رواية الماسة المكسورة
الفصل الثامن والسبعون 78 ج2 والاخير
بقلم ليله عادل
قاعة البلياردو، السادسة مساءً
كان سليم واقفًا في صمت، يضرب كرات البلياردو بمهارة متقنة،دخل مكي بهدوء، لم ينطق، فقط نظر إلى صديقه.
سليم، دون أن يلتفت إليه، قال بصوت خافت: تعال ألعب معايا.
تناول مكي العصا ووقف إلى جواره، وبدأ الاثنان اللعب في صمت ثقيل.
سليم، وهو يضرب الكرة: كنت بتعمل إيه امبارح في البار؟ مش كنا بطلنا الموضوع ده من زمان؟
مكي، رافعًا حاجبه بدهشة: إيه يا عم؟ إنت بتراقبني أنا كمان ولا إيه؟
سليم بعين مركزة على الكرة: رديت بإجابة.
مكي بهدوء: روحت أشرب كاسين.
سليم ألتفت إليه بنظرة عتاب: وليه تشرب تاني؟ مش كنا خلصنا السيرة دي من سنين؟
مكي وهو يضرب الكرة:كنت مخنوق.
سليم بتعقل: اتخنقت، بس إنت ممكن تفك عن نفسك بأي حاجة غير السكة دي، إحنا بعدنا عنها بالعافية، بلاش نرجع.
مكي، بإبتسامة خفيفة: سيبك بقى، تعرف قابلت مين هناك؟
سليم دون أن يرفع عينيه عن الطاولة: مين؟
مكي، وهو يسدد كرة جانبية: مونيكا.
رفع سليم رأسه بإستغراب: مين مونيكا؟
في تلك اللحظة، كانت ماسة تمر أمام باب القاعة، وتوقفت فجأة، وكأن الاسم صفع قلبها، اتكأت على الحائط، تلتقط أنفاسها بهدوء، وأذناها تترقبان.
مكي أكمل:مونيكا يا سليم، البنت إللي كانت معجبة بيك، ولما حاولت تقرب منك، قلتلها أنا ما بخونش مراتي.
سليم فكر للحظة ثم قال: آه مونيكا كانت برتغالية ولا برازيلية؟
مكي ضحك بخفة:برتغالية، بنت رجل الأعمال إللي كنابنتعامل معاه في مشروع خدمات البترول.
سليم: فاكرها مالها.
مكي وهو يضحك: كانت بتسأل عليك امبارح، بتقول: لسه متجوز؟ لسة مخلص ولا غير رأيه؟
ابتسم سليم بسخرية: ماقلتلهاش إنها للأبد.
مكي، وقد لمح غموضا في نبرته: طب بجد؟ مافكرتش؟ يعني الفتور إللي بينكم، وبعدها عنك، أكيد مخلي حياتك مش سهلة.
توقف سليم عن اللعب، وأسند جسده على العصا، وقال بثبات: أخون ماسة؟
مكي شرح: يا سيدي ماسمهاش خيانة، دي أساسًا بعيدة عنك، مفيش ود، دفء، جوازة شبه واقفة.
سليم بصوت هادئ لكنه حاسم: حتى لو واقفة، حتى لو كانت على إيقاف تنفيذ مستحيل أخونها.
صمت للحظة وكأنه تذكر شئ: من فترة، كان عندي برنامج قولت استفزها، قلتلها: أنا ممكن أخونك، وهي ماصدقتش، عندها ثقة فيا،ثقة مرعبة، وماينفعش أكسر الثقة دي.
تنهد بنظر جدية حاسمة: أنا عندي حاجتين خط أحمر:
ماجبرهاش تعمل حاجة مش عايزاها، ومأخونهاش، أنا ملكها وبس، وعدتها زمان، واستحالة ألمس واحدة غيرك، ستات الدنيا كلها عندي زي أختي، محرمين عليا.
مكي سأل بهدوء: وهي تعرف حاجة عن مونيكا؟
سليم نفى: لأ، مابحبش أقول لها حاجات زي دي. هقولها ليه؟ عشان أقول لها شوفي أنا مخلص إزاي"؟ ده يبقى استعراض، مابحبش أعمل كده وبعدين، مش مونيكا بس كتير أتعرض عليا، ورفضت.
تنهد وهو ينظر بعيد بأمل: يمكن إخلاصي ليها هو الحاجة الوحيدة إللي ممكن تشفيها، تشفعلي عندها.
ثم نظر إلى الأرض، وتنهد بمرارة: بس بعيدًا عن كل ده، أنا مش هعمل حرام تاني.
زفر بإختناق بتعب ومرارة بعينين أغرورقت بدموع:
ساعات بحس إن كل إللي حصل لينا بسبب الماضي، رغم إني تبت، يمكن ربنا ماقبلش توبتي، عشان كده.د، خسرني بنتي، وعلاقتي بماسة باظت، وأنا نفسي بقيت عايش على الحافة.
مكي قال بصوت مكسور: أنا كمان ساعات بقول كده، إحنا أذينا ناس كتير، حتى لو في جزء منهم دفاع عن النفس، بس ده مايمنعش إن إحنا عملنا حاجات كتير غلط وحرام،ممكن كل ده عقاب.
سليم بصوت موجوع: طب وحلها؟ هتخلص إمتى؟ أنا تعبت يا مكي.
مكي همس وهو يزم وجهه بحزن: مش عارف.
سليم شد على العصا، ثم قال بإصرار: ولا أنا، بس واثق في ربنا، إن إللي حصل مالوش دعوة بالماضي، يمكن اختبار، اختبار صعب، بيشوفني هكمل ولا هرجع، وأنا مستحيل أرجع، عشان كده
تقدم خطوة من مكي وأمسك ذراعه بدعم: أوعى ترجع يا صاحبي، إحنا الأتنين لازم نقوي بعض ماينفعش نرجع مهما حصل.
هزّ مكي رأسه موافقًا، بصمت.
في الخارج، كانت ماسة لا تزال واقفة، عينها معلقة بالأرض، وأذنها تسمع كل كلمة، دمعة وحيدة انسابت على خدها، ليس لأنها شكت في إخلاصه، فهي لم تصدق يومًا أنه قد يخون، بل كانت متأكدة أن الخيانة لا تشبهه، ولا يعرف طريقها إلى قلبه.
لكن شيء في حديثه عن "الماضي"...ترك غصة مريرة في قلبها.
فذلك اعتراف من سليم مباشر، أن حديث رشدي صحيحاً فقد سلك طريقًا مظلمًا يومًا،تبسمت بصمت، وصعدت إلى غرفتها.
(مرت أشهر)
حتى اكتمل عام كامل منذ هروب ماسة الأخير وحبس سليم لها، الحياة كما هي، ساكنة لا يتخللها تغيير، ولكن بعد هذه المدة الطويلة، وفي يومٍ لم يكن في الحسبان، حدث ما لم يكن متوقعًا.
انقلبت الموازين ولم تتغير حياة ماسة وسليم فقط بل تغيّرت حيوات أخرى، وحكايات ظن الجميع أنها انتهت، لكنها في الحقيقة لم تبدأ بعد.
في احد العوامة النيلية الثانية عشر صباحاً
الارزوما العوامة التي يفضلها سليم بطرازها النوبي الأصيل،
كانت الأجواء هادئة، وصوت الماء يلامس العوامة برفق. جلس سليم في الشرفة يحدق في النيل بشرود، وجهه حزين وعيناه غارقتان في أفكاره. مرت أمامه ذكريات الخلافات مع ماسة، وهروبها، وتحول حبها الكبير إلى كره لم يفهم كيف وصلوا إلى هذا الحد، وكل شيء بدا مؤلمًا وضبابيًا.
على الجانب الآخر، دخلت لورجينا إلى المكان بصحبة رجل طويل، ذو ملامح وسيمة، ألقت التحية على العاملين بالمكان، وهي تتجول بثقة، فهذه العوامة كانت واحدة من أماكنها المفضلة. جلست مع رفيقها، وتبادلت معه الحديث، لكن وسط ضحكاتها، التقطت عيناها صورة مألوفة سليم الذي يجلس هناك بنفس الوضعية التي حفظتها عنه حين يكون غارقًا في أفكاره. لم تره هكذا منذ سنوات.
شعرت بانقباض في صدرها نظرت إلى رفيقها وقالت بابتسامة خفيفة: حبيبي، لحظة وراجعة لك، هسلّم على صديق.
هزّ الشاب رأسه متفهمًا، فنهضت وسارت نحو سليم. توقفت عند السور، أخذت نفسًا عميقًا، ثم أسندت يدها عليه، وهي تلقي نظرة خاطفة عليه.
لورجينا بنبرة هادئة: عامل إيه؟
سليم دون أن يلتفت إليها، وعيناه لا تزالان على المياه: كويس.
لورجينا نظرت إليه مطوّلًا، ثم مالت قليلًا نحوه وهي تسأل بشك: متأكد إنك كويس؟
رفع سليم عينيه إليها، نظر للحظات ثم عاد بشروده. كان واضحًا أنه غارق في دوامة من الأفكار.
أسندت ظهرها إلى السور، والنيل خلفها، وقالت بهدوء ممزوج بقلق: مالك؟ أول مرة أشوفك مهموم كده.
سليم بصوت منخفض: متشغليش بالك.
لورجينا ابتسمت ابتسامة خفيفة:مش شاغلة بالي، بس بسأل عشان العِشرة والذكريات، مهما حصل كنت في يوم حبيبي مالك؟
ظل سليم صامتًا للحظات، ثم زفر نفسًا عميقًا مثقلًا بالألم. أشار برأسه نحو مركب قديمة بعيدة وسط النيل، يغلب عليها الصدأ، بلا شراع، لكن صاحبها ما زال يجدف بها بعزم رغم كل شيء.
سليم بصوت هادئ يحمل وجعًا دفينًا: شايفة المركب اللي هناك دي؟
نظرت لورجينا حيث يشير، ثم عقدت حاجبيها بتساؤل: مالها؟
سليم بابتسامة باهتة حزينة: أنا زيها، مركب من غير شراع مكسورة بس لسه بحاول أقاوم وأحارب عشان أفضل موجود وسط كل المراكب القوية دي.
لورجينا ظلت تنظر إليه بصمت، ثم تمتمت بعد لحظات قالت مستفسرة: مش فاهمة حاجة.
سليم استدار نحوها أخيرًا، نظر إليها بعينين يملؤهما الحزن والخذلان، ثم قال بصوت منخفض لكن حاد:
ليه مش عايزة تسامحيني؟ على حاجة عملتها من غير قصد؟ على حاجات حصلت رغم إننا كنا متفقين عليها زمان؟
لورجينا رمقته بنظرة طويلة، ثم زفرت قائلة: سليم، أنا سامحتك من زمان.
نهض سليم توقف امامها وهو يهز راسه بشك: معتقدش، ولو حصل مش من قلبك.
لورجينا ابتسمت، لكنها كانت ابتسامة محملة بالكثير من الذكريات والألم: لا من قلبي، اللي بيحب بجد بيسامح يا سليم، انت فعلًا أذيتني، بس أنا اللي قبلت الأذى ده، أنا قبلت كل شروطك زمان فقبل ما تأذيني، أنا اللي أذيت نفسي.
سليم أغمض عينيه للحظة، وكأنه يهرب من الحقيقة، ثم قال بنصف ابتسامة وجع: أمنيتك اتحققت، حياتي أنا وماسة اتدمرت، عشت تشوفي وجعي يا جيجي.
لورجينا رفعت حاجبيها بدهشة، ثم هزت رأسها بالنفي وهي تقول بإصرار: سليم، صدقني أنا سامحتك، من قلبي والله، وبحب دلوقتي، وهتجوز خلاص، نسيت كل حاجة، يمكن زمان كان جوايا ألم، وكان عندي أمنية أنك تعيش وجعي، بس مع الوقت كل حاجة انتهت الذنب ده مش ذنبي يا سليم،
سليم ابتسم ابتسامه مريرة وهو يهز رأسه: هتتجوزي بجد؟
لورجينا نظرت نحو الرجل الذي كان ينتظرها، ثم ابتسمت وقالت بهدوء: شاب كويس جدًا. اتعرفنا من فترة وحبينا بعض حقيقي كان عوض عن كل اللي فات.
سليم ابتسم أخيرًا، هذه المرة ابتسامة حقيقية، وقال بصوت صادق: مبروك، صدقيني، من قلبي فرحتلك.
لورجينا نظرت إليه بحنان، ثم قالت بنبرة دافئة: وأنا من قلبي بتمنالك ترجع لحياتك مع ماسّة، شوف إيه اللي مزعلها وراجع نفسك فيه اتنازل شوية، حتى لو مش غلطان، مادام بتحبها.
سليم نظر بعيدًا وقال بمرارة: مش عايزة كرهتني.
لورجينا هزت رأسها بثقة: مستحيل يا سليم، حبكم لبعض كبير، يمكن هي غاضبانه منك، بس اتمسك أنت بيها، واتكلم معاها والمشكلة هتتحل.
ظل سليم صامتًا، عيناه تائهتان في النيل، كأنه يبحث عن إجابة بين أمواجه المتلاطمة.
سليم بألم: عايزه تمشى وتسبني.
لورجينا بحكمه: عايزة تمشي؟ خليها تمشي أحيانًا البعد بيبين لنا إننا كنا غلطانين في قراراتنا، لو مشيت، وهي بتحبك، أكيد هتندم وترجعلك ندمانة وقتها، متترددش، خليك مستنيها المهم أنك تكون متاكد أنها لسة بتحبك.
سليم بوجع خنق صوته ممزوج بحيرة: بتحبنى بس مش هترجع، لان في حاجة مخليها مصرة تمشي اكبر من اللى حصل عشان كدة خايف اسبها تمشي ومترجعش.
لورجينا بإصرار: مهما حصل لو بتحبك صدقني هترجع بطل تخاف، وبسبب خوفك تاذيها وانت مش واخد بالك.
وضعت يدها برفق على كتفه، ثم همست بصوت خافت: احتمال تكون دي آخر مرة نتقابل بينا، هسافر قريب، مش هرجع تاني، من قلبي بقولك، ربنا يسعدك يا سليم وتلاقي الشراع والمرسى لمركبتك.
استدارت، خطت بضع خطوات، قبل أن تلتفت وتنظر إليه للمرة الأخيرة: خد بالك من نفسك، يا سليم.
سليم بابتسامة حزينه: وانتي كمان خدي بالك من نفسك، مبروك على الجواز.
لورجينا بإبتسامة أمل: هعزمك انت وماسة هستناكم تيجوا سوا.
ابتسمت له بحنين، ثم مضت، تاركة خلفها رجلًا وقف وسط النيل كالمركب المكسور، يتشبث بالمياه رغم العاصفة.
قصر الراوي الثالثه مساءً
ممر الغرف
خرج رشدي من غرفته بدا عليه شيء من الوعي، كأن غيمة الغياب التي ظلت تعتم ملامحه قد انقشعت أخيرًا، خطواته كانت ثابتة وهو يسير في الممر الطويل، حتى ألتقت عيناه بعيني صافيناز.
ابتسم، وفتح ذراعيه بسخرية ناعمة، وهو يهتف بصوت خافت: أختي الحربوقة عاملة إيه يا حرباية؟! أخبار الحربئات إيه الفترة دي؟
توقفت صافيناز مكانها، رفعت حاجبيها بتعجرف ارستقراطي، وردّت من طرف أنفها: بخير يا أخويا، العقرب هتبطل إمتى السوقية؟
ضحك رشدي، ضحكة خفيفة حملت تهكمًا أكثر من المرح: ولما تبطلي إنتي تتكلمي بمناخيرك قوليلي، بقالنا كتير مش سامعين حسك من ساعة ما البت طارت، إنتي وجوزك التعبان اختفيتوا.
نظرت له ببرود، ورفعت كتفها بإستخفاف: بتطمن عليا إيه؟ بتحبني؟
أقترب منها قليلًا، وانحنى برأسه: لا بحبك إيه هو إنتي تتحبي؟، أنا برخم عليكي إنتي حرباية، وإللي يحب حرباية يبقى حمار إنتي واحدة مابتحبيش غير نفسك، وشريرة بصي أنا، بشري ده، عمري مافكرت أقتل حد فيكم، يمكن سليم فكرت، ونفذت كمان، بس ماتنسيش أنا إللي كلمت الإسعاف وقتها، أنا إللي أنقذته هو ومراته، ماهانش عليا أسيبه يموت، يعني لسة عندي حتة بني آدم، إنما إنتي، لو يوم قعدتي على الكرسي، هاتقتلينا كلنا وأنا أول واحد علشان أنا عارف أسرارك القذرة.
توقف لحظة، ثم أردف بنبرة أكثر انخفاضًا، وأشد حدة: أنا معايا إللي ينجيني، إبعدي عني إنتي وجوزك
ضيّقت صافيناز عينيها، قالت ببرود: أنا بس أقعد على الكرسي وصدقني مش هفكر مرتين وأنا بقتلك، مش أنا بس إللي بكرهك إحنا كلنا بلا استثناء، حتى فايزة شايفاك بالمنظر ده وما فكرتش تتحرك، حتى الباشا، اوعى تفهمني إن الباشا مايعرفش إنك بقيت مدمن، يا ابني الحيطان نفسها عرفت، عمرك شوفت أم وأب يشوفوا ابنهم بيدمر ط ومايتحركوش؟
رشدي، وهو يلوح بيده ساخراً: المفروض دلوقتي أتهز وأزعل وأقول: الناس كلها بتكرهني ولا أندهش يعني؟.وبعدين يا شيخة، بابا وماما مين؟ تفي من بوقك عيب الكلام ده
ضحكت رشدي : باي باي يا حربوقة.
همست بصوت منخفض وهي تبتعد: عيل غبي.
وفي الزاوية، خلف الباب، كان عماد واقفًا. كل شيء سمعه.
وما إن أغلقت صافيناز الباب خلفها، حتى استدار نحوها بنظرة متحفزة.
عماد بضجر: مش حلو إللي إنتي بتعمليه مع رشدي ده، كل ما يشوفني يرمي كلام عبيط، وأنا بكبّر دماغي، مش رشدي ده إللي تاخدي على كلامه؟!
صافيناز لم تلتفت، ردت ببرود: هو أنا قلت له حاجة؟ وبعدين أنا المفروض أخاف من رشدي؟
أقترب منها خطوة، وحدق في وجهها بتحذير خافت:
أيوه، تخافي، رشدي دلوقتي مدمن ولو فلت إحنا نروح في داهية ده عدو غبي.
ضحكت بسخرية: يعني فاكر إنه لما أتعامل معاه بلطافة هيصدق؟
عماد، وهو يهز رأسه بهدوء: لأ، مش هيصدق بس لو اتحديتيه، وقلتي له بكرهك، وسخنتي الدنيا وقتها ممكن يقتلنا كلنا فعلاً.
خفضت عماد صوته، وكأنها تهمس بسر: بعدين الجملة اللي قالها، أنا معايا إللي ينجيني، قصده إيه؟ أول مرة يقولها بالشكل ده.
جلست على المقعد، وهزت رأسها بإستنكار: أكيد يقصد إللي ماسكه علينا، الحاجات إللي حصلت وقت اتفاقنا على ماسة، ومتنساش إن إحنا كمان معانا الفيديو ،بالصوت والصورة إنت ناسي إنك كنت زارع كاميرات في أوضة ياسين وقتها؟
جلس عماد إلى جوارها، صوته منخفض لكنه حاد: بس بلاش دلوقتي نفتح على نفسنا أبواب تانية، بعد إللي عمله إريك، أنا مش مستعد أخسر ولادي خلينا نهدى شوية.
ابتسمت صافيناز بخفّة، وهي تنهض من مكانها: طب أنا قايمة ياقلبي هقابل سارة، هودي الأولاد الملاهي.
عماد أومأ برأسه:طيب
أحد المطاعم على النيل، الخامسة مساءً
دخل رشدي بخطوات ثابتة، وعيناه تحملان برودة لا تخف، جلس بصمت. تناول قائمة الطعام من يد الجرسون دون أن ينظر، ثم رفع عينيه ببطء نحو الشاب الواقف.
رشدي بنبرة هادئة لكنها تحمل أمرًا واضحًا: هات إللي مشغلك
تردّد الجرسون قليلًا، بدا عليه التوتر: أفندم؟
رفع رشدي حاجبه: أخلص.
هز الجرسون رأسه بخوف، ثم استدار متجهًا إلى الداخل، دقائق مرت، ثم خرج مجددًا، وبرفقته مجاهد، لم يلاحظ من يجلس بالطاولة، لكن كلما اقترب كلما اتضحت الرؤية، فتوقف فجأة، وقد اتسعت عيناه بدهشة.
مجاهد بصدمه: رشدي؟!
ابتسم رشدي ابتسامة جانبية باردة، وقال بنبرة فيها مكر هادئ: إيه ده؟ هو المطعم ده بتاعك؟ تصظق٦ ماكنتش أعرف مفاجأة
أقترب من مجاهد، وبحركة سريعة مد يده إلى جيب قميصه، سحب هاتفه، ثم أغلقه في هدوء تام، مجاهد نظر له بدهشة، لم يفهم مايحدث، لكن رشدي وضع إصبعه على شفتيه وقال بهمس خبيث: هششش أصل أخويا ديب أوي أكيد بيراقبني، لما يسألك هتقول له: صدفةوقعد يرخم عليا شويتين، اتفقنا؟
مجاهد تنفس ببطء، وصوته خرج متحفظًا: خير يا ابني؟ عايز مننا إيه؟
رفع رشدي حاجبيه بسخرية: إبنك؟ ماتنساش نفسك أنا رشدي بيه، يمكن إنت ماتعرفنيش كويس عشان دايمًا كنت بلارض، بس اسأل مراتك وبناتك: مين رشدي؟ لو سليم رفع التكاليف، ونسي حجمه أنا مابنساش معلش، أصل أنا واخد الطبع ده من ماما.
تنهد مجاهد:خير يا رشدي باشا أفندم يا بيه؟!
ضحك رشدي ضحكة قصيرة، وأشار له أن يجلس مقابله:.آه كده فهمت صح خليني أقولك الكلمتين
وحدق فيه مطولًا. بدا كأن الزمن توقف للحظة: قولي لسة مش عارف توصل لبنتك؟
مجاهد، وصوته منخفض: أيوة
اعتدل رشدي في جلسته، وصوته غلفه تهديد خفي: يعني طول السنة إللي فاتت، عايز تفهمني، ان ماسة ماكلمتكوش؟ ماسرقتش تليفون من سليم؟ ماستعطفتش خدامة ولا حد؟ ماحاولتش تبعت إشارة؟
تردّد مجاهد، لم يعرف كيف يرد، لكن رشدي لم ينتظر الجواب: مش مهم، أنا متأكد إنها كلمتكم، والمرة الجاية لما تكلمكم، قول لها: رشدي هيطلقك من سليم والمرة دي طلاق مش هروب، طلاق على المكشوف.
نظر له مجاهد بصدمة، لكن رشدي تابع: ماتخافش على نفسك،أنا عندي استعداد أسفركم بره أديكم أسماء جديدة، حياة جديدة وفلوس كتير قول لها بس كده.
تجمدت ملامح مجاهد، وتمتم بصوت مرتعش: وإنت ليه عايز تعمل كده مع بنتي؟
قهقه رشدي، ضحكة قصيرة، ثم رمقه بنظرة قاسية:
لأ، إنت هنا مابتسألش إنت هنا بتسمع أنا آللي أقول وأسأل سلوى؟ اسألها أنا ممكن أعمل إيه
صوته أنخفض لكن نبرته تحولت إلى تهديد واضح:
الموضوع إللي بينا مايتقالش لو سليم سألك، أنا متأكد إنه هايسألك، رشدي كان بيعمل إيه في المطعم لو عرفت إنك هلفت في الكلام، إنت المسؤول وأبسط حاجة أعملها؟، أرجعلك العربية إللي خبطتك قبل كده، بس المرة دي؟ مش كسر في الرجل لا قراءة فاتحة
صمت رشدي للحظة، كأنه يستمتع بتأثير كلماته، ثم أضاف: حلو المطعم، ما رجعتهوش لسليم ليه؟ مش كنت ناوي تسيبه؟ زي ما ولادك سابوا الشغل؟
تنهد مجاهد، كأن الكلام يُثقل صدره: سليم مارضيش، وما لقيتش شغل ورفض كمان نسيب الفيلا.
ضحك رشدي، وهو يهز رأسه: أخويا، جدع، مش عارف طلع جدع كدة لمين، أحيانًا بحس إنه مش أخونا والله
وقف، يرتب جاكيته بعناية، ونظر له نظرة أخيرة: سلام يا مجاهد، فكر في كلامي ها؟
ثم استدار بهدوء، وخرج من المطعم لم ينظر خلفه، ولم يتوقف مجاهد ظل مكانه، مشوشًا، ملامحه غارقة في الحيرة، الهواء من حوله أصبح ثقيلًا، وكأن كل ذرة فيه تطبق على صدره. نهض ببطء، دخل إلى الداخل دون كلمة.
في الخارج، كان رشدي قد استقل سيارته، أدار المحرك، وأنطلق
فيلا عائلة ماسة، الخامسة مساءً
اللفينج روم
نرى يوسف يتنقل بين تطبيقات هاتفه بلا اهتمام، بينما يتابع عمار وسلوى الفيلم. سعدية كانت تحتضن كوب الشاي.
حتى أنفتح باب الفيلا ودخل مجاهد، صوته اخترق السكون.
السلام عليكم
رفعت سعدية رأسها بسرعة، تستغرب: مجاهد؟ إيه إللي جابك بدري؟
رفع يده بإشارة يدعوها للجلوس، ونبرته بدت ثقيلة غارقة في شيء أكبر من الكلمات: أقعدي بس يا سعدية.
ثم نظر إلى عمار ويوسف، قائلاً بهدوء: كويس إن انت وأخوك هنا مش في الشغل.
سأل عمار بقلق واضح: خير يا أبويا؟ في حاجة؟
أجاب مجاهد بعد تنهيدة: رشدي كان عندي النهاردة
تغير وجه سلوى في لحظة، تجمدت ملامحها، وظهر الذعر على عينيها، كأن الاسم وحده أعاد لها كوابيس قديمة: عايز إيه؟!
جلس مجاهد بثقل، يحدق بالأرض وكأنها تخبئ له شيئًا: قال لي إنه ممكن يساعدني، علشان ماسة تسيب سليم وتتطلق منه، وقال لو وافقنا، هايسفرنا السنة دي، ويخفينا ويدينا فلوس.
أرتفع حاجبا عمار بدهشة حادة: ومن إمتى الخير ده كله؟!
قاطعته سعدية سريعًا بقلق: أستنى يا عمار، هو ليه يعمل كده؟!
أجاب مجاهد دون أن يرفع نظره: ماقالش بس طريقته كانت غريبة، قال لي لو سليم عرف إننا اتكلمنا، العربية إللي خبطتني قبل كده، هيخليها تخبطني تاني بس المرة دي تموتني.
شهقت سلوى، ووضعت يديها على فمها، جسدها ارتعش بعنف، ودموعها سالت دون إرادة المشهد، التهديد، الصوت… كل شيء عاد إليها من نقطة الصفر.
صرخت سعدية بنبرة تهكم وخوف: إيه؟! دول عصابة؟ عايزين مننا إيه تاني؟!
سأل مجاهد، وهو يحاول أن يبدو متماسكًا: البنت، بتكلمك كل قد إيه يا سعدية؟
أجابت بعد تردد: يعني كل شهر، شهرين كده مرة ولما بتكلمني بتبقى محرجة عليا أكلمها على تليفون سحر.
مجاهد، وعيناه تمتلئان بالقلق: المرة الجاية لما تكلمك قولي لها على إللي حصل، وشوفي رأيها إيه
ثم مرر عينيه على وجوههم واحدًا تلو الآخر، بصوت ملؤه التحذير: وأسمعوا كلكم، أوعوا تقولوا لسليم حاجة، رشدي قال لي إنه هيسألنا ولازم نقول إن هو كان جايلي صدفة سامعين؟ أنا قلبي اتوغوش لما قالي العربية… قصده إيه؟
وضعت سعدية يدها أسفل ذقنها، وصوتها خرج مرتجفًا: يكونش هو إللي خبطك بالعربية يا مجاهد؟
يوسف بعدم تصديق: إزاي يعني يا أمي؟!
عمار، يحاول التفكير بصوت مرتفع: أيوه إزاي؟ وبعدين سليم سأل وعرف إن الحادثة كانت قضاء وقدر
سعدية بنبرة غارقة في الحيرة: أمال كلامه ده كان يقصد بيه إيه؟!
يوسف، وكأنه يربط الخيوط:يمكن يقصد إنه ممكن يخلّي بابا يحصل له حادثة تانية بس المرة دي يقصد يموته فعلًا
ساد صمت ثقيل، وكأن الغرفة كلها توقفت عن التنفس.
ثم كسره عمار بصوت مرتفع متوتر: طيب هو عايز إيه؟ هيستفاد إيه لما ماسة تتطلق من سليم؟ وليه دلوقتي بالذات بيساعد؟
سعدية بنبرة خوف حقيقي، وقد علت ضربات قلبها: أنا مش مطمنة، بخاف من الواد ده، طول عمره بتاع مشاكل، وماسة كانت دايمًا تقول عليه كده، وإحنا سمعنا عنه حاجات كتير أيام ما كنا عند منصور تشيب.
نظرت إليهم جميعًا بحسم واضح: بصوا، إحنا دلوقتي ندفن الكلام ده، نخفيه كأنه ماحصلش، ولما البنت تتكلم ساعتها نقرر نعمل إيه
أضاف مجاهد بنبرة حاسمة: هو فعلاً قال لي كده، وكان واثق إنها بتكلمنا كأنه يعرفها أكتر منّا.
سلوى لم تحتمل أكثر، كانت جالسة تستمع، وصدرها يضج بالنار قالت بصوت غاضب، وهي تكاد تختنق: رشدي ده إنسان حقير، أحقر حد ممكن تعرفوه ماسة كانت بتحكيلي عنه حاجات تقشعر، سليم ماييجيش حاجة جنبه، ماحدش يقربله، ولا يقف قدامه، لحد ما ماسة تتكلم بنفسها، وفعلاً مانقولش حاجة لسليم ده الأفضل
صمت الجميع وهما يتبادلون النظرات بتوتر
منطقة القلج، الخامسة مساءً
منطقة بسيطة، تشبه في تفاصيلها بعض قرى الريف. الحواري ضيقة، الغيطان والمباني قديمة لكنها مأهولة، تحمل علامات الزمن في شقوقها، وفي صوت الباعة المتناثرين هنا وهناك.
في أحد الشوارع الجانبية، توقفت سيارة رشدي. كانت مركونة جانب الحائط، وكأنها لا تريد لفت الأنظار. داخل السيارة، جلس رشدي صامتًا، عيناه تراقبان من خلف الزجاج، نظراته حادة قليلاً، لكنها هادئة فيها شيء يشبه التأمل، أو ربما الانتظار.
مرّت دقائق، حتى فُتح باب أحد البيوت القريبة بيت بسيط، بل أكثر من بسيط.
خرجت منه سيدة، تبدو في أواخر الخمسينات ملامحها متعبة، ملبدة بالسنين. ترتدي الأسود بالكامل، عباءة واسعة، وحجاب يلف رأسها، لا زينة، لا ملامح اصطناعية كل شيء فيها طبيعي، حقيقي، صادق.
ما إن وقعت عين رشدي عليها، حتى اتسعت ابتسامته، وخرج صوته خافتًا، فيه نغمة امتنان وانتصار: والله ماكنتش أتوقع، إنك تبقي طوق نجاتي
طوق نجاتي من سليم، ده أنا لو عيني فداكي أدهالك
ضحك ضحكة جانبية خفيفة، ثم فتح باب السيارة بهدوء، وترجل منها.
وقف بثبات، يداه في جيبيه، وعيناه لا زالتا تتابعان السيدة التي تمشي بخطوات هادئة لا تلتفت، وكأنها لا تشعر بوجوده.
في داخله، يعرف أنها هامة، مهمة أكثر من أي شخص قابله في الفترة الأخيرة، ربما تحمل الإجابة، وربما تملك الورقة الأخيرة لكن المؤكد أنها ليست مجرد امرأة عادية.
♥️________بقلمي_ليلةعادل_______♥️
الكيدز اريا الخامسة مساءً
نرى سارة تجلس إلى طاولة صغيرة مزينة بالمشروبات المثلجة والوجبات الخفيفة، بجوار صافيناز، التي أشعلت سيجارتها وأخرجت نفسًا طويلاً، بينما يركض أبناء صافيناز أمامهم في ساحة اللعب، تصحبهم المربيه التي تراقبهم.
صافيناز وهي تنفث دخانها: هو إيه يا بنتي؟ ماحدش عارف يشوفك. على طول مهاجرة؟ كل ماسأل عليك مسافرة!
ابتسمت سارة بخفة: هقعد أعمل إيه هنا؟ ماانتي عارفة أخويا أدهم في كندا، ومامي معاه دايمًا. حتى الولاد دخلتهم مدرسة هناك خلاص هقعد هنا أعمل إيه؟ بشوف شغلي وبسافر.
احتست القليل من العصير تسالت بخبث: قوليلي وصلتوا لفين في الحرب على عرش؟ بسمع إن سليم بقى الكل في الكل، المشاريع مسمعة في السوق جدًا!
صافيناز بضجر تحدثت من بين اسنانها: إحنا رجعنا للصفر تاني ولا كأننا ابتدينا!
وفجأة، جاء زين يركض ضاحكًا باتجاه صافيناز، لكنه تزحلق على بلاط الملاهي المبلل، وسقط بقوة على الأرض ارتطم رأسه بحافة خفيفة، وسال الدم بغزارة من جبينه.
صرخت سارة وصافيناز في وقت واحد، وركضتا نحوه بجنون، حملته المربيه مسرعه، وهو شبه مغمى عليه، وجهه شاحب، والدم يلطّخ تيشرته.
صافيناز شهقت وهي تتحسس رأسه: حبيبي!! إنت كويس؟!
ثم صرخت في وجه المربية: إنتي يا حيوانة!! كنتي فين؟!
لكن سارة جذبها من ذراعها وهي تقول بجدية: مش وقت الكلام ده يا صافي يلا خلينا نروح المستشفي.
صافيناز بغضب: لو حصلوا حاجه هموتك.
هرعتا معًا نحو السيارة، وسط فوضى وصراخ أطفال آخرين، بينما تحتضن صافيناز ابنها في ذعر، وسارة تمسك الهاتف وتتصل بأقرب مستشفى خاص لاستقبال الطفل فورًا.
في احد المستشفيات الخاصة السادسة مساءً
دخلت صافيناز وسارة إلى المستشفى مهرولتين، تحمل صافيناز الطفل بين ذراعيها، رأسه مائل للوراء ووجهه شاحب، بينما المربيه تتبعهم مرتبكة.
في قسم الطوارئ.
صافيناز بانفعال: فين الدكتور؟ بسرعة لو سمحتي!
الممرضة أشارت نحو الداخل: طيب دخلي بيه فورًا، والدكتورة هتشوفه حالًا. حضرتك (نظرت إلى صافيناز) تعالي تملي الاستمارة دي بسرعة.
صافيناز تنهدت بعصبية: سارة اكتبي انتي، أنا مش قادرة أكتب حاجة دلوقتي.
ربّتت سارة على يدها: هدي بالراحة، أنا هكتب.
جلست سارة على المكتب، فتحت الاستمارة، وبدأت في تدوين البيانات بعد أن أعطتها صافيناز البطاقة لكنها احتاجت لبعض المعلومات، فدخلت إلى الغرفة حيث يقف الطبيب يخيط الجرح، وسألت بصوت منخفض: بقولك إيه... فصيلة دم زين إيه؟
صافيناز، وهي واقفة بجانب السرير تمسك يد زين، ردت دون تفكير: Bنجتبف.
سارة توقفت للحظة، رمشت بعينيها هي تعرف جيدًا أن فصيلة دم صافيناز O نجتبف، وعماد Bبوزيتيف
حكت سارة في شعرها، كأنها تحاول تفتكر، ثم سألت بخبث هادئ: طب وانتي؟!
صافيناز ردت، وهي تنظر لطفلها بقلق: أنا Oنجتبف ما انتي عارفة!
تبسمت سارة بمكر: آه صح نسيت.
سكتت سارة، لكنها كانت تحلل الموقف في صمت، وجهها متماسك لكن عقلها لا يتوقف، سلمت الاستمارة لموظفة الاستقبال، ثم جلست بهدوء في الانتظار.
بعد قليل خرج الطبيب وقال بابتسامة مطمئنة: ماتقلقوش، الجرح بسيط، بس احتاج 3غرز. هيروح البيت عادي، بس خلوه يرتاح شوية النهاردة، طبيعي يبقى دايخ.
صافيناز تنهدت: ميرسي.
نظرت الى المربيه وقالت لها بتهديد: انت حسابك معايا بعدين.
خرجوا من المستشفى، وسارة قادت السيارة بنفسها كي توصل صافيناز للقصر لكن عقلها لم يكن في الطريق، كان يدور حول فصيلة الدم.
في السيارة سارة، بعد ما هبطت صافيناز وودعتها أثناء عودت سارة لبيتها:
أخرجت هاتفها، واتصلت بالدكتور مدحت، صديق قديم لها: مدحت، إزيك؟ عايزة أسألك سؤال غريب كده
مدحت: قولي
سارة لو طفل فصيلته Bسالب، ينفع يبقى أبوه B موجب وأمه O سالب؟
مدحت: لا طبعًا، مستحيل.
سارة: طب يعني مفيش احتمال يطلع عامل وراثي من الجد أو الخال عم أو أي حد من العيلة؟
مدحت: لأ خالص، فصيلة الدم بتيجي من الأب والأم مباشرة لو مختلفة تمامًا يبقى مش ابنهم.
سارة تبسمت: طب ولو كده فعلاً؟ ده معناه إيه؟
ضحك مدخت، وقال: معناه إن الطفل ده مش ابنهم، جايباه من راجل تاني، ولبسته لجوزها، بتسألي ليه؟
سارة ضحكت بخفة: لأ مفيش هحكيلك بعدين. بس متأكدة من المعلومة؟
مدحت: أيوه متأكد 100٪.
تبسمت ابتسامه سعيده جدا وهي تقول: تمام اووي. ليك عندي سهرة جامدة، يلا سي يوو!
أنهت سارة المكالمة، وضحكت بصوت عالٍ، كأنها أمسكت بصيد ثمين: والله وقعتِ يا بنت الراوي.
همست لنفسها، وهي تشغل أغنية صاخبة من كاسيت السيارة، وراحت تغني معها بحماس لكن عقلها كان في مكانٍ آخر…
هل صافيناز خانت عماد؟ ولا جابت الأطفال دول منين؟
ضحكت مرة أخرى، نظرت في المرآة الأمامية، وقالت بثقة: ده إنتي هتتفرمي؟! بس استني عليا شوية! لما اجمع مستنداتي.
فيلا سليم وماسة السابعة مساء
غرفة ماسة
نرى ماسة تجلس على الأريكة، تشاهد التلفاز، مستمتعة بمشاهدة أحد الأفلام القديمة، وترتدي قميص نوم باللون الأبيض. بعد دقائق، فتح الباب، ودخل سليم وهو يرتدي بدلة أنيقة، يبدو أنه على استعداد للخروج توقف امامها بصمت.
زفرت ماسة بإختناق وقالت: بقولك إيه، أنا النهاردة مش عايزة أتخانق ولا عايزة أعمل مشاكل، سبني في حالي، عايزة أتفرج على الفيلم بسلام.
نظر لها سليم: أنا بس جاي أقولك إني خارج، واحتمال أتأخر.
ماسة وهي تقلب وجهها: وأنا مالي؟
سليم: قلت أفرحك، لأنك بتعيشين أسعد لحظات حياتك وأنا برة.
ماسة برخامة: ميرسي.
صمت سليم لوهلة ثم قال:تيجي معايا؟
ماسة وهي تعقد بين حاجبيها بتعجب: فين؟
سليم: الحفلة.
ماسة: إنت متشيك كدة عشان الحفلة؟
سليم: أممم.. (بأمل). تيجي؟
نظرت له للحظة بصمت وهي تفكر هل تذهب أم تبقى فهي تشعر بالزهق والملل لم ترى الشارع منذ عام فعندها خسرها الكثير، تبادلوا النظرات، ثم قالت: هاجي.
نظر لها سليم متعجبًا بشدة؛ فهي لأول مرة منذ عام تقريبًا توافق على الخروج معه.
سليم بدهشه: إنتي بجد موافقة تخرجي معايا، ولا بتهزري؟
توقفت ماسة هزت راسها بإيجاب: لا، قررت أروح، معاك اي مكان لما ربنا يهديك وتقولي تعالي معايا يا سجاني، مش هحرم نفسي من الخروج، أصل أنا طلعت عبيطة، مين بيحرم نفسه من فسحة حتى لو مع سجانه؟
سليم: إنتي قولتي تفضلي السجن ولا تبقي معايا في مكان.
ماسة ببرود غيرت رأيي.
سليم بتحذير: ماسة، لو بتفكري تهربي...
توقفت ماسة أمام سليم مبتسمة بإبتسامة ساخرة، ثم قالت بمقاطعة: متقلقش، مش ههرب، انا فعلاً زهقانة أوي، فاهتمصلح عليك في الخروج.
سليم نظر داخل عينيها بتهديد صريح: المهم خليكي فاكرة، لو حاولتي، هتندمي.
نظرت له ماسة بإزدراء وقالت: ماتبطل بقى النغمة دي، زهقت، إنت عارف كويس إن إللي مخليني متحملة الحياة دي هما أهلي، لإني بحميهم من جباروتك، ولولاهم، كان زماني مشيت من زمان.
نظر سليم داخل عينيها متسائلًا بنصف ابتسامة حزن: هو إنتي ليه فاكرة إني هأذي أهلك؟ لا، إنتي مش فاكرة؟ إنتي متأكدة؟ هو أنا عمري قولتلك إني هاأذي أهلك؟
ماسة: مش لازم تقولها بلسانك، كفاية إنك قولتها بعينك وبطريقة تهديدك دي.
قاطعها سليم: المشكلة إنك بتحاسبيني على خيالك المريض إللي صدقيته وبسببه دمرتي حياتنا.
ماسة بقوة نظرت داخل عينه: إنت إللي مريض مش أنا، تنكر إنك كنت تقصد إنك هتأذي أهلي؟ غير طبعًا إنك حرمتني منهم لما ماما جت هنا، وقلت لها: 'إنسِي إن كان ليكي بنت اسمها ماسة. بدل ما أخليكي تنسيهم كلهم، بلاش ربي عيالك أحسن، بلاش اللون الأسود يبقى لونك المفضل. تنكر؟ تنكر إنك كل شوية تقولي هندمك وتقولي بلاش تخليني أعمل حاجات خيالك مايتصورهاش، وإنتي بس إللي هتندمي لو بنتسي مستحيل أنسى كلامك وتهديدك وحرماني من أهلي.
سليم نظر لها من أعلى لأسفل بوجع: إنتي غبية يا ماسة. لو كنت عايز أاذي أهلك كنت أذيتهم من زمان.
ماسة تنهد بضجر: والله، أنا المفروض أغامر بيهم؟ لونيتك صافية، ولو شوية، مش هتحرمني من أهلي سنة كاملة، بس إنت قلبك أسود، ماتحبش غير نفسك، ممكن تدوس على أي حد إلا كبريائك.
صمتت للحظة، فكما نعلم أنها منذ أشهر. وعدته أنها لن تنطق اسمه مجددًا. ثم قالت وهي تتك على كلمة: يا سجاني.
سليم تنهد بألم: مش بقولك غبية، مش فاهمة حاجة خلينا نمشي المهم إنك ماتنسيش بس، لإن المرة دي صدقيني هحققلك خيالك المريض.
ماسة رامقته من أعلى لاسفل باختناق: مش بقولك ماتعملش فيها مظلوم إنت شيطان ومريض، يلا أخرج برة، خليني ألبس.
تنهدت بتعب وهزت رأسها قالت: أوعى تفتح عليا باب أوضتي تاني من غير إذن.
نظر لها بضجر، ثم نظر لها بنظرة مرعبة، واقترب منها وقال: مافيش باب هيتقفل في وشي فاهمة بمزاجي،؟ ولا تحبي أعمل زي المرة إللي فاتت؟
نظر لها كي يذكرها بالمرة التي ضرب فيها الباب بالرصاص، وكل باب في الفيلا.
نظرت له بتحدٍ وقالت: أظن سمعت. يلا خليني ألبس.
خرج سليم، بدأت ماسة ترتدي فستانها بهدوء، تتحرك ببطء وكأنها تعيش لحظة خاصة مع نفسها. وضعت مساحيق التجميل بعناية، وكل لمسة كانت تضيف بريقًا لملامحها، وجمالها يزداد كلما أكملت استعدادها، بدت مثيرة وجذابة كما لم تكن منذ وقت طويل، فقد مر أكثر من عام ولم يرها سليم بهذه الهيئة وكأن الزمن اختار أن يجمّد اللحظة ليقدّمها له في أجمل صورة.
في الخارج، كان سليم ينتظرها في الردهة، يراقب الساعة، لكنه لم يكن مستعدًا لما سيراه.
انطلقت خطوات كعبها على الدرج كأنها نغمات موسيقى تعزف على أوتار قلبه. تسارعت أنفاسه وارتفعت حرارة جسده، فاستدار ببطء، ولم يحتج سوى لحظة واحدة ليغرق في عالمها.
هاهي أمامه، تقف ماسة بكل مفاتنها، أشبه بلوحة نُسجت بعناية لتوقظ جنونه. عيناه علقتا بها، فقد اشتاق لتلك الماسة التي عشقها بكل جوارحه،
لم تكن الفتاة التي تمردت عليه وأذقته ألمًا لا يوصف، بل المرأة التي سكنت قلبه... ورفض أن يتحرر منها، مهما ابتعد.
تسارعت نبضاته، وكل محاولاته لضبط نفسه تهاوت أمام ابتسامتها، تلك التي تراقصت بخفة على شفتيها. ابتسامة خفيفة ارتسمت على وجهه دون وعي، ففضحته.
كانت تقترب منه بخطى واثقة، نظراتها ثابتة تخترق قلبه بحدة وإغواء. تعرف جيدًا كيف تلهب أشواقه دون أن تبذل جهدًا، وكيف تربكه دون أن تلمسه وتشعل نيران الاشتياق في قلبه، لم يعد ثمة مجال للهروب... فقد تاه في حبها، واستسلم لضعفه أمامها.
ماسة توقفت أمامه: أنا جاهزة.
نظر إليها سليم بشوق يكسوه حزن ومرارة. ما أشد أن تكون له أن تكون ملكا له، ولا يملك الاقتراب منها كما يتمنى. كان قلبه ممزقًا بين ضعفٍ يجرّه إليها، وقسوةٍ يتستّر بها على حبٍ عميق لم يهدأ يومًا، ورغم كل شيء، لم يملك مقاومة تلك الرغبة التي لم يجد السكون إلا في ظلها.
أغمض عينيه للحظة، وكأنه يحاول الهروب من واقعه في خياله، رأى نفسه يحتضنها، يضمها بين ذراعيه، يهمس لها بكل الكلمات التي دفنها في قلبه طوال هذا العام، وقد عادت اللحظات الجميلة كما كانت في الماضي، لكن هذا الخيال كان عابرًا، سرعان ماختفى عندما فتح عينيه، حيث لم يعد قادرًا على الهروب من الحقيقة ليجدها واقفة أمامه.
بصوت منخفض: اتفضلي المهم ماتنسيش الوصاية
ماسة بإبتسامة ساخرة: هتفضل، تزلني بالخروج كتير؟! والله اطلع.
كان صوتها يحمل مزيجًا من التحدي واللامبالاة، لكنها كانت تعرف جيدًا تأثير كلماتها عليه.
سليم بنبرة صارمة: أنا اتكلمت يا ماسة.
تركته دون رد، وتوجهت إلى السيارة بخطوات واثقة. نظراته كانت تتبعها، يشعر كأنها تأخذ جزءًا من روحه معها مع كل خطوة.
في الخارج، كان السائق عشري ينتظر بجوار السيارة. نظر إليها باستغراب حين رآها، لكنه تلقى إشارة من سليم ليهدأ.صعدت ماسة إلى السيارة بخفة، فيما بقي سليم واقفًا للحظة، ينظر إلى السيارة وهي تبتعد.
أقنع نفسه أن الأمر لا يتعدّى خروجا عادياً، لكنها، كعادتها، تعرف كيف تترك أثرها في قلبه، حتى في أبسط اللحظات.
في السيارة، ساد صمت ثقيل، صمتٌ ممتلئ بالكلمات غير المنطوقة، والمشاعر المدفونة. قربها منه كان يبعث الطمأنينة، أنفاسها الحارة تتسلل إليه، وكأن الزمن توقف احترامًا لهذه اللحظة… لم تكن يومًا أقرب.
فتحت ماسة النافذة، ونظرت إلى الشارع بعينين حرتين، لأول مرة منذ عام. لا أسوار، لا حُرّاس… فقط مدينة تنبض بالحياة. تنفست بعمق، كأنها تستنشق الحرية من جديد.
ابتسمت، والهواء يعبث بخصلات شعرها، فتبعثرت رائحته في المكان، وارتجف قلبه. كم اشتاق لهذا العطر فابتسم، واضعًا يده على قلبه الذي ما زال أسير حبها.
تحدثت ماسة بنبرة مليئة بالحزن الممزوج بالحنين: أنا بقال لي كتير اوي ماشفتش الشارع. لأول مرة أشوفه، لأول مرة أشم هواء نقي، غير هواء الفيلا إللي بيخنقني، حاسة إني لأول مرة أتنفس بحرية. لأول مرة عيني تشوف حاجة غير أسوار سجنك، ووشوش غير وشوش سجانك، أقصد خنزيرك الأوفياء، كأني لأول مرة أدوق طعم الحياة،
(بمرارة تنهدت) اللحظة دي فكرتني، بأول يوم خرجت فيها من باب سراي منصور، نفس الإحساس، نفس السعادة، نفس الهوى، وعيني إللي كانت شبه عمياء، وأخيرا شفات، نفسي إللي كان مكتوم وأخيراً قدرت أخده.
ثم أضافت بقوة: مش هسمح لنفسي أتحرم من الجمال ده تاني، حتى لو الثمن هو إني أتحمل، وجودك جنبي بس، هأعيش وكأني مش شايفاك وأستمتع بكل لحظة.
كان سليم يصغي إلى كلماتها، وكل حرف منها يخترق قلبه كطعنة، لكنها رغم قسوتها، كانت تبعث فيه سكينة غريبة. وجودها قربه أنعش روحه، وصوتها أعاد له أحلامًا دفنها منذ زمن.
حاول التماسك، لكن قلبه كان يتشبث بكل لحظة معها، رغم الألم. فهذا القرب، وإن كان مؤلمًا، هو المتنفّس الوحيد له، اللحظة الوحيدة التي يسرقها من حرمانه ليشعر بها.
كان يقول في نفسه: "ما أجمل سمّكِ… يؤلمني، نعم، لكنه منكِ، ولأجلكِ… فحتى الألم حين يأتي من يديكِ، يصبح حلو المذاق، لا يُقاوَم."
ماسة وهي تنظر من النافذة: بس أنا مستغربة.
سليم نظر لها بنبرة مكتومة: مستغربة إيه؟!
ماسة متعجبة: يعني أنك قولتلي تعالى نخرج حاسة إنك عامل فيا مقلب أو فيه حاجة أصل إنت ماتعملش كدة إلا وفي حاجة.
ارتسمت على شفتي سليم نصف إبتسامة حزينه قال بتوضيح؛:ولا مقلب ولا حاجة أنا حاولت كتير وإنتي بترفضي.
ماسة: بس ده كان من شهور كتير، بطلت أعدها وماكناش وصلنا لكدة.
سليم دون أن ينظر إليها: مش لازم كل حاجة ليها تفسير، اعتبريها مجرد ليلة عادية.
ماسة بنبرة ساخرة: ليلة عادية؟ معاك؟ ده شيء ماحصلش من سنين.
نظر إليها للحظة، ثم أعاد نظره للأمام.
سليم بنبرة حالمه: يمكن قررت أغير شوي. أعمل إللي إنتي طول الوقت بتتهميني إني مش عارف أعمله.
ماسة وهي تلتفت له بتحدٍ: زي إيه؟
سليم بصوت منخفض: أكون طبيعي.
ماسة معلقه: بس إنت مش طبيعي، ولا هتبقى طبيعي، إنت دايمًا شايف الدنيا معركة، وأنا جزء من الحرب.
سليم بنظرة لها: وإنتي مش شايفة إنك كنتي دايمًا بتخليني أحارب؟ والسبب في كل الحروب دي.
ألتقت نظراتهما للحظة، وكان في عينيهما خليط من الغضب والحنين.
ماسة بنبرة هادئة ممزوجة بمرارة: مظبوط حاربت عشان تحافظ عليا عشان تملكني وتحمينى جو حصنك ونسيت تحميني من نفسك طلعت أكبر عدو وتهديد ليا.
هز راسه بإيجاب بصمت موجع بدمعه حارة تجمعت داخل عينه لم تسقط على خده
صمت كلاهما، وكأنهما وصلا إلى نقطة يصعب تخطيها. السيارة استمرت في السير، بينما كان كل منهما غارقًا في أفكاره.
💞_______بقلمي_ليلةعادل________💞
في إحدى البواخر النيلية الفاخرة، التاسعه مساءً
وصلت ماسة وسليم إلى إحدى البواخر النيلية الكبيرة، كانت الموسيقى تتصاعد منها، تعج بالحياة والحركة، المعازيم يتوافدون، الأضواء تلمع، والمصورون يتنقلون بين الوجوه.
وما إن اقتربا من المدخل، حتى علقت ماسة يدها بذراع سليم من تلقاء نفسها؟! كان ذلك غريبًا على سليم، لكنه أحب هذا الشعور كثيرًا ارتسمت ابتسامة على شفتيه سعيدة.
دخلوا إلى القاعة الرئيسية، وبدأت الكاميرات تلتقط الصور، وتسابق الصحفيون والمراسلون ليحصلوا على كلمة من سليم.
اقتربت ماسة منه، وهمست في أذنه: هي دي حفلة إيه؟
ابتسم وهو يرد بهدوء: حفلة إعلان ترشحي لانتخابات مجلس الشعب.
نظرت له بدهشة طفولية، وقالت بخفة: أوووه لا لا، مبروك يا سجنجن! هتبقى مرعب وسلطة أكتر من كده.
سليم همس في أذنها بمزاح محبب: تفتكري إني محتاج؟
نظرت إليه ماسة بعينيها وقالت بمشاغبة:بصراحة إنت مرعب من غير أي شيء.
غمزت له، ارتفعت ضحكاتهما برقة، وهما ينظران إلى بعضهما، كأنهما يبحثان في وجهيهما عن السعادة التي اختفت، والحياة التي انتهت وسط ظلال الأوجاع، ظلّا هكذا، حتى قاطعهما أحد المذيعين.
أحد المذيعين قاطعهم: ليه قررت تترشح متأخر كدة يا سليم بيه؟
تنهد سليم واعتدل من توقفه بإبتسامة قال بكبرياء:
لإني شايف إن ده الوقت المناسب.
مذيعة أخرى وجهت سؤالها لماسة: من زمان، ماشفناش حضرتك مع سليم بيه هل، ده السبب؟
ماسة بإبتسامة خفيفة: أنا مابحبش السوشيال ميديا ولا الظهور.
ثم نظرت لسليم بطرف عينها، وقالت بنبرة لطيفة:
يلا يا حبيبي.
كانت كلمة "حبيبي" كالصاعقة، التقطتها أذنه، لكن عقله لم يستوعبها على الفور. مرّت عليه كدهشة دافئة، إذ لم يسمع تلك الكلمة منذ زمن، ورغم ثبات انفعاله كان قلبه يرقص فرحًا.
هز سليم رأسه بإبتسامه لا تفارق وجهه وعينه عليها، قال للمراسلين: أي حاجة عايزين تعرفوها، ممكن تاخدوها من مديرة أعمالي بعد إذنكم.
أبعدهم الحراس ومكي طبعا وسحب ماسة من يدها وتحرك للداخل.
وأثناء ذلك نظر لها بطرف عينه: ممثلة هايلة!
ماسة ضاحكة: تلميذتك!
ثم ظهر ياسين، وبجواره هبة وفريدة، وأصدقاء سليم، صافيناز، وبعض الوجوه المعروفة ولم يكن من العائلة أحد غيرهم.
اقتربت فريدة بدهشة: إيه ده! ماسة؟ بقالنا سنة ماشفناكيش!
ماسة بإبتسامة رقيقة: إزيك يا فريدة؟ عاملة إيه؟
فريدة: بخير ياحبيبتي.
اقتربت صافيناز، وضحكت بسخط: عاش من شافك يا ماسة!
نظرت لها ماسة بعينين ضيقتين، وأمالت رأسها قليلًا، وردت بنبرة لازعه: آهو عاش وشافني، ودايمًا هيشوفني.
تقدمت هبة بحماس: ميسو! وحشتيني جدًا!
لكن ما إن اقتربت لتعانقها، حتى ابتعدت ماسة قليلًا،
وسلمت عليها بطرف يدها، كأنها تحولت لواحدة من آل الراوي: آه، أهلا إزيك يا هبة.
هبة نظرت لها بدهشة: إنتي بتكلميني كده ليه؟!
ماسة رفعت عينيها متعجبة بنبرة: بكلمك إزاي؟
هبة بتوتر: مش عارفة حاسة إن فيه حاجة!
تبسمت ماسة: لا، مافيش حاجة دي تهيؤات.
رفعت عينيها نحو سليم، وقالت له: ماتيجي نقف عند النيل شوية؟ ولا حابب تكمل مع إخواتك؟
سليم وضع يده على ظهرها وقال بإبتسامة: يلا بينا.
وبالفعل تحركا و وقفا عند السور المطل على النيل
وقفت ماسة، وأخذت نفسًا عميقًا، شعرها يتطاير من حولها، والهواء ينعش قلبها المرهق.
قالت بصوت منخفض وهي تنظر أمامها: عارف إحساس الأعمى لما بيشوف لأول مرة؟ ده إحساسي دلوقتي.
نظر لها سليم بإستنكار وهو يسند يديه على السور وينظر أمامه: إنتِ إللي كنتِ عاملة في نفسك كدة ! أنا لساني تعب من كتر مابيتحايل عليكِ لحد مزهقت.
ماسة عضت شفتها، وقالت بنوع من الندم: أنا كنت غبية زي ماقولتلك وإحنا في البيت، بس مش هبقى غبية تاني، أي لحظة هتقول لي فيها نخرج، أنا هخرج، أنا إللي خسرت، إنت قلت لي هاتخسري، وأنا فعلًا خسرت، بس كسبت أهم حاجة: حماية حتى لو على حساب حياتي.
سكتت لحظة، ثم ابتسمت عدلت وقفتها في زاويته: بقولك إيه أنا مش عايزة أتكلم في أي حاجة وحشة، عايزة نتكلم في حاجات حلوة، بالله عليك، خلينا ناخد ساعتين أجازة من النكد! نضحك، وننبسط، حتى لو بالكذب.
نظرت له، مركّزة النظر في وجهه: عارف؟ أنا قرأت في كتاب إنك ممكن تقنع عقلك الباطن بحدث مش حقيقي، بس لو كررته كتير، عقلك هيصدق، المهم إنك تبقى عايز ده.
سليم، بنبرة حزينة أقرب للعتاب: زي ما إنتِ بتقولي، أنا بكرهك، بس إنتِ بتحبيني في الحقيقة.
ضحكت ماسة: إحنا اتفقنا على إيه؟
تبسّم سليم، وأخرج أنفاسًا متعبة،ثم قال بهدوء: ماشي بس أنا هعمل كده من قلبي، إنتِ بقى عايزة تعملي تمثيل؟ ولا مجرد فسحة؟ أنا قابلها.
هنا مدت ماسة يدها نحوه، وضربت كفها بكفه قائلة:
طب تعال ناخد لنا رقصة ككراميل وقطعة سكر.
هز سليم رأسه بإيجاب وصمت، أمسكت بيده وسحبته كالمغناطيس وقفا في المنتصف وبدءا بالرقص.
كانت تلك اللحظة من أصدق اللحظات التي جمعتهما منذ زمن؛ فلأول مرة يقفان هكذا، قريبين أكثر من أي وقتٍ مضى، يرقصان معًا، يضحكان وجهًا لوجه، وتتقابل نظراتهما دون حواجز أو أقنعة.
كل شيء في سليم كان يصرخ بالشوق، حتى تلك الدمعة الصغيرة التي تجمعت في عينيه، تقول كل مايشعر به بداخله.
وماسة أيضًا، كان قلبها يضج بالحنين. ترتسم على وجهها ابتسامة صادقة، نظراتها لم تكن تمثيلًا، بل شوقًا نقيًّا خالصًا، وكأنها تتمنى أن تعيش معه هذه اللحظة فقط، لحظة تُشبه الماضي، تجمع بين ماسة وسليم، أو بين قطعة السكر والكراميل.
عيونهما تعقت ببعضها بثبات، غرقا ببعضهما كأن الزمن توقف في سواد عيونهما، وكأن الرمش خيانة لما يشعران به، كل من حولهما اختفى، كل شيء تلاشى، ولم يتبق سوى طوفان من المشاعر يندفع من قلب ماسة بلا إذن.
لم تعد قادرة على الادعاء أكثر، رغم كل الوجع، لم تعرف يومًا كيف تكرهه، لكنها تعلمت كيف توهم نفسها بذلك، أحيانًا تصدق، وأحيانًا لا، لكن هذه الثواني تحديدًا، فضحتها أمام نفسها قبل أن تفضحها أمامه.
وفجأة، لم تشعر ماسة إلا وهي تقترب منه، تريح رأسها على كتفه، تضمّه بشوق أذاب فؤادها وهي تتمايل بين ذراعيه بينما سليم تشبث بها أكثر.
أخذا يرقصان، لا يعلمان كم مر من الوقت، دقائق؟ ساعات؟ أكثر من أغنية؟ كل مايدركانه أنهما يعيشان لحظة طال اشتياقهما لها حد الجنون.
ولم يعودا إلى وعيهما إلا على صوت ياسين وهو يقترب مازحا: إيه يا شباب؟ ماتعبتوش من الرقص؟ هتفضلوا ترقصوا للسنة الجاية ولا إيه؟
تنهد سليم وضحك قليلًا، ابتعدا عن بعضهما ببطي، وفي اللحظة نفسها، تابع ياسين: يلا بقى، عشان الكلمة بتاعتك لخطابك الانتخابي.
سليم سأل: هو الباشا مجاش ليه؟
ياسين: الباشا في أبو ظبي عشان مناقصة البترول الجديدة.
أومأ سليم برأسه بتذكر، وكأن كلمات ياسين أيقظته من غفوة لحظة نادرة، لحظة أنسته العالم بأسره.
ابتسم بخفة وقال بصوت منخفض، كمن يعترف لنفسه قبل غيره:آه مظبوط. نسيت.
ثم ألتفت إلى ماسة وقال بابتسامة هادئة: عشقي، خمس دقايق ورجعلك.
أومأت ماسة برأسها بصمت، توقفت عند الطاولة، لم تتحدث مع هبة، بل بدأت تتبادل أطراف الحديث مع فريدة، وياسين، وبعض الأصدقاء.
أما سليم، فكان يراقبها من بعيد، لم يفهم ما بها
هل أصبحت أكثر هدوءًا؟ أم نضجت فجأة؟ أم أن هناك أمرا آخر؟
لكنه كان سعيدًا. لم يشأ أن يسأل نفسه، بل فقط أن يهرب من كل الأسئلة، ويستمتع بما يحدث.
وبعد أن أنهى كلمته، عاد وإنضم إليهم.
بدأوا يتبادلون الأحاديث والضحكات، وكانت ماسة تتعامل معه بتودد غريب، كأنها عادت فجأة إلى ماسة القديمة تلك الحبيبة، قطعة السكر.
أما سليم، فبدأ يتجاوب معها بشكل طبيعي؛ ضحكات متبادلة، نظرات دافئة، وجو خفيف لم يكن يريد له أن ينتهي.
بينما ماسة تحاول أن تسرق لحظات من حياة قديمة… حياة فقدتها بيدها. سجنت نفسها داخل خوفها وعنادها، فدمّرت ذاتها وقلبه معها.
ربما ظلمت نفسها، وربما كانت محقة، لكن الأكيد أن كليهما كان موجوعًا… وكانا يستحقان فرصة.
وانتهت الحفلة، رغم أن قلبيهما لم يرغبا في نهايتها.
السيارة سليم الثانية عشر صباحاً
جلست ماسة تحدق من النافذة، تتابع الطريق وهي صامتة، كأنها تودع المكان لم تكن تريد الرحيل.
لاحظ سليم نظراتها، نظر لها من طرف عينه، ثم أبتسم إبتسامة خفيفة وقال بهدوء: تشربي حلبسة؟
نظرت له بسرعة، كأنها تفاجأت بالسؤال ردت بحماس وهي تهز راسها بموافقة: أشرب حلبسة؟!
ابتسم، وأشار للسائق أن يتوقف عند عربة حمص الشام على الطريق.
هبطا من السيارة، ومشيا معًا على الكورنيش، الهواء النيلي يعبث بشعرها، وصوت ضحكاتها يتلألأ كالأنغام
كانت ماسة تضحك، كأنها فتاة في الخامسة عشرة خفيفة القلب، كأن الحياة لم تمسسها قط، ضحكتها كانت حقيقية، عذبة، خالية من الحذر والتردد.
كان سليم ينظر لها بصمت، يراقب ضحكتها كأنه يراها لأول مرة أو ربما كان يخشى أن تكون الأخيرة.
عيناه لم تتركها، وقلبه يزداد تعلقًا بلحظة حلم، يخاف أن يصحو منها.
وبعد دقائق من المشي، توقفت ماسة، ونظرت للنيل، ثم قالت بصوت شبه هامس: إنت عارف بقالنا كام سنة مامشيناش على الكورنيش من غير حراس، ومن غير حد؟
سليم بهدوء: من قبل الحادثة.
هزه ماسة راسها بإيجاب وهي تمد وجهها بنوع من الحزن: مظبوط، عارف؟ أنا اكتشفت إن الحادثة دي كانت بداية دمار حياتنا..
صمتت للحظة تابعت: بس مش هي السبب لوحدها، بعدها كل حاجة حصلت.
لفت نظرها مكان صغير في الأسفل، على حافة النيل، كأنها بقعة خافية عن العالم.
أشارت إليه بسرعة، بعينين لامعتين، وسألت بحماس طفولي: ينفع ننزل نقعد هناك؟
نظر لها سليم بإبتسامة،وهو يهز راسه بالموافقة.
هبطا للأسفل، لم يكن هناك كراسي، فقط الأرض والنيل أمامهما، جلست ماسة على الأرض دون تفكير، رغم فستانها، ضحك سليم، ثم جلس بجوارها.
أغمضت ماسة عينيها، وأخذت نفسًا عميقًا.
ماسة بإبتسامة: فين الحمص؟
أشار سليم بيده، ثم نادى على أحد الحراس، طلب منه كوبين من الحمص، ثم عاد للصمت.
ماسة لم تكن تريد الحديث، فقط أن تعيش اللحظة وسليم أيضًا لم يفتح موضوعًا،خائف أن الكلمات تفسد اللحظة وبعد وقت.
وقعت عينا ماسة على رجل وامرأة مسنين، يبدوان في الثمانينات، يجلسان سويًا يشربان الحمص،وكانا يبدوان جميلين ورومانسيين ابتسمت، وامتلأت عيناها بالدموع.
قالت وهي تنظر لهما:فاكر؟ لما كنا في سويسرا تقريبًا؟ووعدنا بعض إننا هنفضل كده زي الاتنين دول؟
نظر سليم للزوجين ثم رد بصوت خافت بنبرة يخنقها الوجع:
الحياة ساعات بتجبرك تعيشي حاجات ماكنتش ناوياها، أنا ما اخترتش كل ده يحصل بس حاولت أصلح، إنتِ إللي كنتِ عنيدة، وأنا كمان غلطت،
ماعرفتش أحتوي عندك، كنا مشوهين كنا بنجرح بعض وإحنا مش واخدين بالنا لحد ما خسرنا حاجة وخسرنا نفسنا.
صمت للحظة ثم سألها بنبرة مكسورة: إنتِ مش زعلانة؟
أجابت ماسة، بعين دامعة: والله زعلانة، أوعى تفتكر إني مبسوطة، بأن الحياة إللي بقينا فيها كلها حزن ووجع وصمت، كنت بتمنى حياتنا تبقى أحسن من كده.
ثم أكملت بلهجة خفيفة: بس بقولك إيه! إحنا اتفقنا، وحياة حور ماتفتحش أي كلام يوجع، ولا تسأل انبسط باللحظة.
سليم فورًا بنبرة موجوعة: حاضر، هعملك إللي إنتِ عايزاه، ياماسة.
صمتا قليلًا، ثم طلبت ماسة منه يشغل أغنية تحبها،
شغل لها واحدة من أغاني حكيم، ضحكت احتست الحمص، وكانت اللحظة بسيطة لكنها دافئة.
سألته فجأة: قولي لسه بطنك بتوجعك؟! لسة تعبان؟
هز رأسه: لا، بقيت أحسن كتير، الدكتور إللي روحت له الفترة الأخيرة إداني دوا كويس.
ماسة بسؤال فضولي: طب هبقى أروح معاك؟ ده اسمه إيه؟ مصطفى؟
اومأ سليم متساءل بقلق: آه، لسه بتتعبي لما تاكلي حاجات تقيلة؟
أومأت: آه.
سليم بإبتسامة دافئة: خلاص، المرة الجاية نروح له سوا، أنا وإنتي.
ابتسمت ثم قالت بنعاس: طب يلا نمشي، أنا تعبت، وعايزة أنام.
سليم بهدوء: يلا.
فيلا سليم وماسة، الواحدة صباحًا
هبط سليم وماسة من السيارة بصمت هادئ.
رفعت ماسة نظرها إلى السماء، مدت كفها وكأنها تلمس الهواء، همست بصوت ناعم يعلوه تعب خفيف: شكلها هتمطر، ريحتها بتندع.
ابتسم سليم وهو ينظر لها من طرف عينه، قال بنبرة محببة: تحبي نقعد شوية في الجنينة؟ أنا عارف إنك بتحبي المطر.
هزّت ماسة رأسها بهدوء، وضغطت بيديها على جانب راسها بتعب: لأ، محتاجة أنام.
تحركت ماسة إلى الداخل بخطوات بطيئة، تبعها سليم بتنهيدة ثقيلة، دخل المصعد وصعدا معًا إلى الطابق الثاني، حتى غرفة ماسة.
غرفة ماسة.
ما إن دخلت الغرفة، قالت ماسة بنبرة مرهقة: أنا مش عارفة ليه حاسة إني مرهقة كدة.
نظر لها سليم بتفحص سريع، قال وهو يفك أزرار كم قميصه: شكلك سهرتي كتير إمبارح.
ردت عليه وهي تتجه إلى غرفة الملابس، صوتها متكاسل: أيوه، فعلاً نمت الساعة ٧ الصبح، كنت بتفرج على أفلام طول الليل ووفية صحتني الساعة 12:00 عشان تظبط الأوضة رغاية رغي اقسم بالله ده أنا كنت جنبها ملاك وأنا صغيرة.
ضحك سليم وهو يخلع ساعته وهو يقول: لو عايزاني أمشيها أمشيها.
ماسة وهي في الداخل: لا حرام خليها مسلية.
بدأ سليم يخلع جاكيت البدلة برتابة، ألقاه فوق الفراش، ثم فك الببيونة من عنقه ببطء، فتح أول أزرار قميصه.
بعد دقائق، خرجت ماسة من غرفة الملابس، ترتدي قميص النوم الأبيض الذي ارتدته في اول حلقة، ويغطيه روب ناعم بلون وردي باهت كانت تتثاءب وهي تسير بخطوات متثاقلة، كأن النوم يسحبها من بين يديه.
ماسة بدهشة وكسل: إنت لسه هنا؟!
سليم بثبات وهو متوقفا مكانه: أه هنا المفروض أكون فين؟!
ماسة وهي تشير إلى الباب برقة: يعني مش هترجع أوضتك؟
سليم بنفس النبرة الهادئة: لأ، هنام هنا النهاردة.
نظرت إليه بإستغراب لكنها لم تعلق وهي تسير ناحية المرآة، بدأت تزيل مكياجها بحركات ناعسة.
اقترب سليم منها بهدوء، وأحاط خصرها بذراعه من الخلف، بينما ارتفعت يده الأخرى لتستقر فوق صدرها غاص رأسه في عنقها، يستنشق عبيرها بشوق، وأنفاسه الدافئة تداعب بشرتها الرقيقة فور أن فعل ذلك، ارتجفت ماسة من المفاجأة، اجتاحت جسدها قشعريرة حادة كأن قطعة جليد ذابت في أحشائها، ودق قلبها بقوة لا تحتمل.
ضغطت على يده بلطف وهي تهمس بنبرة مهتزة:
سليم هو فيه إيه؟
وضع سليم قبلات خفيفة متقطعة على حنايا رقبتها فيما كانت أصابع يده تتحرك برقة فوق امعائها، يهمس بشوق موجوع:
وحشتيني... وحشتيني أوي أوي يا ماسة.
رفع يديه إلى وجهها، ووضع كفه على خدها، قربها منه برفق، طبع قبلة على شفتيها، قبلة امتزج فيها الحنين بالألم، والشوق الذي ظلّ ينهشه بصمت، أخذ يلتهم شفتيها، في اللحظات الأولى كانت ماسة غائبة عن الوعي تقريباً مع تلك القبلة الحارة وبدأت أن تتبادلها معه لكن دقائق وبدأت تستعيد وعيها بدات، تتراجع بلطف، وتضع يدها على صدره لتدفعه برقة.
ماسة صدرها يعلو ويهبط بشده: سليم، مش هينفع كده أرجوك.
لكن سليم، الذي لم يلمسها منذ أكثر من عام، لم يعد قادرًا على كبح اشتياق مزقه بصمت، فكان آخر لقاء جمع بينهما قبل حادثة والدها بيوم واحد، وبعدها أنقلب كل شيء، وسقطت حياتهما في هاوية من الألم والبرود والانفصال الصامت
الآن، لم يكن يسمع سوى صوت شوقه، الذي اجتاحه كعاصفة، وكأن كل لحظة حرِم فيها من دفئها انفجرت دفعة واحدة، تحرق صبره، وتغرقه في لهفة موجعة.
في الماضي لم يكن بينهما فرقة، كانت تلك اللحظات هي حياتهما، يصنعانها عن قصد، ويذوبان فيها عشقًا لم يكن حب جسد، بل عشق أرواح اتحاد لا يدرك معناه سواهما، يهربان إليه من ضجيج العالم، ويتنفسانه كما يتنفسان الحياة.
لم يستطع التوقف فما يعيشه الآن لم يكن رغبة جسد، بل شوقًا جارفًا؛ اشتياق لصوتها، لعطرها، لتفاصيلها كلها لذاك الحضن الذي طالما آواه من كل شيء.
اقترب منها من جديد، وفي عينيه شوق نازف لا يهدأ، ضمها إلى صدره بقوة، وكأنها وطن ضاع منه طويلًا، ثم دفعها بلطف نحو الحائط، حاصرها بين ذراعيه، واقترب حتى لامست أنفاسه وجهها.
قبل شفتيها قبلة مشتعلة، قبلة رجل يائس من الفقد، يحاول أن يذيب بها جليد الغربة الذي تراكم بينهما كجدارٍ عنيد.
كانت يداه تلامسانها برعشة خفيفة، كأنهما تبحثان عن ذاكرة منسية. أما ماسة، فترددت قلبها لم يكن باردًا، بل خائفًا، ممزقًا.
دفعته قليلًا من بطنه، وهمست باسمه:سليم
لكنه لم يبتعد، بل ظل يلتهم شفتيها بعشق يشتعل داخله، شوقٌ أحرق روحه، تململت بين ذراعيه ثم استسلمت، للحظة، للحضن، للدفء الذي طالما اشتاقت إليه.
همس سليم بصوت مكسور بالشوق، وعيناه تائهتان فيها: وحشتيني يا ماسة... وحشتيني أوي.
قبلته الأولى كانت ناعمة عاشقه لكنها سرعان ماتحولت إلى قبلات مشتعلة، تائهة على وجهها، عنقها، شفتيها وكأنه يستعيد شيئًا ضاع منه، أو يسرق لحظة من العمر قبل أن تهرب.
لكن عقل ماسة ظل يصرخ في الخلفية، خوف غامض كان جاثمًا على صدرها، لا تفسير له، فقط ثقل داخلي لا يزول، رغم دفء حضنه، ورعشة قلبها، عادت تقاوم تدفعه برفق، تحاول أن تشرح له بصمتها أن الوقت لم يحن بعد.
وفجأة، استطاعت أن تبتعد، أنفاسها متقطعة، وصدرها يعلو ويهبط بارتباك، وجهها شاحب. رفعت يدها لتعدل طرف الروب، وهمست بنبرة مهزوزة:
على فكرة، هو مش عشان خرجنا ورقصنا يبقى معناه إننا رجعنا لبعض، إحنا بس، كنا بنحاول نعيش لحظة هدوء، بس مش أكتر من كده.
تنهد سليم، واقترب منها من جديد، أحاط خصرها بذراعيه، وهمس: بس بطلي بقى، إنتِ بتحبيني؟
ثم قبّلها بجنون، لكنها ابتعدت ثانية، تنظر إليه وعيناها ترتجفان، وأجابت بنبرة صادقة مرتبكة: طب أصبر عليا أنا حاسة إن بعد إللي حصل النهاردة، في حاجة حلوة جاية، حاسة إني قربت أرجع بس محتاجة وقت، محتاجة أستوعب، أنا هجيلك بقلبي، وبروحي، مش بس بجسمي أوعدك، بس أصبر عليا.
اقترب منها سليم من جديد، أنفاسه متلاحقة، وعيناه لا تفارقان وجهها، لم يكن يحمل رغبة جسد بل رغبة شوق، قلبٌ تائه لا يحتمل المزيد من الانتظار ، وكأنه يقولها: أنا مش قادر أستنى أكتر.
مد ذراعه وسحبها عليها من خصرها حتى التصقت به، وجهه لامس وجهها، وهمس بصوت مشتاق:
بطلي عناد بالله عليكي كفاية بعد، أنا استنيت كتير، كتير أوي، مافيش صبر تاني، إنتِ إللي خلاص، كفاية، سيبي نفسك يا ماسة إنتي عايزاني زي ما أنا عايزك مشتاقة لي زي ما أنا مشتاقلك بتحبيني زي ما أنا بحبك وبموت فيكي بطلي عند،
ضمّ وجهها بين كفيه، نظر إلى عينيها بشوق لا يرمش، وهمس: بحبك بحبك اوي.
ثم قبّلها من جديد، ولم تقاومه لكنها لم تبادله شيئًا، لم تكن باردة، لكنها غائبة، جسد بلا روح، دفء بلا حضور.
أعادها إلى الفراش، قادها برفق، لم تبد أي اعتراض، تركت نفسها بين يديه، وكأنها تستسلم لشيء لا تصدقه.
استلقت على ظهرها، فستلقى فوقها، غارقًا في قبلاته على مختلف جسدها وشفتيها، كأنه يحاول أن يسقي قلبه اليابس من نبعها، أن يملأ الفراغ بكلمات الشوق، بهمساته، بكل ماتبقى له منها لكنها لم تكن هنا
لم تستجب، لم تتفاعل رغم أن الشوق يسكنها، والحنين ينهشها، إلا أن داخلها شيء أقوى خوف لم يذب، وجع لم يلتئم، وخذلان مازال يصرخ في قلبها.
ومع مرور اللحظات، بدأ سليم يشعر بتلك الحقيقة المؤلمة. ذلك الفراغ تلك البرودة.
ابتعد سليم عنها قليلًا، أنفاسه ساخنة ونبرته حادة، قال بضجر خافت: هو إيه البرود ده؟
لم تجبه ماسة، فقط نظرت إليه، نظرة مختلطة بين الاعتذار والشوق، بعين دامعة وكلمة علقت في حلقها ولم تجد طريقها للخروج.
وفي لحظة هشاشة مفاجئة، لحظة اجتمعت فيها الخيبة مع الغضب والانهيار رفع سليم يده، وصفعها على وجهها، وفي تلك اللحظة توقف الزمن.
الصفعة لم تكن مجرد يد امتدت إلى وجهها، بل كانت كسكين قطع كل خيط رفيع ما يزال يربطها به.
تجمد كل شيء. الهواء انحبس في صدرها، نظراتها اتسعت، يدها ارتفعت لا إراديًا تمسك خدها المحترق من أثر الصفعة.
ظلت ماسة تحدق فيه، عيناها تتسعان في صدمة قاتلة، يدها لا تزال على خدها، وشفاها تتحرك دون صوت ثم خرج منها أنين مبحوح:
ماسة بنبرة مكتومة وصوت يخرج بصعوبة من الصدمة: إنت بتضربني يا سليم؟
وقف أمامها، ملامحه صلبة كالصخر، عيناه مظلمتان كليل، وصوته خرج مثقلاً بالغضب: أيوه، بضربك! لاني زهقت! زهقت من كل حاجة! سنة كاملة وانا بلملم نفسي عشانك وصابر! ببلع برودك، ببلع سكوتك وبحاول، بس واضح إني كنت بغلط، خلاص، خلاص!
انهمرت دموعها في صمت، نظرتها كانت مكسورة، لكن صوتها أرتفع فجأة، تكسوه مرارة وانكسار:
أنا قلتلك أصبر عليا، قلتلك مستنية أستوعب، بس إنت مش عايز تصبر! عايز تبوظ كل حاجة حلوة بينا، ليه عايز تشوف صورتك في عيني متشوهة أكتر من كده ليه بتتفنن تبقى وحش؟!
سليم بإنفجار بارد، كأن كل ما بداخله تحول إلى جليد مكسور:
تفتكري لسه يفرق معايا أكون شكلي إيه في عنيكي؟
صورة حلوة؟ صورة بشعة، أنا بقيت مش فارقلي حاجة أصلاً!
نظرت إليه بعين دامعة، صوتها كان مؤلمًا أكثر من الضربة نفسها:
وأنا قلتلك إني مش هامنعك، أنا مش رفضاك يا سليم,، قولتلك ده حقك، ولازم تاخده، إنت إللي رافض، ومحكم دماغك في شكل معين، شكل أنا مش قادرة أديهولك دلوقتي.
قاطعها بعنف، عينيه تشتعل: ليه؟! حد قالك إني كلب؟ ترميلي حتة عضم وأسكت؟!
أجابت وسط شهقاتها وبكاء مختنق جلست على ركبتها وضعت كفها على خده:
أنا ماقلتش كده! أنا مستحيل أقول عليك كلب يا سليم،! بقولك أصبر بس عليا إحنا قربنا ليه مش عايز تصبر مالك.
اقترب منها بخطوات متوترة، نظراته مضطربة، أنفاسه تخرج ثقيلة:
مش كلب صح، بس مريض صح؟ علشان كدة لسه رافضاني.
هزّت رأسها بيأس، تحاول أن تستنجد ببقايا عقله:
لا ... حاول تسمعني أفهمني يا سليم، إنت لما بتقربلي، بخاف، وبشوف السكينة إللي إنت مخبيها ورا ضهرك مش ليا لأهلي..
تبسمت بأمل أمسكت يده:
بس النهاردة، والله كنت حاسة إني أخيرًا اتحررت شوية، وكنت مشتقالك،أصبر عليا شوية كمان، مش كتير، شوية بس، ممكن؟ وتعالى نام جنبي النهاردة نبتدي من النهاردة نحاول.
لكنه لم يعد يسمع، كأن صوته الداخلي طغى على كل شيء، اقترب منها وهو يصرخ، صوته غارق في قاع من العجز والغضب:
شويه؟! بقولك زهقت! زهقت من محاولاتي إني أبقى بني آدم طبيعي! من كل لحظة استوعبتك فيها! أنا بقى هوريكي المريض إللي مش طبيعي بيعمل إيه!
بلا تفكير، نزع الحزام من خصره ببطئ، ووجهه صار مسخًا مشوهًا من الألم والغضب ينظر لها بعين غامت بسواد الخطر لا ترمش
تجمدت ماسة في مكانها، ثم ارتدت إلى الخلف بسرعة، جلست على طرف الفراش تحاول أن تبتعد بنظرها، بجسدها، بروحها لكنها لم تستطع الهرب منه.
بنبرة مكسورة، خرج صوتها بصعوبة يتوسل: سليم، سليم لا، بلاش، ماتتجننش، إنت ناوي تعمل إيه؟
نظر لها سليم وهو يمسك بالحزم .....