رواية الماسة المكسورة
الفصل الثامن والسبعون 78 ج1 والاخير
بقلم ليله عادل
{~محظوظٌ من مسّه العشق يومًا، حتى وإن ترك في قلبه جُرحًا لا يُشفى، فالعشق، حين يسكن الإنسان بصدق، لا يرحل، يتخفّى أحيانًا، يهدأ، لكنه لا يموت، تمرّ السنوات، يضيع الصوت، وتبهت الصور، لكن نبض القلب لا يُخطئ من كان له وطنًا ذات حب.
قد يُغيّبهم الفراق، وقد تباعدهم الطرق، لكن العاشق لا يضل الطريق، وإن أظلمت الدنيا من حوله، سيعود، لأن القلب، حين يعشق بحق، لا ينسى طريق العودة، ولا ينسى من كان ذات يوم، حلقة من حلقات العشق التي لا تُنسى."~}
[بعنوان: عشق لا ينسي ]
جلس إسماعيل وحده في ظلام مكتبه، ضوء الهاتف يسقط على وجهه الباهت. عيناه متسعتان في ذهول، يتابع المقطع فيديو كأن الحياة انسحبت فجأة من عروقه أنفاسه متقطعة، لا صوت، لا كلمة فقط صدمة أقوى من أي شرح لكن يبدو إنه ألتقط من زاوية خلف تلة أو شيء ما بكاميرا عالية الجودة
على الشاشة: رجل ملتحٍ، يرتدي جلبابًا وشالًا غليظًا، يشبه أعضاء التنظيمات المتطرفة.
تحدث إسماعيل بصوت هادئاً لكن نبرته تنذر بالخطر:
اللواء بيستلم الوردية الساعة12 بالضبط، الساعة 12 ونص بتيجي عربية التأمين تبص علي المكان وتأمن، وبعدها بتمشي، مابترجعش غير الساعة1، يعني قدامك نص ساعة.
لوح يديه بورقة وهو يضيف: الورقة دي فيها كل حاجة، أماكن الكاميرات،المداخل، أسماء الضباط والعساكر، بالرتب، كل واحد فيهم هايكون فين وقت الهجوم، مش هاتلاقي وقت أنسب من كده.
الرجل: نحن بنشكرك إسماعيل لأنك بتخدم الدين.
إسماعيل وهو يضحك بإستنكار: بقولك إيه بلاش إل 3جنيه متقطعة ده ولادين بلا وطن بلا بطيخ.
سحب الورقة أضاف: ثانية واحدة هو التحويل ماجاش ليه؟
الرجل: الآن سوف تصلك الرسالة.
ثوانٍ ووصل له إشعار على الهاتف، مبلغ كبير دخل حسابه. ابتسم.
وإنتهى الفيديو.
صوت الهاتف عاد يعلو من جديد رقم سليم.
الاسم وحده كفيل أن يغير كل شيء، رفع السماعة، لكنه لم ينطق فما زالت الصدمة تخفي ملامحه.
من الطرف الآخر، اتاه صوت سليم واضحًا، من مكتبه في الفيلا، ونبرة باردة كأنها سم مغلف بإبتسامة:
سمعت الفيديو؟ جميل مش كده؟ أنا سمعت إنك زعلان، وأنا بصراحة مابحبش أشوفك زعلان، فقلت أفرجك فيديو صغير يمكن يغير مودك، بص لو فضلت زعلان، أنا مش هبعته للي أكبر منك تؤ.. أنا هابعته لسيادة اللواء حافظ إبراهيم، وماما الحاجة نورهان وابنك اسمه إيه مش مهم والمدرسة كلها، وتبقى فضيحة بجلاجل.
سكت سليم لحظة، ثم ضحك بخفة: مالك يا إسماعيل؟ صوتك راح كدة ليه؟ هاتتشل ولا إيه؟ دي جلطة؟ بص أنا هعتبر نفسي ماسمعتش حاجة بس خليك مؤدب أحسنلك.
أغلق سليم الخط.
مرت عينا إسماعيل بتوتر، وجزّ على أسنانه حتى كاد أن يفتك بها. ثم هب واقفًا، وقذف بكل ما على المكتب أرضًا، وهو يصرخ بغضب.
أما عند سليم.
فكان جالسًا على المقعد الأمامي للمكتب، بهدوء، لا أثر للانفعال على ملامحه، أمامه، لعبة شطرنج ضخمة، بيادقها على شكل تماثيل منحوتة بدقة، مد يده وحرك الجندي من مكانه، ثم أغلق عينيه، وكأن كل شيء داخله يئن.
فلاش باك
داخل مكتب عزت / تكملة مشهد عندما كان سليم يقوم بأخذ المعلومات التي لدى عزت
عزت بصوت هادئ وحاسم: الخطة كويسة بس مش شايف إنها مخاطرة؟ إنك تقول له إنك معاك الفيديو ده؟
سليم هز رأسه برفض وثقة: بالعكس أنا كده بعرفه إنه تحت إيدي، هو بيفكر يضرني، وده أنا متأكد منه بس بيجمع معلومات، دلوقتي بعد ماعرف إني ماسك عليه حاجة بالشكل ده، هايتراجع هايقف.
عزت وهو يشير بيديه بذكاء رجل مافيا: مؤقتا
نظر سليم أمامه وهو يهز راسه تابع بثقة: حتى لو مؤقتًا، وأنا مش عايز غير ده أنا دماغي مش فاضية عندي حاجات تانية أهم فمحتاج أحجمه دلوقتي.
عاد عزت بظهره على المقعد بنظرة تأمل بنبرة قاتمة وكأنه يقول له فكرة: إسماعيل بيحب مراته، ومتجوزها عن حب، وبيموت في ابنه، لو حبيت تضغط عليه استقبلهم عندك شوية خليه يخاف وهيجيلك جري راكع أنا عارف أن دي قاعدتك عايز تأذي حد؟ أمسكه من نقطة ضعفه.
سليم بهدوء مرّ: دي قوانينك إنت يا باشا، وإنت إللي علمتهالي، بس للأسف بقت طريقتي، بحاول أخلص منها، صدقني دي طريقة غلط هي بتوجع، بس بتخلي عدوك يتحول لشيطان يتسرع، لما تاخد منه أغلى حاجة عنده، مابيبقاش فارق معاه، مش بيخاف، أنت مش بتقتله، إنت بتخليه يعيش وهو ميت زى كدة، أنا دفعت تمن كبير أوي، بنتي وحياتي إللي متهددة بالموت في أي لحظة، واستقرار حياتي مع مراتي..
سكت لحظة، ونظر في عين عزت بألم ممزوج بإنتقام: يعني لما أوصل للي عمل كده، أنا هقتله هقتل كل عيلته هجمعهم في مكان وأحرقهم قدام عنيه أنا كمان بقيت شيطان عندي نفس الشراسة للانتقام، مش هتقف لحد هنا، عشان كده بقولك هي قاعدة غلط يا ريتك ماعلمتهالي يا ريت.
عزت تنهّد، رفع رأسه وقال بنبرة ثقيلة:
إحنا عايشين في غابة لو ماعملتش انت كدة وحميت نفسك هيتعمل فيك، كنت عايزني أعلمك إيه؟ السوق إللي أنت بتتعامل معاه مايعرفش الرحمة إحنا عمرنا ما كنا تجار عاديين، ولا مع ناس عادية حتى بعد مابعدنا عن الآثار لسة حوالينا حيتان، لو ماكنتش أقوى منهم هايكلوك، غابة لو ما عندكش مخالب هاتموت.
نظر سليم لأسفل، صوته مكسور: والله العظيم أول مرة أتمنى أكون فقير بس أكون مرتاح البال.
بااااك
عاد سليم من تلك الذكرة وهو ينظر لأعلى نحو السقف، تلمع فيهما دمعة وحيدة بوجع همس لنفسه:
الله يسامحك يا بابا، لأنك دخلتني السكةدي، والعالم ده، أنا مش قادر أرجع خلاص غرزنا في الوحل، حتى بعد التوبة، دفعت الثمن ببنتي وحياتي المهددة، وماسة، بس لا أقسم بالله أبدا مش هاخسرها أخسر حياتي ولا أخسرها.
💞_______بقلمي_ليلة عادل________💞
الأهرامات السادسة مساءً
مظهر عام للأهرامات وأبو الهول وتلك المنطقة الفرعونية في وقت الغروب.
نرى مكي ونيرة متوقفان أمام السيارة، يحتسيان العصير في أكواب بلاستيكية،صمت خفيف بينهما، ونظرات نيرة كانت تراقبه أكثر مما ترى المشهد حولها.
نيرة بهدوء وعقلانية: قولي شايف الحياة إزاي بعد الجواز؟ يعني ناوي تشتغل على نفسك أكتر؟ ولا هاتعيشها كده يوم بيوم؟
ابتسم مكي بتوتر، شرد لحظة قبل ما يرد: مش عارف يعني أتمنى تبقى هادية وسعيدة، بس أنا أحيانًا مش ببقى عارف أنا عايز إيه.
نيرة بعقلانية وهدوء: هاتعرف، لما تبقى صادق مع نفسك الأول، مش مع إللي حواليك.
هز رأسه بخفة: عندك حق، طب وإنتي؟ بتحلمي بإيه في الجواز؟
تبسمت برقة، أجابته بتفسير عقلاني: أنا مابحبش الحياة التقليدية، يعني مش الفكرة إنك ترجع من الشغل أستقبلك ونقعد نحكي، لإن ده الطبيعي، ده اسمه ود، ونس.، أنا بتكلم في إللي بعد كده.، نفسي نسافر نكتشف سوا، نجرب حاجات جديدة، أكلات، بلاد، ثقافات، نفهم بعض، نحكي، نغلط ونتصالح، تبقى الحياة فيها شراكة، مش بس روتين بس عارف أنا نفسي حياتنا تبقى مافيهاش مشاكل ولا فيها غضب هدوء وبس.
تنهد مكي وهو يقول بهدوء بنبره بها وجع مبطن: مافيش حياه خالية من المشاكل، أوقات بتكون المشاكل سبب، بإنك تعرفي هل الطرف التاني بيحبك بصدق أو لا، هل بيهون عليه يسيبك نايمة زعلانة ولا بيعمل المستحيل عشان يصالحك، والعكس صحيح مش مهم مين يبتدي بس المهم لما بيتعتذري بيتغفرلك عشان المحبة إللي بينكم أكبر من الزعل.
سكتت نيرة للحظة، ثم قالت بخوف: أنا بخاف من الزعل بخاف أخسر إللي بحبه.
هز كتفه وقال وهو ينظر بعيداً: الخوف مش صح، هو نوع من الشك، وقلة الثقة.
ابتسمت نيرة، ابتسامة خفيفة لكن فيها وعي: عندك حق، بس برضه المكان هنا حلو، تعرف إن دي أول مرة أجي الهرم متأخر كده؟
ابتسم مكي ابتسامة باهتة: مبسوط إنه عجبك.
نيرة بهدوء وهي تمسك الكوب: ممكن تحكي لي شوية عن نفسك؟
هز رأسه إيجابًا، وبدأ يروي لها ما تريد، يتبادلان الأحاديث بإبتسامةٍ كاذبة، يحاول ان يظهر اهتمامه. كانت لطيفة، عقلها منظم، وقلبها سليم.. لكن هو؟ كان واقفًا هناك، على حدود الزمن، قلبه متوقف عند عتبةٍ اسمها سلوى.
منزل مكي التاسعة مساءً
دخل وهو بيحاول يخفي توتره، لكن ملامحه كانت متعبة ومشوشة، وضع المفتاح على الطاولة وهو بيزفر نفس طويل.
كانت والدته، ليلى، جالسة على الأريكة وسط كوم من الهدوم تقوم بتطبيقها.
ليلى وهي تطوي الملايس: قول لي عملت إيه مع نيرة النهاردة؟ البنت كويسة.
مكي بإبتسامة كاذبة: كويس الحمد لله.
تأملت ملامحه للحظة، تركت الهدوم على جنب وقالت وهي تركز النظر في ملامحه: ده وش واحد لسة راجع من خروجة مع خطيبته؟ مالك؟ شكلك متضايق.
اتنهد، وجلس على المقعد أمامها، وراح يفرك يده ببعضها بعصبية: متضايق من نفسي يا أمي، البنت شكلها داخلة بقلبها، بتتكلم عن المستقبل، وعاقلة وأنا مش عارف مالي، حاسس إني بظلمها، أنا لسه بفكر في سلوى، دماغي مع سلوى مش دماغي بس قلبي كمان، أوقات وهي بتتكلم، كنت بتخيل سلوي، بس في نفس الوقت، مش عايز أفضل محبوس في علاقة راحت، عايز حياتي تكمل مع حد يحبني يبقى عايزني ويختارني.
ليلى وهي بتتكّيء على ركبتيها: بص يا ابني، أصبر شوية، ولو حسيت إنك مش قادر، خلاص ماتكملش، بس ماتطولش في الظلم، يعني إدي لنفسك مدة، شهر مثلًا.
تابعت بحكمة:
وماتبصش بس على الحب، أنا ممكن أحبك وأتعبك وممكن ما أحبكش، بس أقدّرك وأريحك وأحترمك، الجواز مش عايز حب وبس، الجواز عايز راحة وونس وطبطبة وصبر وتفاهم، معلش أفتكر سلوى لما اتخانأتوا حصل إيه؟! حتى لو كانت شايفاها كبيرة، هي عملت إيه؟ سابتك ومشيِت، يعني لو أي مشكلة هاتواجهها بالهروب، ده يخليك تفكر تاني، خليك عاقل، وأحكم بعقلك، مش بقلبك.لو مشيت ورا قلبك يا ابني، هاتخسر كتير..
تنهدت وهي تنظر أمامها بعقلانية وحكمة:
هو وجع القلب صعب، بس العشق يا ابني خلّى رجالة كتير متجوزين بس كأنهم لسة عذاب وستات كتير متجوزين كأنهم عوانس، عشان حبسوا نفسهم بهوس الحب، أسمع مني خليك مع إللي يريحك، مش مع إللي يوجعك ويقول بيحبك.
سكت مكي للحظات، قال بهدوء بمرارة وحيرة: والله يا أمي أنا مش عايز أظلم نيرة، هو ده إللي يهمني، أنا هدي لنفسي بس أسبوع، كدة كدة سليم مسافر، فأنا هبقى فاضي وأركّز معاها شوية لو حسّيت إنّي مش قادر خلاص.
ليلى تدعو له بحنان أم وهي تربط على كتفه ربنا يريحلك بالك يا ابني وينور لك طريقك
فيلا سليم وماسة
غرفة نوم ماسة الواحدة صباحًا
نرى ماسة جالسة على الفراش، تقرأ أحد الكتب بتركيز.
كل شيء هادئ، إلى أن بدأ صوت أنين خافت، شخص ما يصرخ من الوجع، رفعت عينيها بإستغراب، وألتفتت في إتجاه الصوت.
في الغرفة المجاورة
سليم يجلس على الفراش، وجهه شاحب، يتصبب عرقًا من وجنتيه، يتألم بشدة من قدمه، يجزّ على أسنانه وهو يتأوه من الألم، ثم وضع في فمه قطعة قماش ليكتم الأنين، يعضّ عليها من شدة الوجع.
بينما ماسة أغلقت الكتاب، نهضت وخرجت من الغرفة.
الصوت أصبح أعلى، كان صادرًا من غرفة سليم.
دفعت الباب بهدوء، فكان نصفه مفتوح، فرأت سليم جالسًا على السرير، يتألم بقسوة.
ركضت نحوه، الرعب يفيض من وجهها: سليم! مالك؟!
رفع عينيه بألم وتمتم: إنتِ قلتي اسمي.
توقفت أمامه وهى تحرك أناملها على وجهه بلهفة: فيك إيه مالك؟!
سليم بألم: رجلي بتوجعني أوي.
ماسة وهى تلمس كفه بيدها بقلق: طيب طيب أعملك إيه؟ أكلم الدكتور؟
سليم بنبرة تخرج بصعوبة: أخدت مسكّن بس الوجع جايب آخري مش عايز يهدى.
ماسة بإستنكار: مسكن إيه بس! أنا هكلم مكي يجيب دكتور فورًا.
فجأة أمسك كفها، ضغط عليه بقوة، كادت يده تكسر يدها بين أصابعه، لكنها تحملت، ثم سحب يده، وعضّ على الملاءة وهو يتأوه من جديد.
ماسة نظرت له من أعلى لأسفل، والدموع تلمع في عينيها، ركضت وأمسكت هاتفه، وأتصلت بمكي: ألو، مكي، أنا ماسة، تعال بسرعة، سليم تعبان جدًا!
قفز مكي من على الفراش: طب كلمي عشري عندك، أنا هلبس وأجي فورًا.
ماسة برجاء وعينها على سليم: ماتتأخرش بالله عليك.
أغلقت معه، وأتصلت فورًا بعشري ليحضر الطبيب.
ثم عادت وجلست بجانب سليم بدموع وخوف: ألف سلامة عليك، إيه إللي حصل؟
وضع سليم رأسه على قدميها، وأمسك يدها بقوة: بقالي فترة حاسس بألم، بس النهاردة الألم غير محتمل.
ماسة وهى تمسح بظهر يدها على خده: طب ارتاح، ماتتكلمش لحد ما الدكتور ييجي.
نظر لها سليم بعينين تدمعان: بتحبيني؟ خوفتي عليا.
نظرت له ماسة بصوت منخفض: أرتاح ماتتكلمش كتير.
سليم بنبرة مهتزة: لسة بتحبيني؟
ماسة بهرب: أنا بعمل كده عشان واجبي وإنسانيتى بيحتموا عليا أعمل كده إنت جوزي.
سليم أبتلع غصته: يعني شفقة؟
تنهدت ماسة بتعب، وقبل أن ترد، دخل الطبيب مع عشري.
رفعت ماسة سليم وساعدته يتمدد على الفراش حاولت التحرك، لكنه أمسك يدها، تبادلا النظرات، وبدأ الطبيب فحصه.
الطبيب بتساؤل: إنت عملت مجهود جامد الفترة إللي فاتت، أو عملت حركة عنيفة.
سليم: هممم
الطبيب: إن شاء الله مافيش حاجة، بس ماقدرش أحدد من غير أشعة، هاديك حقنة مسكن قوية جدًا، هاتهدي الألم، بس حاول ماتتحركش يومين لازم تعمل أشعة ، ونتأكد من وضع الرصاصة.
ماسة بلهفة و توتر: ممكن يكون في حاجة كبيرة؟
الطبيب: إن شاء الله لأ أهم حاجة دلوقتي الراحة، ويأكل كويس، لإن الحقنة دي قوية، ممكن ياخد واحدة كمان بكرة، وبعد يومين نعمل الإشاعة والتحليل ونشوف.
ماسة: تمام، شكرًا يا دكتور عشري، بعد إذنك مع الدكتور.
عشري: ألف سلامة عليك يا ملك هجيبلك الحقنة.
خرج عشري مع الطبيب بينما، جلست ماسة بجانب سليم من جديد، نظرت له بإبتسامة خفيفة، تمرر يدها على خده بحنان: إن شاء الله تبقى كويس، ماتقلقش.
تبسّم سليم، عدّل نفسه، ووضع رأسه على صدرها ماسة أحاطته بذراعها، ومسحت على شعره بحنان.
قال سليم بإبتسامة هادئة: على فكرة، أنا حبيت إنسانيتك.
تنهدت بتعب: ممكن ترتاح؟
سليم بنظرة حب فهو تأكد أنها تعشقه كما يعشقها لكنها غاضبة مما فعل ليس إلا: أنا كدة ارتحت جدًا وبرغم إني كنت متأكد، بس إللي عملتيه دلوقتي، أثبتلي إني مش واهم نفسي.
ماسة بشدة: قلتلك بعمل كده علشان.
قاطعها سليم: إنسانية عارف، وأنا مش طمعان في أكتر من كده.
ماسة بهدوء تبسمت: طب أرتاح يا سليم.
تبسم سليم مازحها: مش سجاني يعني.
ماسة رفعت حاجبها: وبعدها معاك؟
تبسم بدمع خائنة هبطت من عينيه: خلاص هسكت أنا أصلًا تعبان مش قادر أتكلم كفاية إنك جنبي.
أرخى ظهره، وظل ينظر إليها بإبتسامة صغيرة، ابتسامة محملة بالحب والانكسار، وهي تمسح على شعره بحنانٍ صامت، لكن دموعه كانت تنهمر في صمت، وعيناه معلّقتان بوجهها، بعينٍ لا ترمش،يفيض منها الوجع، كأن قلبه ينسكب من بين جفنيه.
ظلّ سليم مستلقيًا كما هو، ينهك جسده التعب، بينما ماسة بجواره "تسقيه من دفء قلبها واحتوائها في صمت.
حتى دخل مكي، تظهر عليه لهفة وقلق شديد: سليم، إنت كويس؟
هز سليم راسه بصمت وهو على نفس الوضع.
ثم ألتفت إلى ماسة متسال: إيه إللي حصل؟
ماسة بتوتر: مش عارفة، كان تعبان جدًا، كنت قاعدة في أوضتي، وسمعت صوته بيصرخ من الألم، الدكتور قال لازم يرتاح يومين، وبعدهم نعمل إشعة.
مكي بضجر: أنا قلتلك تعمل الأشعة بس إنت مافيش فايدة.
سليم، بصوتٍ مرهق: أحجز تذكرة لألمانيا الأسبوع الجاي.
مكي، بهدوء: طيب، بس أرتاح الأول، بكرة نتكلم، أنا هستناك تحت، لو احتجتوا حاجة.
ماسة تدخل في الكلام سريعًا: مكي، ممكن تطلب لنا أكل؟ الدكتور قال الحقنة قوية، وسليم لازم ياكل بس بعد إذنك، ماتصحيش سحر، حرام، أطلب أي حاجة مشوية، سليم بيحب المشويات.
مكي: حاضر، سلامتك يا سليم.
هزّ سليم رأسه، وبقي كما هو. تحرك مكي وتركهما.
ماسة، بصوت خافت: إن شاء الله هاتبقى كويس مش حاسس أنك أحسن لو شويه صغننين.
تبسمت سليم إبتسامة صغيرة قال بعشق بنبرة حافضه: أكيد هكون أحسن كتير، حضنك احسن من مليون الف مسكن، ونظره من عينك هي دوايا.
رمشت بعينيها وهي تنظر له بصمت وهي تمرر أناملها على لحيته بصمت..
ظلّ سليم على حاله كان ينظر لها بصمت يتأمل وجهها بعين لا ترمش وهو يشعر بنوع من الندم ودموع تهبط من عينه بينما كانت ماسة تمر يديها على شعره ولحيته هي أيضا تتامله وكانت تريد أن تقول له لماذا فعلت كل ذلك بنا؟!
حتى عاد مكي بعد قليل، ومعه الطعام، وُضع الطعام في الأطباق، نهضت ماسة وساعدته على الاعتدال ثم، قدمته له الطعام.
ماسة بحماس: يلا بقى، كُل عشان تاخد الدواء. تصبح على خير.
سليم، بتفاجئ إيه ده؟ مش هتقعدي تاكلي معايا؟
ماسة: لا، مش عايزة آكل، هاروح أنام.
نظر إليها سليم بوجع: ماشي... شكرًا.
أمسك بالملعقة، وبدأت يده تهتز متعمدا فعل ذلك، كأنّه لا يستطيع إطعام نفسه، نظرت له ماسة، حاولت أن تتجاهل، لكنها لم تستطع، يده ما زالت ترتجف، والطعام يسقط منه.
عادت إليه، جلست أمامه، أخذت الطبق، سكبت بعض الطعام، وقدّمته له، ثم بدأت تُطعمه، وهو يرمقها بإبتسامة ضعيفة.
سليم بمزاح محبب: ده برضه إنسانية، صح؟
ماسة، بجمود: اها.. أنا وقفت جنبك علشان ضميري كنت خايفة عليك، بس ده مش معناه إني نسيت إللي عملته، أنا أكيد في قلبي لسة حب كبير ليك بس هعرف أعلمه إزاي يكرهك.
سليم بحزن: هتفضل كدة لحد إمتى؟
ماسة تنهدت: لحد ماتريح نفسك وتطلقني، أنا قاعدة هنا بس علشان أحمي أهلي من شرك.
سليم مستغرباً بهدوء: ليه فاكرة إني ممكن أؤذيهم؟
ماسة بشدة رفعت حاجبها: يعني لو دلوقتي فتحت باب البوابة ومشيت، مش هتقرب منهم؟ مش هتسألهم فين ماسة؟ مش هاتشُك إن حد فيهم ساعدني؟ مش هاترفع مسدسك تاني عليهم.
سليم أبتلع ريقه: معرفش.
ماسة بضجر: يعني إيه ماتعرفش؟
سليم بضيق: يعني معرفش يا ماسة، إنتِ لما بتبعدي عني، بتجنّن غضبي بيعمينى، ولحد اللحظة دي، ماقدرش أديكي إجابة، بس إللي متاكد منه إني أكيد مش هقتلهم.
ماسة بشك: بس ممكن تعذبهم عموما أنا مش مصدقاك أصلا..،
مدت يديها بالمعلقة: كُل يا سليم، خلاص إحنا انتهينا.
أدار سليم وجهه عن الطعام وهو يقول بنبرة منكسرة: كان نفسي تحطي نفسك مكاني هاتعرفيني رد فعلي كان طبيعي حتى لو مبالغ فيه.
ماسة بوجع: وأنا كمان، حط نفسك مكاني، لو إنت علاقتك بأهلك حلوة، وجيت أهددك بيهم كنت هتعمل إيه؟! أحساسك هيكون إيه هتتكسر..
بدموع تهبط على وجنتيها بخذلان:
أنا بقيت بخاف منك، بخاف عليهم منك، قول لي... طبيعي الست تخاف من جوزها على أهلها؟! إنت نفسك، لحد دلوقتي، مش قادر تطلع كلمة "مش هقرب منهم" لإنك عارف يوم ماهسيبك، هتتجنن وأول حد هتتجنن عليه، هما أهلي.
سليم، بضجر وليه تمشي من الاساس؟!
ماسة وهي تنظر داخل عينه: أفرض أي حاجة حصلت اتجننت في عقلي تاني تقدر توعدني إنك مش هتعمل فيهم إللي عملته قبل كدة تقدر؟!
سليم بنبرة مهتزة: قلتلك لحد ما أرتّب نفسي،
ماتحطيش أهلك قدامي في موقف زي ده، أصبري عليا، أنا مش بخاف من العالم كله، قد ما بخاف من نفسي من إنفعالي، من دماغي إللي لما بتولّع وما بعرفش أطفيها، علشان كدة مش هقدر أوعدك، لإني لو وعدتك وماوفيتش، هاتكرهيني أكتر من دلوقتي، وأنا إستحالة أخاطر بآخر خيط.
ماسة هزت رأسها بأسف:وأنا مش عارفة أرد عليك أقول لك إيه؟! .. كل، إنت تعبان.
سليم: أنا شبعت.
وهي تهم بالنهوض: طب تصبح على خير.
سليم، بصوت حاسم: إسمعي إنتي من النهاردة، مش هتنامي برة تاني، أوضتك هي مكان جوزك، ومكان جوزك هو إللي هتنامي فيه، أوعي تنسي إنك مراتي لحد اللحظة دي.
ماسة توقفت، نظرت له بثبات:مافيش مشكلة، احب افهمك معلومه بسيطه، أنا مش مانعة نفسي عنك ممكن تاخد حقوقك في أي لحظة، وحاضر، هنام جنبك دلوقتي، بس لازم تفهم، إللي نايم جنبك جسد، من غير روح.
سليم، بصوتٍ مكسور: نامي إنتِ بس، وأنا هعرف إزاي أخلي الجسد ده يرجع له الروح تاني.
تنهدت ماسة: طب إنت أكلت ولا لسة؟
سليم: أكلت.
ماسة بشدة: لا، إنت ماتقولش أكلت وإنت تعبان، لسة محتاج تاكل علشان الدواء.
سليم تبسم: ماتقلقيش، أنا بعرف أفصل، وأكل كويس لإني محتاج صحتي عشان أعرف أقاوم عنادك، حقيقي أنا مش قادر آكل تاني.
ماسة بإطمئنان: ورجلك؟ لسة بتوجعك؟
تبسم سليم: لا أحسن كتير حلو التناقض ده.
نظرت له دون رد، بدأت ترفع بقايا الطعام، وضعته على الطاولة، ثم تمددت على طرف الفراش، ظهرها له، عيناها مفتوحتان في العتمة، وأفكارها تتزاحم في رأسها، تنهشها:
أجمدي لازم تثبتي له إنك بتكرهيه, لازم تقنعي قلبك يكرهه، هو ماتغيرش، ولا هيتغيّر، هو بيقولها لك من غير ما يخجل: لو أهلك اتحطوا قدامه هاينهيهم عشانك ده مش حب، ولا إنسان طبيعي ممكن تسامحيه، أو تدي له فرصة، ده إنسان مريض، ماسة. لازم تكرهيه.
تضغط على عينيها، تحاول طرد الصور من ذهنها، صورته وهو يتألّم، يتنهّد، ينظر إليها بعينين دامعتين لا تستطيع نسيانهما، لكن قلبها يقاوم، يصرخ بداخلها: "كفى ضعفًا".
على الجانب الآخر من الفراش، سليم مستلقي، عيناه نصف مغمضتين، يبدو نائمًا... لكنه ليس كذلك.
أنفاسه ثقيلة، صدره يعلو ويهبط بهدوء مصطنع وهو يقول في نفسه:
بتخافي عليا، مهما قلتي، ومهما حاولتي تظهري العكس، إنتِ لسة بتحبيني، إللي عملتيه النهاردة ماتعملهوش واحدة قلبها مات، أنا عارف، وهفضل أراهن على ده، هارجعك، يا ماسة، مش هرتاح غير لما تبقي ليا تاني، بس المرة دي، هعرف أرجعك صح مش بالقوة، هخليكي تفتحي قلبك من غير ماتحسي، أنا بحبك، حتى وإنتِ عاملة بتكرهيني.
ثم غرق كلٌّ منهما في نومٍ عميق.
استيقظ سليم في اليوم التالي، وجد الفراش بجانبه خاليًا.
أعتدل في جلسته بفزع، ألتقط التابلت بسرعة وفتح الكاميرات، رآها واقفة في المطبخ تُعدّ الفطور.
زفر براحة، وضع يده على صدره، وأغمض عينيه لثوانٍ، وكأن صدره قد تنفّس أخيرًا.
لم تمضِ سوى دقائق، وصعدت ماسة تحمل الطعام بين يديها.
ماسة بإبتسامة مشرقة: صباح الخير، صحيت؟
سليم وهو لا يزال ممدّدًا: آه، لسة صاحي الساعة كام؟
ماسة: الساعة 11.
سليم تنهد: نمت كتير أوي.
جلست أمامه بلطف: معلش، كنت تعبان، رجلك عاملة إيه دلوقتي؟ أحسن؟
سليم هز راسه بإيجاب: الحمد لله.
ماسة: طيب يلا كل بقى كويس علشان تاخد الدوا.
بدأت ماسة تُطعمه بيديها بهدوء لم تعطه فقط طعامًا، بل قدّمت له لحظة قُرب.
لم يفتح سليم باب الحديث، فكان مستمتعًا وهو يشعر بمحبتها..بعد الطعام، جلسا في غرفة المعيشة يشاهدان التلفاز بصمت، تجنب سليم التحدث حتى لا يتحول إلى شجار، أراد فقط لحظات هادئة.
أخذ حقنته، وتحسنت حالته، ليس فقط بسبب الدواء، بل لقرب ماسة واهتمامها.
خلال يومين...
كانت ماسة حاضرة في كل شيء، في نظراتها، في لمستها، في حرصها على إطعامه بيديها كما لو كان طفلًا يتعافى من وجعه، وحتى في نومها إلى جواره، كانت تفعل كل شيء رغمًا عنها، لا حبًا ولا كرهًا، بل شيئًا يشبه الحنين إلى ما لا يُقال.
كان سليم يتحسن يومًا بعد يوم، حتى استعاد عافيته وعاد إلى "المجموعة"، وعادت الحياة من حولهما كما كانت، لكن شيئًا واحدًا لم يعد:
الروح، لم يكن هناك عناد، لم تكن هناك أحاديث مؤلمة أو صدامات، فقط حياة صامتة، متوازنة، ولكن خالية من النبض.
فيلا سليم وماسة
غرفة النوم العاشرة مساءً
ماسة تجلس على الفراش، تشاهد أحد الأفلام الأجنبية سمعَت صوت الباب يُفتح ببطء دخل سليم إلى الغرفة.
سليم: مساء الخير
ماسة رافعة عينيها: مساء النور
جلس سليم بجوارها على الفراش.
سليم: عاملة إيه النهاردة؟
ماسة: كويسة.
أخرج سليم قرصًا من المسكن من جيبه، وهو يضع يده على بطنه، ، ابتلعه بهدوء بعد أن أحتسى الماء
كانت تراقبه ماسة، ثم علّقت وهي تتابعه بعينين قلقتين: بتاخد المسكن ده كتير أوي غلط يمكن هو إللي تعب معدتك كده.
سليم ببهدوء: ده مسكن لمعدتي، مش لرِجلي. بس فعلاً معدتي الفترة دي بتتعبني جامد.
ماسة: طب ماتروح للدكتور؟ ليه مستني تعبك يزيد؟
سليم ضاحك بخفة: ما أنا مسافر بكرة ألمانيا هشوف كده هناك هيقولوا ايه؟! لو كده هرجع في دكتور كويس حازم قال لي عليه اسمه مصطفى، يلا هريحك مني أسبوع بحاله..
ثم أضاف وهو يبتسم بمرارة:
أكيد إنتِ في الأسبوع ده هتعيشي أسعد أيام حياتك.
ماسة بقسوة: أنا بقدر أسعد نفسي حتى بوجودك بس صدقني، أنا خلاص، مابقيتش شايفاك.
تنهد سليم، ثم قال بنبرة هادئة: مش مشكلة المهم إنك عايشة معايا، وقدّام عينيا وخلاص.
ثم همس وهو ينظر لعينيها: المهم إني أنا شايفك بعيني.
بعد لحظة صمت، وقف سليم متجهًا نحو خزانة الملابس: هجهز هدومي.
لكن ماسة نهضت وهي تقول:خليك إرتاح أنا هجهزهالك. محتاج حاجة معينة؟
سليم: تؤ، ماتحطيش بدل كتير، كفاية واحدة.
هزت رأسها بالإيجاب، وبدأت بتحضير الملابس بهدوء، وضعتها في الحقيبة.
كان سليم يجلس صامتًا يراقبها، وفجأة وضعت يدها على عينيها.
سليم بقلق: في إيه؟
ماسة وهي تدعك عينيها: مش عارفة حاسّة إن في حاجة دخلت في عيني، بتوجعني جدًا.
أقترب منها سريعًا، توقف أمامها، وبهدوء قاد شفتَيه صوب عينها، وبدأ ينفخ فيها بحنان.
ربما كانت هذه أول مرة يقتربان فيها بهذا الشكل منذ يوم الهروب، قلب ماسة بدأ ينبض بعنف، وهذا القرب كان يربكها فتلك القشعريرة التي داهمت معدتها بسبب ذلك القرب وأنفاسه الساخنة التي تلامس وجهها جعلتها أن تهتز وأن ذلك الصخر الذي بينه وبينها على حافة التهشم وبدات ملامحها ورعشتها تفضحها.
ابتعدت ماسة بهدوء بصوت خافت: خلاص بقيت كويسة شكرا
حاولت التحرك، لكنه أوقفها، ضمم بكفيه كتفيها، ثم قال وهو ينظر دخل عينيها بشوق بصوت منكسر: عارفة إنك وحشتيني كل حاجة فيكي وحشتني.
اقترب منها أكثر، وبدأ يطبع قبلات متقطعة على وجهها، حتى وصل لعنقها، حاولت التماسك لكي لا تضعف، همست: سليم..
لكنه لم يتوقف، طوّق خصرها بذراعيه، وضمّها إليه، ثم طبع قبلة طويلة على شفتيها،وفي لحظات، ذابت ماسة بداخلها، لم تكن مجرد قبلة، بل لحظة إنهيار وصمت طويل هي لم تقوم بتبادل القبلة معه ولكنها كانت مذابة وكأنها على حافة الإنهيار لكنها فجأة جمعت شتات نفسها لكنها تركته يفعل ما يريد.
لم يكن برود لكنها ليست ماسة التى يعرفها..
حين لاحظ عدم استجابتها، ابتعد عنها قليلًا، ثم نظرت له بصمت كإنه يتساءل ما بك أجابته على تلك النظرة بهدوء: أنا مش همنعك عني، بس مش علشانك، علشان أنا مش هاخد ذنبك.
(ثم بابتسامة ساخرة): ده حقك حقك الشرعي، مستحيل آخد ذنب في شيطان زيك وأخلي ربنا والملائكة تلعنى.
سليم وهو يحاول مقاومة غضبه قال بنبرة رافضة مهتزة بكبرياء: ولا أنا هقبل على نفسي، آخد حاجة بالطريقة دي؟! مش أنا الراجل اللى أفرض نفسي على وأحده، لازم تكون عايزني أضعاف ما أنا عايزها.
تنهد، مبتعدا ثم تابع بنبرة مجهدة: محتاج أنام، عندي اجتماعات الصبح، وبعدها هسافر على ألمانيا مش هرجع على هنا، مكي هيكون معاكي، مش عايز أكرر.
تبسمت ماسة ببرود، وأعطته ظهرها وقالت باستهجان ساخر: أوعى تعملي حاجة تخليني أندم، أو تخليني أتصرف تصرف مايخطرش في بالك، وطبعًا أهلك، ممنوع حد فيهم يدخل من باب الفيلا ولا هعمل حاجات خيالك يعجز عن تصورها.
ألتفت له بإبتسامة تهكم هادئة: مش ده إللي كنتِ هتقوله يا سجنجن؟!
سليم بنبرة لازعه مستخفاً: برافو خليكي ماشية على الطريق المستقيم، لحد ماقولك إني بقيت تمام وساعتها هقدر أوعدك إني مش هقرب من حد.
نظرت له ماسة من أعلى لأسفل بصمت بإستياء دون تعليق، ثم أغلقت حقيبة السفر وهي تقول: أنا خلّصتلك شنطتك، إن شاء الله ترجع بالسلامة.
جلست مرة أخرى على الفراش، وأكملت الفيلم.
أما سليم، فظل ينظر لها بتعب واضح، يعلم جيدًا أنه السبب فيما آلت إليه لكن ليس بيده شيء فعله حتى الأن..
تحرك، وإتجه إلى الحمام، أخذ حمامه، ثم ذهب للنوم.
وفي صباح اليوم التالي... توجه إلى المجموعة إنتهى من أعماله ثم توجه إلى المطار.
💞_______بقلمي_ليلة عادل________💞
مطار القاهرة
سيارة سليم السابعة مساء
نرى مكي وسليم يتوقفا بجانب السيارة وعشري يقوم بإهباط الحقائب ومعه الحراس.
سليم قال بهدوء: خد بالك من ماسة، أوعى تهرب، دي مجنونة وممكن تعمل أي حاجة.
مكي وهو يعتدل من توقفه بثقة: ماتقلقش، بس بقولك إيه، ماتخليني أجيبلها باباها ومامتها، من غير سلوى ولا عمار.
سليم هز راسه وهو بيقول بحدة: لأ.
مكي رفع حاجبيه بإستغراب: ليه لأ؟! إنت مش هتكون موجود، ولو عملوا حاجة؟ مش هتخاف تندم يعني مش هتم اللي خايف منه؟!
سليم: وأنا ليه أُجازف؟
تدخل عشري، بصوت هادي وهو يتوقف جنبهم: يا ملك، مش هيعملوا حاجة.د هايشوفوا بنتهم بس والملكة ترضي عنك وتتصالحوا بلاش تخاف كدة عشان انتم كدة هتخسرو بعض.
مكي: شوفت مش رأي لوحدي اسمع كلام وبطل عند.
سليم بحسم: أنا قلت لأ، مش عايز كلام كتير يلا، عندنا طيارة. خد بالك، مش هقولك تاني.، يا ريت تفكر في موضوع نيرة.
أكتفى مكي بهز رأسه بالإيجاب، لكن ملامحه لم تكون مرتاحة
تحرك سليم مع عشري وأحد الحراس، صوب البوابة.
رمق مكي بنظرة قصيرة تحمل ما عجز عنه الكلام، ثم صعد إلى السيارة التي أنطلقت بهدوء.
وبالفعل وصل سليم الى ألمانيا لإجراء الفحوصات الطبية. حيث نري وهو يدخل المشفى حيث خضع لسلسلة من الأشعة والتحاليل المختلفة على ظهره وبطنه وقدميه.
في الجانب الآخر، كانت سلوى تتابع تحركات مكي بدقة، تراقبه من خلف الشاشات، تقرأ ما بين الصور والكلمات، خاصة بعدما بدأت نيرة تنشر صورًا تجمعها به من لقاءاتهما القليلة، كان مكي قد حاول الاقتراب من نيرة، تحدث معها، ضحك قليلًا، وتبادل معها بعض الهدايا لكنه لم يستطع تجاوز حائط يشبه التمثال، تمثال على هيئة امرأة أخرى تُدعى سلوى.
لم يكن قادرًا على إنكار أنه يفكر بها، ولا يكف عن النظر إلى صورها، وكأن عينيه تأبى نسيانها ومع كل خطوة يخطوها نحو نيرة، كان يشعر بشيء من الضيق في صدره، وكأنه يخون شيئًا ما في داخله، بل كثيرًا ما راودته فكرة أن سليم كان محقًا، وأن نيرة فتاة طيبة فعلًا، وتستحق من يحبها بصدق.
كان يحدث نفسه: ربما لو انتظرت قليلًا، ربما نيرة تستطيع أن تنسيني سلوى ربما.
لكن الحقيقة أنه خائف، خائف ألا يستطيع، أن يفشل في نسيان سلوى، وخائف أكثر أن تحبه نيرة حقًا... فيظلمها دون قصد لكنه مازال لا يأخذ قرار.
بينما ماسة كانت تقضي أيامها في هدوء داخل الفيلا، لا تفعل شيئًا سوى القراءة، تتنقل بين الكتب ومشاهدت الافلام، وكأنها تهرب من الواقع.
ورغم ذلك، لم تتخل عن عنادها، ورفضت لمس هاتف سليم الذي تركه لها، لكنها طلبت من سحر إجراء مكالمة قصيرة مع والدتها، وقد وافقت بعد استئذان سليم.
لم تتجاوز المكالمة دقائق معدودة، سلمت على سعدية، واطمأنت على والدها، سألت عن كل شيء، وأكدت لها والدتها أن الجميع بخير، ولا أحد يقترب منهم، أنهت المكالمة بهدوء، وعادت إلى صمتها.
ألمانيا
في إحدى العيادات الطبية العاشرة صباحاً
جلس سليم على المقعد المقابل للطبيب، وجهه شاحب، ونظراته قلقة، فيما كانت ساقه اليمنى تتحرك بلا وعي.
راح الطبيب يتأمل صور الأشعة الموضوعة أمامه على الطاولة، ثم أعتدل في جلسته وقال بصوت هادئ: الألم الذي تشعر به في قدميك، ليس بسبب ضعف عضلي أو التهابات عصبية، بل نتيجة ضغط متكرر وعنيف على القدمين، يبدو أنك كنت تضرب بهما شيئًا ما لفترة طويلة لكن ليس ذلك فقط.
رفع سليم بصره إليه، وسأله بصوت خافت: هل هي الرصاصة إذًا؟
أومأ الطبيب ببطء: للأسف، نعم. الرصاصة قد تحركت. الحركة طفيفة، أقل من مليمتر، لكنها مقلقة جدًا.
سكت سليم للحظة، ثم سأل بنبرة باهتة: هل يعني هذا أنني سأموت في وقت محدد؟
ابتسم الطبيب ابتسامة قصيرة لا تحمل طمأنينة:
لا، ليس الأمر كذلك، لكن دعني أكون صريحًا معك، كل تأخير في إتخاذ القرار الجراحي يزيد من إحتمالية الخطر الرصاصة الآن أقرب إلى نقطة شديدة الحساسية، وإن تحركت مجددًا، حتى بأقل مما حدث، فقد تتسبب في مضاعفات مميتة.
أطرق سليم رأسه، وأمسك بجانبي الكرسي كأنما يستند إلى ما هو أثبت من الحياة، ثم قال بصوت متردد: وهناك ألم غريب في معدتي، أحيانًا أشعر كأن أحدهم يمزقني من الداخل، هل له علاقة بما يحدث؟
هزّ الطبيب رأسه نفيًا، وقال بنبرة ثابتة: لا علاقة لذلك بالرصاصة، ما تصفه على الأرجح ناتج عن توتر نفسي الجسد، في بعض الأحيان، يعبّر عن أوجاع النفس بطريقة قاسية، أنصحك بالعودة إلى طبيبك النفسي، فهذا الألم لا ينبغي تجاهله.
رفع سليم عينيه إليه مجددًا، وقد امتلأتا بصمت ثقيل، ثم سأل: وماذا ترى؟ هل أجري العملية؟
الطبيب دون تردد: نعم. أرى أنها ضرورية، وبأسرع وقت، إن كنا نرغب في أن نسبق الخطر، لا أن ننتظره.
تنهد سليم بعمق: الطبيب الذي أجرى لي العملية في المرة الأولى أخبرني أن احتمالية نجاتي كانت لا تتجاوز السبعين بالمئة... وإن فشلت، فقد أُصاب بالشلل، او الموت هل ما زالت تلك النسبة قائمة؟
أجابه الطبيب بهدوء: النسبة تحسنت الآن. لدينا تقنيات أدق وتجهيزات أفضل، واحتمالات النجاح أصبحت تتجاوز خمسون بالمئة، لكن كلما أسرعنا، كان الوضع أكثر أمانًا، وحين تُزال الرصاصة، أمور كثيرة ستتغير: الألم في قدمك سيزول، وقدرتك الإنجابية ربما تتحسن بدرجة كبيرة.
هزّ سليم رأسه ببطء وقال: تمام...
ساد الصمت، ولم يعد في الغرفة إلا صوت أنفاس سليم المتقطعة، ونظرة الطبيب التي حملت شيئًا من الحزن والاحترام.
مصر
أحد الكافيهات الرابعة مساء
جلس مكي أمام نيرة، يحمل كوب العصير بين يديه، ويبتسم لها بصدق نادر، يستمع لحكايتها عن مغامرة سفر قديمة بشغفٍ خافت، كأنه يستعيد شيئًا كان مفقودًا.
ضحك بخفة وهو يرد على تعليقها، ثم رفع عينيه عفويًا نحو الباب فتوقف الزمن، سلوى.
رأته كما رأها وقعت أعينهما في عينا بعضهما تبادل النظرات، تجمّد كل شيء في عينيها للحظة، شعرك بوجع في قلبها وعينيها امتلأت بالدموع فهو المكان الذي كانوا يترددون عليه وكان شاهدا على تلك الوعود والذكريات..لم تقوى على التحمل، تحركت سريعًا، أدارت ظهرها وغادرت، وكأن الهواء لم يعد يصل إلى صدرها، أما مكي، فتغيّرت ملامحه بالكامل.
أبتلع ريقه بصعوبة، نظر إلى نيرة التى لم تلاحظ شيئًا بسبب زاويه جلستها
مكي بهدوء مضطرب وهو ينهض: ثانية واحدة هرجع حالًا.
خرج بخطوات متسارعة، قلبه يسبق قدميه، وعيناه تبحثان عنها في محيط السيارات.
رآها تقترب من سيارتها، أسرع نحوها دون أن ينادي، حتى أقترب منها.
مكي: سلوى إستني بس لحظة.
توقفت، وهي تعطي ظهرها بألم مكتوم: جاي ورايا ليه؟
مكي موضحا بهدوء: بس لاحظت إنك أول ماشفتيني مشيتي، فقلت يعني لو فيه حاجة.
استدارت له، عيناها مملوءتان بمرارة قالت بعتاب:
جايبها كمان في المكان إللي كنا بنقعد فيه؟ للدرجة دي بقت الذكريات سهلة عندك للدرجه دب هنت عليك؟
مكي متعجباً بنبرة حادة بعتاب: أنا إللي الذكريات هانت عليا؟ ولا إنتي إللي بعدتي وقفلتى كل حاجة؟ بتلوميني ليه؟ أنا إللي مشيت؟ ولا إنتي إللي قررتي تسيبي من غير حتى كلمة؟
سلوى بدموع: أنا مش بلومك، بس أنا زعلانة، زعلانة إنك خطبت بسرعة، وزعلانة أكتر إنك جبتها هنت، في المكان إللي كنا على طول فيه، بس خلاص، ربنا يوفقك.
مكي: إنت إللي اضطرتيني أعمل كده؟!
سلوى بحزن ممزوج بحدة هادئه وكانها عتاب: وإنت كمان إللي اضطرتني أعمل إللي أنا عملته، أنا لسة شايفة دم أختي وأخويا على ايدك، ودمنا إحنا كمان، سكوتك واستسلامك لسليم وإللي ممكن يعمله وإللي عمله، لو حد فينا يتجرأ يعمل حاجة، وجعني كسرني، خلاني مش عارفة أكمل معاك لإني أفتقد إحساس الأمان إللي كنت بحسه معاك، صورتك اتهزت،
مش عايز تقتنع أنك غلطت براحتك، عموماً خلاص الوقت فات انت أخترت حياة جديدة بسرعه، بس أنا كنت لسة بحبك ومش عارفة أشيلك من جوايا بس مش قادرة اسامحك أنك اخترت سليم.
مكي بضجر: وأنا مش هقول لك تاني في حاجة ثانية كانت سبب إنك تبعدي حتى او بتحبيني؟!
سلوى بوجع: قولت خلاص وقت كلام انتهى، عموما ربنا يوفقك في حياتك الجديدة.
بسرعة تمسح دمعة انزلقت دون إذن منها صعدت سيارتها وأغلقت الباب بقوة مكتومة، ثم رحلت.
وقف مكي مكانه، كأنه تلقّى ضربة في صدره، لا يعرف إن كانت من صوتها، أو من نظرتها، أو إنها لا زلت تحبه وتغار عليه.
عاد إلى الداخل بخطوات أبطأ، جلس أمام نيرة وهو يحاول ترتيب ملامحه، أن يرسم أي ملامح وجهٍ مطمئن.
نيرة بإبتسامة: كنت فين؟
مكي: قابلت واحد صاحبي، سلمت عليه.
صوته لم يكن مستقرًا، وابتسامته لم تُكمل طريقها أما قلبه فقد ظل واقفًا هناك، عند السيارة التي ابتعدت، حاملة ما تبقى منه.
ومضى الأسبوع ثقيلًا على كل من سليم ومكي.
مكي أدرك أخيرًا أنه لا يستطيع نسيان سلوى، خاصة بعد الحادثة الأخيرة، وشعر بأن استمراره مع نيرة سيكون ظلمًا لها. لم يتردد كثيرًا، واتخذ قراره بالإنفصال، قبل أن تتعقد الأمور أكثر.
أما سليم، فعاد من ألمانيا صامتًا، رافضًا أن يخبر أحدًا بما حدث هناك. لم يرغب في أن يطالبه أحد بإجراء العملية، فهو لم يكن مستعدًا بعد، لم يكن يخشى الموت بقدر ما كان يخشى أن يرحل قبل أن يأخذ حق ابنته، وحق ماسة، وحتى حق نفسه. كان يتمنى فقط أن تسامحه ماسة قبل أن يفوته الأوان.
ولذلك، حين عاد، أكتفى بالقول إن ما يشعر به هو مجرد إرهاق ناتج عن الضغط المتواصل على ساقيه، ولم يُشر من قريب أو بعيد إلى الرصاصة. تجاهل الأمر تمامًا وكأنه لم يكن.
أما العلاقة بينه وبين ماسة، فلم تشهد أي تغيير. لم تعد هناك محاولات منه، ولم تعد هي كما كانت. أصبحت أكثر هدوءًا، وأقل جدالًا، لا تتحدث إلا حين يُحدثها، فتجيبه بهدوء صارت الحياة بينهما باهتة، خالية من الدفء. ينامان إلى جوار بعضهما، لكن المسافة بينهما كانت أبعد من أي وقت مضى.
فكر أكثر من مرة في أن يفاجئها بشيء، أن يفعل شيئًا يعيد الحياة بينهما، لكن شيئًا بداخله كان يُشعره بأنها سترفض. وما زاد من يقينه، أنها لم تتواصل مع عائلتها منذ عودتها، ولم تلمح لأي خطوة جديدة في حياتها.
سيارة مكي، الثامنة مساءً
أمام عمارة نيرة
مكي متوقف أمام السيارة يبدو عليه التوتر، عيناه شاردة، ونفسه ثقيل، وكأن القرار الذي يحمله في صدره أكبر من قدرته على نطقه، بعد قليل جاءت نيرة بإبتسامة استغراب.
نيرة متعجبة بقلق خفيف: إيه ماطلعتش فوق ليه وقلت لي إنزلي محتاج أتكلم معاكي إيه إللي حصل؟!
نظر لها بصوت لا يعرف كيف يبدأ، ضيقت نيرة عينيها تراقب ملامحه، ولاحظت أن شيئًا ما مختلف.
رفعت حاجبيها قليلًا وقالت بهدوء: مالك؟ شكلك تعبان في حاجة؟
رفع عينيه إليها أخيرًا، ونطق بصوت منخفض: أنا مش هكمل يا نيرة.
سكتت لثوانٍ، لم تفهم في البداية: يعني إيه مش هتكمل؟
مكى وهو يحاول أن لا ينظر في عينيها وتوتر يتصبب خجلا لكنه حاسم: أنا مش هقدر أكمل الخطوبة، مش عشانك والله العظيم، إنتي بنت جميلة ومحترمة، وكل حاجة فيكي تشجّع أي حد إنه يتمسك بيكي بس
رفع عينه لها بأسف: أنا مش صادق، مش صادق مع نفسي، ولا معاكي.
نيرة نظرت له طويلًا، ثم انحنت برأسها قليلًا: أنا كنت حاسة، بس قلت يمكن ده في دماغي مجرد احساس وهمي، يعني ماكنتش متأكدة، وكنت بديك وقتك.
مكي بأسف مفسرا: أنا حاولت بجد حاولت أكون موجود، أكون صادق، افكر في مستقبلي معاكي، بس كل مرة بحاول أقرب، بحس إني بكدب على نفسي، وبظلمك، وده أكتر حاجة تعباني، حقيقي أسف، صدقيني، قرار اخدته في وقت كنت غضبان، وموجوع رغم إن فيه أصوات قالت لي بلاش بس كنت فاكر إني هقدر لكني فشلت.
نيرة ابتسمت ابتسامة هادئة، لكنها مكسورة: أنا مش زعلانة منك، أنا ممتنة إنك قولتلي بدري، قبل ما أتعلق بيك أكتر.
مكي قال بمرارة: اتمنى تسامحيني، أنا دخلت العلاقة دي وأنا مجروح،كنت فاكر إني ممكن أبدأ من جديد، بس قلبي لسة واقف عند إللي فات.
رفعت نيرة عينيها إليه وقالت بنبرة ناضجة: بص، أنا مش هقولك تنساها، ولا هالومك بس أوعى تعمل كده تاني، ما تدخلش حياة حد وإنت مش فاضي، القلوب مش لعبة يا مكي انا ماحبيتكش بس استريحتلك، يمكن المرة الجاية البنت تحبك وجرح القلوب إنت مجربه.
هزّ رأسه، ولم يجد ما يقوله ثم تبسم: من قلبي بتمنى لك السعادة وتلاقي إنسان يستاهلك والله أنا إللي ماستاهلكيش.
تبسمت نيرة بصمت خلعت الخاتم وقدمته له
مكي نظر للخاتم: ده هدية مني أرجو تقبليه.
نيرة وهي تهز راسها برفض: معلش أنا أسفة مش هقدر احتفظ بيه، مش عايزة حاجة تفكرني، وبعدين ده مش ملكي، ملك شخص تاني بعد إذنك.
تحركت نيرة بهدوء لم يكن بقلبها شيء فهي لم تحبه قط وكانت صادقه في حديثها، دخلت عمارتها، بينما مكي توقف ينظر لآثارها للحظة يتنفس هواء ،لكنه لم يشعر بأي راحة.
كل ما فعله، أنه أنقذ قلبًا جديدًا، لكن قلبه هو، ما زال غارقًا في سلوى.
فيلا سليم، العاشر مساءً
مكتب سليم
كانت الغرفة هادئة إلا من صوت أنفاسهما.، سليم يجلس خلف مكتبه، بملامح متعبة تخفي أكثر مما تُظهر، مكي أمامه، يميل بجسده للأمام قليلًا، وكأن الحوار بينهما لا يحتمل المسافة.
سليم بصوت منخفض بتأييد: الخطوة إللي عملتها دي كانت مهمة، هو ده الصح، بس قول لي، ناوي على إيه؟ هتحاول تاني؟
تنهد مكي، ومسح على وجهه بكفه: هو بعد الموقف إللي حصل، وغيرتها، حسّيت، كبر الأمل جوايا، بس بصراحة، مش شايف إن في حاجة ممكن تتم دلوقتي طول ما إنت مانعها هي وعمار وسعدية يبقوا هنا، هي مش هتتغيّر قرارها.
رفع سليم نظره ببطء وقال بجمود: وأنا مش ناوي اعمل كدة الا لما أتأكد اني اتغيرت، حلك الوحيد تسيب الشغل.
حدّق فيه مكي لحظة غير الحديث، ثم قال وهو يميل برأسه بشك: بس أنا مش مصدّق.، كل شوية ان تعب رجلك اجهاد بس قول الصدق، في حاجة مخبيها؟
رسليم دون تردد، وبنبرة أقرب للتهرب: لا مافيش لو قي مش هقولك ليه؟
صمت لثوانٍ، ثم سأله مكي بهدوء: معرفش، طب إيه أخبارك إنت وماسة؟
أخذ سليم نفسًا عميقًا، ثم قال بصوت مُطفأ: زي ما هي، بس بطّلت عند، وبطّلت بقى في صمت هي دلوقتي عايشة معايا بس علشان كحماية من اهلها مني، وأنا مش عايز أكتر من كده، كفاية تبقى جنبي، وخلاص.
مكي باستغراب: ودي تبقى حياة؟!
رفع سليم عينه نحوه لأول مرة، وقال بشيء من الحدة المكبوتة: كفاية إنها جنبي، وبشوفها، في نفس البيت إللي أنا فيه، لما بتعدّي قدامي عيني بتلمع، بشبع منها بنظرة. غير كده؟ مش مهم.
نظر له مكي بصمت فلا يعرف ماذا يقول.
(بعد مرور فترة)
في إحدى العيادات الباطنية التاسعة مساءً.
دخل سليم بخطوات بطيئة ومعه عشري، وعلى وجهه ملامح تعب وإرهاق دفين. استقبلته إحدى الممرضات بابتسامة رسمية.
الممرضة: حضرتك سليم بيه؟
سليم: أيوه.
الممرضة: الدكتور في انتظارك.
أشارت له بالدخول، فتح الباب بهدوء، فوجد مصطفى جالسًا خلف مكتبه، ينتظره بنظرة مهنية وابتسامة باهتة توقف عشري امام الباب.
(طبعاً كلنا عارفين مصطفى)
توقف مصطفى لاستقبال باحترام:. أهلا سليم بيه.
سليم بتهذب: أهلا يا دكتور.
صافحه سليم ثم جلس على المقعد الأمامي للمكتب، بينما مصطفى تجلس في مكانه يراجع بعض الأوراق.
مصطفى: دكتور حازم كلمني وشرح لي الوضع، ممكن توريني التحاليل؟
سليم: اتفضل.
مدّ سليم يده بملف أصفر سميك، تناوله مصطفى وبدأ يراجع الأشعة والتحاليل على بعناية، يقلب الورقة تلو الأخرى، ثم رفع عينيه.
مصطفى بهدوء: أنا مش شايف في التحاليل أي مشكلة عضوية واضحة، طب حضرتك بتحس بإيه بالظبط؟
سليم: تعب في معدتي، هنا كده، بيكون شديد، خصوصًا في أسفل بطني.
وأشار سليم إلى موضع الألم وهو يزفر بضيق.
مصطفى تسأل: بتحس بيه في أوقات معينة؟
سليم بتفسير: في الأول لما كنت بتعصب، بعدين بقى على طول، وكل اللي جربته ماجابش نتيجة، دكتور حازم قال لي إنك شاطر رغم إنك صغير.
مصطفى ابتسم باقتضاب وهو ينهض من مكانه: ميرسي يا فندم، طب خليني أكشف.
نهض سليم معه وتوجه ناحية سرير الكشف. بدأ مصطفى باستخدام السماعة الطبية، ثم ضغط بأصابعه في أماكن مختلفة من بطن سليم.
مصطفى: هنا بتحس بالم.
سليم: آه بيوجعني.
مصطفى: وهنا؟
سليم بالم اااه جامد.
مصطفى: طيب اتفضل معايا
انتهى الكشف، فعاد كلاهما إلى المكتب، جلس مصطفى مجددًا، ونظر إلى سليم بنظرة فاحصة أكثر عمقًا.
مصطفى: بصراحة، أنا شايف إن الموضوع كله نفسي.
سليم حرك رأسه ببطء، كأن الكلام ليس جديدًا عليه: حازم قال لي نفس الكلام، وكل الدكاترة اللي رحت لهم قالوا كده، حتى اللي في ألمانيا.
مصطفى: طب ليه ماجربتش تروح لدكتور نفسي؟
سليم هز راسه بلا مش هينفع، أنا محتاج مسكن، حاجة تهدي الألم ده، أنا خلاص اتعودت عليه، بقى جزء مني بس اوقات بيكون فوق طاقتي.
مصطفى فتح درج مكتبه وأخرج وصفة طبية: أنا هكتبلك نوع مسكن مختلف، مستورد، ممكن يساعدك، ياريت تبعد عن البقوليات، والحاجات المحمرة، خلينا في المسلوق والحاجات الخفيفة. ولو بتشرب كحول؟.
سليم عقد حاحبيه متعجباً: بس كده؟
مصطفى تبسم بهدوء: بس كده، حضرتك جربت كل حاجة، حتى التحاليل بره مصر، مفيش حاجة تانية أقدر أضيفها، غير إنك تحاول تهدى، وتشوف إيه اللي مضايقك وتحلّه ولازم تفكر في طبيب نفسي ده علاجك لو لفيت على دكاترة العالم مافيش حل مشكلتك نفسيه غير عضويه حتى الرصاصه مش سبب حاول تبعد عن التوتر بالقدر الكافي.
هز سليم راسه بايجاب نهضمن مكانه وهو يرتب جاكيته.
سليم: تمام يا دكتور، اتشرفت بمعرفتك.
مصطفى توقف امامه: ممكن نتابع كل أسبوعين.
سليم: لا، مش هقدر أجي كتير، موقفي حساس، وعندي أعداء، لو عرفوا إني مريض وبروح لدكاترة كتير مش هتبقى حاجة كويسة، بس أول ما أحس إني محتاجك، هكلمك.
مصطفى: ماشي، أنا أغلب الوقت في إسكندرية، وباجي القاهرة كل فترة، بس ياريت تبلغني قبلها.
سليم: إن شاء الله، بعد إذنك.
تحرك سليم خارج الغرفة، خطواته أهدأ مما كانت عليه عند الدخول، بينما بقي مصطفى في مكانه، ينظر إلى الباب المغلق بصمت، وقد شغله أمر ذلك الرجل الغريب الذي يحمل وجعًا لا تُظهره التحاليل.
مرّت الشهور..
وظلّت الحياة على حالها، راكدة لا حراك فيها، بلا جديد يُذكر. حتى العائلة، لم يطرأ عليها أمر يستحق الالتفات.
سليم؟ كأنما قرّر أن يُقصي كلّ ما حوله، ويغرق في العمل حتى أطرافه، أما البُعد الذي يفصله عن ماسة، أو التوتر العالق بينهما، فلم يعُد يُثقل كاهله كما يُفترض، بل بدا كمن يتجاهله عمدًا، أو يحاول تجاوزه بطريقته الخاصة، وما زال، بطبيعة الحال، يمنعها من رؤية عائلتها، لا لشيء، سوى لأنه ما زال يخشى نفسه.
رشدي؟ لقد التهمه الإدمان تمامًا، لم يعد يقاوم، بل استسلم بكامل إرادته، حتى بات عبئًا على نفسه، وعلى القصر أما سليم، فكان يزور القصر من حين لآخر، يطل على ما تبقى من رماده.
مكي؟ لم يحاول الاقتراب من سلوى مجددًا، تركها وشأنها، لكنه ظل يراقبها بصمت من بعيد حتى لم يخبرها أنه ترك نيرة.
وأما سعدية، فما زالت على توجسها القديم، تخشى أن يتعلق أحد أبنائها بماسة، أو أن تنجذب هي إليهم.
ماسة؟ كانت تتحدث إلى سعدية من حين إلى آخر، عبر هاتف "سحر"، مستغلةً غياب سليم، دون أن تعلم أن سليم ذاته هو من يسمح بذلك، من بعيد، دون أن يظهر.
أصبحت الحياة بينهما أكثر صمتا من أي وقت مضى كانا ينامان أحيانًا في الغرفة ذاتها، وأحيانًا لا، بحسب مزاج سليم.
وأما ماسة، فقد تركت له المساحة كاملة، لا تضايقه، وإن حاولت مضايقته، فبمزاح خفيف، باتت هادئة، لطيفة، وإذا تحدث إليها، ردت دون حدة أو اعتراض لكن الكلمات قليلة، مجردة، لا حياة فيها لم يعد يعتذر تركها، ربما لأنه يخشى أن يقدم لها حبا ذات يوم، فترفضه، فيغضب، فتقع بينهما كارثة، فاختار أن تعيش معه في صمت، على أن تعيش بعيدة عنه بحياة بلا روح، يكفيه فقط أنها إلى جواره.
رفض سليم أن يأخذ المطعم من مجاهد، او يتركون الفيلا بشكل نهائي واستمر في دفع لهم مبلغ كل شهر وعمل عمار ويوسف في شركة تبع والد أمنية.
❤️_____________بقلمي ليلةعادل
غرفة ماسة، السابعة مساءً
كان سليم واقفًا أمام المرآة، يهندم بدلته بعناية، يضبط ياقة القميص، ثم يرشّ عطره المفضل بثقة وهدوء بدا أنيقا ووسيمًا للغاية، وكأن كل تفصيلة في مظهره مدروسة، نظراته لنفسه في المرآة كانت مطمئنة، كأنه يستعد لشيء مهم.
بعد دقائق، دخلت ماسة الغرفة بخطوات خفيفة. وقعت عيناها عليه، فتوقفت قليلًا تراقبه بإستغراب، ثم ابتسمت وجلست على طرف الفراش، تسند ذقنها على كفها وتتابعه دون أن تخفي دهشتها.
ماسة تساءلت بتعجب: متشيك كده ورايح فين؟!
لم يرد، وواصل ما يفعله من ترتيب شعره وربطة عنقه.
ماسة رفعت حاجبها بضجر: هاااي، أنا بكلمك.
ألتفت لها بعينه دون أن يحرك جسده، ثم نظر إلى المرآة مجددًا: بتسأليني ليه؟
اقتربت منه بخفة، وقفت بجانبه: عادي يعني، فضول مش أكتر، وإنت مهندم كده وزي القمر، رايح تتجوز ولا إيه؟ ضحكت
ابتسم سليم، نظر لها للحظة، ثم قال بهدوء: ممكن
ضحكت ماسة، وقفت أمامه تتأمله من أعلى لأسفل:
بجد؟ طب أبقى قولي بس قبل ماتروح عشان أجهزلك الشمعة وأمسك طرحة العروسة.
ابتسم بخفة، ثم ألتفت نحوها وقال بسخرية لاذعة: ليه؟ هو أنا مستغني عنها؟
عضت شفايفها تحاول كتم الضحكة: إنجز بقى، رايح فين؟
أكمل تظبيط شعره بأنامله: في المرآة: ماقلتلك، رايح أخونك.
ببرود وهي تتحرك ناحية الفراش: طب ماتتأخرش
توقّف لحظة، ثم نظر لها من بعيد، في عينيه تساؤل غريب: ليه؟ متأكدة كدة إني مش رايح أعمل حاجة زي كده؟
رفعت عينيها له، صوتها واثق وواضح: لإني متأكدة
ظل ينظر إليها، كمن يقلب شيئًا في رأسه، ثم قال فجأة: على فكرة، أنا بفكر بجد أتجوز، وأعمل العملية وأعيش حياتي. وإنتِ؟ خليكي قاعدة كده بوزك في بوز الحيطان إللي شبهك.
سحب ساعته من على التسريحة، وارتداها ببطء، وكأن قرارًا داخله تغير للتو:
أنا فعلاً كنت رايح برنامج، بس لا هلغيه هخرج أقابل أي بنت من اللي كنت اعرفها زمان.
نظرت له ماسة دون أن ترفع صوتها، ردت بنفس نبرة البرود: براحتك بس ماتتأخرش عاملة لك أم علي.
ابتسم بسخرية، واقترب منها خطوة خطوة، نبرته أصبحت أكثر جدية، وأكثر وجعًا: هو إنتي فاكراني بقول كلام وخلاص، هاروح يا ماسة، وهوريكي إنك غلطانة، هتجوز وهعيش حياتي وخليكي إنتي كده.
ردت ببرود: حقك أنا لو منك، كنت خنتني من زمان. إنت راجل وليك احتياجاتك برضه.
أشار بيده بتحدي: ماشي، هخونك وهتشوفي.
خرج من الغرفة وهو يشعر بضجر، توجه إلى سيارته.
جلس خلف المقود مسح وجهه بيده شعر بثقل في صدره لا يستطيع تفسيره أدار المحرك، ثم أطفأه لحظة صمت لم تكن كافية، لكنه أدرك أنه لا يستطيع فعلها، لم يستطع خيانتها، لم يستطع حتى تحريك السيارة من مكانها، هو نفسه الذي كان يتحدى شعورها الآن عاجز أمام نظرتها الأخيرة.
دون تفكير. دفع باب السيارة، نزل بخطوات سريعة، وعاد إلى الداخل.
صعد الدرج بصمت. خطواته ثابتة، لكنها مثقلة بالتردد.
فتح باب الغرفة.
كانت ماسة تجلس على الفراش تتناول الفشار، تحاول أن تبدو طبيعية، بينما التوتر يعصف بداخلها. كان شعورها الداخلي يؤكد لها أنه من المستحيل أن يقدم على ذلك.
ولم تمر سوى لحظات حتى دخل سليم الغرفة.
شعرت بفرحة عارمة، فرحة لم تستطع وصفها، لكنها كبحتها بكبرياءها. تبسمت بخفة وهي تراقبه:
إيه ده؟ لحقت تخوني؟ ولا كنت بتخوني تحت؟ إنت حتى لو بتخوني تحت مش هتلحق، إيه السرعة دي؟ مش واخدالك على السرعة دي بصراحة.
تقدم سليم وسحب الكرسي وجلس بصمت، رفع عينيه نحوها وقال بنبرة هادئة:
أنا عايز أفهم حاجة واحدة، جبتي منين الثقة دي؟ طب زمان، كان ليكي حق، إنما دلوقتي؟ بعد إللي حصل؟ وبعد البُعد إللي حصل بينا؟ زي ما قلتي أنا راجل، وليا احتياجاتي
عدلت ماسة من جلستها، وقد أصبح صوتها أكثر هدوءًا، لكن الألم كان ظاهرًا فيه: وأنا قلتلك، وهفضل أقولها، أنا مش حارمة نفسي منك، إنت إللي حارم نفسك، مني
تنهد سليم بقوة، ثم قال بصوت يحمل مزيجا من الحنان والتهديد: ماتراهنيش كتير يا ماسة على صبري.
نظرت إليه للحظة، بدت مرتبكة، ثم تمتمت: أنا أنا مش براهن، يمكن، بثق
نهض واقفًا فجأة، ورد سريعًا: لا ماتوثقيش
تحرك نحو الباب.
ماسة من خلفه، ضاحكة بنبرة ساخرة: طب هتيجي على قناة إيه؟ عشان أتفرج عليك يا سجنجن.
ألتفت ناحيتها، رأى منشفة بجانب الكومود، تناولها وألقاها عليها وهو يجز على أسنانه.
ضحكت ماسة من قلبها، ضحكة حقيقية لم تعرفها منذ مدة.
أما هو، فغادر الغرفة ضاحكًا، ينزل على السلم بخفة.
رغم غضبه منها، إلا أن شيئًا داخله كان سعيدًا، سعيد لأنها ما زالت تثق به، ووعد نفسه من جديد، لم يخونها؟ الثقة وحدها، قد تكون الخيط الأخير... الذي يعيد كل شيء كما كان.
بعد مرور فترة
قصر الراوي السابعة مساءً
السفره
نشاهد جميع أفراد عائلة الراوي جالسين حول مائدة العشاء. الأطباق مملوءة، الجو هادئ، كان من بينهم سليم ، لكن رشدي لم يكن حاضرا
فايزة:بس خطوة إنك ترشح نفسك لمجلس الشعب مش تقليل منك يا سليم.
سليم ببهدوء وثقة: تقليل مني؟ بالعكس، دي خطوة مهمة جدًا.
طه معلقاً:بس إنت مش محتاج تبقى عضو في مجلس شعب عشان الحماية، إنت اسمك لوحده حماية.
سليم وهو يتناول طعامه بعقلانية: أنا شايف إن الخطوة دي هتحسن صورتنا، وتقربنا من الناس. ماتنسوش إننا بعدنا عن كل الشغل إللي كنا بنشتغله، والفلوس الكتير إللي كانت ببتقدم لهم زي الميه، خلاص، اتمنعت عنهم فإحنا محتاجين حماية من جوه وأنا هوفرها.
صافيناز متعجبة: بس إحنا أصلًا بعدنا عن كل شغل ممكن يجيب مشاكل أو خطر علينا.
سليم بحدة ناعمة: ومين قال إنك محتاجة تشتغلي شمال عشان يوقعوك؟ ممكن ببساطة جدًا في أي شحنة، يحطوا فيها مصيبة، أو مش لازم كده ممكن يعطلوكي، يخلوكي تخسري يسيبوها مركونة في المينا شهور لكن لما أبقى جوه، هعرف أتعامل.
عزت يهز رأسه: معاك حق.
ممر سليم عينه على الجميع ثم تساءل ويمضغ الطعام: هو فين رشدي؟ مختفي، بقالي كتير ماشفتهوش.
عزت بتنهيدة ضيق: أنا تعبت منه، طول النهار نايم، وطول الليل سهران بقى اسوء ماكان.
فايزة بضجر: سيبه، كفاية إنه بعيد عن المجموعة مش عامل لنا مشاكل.
سليم: بس ده مش حل، هو فين فوق؟
فايزة: أيوة، فوق.
سليم: أنا هطلع أتكلم معاه.
عزت ساخرًا: يا ريت، قبل مأقتله.
سليم بسخرية: تقتله؟! الجملة دي سمعتها أكتر من أي جملة في حياتي، وماعملتش حاجة، ده إنت حتى ما بتقدرش توق، كمل أكلك يا بابا، المهم، عايزين نفضل نتكلم مع بعض كتير، عشان أنا محتاجك في إللي جاي.
عزت: تمام.
وبعد إن إنتهى من تناول الطعام واحتساء الشاي في حديقة القصر وتبادل الاحاديث صعد سليم إلى رشدي.
غرفة رشدي
كان الباب نصف مفتوح، ورشدي يجلس على الأريكة، جسده متراخ وملامحه منهكة من أثر السكر. تنبعث الموسيقى من هاتف ملقى بجواره، وطبق زجاجي صغير يحوي مسحوقًا أبيض، يضع فيه ورقة ملفوفة من فئة الدولار، ويبدأ في استنشاقه ببطء، في اللحظة ذاتها، مر سليم أمام الغرفة، لمح المشهد، فتوقف، ثم دفع الباب قليلًا ودخل دون أن ينطق بكلمة، وقف أمامه، صامتًا، يراقب.
سليم بنبرة هادئة: إنت مبسوط باللي إنت فيه ده؟
رفع رشدي رأسه، نظر إليه بعين زائغة وضحكة مشروخة: الأمير الصغير. تعال، أتفضل، البيت بيتك.
تحرك رشدي قليلًا ليفسح له مكانًا. جلس سليم بجواره، ناظراً إليه دون أن يحول بصره، بينما رشدي أكمل استنشاق البودرة بلا خجل.
سليم بصوت منخفض: إيه إللي وصلت له ده؟
رشدي بنبرة سُكر: إللي وصلتله ده أحلى حاجة، بدل ما جربتش، ماتتكلمش.
سليم بضجر: بتضحك على نفسك ولا عليا؟
رشدي وهو يشعل سيجارته: لا دي ولا دي، أنا بقول الحقيقة، تحب أحطلك كاس؟ آه، صح، إنت بطلت، وبعدين إنت جاي تسأل عليا بلاش مش لايقة عليك؟
سليم صمت لحظة، ثم نظر له طويلًا، تساءل متعجبًا:
إنت ليه بتكرهني يا رشدي؟ أنا بسأل نفسي السؤال ده من سنين.، مافتكرش إني عملت معاك حاجة وإحنا صغيرين تستاهل الكره ده كله، معاك، كنت برخم عليك، وبضربك، بس إحنا كنا عيال، وإنت كمان ما كنتش ملاك، أنا مشيت وأنا عندي ١٢سنة، سبت مصر، ومارجعتش غير وأنا عندي٢٣، ١١ سنة...كنت فيهم في حضن الباشا والهانم، وأنا كنت مرمي في مدرسة داخلية، يعني فين إللي يخليك تكرهني كده؟ وماتحبنيش؟
رشدي بنظرة شبه ساخرة:وعلى أساس يعني إنك كنت بتحبني؟
سليم فورًا، بنبرة حادة: بس مابكرهكش، أنا بكره تصرفاتك، وبتنرفز من إللي بتعمله، بس عمري ماكرهتك، لو كنت بكرهك، مكنتش هفديك بحياتي.
رشدي تهرب من نظراته، يحاول الهروب من المواجهة: إنت جاي تقول الكلام ده ليه دلوقتي؟
سليم بحزن: علشان مش مبسوط، وأنا شايفك كده بص يا رشدي، أنا عارف إنك هتموت على العرش، خده، أنا مش فارق معايا ولا عايزه زمان يمكن، كنت نفسي فيه بس دلوقتي؟ لأ أنا عايزك تبطل إللي، بتشربه، وتفوق، وأنا هفضل جنبك، أساعدك، لحد ماتبقى أقوى مني، بس من غير غدر.
ابتسم رشدي ابتسامة غير مفهومة: مش فاهم يعني إيه محبة كذابة دي إللي طلعت عليك فجأة؟
عقد سليم حاجبيه، متعجبًا: محبة كذابة؟
رشدي بغضب، وهو يعدل جلسته: أيوه، محبة كذابة لو بتحبني ماكنتش تعملني المعاملة إللي كنت بتعاملني بيها، لما كنت بغلط، ماكنتش بتحتويني، كنت بتضرب، تشتم، تهين، تقلل مني، كسرت دراعي، وإيدي، وصباعي، رجالتك كانوا بيربطوني بالحبال، عمرك ماحترمتني، كنت عايزني أحبك؟ إنت مجنون
سليم بنبرة ندم: أنا عارف، عارف إني كنت بعملك بخشونة، بس إنت كنت بتقتل، يا رشدي بتأذي، كسرت ناس، اغتصبت بنات أنا بعدت عنك وبطلت أقرب، بس يوم ماكسرت دراعك، لإنك عكست مراتي
لو كنت مكاني، كنت هتعمل إيه؟
رشدي بلا تفكير: كنت قتلتك على طول.
سليم: طيب أهو، أديك قلتها.
رشدي بعينين ترفض الدموع:مش يمكن، لو كنت اتصرفت معايا من أول غلطة، حتى لو كبيرة، بعقل وحنان، كان زماني بني آدم تاني، بس إنت كل غلطة مني كنت بترد عليها بإهانة، بالضرب، بالصراخ
سليم نظر أمامه، كأنه يعترف داخليًا: أنا مش هجادلك أنا غلطت وأنا معترف، بس إحنا اتربينا كده ماحدش علمنا، ماحدش احتوانا الغلط مش بس فينا إحنا ولاد عزت وفايزة وماتعلمناش غير كده.
مد سليم يده إليه: بص، خلينا ننسى كل إللي فات، نبدأ من جديد نبقى إخوات بجد، نحقق حلم الباشا نقف جنب بعض، وأنا؟ أقسم بالله مش عايز العرش.
رشدي نظر له، عيونه حمراء، مبللة، وصوته مخنوق: خلصت يا سليم ما بقتش تنفع، إنت مش هتسامح ولا أنا.
سليم: مش صحيح لو عايزين ننسى، هننسى.
رشدي: مش هينفع فات الوقت.
وقف سليم ببطء، قال بثبات: أنا لسة مصر أنا هقول للباشا على موضوع الإدمان أنا غلطت لما خبيت مش نُدالة مني.
رشدي ببرود: مش فارق معايا
سليم وهو واقف على الباب:فكر، العرض لسة قائم بس بلاش تكون نهايتك جرعة بودرة، ونصيحة خد بالك من عماد وصافيناز، عشان إنت رامي نفسك في حضنهم جامد.
ضحك رشدي، ضحكة حزينة: أنا لما بسلم على عماد، بعد صوابعي،وصافيناز؟ أنا مسجلها على تليفوني، أختي الحرباية خد بالك إنت.
أومأ سليم برأسه: زي ماقلتلك فكر، بلاش تموت بإيدك
غادر سليم الغرفة ترك خلفه صدمة، لم يكن رشدي بانتظارها، نظر رشدي إلى الفراغ، عيونه تلمع بدموع لم تسقط تمتم بإبتسامة حزينة: وسعت يا سليم، مش هينفع، أنا عمري ماهنسى، ولا إنت هتنسى، ولا هتغفر، لما تعرف الحقيقة.
أغمض عينيه للحظة، تدفقت الذكريات: الرصاص، الطعنات، الصرخات، ثم فجأة، ضرب الطاولة بقدمه بعنف.
منزل مكي العاشرة مساءً
الشرفة
وقف مكي مستندًا إلى السور، يحمل كوب الشاي في يده اليمنى، وسيجارته تشتعل ببطء في اليد الأخر، يتصفح هاتفه بلا تركيز، يتنقل بين التطبيقات دون هدف، إلى أن فتح الاستوديو وظهرت صور سلوى تأمل ملامحها التي لا تغادره، ابتسامتها العابثة، نظرتها الجادة كل التفاصيل ما زالت حية.
رغم انتهاءه من علاقته بنيرة منذ اشهر، رغم أنه لم يمنحها يومًا مشاعره كاملة، إلا أن فكرة التحدث مع سلوى عادت لتراوده بقوة، ربما، يتغير شيء هذه المرة.
تذكر حديث سليم: البنت ساعات بتعشق الراجل إللي يثبت لها إنه مش هايتنازل عنها بسهولة
فسلوى لم تكن ترفضه لأنها سيئة، أو خائنة، بل كانت ترفضه لأنها موجوعة، تحمل في قلبها جراحًا لا يراها أحد، كانت لها أسبابها، حتى وإن كانت تراها من زاوية خاطئة، زاوية أهلها شقيقتها وربما، لو حاول أن يفهمها من جديد، دون أن يحكم، لأدرك ماعجزت عن قوله تنجح، رفع الهاتف وأتصل بها.
في الجهة الأخرى، كانت سلوى جالسة في الحديقة، تقلب في أوراق صغيرة كانت تكتب فيها ملاحظات، حين رن الهاتف فجأة، نظرت إلى الشاشة، ظهر اسم "مكي".
ترددت.ثم أجابت بجمود،: خير؟
مكي بنبرة اشتياق: عاملة إيه؟
ساوى بجمود: أنا كويسة خير؟
مكي بهدوء متردد: أنا بس كنت عايز أطمن عليكي، وأقولك أنا سبت نيرة من فترة. من بعد الخطوبة بـ 20 يوم تقريبًا.
سلوى بهدوء غريب: وبتقول لي ليه؟
مكي: عشان إنتي لازم تعرفي.
سلوى توقفت من مكانها وهي تقول بتعجب: وفاكر بقى لما تقوللي كده، هجري عليك وأقولك يلا نرجع لبعض؟
مكي بنبرة حانبة: وليه ماتعمليش كده؟ ما إنتي لسه بتحبيني.
سلوى: مين قالك؟
مكي: أمال إللي عملتيه يوم ماشفتي نيرة معايا ده كان إيه؟
سلوى بنبرة حادة: اسمه أي حاجة غير غيرة أو حب، زعلت، آه، بس زعلت إنك جبتها نفس المكان إللي كنا بنتقابل فيه وإنك خطبت بسرعة، ده شعور طبيعي إنما غيرة؟ لا..وما تتصلش بيا تاني، أنا رديت بس علشان لو فيه حاجة مهمة، غير كده ماتتصلش بيا تاني.
ثم أغلقت الخط دون أن تنتظر.
ظل مكي لحظة يحدق في الشاشة، صامتًا مسح وجهه براحة يده، لم يشعر بالندم. يعرف أنها ستفعل ذلك، لكنه كانت محاوله ربما تفوز.
أما سلوى فقد أسندت ظهرها إلى المقعد، وبدأت الدموع تنساب بصمت رغم كل شيء، قلبها كان مكسورًا....