
رواية الماسة المكسورة
الفصل السابع والسبعون 77 ج2
بقلم ليله عادل
صعد سليم إلى السيارة بصمت، بينما مكي نظر له بضيق، وتمتم: والله العظيم حبك ده شكله هيضيعك
في تلك اللحظة، جاء عشري وهو يضع الحقيبة قال له مكي بتنببه: خد بالك منه كويس، خلي المسكن دايمًا معاك، رجله بتوجعه الأيام دي كتير
أومأ عشري برأسه، ثم صعد إلى المقعد بجانب السائق، تحركت السيارة، وخلفها سيارات الحراس.
بينما ظل مكي ينظر لأثاره بإختناق
وبالفعل، سافر سليم إلى وجهته في مدينة السويس، لإنهاء بعض الأعمال المعلّقة.
أما ماسة، فبقيت في الفيلا، تجلس في الحديقة تبكي بصمت من أفعاله هذا الثبات المؤلم في طباعه فهو لا يتغير، وبعد وقتٍ من الشرود، صعدت إلى غرفتها، توقفت أمام المرآة، وعاد إلى ذاكرتها وعدٌ قطعته على نفسها: أنها ستوجعه كما أوجعها لكنها حتى الآن لم تفعل كيف؟! كان داخلها يقول إنه لا يستحق المغفرة، ما دام لا يزال يهدّدها بأعزّ ما تملك، لكنها لا تعرف من أين تبدأ، ولا ماذا تفعل، وضعت يديها على شعرها، ثم ابتسمت بخفوت، يبدو أنها وصلت إلى فكرة، فتحت الدرج، وأخذت تبحث إلى أن أمسكت بالمقص، دخلت إلى الخزانة، اختارت بعض الملابس، ثم ذهبت إلى الحمّام، واتحممت وحين خرجت، كانت تلفّ شعرها بإيشارب، لا يظهر منه إلا الجزء الأمامي، لم تتناول الطعام في ذلك اليوم، إذ كان حزنها شديدًا، وقلبها يعتصره الألم.
في المقابل، لم يكن سليم مركزًا تمامًا في عمله، رغم انشغاله، كان يطمئن عليها من خلال سحر، ومن خلال كاميرات الفيلا، وعندما علم أنها لم تأكل شيئًا، انتابه القلق، لكنّه اطمأن قليلًا حين عرف أنها شربت شيئًا، وتناولت إفطارها في صباح اليوم التالي.
في اليوم الثاني، ظل سليم غارقًا في العمل، أما ماسة، فقد بدت طبيعية، أكلت جيدًا، لكنها لم تفك الإيشارب عن شعرها، مما لفت انتباه سليم، وإن لم يدرك مغزاه.، وفي تلك الليلة، عاد سليم إلى الفيلا وهو يحمل بين يديه باقة من ورد القرنفل، الذي يعرف جيدًا كم تعشقه، أول مافعله أن صعد مباشرة إلى غرفة ماسة، كان مشتاقًا لها، ويود أن يراها بعينيه، يطمئن عليها بنفسه، أما ماسة، فرغم أنها لم تكن تعرف موعد عودته بدقة، إلا أنها شعرت أنه سيعود هذه الليلة، لقد بدأت تحفظ عاداته… وخصوصًا حين يشتاق.
غرفة ماسة، الثامنة مساءً
دخل سليم الغرفة ونظر لها بابتسامة مشتاقة
كانت ماسة جالسة على الفراش، في وضع بدا مثيرًا قليلًا، ترتدي فستانًا زيتي اللون بحمّالات رفيعة، ومازال الأشرب يغطي شعرها، كما فعلت منذ الأمس.
سليم بصوت هادئ: مساء الخير
ماسة، دون أن تتحرك، بنبرة ساخطة: هي مامي فايزة ماعلمتكش أصول الإتيكيت؟ حتى لو داخل على مراتك لازم تخبط على الباب، يمكن أكون بعمل حاجة نسائية مثلًا؟!
سليم وهو يبتسم ويقترب من الفراش: مابياكلش معايا الإتيكيت ده.
مد يده بالورد نحوها نظرت إليه بنظرة باردة: إنت عارف كويس إني مش هاخده، وبعدين صبار بيجيب قرنفل؟! أوعى تجرحه بشوكك، وسمك يموته!
سليم بصوت هادئ: وليه ماتقوليش إنه هو إللي ممكن يهديني ويطيبني ويعالِجني ويشيل الشوك مني؟ بدل مابقى صبار، أبقى فل وأرجع تاني كراميل بدل السجنجن.
ضحكت ماسة بخفة: الصبار هيفضل طول عمره صبار يا سجنجن.
سليم تنهد بتعب: يعني مش هتاخدي الورد؟
رفعت ماسة حاجبيها للأعلى، بالرفض الواضح.
تنهد سليم ووضع الباقة على الفراش، ثم نظر إلى الأيشارب على رأسها وسأل بمزاح ساخر: اتحجبتي؟
ماسة بإبتسامة خبيثة: عاملالك مفاجأة
سليم وهو يرفع حاجبيه: إللي هي إيه؟
رفعت الأشرب ببطء، فكشف شعرها الجديد، قصة كاريه حادة، وغير متوقعة. لكنها كانت غير مستوية، وكأنها قُصّت بيد مرتجفة.
نظر إليها سليم بدهشة، لم يكن يتوقع ذلك أبدًا
ضيقت عينيها، كأنها تحاول أن تقرأ ردة فعله، تعرف أنها طعنته بهذا الفعل، تعرف كم يحب شعرها الطويل، وكم رفض مرارًا قصه.
رمش بعينيه قليلًا، وظل صامتًا.
قالت بنبرة باردة: الصدمة أكبر من استيعابك للدرجة دي اجبلك ميه!؟
لكنه تبسّم فجأة، وغير قواعد اللعبة: تحفـة.
نظرت له ماسة بدهشة شديدة، لم تكن تنتظر ذلك كانت تنتظر غضبًا: تحفة؟! هو إيه إللي تحفة؟
سليم وهو يومئ بإعجاب: القصة، تحفة بجد، شكلك زي القمر، ماكنتش متوقّع إنك هتبقي بالجمال ده وإنتِ شعرك قصير، ياريتني وافقتك من زمان، النيولوك ده تحفه... تحفـة.
ماسة اتسعت عيناها: يعني إنت مش متضايق؟
ضحك سليم: خالص! هتضايق ليه؟ هو إنتِ عاملاه كده عشان تغيظيني؟ يعني هتوجعيني بالهبل ده؟
ماسةبإصرار: قول إللي تقوله، بس والله العظيم إنت متضايق، وبتحاول تضيع فرحتي، بس أنا متأكدة إنك زعلان من جواك، وهتموت.
سليم بسخرية وهو يضحك: هموت عشان قصيتي شعرك؟!
ماسة: أيوه، عشان إنت كنت بتحبه.
أقترب منها وقال بنبرة أهدأ بحب: أنا بحبك إنتِ ومادام إنتِ لسة معايا، يبقى ده المهم، بشعر قصير، بشعر طويل، حتى لو قرعة، مش فارق معايا، أنا بحبك إنتي بجميع أحوالك يا ماستي المتمردة.
مدّ يده، ومررها على شعرها القصير بنبرة مداعبة:
بس بجد، تحفة، بس مش متساوي أجيبلك البنت هنا تظبطه ليكي؟
ماسة أبعدت يده بعنف وقالت بغيظ: مش عايزة منك حاجة عاجبني كدة.
ضحك سليم، وغمز لها وهو يقترب منها: واحد صفر المرّة دي أنا إللي كسبت، فكري في فكرة تاني، يا مجنونة يا عنيدة، عشان توجعي قلبي بيها.
ثم تركها وهو يضحك، لكن الضحكة كانت سطحية، تخفي وراءها غليانًا داخليًا.
ماسة رمقته بنظرة حادة، ثم أمسكت بأحد الفازات على الطاولة وألقتها على الأرض بقوة، تحطمت.
صرخت خلفه: والله العظيم إنت متضايق!
دخل سليم غرفته، وهناك ترك الغضب يفضح نفسه، فكّ ربطة عنقه بعنف، شدّها حتى كادت تخنقه، ثم ألقاها أرضًا.
تمتم بغضب وهو يتحرك في الغرفة: عنيدة… عنيدة مستفزة، قصة شعرها الغبية، مش عارف في عناد للدرجة دي؟ صمت للحظه وكأنه تذكر:
آه أكيد كانت أكتر من مرة مستعدة تعرض نفسها للخطر بس عشان تغيظني، وتثبت إنها صح
فتح أحد الأدراج، نظر إلى الهاتف ما زال كما هو تنهد وتمتم بسخرية مرة: ماشي يا ماسة أما نشوف آخرتها معاكي ومع عنادك إيه.
أثناء ذلك طرَقَ الباب، ودخلت سحر.
رفع سليم عينيه نحوها وهو يبدو منهكًا: أفندم يا سحر؟
بخفوت: أحضرلك العشا.
وهو يتحسّس معدته: ماشي، هي ماسة هانم هتتعشى؟
سحر: هتاكل في أوضتها.
سليم: ماشي، وأنا كمان هاكل هنا.
سحر وهي تتأمله: شكلك تعبان يا بيه.
تنهد سليم: شويه.
أخرج من جيبه علبة دواء، تناول حبة منها، ثم عاد ليستلقي على ظهره في الفراش، ملامحه كانت منهكة، ليست من المرض فقط، بل من شيء أعمق.
خرجت سحر في صمت، بعد دقائق، عادت وهي تحمل صينية الطعام.
سحر: سليم بيه.
نهض من مكانه وهو يومئ نحو الطاولة: حطيهم هنا.
بدأ في تناول الطعام بصمت، ثم قال بنبرة خفيفة:
بقولك إيه، لو ماسة طلبت منك تليفونك تتكلم فيه أديها.
سحر: أمرك.
خرجت سحر بدا سليم يتناول الطعام بصمت
خلال الأيام التالية...
تدهورت العلاقة بين ماسة وسليم، كانت تهبط لأسفل فقط في غيابه عندما يكون في المجموعة، وما أن يعود حتى تختفي في غرفتها، وكأنها تهرب حتى من ظلّه وهذا كان يثير جنونه كان لا يراها الا فقط عبر الشاشات.
فيلا ماسة وسليم الخامسة مساءً
دخل سليم من الباب الرئيسي في موعده المعتاد، وما إن رأته ماسة حتى نهضت لتصعد غرفتها، لكنه أوقفها، وأمسك بذراعها وهي على أول درجات السلم.
سليم: تعالي هنا، هو إنتي كل ماتشوفيني تمشي؟ إيه شفتي عفريت؟
ماسة نظرت له بجمود: لا سجان، وبعدين أنا مش طايقة أشوفك، مش عايزة أشوفك شوفتك بتقفلني بتخنقني بتتعبني نفسيًا.
سليم بتعصّب: بلاش طولة اللسان دي؟
ماسة بنبرة مكسورة: دي مش طولة لسان، دي مشاعر، أنا كل مابشوفك بفتكر كلامك بفتكر تهديداتك، مساوماتك، بفتكر إني حبيت واحد زيك فطبيعي، مش هحب أقعد معاه.
سليم بتنهيدة ثقيلة: طب سيبك من الانتقامات العبيطة دي، تعالي نخرج تحبي أوديكي مكان معين؟ أنا الفترة الجاية، هكون مشغول شوية.
ماسة بتعجب: إيه ده؟ إنت سخن ولا إيه؟ هتسمحلي أخرج؟
سليم بنبرة موجوعه: اممم تعالي نسافر ماتسمعي كلام وتريحي قلبي وخلينا نمشي من هنا.
لم ترد فقط صمت تنهد سليم بتعب أغمض عينه للحظه اخرج انفاس ساخنه:قال: طب تعالي نخرج.
ماسة بضجر: تفتكر إني هقبل أخرج معاك؟ أنا مش طايقة أشوفك بقولك؟
صمتت للحظه ثم قالت: طب خلاص وديني عند ماما.
سليم: مروح هناك مرفوض، أجيبلك باباكي ومامتك هنا، غير كده غير مسموح.
ماسه بغضب مكتوم: أنا عمري ماشفت كدة واحد عايز يصلح إللي عمله مع مراته ويصلح أخطاء الماضي يوريها إن هو قد إيه بقى حد كويس ويستاهل الفرصة يقعد يساومها وبيحط شروط.
سليم بتوضيح: يا بنتي مش شروط قلتلك مش هعرف أمسك غضبي لو حد فيهم عمل حاجة، أقبلي باللي بقوله علشان إنتي إللي هتخسري.
ارتسمت على شفتي ماسة نصف إبتسامة وجع قالت بمرارة بعينين ترقرق بدموع: هو في أكتر من إللي خسرته؟!أنا خسرت قلبي، خسرت الراجل إللي حبيته واتجوزته، وجعك جوايا كل يوم بيزيد، وإنت مش شايف نفسك غلطان عموما أنا مستعدة أقبل بشروطك وهستكفى بـ بابا وماما أهو، بتنازل بس عايزه شرط.
سليم بجمود: أسمع الشرط الأول.
ماسة: حاضر.
نظرت له بثبات: تقدر توعدني إنك مش هتعمل فيهم حاجة لو حد تجاوز في حقك أو يعني فكر، يخرجني من هنا لإني ماضمنش ردة فعلهم بصراحة؟
سليم بهدوء: إنتي عارفة إني ماقدرش أوعد بحاجة، أنا مش ضامن نفسي فيها زي ما إنتي مش ضامنة ردة فعلهم أنا كمان مش ضامن ردة فعلي.
ماسة زمت شفتيها بحسرة: يبقى الحال كما ما هو عليه.
سليم: طب روحي ألبسي، نخرج شوية.
ماسة بضيق:قولتك لا مش عايزة أخرج معاك ولا حتى عايزة أشوفك وجودك وبيوجعلي قلبي.
نفخت بضيق، وصعدت لغرفتها، بينما وقف سليم مكانه يتابعها بنظرة ضيق.
بدأ سليم يصعد خلفها، لكن ملامحه كانت توحي بالتعب. وفي منتصف السلم، انتهب له توقفت فجأة، واستدارت تنظر إليه بقلق.
ماسة بقلق: هو إنت رجلك بتوجعك؟
تحسّس ساقه قليلًا: آه بس مش فاضي أروح لدكتور مكي حجزلي قبل كده، بس ماكنتش فاضي.
اقتربت منه ونظرتها مليئة بالقلق: بس لازم تروح تطمّن على نفسك.
ابتسم سليم ابتسامة خفيفة:خايفة عليا؟
ماسة بصوت خافت وهي تتفادى عينيه: بلاش تهمل في نفسك، روح اطّمن، ماتنساش إن الرصاصة ممكن تكون السبب، ألف سلامة عليك.
مدت يدها صوبه لتساعده، نظر سليم إلى يدها، ابتسم قلبه قبل شفتيه، ووضع كفه على كفها، فساندته وهو يصعد، كان يستطيع أن يصعد بمفرده، لكنه أراد فقط أن يظل قريبًا منها.
ماسة قالت وهي تصعد الدرج: ليه مش بتطلع بالأسانسير؟ أحسن.
سليم: عادي.
ماسة: لا اطلع بيه افضل، إنت كلت؟
سليم: ممم.
ماسة: ألف سلامة عليك.
كان سليم يشعر بسعادة عميقة، يكفيه أنها إلى جواره، وصلا إلى الغرفة، وساعدته على الجلوس، ثم نظرت إليه تسأله: أجبلك مسكن؟
رد بهدوء:لا، أنا واخد من شوية.
ماسة:طيب مش عايز حاجة تاني؟
قال وهو يشير إلى ظهره:ساعديني بس افرد ظهري.
ماسة:حاضر.
اقتربت تساعده، كان ينظر لها بابتسامة دافئة، ورائحتها تتسلّل إليه، منذ وقت طويل لم يقتربا بهذا الشكل، فهو يحاول أن يعود إلى قلبها بأي طريقة.
لكنها فجأة ابتعدت: محتاج حاجة تاني.
نظر لها سليم: فكري تاني في موضوع الخروج.
قاطعته بحدة وهي لا تنظر إليه:
قلتلك مش عايزة أخرج معاك، أنا ساعدتك بس عشان إنسانية وعِشرة، أنا إنسانة مش توبة!
ارتسمت ابتسامة هادئة على شفتيه، وقال بنبرة منخفضة: فاهم فاهم.
تحركت ماسة وهي عند باب التفتت له: تصبح على خير. أنا مش هنام دلوقتي، في فيلم هتفرج عليه، لو احتجت حاجة، ناديني، أنا صاحيّة متصحيش سحر عشان حرام.
هز سليم راسه بإيجاب بابتسامة صغيرة، خرجت من الغرفة متوجهة إلى غرفتها.
جلست على الأريكة، وعيناها شاخصتان نحو اللاشيء. تمتمت: إنت ما بتحبهوش؟ بتساعديه إنسانية؟ اوعي تنسي، لحد اللحظة دي، مش راضي يطّمنك ولا حتى يستاهل فرصه.
في الجهة الأخرى، كان سليم يحدّق في الباب المغلق، وقلبه يخفق بسعادة خافتة، اهتمامها به كان كافٍ ليوقظ فيه الأمل، اعتدل في جلسته، أمسك بهاتفه، وأجرى اتصالًا بأحد الأطباء، يطلب موعدًا للكشف.
_______💞بقلمي_ليلةعادل💞________
منزل مكي، الرابعة مساءً
نرى مكي جالسًا إلى المائدة مع والدته، يتناول طعامه في صمت، بينما كانت ليلى تنظر إليه بعينين يملؤهما الحزن.
إنتبه لنظراتها وقال وهو يرفع حاجبه ساخرًا: بتبصيلي كده ليه؟ هو أنا مت ولا إيه؟!
ليلى بإستهجان: بقولك إيه، إنت مهما عملت نفسك مش فارق معاك، بس أنا عارفة إنك من جواك بتتقطع. إنت، روّحت اتكلمت معاها؟
هزّ رأسه: آه، ولسة مصممة. بقولك يا ماما، أنا عايزك تدوريلي على عروسة.
نظرت إليه بدهشة: طب وسلوى؟
مكي بجمود: هي فرصة، ويبقى خلاص.
تنهدت ليلى بتهكم: والله عندك حق. هي ماتستاهلش ظفرك. مالها بتتنك عليك على إيه؟! أنا بقى هجيبلك واحدة قمر، هخليها تندم إنها سابتك. هجيبلك ست الستات.
مكي وهو ينظر أمامه: بس ماتفتحيش معاهم الموضوع غير لما أنا أقولك.
ليلى وكأنها تفكر: أنا مافيش قدامي غير نيرة، صاحبة بنت عمك فطومة قمر، ودكتورة أسنان.
أومأ مكي: ماشي، بس اهم حاجة متتكلميش معاهم في حاجة غير لما أنا أقول.
مدت ليلى يدها تربّت على قدمه بلطف: بس إنت ماتزعلش، هي ماتستاهلكش قولي: راجع شغلك والا لا؟
مكي: آه، وأعملي حسابك، بعد كده أنا إللي هبات على طول في ورديات الليل. عشري هيتجوز الشهر الجاي ومش هاينفع يبات تاني أنا هخلص اكل رايح مع سليم للدكتور ادعيله تعبان.
ليلى وهي تدعو بقلق: ربنا يشفيه يارب، طب مايروح يشيل الرصاصة إللي تعباه دي.
مكي: فيه مخاطرة، هو كده كده هايسافر ألمانيا قريب. هخليه يعمل أشعة ويطمن عليها ويكلم الدكتور تاني.
ليلى: ربنا يسهل لكم الأحوال هروح بقى أعلقلك على الشاي كمل أكلك يا ولا والله ماتستاهل ظفرك ووضعت قبلة أعلى راسه.
تحركت ليلى بينما نظر مكي أمامه وهو يقلب في الصحن بلا هدف والحزن يطوى قلبه.
أحد عيادات الجراحة السادسة مساءً
نرى سليم جالسًا على طرف الفراش كان الطبيب "وفيق"، متوقف أمامه يراجع بعض الفحوصات التي أمامه.
الطبيب: تعب معدتك ده مالوش أي علاقة بالرصاصة، أنا هكتبلك اسم دكتور باطنة ممتاز، تتطمن منه أكتر.
سليم يومئ بصمت.
الطبيب تابع وهو يشير نحو قدمه: لكن بالنسبة للألم إللي في رجلك ده طبيعي جدًا، المجهود إللي بتعمله فوق الطبيعي، لازم تعمل أشعة، لازم نطمن على الرصاصة، الإهمال أللي إنت بتعمله في نفسك بقى حاجة فوق الاحتمال.
سليم تنهد: إن شاء الله أنا كدة كدة مسافر ألمانيا قريب.
الطبيب: تمام، بس كل مانعملها بدري، كل مايكون أفضل، أنا هكتبلك مسكن أقوى شوية، بس أرجوك يا سليم ماتهملش.
سليم: حاضر.
سيارة سليم
فتح باب السيارة وجلس بجوار مكي، الذي كان ينتظره وهو يقلب في هاتفه.
مكي وهو يغلق الهاتف: عملت إيه؟
سليم: كل حاجة تمام كتبلي مسكن أقوى، وقال لي أعمل أشعة، بس مش مستعجل هعملها في ألمانيا لما أسافر.
مكي بإهتمام: طب مانستناش المؤتمر، خلينا نسافر قبله.
سليم هز كتفه: الدكاترة بتحب تكبّر كل حاجة، أنا اليومين دول كل ما أتعصب، برزع برجلي في أي حاجة، بطلع السلم كتير، فطبيعي رجلي توجعني.
سكت لحظة، ثم نظر لمكي: المهم إنت عملت إيه مع سلوى؟
مكي، بعد لحظة صمت: خدت قرار. هخطب.
سليم بأستغراب: بتقول إيه؟ إنت اتجننت؟ بلاش تاخد قرارات وإنت غضبان هاتندم.
مكي بحزم: صدقني أنا مش غضبان أنا جبت أخري، هاقابلها بكرة، هي خارجة علشان تستلم شهادتها، لو رفضت، خلاص، قلت لأمي تدوّرلي على عروسة.
وضع سليم إيده على ذراع مكي: يا مكي، أسمع الكلام ده ممكن يزعلها أكتر.
مكي نظر أمامه بجمود: أنا عملت إللي عليا هعرف رد فعلها، وخلاص، مش عايز أتكلم في الموضوع ده تاني بعد إذنك.
ثم ألتفت له: المهم إنت عملت إيه مع "ماسة لسة في عندها؟
ضحك سليم بخفة: اممم، مش عايزة تتكلم، كل حاجة بقت تضايقها حتى بقت تكره تشوفني، لما قلت لها نخرج، قالت لي "ماينفعش أخرج مع واحد وجوده بيدايقني، وكل شوية تفكرني إنها مش هاتسامحني غير لما تشوف كل أهلها وأنا لسة مش ضامن نفسي.
مكي اتنهد ونظر له: طبيعي لما تقول لها كده، تخاف منك أكتر وتعند أكثر هو إنت مش عايز تحسن صورتك وتصلح إللي إنت عملته.
سليم دافع عن نفسه: أيوة بس.
قاطعه مكي: مافيش بس، إنت لسة غضبك عاميك إنت لسة ماصافتش، وطول ما إنت كدة أعرف إن علاقتك مش هتاخد خطوة في الطريق إللي إنت عايزه لازم تتنازل.
سليم: أنا اتنازلت وقلتلها هجيبلك باباك ومامتك اكتر من كدة لا يلا سوق عشان أنا تعبان.
تنهد مكي بتعب وقاد السيارة
بعد عودة سليم من عند الطبيب، بدأ يصعد الدرج بخطوات ثقيلة، فصادفته الخادمة الجديدة تقف عند المدخل:
الخادمة: أعملك حاجة يا بيه؟
سليم: لا نامي قوليلي، ماسة نزلت تحت النهاردة؟
الخادمة: آه، كانت طول اليوم هنا، بس طلعت من شوية، يمكن وإنت بتدخل العربية.
أومأ سليم برأسه بحزن، ثم أكمل طريقه نحو الأعلى.
وجهته كانت واضحة: غرفتها
كعادتها ماسة مؤخرًا، لا تريد رؤيته تتجنبه كما لو كان غريبًا حتى عندما يتأخر في مواعيده لم تهتم.
غرفة ماسة العاشرة مساءً
جلست ماسة على طرف الفراش، تحدّق في التلفاز دون تركيز، كانت وحدها، والصمت حولها لا يُكسر إلا بصوت الشاشة.
اقترب سليم من الباب، وحاول فتحه، فوجد أنه مغلق بالمفتاح، تشنّج وجهه، وجزّ على أسنانه، ثم طرق الباب بعصبية:
سليم: ماسة!
ماسة من الداخل: مين؟
سليم بأمر: أفتحي.
ماسة بجمود: عايز إيه؟
سليم بنبرة صارمة: قلتلك أفتحي.
ماسة بعند: مش عايزة! أنا حرّة، ومش طايقة أشوفك يا أخي!
سليم بحزم: أفتحي الباب. اسمعي الكلام بدل ما أكسره
زفرت ماسة بغيظ، توقفت ببطء، ثم فتحت الباب وهي تتجنّب النظر إليه.
سليم: ليه قافلة على نفسك؟
ماسة بجفاء: علشان مش كل شوية تدخل عليا من غير ماتخبط، وبعدين، مش عايزة أشوفك أصلاً.
سليم بحزن: هتفضلي على نفس الكلام الرخم ده؟
ماسة بنبرة كالرصاص: ده مش كلام رخم، دي مشاعري، أحاسيسي تجاهك.
سليم يحاول السيطرة على غضبه: طب مش عايزة تخرجي؟ نروّح سينما ملاهي نروح اليخت، نسافر أي حتة! هتفضلي حابسة نفسك لحد إمتى؟
ماسة بعين دامعة: لا مش عايزة أخرج، ولا حابسة نفسي أنا بس مش عايزة أشوفك علشان بيجيلي ضيق تنفس لما بشوفك.
تنهد سليم حاول تحمل كلماتها التي مثل السكاكين: إنتِ مش مدّياني فرصة! كل مرة أمد إيدي ليكي، ترفضي.
ماسة عدلت من وقتها نظرت بجانب آخر بنبرة جامدة: إنت عارفني كويس، أنا مش من النوع إللي بيتأثر بهدية أو بخروجة، أنا محتاجة أمان، الأمان إللي فقدته معاك، وإللي أتحول لخوف، منك إنت.
سليم بصوت مكسور: إنتِ عارفة إني عمري ما هأذيّكي.
تهزّ رأسها بحزن نظرت له بدمعة ساخنة: عارفة، أنا مش بخاف على نفسي منك، بخاف على إللي حواليا، بخاف من قلبي إنه يقع في نفس الفخ تاني، الأماكن إللي بتتكلم عنها دي؟ بقت وجع، آخر ليلة كنا فيها في اليخت، كانت كلها وعود، وعود كدابة.
سليم بحده ممتلئ بالعتاب: ومين كان السبب إن هي ماتتحققش أنا يا ماسة؟! أنا؟!
ماسة بنبرة متألمة: لا أنا، بس أنا بتكلم على حاجة واحدة من ساعة يوم الهروب، كل حاجة اتكسرت، أنا غلطت، ماشي، بس ردة فعلك كانت أسوأ، وإنت مش عايز تصلّح، مش عايز توعدني إنك مش هاتكرّر إللي عملته مش عايز تطمني.
سليم بنبرة مهتزة: علشان أنا مش ضامن نفسي، لكني بحاول، أصبري معايا أقبلي باللي أنا بقدمه وبعدين هاتاخدي كل حاجة الصبر.
ماسة بنظرة حادة: وأنا مش طالبة غير الأمان، مش طالبة غير راحة البال، مش عايزة أخاف، ولا أتوجع، ولا أعيش متأهبة كل لحظة إنت عايز تديني نص أمان وأنا مش هقبل غير بكل الأمان أنت خايف من نفسك وأنا بقيت بخاف منك رغم إن عمري ما كنت بخاف منك.
نبرتها ترتفع، صوتها يهتز: يلا بقى أمشى ماتجيش هنا تاني، وجودك بيقهرني، بيخليني أكره نفسي. بتنرفز لما بشوفك، عارف يعني إيه؟ يعني لما بشوفك، جسمي بيألمنى، نفسي بيضيق.، عايزة أهرب من كل حاجة بتفكرني بيك، حتى صوتك بيجيبلي صداع!
سليم بنبرة مكتومة: أنا مش عايز حاجة، غير إنك تفرحي، روحي الأماكن دي، مش علشاني لنفسك.
ماسة بضجر: موافقة، بس مش هروح معاك.
سليم بتوتر: يعني إيه؟ أمال مع مين؟
ماسة بهدوء قاتل: مع أي حد، من سجانك بس مش معاك.
سليم بحسم: يا معايا يا مفيش!
ماسة: يبقى مفيش! وأنا مبسوطة بزنزانتي!
سليم: خليكي فاكرة، إنتي إللي بتقطعي كل الحبال إللي بينا.
ماسة بسخرية: أنا؟
سليم بعصبية: إنتِ إللي مش عايزة تتنازلي!
ماسة بتهكم صاحت به بوجع: لا، إنت إللي مش عايز تتنازل يلا أمشي، بجد، أنا مش قادرة أتحمل وجودك أكتر من كده، أنا مش قادرة أفهم إزاي أتجوزتك! إزاي ضحكت عليا كل السنين دي؟انا بجد مش مصدقه ان كل القسوه دي كانت فيك وانا كنت عاميها
فجأة، وضعت يدها على صدرها، وقطعت السلسلة من رقبتها، ثم ألقتها في وجهه: حتى دي بقت بتخنقنى خد كل ذكرياتك مش عايزاها.
اقتربت منه، ومدت يدها لتسحب السلسلة التى على صدره، لكنه أمسك يدها فجأة. عيناه واسعتان، والدمعة محبوسة داخلمها:
سليم بصوت مرتجف:شيلي إيدك.
ماسة صاحت به بألم: مابقاش ليها مكان زي ما إنت بقى مالكش مكان جوة قلبي لازم تعرف كده
أبعدت يدها ببطء، ثم نظرت إليه بنظرة كلها كراهية:
لازم تعرف هو ده إللي هوجعك بيها إنك تعرف إني بقيت، بكرهك وبكره أشوفك أسمع صوتك، ولو بصيت لنفسك بعنيا، هاتكره نفسك أكتر يا سجان.
فجأة دفعته بعيدًا، وأغلقت الباب في وجهه، جلست على الأرض، وإنهارت في بكاء صامت، يُشبه الليل الثقيل.
بينما توقف سليم في خارج الغرفة، دقّات قلبه تتصارع بعنف داخل صدره، وأنفاسه تتلاحق كأنّ الهواء قد خان رئتيه، شعر وكأنّ قلبه سيتوقّف من شدّة الألم، فوضع يده عليه محاولًا تهدئة ارتجافه، عبثًا، الغضب والحزن كانا يتصارعان في داخله كوحشين لا رحمة بينهما.
كلمة "أكرهك" وحدها كانت كفيلة بأن تهدم ماتبقّى فيه من ثبات، كأنها خرجت من بين أنياب الموت نفسه، فغرست مخالبها في أعماقه دون شفقة.
رفع قبضته، وضرب بها الجدار بقوة، فاهتزّ من عنف الضربة حتى انجرحت يده، ثم التفت فجأة وركل الطاولة الصغيرة في الممر، فتطاير الورد، وتناثر الزجاج على الأرض.
وفجأة.. صرخة رجولية انفجرت من أعماقه، عالية، جهورية، ممتلئة بالوجع والإنكسار، لم تكن صرخة غضب فقط، بل كانت صرخة رجل تحطّم من الداخل، رجل فقد السيطرة على كل شيء، حتى نفسه.
الجامعة الأمريكية الواحدة مساء
خرجت سلوى من بوابة الجامعة وهي تبتسم بثقة، ويغمرها شعور بسعادة فقد نجحت بتفوق، لكن سعادتها لم تدم طويلًا، إذ وقعت عيناها فجأة على مكي، واقفًا بجوار سيارته، يراقبها وينتظرها.
أدارت وجهها سريعًا، وغيّرت طريقها على الفور.
مكي تحرك خلفها يحاول توقيفها: سلوى، استني خلينا نتكلم!
تأففت بشدة: مافيش بينا كلام يا مكي، كمّل طريقك!
في تلك اللحظة، أقترب منها أحد زملائها بإبتسامة مرحة: سوسكا! تعالي أوصلك.
كان مكي يراقب من بعيد، عيناه تمتلئان بالغيرة والتساؤل.
نظر لسلوى وكأنه يختبرها، وهي بدورها رمقته بنظرة طويلة، ثم ألتفتت إلى زميلها وقالت: يلا بينا.
وقبل أن يتحركا، اقترب مكي منهما بخطوات سريعة، صوته متهدج بالغضب: مين ده أنطقي.
سلوى: مالكش دعوة.
مكي: طب أمشي معايا ده إنتي مابتتعلميش من أخطائك.
الشاب: هو إيه يا أستاذ؟ إنت مش شايفها واقفة معايا؟ هو إنت مين أصلًا؟
مكي بطرف عينه ببحة رجولية: أبعد يا بابا.
الشاب: بابا؟ لا أنا مش أبوك.
قلب مكى وجهه حاول السيطرة: مش هقولك تاني بس يا بابا.وأمشي أحسنلك.
الشاب بتحدي: ولو مامشيتش؟ هتعمل إيه يعني؟ ولا إنت بتحلو قصادها.
كاد مكي أن يضربه لكنه مازال يحاول أمتلاك غضبه قال: سلوى إنهي الموضوع ده، علشان والله العظيم أنا مش عارف ممكن أعمل إيه!
سلوى: مكي إنت إللي تنهي الموضوع وأمشي من هنا، أنا حرّة، أعمل إللي أنا عايزاه! وإنت مالك بيا أصلاً؟!معلش يا محمد ده كان خطيبي، مش عايز يقتنع إننا خلاص خلّصنا.
مكي: سلوى إنتِ كده بتدوسي على كل حاجة!
سلوى: ماشي.
مكي: سلوى دي أول وآخر مرة هقولك فيها إني لسة بحبك، ولسة شايفك شريكتي، ولسة عايز أكمل حياتي معاكي، كفاية بقى تقوليلي ماسة قالتلي، ماسة عملتلي، أنا غير سليم.د، من فضلك، تعالي نتكلم كأتنين كبار، بعيد عن أي حد.
سلوى: قلتلك مافيش حاجة، ومفيش تفاهم.
مكي بحده: أنا هخطب لو مارجعتيش عن إللى في دماغك.
تجمّدت للحظة، توقفت ساكنًة، ثم قالت بصوت مجروح: مبروك.
ثم ألتفتت إلى صديقها: يلا يا محمد.
جزّ مكي على أسنانه، وراح يراقبها وهي تتحرك معه دون أن تلتفت، لم يتكلّم، لم يصرخ، لم يلحق بها، لكنه شعر وكأن أحدهم قد انتزع شيئًا من صدره ومضى.
تنفّس ببطء ثم تحرّك نحو سيارته بخطوات هادئة، بينما النار تتأجج في صدره، جلس خلف المقود، وأغلق الباب بهدوء مبالغ فيه، كأنه يخشى أن تنهار أجزاؤه لو علا الصوت، أدار المحرك، لم يتحرك.
مدّ يده، ألتقط هاتفه، وضغط على الاسم المسجّل: "أمي". وبعد ثوانٍ ردت: أمي؟ أنا موافق على العروسة.حددي معاهم معاد، خلينا نخلّص بسرعة.
ثم أغلق الخط، وأسند رأسه إلى المقود، مغمضًا عينيه، لم تسقط منه دمعة، لكن قلبه كان ينزف بصمت
أحد الكافيهات الواحدة مساءً
نرى عمار وأمنية، فتاة محجبة في بداية، العشرينات، بسيطة وأنيقة، يجلسان على أحد الطاولات، أمامهما كوبان من القهوة، والحديث بينهما دافئ.
أمنية بابتسامة: مبروك يا عمار، أنا مبسوطة إنك نجحت، عقبال كل سنة!
عمار يرد بلطف:مبروك ليكي إنتي كمان، تستاهلي الامتياز.
أمنية: بابي وعدني إنه هايوديني جزر المالديف، وإنت ناوي تروح فين؟
عمار بهدوء: أنا؟ هروح بيتنا، إنتي عارفة إني سبت الشغل عند سليم، وبدوّر على شغل تاني.
أمنية: هو مش رامي كان جايبلك شغل عند باباه؟
عمار زم شفتيه بأسف:وفتحت معاه الموضوع، بس حسيت إنه مش مهتم، وأنا بصراحة مابحبش أكون تقيل على حد. قدمت ورقي في كذا مكان، وإن شاء الله خير.
أمنية تنظر له بتردد: هو إنت مش ناوي تقول لي كنت مضايق ليه الفترة إللي فاتت؟ بلاش تقول لي أنا كويس، إحنا بنحب بعض، وهانرتبط، ماينفعش نخبي على بعض أي حاجة، بعدين ما أنا بقول لك كل حاجة وبقعد اشتكي لك.
ضحك عمار بخفة: أنا بحب أسمعك، وبحب أسمع مأسوياتك، كفاية!
أمنية تبتسم وترد بحماس: وأنا كمان عايزة أسمعك. يلا، إحكيلي قول إيه إللي حصل؟ سبت الشغل ليه؟
تنهد عمار: ماشي، هقولك كل حاجة.
وبدأ يروي لها، عن كل ما فعله به سليم، وما مرّ به خلال الشهور الماضية.
أمنية بدهشه:إيه ده! سليم عمل معاكم كده؟ أنا ماعرفهوش شخصيًا، بس من كلامك عنه ومن كلام سلوى وحتى في الكام المرة إللي شوفت فيها ماسة، كان بيبان عليه إنه محترم وجنتل مان.
عمار: إحنا كلنا كنا فاكرين كده، بس فجأة، كل حاجه اتغيّرت.
أمنية بعقلانية: بُص يا عمار، مافيش حد بيتغيّر فجأة، ومافيش حد ممكن يخدع السنين دي كلها ويقدر، يلبس قناع مش حقيقي، أكيد كان هيبان في بعض التصرفات،ماعتقدش خالص إن دي شخصيته الحقيقية، يمكن وقتها كان متضايق أو متعصب، عشان كده اتصرف معاكم بالطريقة دي، بصراحة كمان، إللي أختك عملته، مهما كانت أسبابها، صعب وعيب، مافيش راجل محترم يقبل بكده. حط نفسك مكانه، لو أنا عملت كده، تتقبلها؟
رد عمار مسرعاً: لأ طبعاً هطلقك وأسيبك لأهلك هما يغسلوا عارك.
أمنية بهدوء وعقلانية: أهو! يبقى طبيعي إن رد فعله يبقى بالشكل ده، أنا مش بدافع عنه، بس أنا شايفة إنه بيعشقها، عشق هوس، زي ما بتحكي، وده بيوجع الراجل لما ينجرح كرامته، بس برضه، الضرب غلط، والمعاملة الوحشة غلط، يعني كانت طلبت الطلاق ولا تهرب بالطريقة دي؟!
عمار بأسف: هي فعلاً طلبت الطلاق منه، بس ماما وبابا رجّعوها، إنتي عارفة إحنا من الريف، والطلاق عندنا حاجة مستحيلة. للأسف هما خذلوها.
هزت أمنية راسها بهدوء تحدثت بعقلانية:
بس ده مش مبرر ماكانوش لازم يضغطوا عليها، لإن بسبب الضغط ده واضح إن أختك كانت بتمر بأزمة نفسية، فمن غير تفكير هربت، بس عارف مين أكتر شخص غلطان؟ سلوى، سلوى بنت كبيرة وناضجة، هي مش صغيرة علشان تخليها تعمل كده، وبعدين إنت بتقول لي فضلت رفضه تقول مكانها لحد ما إللي اسمه إسماعيل ده هددكم، إنت سألتها كتير على كلامك، حتى طنط ليه ماتكلمتش؟ كان ممكن تلحقها، أصلاً كانت المفروض تمنعها تعمل كده، تقول لها مش للدرجة دي، تشتكي لك لكن تساعدها تهرب؟ أكبر غلط، مافكرتش إن ماسة ممكن يحصل لها حاجة؟ أصلاً انت بتقول لي إن ماسة مقفول عليها، يعني ماتعرفش حاجه في الدنيا، كانت هاتواجه العالم ده إزاي؟
عمار بضيق: أمي وأبويا السبب كانوا دايمًا بيضربوهم وبيزعقوا لهم، حتى أنا، برضه مش أخ يعني عاقل، أحيانا كنت بتصرف تصرفات مش كويسة معاهم، بس أقسم بالله في الأوقات دي بأبقى واقف جنبهم، وهي عارفة ده.
أمنية بعقلانية وهي تحتسي القهوة: بُص يا عمار، إللي حصل كبير بس كمان، هو اتعرض لإهانة منك كبيرة قدام نفسه كراجل وزوج، وقدام رجّالته. طبيعي يتصرف بعنف، هو ماغلطش لوحده، إنتوا كلكم غلطتوا، بس ماسة إيه أخبارها؟
عمار تنهد بأسف:ماعرفش عنها حاجة؟!
صمتت أمنية للحظة وقالت بتردد: هو إنت لو جالك الفرصة، ممكن تروح تجيبها بنفس الطريقة؟
عمار بحسم: أكيد طبعاً هروح اخدها أنا أصلا نفسي أعمل كده ولو هموت فيها بس أنا ناوي المرة الجاية هبقى عامل حسابي هسرقلي مسدس من الحراس إللي عندنا، بس أمي إللي منعاني، خلتني أحلف على المصحف قدامها إني ماقربلهاش حتى يوسف وسلوى منعتهم، لدرجة راحت قعدت عند خالتي أيام تهددنا بيها.
اتسعت عينا أمنية بصدمة: إنت مجنون أوعى تعمل كده، والدتك عندها حق، هي أم لازم تخاف على أولادها، بس برضه، ماينفعش تفضلوا قاعدين كده، لازم تشتغل وتتحرك.
عمار: أول ما ألاقي شغل وفلوس، هتصرف.
أمنية تتفكر قليلًا ثم تقول: أنا هكلم بابي، يشوفلك شغل. أكيد يعرف ناس ممكن يساعدوك، بس ماتزعلش.
عمار بإبتسامة ممتنّة: متشكر جدا.
قصر الراوي
غرفة ياسين وهبة العاشرة مساءً
كانت الغرفة مزينة بالشموع والورود، تُضفي جوًا من الرومانسية الهادئة، ظهرت هبة جالسة على الفراش، ترتدي فستانًا قصيرًا يصف منحنيات جسدها بدفء، بدت كالقمر في بهائها، كانت في انتظار قدوم ياسين، تودّ أن تُصالحه عمّا فعلته، تشعر بالضيق والحزن، بسب ما فعلته.
بعد قليل، فُتح الباب ودخل ياسين مرر عينيه في الغرفة بنظرات فاحصة، قبل أن ينطق بكلمة اقتربت منه، أحاطت رقبته بذراعيها وقالت بإعتذار.
هبة: أنا آسفة، حقك عليا.
نظر لها بصمت دون رد قالت وهي تحاول استعطافه: يعني هبوشة حبيبتك، عشان غلطة واحدة عملتيها من سنين خلاص تنسى كل حاجة كده؟
ياسين بنبرة ثقيلة:هي غلطة من سنين، بس غلطة كبيرة.
سألته هبة بإنكسار: طب قوليلي أعمل إيه علشان تصالحني؟
ياسين بجدية: توعديني ترجعي هبة إللي أنا حبيتها واتجوزتها؟
هبة بإصرار:أوعد.
ياسين وهو ينظر من حوله: أمال فين نالا؟
أجابته هبة ببساطة: في أوضتها، خليت عفاف تقعد معاها.
رفع حاجبيه مستنكرًا: مش خايفة عليها من تربية الدادة؟
ضحكت هبة بخفة وهي تحاول التخفيف: بطل سألة بقى، تعالى شوف عملتلك إيه، عملتلك الأكل بإيدي
نظر للطعام أمامه، كانت المائدة تضم مكرونة بالصلصة وبانيه، فقال ساخرًا: ده عمايل أكل؟ أمّال ورق العنب والبيكاتا؟ والحمام المحشي؟ إيه؟!
ضحكت هبة وقالت بحنان: هاتعلّـمهملك
ضحكت وقالت بمودة: خلاص صافي لبن؟
وهو يضع قبلة على خدها: صافي يا لبن
ابتسم كلاهما، ثم جلسا وتناولا الطعام، وقضيا وقتًا لطيفًا معًا، ملأه الدفء والهدوء.
وبعد مرور فترة
فيلا سليم وماسة.
في صباح يوم الجمعة، كان سليم قد إنتهى لتوه من الاستحمام، أرتدى ملابس منزلية، رشّ عطره وجهّز نفسه للذهاب إلى الجامع لصلاة الظهر، وأثناء خروجه من غرفته، مر على غرفة ماسة كان الباب مواربًا فتحه.
كانت ماسة تقف أمام المرآة، تتأمل شعرها القصير، تمرر يدها عليه في صمت.
علق سليم وهو يراها: بتندمي؟
نظرت له ماسة: استحالة أندم، على أي حاجة ممكن توجعك هعملها من غير تفكير.
سليم بهدوء: طيب، بقولك إيه، أنا رايح أصلي الجمعة، تيجي معايا؟
ماسةوعقدت حاجبيها: أجي معاك فين؟
سليم: تصلي الجمعة في الجامع، وبعدين نخرج نروح الحسين
تابع بمزاح:عشان تدعي عليا هناك براحتك.
ماسة تبسمت بهدوء: ماتقلقش، أنا بدعي عليك وأنا بصلي هنا، الدعوة بتستجاب في أي مكان.
سليم صمت للحظة قال بنبرة مكتومه: بتدعي عليا بايه؟!
ماسة بوجع: بدعي على قلبي إنه يزيد كرهه ليك.
تنهد سليم بألم مسح وجهه قال: طيب، أنا هروح القصر أجيبلك بقيّة الحاجات إللي ناقصاكي، لو في حاجات معيّنة عايزاها، قوليلى.
ماسة: هو إنت ليه مش تبات عند فايزة كام يوم كده؟
سليم: للدرجة دي مش طايقة تشوفيني؟
ماسة تستفزه: دي أسعد ساعات حياتي وإنت مش هنا، ياريت تبقى تروح تقعد هناك في القصر الملعون بتاعكم ده يومين في الأسبوع، وتعالى خميس وجمعة زي بتوع الجيش.
قلب سليم عينه بصمت عن قسوة حديثها: آخر كلام؟ مش عايزة حاجة معيّنة؟
ماسة بشدة: مش عايزة حاجة منك.
سليم: براحتك.
تحركت ماسة وهبطت إلى الأسفل، وأثناء نزولها على الدرج، سمعت صوت أغنية تسلّلت إلى أذنيها بهدوء، لكنها كانت كفيلة بأن توقظ في أعماقها جراحًا وآلامًا دفينة..
كانت أغنية عمرو دياب "زي الملايكة" تنبعث من المطبخ، وهي ذاتها الأغنية التي سمعتها للمرة الأولى يوم أن طلبها سليم للزواج، حين كانت في طريقها إلى القاهرة اليوم الذى تحوّلت فيه حياتها وتغيّرت فيه ملامح عمرها في لحظة واحدة، صارت الأغنية كأنها نارٌ تشتعل في صدرها، تحرق ذاكرتها، وتثير فيها طوفانًا من الصور والمشاعر، ذكرى ذلك اليوم اجتاحتها بقوة، وكأنها تعيشه من جديد، رأت سليم أمامها، يطلب يدها يرمقها بنظرات لا تُنسى، ويحدّثها بكلماتٍ حفرتها في قلبها، عجز قلبها عن احتمال الوجع، ضاقت أنفاسها، لم تشعر بنفسها إلا وهي تركض بعشوائية وتصرخ بإنهيار.
ماسة وهي تصرخ: مين مشغل الأغنية دي؟!
توقفت وفية بسرعة: أنا يا هانم.
ماسة بأمر وهي تشير بيدها: أقفلي الأغنية دي أقفليها!
وفية بسرعة وهي تغلقها: أنا آسفة يا هانم والله، بس لسة بدري على الصلاة.
ماسة تحاول كتم غضبها: مافيش أغاني تشتغل هنا لعمرو دياب بالذات، إنتي سامعة؟
وفية متعجبة: إشمعنا يعني؟ هو عمرو دياب حرام نسمعه ولا إيه؟
ماسة: قولي حاضر.
سحر تحاول لم الموقف: حاضر يا بنتي، مش هاتشغلها تاني أنا.
كان سليم واقفًا خلفها مباشرة، يعلم جيدًا ما حدث لها، ويدرك تمامًا كم آلمتها تلك الأغنية، وما إن استدارت، حتى وجدته واقفًا أمامها. تبادلا نظرات متخمة بالوجع والندم، كلاهما كان مذبوحًا من الداخل.
سليم بصوت مكسور وهو ينظر إليها: مش هاتهربي يا ماسة، أنا جواكي.
نظرت له ماسة بجمود: صح، بس بألم، بوجع، بندم.
تحركت ماسة وهي تصطدم به بكتفها، والدموع تتساقط من عينيها.. تحرك سليم بدوره وهو يهز رأسه نافيًا، كأنما يرفض الهزيمة، يرفض أن يخسرها.
فى الخارج
أمسكها من ذراعها في الردهة وقربها لديه وقال برجاء: قولي لي إللي ممكن أعمله عشان تسامحيني وخلينا نبدأ من جديد.
ماسة بصوت مخنوق: مافيش حاجة ممكن تخليني أنسى، تخليني أنسى وجعي منك.
سليم بهدوء: لا يا ماسة، كله وجع له طريق لعلاجه.
ماسة بنبرة صارمة موجوعه: بس إنت وجعك مالوش علاج. وجع مزمن، زي المرض المزمن، زي الأمراض إللي ملهاش علاج. إحنا انتهينا، ومش هقولك تاني، ومش هفضل أقولها لك، طلقني وخلينا ننهيها.
سليم بثبات: مش هطلقك.
نظرت له بحدة بعينين تتساقط منها الدموع: هاتعيش مع واحدة مش عايزاك؟ هاتعيش مع واحدة غصب عنها؟ تقبلها على نفسك؟
أجابها سليم بإصرار بنبرة حب: أنا هعيش مع واحدة بتحبني، بس زعلانة مني، وده آه أقبله على نفسي، لحد ماعرف أرجّعك. حتى لو مش دلوقتي، حتى لو بعد شهور، بعد سنين، مش فارق معايا، أنا مش هسيبك يا ماسة، مش هبعد عنك.
صرخت ماسة بانهيار: قلتلك، عايزة الطلاق، مش عايزة أعيش معاك. بكرهك!
سليم بعين دامعة: وأنا بحبك يا ماسة، ومش هسيبك، مش هسيبك. وتأكدي، اللحظة إللي هعرف فيها إنك بطلتي تحبيني، هي نفس اللحظة إللي هسيبك فيها، علشان ساعتها هموت.
ماسة بنبرة كسر: وأنا بطلت أحبك.
سليم بصوت مرتعش امسك بدها ووضعها عند قلبه وضع كفه فوق كفها: قولي زي ما إنتي عايزة، بس قلبي مش هايسمع، لإنه لسة بيدق، وطول ما هو بيدق، يبقى إنتي لسة بتحبيني.
ماسة بعناد موجوع سحبت يدها: أنا هثبتلك إني بطلت أحبك، وهتشوف، خليك واقف مستنيني.
تحركت ماسة بسرعة إلى الطابق الأعلى، دخلت الغرفة كالمجنونة، عيناها تفتشان في الأركان بعشوائية، توجهت إلى غرفة الملابس وبدأت تعبث في كل زاوية كأنها تبحث عن شيء بعينه، وفجأة، وقع نظرها على صندوق خشبي كبير، كان ثقيلًا، لكنها حملته بقوة ونزلت به إلى الأسفل.
كان سليم لا يزال واقفًا في مكانه، وقفت ماسة في منتصف الردهة وضعت صندوق على الأرض، فتحت الصندوق الخشبي. بداخله صورهم القديمة، وبعض الهدايا.
كان هناك وردة ذابلة، والعقد اللؤلؤ الذي أهداه لها عندما كانت لا تزال خادمة، والتليفون بزراير الذي اشتراه لها ذات يوم.
أمسكت ماسة الوردة، رفعتها أمام عينيه وقالت بصوت مخنوق: فاكر الوردة دي؟ الوردة إللي إنت حطّتهالي في شعري وقت مالورين ضربتني؟ كنت محتفظة بيها.
وأشارت إلى العقد: شايف العقد ده؟ العقد ده إنت برضه جبته لي لما لورين بوّظت لي العقد بتاعي، ودي صورنا وإحنا في شهر العسل إللي كله كذب. ودي هداياك.د، دي كل هداياك.
ثم أمسكت خصلات شعرها المقصوص التي تحتفظ به: شعري إللي بتعشقه أهو، مابقاش ليهم مكان، وهوريك حالًا.
ركضت ماسة نحو المطبخ، وسليم ظل واقفًا لا يفهم تمامًا ما تنوي فعله، لكنه كان موجوعًا للغاية وعينا تسكن بها دمعه، عادت بعد لحظات وهي تحمل جركنًا صغيرًا وكبريت، وقفت أمامه مباشرة وقالت:
دلوقتي هحرقهم قدام عينك، زي ماحرقتها جوا قلبي.
فتحت الجركن، وحين همّت بسكب البنزين، أسرع سليم وزقّ يدها، لكن القليل سقط فعلًا على محتويات الصندوق.
صرخ سليم وهو يمنعها: مش هسمحلك، مش هسمحلك تعملي كده.
حاولت ماسة تدفعه بعيدًا بكل ما أوتيت من قوة: أوعى، أبعد عني.
أمسكها سليم بعنف أكبر، ونظر لها بعين متسعة ومرتجفة: ماتلمسيش أنضف ذكرياتنا أوجعيني بأي شيء تاني إلا ده، إنتي بتوجعي نفسك قبل ماتوجعيني فوقي بقى كفايه، مش هسمح لك تحرقي الذكريات دي.
صرخت ماسة: هحرقها يا سليم، هحرقها.
وفجأة، اشغلت العود الكبريت، سقط من يدها، اشتعل الصندوق على الفور، إذ إن البنزين قد سبق ولامس الصور والهدايا.
النار أمسكت فيهم، وبدات ان تلتهم كل شيء.
ماسة بتحدي، وعيونها تلمع من النار المنعكسة فيها: لازم تفهم، مهما حبستني هنا، هاييجي عليا يوم وهخرج، وهسيبك لوحدك. ووقتها، هكون هحرقك جو قلبي زي ماحرقت الذكريات دي وهمشي، مش ها أبص ورايا لحظة.
سليم بصوت حاسم، وهو يحدق في النار تلتهم الذكريات، نبرته موجوعة لكنها ثابتة:
أحرقيها، بس إنتي بتكدبي على نفسك، بتهربي من الحقيقة، أنا لسة جواكي لاحرقك، ولاكلامك، ولا إللي بتعمليه ده هايثبتلي إنك بتكرهيني أو إنك مستحيل تسامحيني ولا هسمح إنك تخرجي من هنا لو على موتي أو موت أي حد يا ماسة والمرة دي أنا واعي كويس أنا بقول إيه! فعلاً خروجك من هنا هيكون تمنه حاجات خيالك مايتصورهاش.
أضاف بنبرة أكثر خطورة:
أوعي تجربيني في الجزء ده، عشان إللي عملته، نقطة في بحر حاجات أنا لسه معملتهاش.
نظرت إليه ماسة بصمت، عينيها تتنقلان بينه وبين النيران التي تفصل بينهما كأنها جدار من اللهب لم تجد ما تقوله، فالتهديدات كانت أقسى من أن تُردّ.
مسحت دموعها بعنف، وصعدت إلى غرفتها، جلست على الأرض، وانهارت في بكاء موجع، لم تستطع كبته.
أما سليم، فظل واقفًا في مكانه، يراقب الصندوق وهو يحترق، وعيناه تتبعان كل صورة، وكل هدية، وكل ذكرى تتحول إلى رماد... والوجع يفتك به من الداخل.
بصوت خافت مبحوح: مستحيل، مستحيل أقبل تكون دي النهاية.
مسح دموعه، وخرج إلى الخارج، توجه إلى الجامع، أدى فرض الصلاة بعد الاستماع إلى الخطبة، وراح يدعو بحرقة، دعا الله أن تعود إليه، أن تسامحه، أن يهديه، وأن يمنحه القدرة على احتواء عائلتها وإعطائهم فرصة، وأن يصبح أكثر هدوءًا لكنه كان يعلم داخله أنه لا يزال غير قادر على فعل ذلك.
وبعد الصلاة، طلب من مكي وعشري أن يحضّرا له مفاجأة في الحديقة لماسة، مثل تلك التي اعتاد أن يفعلها لها في الماضي.
جهز مكي وعشري شاشة عرض كبيرة في منتصف الحديقة، علقوا الزينة، وفروع اللمبات الصغيرة تضيء المكان بنعومة، فبدت الأجواء ساحرة وهادئة، وكأنها من مشهد سينمائي رومانسي.
طلب سليم من سحر أن تُنادي ماسة وتنزلها إلى الأسفل وبالفعل نفءت سحر ما طلب منها، لم تفهم ماسة ما الذي يجري، لكنها في النهاية استجابت.
خرجت إلى الحديقة وهي ترتدي فستانًا يوميًا بسيطًا، مظهرها هادئ، لكنها كانت، كعادتها، جميلة مهما بدا مظهرها بسيطًا.
قابلتها سحر عند الباب: خير يا ماما سحر؟
سحر وهي تسحبها من يدها: تعالي بس، عايزة أورّيكي حاجة.
ماسة متعجبة: هاتوريني إيه؟
سحر: هاتعرفي، تعالي بس.
تحركت معها بخطوات مترددة، وما إن دخلت المكان حتى اتسعت عيناها. كان كل شيء منسقًا بعناية: الورود، البالونات، الإضاءة، الخيمة الصغيرة، حتى المرجيحة التي لطالما أحبتها..
كان سليم متوقفا في المنتصف، ينتظرها بصمت يشبه الرجاء.
انسحبت سحر بهدوء، وتركت المكان لهما.
اقترب منها سليم وقال بهدوء: مادام إنتي رافضة تخرجي، وكل مرة أقولك تعالي نخرج، تعالي أودّيكي مكان، ترفضي وتقولي مش عايزة تروحي، جبتلك الحاجة إللي بتحبيها لحد عندك ولو يا ستي مش عايزة وجودي هنسحب المهم سعادتك.
ماسة بجفاء: ولا حتى عايزة حاجة منك.
حاولت أن ترحل، لكنه أمسك من كفها بلطف، أوقفها وقال اقربها منه اقرب وجهه من وجهها: بطّلي عناد، كفاية بقى.
ماسة نظرت له بقوة: ده مش عناد، قلتلك مليون مرة، مش عناد أنا مش عايزة منك حاجة غير الطلاق. يا كده، يا كل واحد يعتبر التاني مش موجود.
سليم بوجع: إنتي بتقتليني بطريقتك دي.
ماسة بدموع ونبرة مكتومه: وهو ده المطلوب، قلتلك،
وضعت يدها على قلبه: أنا هوجعك من هنا، مستحيل أقضي معاك ليالي زي دي تاني. كنت زمان بتضحك عليا بيها، وبسامحك، كنت غبية، دلوقتي، لأ..
استدارت ورحلت، بينما ظل هو واقفًا مكانه، كأنما سُحبت روحه معها، يحدق في الزينة التي لم تفرح أحدًا، والتي صار حضورها أشبه بالمفارقة
ومضت فترة بعد تلك الحادثة، لم يتوقف سليم عن المحاولة، لكن لا أمل، حتى حين نجحت ماسة في الجامعة، رغم أنها لم تحضر جميع الامتحانات، وحصلت على امتياز...لم تقل شيئًا سوى شكرًا
المطبخ
نرى ماسة متوقفة أمام البوتاجاز، تقلب الطعام تجلس خلقها وفية.
وفيه بفضول: ريحة الأكل حلوة، طلعتي شاطرة
تبسمت ماسة: بعرف أطبخ.
أشارت إلى شعرها القصير سألت بفضول: إنتي قصيتي شعرك؟ كان حلو، ليه كده؟
ماسة: ملل.
وفية بدهشة: ملل إزاي يعني؟
ضحكت ماسة: إنتي حشرية، فكرتيني بنفسي زمان
عند مدخل المطبخ، توقف سليم مستندًا إلى الحائط، ذراعيه متشابكتان، وعيناه تتابعان المشهد بصمت دافئ. ابتسامة خفيفة ارتسمت على شفتيه، وكأن قلبه استعاد نبضه القديم.
وفية: كنتي زمان إزاي يعني؟
استدارت ماسة بنصف جسدها موضحة: كنت بسأل كتير زيك كده، وسليم كان دايمًا يقولي إنتي فضولية..
وفية بفضول أكبر: عرفتيه إزاي؟!
ماسة بإبتسامة صغيرة:كنت شغالة عند قريبة ليه.
وفية: شغالة إيه؟
ابتسمت ماسة بسكون، وعادت تقلب الطعام: خدامة.
وفية بصدمة: مين دي؟
ماسة: أنا كنت خدامة. ماتعرفيش ده؟
وفية بعدم تصديق: ده مين إللي خدامة؟ إنتي بتهزري معايا ولا إيه؟
لم ترد ماسة، فقط ابتسمت.
اقتربت وفية منها بفضول: طب قوليلي، وقعتي سليم بيه إزاي؟
نظرت إليها ماسة: والله معرفش، بس هو حبني،يمكن عشان كنت حشرية زيك، شكله بيحب البنات الفضولية
تابعت بنظرة حادة بغيرة:
بس لو إنتي عملتي كدة علشان تلفتي نظره، أنا هقطعك زي البصل ده أوعي.
ضحكت وفية: لا يا ستي، ماتقلقيش، مش هسرقه منك بس عايزة أعرف عملتي إيه تاني؟
وهنا دخل سليم بإتسامة لم تفارق وجهه:كانت بتقولي ماتستصغرنيشي يا سليم بيه.
دخل سليم إلى المطبخ، يداه في جيبه، يدور حول ماسة كمن يطوف حول كنز قديم، وهي تتابعه بعينيها بصدمة اقترب منها، ملامحه تحمل ذكريات
بإبتسامة: وقعتيني على طول.
وفية متعجبة: يعني إنت حبيتها عشان قالتلك ماتستصغرنيش؟
هز رأسه بإيجاب وعبنه على ماسة: شفتي؟ روحي كلمي خالتك، عايزاكي.
وفية:حاضر
غادرت وفية المطبخ.
اقترب سليم من ماسة أكثر وهو يقول بخبث: هاتقطعيها زي البصلة؟
حاولت ماسة ألا تنظر إليه، لكنها شعرت بحرارته تقترب قالت بنبرة مهتزة: أنا بتكلم عادي، كنت بفهم البنت أتعرفنا إزاي، وبعدين ماتكلمنيش مش إحنا مابنتكلمش
سليم وهو يقترب بنظرات تقشعر: لا، إنتي إللي مابتتكلمش.
عادت ماسة للخلف بصمت، أقترب سليم منها بخطوة أعمق، نظراته تفترس المسافة بينهما: بس إنتي غيرتي.
ماسة وهي تعود للخلف أنا ماغرتش.
سليم بنظرات عاشقة بثقة: والله غيرتي.
اصطدم ظهرها بالثلاجة، فارتبكت، بينما أقترب منها أكثر وأحاطها بذراعيه، محاصرًا إياها.
ماسة بضيق وهي تهرب بعينيها::إنت واقف كده ليه؟ أبعد.
سليم وهو يقرب وجهه منها: أنا أقف براحتي، ماتنسيش إنك مراتي.
أشاحت بوجهها عنه، تحاول أن تجد مخرجًا: طب أوعى، عشان أشوف الأكل.
سليم بمزاح محبب: بتحاولي تسميني ولا إيه؟
ماسة نظرت له برخامة: يمكن
سليم بحب: أنا ما عنديش مشكلة أموت على إيدك، أحلى موتة.
أمسك بيديها برفق، رفعها نحو شفتيه، قبّلها بنظرات غارقة في حب وشوق.
تسارعت أنفاس ماسة، وارتجف قلبها، وقالت بنبرة خافتة: لو سمحت أوعى
سليم: هو أنا ماسكك
اقترب منها أكثر، لامس أطراف شعرها بلطف، همس قرب أذنها: بس إنتي غيرتي عليا.
قبل خدها قبلة ناعمة، دفعت صدره بكفيها بقوة خفيفة، وهربت من بين ذراعيه، غادرت المطبخ بسرعة.
ظل سليم واقفًا، ابتسامة واسعة على وجهه، وضع يديه خلف رأسه، وأطلق تنهيدة عميقة، غيرتي عليا يا عنيدة، كل نظرة منك بتقول: أنا لسة بحبك يا سليم.
إحدى الشقق المجهولة السادسة مساءً
شقة بسيطة، بأثاث عصري متواضع، لكنها منسقة بذوق مريح.
نرى مكي مرتديًا بدلة أنيقة، وعلى وجهه ملامح لا تحمل الكثير من الفرح بجواره والدته ليلى، في الجهة المقابلة، تجلس عائلة نيرة العروس: والدها، والدتها، وأشقاؤها، وإلى جوارهم تجلس فطومة، بنت خالة مكي، التي لعبت دورًا كبيرًا في هذا اللقاء.
مدّت والدته نيرة يدها، وضعت طبقًا من الحلويات على الطاولة، وقالت بإبتسامة واسعة: اتفضلوا يا جماعة، دي حاجة بسيطة كده.
نيرة كانت تجلس في هدوء. فتاة جميلة، ذات شعر أسود طويل ينسدل على كتفيها، وعينين خضراوين فيهما هدوء غريب، وجهها فيه براءة وسكينة ذات ٢٥غاما.
كان الجو العام يشير إلى أن الأحاديث الودية قد انتهت، فقال والد نيرة: خلاص، أنا موافق، أنا ماعنديش طلبات تاني يا ابني، أهم حاجة تتقي ربنا في بنتي
ليلى بصوت واثق: من الحتة دي ماتقلقش خالص.
مكي: طيب خلاص، نقرأ الفاتحة.
قرأ الجميع الفاتحة، وتبادلوا كلمات المجاملة. وما إن انتهوا، حتى خرجت زغرودة من قلب والدة نيرة، وضحكتها تملى المكان.
أخرج مكي من جيبه خاتمًا بسيطًا من الذهب، وقام بإلباسه لنيرة.
مكي بهدوء: معلهش، هي هدية بسيطة كده.
والد نيرة: مقبولة منك يا حبيبي.
قالت والدة نيرة بحماس: خدي عريسك يا نيرة، وأقفي شوية في الفرندة، الفرندة بتطل على النيل، منظرها يجنن، هايعجبك يا مكي.
نهضت نيرة بخطوات خجولة، ترتدي فستانًا أبيض بسيطًا، وملامح وجهها يغلب عليها الحياء. وقف مكي بجوارها، وخرجا معًا إلى الفرندة.
الشرفة
كان الجو هادئًا، النسيم يمر برقة من النيل، وصوت المياه يتسلل حولهما.
نظرت نيرة إلى النهر وقالت بهدوء: عجبك المكان؟
مكي وهو ينظر للنيل ثم التفت إليها: أيوة، شكله حلو
وإنتي كمان شكلك حلو.
خفضت نيرة عينيها، وابتسمت بخجل، ثم قالت: إنت شكلك مابتتكلمش كتير مع إن فطومة قالت لي إنك بتتكلم.
مكي بهروب: مصدّع شوية، جاي من الشغل على طول، وإنتي عارفة شغلنا عامل إزاي؟!
أومأت نيرة بتفهم: آه طبعًا، إنت ناوي تكمل في الحراسات؟
مكي بنبرة حاسمة: آه، ودي حاجة لازم تبقي عارفاها من دلوقتي، أنا مش هسيب شغلي مع سليم، والشغل ده لازم تفصليه عن أي حاجة تانية
نيرة بلطف: أكيد، ربنا معاك ويوفقك.
ثم ابتسمت وقالت: تحب أعملك قهوة؟ أجيبلك أسبرين؟ شكلك تعبان.
مكي بإبتسامة شكر: ماتتعبيش نفسك.
نيرة بخفة: لا لا، دي لحظة وهرجع.
غابت للحظات ثم عادت تحمل القهوة، وقدمتها له.
مكي وهو يأخذ الفنجان: تسلم إيدك.
سألت نيرة بلطف: ممكن أسألك سؤال؟
مكي بهدوء: اتفضلي.
نيرة بهدوء: هو إنت ليه سبت خطيبتك وخطبت بسرعة؟ فطومة قالتلي حاجات، بس كنت حابة أسمع منك، أصل سمعت إنكم كنتم خلاص على وش جواز
تنهد مكي: أنا وسلوى فعلاً سبنا بعض، بس ماكناش على وش جواز، كان كتب كتاب، هي حبت تبعد، وأنا احترمت ده، ماحبش أكون تقيل على حد، خصوصًا في العلاقات، أصعب حاجة إنك تفرضي نفسك على حد مش عايزك.
نيرة: طب ليه خطبت بسرعة؟
مكي عقد حاحبه وهو يهز راسه: مش بسرعة أوي
بقالنا حوالي أربع شهور، وحسيت إن خلاص لازم أبدأ من جديد.
نيرة بهدوء: ممكن توعدني؟ لو ماعرفتش تنساها، تقولي ماتجرحنيش.
مكي بهدوء: أكيد أوعدك، خلينا نحاول مع بعض
نيرة بإبتسامة: تمام
ابتسم لها، ثم عادا سويًا إلى الداخل.
كانت البهجة في الغرفة، الكل يضحك، يلتقط صورًا، يتبادل عبارات المجاملة.
اقتربت نيرة من مكي وهي تمسك بهاتفها: يلا نتصور سيلفي، أنا لازم أنزل الصورة وأعملك تاج
ضحك مكي بخفة: زي ما تحبي.
التقطا الصورة، ونشرتها نيرة على الاستوري، وكتبت:
أقبل اني أبقى خطيبتك وعملت له تاج.
ابتسم مكي، لكنه كان يُجاهد ليعيش اللحظة.
وفجأة، لاحظت نيرة في هاتفه أن العلاقة بينه وبين سلوى لا تزال موجودة.
نيرة بدهشة: إيه ده؟ هو إنت لسة سايب العلاقة إللي بينك وبين خطيبتك القديمة على صفحتك؟
مكي بإرتباك:معلش، ماخدتش بالي أنا أصلاً ماليش في الكلام ده، هي إللي كانت عاملة كل حاجة.
سألته نيرة بهدوء: هي معاها إيميلك؟ والباسورد؟
مكي:آه
نيرة بهدوء: طب بعد إذنك الباسورد؟
أعطاها مكي هاتفه دون تردد: خدي، أعملي إللي إنتي عايزاه
أخذت نيرة الهاتف، وأغلقت العلاقة القديمة، فتحت الصور المنشورة سابقا. ، لكنها لم تجد صورًا له مع سلوى نشرت من قبل
نيرة بإستغراب:إنت مش ناشر صور ليكم مع بعض ليه؟
مكي: أنا ماعنديش إيميل أساسًا، هي إللي كانت عاملاه وكانت بتعمل كل حاجة، الفيس والحاجات دي مش من اهتماماتي.
نيرة بهدوء: تمام انا هغير الباسورد ممكن.
هز راسه بإيجاب بصمت، جلست بجواره، وكمّلت الليلة بإبتسامة هادئة وأحاديث ودودة.
سيارة مكي.
نرى مكي يقود السيارة بصمت وبجواره ليلى التى كل بضع دقائق تنظر له، ثم قالت بإستغراب.: طب ما دام إنت زعلان كده، خليتنا ليه نخطب؟ ليه قرّيت الفاتحة ولبّستها الخاتم؟ ما كانش فيه داعي نستعجل.
مكي بهدوء: أنا عايز أنسى يا ماما مش هفضل محبوس في حبها.
ليلى بصوت خافت: أنا حاسة إننا اتسرعنا، كان لازم نستنى شوية، إنت لسه بتحبها يا مكي، سلوى دي ساكنة في قلبك زيي، عصفور صغير مربوط بعشه.
مكي بصوت منخفض: هانساها يا ماما، نيرة شكلها بنت كويسة.
قالها كأنه بيقنع نفسه قبل ما يطمن أمه.
فيلا عائلة ماسة، الثانية عشر صباحاً.
غرفة سلوى، جلست سلوى على الفراش، تمسك هاتفها وتتصفح تطبيق الفيسبوك. فجأة، عقدت حاجبيها بدهشة، واتسعت عيناها بصدمة، بدا لها أن مكي قد حذفها من صفحته وعلامة العلاقة أيضاً التى كانت تربطهم.
فتحت صفحته بسرعة، وقلبها يخفق بقوة، ظهرت أمامها صور خطوبته، صور الفاتحة، صورة السيلفي، الخاتم الضحكات وهو ممسكاً بيد أخرى، كل ما كان ملكًا لها أصبح الآن ملكًا لغيرها.
انهمرت دموع سلوى فجأة، وهمست بصوت مرتع: كداب، وخاين، يا خاين
ثم صرخت بأعلى صوتها: كدااااب! خاين!
أمسكت بالوسادة وألقتها بعنف على الأرض.
في تلك اللحظة، أنفتح باب الغرفة، ودخلت سعدية مسرعة، والقلق بادٍ على ملامحها.
سعدية: إيه يا بنتي! إيه يا سلوى مالك؟
رفعت سلوى رأسها، ووجهها يشتعل من البكاء، عيناها محمرتان ودموعها لا تتوقف: الخاين يا ماما خطب كان عامل نفسه بيحبني الغشاش.
نظرت إليها سعدية بإستغراب: مين إللي خطب؟
سلوى بنبرة مكسورة: مكي خطب واحدة تانية؟!
إنهارت من البكاء
سعدية متعجبة: طب وإنتي زعلانة ليه؟ مش إنتي إللي ماكنتيش عايزاه؟ والواد كان بيجري وراكي بقاله شهور. إحنا إللي كنا بنتقل، مالقناش في الورد عيب قولنا أحمر الخدين.
سلوى وهي تكاد تختنق من البكاء: مش بالخطوبة، وبالسرعة دي!
أغلقت سعدية الباب خلفها، واقتربت منها وجلست بجوارها على الفراش قالت بتهكم: سرعة إيه؟ ده بقاله شهور وإنتي نازلة تطفيش فيه، هو شكله مش من الرجالة الرومانسية إللى تتحمل، كرامته وجعته زعلانة ليه مش إنتي إللي مش عايزاه؟!
همست سلوى بصوت مخنوق: خلاص يا ماما.
وضعت سعدية يدها على كتفها بلطف: طب ماتعيطيش يا بنتي، مافيش راجل بيقعد على واحدة وإنتي زعلتيه، مش يمكن بيعمل كده علشان يغيظك؟
سلوى بنظرة مترددة: تفتكري؟
ضحكت سعدية بخفة: ممكن.. وريني كدة صورتهم.
أخرجت سلوى الهاتف، وناولته سعدية نظرت إليها سعدية، ثم علّقت بنبرة مرحة: بُتّ قمر.، أحلى منك.
نظرت سلوى إليها بغيظ شديد: بتغظيني؟
سعدية بهدوء: بصي يا بنتي، الراجل لما يخطب بسرعة كده، ويصوّر نفسه، بيبقى عايز يغيظك خصوص إنك قلت لي قبل كده إنه مش من النوع إللي بيحب ينزل صور والكلام ده وإنتي إللي كنت بتنزليها غصب عنه.
سلوى بصوت خافت: يا ريت.
نهضت سعدية وهي تنظر إليها بحنان: ربنا يهديكي تصبّحي على خير، ما تعيطيش بقى وفكري تاني إنتي إللي ضيعتيه من إيدك مش هو، زعلانة ليه وبتعيطي ليه؟! على رأي المثل مايخربش الزريبة إلا البهيمة الغريبة.
نظرت لها سلوى بصمت خرجت سعدية من الغرفة بهدوء، وبقيت سلوى وحدها.
جلست سلوى على طرف السرير، مدت يدها إلى درج الكومودينو، وأخرجت منه صورتين: إحداهما لـمكي وحده، والأخرى لهما معًا.
أمسكت بالصور بيدين مرتجفتين، وحدّقت فيهما طويلًا، ثم تمتمت وهي تبكي بحرقة:
بعتّني بالسرعة دي كده يا مكي؟ كدة تروح تخطب واحدة تانية أمال فين الوعد مش هكون غير ليكي فين كل أحلامنا إللي مش هحققها إلا معاكي إنتي وبس وكل ستات الدنيا بالنسبه لي زي أمي يا كذاب، مهما حصل ماكنتش تخطب كنت أصبر شوية، دول أربع شهور، أربع شهور بس ، زعلتني منك أوي... أوي
أخذت تبكي بحرقة وانهيار.
مجموعة الراوي، مكتب عزت الثانية مساءً
نرى سليم جالسًا على المقعد الأمامي لمكتب عزت، يتأمل فنجان القهوة بين يديه، بينما عزت منشغل ببعض الأوراق، ونانو واقفة خلفه بهدوء تتابع التفاصيل.
أنهت نانا ما بيدها، ثم انسحبت في صمت.
رفع عزت رأسه، عدّل جلسته، وقال وهو ينظر لسليم: يلا، أنا سامعك، خير؟ في إيه؟
رفع سليم نظره إليه، ابتسامة جانبية ارتسمت على شفتيه: معاك إيه ضد إسماعيل؟
ضاق عزت عينيه، مستغربًا: يعني إيه؟
سليم بنفس الإبتسامة: يعني ماسك إيه على إسماعيل؟ إديني إللي معاك.
ضحك عزت بسخرية بسيطة: ضايقك في إيه؟ لو ضايقك رصاصة ننهي كل شئ، هو أصلاً بقى كارت محروق.
سليم، وهو يضع فنجانه جانبًا: خليه أنا بحب العساكر الطيشة، ساعات بنحتاجهم، لما نحب يبقوا خرفان.
عزت أشار له بإيده: طب فهمني، أنا أعمل معاك إيه؟
سليم ببرود، وعينيه مازالت على المكتب: هو لسة بس ممكن، فحابب أكون جاهز.
ابتسم عزت وقال بنبرة إختبار:يعني عايز تفهمني إنك مش معاك حاجة؟
سليم ضحك بخفة:لا يا باشا، طبعًا معايا حاجات، بس عايز أشوف، إللي معايا زي إللي معاك؟ ولا لو عندك زيادة، نزودهم في الملف؟
عزت بإشارة رأس موافقة: خلاص، النهاردة بالليل هديك حاجات ماتخطرش على بالك، بس توعدني، لو راجعت إللي معايا ولقيت إن فيه عندك حاجة مش عندي تحطها لي.
سليم أبتسم: بس كده؟ عينيا يا باشا.
نظر له عزت نظرة ماكرة: مش هاتقولي مخبّي أسرارك فين يا سليم؟
ضحك سليم وهو يرد بنفس النبرة: هو أنا سألتك مخبي أسرارك فين؟
عزت لمّح بنبرة مزاح ثقيل: مش ناوي تجيب مراتك القصر؟
سليم نزل عينه عن نظراته، وقال بهدوء: لا، إحنا كده تمام أنا همشي بقى.
كاد أن ينهض، لكن عزت نظر له بنظرة طويلة وقال:
إنت كويس يا سليم؟ إنت وماسة، كويسين مع بعض؟
سليم ابتسم ابتسامة حزينة وهو يرد بهدوء: الحمد لله، كويس عن إذنك.
خرج سليم بهدوء من المكتب، وتوجه إلى مكتبه الخاص. جلس خلف المكتب، وأول ما وقعت عينه على صورة ماسة، توقف، نظر لها بتأمّل، نظرة حب وغصة تعب، تنهد ببطء، ثم مدّ يده نحو الملفات، وأكمل عمله في صمت.
الكافيهات، السادسة مساءً
جلس مكي وسليم على طاولة، امام كلٍ منهما فنجان قهوة، وبين أصابعهما تتصاعد سحب من دخان السجائر كان يبدو على ملامح سليم الاستياء والضجر.
سليم بضيق: يعني إنت مبسوط باللي عملته؟ سيبك من سلوى ومن نفسك، البنت إللي دخلتها في الموضوع دي، ماتستاهلش تتظلم.
مكي بهدوء: أنا لو حسيت إني مش قادر هبعد.
سليم زفر بحدة: هو إنت لسة مش حاسس إنك بتغلط؟! إنت كنت لسة بتحكيلي، وبتقولي كنت حاسس إني مش موجود، كان قلبي واجعني، ماكنتش مبسوط، هتعمل ايه؟! هتاخد أسبوع، اتنين، شهر، وتسيب البنت بعد ما عشمتها؟
مكي بتردد: قلت لها هحاول.
سليم تنهد سليم قال بعقلانية:ما تحاولش أنهي الموضوع. قول لها الحقيقة قبل ماتتعلق بيك، ممكن تحبك، تتشد ليك، تتعشم.
مكي نفخ بقوة وهو بيطفي السجارة: يعني أخطب إمبارح… وأسيب النهاردة؟
سليم هز راسه بتأكيد: آه، فين المشكلة؟ إنت أصلاً كنت رايح تتقدملها، اتفاجئنا تاني يوم بصور الخطوبة نازلة. أصبر شوية، فكر شوية.
تنهد مكي وقال بنبرة موجوعة: سلوى أختارت تمشي، وأنا أحترمت ده، بس لسة وجعي منها جوة، أنا مجروح يا سليم، أنا عمري ماتوجعت كده قلبي واجعني، ماتوقعتش إني ها اتألم كده، استنيتها سنين، كنت متفهم طريقتها لما كانت بتحاول تاخد حقها مني، بس لما حلمنا وعدنا بعض، فجأة كل حاجة اتغيرت، ليه؟ ماعرفش، حسيت إن كرامتي متهانة، حبي ووعودي متهانة.
هز سليم راسه وقال بصوت خافت حاول إقناعه:
أنا فاهمك والله، بس ده مالوش علاقة إنك تدخل في علاقة مع حد تاني، أنا مش عايزك تجرح واحدة وتدعي عليك، دي مش طريقتك، يا مكي، مش كل من قلبه وجعه يروح يتعرف ولا يخطب واحدة ثانية عشان ينسى الحب إللي ما كملش ده مش عدل ترضاها لنفسك صدقني يا مكي إنت هاتندم وهتكره نفسك يوم ما البنت تيجي تقول لك أنا عملت فيك إيه عشان تعمل كده.
مكي أشاح بوجهه، وقال بعند: ماتقلقش، مش هاتتعلق بيا، أنا مش زيك، أنا رخم، وبعدين مدي لنفسي أسبوعين، لو ماحسيتش براحة، هفركش ..هتروح لعزت باشا بعد ما تخلص معايا.
سليم اممم.
زفر سليم وهو يهز راسه بيأس، وعيناه معلقتان بصديقه، تحملان قلقًا لم ينطقه.
قصر الراوي
مكتب عزت الثامنة مساءً
نرى عزت خلف مكتبه، عيناه تلمعان بثقة، وابتسامته لا تفارق وجهه. أمامه جلس سليم بهدوء.
مدّ عزت يده ببطء، وناول سليم ملفًا مغلقًا بإتقان. قال وهو يبتسم بتفاخر: دي هديتي ليك
أخذ سليم الملف، فتحه بهدوء في البداية، لكن مع قراءة السطور الأولى، اتسعت عيناه بالدهشة، وظهر التوتر في ملامحه لأول مرة.
عزت وهو يراقبه: مش قلتلك؟ أنا ماسك عليه حاجات مايتخيلهاش.
ثم فتح درج مكتبه، وأخرج أسطوانة CD، وضعها على اللاب توب الذي كان بجانبه، وقال: لسة كمل… اتفرج
أخذها سليم وشغّلها بسرعة. لم نرى محتوى مايشاهده، لكن وجهه تغيّر بوضوح اتسعت عينا بصدمه يبدو إنه لم يخطر بباله ما يشاهده
ابتسم سليم وهو ينظر لعزت: إنت هتفضل دايمًا عزت الراوي الواحد بيتعلم منك.
ضحك عزت: ماطلعش إللي معاك زَي إللي معايا بس قولي، ناوي تعمل إيه؟
أغلق سليم الملف، ثم قال بثقة: أنا هاخد ده كله، أدرسه على راحتي، وأختار إللي يخصني وإللي ناقصك، هايوصلك أول ماخلص.
ابتسم عزت، وقال بنبرة ممتزجة بالإعجاب والاختبار:
بس قولي هتتصرف إزاي؟ خد من خبرتي عرفني دماغك اللعب مع اسماعيل مش سهل بالتأكيد ماسك علينا حاجات.
نظر له سليم، نظرة باردة لكنها عميقة ثم اقترب بجسده، وإنحنى قليلًا للأمام، وقال له ما ينوي فعله، لكننا لم نعرف
جهاز أمن الدولة، مكتب إسماعيل، الثالثة صباحًا
كان إسماعيل جالسًا على مكتبه تتناثر فوقه ملفات كثيرة.
عيناه مرهقتان من كثرة القراءة، لكنه كان لا يزال مستيقظًا، يراجع أوراقًا متفرقة، صمت المكان تمامًا، حتى رنّ إشعار خافت على هاتفه.
نظر إسماعيل إلى الشاشة، رسالة جديدة على واتساب، من رقم مجهول، فتحها، وفي لحظةتغيّرت ملامحه كليًا.
عقد حاجبيه بذهول، عيناه تجمّدتا، يده بدأت ترتعش خفيف، وابتلع ريقه بصعوبة، ظهر على الشاشة محتوى صادم، شيء، ما يخطرش على البال......