنت ساعدتني أتخطى ده بسرعة...أصلا إنت ماكنتش عايز الحمل ده و وافقت بيه بس علشان ماتزعلنيش...فلما راح وجعه عدّى، وعدّى بسرعة! بس بعد سنين... لما كبرت وفهمت،

اتوجعت... بس سكت! ماكنش ينفع أتكلم...


ارتسمت على شفتيها ابتسامة موجعة، أضافت بحزن:

إنما حملي في حور... كان حاجة تانية خالص...

إحساس تاني... كنت كبرت، وكنت فهمت...و ساعتها... حسيّت بيها، وارتبطت بيها.


تقلصت ملامح وجهها بين الألم والقهر، كأنها لوحة مرسومة بالحسرة، واسترسلت بصوت مبلل بالانكسار:

حلمنا سوا... وكبرنا الحلم سوا...وعدنا بعض إننا مش هانفترق...و وعدتها إني هكون ليها أم حنينة، أم تسندها وتحقق لها كل إللي نفسها فيه،

كنت هخليها أحسن بنت في الدنيا.

وهي كمان... وعدتني إنها هتفضل معايا على طول،

كنا هانعيش سوا أحلى بيت دافي وإنت معانا يا سليم محاوطنا بحبك وحنانك ..


سكتت ملامحها في لحظة تابعت بوجع:

بس... في لحظة...في لحظة واحدة،

كل ده راح... كل حاجة انهارت! ودفنوها من غير حتى ماشوفها علشان يدبحوني أكتر،

ويزودوا فوق وجعي قهر... ويكسروني للآخر...


تنهدت بألم، وتابعت بصوتٍ متهدّج:

دورت عليك علشان تساندني، عشان أترمي في حضنك... بس مالقتكش! ليه؟! راح فين؟! سليم اتصاب... لقيت المطلوب مني في عز كل ده إني مابكيش، ماقعش، لازم أوقف على رجليا وأبقى قوية!

ليه؟! علشان في اللحظة إللي كنت فيها بانهار...

جوزي دخل غيبوبة بين الحياة والموت!

كان لازم أبقى جنبك، كان لازم أحاول أخلق معجزة... علشان تفوق!


بقهر وتعب نظرت فى وجهه وأضافت بانهيار: 

وفي عز كل ده، كان لازم أقف وأواجه أهلك إللي بيكرهوني، أهلك إللي ماعندهمش رحمة.

وتحملت ذلهم ليا ولأهلي، وذل أمك بالذات ليّا،... وأكون مكانك في الشغل، علشان إنت عاهدتني واستأمنتني على مكانك، فلازم أكون قد ثقة وعدي ليك. علشان لما تصحى وتفوق، تشوف مراتك قد إيه قوية، وقد ثقتك.


كانت لا تعطيه مجال للرد كلماتها مسترسلة دون انقطاع بينما هو ظل صامتا يستمع لها بحزن يطوي قلبه وبعينين اغرورقت بالدموع، كان يريد أن تخرج كل ما في قلبها من الألم. 


بدأت تنهار تدريجيًا، وكأن صوتها يحكي وجع العمر:

وفي عز كل ده، جوزي يصحى واحد تاني، منهار مش متقبل باللي ربنا كتبه له، فلازم أسانده... ولازم أبقى قوية، علشان لو عملت غير كده، هبقى واطية، قليلة الأصل ماستاهلوش. لازم أطبطب عليه، وأقويه... وأتحمل عصبيته، وأتحمل عناده، علشان هو مش في وعيه، علشان فجأة صحي وعرف إن بنته ماتت...كأنها بنته لوحده! لقى نفسه مضروب بالرصاص... كأنه هو إللي اتضرب لوحده! كأنّي ماتطعنتش معاه بالسكينة... لقى نفسه مش هيخلّف تاني...وكأنّي أنا كمان، مش هتحرم زيّه من الخلفة...مافيش وقت ولا مكان إني أحس، إني أبكي، إني أصرخ... لازم أكتم كل حاجة جوايا، لأن لو عملت غير كده... إحنا هنكون بنكتب نهايتنا بأيدينا! أنا عارفة إنك ماقلتليش اختاري الطرف الأقوى...أو أعملي كل ده، أنا إللي اخترت الطرف ده... عشان هو ده الصح عشان بحبك...بس إنت يا سليم... ماوقفتش عند هنا...إنت اتحولت..


بدأت ملامحها تتبدل، والغضب يتسلل إلى صوتها شيئًا فشيئًا، حتى علا بتهكم واضح:

لقيت مطلوب مني، في عز رفضك لكل إللي حصل لك في الحادثة...وفي عز غضبك وعصبيتك على أقل الأسباب، أقبل حبسِك ليا... علشان خايف عليّا من العصابة المجهولة، إللي إنت لحد دلوقتي مش عارف توصلهم! ولازم أحط لساني جوا بقي، علشان لو نطقت، أبقى زوجة...صندوق الزبالة أنضف منها!

ماينفعش أطلب نفس... ماينفعش أصرخ...ماينفعش أطالب بأي حقوق... ماينفعش حتى أنهار!

لازم أسكت وأقول:حاضر ونعم وأمرك يا سيدي سليم بيه! وأقبل ده... بكل حب، وبكل ترحيب! ماينفعش حتى أكتئب! 

ولما ربنا هداك شوية، وقبلت أخيرًا إنّي أخرج،

أشم نفسي بعد ماصعبت عليك،ولقيتني لازم أقبل بشروطك! واستحمل سخافات ناس تانية، و ده طبيعي على شروطك الغير منطقية.. ولما أرفض شروطك شوية؟

تزعل... وتخاصمني... وأفضل ألف وراك عشان أصالحك! وبعدين... توصل بيك للشك؟ هاتقول لي: ماشكتش؟ ماشي بس استخدامك أسلوب رخيص علشان تعرف الحقيقة! وكل شوية أتحمل تهديداتك، وأسلوب ماحدش يستحمله... ولازم أسكت! لإن أنا إللي غلطانة!

أنا السبب في رد فعلك! لا وجاي بكل بجاحة بتلومني

كفاية، كفاية دور الضحية أنا كمان ضحية زيك وأكتر منك ..


كلماتها كانت كالخنجر على قلب سليم لكن مازال يستمع بقلب ينفطر بصمت

جلست على الفراش كأنما أُسقطت عن كتفيها حملُ سنواتٍ دفعةً واحدة. ملامح وجهها شاحبة، نظراتها منطفئة كشمعة على وشك الانطفاء، ودموعها تُبلل خديها بصمتٍ موجِع. خرج صوتها مبحوحًا، كأنما يتسلّل من قلبٍ أثقله الوجع، من جوفٍ أرهقته الخيبات قالت بقهر:

أنا مافيش حد بيطبطب عليا، أنا مافيش حد خدني في حضنه وطبطب عليا وقال لي معلش، حتى معلش دي ماسمعتهاش، أنا من وقت ماصحيت من يوم الحادثة، وأنا مابسمعش غير كلمة واحدة؟!!

لازم تتحملي يا ماسة، لازم تصبري، لازم توقفي جنب سليم، سليم عمل علشانك كتير، سليم انتشلك من البؤس، سليم رحمك من منصور ولورين، إنتي كنت حتة خدامة ذليلة، إنتي مش من حقك تطلبي حاجة، إنت المفروض تبوسي إيدك وش وظهر إن هو بصلك أصلاً، إنتي كنتي تطولي سليم الراوي يبصلك؟ ويتجوزك ويحبك؟ كأن المفروض كل يوم أصحى أبوس رجليك عشان تكرمت وتجوزتني برضاك وأختيارك أنا اتوجعت كتير وبكيت كتير.. أنا ماحدش حاسس بيا، ولا فكر فيا انا حاسه بايه؟! ولا حتى إنت حسيت بيا.. ولا حتى طبطبت عليا، إنت كمان كنت قاسي زيهم، يمكن أكتر واحد قسيت عليا، كأنك إنت إللي خسرت، وأنا ماخسرتش حاجة

أنا خسرت بنتي، زي ما إنت خسرت بنتك


كانت تحاول تمالك نفسها، كانت على شفا الانهيار، كلماتها تخرج من موضعٍ عميق يسكنه القهر والخذلان:

من ساعة الحادثة ماحصلت، ماحدش بيطبطب عليه غيرك انت أقسم بالله.. أبويا وأمي، اخواتي، أصحابنا، أهلك، ماحدش شايف في الحكاية دي كلها غيرك، كأنك كنت لوحدك فيها، وأنا مجرد شبح،  إنت بس إللي خسرت، إنت بس إللي اتوجعت، وأنا حياتي بمبي...

أنا كنت ببتسم وأنا من جوايا مكسورة، علشان ماحبتش أزود عليك، كنت بقول أنا تمام، وأنا حرفيًا بموت ، بموت كل يوم حتة ورا التانية..

وضعت ايديها على قلبها قالت بوجع:

كان هنا جوايا وجع،  هنا بالظبط وجع في قلبي احساسة اسوء من الموت وماحدش حاسس بيا ولا اهتم بوجعي

ما حدش كان شايف خالص ان انا كمان خسرت واتوجعت وفقدت بنتي


نظرت له، بعينين مليئة بالوجع، صوتها كان بيقطع قلبه قبل ما يوصل أذنه:

بس مش علشان أنا مابشتكيش، مش علشان مابصرخش، مش علشان بحاول أعيش حياتنا تاني، يبقى أنا كده حياتي وردي ومبسوطة ومابحسش، أنا كان لازم أكون قوية... علشانك. أنا رضيت، رضيت باللي ربنا كتبه، وقلت مش هقف على يوم الحادثة، قلت الحمد لله إن أنا طلعت كويسة، وسليم طلع حي، حتى لو فقدنا حاجات، حتى لو طالعين منها بجروح محفورة جوانا زي الوشم، بس إحنا مع بعض، قلت سليم هياخد الدوا، وهيتعالج، وهيبقى كويس... وأنا هفضل جنبه. 


هزت رأسها برفض، والقهر يخرج من عينيها:

بس لا...إنت مارضيتش، ماقبلتش إللي ربنا كتبه،خوفك ورفضك مسكوا فيك، سيطروا عليك، ، وبدأت تبني حواليك أسوار، أسوار من الهواجس، حتى لو كان فيها شيء من الحقيقة، بس إنت سبت نفسك للخوف وعيشتنا فيه، وفرضته عليّا، ولما زهقت ورفضته، بقيت أنا الغلطانة، بقيت المستهترة بقيت وحشة، بقيت إللي مش قد المسؤولية، بقيت إللي مش حاسة بيك، وفي الآخر وصلت للتهديد.


كل ذلك و سليم يستمع إليها بصمتٍ غريب، وكأن الكلمات التي خرجت منها صفعت قلبه قبل أذنه. لم يدرك أنها تحمل كل هذا الوجع، كل هذا القهر، حتى بدا كأنه يتلقى طعنات متتالية في روحه. ظل ساكنًا للحظة، عيناه زائغتان، وقلبه يعتصره الألم، لا يعرف ماذا يقول، ولا من أين يبدأ، لكن المؤكد أنه موجوع، موجوع بشدة.


شعر أنها أنهت ما في جعبتها، وان وقت رده.


رفع عينيه إليها، وصوته خارج من بين ضلوعه، مزيج من الصدمة والوجع، والضعف، وعتاب خافت خنق حروفه:

كل ده كنتِ شايلاه في قلبك؟ كل ده وجع وغضب؟

كل ده ساكتة؟ أنا يا ماسة ماكنتش بفكر فيكي؟

أنا يا ماسة!! ده إحنا وصلنا للي إحنا فيه ده عشان أنا ماكنتش شايف غيرك ولا بفكر غير فيكي، لإني  كنت مرعوب عليكي...


خرجت كلماته بتعجب مقهور:

أنا مطبطبتش على وجعك؟ طب أنا مالي بيهم؟ بتحطيهم في كفّة واحدة معايا ليه؟

لو كلامك ده فضفضة قولي، أصرخي، طلّعي كل إللي جواكي هسمعك وهخدك في حضني، بس أوعى تقولّي إني ماطبطبتش عليكي.. أو إنك كنتي لوحدك... أنا يمكن أول مافوقت من الحادثة كنت مكسور، عصبي، كنت بطلع كل رفضي وغضبي فيكي... بس أوعى تنكري، اني كنت بأعتذر، وكنت بقولك أتحمليني، لإني ماكنتش قادر أتحكم، ماكنتش قادر أحط كنترول. وبعدين، أنا عارف إنك موجوعة والله العظيم عارف وحاسس، بس إنتي أقوى مني، قدرتي تعيشي، رضيتِ بالمكتوب... لكن أنا؟ أنا ماعرفتش، إيماني طلع ضعيف، أنا تعبت، وبقيت خايف، وعيشت في خوفي، وفرضته عليكي.


ثم انخفض صوته، ومال برأسه قليلًا كأنه يحاول يخفي بكائه:

هو أنا في يوم حسستك إنك ماخسرتيش؟ ماتوجعتيش؟

همّشتك؟ خليتك تحسي إنك شبح في الحكاية؟

بالعكس، أنا وجعي كان عليكي، علشان شايفك خسرتي زَيّي، ويمكن أكتر...

أنا السبب في كل حاجة، في خسارتك، وفي وجعك، وفي حرمانك من بنتك، ومن نفسك، ومن حياتك.

أنا إللي كنت شايفك ساكتة... ساكتة وبتكتمي، وكل ده علشان تخليني أنا أقوى.

كنت بشوف وجعك في سكوتك، في ملامحك، في كل نفس بتاخديه، حتى دموعك إللي ماكنتيش بتسيبيها تنزل..

إنتي إزاي... بجد إزاي تتهميني الاتهام ده؟ أو حتى تقارنيني بيهم؟


لحظة صمت خيمت بينهما، كانت ثقيلة كأنها تزن عمرًا من الوجع، ثم أكمل سليم بصوت مبحوح، مشحون بالقهر:

أنا يمكن إللي معصبني أكتر منك، وإللي مخليني موجوع أكتر، إني أنا السبب...

إنتِ لسة قايلالي من كام يوم إنك بتدفعي ثمن أخطاء ناس غيرك، وده حقيقي يا ماسة.

يمكن لو كنتي مع راجل تاني، ماكنتيش وصلتي لكده.

كان زمانك عايشة حياة مختلفة، أمان أكتر، راحة أكتر...وعلشان كده أنا بقيت عصبي، ومجنون، ورافض أي حاجة، كل يوم بيعدّي، إحساسي بالعجز بيزيد جوايا، وخوفي عليكِ بيكبر...مش عارف أجيبلك حقك، ولا أضمنلك بُكرة... وبخاف، بخاف أوي إنك تضيعِي مني..أنا كمان زيك صحيت لقيت حياة جديدة اتفرضت عليا ماكنتش مخطط لها، وجعي بقى أضعاف، وبقيت حاسس بالعجز، وقلة الحيلة، والقهر. ومش عارف بكل ده إزاي أجيب حقك، لو كنت لوحدي، كان زماني وصلت. بس أي حركة مش محسوبة، مش عارف ممكن يحصل إيه. يمكن تكون حياتك الثمن، وخايف الرصاصة إللي في ضهري تخلص عليّا قبل ما أجيبلك حقك وحق بنتنا.


كانت ماسة تنظر إليه بعينين ممتلئتين بالوجع، لا تعرف ماذا تقول...

كلماته كانت صادقة، مؤلمة، لكنها لا تمحو ما بداخلها.

هي موجودة وتحمل شعورًا بالذنب ليس من حقها،

تعلم في قرارة نفسها أنه ليس السبب الوحيد

لكنّه الأقرب إلى قلبها، الأقرب إلى ثقتها، الأقرب إلى ضعفها، هو من كان يجب أن يكون سندًا...

فأنهار فوقها، ولم يُبقِ لها مكانًا تأوي إليه سوى نفسها.


ارتسمت على شفتي سليم نصف ابتسامة، كأنها سخرية من حاله، وأضاف بصوت مكسور، بعينين غمرها الحزن:

إنتِي كنتِ القوة في القصة، وأنا كنت الطرف الضعيف... أنا اتسندت عليكي، بدل ماتستندي عليا.. كنت محتاجك تقويني، اعتمدت على قلبك الأبيض، على غفرانك الكبير، وعلى إنك دايمًا بتنسي... بسرعة... وبتعدي... بسرعة...


نظرت له ماسة بمرارة، وقاطعته بصوت متهدج:

بقى حق مكتسب يعني؟ علشان سامحتك كتير، وعديت أكتر، فبقيت فاكر إني هسامح على أي حاجة وخلاص؟ فدوس براحتك؟


هز سليم رأسه نافياً، وصوته خرج مختنقًا كأنه يحاول يطفّيء نار بداخله:

لا، مش كده، إنتِ أحن مني في النقطة دي ، إنتِ حنينة وطيبة يا ماسة وده من وقت ماتجوزنا.


نظرت إليه ماسة بعينين زجاجيتين، تتمايل بين الغضب والانكسار: يعني إنت معترف إنك غلطان.


سليم بهدوء ممزوج بإيجاب: 

أنا عمري مانكرت إني غلطان. ردود أفعالي ساعات بتكون زيادة، بس أوعي تحطّي عليا كل الحمل. أنا مش السبب لوحدي في إللي وصلنا له. انتِ كمان...


همّت بالرد، لكنه أشار بيديه كأن لسانه سبَق عقلها، وأكمل:

يمكن أنا النصيب الأكبر زي ماقلتي، وإنتي سكتي كتير، وتحملتي فوق طاقتك... بس برضو...


صمت، كأن الكلمات خذلته. كان يتمنى أن ينهي الخلاف، لا يوسع الهوة. تنهد، ونبرة صوته كانت مزيجًا من خنقة العقل و وجع القلب:

أنا مش قاصد أوجعك أكتر، أنا متألم برضو... إحنا مش في حلبة مصارعة! أنا كمان عندي جروح.

لكن في النهاية، مش عايز أعيش الألم ده لوحدي.

أكتر حاجة بتوجعني إنك تحسي إني مش شايفك...

صدقيني، أنا عارف كويس إنك خسرِتِ زيي، وكل حاجة أنا السبب فيها، وكل حاجة بتعود ليا، بس مش قادر أواجه.


صمت للحظة و نظر بعينين مليئة بعتاب ووجع:

أن ماليش ذنب بعلاقتك بأهلك... هما بيقولوا إيه؟

ما تحاسبينيش على حاجة أنا ماقولتهاش، ولا ليّا يد فيها، مشكلتك إنك بتحاسبيني على كلامهم، مع إني أنا... أنا ماعملتش كده معاكي وكنا سند لبعض يا ماسة حتى لو إنتي كنتي الأكتر بس أنا ماتخلتش عنك ولا أقدر. 


ماسة باستهجان:

أه، وتهديداتك ليّا إللي كل شوية؟! إيه هتقولي تاني لحظات ضعف؟! اديني مبرر واحد يخليك تعمل كده.


سليم بصوت ضعيف: بعمل كده علشان تسكتي وتوقفي عند، وبعدين يا ماسة، إنتِ السبب لإنك مابتسمعيش الكلام، بقيتي عندية أوي، هو مش إحنا وعدنا بعض إننا هانوقف خناق ونسمع بعض؟


ماسة، بعصبية: بالظبط كده، وإنت عملت إيه؟


سليم، بنبرة مؤلمة بإعتراف:

غلطت يا ماسة، واعتذرت لكِ، وإنتي ماقبلتيش واستمريتي في عندك وغضبك، إنتِ كمان غلطتي. دقيقة زي عشرة، المبدأ مرفوض، وإنتِ عارفة إني بغير عليكي، لما الموضوع يوصل للنقطة دي، أنا ببقى معمي.. وبعدين خلاص اعترفت إني اتعاملت مع الموقف مش بشكل سليم، ليه بقى كل إللي إنتِ بتعمليه ده؟ تروحي عند أهلك، وأتصل بيكِ علشان تيجي، ترفضي، وتكبري  المشكلة دي؟


تساءل بنظرة عاتبة:

مش إنتِ وعدتيني إني لما اكلمك، هاتردي، وهتسمعي الكلام؟ قلتِ لي "إنت اهدى، كلمني... ومن يومها ماددلك إيدي، لكن إنتِ مش شايفة ولا سامعة غير حاجة واحدة: إني شكيت فيكِ، أو استخدمت أسلوب رخيص في سؤالك. مش عايزة تصدقيني إن عشري من نفسه صور وقلت لكِ خلاص يا ستي، أنا غلطت واعتذرت. عدّي، بس إنتِ مش عايزة تعدي. شيطانك ماسكك.


ماسة، بصوت متهدج بعينين ترقرق بدموع:

عشان أنا تعبت يا سليم، إنت بقى ليك أسلوب صعب... مش قادرة أتحمله، مش قادرة أتحمل تهديداتك، حتى لو مش هاتتنفذ. بتحسسني إنك بتستعبدني، لو ماعملتش إللي عايزه، تقولي: مش عارف هعمل فيكي إيه، وهندمك، وتمنعني من الجامعة علشان إنت جوزي؟ وليك الكلمة عليّا؟ تمنعني من حاجة أنا بحبها، وإنت عارف إني بحبها؟ كنت عايزني أتعامل معاك إزاي بعد أسلوبك معايا آخر مرة؟ هنحط وشنا في وش بعض إزاي؟ هنام في حضنك إزاي؟ أنا واحدة جوزها، لما صحي من الغيبوبة، بقى واحد تاني. أنا بقى لي سنين بحاول أستوعبك، بس كل مادا بيزيد صعوبة.


سليم تنهد بتعب: والحل إيه؟ هي دي خلاص هتبقى حياتنا. 


مسحت ماسة وجهها بتعب توقفت أمامه، أجابت بهدوء وحب: أنا مش هقول لك نطلق علشان أنا بحبك رغم كل شيء.


قاطعها سليم بنبرة مستخفة موجوعة: طب والله كويس إنك لسة بتحبيني بعد كل إللي شايلاه في قلبك مني.


كملت ماسة بضعف: أيوه بحبك والله إنت حتة من قلبي يا سليم ، بس أنا تعبت. وأنا عند أهلي فكرت إننا لازم نبعد شوية عن بعض، يعني الحل الوحيد إني هروح عند أهلي، وإنت تقعد هنا، ونفكر في علاقتنا. نراجع الأسباب ليه وصلنا لكده؟ كل حاجة بينا بخناق؟ ليه كل حاجة لما أعملها غلط، وماتعجبكش؟ تقسى عليّا وتقول لي "مش عارف هعمل فيكي إيه". هندمك. مافيش خروج من باب القصر، كأني جارية عندك؟ مش مراتك، حبيبتك؟ إنت لازم تفكر في أسلوبك وتغيره. مافيش راجل بيهدد مراته ويستبدها كده زيك، وأنا كمان لازم أبطل عصبية وعناد، وأتكلم معاك بهدوء،  مشكلتك يا سليم إنك مش قادر تستوعب إن أنا كبرت. إنت اتجوزتني بنت صغيرة هبلة وعبيطة وبتخاف، بس  أنا كبرت وفهمت واتعلمت كتير على إيدك وبقيت بأرفض حاجات كان ممكن أتقبلها زمان.


ضحك سليم ضحكة مقهورة: كبرتِ فعلاً، بس بعد ماكبرتي، وخليت عندك شخصية قوية وفاهمة الدنيا، طلعتيهم عليا أنا حبيبك. 


هزت ماسة رأسها باعتراض: لا، يا سليم، الحكاية مش كده مستحيل أكبر عليك، إنت إللي لسة شايفني ماسة البنوتة الصغيرة إللي كبرت على إيدك، لسه بتتعامل معايا من المنطلق ده، فإنت لازم تواكب التغييرات دي، طبيعي لازم أتغير في حاجات كتير ، وبعدين إنت إللي ليك الفضل وساهمت في التغيير ده، يعني إنت السبب. إنت إللي خليتني أطلع من القوقعة إللي كنت فيها. تربيتك،  بتلومني ليه؟ أنا ماغلطتش.، أنا برفض طريقتك، وإنت عارف من جواك إن الطريقة دي غلط.


سليم بتوضيح: إنتِ مش فاهمة. المشكلة مش فيكِي المشكلة إنك ماقدرتِيش تفهميني.


ماسة محاولة إقناعه بهدوء: طب ما أنا عمالة أقول لك أهو ياسليم المشكلة إن إحنا مابقيناش نعرف نتناقش كل حاجة بينا بقت عصبية، إنت بتهدد وأنا بعاندك، ودي مش حياة، وإحنا بقينا كده لإننا موجوعين العاطفة مسيطرة.


سليم، بترقب: والحل!! 


ماسة، بعزم: الحل الوحيد إني هروح عند أهلي، وإنت تقعد هنا، نراجع علاقتنا، ونشوف الطريق إللي هنسلكه.


سليم: ولو ماوصلناش لحل بعد ما كل واحد يبعد عن التاني؟


ماسة، بإبتسامة محبة وبيقين: هانوصل، يا سليم. إحنا بنحب بعض، هانوصل. ولو ماوصلناش، هانعيد التفكير، تاني وعاشر وألف. ولا إنت عايز تطلق؟


سليم، بحسم: بطلي هبل، أكتر واحدة عارفة إني مستحيل أعمل كده ولا حتى أقدر أنطقها


تبسمت ماسة، بعزم: خلاص، يبقى مافيش غير الحل ده. 


هز سليم رأسه بغضب: لا طبعاً الحل بتاعك مش مقبول، ومش هيتنفذ. مفيش خروج من القصر، البعد بيعمل جفاء وبيعقد العلاقة أكتر.


ماسة بهدوء: سليم، لو سمحت.


قاطعها سليم، بشدة: مافيش لو سمحتي، مافيش خروج بره القصر، لو عايزة تفكري في علاقتنا وكل الكلام ده؟ أنا ماعنديش مانع فيه، بس هنا جنبي في بيتك، وأنا أوعدك إني هحافظ على مساحتك الشخصية مش هدخل الأوضة، أنا هبقى قاعد في الأوضة الثانية، لحد ماتجيلي بنفسك وتقولي لي خلاص يا سليم،  غير كده أنسي.


ماسة باعتراض: ده مش حل يا سليم. أصله هو مش عند وكلامك لازم يتنفذ وخلاص، لازم نكون واقعيين. الحل هو إننا نبعد شوية عن بعض ونفكر في علاقتنا.إنت مش مستوعب إزاي الأمور تغيرت بعدين جفا إيه؟! ده إحنا في البعد هانشتاق لبعض، وهانعرف قيمة بعض هانرجع متربيين.


هز سليم بعدم اقتناع ورفض: مافيش خروج من هنا، ده قرار نهائي.


ماسة: هو مين إللي بيقرّر؟ مش لازم نمشي في طريق واحد، خلينا نفكر مع بعض فهمني رفضك.


سليم بشدة: ماسة؟


ماسة متعجبة قالت باستهجان: ماسة إيه بس، إنت بتعنّد ليه؟ فهمني، بقولك فهمني أسباب رفضك؟!

ولا إنت عايز تمشي كلامك وبس،، ولازم أوامرك تتنفذ، إنت إللي عايز ترسم الدايرة وأمشي على خطاك. ولو خرجت بره الدايرة أبقى مجنونة. 


سليم مفسرا: مش علشان أمشي أوامري، لإن هو ده الصح، ماينفعش تسيبي بيتك، ماينفعش تبعدي عني بالأيام.


تنهدت ماسة اقتربت منه وهى تلمس صدره تحاول إقناعه: سليم يا حبيبي، أنا بفهمك، لو عايز العلاقة دي تستمر، وجوازنا ده يستمر. سيبني أروح عند أهلي، أنا بجد مخنوقة مش قادرة. 


سليم برفض لا يتقبل النقاش: أنا قلت لا؟ مافيش خروج من هنا مش عايز كلام كتير ولا مناقشة...

وبعدين هتروحي عند أهلك ازاي؟ مش أهلك دول إللي هايقولوا لك إنتي قليلة الأصل؟ إزاي ماتستحمليش جوزك؟ إزاي أنانية كده؟ ماتنسيش نفسك! إنتِ إللي لسة معترفة بالكلام ده. إللي أنا أصلاً أول مرة أسمعه!


ماسة: هقول لهم إن أنت مسافر علشان مسمعش كلامهم.


سليم بحسم: وأنا قلت لا؟ يعني لا مش هاتسيبى بيتك، ولا هاتبعدي عني، مش هاينفع تبعدي عني يا ماسة قولتلك هنام في مكان تاني مش هخليكي تشوفيني خلاص بقى، ومش عايز كلام كتير.


تحرك سليم للخارج دون أن ينطق،


نظرت ماسة لآثارة بحزن: والله العظيم، إنت إللي بإيدك عمال تكتب نهايتنا، مش أنا.


في اليوم التالي،

لم يذهب سليم إلى المجموعة، بل قصد أحد المقاهي البعيدة، وجلس إلى طاولةٍ شاردًا، مختنقًا، يشعر بالوحدة، ويفكّر في كل كلمة قالتها ماسة.

أما ماسة، فقد بقيت في القصر تشعر بالوجع والألم، لكنها كانت تفكّر فيه وتتألّم لأجله.سألت سحر إن كان سليم قد تناول دواءه، وتناول طعامه، وهل عاد من المجموعة أم لا.كانت تفكّر فيه رغم الهدنة التي طلبتها

💞______________بقلمي_ليلةعادل(⁠◔⁠‿⁠◔⁠)⁩


الصالون، الثانية مساءً


توقفت "ماسة" عند مدخل الصالون، تُحدّق بدهشةٍ وسعادة في وجه صديقتها "كارمن" التي كانت واقفةً تبتسم لها.

اندفعت نحوها وفتحت ذراعيها بسرعة، ضمّتها بقوّة وكتمت شهقةً صغيرة وهي تضغط على جسدها.


ماسة بترحيب حار: كارمن! يا نهار أبيض، يا بنتي، وحشتيني أوي!


ضحكت كارمن وردّت الحضن: وإنتي أكتر...أبعدتها قليلا أمعنت في ملامحها،:إنتي شكلك تعبانة.


حاولت ماسة أن تبتسم، وسحبتها من يدها: تعالي، تعالي أقعدي...


جلست بجوارها على الأريكة، تحاول أن تبدو طبيعية، أن تضحك كما اعتادت، لكن عينيها كانت باهتة، وابتسامتها نصف مكسورة.


مالت كارمن عليها بقلق: طمنيني عليكي... مالك؟


ماسة بصوتٍ خافض: الحمد لله... كويسة، طمنيني إنتي، أخبارك إيه؟ وإيه المفاجأة الحلوة دي؟


ضحكت كارمن بمزاح خفيفة: لقيتك عاملة لنا فيها ست الشبح... قلت أجي أشوفك. إيه؟ سليم حصل له حاجة؟ مش عايزك تخرجي؟ 


هزّت ماسة رأسها بسرعة، وصوتها كان خافتًا، والله خالص... علشان الامتحانات... بذاكر.


لكن وجهها كان يعكس خلاف ماتقول.


شبكت كارمن حاجبيها، مالت عليها أكثر، ولمست يدها بلطف: مالك يا بنتي؟ إيه إللي مزعلك كده؟


صمتت ماسة، ونظرت أمامها كأنها تجمع شجاعتها...

امتلأت عيناها بالدموع، ابتلعت تلك الغصة التي تشكلت في حلقها، كانت في أمس الحاجة لكي تحكي، لكي تخرج ضجيج قلبها. أخرجت أنفاسًا ساخنة وبدأت تحكي.


استمعت لها كارمن وهي تمسك يديها الاثنتين، ملامحها مشدودة، وعيناها مركّزة، حتى انتهت ماسة من حديثها.


كارمن تنهدت وقالت بحكمة: بصراحة؟ ومن غير زعل، حاسة إنك بالغتي شوية. سليم بيحبك وبيخاف عليكي، ومن ساعة مافاق وهو دايماً جنبك، وإنه يعترف بأخطائه ويعتذر حاجة مش قليلة يا ماسة، لكن التهديدات دي حاجة مش طبيعية. إنتوا لسة كنتم مع بعض، واتفقتم، لكنه ماقدرش يسيطر،  يبقى فيه حاجة غلط. فعلاً لو كل واحد فيكم بَعِد شوية، حياتكم هاتكون أفضل. لازم تفكروا بهدوء، لإنكم بتحبوا بعض. هو شايف إيه؟ ليه رافض؟ إيه هي وجهة نظره.


ماسة بمرارة، ونبرة مكسورة: وجهة نظره! مش هاتمشي ومش هاتبعدي عني.


كارمن بتحليلٍ: يمكن يكون خايف.


رفعت ماسة حاجبها متعجبة: خايف؟


كارمن موضحة: آه... خايف تمشي وماترجعيش، تمشي وتاخدي على طعم الحرية، تتعودي على غيابه... تعيشي من غيره، وهو كمان يمكن مايعرفش يعيش من غيرك.

هو بيحبك أوي... عايزك تفكري وإنتي جنبه، مش وإنتي بعيد عنه.. وكل ده نابع من محبة كبيرة ليكي في قلبه، وخوف من فقدانك، بس أحيانًا التفكير الرومانسي والحب ده ماينفعش  خصوصًا لو وصلتوا للمرحلة إللي إنتم بقيتوا فيها، لازم العقل يتحكم مش العاطفة أبدًا، ويشوف الدنيا من زاوية تانية.


ماسة تنهدت بتعب: قلت كل ده والله قلت؟ طب يا كارمن... أعمل إيه؟

أكملت بوجع فاض بقلبها:

إمبارح نام في أوضة تانية، وماشفناش بعض النهاردة خالص...بس أنا فعلًا تعبانة. أنا عايزة أمشي من هنا.

أنا مش مرتاحة هنا مش علشان سليم والله، إللي هنا كمان مزعجين...


بعين ذائعة ونبرة مليئة بالحب:

كمان الصراحة، طول ما أنا هنا وأنا متأكدة إن هو هنا، في حاجة بلاقيها بتشدني ليه زي المغناطيس، بلاقي نفسي بسأل أكل ولا ماكلش، وصل المجموعة ولا ماوصلش، أخد دواه ولا لسة، متغطي ولا لا، عامل إيه؟ بيعمل إيه؟ شايفاه قدام عيني ومش عارفة أكلمه، يا نهار أبيض، إزاي يكون بيني وبينه أوضة ومش بنتكلم؟! علشان كده أنا عايزة أمشي، طول ما أنا هنا هفضل مشوشة. بس هو مش قادر يفهم ده، أنا قلت له يا سليم أنا مش عايزة أطلق خلاص، لما كنت بقولها كانت في لحظة غضب. خلينا نبعد فترة نعيد تفكيرنا، نظبط حياتنا وعلاقتنا. بس هو مافيش.


كارمن تساءلت: طب إنتِ أصلاً هاتروحي فين؟


ماسة بقلب حائر: عند أهلي... بس والله حتى هناك مش هبقى مرتاحة، ماما فظيعة! بتموت في حاجة اسمها سليم. متهيألي لو شافته بيدبحني، هاتكذّب عينيها. وهتفضل تسألني كل ده سليم مسافر؟! مش بيكلمك ليه؟ زعلانين؟! ومش هخلص.

ولو فكرت أقول لها، يا نهار أبيض، أقسم بالله تضربني، وأصلاً أوبشن إني أروح في حتة تانية؟ مستحيل.


كارمن بحماسٍ مفاجئ: بقول لك إيه... تيجي تقعدي عندي؟ أنا جوزي مسافر وقاعدة لوحدي، تعالي.


ضحكت ماسة بمرارة، ورفعت يدها باستسلام:

مش هيوافق... والله لو اتنططت، مش هايوافق.

بقول لك مش موافق أروح عند أهلي. هيخليني أروح عند حد تاني؟!


كارمن بشقاوةٍ خفيفة: لا، ما هو إنتِ أصلًا مش هاتقولي له.


ضيقت ماسة، عينيها بتعجب شديد: يعني إيه مش هقول له؟


كارمن بجديّة، ضغطت على الكلام: يعني تخرجي... ماتقوليش له. أستني يوم يكون في الشغل، عارفة إنه راجع متأخر. قولي له هروح الصيدلية، هشتري حاجات خاصة، هاتخشي الصيدلية وحاولي تزوغي من الحراس. أو أدخلي محل ملابس، وغيري لبسك، وحاولي تخفي شكلك. أو ألبسي نقاب، لا من شاف ولا من دري، وتركبي أي عربية توديكي الموقف وتركبي من هناك الهرم.: اتلحلحي شوية يا ماما، وتعلمي وتجرأي، أمال مرات سليم، الراوي، إزاي؟


كانت ماسة مركّزة معها، وقلبها يخفق بقوة، حركتها صارت أقل، لكن عينيها امتلأتا بالخوف.


ثم قالت ماسة بصوتٍ واطي ومتهدّج:

إنتِ أكيد بتهزّري... عايزاني أعمل كده مع سليم؟ أنا خايفة يكون سامعني وإحنا بنتكلم. مستحيل يابنتي... إنتِ بتهزّري؟

نظرت إلى يدها، ولمست الإسورة في صمت،:

يا بنتي... ملبّسني إسورة فيها جاهز تتبُّع.

ومابعرفش أخرج من باب القصر إلا بأمر منه.


كارمن بنظرةٍ سريعةٍ حاسمة: استني... هفهمك هاتعملي إيه هاتروحي.

عند البوابة... قريبة من مكي...إنتِ قلتي إنه جدع ولطيف، اتصلي بسليم تطلبي منه تروحي تشتري حاجات من الصيدلية، لو وافق يبقى خير، لو رفض، إنتِ شدي معاه في التليفون هو هيسمعكم وهيتدخل. هيتكلم هو معاه وهيوافق.


هزّت ماسة رأسها، وضحكت ضحكةً شبه باكية:

إيه جو الأفلام والأكشن ده؟ يا نهار إسود... سليم لو عرف؟ ولو وصل لي... هيموتني.. أقسم بالله ماهشوف الشارع تاني في حياتي. هو مش لو .. هو هيوصل لي أكيد.


بنبرة ضعيفة مترددة بها عقلانية: بعدين. أي راجل في الدنيا لو اتعملت معاه حركة زي دي مش هايبقى طبيعي يا كارمن. لما أرجع مش هيسامح، ويغفر. الصراحة هيبقى له حق مايثقش فيا تاني، لأن ممكن يفتكر إني اتخطفت من العصابة إللي حاولوا يقتلونا قبل كده... حتى لو هلعب على حبل إنت إللي وصلتنا لكدة بردو هيزعل وهيضيع حقي..لا، لا يا شيخة، شوفي لنا فكرة تانية.


كارمن بهدوء، وفي نبرتها استفزاز بسيط: خلاص... خليكي كدة لإن مافيش حل تاني إنك تمشي.


مرّت لحظة صمت، ثم همست ماسة، وسكون ثقيل يعلو صوتها: أنا مش قادرة بجد،  تعبانة أوي، بصي، خليني أحاول معاه تاني، لو رفض... أكيد فيه حل غير الهروب بالطريقة إللي إنتِ قلتِي عليها.


مدّت كارمن يدها نحوها وربّتت عليها بلطف: عموماً. إنتي مش لوحدك... أنا معاكي للآخر


مكتب عزت الثامنة مساءً 


كان سليم جالسًا في مكتبه داخل القصر، ينظر في أوراق مبعثرة أمامه، وجهه شاحب، وذهنه غارق في مكان بعيد. دخل عزت، بخطوات ثقيلة، جلس أمامه بصمت للحظات، ثم قال بصوت هادئ ولكن حازم:


عزت: إنت إزاي خسرت المزاد؟


سليم ببرود: في شركة عرضت مبلغ أكبر، بعدين خسرته إيه المشكلة. 


عزت: بس أنا إللي عرفته إنك ماكنتش مركز… أنا سألتك قبل ماتسافر؟


تنهد سليم وقال بلامبالاه: وخسرت… أعمل إيه يعني؟


رفع عزت حاجبيه وقال بنبرة فيها عتاب: ده مش أسلوب، يعني إيه أعمل إيه؟ هو أنا مطلوب مني أوافق وأعدي الخسارة بسهولة، إنت مش أول مره تخسرنا،  لسة من كم يوم كان فيه مناقصة ضاعت علينا؟ ماتقوليش أنا غيري عمل وخسرك، إنت مش زيهم يا سليم


ثم أكمل، وصوته يتغير من الغضب إلى الحزن: وأوعى تفتكر إني زعلان على الفلوس… أنا خسرت أكتر منهم، حاجات أهم بكتير. أنا زعلان عليك.


سكت للحظة ثم قال بحنان وحكمة:

ده مش حل … إنت لازم تفوق، وتركّز، وتحل مشاكلك مع مراتك، لو مش قادر دلوقتي، خد لك إجازة. كده ماينفعش… دي لا حياة ولا طريقة يا ابني الموضوع مالهوش علاقة بالقوة ولا بفرض السيطرة. أنا عارف إنك قوي… بس مش عايز سليم إللي معروف عنه العقل والاتزان، يهتز بسبب مشكلة بسيطة مع مراته. علاقتك بيها هي الأهم فاهم ده… وهي إللي محتاجة تركيزك دلوقتي، علشان تقدر تستعيد توازنك علشان كده بقول لك حل مشاكلك مع مراتك وبعدين ركز في الشغل، خلي ياسين دلوقتي ياخد مكانك لو موافق.


 كان سليم يسمعه بصمت، لا يعرف بماذا يرد، كل ما قاله عزت كان يلامس شيئًا في داخله. فعلاً، مشاكله مع ماسة كانت تمزقه من الداخل وتجعله غير متزن، ولا يستطيع التركيز في عمله، مسح وجهه بكفّه، وتمتم بصوت خافت:


سليم بهدوء: أنا مش عايز أتكلم… بس أوعدك، هركّز.

دي آخر مرة، مش هخلي مشاكلي مع ماسة تخليني مركزش في الشغل.


نظر عزت إليه مطولاً، ثم قال بنبرة جادة: هقولك نصيحة: أوعى تخلّي حد يعرف نقطة ضعفك دي. لأن صدقني… هينهوك منها. خلافات بسيطة مع مراتك خلتك تخسر مشروعين في أقل من أسبوعين! ولو أعداءك عرفوا… هايستغلوا ده للنهاية.


أقترب منه أكثر، وحدّق في عينيه:

وأعدائك مش بعيد عنك، دول حواليك وأقرب من طرفة العين…حاول تفوق يا سليم إنت سليم الراوي أوعى تنسى ده إنت ملك الامبراطورية دي.


هز سليم رأسه بالإيجاب، ونهض بصمت، ثم خرج متجهاً نحو الدرج.


ظل عزت في مكانه، ينظر إلى أثره بحزن، يحمل في عينيه ألم الأب الذي يرى ابنه يضيع أمامه ولا يستطيع مساعدته.


جناح سليم وماسة 


كانت الغرفة ساكنة، إلا من صوت أنفاسها الثقيلة. جلست ماسة على الفراش، قدماها مطويتان أمامها، وذراعاها تحتضن ركبتيها كأنها تلوذ بنفسها من العالم. شاردة، تائهة في أفكارها، وعيناها متعبتان كأن النوم جفاها منذ زمن .


فتح الباب بهدوء، ودخل سليم. وقف عند العتبة لحظة، ينظر إليها. لم تتكلم.. فقط رفعت عينيها ببطء، تتأمل ملامحه المتعبة، التي لم تعهدها عليه. كان مرهقًا، روحه قبل جسده، كأن شيئًا أثقل من الجبال يسكنه.


اقترب بخطوات بطيئة، جلس أمامها على الأرض، جذب ساقيها نحوه، ومد ذراعيه فاحتضنهما، ثم أسند رأسه على فخذيها، كطفل ضائع عاد إلى حضن أمه بعد طول غياب. كانت يده ترتجف وهو يضعها على بطنها، وكأن قلبه يحتمي بها.


مدت يدها ببطء، وضعتها على شعره، تمررها بلطف فوق رأسه، تنظر إليه بشفقة وألم: مالك يا سليم؟


سليم بصوت منخفض، مبحوح، كأن الكلمات ثقيلة على لسانه: مخنوق… وتعبان.


ابتلعت ماسة دموعها، وهمست: إيه إللي حصل؟


سليم بصوت منكسر: خسرت… خسرت المزاد.


صمتت ماسة قليلًا، ثم قالت وهي تسترجع ما سمعته: ده المزاد بتاع السويس؟


أومأ برأسه بحزن: اممم، مزاد السويس… أنا تعبان، ومشتت. المشاكل إللي بيني وبينك مش مخلّياني عارف أركز...

بسمع صوتك جوا دماغي… وإنتي بتزعقي، وإنتي بتعنّدي، وإنتي متعصبة وموجوعة…وأنا متضايق أوي. متعصب وموجوع على إللي وصلنا له.


ماسة بهدوء: طب… ما أنا عرفتك… هنعمل إيه؟


سليم بضعف: أنا مش هينفع أسيبك تمشي. أنا بحبك.


ماسة وهي تبكي: وأنا كمان بحبك… بس

صمتت للحظة قالت برجاء وحب:

بس علشان نحافظ على حبنا… لازم أمشي ده الصح.


قاطعها سليم وهو يجلس جانبها فجاه، يمسك يدها بحب وضعف يخرج من عينه: لا… مش هاتمشي، أنا مش هقدر أعيش من غيرك…حتى لو لفترة. أنا محتاج ليكي أنا بحبك يا ماسة بحبك مقدرش أبعد عنك لو لثانية واحدة.


تك على يدها بين يديه وركز النظر داخل عينيها:

بصي… عديها، المرة دي. وأوعدك… مش ههددك تاني، وهتغير، بس ماتمشيش يا ماسة، وحتى لو اتعصبتي، وعاندتيني… مش ههددك… بس ماتسبنيش..ماتسبنيش يا ماسة وتوجعي قلبي إزاي بتطلبي مني طلب زي ده إزاي لو إنتي هاتقدري أنا والله لا.


ماسة بصوت مكسور: سليم…أنا والله بحبك، بس أنا تعبانة أوي. والله ده لصالحنا.


هز سليم رأسه رافضًا: لا… مش لصالحنا.


ماسة تحاول إقناعه: والله لصالحنا… هرجع بعد يومين، كأنك مسافر ..

وضعت يدها على خده بحنان وهي تركز النظر داخل عينه برجاء:

إحنا علاقتنا بقت مشوشة من فترة، أنا تعبانة، قلبي وجعني، محتاجة أهدى وأفكر صح، طول ما إنت جنبي أنا مش قادرة أفكر، لإني مش بفكر غير فيك عامل إيه أكل شرب شايفك قدامي ومش عارفة أكلمك، لكن لما تبقى بعيد هقدر وأنا فهمت ده لما كنت عند ماما لما كنت مسافر ماكنتش مشتتة،، والله هرجع بس إنت لو فضلت رافض ده  كل يوم الفجوة بنا هتزيد.


نظر لها سليم طويلًا، بعينين غارقتين في الحزن بوجع فطر قلبه شعر وكأنها لا تحبه لا تريده ، كل ما قاله لها من ثواني لم يحركها رجاءه، نظراته، حبه ووعده قالها بنبرة مكسورة مليئه بالخذلان:

يعني بقولك محتاجلك… ومصممة تمشي؟ خلاص… عنادك للدرجة دي؟


ماسة بألم: والله ما عناد… بس تعبانة يا سليم.


سألها سليم بلهفة:  تعبانة من إيه يا قلب سليم؟ فهميني.


ماسة بصوت خافت:من كل حاجة…حاسة إني محتاجة أبعد عن كل البشر، حتى أهلي…وديني في فيلتنا… وسبني قاعدة هناك لوحدي، الحراس وبس...ماتقولش لحد… يومين بس… وحياتي عندك يا سليم وافق.


لم يرد، فقط نهض ببطء، وخرج من الغرفة دون أن ينظر خلفه.ظلت ماسة تنظر إلى أثره، تتمنى لو تستطيع ضمه مرة أخرى، لكنه اختفى في صمته أخذت تبكي بصمت عصف قلبها.


بينما دخل سليم غرفته، مختنق من الألم، عيناه دامعتان، اقترب من الحائط، وبدأ يضربه بيده، مرة تلو الأخرى، وهو يصرخ ببحة رجولية ممزوجة بالقهر:

آه… آه… آه.

وكأن كل ضربة تخرج من قلبه  الذي يشعر أنه يعتصر من الألم بداخلي.


جناح ماسة وسليم، الرابعة مساءً


كانت ماسة تتحرك في الغرفة جيئة وذهابًا، الحيرة تملأ عينيها، والتعب مرسوم على وجهها. كانت تستعيد في ذاكرتها حديثهما الأخير ليلة البارحة... لا يزال صوته يتردد في أذنيها: مش هاتروحي في حتة. مش هاتمشي. 


مررت يدها على عنقها وكأنها تختنق، ثم قالت لنفسها:


أنا بجد دماغي هاتنفجر... أنا مش قادرة. مش قادر يفهم إن إحنا خلاص هننفجر في وش بعض قريب لو فضلت هنا. هو شكله مافيش فايدة... هو ده الحل الوحيد.


أمسكت بهاتفها واتصلت بـ"كارمن".


ماسة: أنا موافقة، هنمشي على الخطة.


رد صوت كارمن من الجهة الأخرى، بنبرة متحمسة:

طب اسمعيني بقى، عندي خطة أحسن. لحد البوابة كله هايتم زي ما قلنا، بس من أول الصيدلية هانبدّل. قوليلي، سليم هيكون في الشغل؟


ماسة: آه، عنده شغل النهاردة وراجع متأخر.


كارمن:  طب حلو أوي، اسمعيني بقى كويس..



       الفصل الثامن والستون ج1 من هنا


      لقراءة جميع فصول الرواية من هنا 

تعليقات