رواية الماسة المكسورة الفصل السبعون 70 ج2 بقلم ليله عادل

رواية الماسة المكسورة

الفصل السبعون 70 ج2 

بقلم ليله عادل 


ضحك مكي دون تعليق

أخذ يعلمها ضرب النار لبعض الوقت مع تبادل الضحك والمزاح ..بعدما أنهيا تدريبها على الرماية ، توجه بها إلى مكان آخر. حيث وجدت سلوى نفسها أمام مطعم على النيل


أحد المطاعم الفاخرة على النيل.


بدا هادئًا تمامًا، ولا توجد سوى طاولة واحدة مجهزة خصيصًا، تتوسطها شموع و ورود مع موسيقى هادئة.


نظرت إليه بطرف عينها مبتسمة: إيه ده؟


نظر لها مكي بحب: أنا عارف إنك بتحبي الحاجات دي، فـ مقدرش أشوف حبيبة قلبي نفسها في حاجة وماحققهاش. أنا قضيت عيد ميلادك بالطريقة إللي بحبها، ودلوقتي جه وقتك. مدّ يده وقرص خدها بحنان.


سلوى بسعادة: والله نفسي أحضنك بس مش هاينفع.


ضحك مكي، ثم أمسك يدها وساعدها على الجلوس: بتهيألي بقى كده أحلى عيد ميلاد، صح؟


سلوى: والله الأتنين أحلى من بعض.


ابتسم وأخرج من جيبه علبة مستطيلة: كل سنة وإنتي طيبة كل سنة وإنتي منورة حياتي.


فرحت بشدة وأخذت العلبة منه، فتحتها لتجد بداخلها سوارًا ذهبيًا عليه حرفها.


سلوى: الله! حلو أوي! ميرسي 


مكي وهو يلبسها السوار: على فكرة، أنا استأذنت عمي مجاهد بالعافية، وقعدت أتحايل عليه ساعة! واستغليت سعدية وسليم علشان يقنعوه، أختك اتخلت عني قالتلي وأنا مالي وقفلت السكة في وشي 


سلوى ضحكت: بجد معلش بكرة هروحلها وأفهم مالها مش بالعادة تطول في الزعل.


مكي: عادي مازعلتش، بس حقيقي أبوكِ صعب أوي! شفتي بقى لو كنتِ مراتي رسمي، ماكانش حد هيتكلم؟


سلوى ضحكت: برده لا!


مكي تبسم:  ماشي يا عنيدة .. طيب نطلب الأكل دلوقتي؟


سلوى: ماشي.


وفعلاً، طلبا الطعام وبدءا في تناوله، تبادلا الأحاديث الخفيفة كانت سلوى تتحدث بحماس، بينما مكي يستمع إليها بإبتسامة راضية. بعد فترة، انطلقت أغنية رومانسية هادئة في المكان، فتوقف مكي عن الأكل ونظر إليها بمكر.


مكي بابتسامة: إيه رأيك نرقص مع بعض؟


نظرت إليه بتردد، ثم زفرت سلوى قائلة بتوجس: مش عارفة يا مكي...!


مكي مشجعًا: يلا بلاش دلع، يلا خلينا نعيش الأجواء بشكل كامل.


ترددت للحظات، ثم نهضت ببطء ومدت يدها نحوه. أمسك بيدها برفق، وقادها إلى منتصف المكان.


تشابكت أصابعهما وتمايلا على أنغام الموسيقى في تناغم هادئ، يملؤه جو من الرومانسية والمرح، خاصة حين تعثرت سلوى فضحك مكي وهو يساندها برفق.


مكي بمزاح: إيه ده يا ستي! هو إحنا بنرقص ولا بنتمرن على الباركور؟


سلوى بضحكة خفيفة: أنا مش متعودة على الرقص، ما إنت عارف. 


مكي وهو يغمز لها: ولا يهمك، معايا هتتعلمي كل حاجة!


ظلّا على هذا الحال لبعض الوقت، يرقصان بهدوء، يتبادلان النظرات المليئة بالحب حتى أنتهت الموسيقى.


لم يكن مكي بطبيعته رجلًا رومانسيًا، لكنه حاول قدر استطاعته أن يجعلها سعيدة بطريقتها. وبالفعل، تمكنا من قضاء وقت جميل معًا، بسيط لكنه مليء بلحظات خاصة بينهما.


عندما ذهب كل منهما إلى بيته، قضيا طول الليل يتحدثان في هاتفيهما بحب وعشق، ليتوجا تلك الليلة. لا يعرفان أنها ستكون آخر ليلة لهما معًا. وماذا يخبئ لهما الغد؟


💞__________________بقلمي_ليلةعادل ◉⁠‿⁠◉


قصر الراوي السابعة صباحا


جناح سليم وماسة 


قبل أن يتوجه سليم إلى المجموعة، مرّ أولًا على جناحه هو وماسة  ليطمئن عليها. وجدها غارقة في سباتٍ عميق فوق الأريكة، وكأنها لم تذق طعم النوم منذ سنوات. ملامحها مرهقة، وجهها شاحب، وحزين، وتلك الدموع التي تنساب من جفونها المغلقة دون إرادة… جعلتها تبدو كملاكٍ مكسورٍ يئن في صمت.


هي لم تنم بإرادتها، بل التعب قد تغلّب عليها. يومان من السهر والإنهيار النفسي كانا كفيلين بأن يسقطاها فوق الفراش فجأة، لتغفو دون أن تشعر.


اقترب منها سليم ببطء، ودقق النظر في ملامحها التي لم تعد كما يعرفها. لم يكن يفهم ما الذي يحدث لها، وما الذي أصابها بهذا الشكل. تنهد بتعب، لكن ما أثار دهشته تلك الدموع التي تتساقط رغم نومها. مدّ يده، ولمس دموعها بهدوء وقبّلها، ثم مسح على وجهها بلطفٍ وحبٍ لثوانٍ. أحكم الغطاء فوق جسدها المنهك، وطبع قبلة صغيرة على جبينها، قبل أن يتركها ويغادر في صمت.


استيقظت بعد وقتٍ لا تدري كم مرّ عليها، لتجد نفسها على الأريكة، والغطاء يغمرها. فهمت على الفور أن سليم هو من غطاها، وأدركت أن النوم غلبها غصبًا عنها. لم يكن هناك ما يريحها، لكن الجسد قرر أن يسقط ولو قليلًا.


كانت تشعر وكأن قلبها لم يعد ينبض، بل ينبّهها فقط إلى أنها ما زالت على قيد الحياة… رغم أنها تتمنى لو لم تكن كذلك. 


ظهرها يؤلمها وكأنها تعرضت لضربٍ مبرحٍ بسوطٍ من جنزير، رأسها يكاد ينفجر من الصداع، قلبها يتألم بصمتٍ يفتك بها. لم يكن في جسدها موضعٌ إلا ويصرخ من الوجع والغليان. ملامحها لم تعد لفتاةٍ في ريعان العمر، بل لإمرأةٍ في التسعين أثقلها الحزن وأكل الخوف قلبها. لو أستمر الحال يومين آخرين، لتحوّل شعرها إلى الأبيض، فما مرت به كافيًا لتحطيم كل أعوامها .


مرت أمام المرآة بالصدفة، فكدت لا تعرف انعكاسها. من هذه؟ لم تكن ماسة… بل ظلّت إمرأة لا تعرفها يومًا.


الصمت من حولها لم يكن هدوءًا، بل صدى صراخها الداخلي الذي لا يسمعه أحد.


تناولت هاتفها واتصلت بسلوى، تطلب منها أن تأتي. كانت تريد الحديث معها… تريد أن تقنعها بالابتعاد عن مكي. لكن سلوى أجابتها بأنها ستتناول فطورها وتأتي بعدها مباشرة. ثم دخلت غرفة الملابس، فتحت درج الملابس الداخلية تبحث عن الهاتف الذي أعطاه لها رشدي. لعلّه ترك رسالة… أو حاول الإتصال. لكنها لم تجد شيئًا..وضعته في جيب البيجاما على الوضع الصامت.


خرجت بهدوء من غرفة الملابس وجلست فى الشرفة على الأرجوحة، بعد أن طلبت من سحر فنجان قهوة، وسألتها عن سليم. فأجابتها سحر بهدوء: سليم في المجموعة.


وظلت تجلس ماسة هكذا، تنتظر سلوى… حتى أتت.

    

جناح سليم وماسة الثانية مساءً 


كانت ماسة وسلوى تجلسان على الأريكة بجانب بعضهما. على الطاولة أمامهما كوبين من الشاي، وسلوى تحدق فيها بنظرة طويلة مليئة بالقلق.


مسكت سلوى إيديها: أنا عايزة أفهم مالك؟ بقالى ساعة بسألك مالك وبتقولي مافيش، وأنا مش مقتنعة ولا هقتنع.


ماسة بضيق: علشان مافيش.


سلوى بإصرار: لا، في... وأنا متأكدة إنه في.


تنهدت ماسة بمرارة: يا بنتي ما أنا قلت لك، موضوع إنه شاكك فيا، وكل شوية يهددني... طريقته معايا ضغطاني، عايزة أمشي وهو مش عايزني أمشي. مش عارفة أفكر، زهقت.


سلوى ما زالت تحدق بها، تشعر أن هناك ما تخفيه عنها. تعرف ماسة جيدًا، تعرف متى تكذب.


سلوى بنبرة حازمة: بقول لك إيه... لو هتكذبي على الدنيا كلها مش هتكدبي عليا. أنا سلوى، توأمتك، حتى لو ما اتولدناش في نفس اليوم.


شعرت ماسة بثقل على قلبها، ودموع تهدد بالإنهمار، لكنها قاومتها.


بصوت متهدج: سلوى... أنا مضغوطة... ودي أسبابي.


سلوى بحدة: ماسة، أسبابي إيه؟ إنتي مزوداها.


ماسة وهي تتك على كلمة: مزوداها.... 

تبسمت بوجع قالت: ماهو أنا علشان ماسمعش الكلمتين دول، أنا ساكتة.


سلوى بتأكيد: بس أنتي مزوداها والله..

تابعت بدهشة ورفض لفعلتها: 

وإللي إنتي عملتيه إنك تاخدي العربية وتكسري البوابة... ده مش شبهنا ولا طريقتنا وماكنتش مستاهلة تعملي كدة.


نظرت لها ماسة بجمود وحدة: لا، شبهنا وطريقتنا. سلوى، أنا بقالي تمن سنين عايشة في القصر ده، وتسع سنين إلا شهر متجوزة سليم. إللي أنا عملته طبيعي جدًا، وبالبساطة دي مع عائلة زي دي.


سلوى بإستغراب: بالبساطة دي؟


بعين لا ترمش أكدت ماسة: أيوه، بالبساطة دي. ودي الطريقة الوحيدة إللي كانت هتخليني أخرج. ماكنش عندي صبر لسة هكلمه وأتناقش معاه ويرفض.


سلوى شعرت أن ماسة تخفي شيئًا آخر. قالت برجاء: مش عارفة ليه، حاسة إن فيه حاجة تانية. أحكيلي.


ماسة تهربت: قوليلي إنتي عملتي إيه إمبارح مع مكي؟


سلوى تنهدت بتعب: مش عايزة تتكلمي يعني؟...طيب هعرف إزاي أخليكي تتكلمي. 


ثم تابعت وهي تبتسم بحب يخرج من عينيها:. بصي، قضينا وقت حلو أوي مع بعض. عمل لي مفاجأة...تخيلي اتخطفت طلع  مجنون! بعدين رحنا كافيه، وجاب لي هدية، الأنسيال ده... وعملي جو رومانسي ورقصنا، وقالي بحبك.. أنا بحبه أوي، يا ماسة... بيحاول يخليني مبسوطة، بيعمل كل إللي بحبه، حاساه سند ليا أوي، ربنا يخليه ليا يارب

بجد أنا ندمانة على كل لحظة رفضته فيها وتأخرت إني أرجعله، حقيقي كنت غبية مش عارفة لو كنت فضلت معاندة كان هيحصل إيه؟! كنت هتحرم من كل السعادة دي، أنا قلبي سعيد ، أول مرة أعرف معني كلمة إن قلبي سعيد ومطمن أوي.


كانت ماسة تستمع لها، والضيق يكتم صدرها. ترى شقيقتها تعيش نفس الأكذوبة مع شخص مزيف ولا تريد لها أن تعيش كما عاشت هي.


نظرت ماسة أمامها وقالت بنبرة هادئة لكنها حاسمة مليئة بالوجع: سلوى إنتي لازم تبعدي عن مكي وتنهى الخطوبة دي.


نظرت سلوى لها باستغراب شديد، صمتت للحظة:

 إيه إللي إنتي بتقوليه ده؟!


نظرت لها ماسة قائلة بنبرة حاده: أنا بقول لك الحقيقة بقولك إنك لازم تلغي الجوازة دي، صدقيني ده الأصلح ليكي.


سألتها سلوى بذهول: في إيه يا ماسة؟


جزت ماسة على اسنانها وهي تغمض عينيها فهي غير قادرة أن تصمت أكثر، وفي نفس ذات الوقت لا تريد أن تضع شقيقتها في مكان خطر. 


نظرت لها وقالت بنبرة مليئة بالأسى والحزن والغضب معا: في إن مكي ده طلع أسوأ حتى من سليم، ولو اتجوزتيه هاتعيشي معاه نفسي إللي أنا عايشاه، نفس المأساة، نفس الوجع، نفس الكذب، نفس الخداع، ده واحد مزيف، واحد كذاب، ب 100 وش، شايفة الحال إللي أنا عايشة فيه، إنتي كمان هتبقى عايشاه ويمكن أكتر كمان عشان هو دلدول سليم.


توقفت سلوى ونظرت لها بحدة قالت: ماسة خدي بالك على كلامك شوية!! فيه إيه؟


توقفت ماسة أمامها محاولة التوضيح: فيه إنك لازم تسمعيني كويس،، أنا بحبك وخايفة عليكي..


مسكت إيديها ودموعها تنهال على وجنتيها بوجع ورجاء وتوسل:

حبيبتي والله العظيم أنا بعمل كده علشان خايفة عليكي سيبي مكي.

أكملت بنبرة مليئة بالغل والضيق:

ولما تيجي تسيبيه أوعي تدي له مبرر، لازم توجعي قلبه علشان هو يستاهل ده، زي ما هو كذاب ومخادع ماتريحهوش خليه مايعرفش إنتي ليه حتى سبتيه وليه اتغيرتي.


كانت سلوى مصدومة لما تستمع له قالت بصعوبة: إيه القسوة إللي بقيتي فيها دي يا ماسة؟ 


ماسة بهدوء حزين أعطت لها ظهرها:مش لازم تفهمي دلوقتي


سلوى اعترضت بحدة: يعني إيه مش لازم أفهم؟ بتطلبي مني أسيب حبيبي وخطيبي إللي هيبقى جوزي كمان كام شهر! وعايزاني مافهمش..أنا لازم أفهم، بعدين يا ماسة إنتي حقيقي مزوداها وأنا أول مرة أبقى ضدك، سليم غلط، واعتذر خلاص، 

إنتي استحملتي وسامحتيه زمان على حاجات أكبر من كدة، على الأقل زمان ما كانش عنده مبررات لتصرفاته،  لكن دلوقتي عنده مبررات..وبعدين مكي ماله بسليم؟


تنهدت ماسة بتعب نظرت لها وأطرقت برأسها بضعف: فيه حاجات ماينفعش تتقال... بس لازم تسيبيه... 


نظرت داخل عينيها بقوة وحسم:

ولازم تفهمي إني مش هسمح للجوازة دي تتم، لو هادفع حياتي كلها التمن،مش هخليكي تعيشي نفس المأساة، مش هاتعيشي نفس مأساتي يا سلوى. 


نظرت إليها سلوى بإستغراب شديد، لم تكن تفهم ما بها، ولا ما يدور في عقلها، لكنها حاولت تهدئة الموقف. مدت يدها تضعها على خدها برفق علّها تطمئن وتلين.

طب فهميني... في إيه يا حبيبتي؟ قوليلي، أنا معاكي.


تقدّمت ماسة بخطوات متثاقلة، ملامحها شاحبة، ودموعها تهطل بلا توقف قالت وهي تُعطي لسلوى ظهرها، همست بصوت مكسور:

مش هعرف أقولك... والله ما هعرف... أرجوكي، بلاش تضغطي عليا.


لم تستوعب سلوى شيئًا، كانت مشاعرها مشوّشة، وقلبها يضرب بعنف، لا تدري ما الذي يحدث. ردّت بصوت يحمل الحزن والرفض معًا:

وأنا آسفة، مش هقدر أسيب الراجل إللي بحبه وأنا مش فاهمة حاجة!


اتسعت عينا ماسة، كأنها تلقت طعنة من أقرب الناس إليها. ألتفتت تنظر لها برجاء، تحاول أن تقنعها:

مش أنا توأمك؟! مش إنتي إللي دايمًا بتسمعيني؟ أكيد بعمل كدة لمصلحتك!


هزّت سلوى رأسها بعناد، صوتها يخرج بغضب دفين:

أفهم الأول! بعدها أقرر، لازم تفهمي إن إللي بتطلبيه مني ده مستحيل!


صرخت ماسة بقهر: مستحيل!!


ردّت سلوى بإنفعال أشد، ودموعها تلمع في عينيها:

آه، مستحيل! أنا بحبه! بحبه يا ماسة، إزاي تطلبي مني أسيبه؟ وعايزاني أوافقك كده بالساهل أبقى مجنونة! فهميني فيه إيه يا ماسة؟ اتكلمي! مالك؟ شايلة إيه في قلبك؟ قوليلي! أنا سلوى... أتكلمي بقى!


شعرت ماسة وكأن العالم يدور بها. عيناها تائهة، وأن هناك من يصفعها بقسوة على وجهها، مرة بعد أخرى. كانت تغرق في بحرٍ من الألم، بلا قرار، وكأن الأرض انسحبت من تحت قدميها. لا تريد أن تبوح، لا تريد أن تشارك أحدًا بما تعرف، حمايةً لمن تحب. لكنها، في ذات الوقت، تعرف أن سلوى محقة... فهي تطلب منها أن تبتعد عن حبيبها، دون أن تعطيها سببًا. وهذا ليس عدلًا.


هل تصمت؟ هل تتكلم؟ سيبقى الصمت خيانة، و البوح خطر. 

تنهدت بتعب شديد، وكأنها استنزفت آخر ذرة طاقة في صدرها، وجلست على الفراش. جسدها كان على وشك السقوط من شدة الوجع، ودموعها لا تتوقف، كأنها تنزف دون جرح ظاهر.


ماسة رفعت عينيها ببطئ بتردد: توعديني ماتقوليش لحد؟


جلست سلوى إلى جوارها بسرعة، وقلبها يتخبط كأن الطوفان قد اقترب: طبعًا أوعدك، وعد.


هزّت ماسة رأسها بنفي، عنادها ممزوج بألم شديد:

لا... مش كفاية. لازم تحلفي على المصحف.


نهضت سريعًا، فتحت درج الكومودينو، أخرجت منه مصحفًا صغيرًا، وسلوى تنظر لها بدهشة وصمت،تحاول أن تفهم.


عادت ماسة لتجلس، وقدّمت المصحف بيد مرتجفة:

أحلفي.


وضعت سلوى يدها على المصحف، وصوتها يرتعش:

وحياة كتاب الله... ما هقول لحد.


أخذت ماسة نفسًا مرتعشًا، كأنها توشك على السقوط:

لازم تفهمي... لو اتكلمتي، بابا وماما وإخواتنا هيموتوا! ولازم تعرفي... إن الحادثة بتاعة بابا كانت مدبّرة!


اتسعت عينا سلوى، وانكمشت ملامحها في ذهول لا يُصدق:

إنتي بتقولي إيه؟ الحادثة مدبرة؟ إزاي؟!


سكتت ماسة لحظات، كان الألم ينهش كل جزء بها، وصوتها يخرج مكتومًا، يختنق بين ضلوعها:

هقولك... هقولك كل حاجة. بس زي ما قلتلك... كل كلمة هاتسمعيها، ما ينفعش تتقال تاني. ولا حتى بينك وبين نفسك. لإن التمن هيكون حياتهم...


ترددت لحظة أخرى، لسانها يشتعل بحرقة، كأن كل كلمة ستحرق روحها قبل أن تخرج. ثم قالت بعينين دامعتين:

سليم... سليم بيشتغل في حاجات ضد القانون. ومكي... لإنه دراعه اليمين شغال معاه. وأنا اتأكدت من ده بنفسي.


شهقت سلوى، عيناها تلمعان بالصدمة:

إنتي بتقولي إيه؟ ضد القانون إزاي؟!


أمسكت ماسة بيديها وقالت:

أنا هحكي لك كل حاجة. هقولك يمكن... يمكن أرتاح. يمكن الوجع إللي جوايا يسكت شوية...


بدأت ماسة تحكي لها كل ما عرفته من رشدي، وكل الأسرار التي حملتها وحدها طوال هذه الأيام. كانت الدموع تجري على وجنتيها بلا توقف، وكأنها تغسل أوجاع السنين.


وبعد ان انتهت كانت دموعها انتهت معها.


بينما سلوى كانت تستمتع  لها وعينيها تخرج من محجرها، يعلو وجهها اصفرارا كأن الدماء قد جفت منه، يديها باردة كالثلج  من الصدمة كاد قلبها  يتوقف.


سلوى وهي غير قادرة أن تخرج أي كلمة، أنفاسها توقفت:  إيه إللي إنتي بتقوليه ده؟!  مش يمكن بيكدبوا.


كانت ماسة تجاهد لكي تنطق بالكلمات، وكأن وجعها يخنقها خنقًا: شفت بعنيا كل حاجة.. بقول لك في فيديوهات..حتى لما قعدت مع نفسي وجمعت كل حاجة.. كلامهم صح.. كله صح.


انفجرت الدموع من عين سلوى، بوجع يقطع نياط القلب، وانحنت بجسدها المرتعش نحو ماسة، كأنها تبحث عن قشة نجاة.


أمسكت سلوى يدها وقالت بانكسار مرير وببكاء كأنها تترجاها أن تنكر ما قالته:

أنا مش مصدقة.. والله العظيم مامصدقة إللي إنتي بتحكيه ده.. مش معقول.. عقلي مش قادر يصدق..

قوليلي بهزر.. قوليلي بهلوس.. قوليلي بكدب عليكي.. بس أوعي.. أوعي تقولي الكلام ده.. أوعى تقولي إنه بالبشاعة دي! لا يا ماسة ده مستحيل صح.. إنتي بتعملي مقلب ماسة لا لا مكي مستحيل مستحيل. 


رفعت ماسة عينيها المحمرتين نحوها، يملأهما قهر ثقيل، بخنقة وحسرة: يا ريت..


شهقت سلوى شهقة حارقة، وكأن صدرها لم يعد يحتمل الهواء، وانفجرت بالبكاء، صوتها خرج مبحوحا من وجع قلبها:

لالا إنتي بتكدبي، مستحيل ده ده عمره ما قالي كلمة وحشة ولا بصلي بنظرة مش كويسة، إنتي مش بتشوفي بيعاملني ازاي؟! عايزة تفهميني إن كل ده كان كدب؟؟ كل ده تمثيل؟!


نظرت ماسة لها بصمت ودموع لا تعرف بماذا تجيب كأن الكلمات تاهت منها..


أكملت سلوى على نفس ذات الوتيره بإنهيار وصدمة:

هم إزاي كدبوا علينا كده؟! إزاي ضحكوا علينا بالشكل ده؟! إزاي بوشوشهم الكدابة دي؟!

إزاي عشنا السنين دي مغشوشين فيهم.. مغشوشين في كل حاجة؟! أنا مش قادرة.. مش قادرة أصدق!

حاسة إني هموت من الصدمة


وضعت يدها على قلبها الذي يتمزق بداخل صدرها:

قلبي، قلبي حاسة إنه هيقف يا ماسة..

بيتاجر في البشر قوا،د!!! إنتي عارفة يعني إيه قو،اد يا ماسة؟!


كان الغضب قد استعر داخلها، فجزت على أسنانها بقوة حتى كادت تحطمها، وصاحت:

والحقير رشدي ده.. إزاي كان هيقتل بابا؟!

إنتي لازم تمشي من هنا.. لازم تطلقي من سليم  ويغور بعيد.. إحنا نرجع خدامين أشرف لنا، أهون لنا..

أما مكي.. والله العظيم.. على قد ماوجعني وكسر قلبي لأندمه .. ده طلع قذ،ر.. قذ،ر!


مسحت ماسة دموعها بأنامل مرتجفة، وحدقت في الفراغ بنظرة خاوية، ثم تمتمت بصوت مبحوح:

مش هينفع ناخد أي رد فعل غريب يا سلوى..

سليم ذكي.. ولو عرف أو حتى شك.. رشدي ممكن يقتلكم..


نظرت لها وأمسكت يدها بتوسل: أنا خايفة عليكم.. بالله عليكي يا سلوى.. أوعى.. أوعى تعملي أي رد فعل عنيف.. أصبري.. بالله عليكي.. هايقتلكم!


كانت كلماتها كطعنة، مزقت قلب سلوى التي هتفت بمرارة دامعة:

كل ده شايلاه في قلبك يا ماسة؟! كل ده وإنتي ساكتة؟! ليه ماقولتليش؟ ليه؟!


ارتسمت على وجه ماسة ابتسامة مكسورة يغمرها الخذلان، وأسندت رأسها إلى ظهر الفراش، تاركة دموعها تنساب في صمت، ثم تمتمت بصوت واهن مقهور:

كنت خايفة.. كنت مرعوبة.. خفت رشدي يأذيكم.. خفت يعمل أي حاجة..المنظر مش بيروح من خيالي.. منظر بابا والعربية جايه عليه.. مش قادر يروح من عيني..نفسي أنام.. أنام ساعة من غير. ماسمع صوت رشدي وهو بيهددني.. بس مش بيروح.. مش بيروح!


أهتز صوتها، ورعشة يدها وهي تتابع بقهر:

عارفة أصعب حاجة في الدنيا دي إيه يا سلوى؟!

إنك تبقي نفسك تصرخي.. نفسك تبكي..ومش قادرة..

لازم تكتمي قهرك جواكي.. حتى لو بيخلص عليكي!

لازم تسكتي.. كأنك متكتفة.. مربوطة من رقبتك بحبل.. حبل بيخنقك..أي تصرف مش محسوب.. ممكن يكلف التمن حياتهم..كأنك وقعتِ في بير ملوش آخر.. عمال يبلعك جواه.. في ظلمة مالهاش آخر.. ومش هينفع حتى تصرخي! لازم صرختك تتكتم جواكي.. هنا..


وضعت يدها المرتجفة على حلقها بإشارة معبرة، وعيناها تفيض بالدموع أضافت: هنا بس!


صمتت لحظة، وحدّقت فيها بعين موجوعة كسرت صبرها، ثم انفجرت باكية كأن روحها تنزف.

وضعت يدها المرتجفة على قلبها، وهمست بألم يعتصرها:

قلبي واجعني أوي يا سلوى..

حاسة إن حد ماسك سكاكين.. وبيغرسها فيا من غير   شفقة! بيضحك على وجعي.. بيتلذذ بقهري..

انا عملت إيه في حياتي عاشان يبقى مصيري كده؟!

عملت ايه وحش عاشان أتعاقب بالشكل ده؟!


تابعت بنبرة مقهورة:

ليه مش من حقي أرتاح؟!

ليه كل لما أحس إني خلاص.. خلاص قربت أتنفس..

ألاقي نفسي برجع للصفر!

ليه دايمًا أدفع التمن من أغلى حاجة عندي؟!

ودلوقتي.. دفعت التمن من قلبي وروحي وثقتي؟!


مسحت دموعها وهي تغالب رعشة يديها، ثم همست بمرارة:

زمان كنت بسأل نفسي سؤال واحد..

هل خطيئتي إني اتولدت خدامة فقيرة؟!

ولا خطيئتي إن ابن البشوات اختارني؟!

ليه بتحاسب؟ وبتحاسب على إيه؟!

فين المغفرة؟! هتيجي إمتى؟! ولا هفضل عمري كله عايشة في عقاب ماليش ذنب فيه؟!


ظلت عيناها معلقتين في الفراغ، ونبرة القهر تكسو كلماتها، واصلت بصوت يشطر القلب شطرين:

عشت سنين مع شخص بحبه وممكن أفديه بروحي من غير تفكير... وفجأة صحيت على واحد غريب.. ماعرفهوش!  صحيت على حقيقة بشعة، تعرفي كان نفسي أعيش عمري مغفلة.. بس لا..عرفت.. وفهمت..

وسليم.. طلع أسوأ من ما كنت أتخيل!

عمري ما توقعت إنه ممكن يطلع بالبشاعة دي ولا بالصورة المقززة دي.


ضحكت ضحكة مرة، كسرت القلب قبل أن تواصل:

كنت عايشة كذبة كبيرة.. الناس كلها بتحسدني..

مش عارفين إني عايشة في أكبر مسرحية كدابة..

دفعت التمن باولادي الاتنين. 


انهارت دموعها وهي تتابع:

الدنيا بتكرهني أوي يا سلوى..كنت فاكراها بتحبني لما رزقتني بسليم.. طلعت بتكرهني! ومحوشالي وجع السنين، تديني فرحة يومين..وتاخدهم مني فجأة... وتديني وجع سنين..

وكإنها حالفة ما تفرحنيش توجعني وبس، وتاخد مني كل حاجة بحبها.


هزت رأسها برفض ممزوج بغل:

بس المرة دي.. مش هقبل إني أضحي بيكم.. مستحيل! حتى لو هيكلفني حياتي. 


تنهدت تنهيدة موجوعة، ونظرت لسلوى نظرة ملؤها ألم  وهي تتأوه:

آااه  آااه،  أنا موجوعـة، موجوعه اوي..بقيت ماسة مكسورة..حاسة إن قلبي بيتفتت جوايا من الألم! روحي بتتحرق، نفسي أموت وأرتاح.. بس حتى الدعاء بالموت مش قادرة أقوله..

خايفة.. خايفة لو مت. رشدي يعمل لكم حاجة..

علشان كده راضية أعيش.. مضطرة أتماسك.. مضطرة أبقى قوية.


كانت سلوى تستمع والدموع تغمر وجهها، تشعر بكل كلمة، فألمها لا يختلف عن ألم ماسة. هي أيضًا خذلها مكي، وخافت على عائلتها، ولم تستوعب بعد ما حدث، لكنها كانت واثقة أنها خُدعت وتألمت.


سلوى بنصف ابتسامة حزينة قالت بصوت مقهور و دموع تهبط من قلبها قبل عينيها: 

عندك حق في كل كلمة يا ماسة إحنا الدنيا مابتحبناش يعني فجأة بتضحك لنا وتفتح لنا دراعاتها... وفي الآخر نصحى ونكتشف إنه فخ، فخ بتوقعنا فيه، أنا إمبارح كنت عايشة أسعد أيام حياتي وفجأة فرحتي كلها اتسرقت مرة واحدة.. 

يمكن الخطيئة بتاعتنا زي ما إنتي قلتي إن سليم اتجوزك

أنا مش عارفة هاعيش إزاي ومش عارفة المفروض أعمل إيه دلوقتي، أنا نفسي أجيب سكينة وأغرسها في قلبه على كل كذبة كدبها عليا.. على السنين إللي حبيته فيها، وأنا مغفلة وفاكراه إنسان محترم وهو في الحقيقة مجرد حيوان معدوم الضمير والأخلاق ..


ماسة بإعتذار أمسكت يدها: أنا آسفة يا سلوى بس أنا مستحيل كنت هسيبك مغشوشة، عارفة إني وجعتك بكلامي بس ماهنش عليا أسيبك تعيشي نفس الكذبة.. حقك عليا.


سلوى بنبرة مكتومة: إنتي لو ما كنتيش قولتي لي كنت هزعل منك يا ماسة وما كنتش سامحتك. 

بس إنتي هتعملي ايه مع الزفت رشدي؟


ماسة بنظرة باهتة مدت شفتيها:

معرفش... مستنية تعليماته... قال لي يومين وهقولك تعملي إيه عشان أمشي من هنا، وفي خلال اليومين دول... لازم أعمل خناقات كتير مع سليم... وإنتي يا سلوى... مش هاينفع تسيبي مكي دلوقتي..


سلوى بعينين مشتعلة بنار الانتقام:

لا مكي كده سيبيه لي، أنا هعرف إزاي آخد حقي من الحقير ده.


رفعت ماسة عينيها الباكيتين نحوها، وسألت بصوت مبحوح: هتعملي إيه؟


ردت سلوى وعينيها تلمعان بغل: هقولك... هقولك هعمل إيه!


((بعد وقت))


عادت سلوى إلى فيلتها وتبقت ماسة في الجناح لا تخرج منه وكأن السجن الذي كانت تريد الخروج منه أصبح هو مأواها.


فيلا عائلة ماسة الرابعة مساءً 


دخلت سلوى الفيلا بصمت وكان واضحًا عليها الحزن العميق، لكنها كانت مجبرة أن تتظاهر بالقوة، كما طلبت منها ماسة.


تحركت بخطى بطيئة نحو الداخل، قابلتها سعدية في الردهة، وعلامات القلق تملأ وجهها.


سعدية: روحتي عند أختك؟


سلوى بوجه خالي من أي تعبير: آه، لسه جاية.


دقّقت سعدية النظر داخل عينيها وتساءلت:

مالك يا بت؟ عاملة كده ليه؟ اتعاديتي من أختك ولا إيه؟


سلوى بنفس الوجه البارد: لا، مافيش. أصل عندي مغص، فاهمة إنتِ يعني.


فهمت سعدية،: طيب ياحبيبتي أعملك قرفة؟  ولا يانسون.


سلوى بنبرة مكتومة وهي تتوجه للدرج:

شربت عند ماسة، أنا هطلع أرتاح شوية يا ماما.


سعدية: طيب، بس ما تاخديش مسكنات غلط، إنتِ داخلة على جواز.


سلوى بصوت هادئ: حاضر.


صعدت السلم، دخلت غرفتها، وجلست على السرير. كانت تنظر حولها بعينين تائهتين، تتذكر كلمات ماسة، تحاول تصديقها، لكنها لم تستطع.


هل يعقل أن الرجل الذي أحبته طوال هذه السنوات، الذي تمنت أن يكون فقط لها، أن يكون هو نفسه هذا الشخص؟


الرجل الذي كانت تراه رمزًا للرجولة، الشهامة، والاحترام، كيف استطاع أن يخدعها طوال هذا الوقت؟

كيف واجهها بوجهه البريء وكلماته النبيلة، وهو في الواقع وحش يتاجر بالبشر؟


شعرت بألم شديد اخترق صدرها، كأن قلبها يُكسر داخل ضلوعها بلا رحمة وكأنها تستمع لتكسيرة. روحها كانت تتمزق، تتعذب، ولم تستطع حتى البكاء. وجهها جامد، مصدوم بلا دموع، وكأن ملامحها اختفت.


وقعت عيناها على الصورة الموضوعة بجوار السرير، كانت صورة تجمعها بمكي. التقطت البرواز، وبدأت تتأمل الصور الأخرى، واحدة تلو الأخرى.

هو ده حبيبي؟

هو ده إللي كنت هتجوزه؟

كنت ها أنام في حضن واحد بيبيع البنات الصغار وبيتاجر في لحوم البشر؟

إزاي كنت غبية كده؟


صرخت صرخة قهر، ثم بدأت تحطم الهدايا التي كان قد أتى بها لها، كسرت الصور، وأوقعت الكتب والتحف العرائس من الرفوف وهي تصرخ وتقول:


كذاب... غشاش... حقير.


لم يسمعها أحد، فقد كان الجميع في الطابق السفلي.

سقطت أرضًا وسط الفوضى، وهنا هبطت دموعها أخيرًا، لكنها لم تكن دموعًا عادية. كانت دموع خذلان، دموع روح منهارة، أحلام انتهت قبل أن تبدأ.


بعد دقائق رن هاتفها وسط بكائها، نظرت إلى الشاشة، كان مكي.


ترددت، ثم أمسكته بقوة كانت ستكسّرها بين يديها، وكانت عيناها تحمل غلًا لم نشاهده من قبل. لأول مرة نرى تلك النظرة في عيون سلوى. أخذت نفسًا مكتومًا، ثم أجابت بصوت جامد، فهو الوحيد الذي استطاعت أن تمثله:

ألو.


مكي وقد كان يجلس مع سليم في أحد الكافيهات.


مكي بلهفة: إيه يا حبيبتي، عاملة إيه؟


سلوى، باقتضاب: كويسة.


مكي: لسّة عند ماسة؟


سلوى بسخرية: يعني ماتعرفش؟


مكي ضحك: لا، أصل أنا كنت مع سليم في المجموعة، بعدين قعدنا في كافيه، اتكلمتي معاها؟


سلوى، بحدّة: هي كويسة، مافيهاش حاجة، محتاجة بس تبعد شوية، يا ريت تقنعه، مافيهاش حاجة يعني.


عقد مكي حاجبيه متعجبًا من طريقتها: مالك بتكلّمينى كده ليه؟


سلوى، ببرود: مافيش، أنا كويسة.


مكي، بشك: متأكدة؟


سلوى بتهرب: أكيد. معلش يا مكي، أنا تعبانة شوية.

هنام، لما أصحى هبقى أكلمك. سلام.


أغلقت الهاتف، ثم ألقت به بعيدًا، وصرخت: حقير... سافل كدااااب.


في الكافيه، 


كان مكي شاردًا، يحدق في هاتفه، وسليم يراقبه.


سليم، بتساؤل: في إيه؟ سلوى قالت حاجة؟


هز مكي رأسه نافيًا: لا، مافيش... بس مش عارف مالها.


سليم بضجر: أنا مش وقت أحل ألغاز.


مكي موضحًا: بتكلمني بأسلوب غريب وبتقفل في كلامها. شكلها متعصبة.


سليم: يمكن سعدية اتخانقت معاها علشان اتأخرت؟


مكي بتردد: ممكن.


سليم: إنت مش كنت عاملها مفاجأة امبارح، وقعدت طول الليل معاها على الفون؟


مكي: أمممم.


سليم: طب خلاص.


مكي، متسائلًا: طب هتعمل إيه مع ماسة؟ سلوى قالت ماسة مفيهاش حاجة، كل إللي محتاجاه هو فترة تبعد.


سليم تنهد بتعب عاد بظهره للخلف: مش عارف. محتاج أفكر وأهدى.


مكي، بنبرة هادئة: جرب تاني، وخليك حنين. بلاش الجنان إللي بيركبك وبيخليك تهدد. الأسلوب ده ماينفعش مع مراتك.


سليم مفسرا: مش بكون قاصد والله، بتستفزني.

بعدين انت عارف انا مستحيل اعمل حاجه. 


مكي بعقلانية: حتى لو، مش هتعمل حاجة. خليك هادي.


هز سليم رأسه بصمت.أخذ رشفة من فنجانه، ثم قال:

كلمها بالليل وأفهم منها، وأنا كمان هحاول أكلم ماسة. ..بس والله يا مكي... تعبتني. تعبتني.


سيارة مكي 


مكي يقود سيارته عائدًا إلى منزله. وتذكر طريقة سلوى في حديثها معه، شعر بشيء غير طبيعي، فقرر أن يغيّر اتجاهه ويذهب إليها.


فيلا عائلة ماسة السابعة مساءً 


نرى سعدية تستقبله بابتسامة دافئة.


سعدية بترحيب: أهلاً بيك يا ابني، إيه الزيارة الحلوة دي؟


مكي باستحياء: أنا آسف والله، جاي من غير ميعاد.


مجاهد الذي يجلس على كنبه: ماتقولش كده يابني، إنت تيجي في أي وقت. اتفضل.


دخل مكي، وعيناه تبحثان عن سلوى، لكنه لم يرها.


سعدية: أكيد جاي تطمّن على سلوى؟ هي جت من عند ماسة، طلعت نامت وماصحيتش.


جلس مكي، وسأل بقلق: ليه؟ كانت تعبانة؟


سعدية: آه، ثانية واحدة هطلع أناديها لك.


صعدت سعدية، وكانت سلوى مازالت جالسة على الأرض، تبكي بصمت. عندما سمعت صوت والدتها، مسحت دموعها مسرعة وفتحت الباب ببطء.


سلوى توقفت عند الباب: في إيه يا ماما؟ ما إنتي عارفة إني نايمة.


سعدية متعجبة: ليه قافلة على نفسك بالمفتاح؟


سلوى: كنت بغير، وخفت حد يخش عليّ إنتي عارفة ولادك بيفتحوا من غير ما يخبطوا.


سعدية: طب تعالي، خطيبك تحت.


نظرت لها سلوى بضيق. لم تكن مستعدة لتلك المقابلة. تشعر أنها إن رأت مكي الآن ستقع مشكلة، وربما تنطق بكلمات وعدت شقيقتها أن لا تنطق بها، تنفّست بإختناق، مسحت وجهها، وتحركت حتى هبطت للأسفل. جلست على الأريكة دون أن تتفوّه بكلمة.


مكي بإهتمام: عاملة إيه يا سلوى دلوقتي؟


سلوى بفتور: ماقلتليش إنك جاي؟


مكي بمودة: حبيت أعملها لك مفاجأة.


لم ترد سلوى ، فقط نظرت أمامها. نظر لها مكي نظرة طويلة، لقد تأكد أن بها شيء.


نظر مكي إلى والدها بإستئذان: عمي ممكن أكلم سلوى في الجنينة؟


قبل أن بجيب مجاهد ردت سلوى: أنا مش قادرة أروح مكان.


سعدية: خلاص، خليكوا هنا معانا.


مجاهد: أنا هروح أصلي العشا.


سعدية: وأنا هقوم أعمل شاي، وأعمل لك يانسون يا سلوى.


مساعده مكي وسعديه مجاهد لكي يجلس على المقعد المتحرك


سعدية: خليك انت يا حبيبي.


هز مكي راسة بإيجاب،  حين شعر مكي أنهما ابتعدا، اقترب من الكنبة وجلس.


مكي بإهتمام: مالك يا سلوى؟


سلوى بضيق وهي لا تنظر له: مالي؟!


مكي: شكلك متضايق فيكي حاجة، إيه إللي حصل؟!


سلوى بجفاء: بقولك تعبانة، إيه إللي جابك؟ أنا كنت نايمة، وماما صحتني.


مكي متعجبًا: ده أسلوب واحدة تعبانة ولا واحدة متعصبة وزعلانة؟


سلوى بحدة: إنت مالكش زعيق عليا، أتكلم معايا بأسلوب محترم.


مكي مندهشًا: إنتِ بتكلميني  كدة ليه؟ انا مزعقتش اصلا؟!


شعرت سلوى أنها لن تستطيع كبح غضبها توقفت: بقولك إيه يا مكي، أنا تعبانة ومحتاجة أنام. وبعدين الفترة الجاية عندي مذاكرة، عايزة أنجح. وياريت لما تيجي بعد كده، تبلغني أنا.


توقف مكي، متعجبًا: سلوى، هو في إيه؟ أنا عملت حاجة ضايقتك؟ مش كنا كويسين إمبارح؟ كلمتيني الصبح، وقلتيلي أروح عند ماسة، إيه إللي حصل؟


سلوى: ماحصلش حاجة... بس تعبانة.


تنهد مكي بضيق مسح وجهه ههو متاكد ان بها شيء لكنه اختار ان يرحل الان قبل ان تحدث مشكله 

: طب يا سلوى، أنا همشي دلوقتي علشان مايحصلش مشكلة. وتاني مرة ماتتكلميش معايا بالأسلوب ده.


سلوى بقوة نظرت له بمواجهة: هتعمل إيه لو كلمتك كده؟ هاتضربني؟


نظر لها بصمت لم يعلق فقط قال: السلام عليكم.


ردت بنبرة ساخرة: عليكم السلام ورحمه الله وبركاته.


تحرك وخرج للخارج وهو في غاية الغضب منها، فهو لا يفهم ما أصابها، لقد كان الأمس من أسعد أوقاتهما.


بينما توقفت سلوى، وهي تشعر بالوجع و الغضب الشديد، أخذت الوسادة وحذفتها بغل.


في تلك اللحظة، دخلت سعدية تحمل الشاي.

سعدية: هو مكي راح فين؟


سلوى: جاله تليفون مهم، عنده شغل أنا هطلع انام


سعدية: طب خدي كوباية اليانسون دي.


سلوى: ماليش نفس.


صعدت سلوى الى غرفتها، جلست في الظلام تبكي منهارة لم تستوعب أن كل أحلامها تلاشت في لحظة. وكل ما كانت تفكر فيه أصبح سراب... الآن، كل ماتريده هو أن تعرف كيف تُوجِعه كما أوجعها. 


منزل مكي، العاشرة مساءً


غرفة النوم


نرى مكي جالسًا في الظلام، سيجارته بين أصابعه، والدخان يعلو ببطء في أجواء ثقيلة. الصمت يخنق المكان، وعقله مشغول، يدور في نفس الدائرة:


ما الذي حدث مع سلوى؟


حتى الصباح كانوا معًا... حديث، وحب، وضحك. الليلة الماضية كانت من أجمل لياليهم، قضاها معها في دفء وسكينة. لكن شيئًا تبدّل. من اللحظة التي عادت فيها من عند ماسة، تغيّرت تمامًا. كأنها لم تكن هي.


ماذا قالت لها ماسة؟ ماذا حدث هناك؟


أخذ يمسح جبينه بتعب، يفكر، ويغوص أكثر في التساؤلات.


في قصر الراوي العاشرة مساءً 


عندما عاد سليم إلى القصر، كان يرغب بشدة في الاطمئنان على ماسة. توقف عند الباب بتردد بين أن يدخل أو أن يرحل. كانت ماسة جالسة على الأريكة تبكي وتفكر، لكنها بالطبع انتبهت إلى خيال سليم. كانت تتمنى أن يرحل، فهي لا تريد أن تواجهه، لا تريد أن تراه، ولا أن يدور بينهما أي حديث. وبالفعل، توجّه سليم إلى غرفته بعد لحظات من مقاومة نفسه، محترماً قرارها بتركها تفكر، حتى وإن كان ذلك على حساب نفسه.


اليوم التالي 


جناح سليم وماسة، العاشرة صباحاً.


كانت ماسة تجلس على الأرض داخل غرفتها، كعادتها في الأيام الأخيرة، منذ أن عرفت الحقيقة لم تعد تفارق تلك الزاوية. المكان أصبح ملاذها، وصمت الغرفة صار أنيسها الوحيد.


مرّت دقائق قبل أن يُفتح الباب بهدوء وتدخل سحر، بنظرة قلقة وصوت خافت


سحر: ماسة هانم... مكي بيه عايزك


رفعت ماسة رأسها ببطء تنظر إليها باستغراب مكي؟ وعايز إيه مكي مني؟


ردّت سحر وهي تقترب قليلا: ماعرفش والله يا هانم، هو قال لي إنه عايزك ومستنيكي تحت في الجنينة.


ماسة بنبرة متعبة: طب يا سحر، قولي له عشر دقايق وها أنزله


ترددت سحر قليلًا ثم قالت بنبرة لائمة: مش هتاكلي برضه يا هانم؟ ده إنتي ماكلتيش حاجة من أول امبارح غير حتة لقمة قد كده.


أجابت ماسة بتنهيدة حارقة: ماليش نفس يا سحر، والله.


سحر بإصرار: لا هعمل لك كباية لبن والنهاردة أعملي حسابك هاتاكلي ده أنا هعمل لك ورق عنب ومكرونة بشاميل وهخلي سليم بيه يجيب لك الفراخ بتاعت الشارع إللي بتحبيها. 


تبسمت ماسة دون رد...


ثم خرجت سحر وأغلقت الباب خلفها، وأثناء خروجها  كان يدور في عقلها سؤال لم تجد له جوابًا... الهانم مالها؟ لا، أنا لازم أكلم سليم بيه، كده ما ينفعش.


في الأسفل، هبطت سحر إلى مكي وأخبرته أن ماسة ستنزل بعد قليل


في تلك الأثناء،  عند ماسة 


كانت ماسة تمسك بهاتفها وتتحرك في الجناح وتتصل بسلوى، كان يبدو عليها الضجر الشديد.. 


ماسة بنبرة غاصبة: إيه يا سلوى... إنتي عملتِي إيه إمبارح مع مكي؟


جاءها صوت سلوى من الطرف الآخر، ممزوجًا بالتعب: ماعملتش حاجة، كل إللي قلته له إنت جاي ليه؟ ماقلتش ليه، لإني لقيته جاي يطمن عليا... والله يا ماسة ماقدرت أمسك نفسي، دي كانت الحاجة الوحيدة إللي قدرت أمسك فيها نفسي.


جزت ماسة على اسنانها وقالت بحدة: بقولك إيه، إنتي تجيلي النهاردة. 


سلوى بنبرة خافتة: مش هاينفع يا ماسة، مش قادرة. 


ماسة بحزم: لا هتيجيلي... هقفل، وساعة وتبقي عندي.


ثم أغلقت الهاتف قبل حتى أن تُكمل سلوى جملتها. 


زفرت بإختناق، وهبطت إلى الحديقة.


حديقة القصر 


كانت ماسة تحاول قدر الإمكان أن تُحافظ على ملامح وجهها ثابتة، لا تُظهر ما يُعتمل بداخلها. اقتربت من مكي، وما إن رآها حتى خطا نحوها.


ماسة: خير يا مكي؟!


مكي متبسما: صباح الخير يا ماسة، عاملة إيه؟


هزت ماسة رأسها بإيجاب: الحمد لله.


مكي بتردد: كنت عايز أسألك على حاجة... إمبارح، سلوى كانت عندك؟ يعني هي كويسة؟


تصنعت ماسة عدم الفهم: مش فاهمة!!


مكي مفسرا: يعني إمبارح، كانت متغيرة، فحبيت أطّمن، لإنها كانت معاكي.


ماسة بتمثيل: آه، هي فعلاً جت، وقعدت معايا شوية واتكلمنا. كانت طبيعية، حتى حكت لي على المفاجأة إللي إنت عملتها لها وكانت مبسوطة... بس كانت تعبانة شوية، بطنها كانت بتوجعها. معرفش حاجة تانية. خير؟ فيه حاجة؟


تنهد مكي، ورفع نظره للسماء قبل أن يمرر يده على رأسه ثم نظر لها قال بحيرة : إنتي كده حيرتيني أكتر... أنا كنت فاكر إن مفتاح اللغز عندك.


ماسة متعجبة بتصنع: هو فيه إيه؟ مش فاهمة. 


مكي: أصل امبارح كنت عندها  طريقتها معايا كانت غريبة وكلمتني بأسلوب غريب، أول مرة أشوفها كده


ماسة: أكيد إنت بس مكبر الموضوع.


مكي تنهد: والله شكلي فعلاً أنا إللي مكبرها ومزودها.


حاولت ماسة حذف أي شك عند مكي بأنها تغيرت قالت: هي سلوى لما بطنها بتوجعها وبتحس بألم، بتبقى رخمة، وأسلوبها بيبقى مش لطيف. فالأفضل إنك تاخدها على قد عقلها. مافيش حاجة.


هز مكي رأسه بإيجاب: خلاص تمام... ما دام هي بخير، ده الأهم بالنسبة لي.


تبسمت ماسة بخبث: هي بخير... ماتقلقش.


بعد وقت.


دخلت سيارة سلوى من بوابة القصر، لمحها مكي من بعيد. لم يوقفها، بل استدار من جهة أخرى مباشرة إلى مدخل القصر، من الطريق مختصر، فوصل قبلها بلحظات


عندما توقفت سيارتها، كان هو من فتح الباب بنفسه، واقفًا في انتظارها.


قال وهو ينظر لها بإستغراب: هو إنتي ليه ماقولتيش إنك جاية؟


سلوى وهي تترجل من السيارة، نظراتها حادة وصوتها مشحون: هو إنت مش كنت بتقول طول ما أنت في الشغل، بتبقى مكي وبس الحارس الشخصي لسليم الراوي؟ بتكلّمني ليه بقى؟


قلب وجهه بإختناق، فجأة مدّ يده وأمسكها من ذراعها، وسحبها جانبه بعصبية.


سحبت سلوى يدها بعنف، توقفت في مكانها:

إنت بتشدني كده ليه؟


نظر لها مكي بإستغراب، نبرته تحمل ضيقًا:

في إيه يا سلوى؟ مالك؟ من إمبارح وإنتي متغيّرة، لو عملت حاجة قوليلي، بس إللي بتعمليه ده شغل هبل.


سلوى بحدة: ماتغلطش فيّا!


مكي تنفّس بضيق: أنا ماغلطتش ومقدرش أغلط، بس عايز أفهم. إللي إنتي بتعمليه ده اسمه إيه؟


سلوى بنوع من السخرية: اسمه إيه؟ أنا بنفذ كلامك، إنت قلت لي الشغل حاجة وعلاقتنا حاجة.


مكي محاولا السيطرة على غضبه:

أنا مش هعيد الكلام، لو زعلانة مني فهميني، إحنا الاتنين كبار، بلاش شغل المراهقين ده... لكن سكوتك، وإنك تطوّلي لسانك، دي طريقة أنا مابستحملهاش.


صرخت فيه: ماطلبتش منك تستحمل! وبطّل تطوّل لسانك عليا... إنت فاهم؟


ومن شرفة الطابق العلوي


كانت ماسة تقف تراقب المشهد، لا تسمع الكلام، لكن النظرات كانت كفيلة أن تنقل التوتر. قبضت على سور الشرفة، وضغطت على أسنانها بضيق. يبدو واضحًا أنها قررت التدخل.


عند سلوى ومكي 


مكي بحدة:  إنتي بتتكلمي كدة ليه؟!


سلوى، بصوت حاد: يوووو،، قولتلك مافيش حاجة!


مكي بعصبية: لا، فيه، إنتي بتكذبي على مين!! 


سلوى وهي تبعد وجهها عنه: أنا ما بكذبش الحمدلله ولا بعمل نفسي ملاك، وأنا شيطانة، ومخادعة، ولابسة قناع الاحترام. 


انصدم مكي:  إيه إللي بتقوليه ده؟


صرخت فيه: بقولك الحقيقة! في ناس بتعمل نفسها شريفة، وهما مايعرفوش عن الشرف أي حاجة! وصناديق الزبالة أنضف منهم.


وفي تلك اللحظة، كانت ماسة قد هبطت بالفعل، واقتربت منهم بخطوات غاضبة، حاولتِ تحويل الحوار إلى مسار آخر، فسلوى كانت على وشك أن تقول كل شيء، وكان ذلك سيؤدي إلى مشكلة كبيرة، فحاولت بذكاء تغيير الموضوع


ماسة بتهكم بتمثيل:

هو إنتي فيكي إيه يا ست سلوى؟ من إمبارح وإنتِ عمالة ترمي كلام غريب، وكل ما حد يسألك تقولي مافيش! أنا قلت أجيبك النهاردة عشان نتكلم، وكنت هقولك إنك مزوّداها، لكن هتفضلي تطوّلي لسانك كده، ماينفعش!


مكي بنبرة متسائلة: هو إنتي عارفة حاجة يا ماسة؟


ماسة، باستهجان كاذب: الست سلوى اتخانقت مع ماما، وعمار ضربها بالقلم، وإحنا ماحبّيناش نقول لك. مش عايزين نكبّر الموضوع...


سأل مكي متعجباً: عمار ضربها ليه؟


ماسة بكذب متقن: لإنه بيكلم بنت، والبت أخلاقها مش تمام، وسلوى قالت له، وهو ماصدّقش، وقالت له إن فيه ناس كتير بيظهروا محترمين ويطلعوا سفلة. ماما قالت لها بلاش تتكلمي كده دي بنت،  وعمار ما استحملش، وزعق، وضربها. ومن ساعتها وهي مش مستحملة كلمة من حد ودراما كوين بقى... حتى أنا، لما كانت عندي،كانت مش طبيعية ،لما سألتني الصبح الصراحة ما حبتش أقول لك،  حسيت إن الموضوع بسيط، ماكنتش عارفة إن جنانها وصل للدرجة دي.


سلوى، بصوت مكسور وهي تنظر لماسة: يعني إنتي شايفة إنّي معنديش حق؟


ماسة ردّت بقوة وكأنها داخل فيلم تتقن تمثيله: أيوة، ماعندكيش حق. عرفتِ الموضوع خلاص، خلّيه يشربها، يتحرق بيها، مكي ذنبه إيه؟


كان ينظر لهم مكي وهو غير مصدق ما قالته ماسة، ثم قال: أنا هحاول أصدّق الكلام ده؟ برغم إنه مادخلش ذمتي بجنيه.


اقتربت ماسة بابتسامة حتى توقفت أمامه مباشرة، نظرت داخل عينيه بصوت هادئ، وكأنها تحاول أن تزرع تلك الفكرة في رأسه:

بس هي دي الحقيقة يا مكي، ومافيش حقيقة غيرها. هنكذب عليك ليه؟ سلوى مابتحبش حد يمد إيده عليها، والموضوع ده بالنسبة لها صعب، يعني كرامتها بتوجعها، وقلبها بيوجعها، خاصة إن عمار إيده تقيلة حبتين. غير يعني إن إحنا في البيت، بابا وماما ماعندهمش مشكلة خالص، أخواتنا يضربونا... مافيش إنصاف، أنا من رأيي بدل ما إنت ماتصدقش تحاول تحتوي الموقف وتطبطب عليها وتتحملها.

أنا معاك إنها غلطت وزودتها، بس تخيل كده تتدخل لشخص بتحبه وتنبهه إنه غرقان في الوحل، وإن الشخص إللي في حياته ده كذاب ومخادع زي ما هي وصفت، صندوق الزبالة أنضف منه، ولما تحكي له، يكذبك ويضربك، حتى إللي حواليك مابيقفوش جنبك، بالعكس، هم كمان مش منصفين،، هي عندها حق تعمل أكتر من كده، بس ماعندهاش حق تطلع غضبها عليك أنت. لكن تطلعوا علينا إحنا؟ إحنا إللي مش منصفين.


مكي بتفسير: انا مش متضايق منها أنا بس ماكنتش فاهم بس عموما يا سلوى خلاص مادام إنتي فهمتيه خلاص وبكرة لما نتجوز محدش هيبقى ليه الحق يمد إيده عليكي. 


لكن سلوى لم ترد عليه ظلت صامتة تحاول أن تمسك زمام أمورها.. 


ماسة بتهذب: بعد إذنك بقى، هنطلع نتكلم فوق.


سحبت ماسة يد سلوى، ولم تنتظر رد مكي

الذي. ينظر لآثارهما بريبة، يشعر بصدق ما قالته، ويشعر أن هناك شيئًا خفيًا. طريقة ماسة كانت مبهرة، تجعل من أمامها يصدّقها...لكن كان في قلبه شكا ثم حرّك رأسه، ثم انصرف.


سحبت ماسة سلوى دون كلمة واحدة، حتى وصلا إلى الغرفة.وفور أن أغلقت الباب، كان الغضب قد تملّكها. كنيران تأكل في غابة يابسة، لا تترك فيها شيئًا إلا وأحرقته.


جناح سليم وماسة


جلست سلوى على المقعد، ملامحها منهارة ودموعها لا تنقطع، رأسها منكس، وكتفاها يهتزان مع كل شهقة. بينما توقفت ماسة أمامها، منحنية قليلاً نحوها، وفي عينيها شرر، وصوتها كان حادًا، مشبعًا بالغضب والخذلان.


ماسة من بين أسنانها: إنتي إزاي تعملي كده؟ إزاي مش قادرة تمسكي نفسك؟ ما تخلنيش أندم إني حكيتلك أنا أصلاً ماكنتش عايزة أشيلك الهم ده...


صمتت لحظة، ثم أكملت بنبرة وجع مرّ، وعينيها تدمعان:

بس علشان أنا عارفة قد إيه بتحبي مكي، وقد إيه مهما قلت ومهما حاولت هتفضلي  متمسكة بيه...

أنا... أنا كنت عايزة أخلصك منه،أخلصك من الحقير ده، علشان ماتعيشيش نفس الكذب والخداع إللي أنا عشته... اضطريت أحكيلك...بس إللي بتعمليه ده، وبطريقتك دي، هاتدفعينا الثمن غالي.


استقامت فجأة، أشارت بيدها بعصبية، وصاحت بضيق:

أوعي تفتكري إن الثمن هيكون إننا هنخسر القصر ونرجع نخدم عند منصور! لا فوقي..

الثمن هيكون بالدم! دم غالي... دم أبوكي وأمك وإخواتك... وإنتي كمان!


رفعت صوتها أكثر، بعنف يكاد يمزق السكون:

بقولك رشدي قال هيجيب ناس يغتصبوكي!

فاهمة يعني إيه؟ سامعة؟ إنتي عايزة تفهميني إن إللي بينك وبين مكي زي إللي كان بيني وبين سليم؟

أنا عايشة الألم، وأكتر كمان...سليم معايا ٢٤ساعة، ضغط وكلام،كل شوية...إنتي بتشوفي مكي كام ساعة بس؟مش قادرة تساعديني؟ ساعديني، يا سلوى، ساعديني، أبوس إيدك!


كانت سلوى تبكي بصمت، رأسها ملامس الأرض، لا ترد.

ماسة، بصوت أخفض، لكن حاسم:

اسمعيني...إنتي هتتعاملي معاه عادي. عادي خالص.

قلت لك، كام يوم وهمشي، وبعدين تسيبيه. بس من غير مايحس، نسيتي إنهم مافيا؟ عالم قذر! إنتي كنتي هتقولي له... لولا إني لحقتك!


مررت عينيها عليها تراجعت من حدتها جلست ماسة أمامها، أمسكت بيديها المرتجفتين، وغيّرت نبرة صوتها تمامًا، فصار مزيجًا من الرجاء والانكسار:

سلوى، وحياتي عندك..أنا حاسة بيكي أقسم بالله...

أنا كمان مكسورة، أنا كمان قلبي وجعني...نفسي بيوقف... بس لازم نكمل، لازم نلبس الأقنعة، نمثل إننا أقوياء..أنا مابقولش تعاملي معاه زي زمان، بس خلي بالك من أفعالك...الله يرضى عليكي... إنتي كنتي على وشك تقولي كل حاجة


رفعت سلوى عينيها ببطء، وجهها مبلل بالدموع، محمر من البكاء، وصوتها خرج مبحوحًا، مخنوقًا بالخذلان:

أنا موجوعة، يا ماسة...أنا بحبه، كنت شايفاه أماني...كنت بقول الرجولة هي مكي، والثقة مكي، ماكنتش بخاف على نفسي وأنا معاه... بس خذلني... يا ريتني ما عرفته، ولا حبيته أنا موجوعة أوي، أنا مانمتش من وجعي والله تعبانة تعبانة وموجوعة أوي..


مدّت ماسة ذراعيها واحتضنتها، وضمتها إلى صدرها، وبدأت تربت على ظهرها برفق، والدموع تلمع في عينيها، بلا كلمة، بلا حتى عزاء.


داخل سيارة مكي الخامسة مساءً 


كانت سلوى تجلس بجانبه بصمت، واضح عليها التوتر، تنظر من النافذة كأنها تنتظر أن تنتهي الرحلة. كانت تحاول أن تمثل أنها بخير كما طلبت منها ماسة، لكن مكي كان متأكدًا أن هناك شيئًا ما.


مكي: هو إنتي لسة مصرة إن زعلك ده بسبب موضوع عمار؟


نظرت سلوى من النافذة: أيوة.


مكي بهدوء: هحاول أصدق.


سلوى بجفاء: أنا الفترة الجاية مش رايحة الجامعة، هقعد أذاكر في البيت، مش طايقة أروح حتة.


مكي: تمام... صمت للحظات، ثم قال: سلوى، مش هسألك تاني، هو موضوع عمار إللي عامل فيكي كده بس؟


أخيرًا، نظرت له وقالت بتأكيد: أيوه، موضوع عمار هو إللي عامل كده. كنت فاكرة إنه هايفهم، يعني أنا خايفة عليه، بس هو ضربني، ماستحملش، شتيمت البرنسيسة


مكي: أكيد إنتي كلمتيه بأسلوب مافيش راجل هايستحمله.


سلوى: يعني لو أنا كلمتك كده، هاتضربني؟


مكي بعقلانية: أنا ما بضربش، بس فيه حاجات تانية ممكن تتعمل، وإنتي كمان لازم تغيري أسلوبك، لإن ده مش هاينفع.


هزت سلوى رأسها بالإيجاب دون رد، وظل مكي يقود السيارة بينما كانت هي تنظر من النافذة حتى وصلا إلى الفيلا.


((خلال يومين))


وبرغم قلق سليم وعدم رضاه، ألتزم الصمت. منحها المساحة التي طلبتها، لكنه من الداخل كان يغلي، يتخبط في محاولاته للعثور على مخرج لا يملكه.


سلوى انسحبت فجأة من حياة مكي، تتحجج بالتعب أو الدراسة، لكنه لم يصدقها. كان صمتها أثقل من كل تبرير.


أما ماسة، فكانت تنهار بصمت…


وما جعل انهيارها أشد أنها لم تكن تقوى على تناول الطعام؛ فكل لقمة تراها مرآة لذنب، المال الحرام.

ورغم ذلك، كانت تحاول التظاهر بالعكس أمام سحر، كي تنقل الأخيرة لسليم أنها بدأت تتعافى.


ماسة لم تكن تحتمل فكرة المواجهة، لم تكن مستعدة أن تنظر في عينيه.


أقنعت نفسها أن الذنب ليس عليها، فهي لا تملك مصدرًا آخر للطعام، ولا حلّ أمامها


لم تعد تهبط إلى الأسفل كثيرًا، لكنها كانت حريصة على ألا يبدو عليها التغيّر المفاجئ، حتى لا يثير سليم شكوكه. وفي قلبها، كانت تنتظر رشدي…

تراقب بصمت: ما عساه أن يفعل. 


💞__________بقلمي_ليلةعادل


حديقة القصر، الثانية عشرة ظهرًا


نرى عمار وماسة  يجلسان على أحد المقاعد الخشبية، بينما كانت ماسة تتناول سندوتشات، وكأنها أول وجبة حقيقية تدخل معدتها منذ أن علمت بالحقيقة.


ماسة وهي تقضم لقمة: بقولك إيه..هو إنت بتقبض كام؟


نظر إليها عمار بدهشة: إيه السؤال ده؟


نظرت ماسة له بثبات: جاوب بس.


ضحك عمار بخفة: يعني عشرة آلاف، غير شوية حاجات كده على جنب.


ماسة: ومعاك فلوس كاش دلوقتي؟


عمار بمزاح: إيه، عايزة سلفة ولا إيه؟


ماسة بجدية: أيوة، هات إللي معاك.


رمقها بإستغراب:  بتهزري؟


ماسة بحزم:  لأ، با اتكلم جد.


أخرج عمار من جيبه بعض النقود وهو لا يخفي دهشته. أصبحت ماسة ترى كل شيء بنظرة مختلفة، لم تعد ترغب في أن تأكل من القصر، ولا أن تأخذ قرشًا واحدًا من سليم بعد الآن. الحقيقة كسرت شيئًا بداخلها.


مدّ يده نحوها:  دول 2000 جنيه... حلوين؟


ماسة أخذتهم وقالت بهدوء: شكرًا.


نظر لها عمار متعجبًا وسأل: هو في إيه؟ كلمتيني أجيبلك أكل، دلوقتي فلوس؟ متخانقة مع سليم؟ حالفة ما تاكليش؟


ابتسمت ماسة دون أن تنظر إليه مباشرة:

لأ ياعم، أنا لما كلمتك وقلتلي إنك بتفطر في المطعم، نفسي هفتني على الطعمية فيها حاجة... 

أما الفلوس... فـ محتاجاهم أجيب هدية لسليم من فلوسي. كل سنة كنت باخد من فلوسه وأشتري، فحساها رخمة،  بس المرة دي... من فلوس أخويا. وأنا وأخويا واحد، مش كده؟


عمار وهو يبتسم بمحبة: أكيد يا حبيبتي، إحنا أصلاً كل إللي إحنا فيه من فضلك وفضل سليم. 


ثم مال نحوها وطبع قبلة على خدها: بس وشك مش عجبني باهت كده، إنتي كويسة؟


ماسة تطمئنه: أنا كويسة. يا حبيبي ماتقلقش عليا.


خيم الصمت بينهما، لكن كان صمتًا مطمئنًا، فيه ألفة وسكينة..

بعد وقت ذهب عمار وصعدت ماسة الجناح وظلت به 


جناح سليم وماسة، الرابعة مساءً 


كانت ماسة ممددة على الأرض على جانبها، تحدق في الفراغ والدموع تسيل بصمت على وجه شاحب متعب.

الهاتف الذي أعطاها إياه رشدي كان ملقى بجانبها


وبعد وقت .. رن فجأة، ارتجفت يدها والتقطته.

نهضت ببطء، وقلبها يخفق بذعر، ثم ضغطت على زر الإجابة بقهر.


أتاها صوت رشدي هامسًا حادًا: قبليني في أوضة ياسين


ماسة بصوت مخنوق: ماتقولي إللي إنت عايزه هنا... مش هينفع أدخل أوضة معاك..


رشدي بسخرية باردة: أكيد مش هغتصبك يعني... ماتتأخريش..اغلق المكالمه 


عضت على أسنانها قهرًا، تمسكت بالهاتف بأصابع مرتجفة وهمست من بين أسنانها بغل: ربنا ياخدك... إنت وأمك وإخواتك كلهم.


بصعوبة، دفعت نفسها من على الأرض، شعرت بأن جسدها كله يصرخ من شدة الألم النفسي.


فتحت الباب بحذر، أخرجت رأسها ونظرت يمين وشمال، الهدوء كان مخيمًا... لا أثر لأحد.


تسللت بسرعة نحو غرفة ياسين.

دفعت الباب ودخلت وأغلقته خلفها بسرعة، كأنها تخشى أن تبتلعها الأرض.


كان رشدي بداخل الغرفة، ومعه صافيناز.

توقفت ماسة بجانب الباب، نظرت لهما باشمئزاز وقالت بصوت جاف: ما شاء الله... إنتم الاتنين هنا.


ابتسم رشدي ببرود فتح الموضوع مسرعاً: أسمعي... سليم بكرة عنده حفلة، كلنا هنكون موجودين، وإنتي لازم تحضري الحفلة دي.


صافيناز أضافت بنبرة آمرة: ولو سليم منعك أو رفض... حاولي تعملي المستحيل علشان تحضريها.


هز رشدي رأسه وأكمل:

ولو فضل معاند عرفيني... وأنا هعرف أخرجك من هنا..بس كده كده... بكرة مش هتبقى هنا يا ماسة والليلة دي هي آخر ليلة ليكي في قصر الراوي.


ارتعشت ماسة بخوف لا تعرف من أين أتاها برغم أنها تنتظر تلك اللحظة منذ معرفتها الحقيقة لكن هناك شعور من الخوف والرجفة تملكا منها.


تابع رشدي وهو يبتسم ابتسامة خبيثة:

وإنتي في الحفلة...مش عايز منك غير إنك تدخلي الحمام وبس ..


كادت ماسة أن تنطق، سبقها رشدي: هاتقوليلي طب رواية؟! هقولك ماليش فيها... اتصرفي وأخلعي منها.


قطعت ماسة كلامه بيأس ممزوج بحدة: أعملها إزاي يعني؟


صافيناز، وهي تلوح بيدها بعدم الاهتمام: مش مشكلتنا... فكري.


رشدي أكمل بحزم: وياريت تخبي وشك بنقاب مثلا، عشان تعرفي تخرجي من المستشفي، تركبي عربية وتقولي  للسواق عايزة موقف فى عربيات بتروح الساحل ومن هناك تاخدي عربية بتروح الساحل، متقلقش هنكون سوا على التليفون.


بلعت ماسة ريقها بصعوبة، سألت بصوت متحشرج

وبعدين؟ إيه إللي هيحصل؟


ابتسم رشدي بخبث: كل حاجة هتعرفيها في ميعادها... يا ست الحسن.


رفعت ماسة حاجبيها بضعف: طب...ساعدوني، قولولي أعمل إيه مع راويه دي؟


صافيناز رمقتها بنظرة ساخرة: اتصرفي... اشغليها بأي طريقة وهو إحنا هنفكرلك كل شوية؟!


تسال رشدي وهو يضحك: أخبار النكد مع سليم إيه؟


ماسة بحدة مكبوتة: مالكش دعوة...

أنا هعرف اتصرف معاه. مش إنتم عايزينه يبقى مستعد إني أمشي؟ خلاص... هو كده كده فاهم كل حاجة.


نهض رشدي واقترب منها خطوة: طب يلا روحي دلوقتي... وخلي بالك.


توقفت ماسة عند الباب، لكن قبل ان تفتح استدارت بوجهها المليء بالقهر لكن به قوة:

لو أهلي حصلهم حاجة...أنا هقول لسليم كل حاجة.


رمقها رشدي بنظرة باردة لكنها مليئة بشر:

ماسة... إنتي مش في المكان إللي يسمحلك تهدديني.


صافيناز أضافت بصوت هادئ قاتل: إنتي دلوقتي واقفة على أرض من إزاز... مش صلبة زي زمان.


نظرت إليهم ماسة من أعلى لأسفل، بعين ممتلئة بالغل وقلب مثقل بقلة الحيلة، تشعر كأنها دمية بين أيديهم، يعبثون بها كما يشاؤون، دون أن تمتلك القدرة على فعل شيء، خوفًا على عائلتها.


فتحت ماسة باب الغرفة بحذر، نظرت يمينًا ويسارًا لتتأكد أن لا أحد في الخارج. خرجت وتحركت في الممر، كانت أنفاسها متلاحقة، وكأنها عادت لتوها من معركة.


أغلقت الباب بالمفتاح وانهارت على الأرض، جسدها خذلها والهواء صار خانقًا. عيناها تحدّقان والدموع تنهمر بصمت، لا تعرف كيف تتخلص من راوية أو كيف ستنفذ ما طُلب منها، لكن أملها الوحيد كان الخروج من هذا القصر الملعون. قضت الليل تفكر بلا نوم، حتى قررت أخيرًا الاتصال بسلوى.


ماسة، بنبرة مكتومة: ألو؟ يا سلوى؟ عاملة إيه دلوقتي؟


أتاها صوت سلوى من الجهة الأخرى، كانت تجلس في شرفة غرفتها، وجهها شاحب كحال ماسة، مع تبادل الشاشة بينهما.


سلوى، بتعب: والله تعبانة... وأمك مش مبطّلة، ولا هو كمان.


ماسة، تتنهد بوجع: خلاص يا سلوى، ماتقلقيش بكرة آخر يوم.


سلوى، متعجبة: يعني إيه بكرة آخر يوم؟


تبسمت ماسة ابتسامة باهتة، لم تصل لعينيها.


ماسة، بألم: يعني خلاص، همشي. هحضر حفلة مع سليم. هو لسة ماكلمنيش عنها، بس هروح... وإنتي هتيجي معايا. هتساعديني في الهروب. رشدي أداني التعليمات.


سلوى توقفت، وعيونها تلمع بالدموع، وقلبها يتخبّط بقلق.


سلوى: أنا خايفة يا ماسة... خايفة أوي.


أمسكت ماسة دموعها بقوة حاولت ألا تبكي، ألا ينكسر صوتها.


ماسة، بقوة مصطنعة: لا، ماينفعش تخافي. عشان بابا وماما يبقوا بخير... ويوسف وعمار، وإنتي كمان. أبوس إيدك يا سلوى، امسكي نفسك. كلمة واحدة منك ممكن تضيّع كل حاجة. فكري فيهم... فكري فيا. في إللي ممكن يحصل فيكي عشانهم. ماينفعش... إنهيار ما ينفعش.


تنهدت سلوى: حاضر يا ماسة، والله حاضر... بس أنا خايفة عليكي.


ماسة، بابتسامة موجوعة: مش مهم أنا. المهم إنكم تبقوا بخير. هيحصلي إيه يعني؟ ده أنا همشي... وهرتاح.


سلوى بتردد: تفتكري إنك هترتاحي؟


ماسة، بإختناق: مش عايزة أفكر يا سلوى. كل إللي طلباه منك: بكره تيجي معايا الحفلة. هتفهمي كل حاجة هناك. زي مافهمتك، ماتبينيش، وماتفجئ لما أكلمك. قوليلي متصلة ليه متأخر كده؟، أو أي حاجة... أوعي تبيني إنك عارفة.


سلوى: حاضر.


ماسة، بنبرة مبحوحة: يلا بقى... سلام.


سلوى، بصوت خافت: سلام.


أغلقت ماسة الهاتف ووضعته بجانبها، وأسندت رأسها على حافة الفراش. تفكّر في صمتٍ يحرق قلبها... تبكي بحرقة.


لم تنم تلك الليلة. كانت ليلة طويلة، طويلة جدًا. ليلة شتوية رغم أن الأيام في ربيعها، لكنها كانت باردة، قاسية... كعاصفة من الأوجاع، تجتاحها من الداخل.


اليوم التالي 


غرفة سليم


توقف سليم أمام التسريحة، ينظر إلى انعكاسه في المرآة وهو يصفف شعره، مرتديًا بدلته الأنيقة، مستعدًا للخروج إلى الحفلة. بعد لحظات، دخلت ماسة دون أن تطرق الباب. لمحها عبر المرآة فالتفت نحوها مستغربًا.


سليم بنبرة ساخرة: عاملالنا نكد إيه النهاردة يا روح قلبي؟


تقدمت ماسة خطوات قليلة، نظراتها تملؤها الحيرة.: هو إيه إللي بيحصل ده؟


رفع سليم حاجبيه، وهو يرتدي ساعته: إيه إللي بيحصل؟


ماسة بغضب مكتوم، وصوتها يرتجف قليلًا: يعني كلكم خارجين مشيكين نفسكم حتى إنت... هو أنا هوا ولا إيه؟ مش موجودة؟ مش محسوبة؟


أدار سليم وجهه نحو المرآة، وبهدوء بدأ ينظم ملابسه أجاب: عندنا حفلة دخلت شراكة في مستشفى، وعندي حفلة النهاردة.


ضحكت ماسة بسخرية حادة: مادام إنت إللي اشتركت، هما بقى رايحين ليه؟ هيصقفولك ولا إيه؟ ولا ناوي تقولي أنا لازم أبرر !


سليم بجدية وهو يلتفت نحوها: من غير استظراف وطولة لسان، دكتور جلال يبقى صديق الباشا، وهو إللي عزمه، أنا رايح بصفتي رئيس مجلس الإدارة، لإني داخل بشراكة ستة وخمسين في المية.


ضحكت ماسة باستخفاف: وطبعًا هتقولي أوعي تستهيني بالواحد في المية ده، صح؟ ده الواحد في المية بيخليكي ترفضي وتقبلي إللي إنتي عايزه! مغرور.


ابتسم سليم بهدوء: ده مش غرور، دي ثقة ومعرفة بقيمة نفسي.


رش عطره بهدوء، وكأن الموقف لا يعنيه.


اقتربت منه ماسة، وهي تزم شفتيها بغضب: وأنا بقى ليه مش موجودة في الحفلة دي؟ المفروض أكون أول واحدة! أنا مراتك.


استدار سليم، وضحك ساخرًا، قائلا ببرود لاذع: يا شيخة، قولي كلام غير ده. كويس إنك لسة فاكرة إنك مراتي.


رفعت ماسة ذقنها بتحدٍ: أيوة لسة فاكرة، ماقلتليش ليه؟


سليم بدهشة: هو إنتي مش قلتيلي ماتتكلمش معايا واعتبرني مش موجودة وأحترم الحدود والقرار؟


ماسة بلهجة مجروحة، يغلب عليها الغضب: بس لما كل القصر يكون رايح وإنت كمان... المفروض تقول لي، تعرض عليا. أقبل أو أرفض. تحسسني إني مش بنت البطة السودا !


تقدم منها سليم بخطوتين، قرص خدها بدلع وهو يعترض بلطف: لا يا حبيبة قلبي، إنتي لا بنت بطة سودا ولا الفرخة حتى، ها تحبي تيجي معايا؟


أجابته بتحدٍ واضح وهي تضيق عينيها:  أيوه، أحب هطق من القعدة لوحدي.


ابتسم سليم بسعادة واضحة: لا لا يا عشقي ماتهونيش عليا إنك تطقي،  طب يا ريت تتفضلي تجهزي. أنا هستناكي، بس ما تتأخريش.


تدللت عليه ماسة،: هتصل بأختي تيجي معايا.


ضحك سليم بصوت منخفض: اتصلي بالعيلة كلها تيجي!


التفتت بينما كان ينشغل بإصلاح ربطة عنقه، سألها فجأة:  قوليلي صح، إنتي ليه مابتروحيش الكلية؟ مابشوفكيش يعني بتخرجي كده؟ مش دي الكلية إللي كنتي بتعملي عاشانها مشاكل ودخلتي بسببها في اكتئاب؟


ماسة بعناد: بمزاجي. لما أحب أخرج أخرج. أصل أنا مش همشي على مزاجك! مش كل شوية تقولي أقعدي، أقعدي، أمشي، أمشي! براحتي! بعدين أنا قلت لك عايزة أفكر.


ابتسم سليم وهو يقترب منها بدفء بمهاودة:  أكيد براحتك يا ماستي المتمردة، بس هي مش خناقة ولا إيه؟! بالراحة، ياريت تجهزي بسرعة عشان، مانتأخرش  أنا مابحبش أتأخر.


ضحكت ماسة وهي تتمايل أمامه: ليه يا سالوملوم؟ مش الكبير دايمًا الناس هي إللي تستناه؟


سليم مبتسمًا بثقة: بس الكبير  بردو لازم يحترم مواعيده..


ماسة بمرح: نص ساعة وهكون جاهزة.


أومأ سليم برقة: هستناكي.


تحركت ماسة أمامه بخفة وخرجت من الغرفة، ظل سليم ينظر خلفها بدهشة، قبل أن يتنهد بتعب، ويجلس على مقعد التسريحة. همس لنفسه بمرارة:  وبعدها معاكي أنا تعبت... مش عارف أعمل معاكي إيه، وأرضيكي إزاي. دلوقتي كويسة، كمان شوية هتتقلبي تاني أنا عارف.


زفر بغيظ، وكأن كل ما بداخله يشتعل.


  💕_______بقلمي_ليلةعادل_______💕


داخل السيارة، الثامنة مساءً


جلست ماسة إلى جوار سليم، بينما كانت سلوى بجانبها على الجهة الأخرى.


أما مكي، فكان يجلس في المقعد الأمامي، إلى جانب السائق.


ساد الصمت السيارة، لكن داخل كلٍّ منهم، كان هناك عواصف تعصف بلا رحمة.


كان مكي يختلس النظر إلى سلوى بين الحين والآخر، لكنها كانت تتجنب عينيه في كل مرة، وكأنّ مجرد النظر إليه يؤلمها.


لم يكن يفهم ما بها. سلوى لم تعد كما كانت. تغيّر شيء بداخلها، رغم أنها تحاول التظاهر بأن شيئًا لم يحدث. ومنذ حديث ماسة معها، وهي تحاول أن تمسك زمام غضبها.


ومع كل محاولة للفهم، كان الضيق يشتد بداخله أكثر.


أما سلوى، فكان قلبها يئن. تحاول أن تبدو هادئة، متماسكة، لكنها لا تُجيد التمثيل كما تفعل ماسة.

كلما وقعت عيناها على مكي، رأته في هيئة رجل وحشٍ مخيف وغريب.


لذلك أبقت عينيها معلّقتين بالطريق، علّها تهرب من صور لا تستطيع نسيانها.


سليم، على النقيض تمامًا، كان يشعر بسعادة خفية... بل طاغية. يكفيه أنّ ماسة إلى جواره.


برغم تقلباتها المزاجية في الفترة الأخيرة، تارة قريبة، تارة بعيدة، بين دفء اللحظات وبرودتها في لحظات أخري... 

كشهر تشرين يتحول ويفاجئك بعد ربيعٍ جميل، بشتاءٍ مخيفٍ مليءٍ بالعواصف دون أمطار..


لكنها قريبة الآن، وهذا وحده يكفيه. مجرد وجودها بجانبه، يهدئ كل شيء بداخله.


لكن ماسة... كانت في عالمٍ آخر، عالم لا يعرفه أحد.

الخوف ينهش صدرها.


تتساءل: هل ستنجح خطتها؟ هل سليم يعرف بها؟ هل يراقبها؟  ماذا لو أخطأت؟


الخوف على عائلتها من رشدي يطغى على كل تفصيلة.


تفكيرها بأنها بعد ساعات ستهرب، جعل قلبها يتصارع مع كل نبضة.


وحين توقفت السيارة أمام المكان المنشود، شعرت بأن الهواء قد انقطع.


تلقائيًا، دون وعي، أمسكت بيد سليم. لم تكن تلك اللمسة طمأنينة... بل هلع.


لم تشعر بالفرح كما كانت تتخيل، بل بالحزن، والرغبة في أن تعود السيارة أدراجها قلبها يتضخم داخل صدرها من الخوف من القادم من المجهول.


لكن... انتهى الأمر.


ماسة التي عرفها الجميع يجب أن تموت.


ماسة الطيبة، البريئة، الضعيفة... لا مكان لها فيما هو قادم.


الآن، يجب أن تولد من جديد.


أن تكون ذكية، مخادعة، باردة، صاحبة وجوه متعددة... كما قال لها سليم ذات يوم:

كل موقف له وجه، وكل شخص له طريقة.


هبطت من السيارة، ودفنت قلبها.

لكي ترحب بتلك الوجوه الجديدة، وكأنها ستُخرج كل ماتعلمته من سليم في السنوات السابقة....



      الفصل الواحد والسبعون ج1 من هنا 

      لقراءة جميع فصول الرواية من هنا


تعليقات