
رواية الماسة المكسورة
الفصل السابع والسبعون 77 ج1
بقلم ليله عادل
{~ ما أصعب أن تصبح الحياة بيننا بلا روح، بلا أمل، ممتلئة بالصمت والصرخات المكتومة، بعد أن كانت مليئة بالسعادة والحب، فبعض الجروح لا تَشْفى رغم المحبة الكبيرة التي تملأ قلوبنا، فكلما كبر الحب، زاد الوجع، وكلما زاد الوجع، كانت ردود أفعالنا
[ بعنوان: كلانا يحب، ويؤلم الآخر]
بعد أن أغلق سليم الهاتف مع مكي، أمسك بالخاتم بين يديه، ونظر إليه قائلًا:
هترجعيلي، مستحيل أسمح أن تكون دي النهاية بينا، مش هرتاح غير لما نرجع تاني زى زمان، إنتي حربي الجديدة وهافوز بيها لأني مش هقبل غير كده.
مسح وجهه، وعيناه تفيضـان وجعًا.
في تلك الأثناء، خرجت ماسة من الحمام، ارتدت ملابسها، ثم جلست على الفراش في صمت، تغوص في بحر أفكارها.
وضعت يدها على جبينها بتعب، وعيناها تزفران دموعًا متحجرة، تذكّرت حديث سليم، وهمست بصوت خافت:
إنت إللي وصلتنا لكده مش أنا، حتى لو كنت غلط، فغلطتك كانت أكبر بكتير.
لم ينم سليم تلك الليلة، بل بقي جالسا في الحديقة، يعصف به الوجع، يفكر كيف يمكنه إصلاح الأمور بينه وبين ماسة، أما ماسة، فقد استسلمت للنوم كأنها وسيلة للهروب من ضجيج قلبها.
حتى جاء اليوم التالي
مكتب سليم ، العاشرة صباحاً
جلس سليم خلف مكتبه، يحرك خاتم ماسة بين أصابع يديه بألم، عيناه محمرّتان من السهر، لم يغمض له جفن ليلة أمس بعد قليل، دخل عليه مكي.
مكي وهو يقترب: صباح الخير يا سليم.
سليم رفع رأسه ببطء، بصوت مرهق: صباح النور. تعال.
جلس مكي على المقعد الأمامي للمكتب، أخرج جواز السفر من جيب بدلته، ومده له وهو يقول: أنا خلصتلك كل حاجة، الطيارة بكرة الساعة 5، وبعتلك كام صورة للبيوت على الإيميل، اختار إللي يعجبك بالمواصفات إللي طلبتها، والرجالة كمان نص ساعة هايكونوا موجودين، بس قولي إيه التغييرات دي؟
اتكأ سليم على المقعد، قال بوجع خنق نبرة صوته من الندم: أنا غلطت يا مكي تماديت، أنا إللي اتمايت، مش هي.
هز مكي راسه بأسف: أنا قلتلك إن إللي عملته مع عمار غلط، اعتذرلها، وإن شاء الله الموضوع يعدي.
سليم بمرارة: الموضوع مش بس عمار. معاها هي كمان غلطت في حقها، أنا اعتذرت، بس هي ماسامحتش.
مكي بهدوء:طبيعي مش هاتسامح على طول، لكن قولي عملت إيه تاني غير إنك حابسها؟
نظر سليم لأسفل، وقال بصوت خافت: عملت أوحش من كده، هي ماكانتش محبوسة في الفيلا، كانت محبوسة في الأوضة، حبستها تلات أيام، وكان ممكن أكمل لأسبوع، ولو ماكنتش تعبت ماكنتش هخرجها.
نظر له وهو يشعر بالضيق والغضب تابع:
الغضب عماني، نسيت إنها حبيبتي، ونبض قلبي، إني قبل ما بأقسى عليها، بأقسى على نفسي، إيه يعني؟ وجعتني؟ طب ما أنا وجعتها كتير وسكتت! وأستحملت، وأنا مع أول غلطة ليها، دست عليها، كنت كل شوية أطلعلها، أرميها بكلام زي السم، وجبت سيرة بنتنا بطريقة جارحة، إنت عارفني وأنا غضبان ببقي عامل ازاي؟! نسيت إن إللي قدامي دي ماسة قلبي وروحي، اتعاملت معاها كإني بتعامل مع عدوي.
مكي نظر له بحدة: ليه يا سليم؟ ليه وصلت الدنيا لكده؟ ليه ماكلمتنيش كنت اخدت رأي.
كتم سليم دموعه بوجع دفين: كنت موجوع يا مكي،
ماتوقعتش إنها تعمل معايا كده، كل إللي كان في دماغي وقتها، إني ما أذيتهاش، وإني كنت بحاول أصلح، بحاول أبني وهي بتهد، كل مدي بتوسع المسافة بيني وبينها، وأنا مش فاهم ليه؟!حسيت إني بتظلم، إني اتخذلت من أكتر حد حبيته في حياتي، من أكتر حد كان عندي استعداد أموت نفسي عشانه، الشخص الوحيد اللي اخترته ووثقت فيه،كسرتني ووجعي منها كان عاميني، خلاني أتصرف التصرفات دي
مكي بتنهيدة بعقلانية: بص، إنت غلطت أكيد،
بس ماسة كمان غلطت، ماينفعش نشيل من عليها الغلط، أي راجل حتى لو ملاك، مراته تهرب منه أكتر من مرة؟ طبيعي لما يوصلها، هيغلط! وهيصدر منه ردود أفعال مبالغ فيها، بس خلاص إنت عرفت غلطك وبتعتذر، ودي خطوة كبيرة،خطوة السفر دي ممتازة، وإنك تاخد أهلها كمان، فكرة عظيمة، هي هاتعند شوية، بس هتعدي.
سليم بنبرة مهزومة: خايف أكون خسرتها.
هز مكي راسه برفض: لا، إنتوا الاتنين غلطتوا،
ماتشيلش الغلط لوحدك، ولازم تفهمها ده، إن هي هربت؟ ليه توصلك للمرحلة دي؟ وإنت! حتى لو ردة فعلك كانت زيادة، بس غصب عنك، وهي إللي وصلتك لكده، ماتلعبش مع الأسد وتزعل بقى لما يعوض، بعدين هي عملتها قبل كدة وإنت سكت وعديتها برغم إن هي كانت هتعرض نفسها لكارثة
زي ماقلتلك اتكلم معاها وفهمها غلطها، وإنك ماكنتش تقصد ولو النهاردة ماسامحتش بكرة ولا بعده هتسامح.
شد سليم على أسنانه بإصرار: أنا مش هبطل أكيد هاحاول، مش هسمح إني أخسرها، وإنت كمان أوعى تخسر سلوى.
ابتسم مكي ابتسامة جانبية حزينة: لا يا سليم فيه فرق، سلوى حاجة، وماسة حاجة تانية. رغم إني متضايق من ماسة جدًا بس في فرق كبير.
سليم بنبرة مبحوحة: إزاي يعني؟
مكي بنبرة غاضبة من الوجع، قال بصوت باكي:
ماسة عندها مبرر، حتى لو إحنا مش مقتنعين بيه،
إنت غلطت في حقها، وحبسك ليها أكتر من سنة، والقوانين إللي خنقتها بيها، كل ده كان ضغط! غير كده، ماسة من بعد الحادثة وفقدانها لبنتكم، اتعرضت لحاجات كتير، دماغها كانت نار زي بوتاجاز بيتنفخ، لحد مانفجر، بس لما أنفجرت، اتصرفت غلط، بس برضه عندها حق تقدر تبررلها وتسامحها.
ارتسمت نصف ابتسامة حزينة لم تصل إلى عينيه تابع بألم خنق نبرة صوته:
إنما سلوى؟! سلوى ماعندهاش أي مبرر، كانت كويسة معايا لحد يوم عيد ميلادها، وقضينا وقت جميل سوا وكانت مبسوطة، رجعنا البيت، وقعدنا على التليفون مع بعض لحد تاني يوم، اتصلت بيا وقالتلي: "أنا نازلة رايحة لأختي"، وكانت كويسة جدًا، ومن بعد الزيارة دي اتحولت! التحليل الوحيد إللي عندي؟ إن ماسة قالتلها حاجة، وهي بدل ما تيجي تسألني وتفهمني أو حتى تواجهني بعتاب، أو حتى تواجهني بعصبية، صدقت الكلام، سلوى ماتغيرتش بعد هروب ماسة او اللي إنت عملته اوإسماعيل، هي متغيرة من زمان، وأنا كنت واخد بالي، بس كنت مستني أشوف هتعمل إيه؟ وأول مالقت الفرصة شبطت فيها، وخلصت مني، كل مابقعد مع نفسي، بحس إن قلبي اتكسر، إديت قلبي لحد مايستاهلوش.
سليم بعد لحظة صمت: بس إنت مش عارف ماسة قالت لها إيه!
مكي بحدة: مهما كان، كان لازم تيجي تسألني، تواجهني، مش تحكم وتنفذ.
زم سليم شفتيه بأسف: أنا آسف، كان المفروض أسأل ماسة.
مكي بهدوء: يعني إنت في إيه ولا في إيه؟
سليم بضجر: بس برضه كان لازم أهتم بموضوعك،
حقك عليا أوعدك إن النهاردة هتكلم مع ماسة وأفهم منها أي حاجة، وإنت روح اتكلم معاها تاني، قول لها: من حقي أفهم، من حقي أعرف، ماتسيبينيش كده، جرب تاني، وثالث، لو بتحبها، ماتستسلمش.
مكي بحزن: أنا بحبها وبحبها أوي كمان بس كرامتي بحبها أكتر.
سليم بحكمة: أسمع مني، ماتخليش كبريائك يغلطك زيي، صدقني، هتندم ماسة وسلوى كويسين، مشكلتهم إنهم حساسّين، والعند السبب، البنات لما بيحبوا من قلبهم، بيتهزوا بسرعة، بس برضه بيرجعوا بسرعة، صدقني.
مكي تنهد: حاضر أنا هسمع كلامك، أنا كنت هحاول برضه من غير ماتقول.
سليم: قول لي عملت إيه قريبه سحر.
مكي: دي بنت غلبانة خالص عندها 18 سنة مافيش أي خطورة منها.
سليم: خلاص أبقى قول بقى لسحر تجيبها
أمسك سليم قدمه وتحسسها قليلا انتبه مكي: حاسك الفترة دي بتشتكي من وجع رجلك كتير.
فتح سليم الدرج بصمت، تناول حبة دواء، ابتلعها سريعًا، رشفة ماء: فعلا المسكن مابقاش عامل نتيجة.
وأثناء ذلك دخل الحارس وهو يقول: سليم بيه الحاجة وصلت.
سليم توقف: طيب خمس دقائق وتطلع ورايا نظر إلى مكي وهو يقول: هطلعلها.
مكي: ماشي أنا هنا.
تحرك سليم، بينما ظل مكي في مكانه، أخرج هاتفه، فتح الاستوديو، وبدأ يقلب في صور سلوى.
قال بصوت منخفض وهو بيكتم غضبه: قد ما أنا مستفز منك، بس وحشتيني، يا رب المرة دي تبقي عاقلة.
غرفة ماسة.
صعد سليم إلى غرفة ماسة، ويبدو أنها قد استيقظت للتو من النوم؛ كانت ممدّدة على الأريكة وملامح الإرهاق بادية على وجهها. فتح الباب ودخل دون أن يطرقه، وما إن وقعت عيناه عليها حتى توقّف لحظة، وسكنت ملامحه نظرة استغراب.
سليم وهو يقترب منها: مانزلتيش تحت ليه مادام صحيتي؟!
ماسة ببرود، وهي تنظر له من طرف عينها: أنا حرة.
سليم، بنبرة هادئة وعيناه ما زالت مشدودة إليها:
طب ألبسي حاجة، الحرس طالعين.
ماسة متعجبة: ليه؟!
سليم، دون أن يلتفت: يلا بس.
زفرت بضيق، مررت أصابعها بين خصلات شعرها بتأفف، ثم نهضت ببطء، ارتدت روبًا طويلًا فوق فستانها، وسارت نحوه بخطوات متثاقلة.
ماسة باستخفاف: خير هاتحطلي قفص يا سجاني.
سليم: اصبري بس.
بعد دقائق، دخل الحرس، كانوا يحملون شاشة تلفاز كبيرة، وجهاز كمبيوتر، وصندوق أدوات، بدأوا بفك الحديد من الشرفة أولًا، ثم وزّعوا الأجهزة، ووصلوها بالكهرباء.
كانت ماسة واقفة في الركن، تتابع بصمت. عيناها تتحرّكان ببطء، من سليم، إلى الحرس، إلى الأجهزة، لم تفهمه بعد ما حدث، وبعد أن انتهى الحرس، غادروا الغرفة في هدوء.
اقترب سليم، وقال بهدوء: لو محتاجة أي حاجة تاني، قوليلي أجيبهالك، اللابتوب هيبقى عندك، مد يده بهاتف: كمان تليفون عشان تكلمي أي حد تحبيه.
نظرت لما بين يده قالت برفعة حاجب: ليه بقى كل ده؟
اقترب سليم أكثر، امسك إيدها، لكنها سحبتها بجفاء بتوضيح قال: يعني ده صح؟
سألته، وهي تبتسم بسخرية وجفاف: تفتكر بعد إللي عملته ده، هسامحك بشويه الحاجات دي؟!
هزّ سليم رأسه، وعيناه تبحثان عن ثغرة في جدارها المغلق، وقال بهدوء يقطر وجعًا: أنا مش بعمل كده علشان تسامحيني، أنا بعمل كده علشان ده الصح، غضبي كان عاميني، كان مخليني أهوج في تصرفاتي، فبصلح غلطتي، ودي البداية.
ابتسم ابتسامة خافتة وضع الهاتف على الطاولة، ثم أخرج من جيب بدلته جواز سفر وتذكرتي سفر، مدهما أمامها كعرض لا يرفض:
حجزت تذكرتين لسويسرا، هنسافر، وبعدها نبعت نجيب والدتك ووالدك وإخواتك، ونعيش هناك، حتى بفكر أعمل العملية.
ضحكت ماسة بمرارة، تحركت وهي تعطي، ظهرها له، لكن صوتها كان أشد من الطعن: مشكلتك إنك لسة عايش في أوهامك، لسة فاكرني ماسة بتاعة زمان؟ إللي أول ماتمشي خطوتين وهي زعلان منك، ترجع لحضنك وتقولك بحبك وسامحتك؟ لااا كان زمان، أنا عمري ماهسامحك، وبكره.
سليم بنبرة واثقة، لم يهتز، وكأنه متمسك بآخر خيط في قلبها: وأنا مش هستسلم، وهفضل أحاول لحد مانرجع لبعض، لإنك بتحبيني بس زعلانه مني، بس أنا كنت عايز أسألك على حاجة مهمة، فلو سمحتي جاوبيني؟!
ألتفتت له بإختناق: مش فاضية والله.
سليم برجاء: لو سمحتي يا ماسة.
زفرت بضيق، أغلقت عينيها للحظة قبل أن تفتحها ببطء: اتفضل
سألها سليم، وعيناه لا تبارحان ملامح وجهها المتوترة: إنتي قلتي إيه لسلوى؟ خلّيتيها تبعد عن مكي؟
ماسة، وهي تشيح بوجهها بنبرة مهتزة: أنا ماقلتش حاجة
سليم بإصرار، ونبرة بدأت تميل للحدة: لا قلتي، أمال هي اتغيرت فجأة بعد عيد الميلاد ليه؟ في حاجة، إنتي قلتيلها حاجة خلتيها تبعد عنه.
صمتت ماسة للحظة، ثم قالت، بصوت خافت مجهد:
ممكن تطلع وتسيبني لوحدي؟
سليم بعتاب وضيق، وهو يخطو خطوة نحوها:
يبقى قولتي، ليه يا ماسة؟ ليه كنتي سبب إن حياتهم تنهدم؟! أنا غلطت في حقك، وأنا معترف، رغم إنك كمان كنتي سبب، بس ليه تدمري حياة أختك؟
رفعت ماسة عينيها إليه تحدثت من بين أسنانها، وعيناها تمتلئ بالدموع: عشان مأعيش أختي نفس إللي أنا عشته، ماخليهاش تقع في مصيري، في نفس المصيدة، هو نسخة منك، يمكن أبشع.
ضيق سليم عينيه، وحدة في صوته ارتفعت فجأة، كأنها طعنة تعجب: مكي ده كان بيدافع عنك لحد آخر لحظة، رغم إنه فقد البنت إللي بيحبها بسببك، مكي ماحكاليش إنك حاولتي تهربي قبل كدة، غير لما فعلاً هربتي آخر مرة وقال لي بس لأنك كان ممكن تكوني عند كارمن، ليه بتعملي فيه كده؟ عمل إيه؟!
قاطعت ماسة حديثه بانفعال، نبرتها كانت كسكين حاد مزق صمته: عمل إيه مكي؟!
رفعت صوتها، وبدت كأنها لم تعد قادرة على الاحتمال أكثر، تابعت وهي تقترب بخطوتين، وعيناها تلمعان بدموع الوجع والغضب:
مكي لو حد كويس زي ما إنت بتقول، ماكنش عمل إللي عمله، وأيوه، أنا فعلاً قلت لأختي تبعد عنه، عشان هو شبهك، ولاااازم الجوازة دي تتوقف، عشان ماتعيشش نفس المصير إللي أنا عيشته
صمتت لحظة، ثم تابعت، والنار تتصاعد في صوتها وهي تشير له بإصبع مرتجف:
أوعى تقولي بقى الأسطوانة إياها، مالهوش ذنب، بينفذ أوامر، شغال عندي، أنا عارفة، فاهمة دماغك ودماغه، بس ده مش مبرر!
رفعت حاجبيها بقوة، وحدّقت فيه بحدة:
بقولك إيه، بأمانة ربنا لو بدلنا الأدوار، بنفس شخصيتك دي، وإنت كنت مكانه، وشفت راجل واقف قدام أهل مراتك وبيهددهم، كنت هاتسكت له؟! أقسم بالله لا، كنت هاتقف قدامه، تحط عينك في عينه، وتقوله: فكر بس تقرب منهم، وأنا همسحك من على وش الأرض، دول معايا في حمايتي لو إنت مكي فأنا سليم، حتى لو كنت شغالة عندك، مش هاسمحلك تدوس على حد فيهم، مش كنت هتعمل كده؟ حتى دي هو ماعملهاش!
أخفضت صوتها فجأة، كأنها تخاطب نفسها أكثر منه:
وعايزني أرضى إن أختي تتجوز واحد مادافعش عنها قصادك!؟ وقصاد أي حد ممكن يأذيها، يمكن مكي ماعندوش نفس نفوذك، يمكن فعلاً بيشتغل عندك، وإنك تقدر عليه، بس مهما كان حتى لو هتموته كان لازم يقف في وشك، (بخذلان) بس على الأقل كان هيموت بشرف، هيموت وهو بيدافع عن شرفه.
رفعت يدها كأنها توقفه عن أي رد: وأوعى تقول مش مراته لسة!! لا يا أستاذ، الوعد إللي مابينهم، والكلام إللي اتقال، وإن كان فاضل كام يوم وتبقى مراته، ده كفاية يخليه يعمل أي حاجة علشان يحميها..
توقفت لثوانٍ ثم ابتسمت بسخرية باكية، وقالت بصوت مكسور: بس هو ماعملش غير إنه يبررلك
يقول إنك كنت عصبي، كنت غضبان، عارفة مكي كويس؟ما هو كان بيبرر لي نفس التبريرات السخيفة دي لما كنت حابسني وبتـهددني!
سليم، بصوت هادئ ونظرة صادقة سكنت ملامحه، وكأنه يحاول لملمة ما تبقى: صدقيني هو عنده مبرر، هو عارفني كويس، عارف إني مش هعمل حاجة، عارف إن كل ده كلام، بهوش بيه؟ وأقسم لك لو في يوم أنا فعلاً كنت ناوي أعمل حاجة، مكي كان هايقف قصادي، كان هيمنعني، ساعتها وهيقول: لحد هنا وكفاية، بس هي من قبل الموقف ده، سلوى متغيرة كأنها مستنياها عشان تسيبه هي سمعت كلامك، ونفذت مجرد ماقولتلها إنه شبهي برغم وحياة بنتي في فرق مابيننا هو أعقل مني كتير.
ماسة، بأقتناع كامل، بوجع خنق نبرة صوتها،والدموع تسيل على خديها دون مقاومة:
أنا عملت الصح، كفاية، كفاية أنا اتوجعت، واتجرحت، وتحطمت، واتهددت، ماحبتش أعيش أختي نفس الألم، إن في يوم جوزها، حبيبها، يقف قصادها ويقول لها بمنتهى البجاحة والبرود: لو عملتي كذا، هعمل كذا، يهددها، وعينه في عينيها، ويبرر ده إنه كان غضبان، أو خايف، أو متعصب عارف؟ لو جدت تسالني تاني، أنا هقولها: أوعي تتجوزي مكي أو تسامحيه، وهحكي لها على كل إللي عملته فيا، وفي عمار، وإن مكي ماعملش حاجة فضل واقف يتفرج، إن هي دي أخلاق الراجل إللي عايزة تتجوزه، وإللي هاتستأمني نفسك في حضنه، مافيش أمان، في خوف وبس، وإنه زيك بالظبط، وإنه هييجي في يوم ويستخدم جبروته ونفوذه، وهو باصص جوا عينيها...
بدأ صوتها يهتز، والدموع تزداد، وصدرها يعلو ويهبط من شدة القهر والحزن والخذلان. لم تعد ملامحها تنطق، بل تنهار واصلت:
لو خرجتي برة حدوده، هتدفعي التمن، ولو حد أخدك منه، هيموته، وإن ممكن يسيبك تلات أيام محبوسة، بتتوسلي له يخرجك، ويرفض يبعت حد يقعد معاكي، وإنك هتهوني عليه يشوفك بتتعذبي وبتبكي، وإنه كان عارف وشايفك وإنتي مابتاكليش، ولا بتشربي، وبتنهاري، ومكمل، بقسوته، وكل يوم هيدخل يسمعك كلام يوجع القلب، يغرس السكينة في قلبك من غير رحمة، لدرجة إنه يوجعك ببنتك، بنتك أللي هو عارف إنك لحد اللحظة دي، مكوية بنار فراقها، مش هيقف لحد هنا تؤتؤ هيكمل ويطرد أهلك قدامك، ويهددك بيهم إنه ممكن يموتهم، جوزك، حبيبك، أمانك وسندك، إللي المفروض يكون درع الحماية ليكي من العالم وقساوته، عمل فيكي إللي مايتعمل..
إنهارت من البكاء، بوجع كاد أن يُنهيها:
الخوف...الخوف إللي كان جزء منك، وكنتي بترمي نفسك في حضنه عشان تحتمي فيه، هو إللي هايعيشهولك، وأن حياتك هتبقى كلها خوف ورعب، والسند وقع فوقك، لحد ماهدك وحطمك، حضن الحماية بقى هو إللي بيخوفك، ومعيشك في رعب، إنك لو مشيتي، هيقتل أهلك، وهقول لها كمان، إنه ممكن يعمل فيكي زي إللي بيعمله مع أعدائه، وإنه هينسى العِشرة والعيش والملح، وإنه جوزك، وإنكم كنتم في يوم شيء واحد بتاكلوا في طبق واحد تناموا على سرير واحد، والميثاق الغليظ، والمودة والرحمة هاينساهم..
أخذت نفسًا متقطّعًا، وكأنها تحاول استعادة قوتها التي تذوب تحت قدميها، ثم قالت بقهر وحسرة:
وهقولها عارفة ليه هيعمل كل ده؟؛ عشان غلطتي، غلطتي غلطة واحدة، غلطة من تسع سنين برغم إنك استحملتي فيهم حاجات كتير، الغلطة دي هتخليه ينسى كل حاجة، مش هيفتكر غير إنك أنانية، ووحشة، وماتستاهلش حبه، وندمه إنه عرفك وهيشبهك بناس، هو عارف كويس إن ظفرك براقبتهم إنه إنسان نكّار، ما بيفتكرش غير الوحش عشان غلطه منك.
ثم ابتسمت بوجع، وهزّت رأسها بلا، تمسح دموعًا لا تُمسَح:
لا لا، استحالة أعيش أختي الانكسارات، والأوجاع كفاية أنا عايشاها، كفاية العذاب إللي أنا فيه، حرام عليك، ليه عايز تعمل فيها كده؟ أنا مش هقبل أعمل فيها كده، ولو على موتي.
نظر لها سليم الذي كان يستمع لها والوجع يفتك بقلبه بدموع تغرق عيناه والندم يلتف حول رقبته كجنزير ناري:
ماسة ماتشبهيش مكي بيا إنتي بتتكلمي عن نفسك إنتي بتقولي كل إللي أنا عملته فيكي، مكي مايعملش كده بيعرف يحط كنترول صدقيني لو سلوى عملت إللي عملتيه هيطلقها، ماتخليهوش يشيل ذنب أنا إللي عملته بإيدي أرجوكي يا ماسة.
ماسة بألم وهي تمسح دموعها: أنا عارفة إني بتكلم عن نفسي بس إللي أنا بتكلم فيه ده هو إللي هيحصل لها حتى لو اختلفت الطريقة.. متحوليش تقنعي بغير كدة اللي يوافق على اللي عملته يعمله.
أشارت بيديها بقوى وتهديد:
ولازم تفهم أنا مش قاعدة هنا علشان أوجعك وبس، قاعدة كمان علشان أحمي أهلي من شرك، لاني عارفة، طول ما أنا هنا، إنت هتبعد عنهم، واسمعني كويس؟ خليك فاهم لو فكرت تقرب منهم، أنا هموت نفسي، والله هموت نفسي قدام عينك، لأنك أكدت لي إن كل الحب إللي حبتهولك، ماتستاهلوش
بدموع وحسرة تدافع عن نفسها: إنت دايمًا كنت فاكر إني بختار أهلي عنك، بس والله العظيم أنا كنت بحبك أكتر منهم كنت بحبك أكتر من نفسي أنا كنت بدافع عنك لحد آخر لحظة، بس لما شفت إنك ممكن تأذيهم، علشان أفضل جنبك، وإنك بتحبنى حب تملك، حب مريض، وإنك مش هتتغير هتعيد نفس الغلط تاني ولو فكرت أمشي،والا أخرج، أو حد منهم وقف معايا ضدك هاتأذيهم، وهتفضل تقول لي: خروجك من هنا ثمنه أهلك، فإنت عايزني أعيش أختي نفس المرض؟ استحالة!
أشارت بيدها لجعله يسكت: أوعى تقول لي تاني مش زيك، هو زيك، أسوأ منك، لإنه ماعندوش شخصية، مايعرفش يقولك لا، خروف ماشي مع القطيع يتقال له يمين يمين شمال شمال.
كان سليم يستمع لها في صمت، والحزن ينهش ملامحه قطعةً قطعة، وعيناه ساكنتان، لا تنهمر منهما الدموع، يشعر بقهرها بخذلانها وبخوفها منه يعلم يقينًا أنها لا تبالغ وأنها بالفعل تملك الحق في كل ما تفكر فيه.
سليم بصوتٍ مجروح، حاول فيه أن يدافع عن نفسه، لكن الوجع واضحًا في نبرته، يعرّي كل محاولاته:
أنا عارف إني ظلمتك، بس حطي نفسك مكاني، حطي نفسك مكاني دقيقة واحدة، الراجل إللي بتحبيه، بتعشقيه، بتحاولي تبني معاه بيت، قرر فجأة يسيبك، من غير سبب، وهو عارف قد إيه إنتي بتحبيه، عارف إنك ماتقدريش تعيشي من غيره، عارف إنك مالكيش غيره، كنتي هتعملي إيه؟ أنا أنا افتريت عارف، وعارف إني زودتها أوي، بس والله العظيم من وجعي، من انكساري، أنا حسيت إني انكسرت يا ماسة، كل إللي إنتي حساه من وجع بسبب رد فعلي دلوقت، أنا كمان حسيته لما هربتي.
ماسة، بنبرة مخنوقة وقهر خنق صدرها: بس أنا كان عندي سبب.
سليم، قرب خطوة، صوته هدى شوية: إللي هو إيه؟
ماسة بعند، وهي تمسح دموعها بظهر إيدها: مش هقولك؟!
سليم بنبرة غاضبة: يعني إيه مش هاتقولي؟ ما كفاية عند.
ماسة بوجع وانتقام: عشان عايزة أوجعك لما أحس إن قلبي هدي، وغليلي شفي، زي ما إنت عملت أنا هعمل، ويمكن ساعتها أقولك، أنا اتحايلت عليك كتير كنت عايزاك تسمعني تديني فرصه، وإنت رفضت، خلاص بقى.
تنهد سليم بتعب أمسك يديها بنبرة عشق ورجاء:
أنا قابل منك الوجع والقسوة أنا استاهل ده اعملي اللي نفسك فيه، حتى مش عايز أعرف أسبابك، كل إللي عايزه ومهم ليا، إن إحنا نرجع سوا، ونحقق أحلامنا إللي ماعرفناش نحققها خلينا نمشي خلينا نبدا صفحةجديدة، ونعتبر كل إللي فات كابوس مزعج، نطوي صفحات الماضي، أنا وإنتي هنسي بعض، إحنا مرينا بحاجات أصعب من كدة بكتير، إحنا الأتنين وجعنا بعض يا ماسة، إنت وجعتيني بهروبك أكتر من مرة، حسستيني إني مش مهم في حياتك، إن الاستغناء عني شيء عادي، وأنا وجعتك بردة فعلي، ليه مش عايزة تسامحي؟! رغم إن قلبك لسة بيعشقني، إنتي لسة بتعشقي سليم، زي ما سليم بيعشق متسة، وإن كل إللي إنتي بتعمليه ده، بتعمليه من وجعك وانا معترف إني غلطت، بس سامحي بقى، خلينا نعيش إللي فاضل من حياتنا بسعادة خلينا نسافر..فرصه اخر فرصه.
نظرت له ماسة وعيناها دامعتان ووجهها شاحب، لكنها كانت قوية قاسية حتى، بعينيها التي لم تعد تبكي ضعفًا بل وجعًا، ولم يبقَ فيها إلا صقيع الخيبة سحبت يديها من بين يديه وعادت خطوة للخلف وهي تشير بيديها:
لو سمحت، ماتحاولش تاني، أنا وإنت انتهينا.
مدّت يدها، وانتزعت جواز السفر من بين أصابعه.
نظرت له لحظة ثم مزّقته أمام عينيه.
ماسة بصوت حاد، مشبع بالخذلان: سويسرا مين دي إللي هسافرها معاك؟ عايزني أروح معاك وأعيش معاك نفس الذكريات الكدابة من تاني؟
قاطعها سليم مسرعاً، بوجع يشق قلبه: لا يا ماسة
هي ماكانتش ذكريات كدابة، دي الحاجة الوحيدة الحلوة في حياتنا.
ماسة، وهي تهز رأسها نافية، تحدثت من قاع القلب:
صح وبندم عليها، وهفضل أندم طول عمري إني اتجوزتك وحبيتك، ولو لسة ليا شوية خاطر عندك، أبعد مكي عن أختي ، أما بالنسبة لي إنسى إن في حاجة ما بينا، انسى إني ممكن أسامحك، حتى أهلي أنا مش عايزاهم يجوا، ولا عايزة كل إللي إنت عملته ده، أنا مش تحت مزاجك، ولا تحت رحمتك، مش وقت ماتحس إنك خلاص، تجيب أهلي وتخليني أشوفهم، وتفك قضبانك والمطلوب أرضى وأقبل.. لا أنا مش "شخشيخة" في إيدك، شوية تمنعني عنهم، وشوية تجيبهم، شوية تمنعني من التلفزيون واللاب توب، وشوية تقول لي: إنتي عايشة هنا بأوامري، في زنزانتك. ودلوقتي هعملك كل إللي إنتي عايزاه، ما توسلتلك كتير. وإنت رفضت تسامحنى تسمعني كنت بتقول لي أنا لسة مأمرتش تتكلمي مأذنتش تتكلمي نسيت كل ده؟!
تنهدت بتعب وهي تتوسل: لو فعلًا عايز تخلص كل ده، وعايزني أفكر أسامحك، طلقني، وسيبني أمشي، وأبعد عني أنا وأهلي، أنا مش عايزة منك حاجة غير كده، وهرجعلك كل حاجة، والله حتى الهدوم، بس أرحمنا وعتقنا لوجه الله وساعتها هسمحك طلقني لو فعلا عايز صورتك تفضل زي
ما هي..
تابعت وهي تصرخ ألما:
وأحلام سويسرا، أحلمها لوحدك، لإنها إنتهت، زي ماكل حاجة بينا انتهت، إنت انتهيت وقتلتك جوايا لو فكرت في يوم احلمها تاكد مش هتكون فيها.
رمش سليم بعينه الذي كان يستمع لها بتأثر شديد، بعينين اغرورقت بدموع القهر، فجأة اقترب سليم منها بخطوات عنيفة، سحب مسدسه من خصره ووضعه في يدها المرتعشة.
سليم بنبرة هادئة لكنها تحمل موتًا وجنون الرفض: لا يا ماسة لااا خدي يا ماسة، خدي موتيني، خدي تار أهلك، خدي تار عمار،واديني الرصاصة اللي ضربته بيها، أضربي قلبي برصاص، خليه يوقف عن إنه يحبك، إديني رصاصة، وخلصي وجعك، بس أوعي تطلبي مني أبطل أحاول، أو إنك بتكرهيني، أو إننا مانكونش سوا، أوعي تقولي إن سويسرا، بقت مجرد أمنية مستحيل تتحقق، أو إنها هتبقى مع غيري، أوعي تقولي كده.
كانت ماسة تمسك بالمسدس، يدها ترتجف ودموعها تنهمر بصمت وقلب يعصف الما، حركه سليم المسدس ببطء حتى لامست فوهته قلبه.
سليم، وهو يثبت عينه في عينيها: أضربي يا ماسة أضربي، بس أوعي تقولي كلمة "طلّقني" لازم تفهمى إن الحاجة الوحيد إللي هتخلصك مني هو موتي موتينى يلا.
نظرت له ماسة، نظرةً يملؤها الانكسار، انكسارٌ لا شفاء فيه، قالت بصوتٍ أقرب إلى البكاء منه إلى الكلام:
إنت عارفني، عارف إني مش هعمل كدة أنا مش قتّالة قتلة، بعدين إنت أصلًا ميت، إنت ميت في نظري، وفي قلبي وفي روحي يوم ماخذلتني، و وجعتني، وخليتني أعيش الخوف ده بإيدك.
سكتت، قالت بصوت داخلي: إنك طلعت زي أهلك بالضبط، عملت فيّا نفس إللي عملوه، هددتني بأهلي، ونفذت تهديداتك، عشان تخليني أعيش معاك، غصب، وإنك، حققت كلامهم، الكلام إللي كنت بدافع عنك منه، وبقول مستحيل تعمله، بس عملته، ومتأكدة، إنك هتعمله تاني.
نظرت له، دموعها لم تكن مجرد نزيف كانت لعنة،
همست بصوتٍ مخنوق، نبرة أقرب إلى الانهيار منها إلى الكلام:
مش هقولك غير يارب تعيش نفس الوجع إللي أنا عشته، من قلبي بتمنالك تعيشه، وتعيش نفس الخوف، نفس الكسرة.
وضعت المسدس في يده، ثم تراجعت خطوة للخلف، وقالت بهدوء قاتل: لو سمحت، سيبني لوحدي كفايه وجع ارحمني الله يخليك.
توقف سليم في مكانه، عيناه تنهمر منهما الدموع بصمت قال بصوت مبحوح منكسر بإصرار:
أنا مش هبطل أحاول، لحد ما نرجع، ولحد ماتسامحيني، ولحد ماتغفري.
أخرج الخاتم من جيبه، واقترب منها وأمسك أصابعها المرتجفة، رغم أنها كانت تحاول سحب يدها بعيدًا
ألبسها الخاتم غصبًا عنها، وعيناه لا تفارق وجهها.
سليم بنبرة دامية: الخاتم ده، مش هتقلعيه غير وإنتي في قبرك وحتى لما تنزلي، هتفضلي لبساه.
نظرت له ماسة بضيق، وقالت بجمود: إنت تقدر تلبّسهولي غصب بس بالنسبالي كأنه مش موجود.
سليم ببرود يكسوه وجع خفي: مش مهم، بس تعرفي
إنتِ بتقولي إني مابتغيرش؟ لا أنا بتغير، أنا ممكن أسامح، وأعدي، وأغفر كل حاجة، إلا إنك تسيبيني، أو إن حد يكون سبب في بعدك عني، أنا مابعرفش أتحكم في نفسي ساعتها، ببقى أعمى، فأحذريني، أنا قلتلك قبل كده، أنا عندي استعداد أحرق العالم عشان خاطرك، زي ما إنتي ممكن تعملي كل ده عشان تحمي أهلك، أنا كمان هعمل كتير علشان أحمي الناس إللي بحبهم وأنا مابحبش غيرك.
قال كلماته تلك وتركها وغادر.
جلست ماسة على الفراش، وضعت وجهها بين يديها، والدموع تنهمر في صمت، الوجع بيفتّك بيها، بيأكل قلبها قطعة قطعة:
مش هتتغير يا سليم، أنا متأكدة إنك هتأذيهم لو بعدت عنك إنت قولت هحرق العالم، وأي حد، ممكن يكون السبب في بعدك عني.
مالت بجسدها للخلف، وأسندت ظهرها إلى الفراش، بصمتٍ يحطم القلب، كانت خالية تمامًا، كأن الروح انسحبت منها
أما سليم، فدخل غرفته بخطواتٍ ثقيلة، جلس على المقعد وهو يخفي وجهه بين يديه، لكن دموعه فضحته، سالت بصمت، تغرق عينيه، وتفضح ما بداخله.
ترددت كلماتها في أذنه، كأنها خناجر تتكرر بلا رحمة:
"إنسَي أحلامنا... طلّقني... بكرهك"
كل كلمة منها كانت طعنة، قاطعة، لا تترك مجالًا للتنفس، ولا للنجاة.
صرخ من الأعماق ببحه رجوليه جهور بوجع، نهض فجأة، وركل بقدمه الطاولة التي أمامه بعنفٍ عارم، كأن ما بداخله يفيض، كأن الصبر انكسر تمامًا.
♥️________بقلمي_ليلة عادل________♥️
وبعد قليل، تلقّى سليم اتصالًا يدعوه ضرورة الحضور إلى اجتماع في المجموعة، أخذ يفكّر للحظة، يتساءل بينه وبين نفسه: هل يذهب أم يبقى؟ شعر أن الذهاب ربما يخفّف عنه وطأة أفكاره التي تنهشه بلا رحمة، فـكلما تذكّر كلمات ماسة، ونظراتها، وماتحمله في قلبها من ألم، أحسّ بأن هناك من يخنقه، يسلبه أنفاسه، وكأنه وقع في غابةٍ موحشةٍ مليئة بالوحوش المفترسة، تنهش جسده، وهو يركض بإستماتة نحو النجاة، وعندما بلغ النهاية، وجد نفسه على حافة هاويةٍ لا يُدرك قرارها، لم يجد مخرجًا؛ أتراه يعود إلى تلك الوحوش؟ أم يسقط في المجهول؟
في النهاية، اتّخذ قراره أن يذهب عساه يغوص في أعماق العمل، فينسى فقط لحظة، يحتاج إلى لحظة واحدة يسكن فيها صراخات قلبه، ويهدأ نيران عقله.
ذهب بالفعل، واندمج في عمله بكل قوّته، كان تركيزه شديدًا. وإذا ما شرد ذهنه للحظة فيما حدث بينه وبين ماسة، أسرع بإعادة تركيزه، وكأن ما جرى صار سجنًا لا يُهرب منه إلا عبر الانشغال.
أما ماسة، فقد بقيت في غرفتها معظم الوقت، يتملّكها وجعٌ داخلي لا يهدأ، أكثر ما آلمها أن سليم، رغم حبّه، لم يمنحها وعدًا قاطعًا بعدم إيذاء عائلتها. وذلك كان أصعب ما يمكن أن تواجهه امرأة، أن يكون زوجها، من تُؤمن أنه أمانها وسندها، غير قادر على طمأنتها، لا لنفسها ولا لعائلتها، ربما لو وعدها، لخفّ الألم، ربما كانت منحته فرصة أخرى، لكنه أضاعها.
كانت حزينة حد الانكسار، ممزقة بين حبها العميق له، وبين خيبة ظنّها لم تكن تتخيّل أن سليم قد يؤذيها إلى هذه الدرجة.
بكت كثيرًا، بصمتٍ موجِع، تتخبّط في حيرتها، بين أن ترضخ لما يُفرض عليها، أو ترفضه بكل ما فيه، شعرت بأنها لم تعد تملك من أمرها شيئًا، كأنها تحوّلت إلى دمية، يحركها كما يشاء، وفق شروطه وشعرت في أعماقها أن ماتعيشه ليس طبيعيًا بل مؤلمًا وغير آدمي.
قرّرت أن تُعيد الهاتف. دخلت غرفته، ووضعته فوق الفراش، ثم هبطت إلى الأسفل، جلست أمام التلفاز، تحاول أن تُلهي قلبها، أن تنسى، ولو قليلًا لكنها لم تستطع، لم تكن قادرة على مسامحته، وكلما استعاد عقلها مافعله، أوجعها قلبها، وسقطت دموعها بصمت.
قصر الراوي
غرفة ياسين وهبة الخامسة مساءً
دخل ياسين الغرفة، يحمل حقيبة سفر صغيرة.
كانت هبة تجلس على الأريكة، تتابع التلفاز بملامح باهتة، ما إن رأته، حتى نهضت سريعًا واقتربت منه.
هبة بنبرة حادة: حمد الله على السلامه كل ده يا ياسين؟
ياسين ببرود: آه كل ده، وياريت كان أكتر من كده. بس للأسف الشغل خلص.
هبه بضيق: بس أنا سمعت إنك مسافر بمزاجك، وكان ممكن تخلص كل ده بتليفون أو تبعت أي مدير من شركتك!
جلس على طرف السرير، وهو يتفادى النظر إليها: أنا مش عايز أتكلم في الموضوع ده.
تقدمت خطوة، وقفت امامه بحدة: لا، هنتكلم! ده إنت حتى مارجعتش البيت تاخد هدومك، كلمتني في التليفون كإني غريبة! أنا مسافر، ومافيش خروج من القصر،؟!
نهض ياسين، يحاول يتفادى أي انفجار جديد، لكن صوته مضغوطًا، غضبه ظاهر رغم هدوئه:
كنتِ عايزاني أعمل إيه؟ المفروض أعمل إيه بعد إللي حصل؟ بعد إللي قلتيه عني؟! تربيه الداده ده يا هانم إللي إنتِ اخترتيه بنفسك يبقى جوزك، وعشتِ معاه لحد اللحظة دي، وخلفتي منه كمان، وجايه دلوقتي تقوليلي ده تربية دادة؟!
هبة بخجل: أنا ماكنتش أقصد كده!
ياسين بشدة: لا، كنتِ تقصدي.
هبة بإعتراض: كنت قصدي إني مش عايزة ولادي يعيشوا نفس مصيرك ومصير أخواتك.
ياسين بخذلان: أنا مش قادر أستوعب إزاي بتبصيلي النظرة دي وبالمناسبه، ماسة إللي اتكلمتي عنها بإستهانة دي، إنسانة عظيمة، وأنا بكنّ لها كل احترام، دي فيها صفات أحسن منك بكتير، ياريتك كنتِ زيها، ماسة إللي بتقف جنب جوزها، تحترمه، تدعمه مش اللي تفكر تمدها او تعايرة لو في نظرك إن كل الصفات دي نوع من الضعف إنتي محتاجة تعيدي ترتيب وجهات نظرك.
هبة بتوضيح: أنا ما كنتش هامد إيدي، كنت بدافع عن نفسي.
ياسين بهدوء: امم المفروض بدل ماواقفة قدامي بالنبرة دي تتكلمي، تعتذري تبوسي راسي، وتعملي المستحيل علشان تصالحيني، لكن لااا إنتي شايفة نفسك مش غلطانة، ودي المصيبة...
تنهد مسح وجهه بحزن وخذلان:
هو إنتِ كنتي كدة من الأول؟ ولا إنتي إللي اتغيرتي؟ مش عارف، بس أنا غضبان منك، ومتضايق جدًا فلو سمحتي، أبعدي عني شوية.
أمسكت يده، نظراتها دامعة، صوتها مهزوز:
أنا آسفة يا ياسين، والله العظيم أنا مش زي ما أنت فاكر، أنا بس ماتعودتش على الإهانة، ماتعودتش حد يعلي صوته عليا، وإنت عارف كده، وعارف إني مابحبهمش هنا، ولا هما بيحبوني، بيكلموني؟ آه، بس بحس كلامهم مزيف، الوحيد إللي كنت بحترمه هنا هو سليم، بس لما عرفت عنه إنه مافيا، وبيهدد ماسة، وقع أوي في نظري، وماسة؟ ماعجبنيش إللي بتعمله، هي حرة طبعًا، بس أنا مش زيها.
مرر سليم عينه عليهابمرارة: أنا مش متضايق من إللي اتقال تحت، أنا أصلاً عارف ماما شايفة إيه، وعارف نيتها، هي دايمًا مستنية تغلطك، بس أنا إللي وجعني إللي حصل بيني وبينك، طريقتك صوتك العالي، ومفهومك عن "الدفاع عن النفس.
هبة: طب ما أنا اعتذرت وقلتلك خلاص أنا آسفة!
ياسين: مش قادر أقبلها.
هبة بحزن: يعني هتفضل زعلان؟
ياسين مد شفتيه: حاولي تاني، يمكن أقبل المرة الجاية، أنا هاخد شاور وأنام، محتاج أرتاح.
تحرك ياسين داخل الحمام بينما ظلت هبة متوقفة مكانها وهي تبكي بحزن شعرت أنها خسرت ياسين بفعلتها تلك.
فيلا عائلة ماسة الخامسة مساءً
الصالون
نرى مكي كان جالسا مع مجاهد وسعدية ويبدو على ملامحهم الضجر.
سعدية بقلق: يعني هي كويسة يا ابني؟
مكي بإبتسامة صغيرة: كويسة الحمد لله، وأنا والله كان نفسي آجي من بدري، بس حسيت لو كنت جيت والدنيا لسة مولعة، كنا هانزود الطين بلة.
مجاهد بحدة: وهتبرر تاني إن سليم كان غضبان؟
مكي بهدوء: أنا مش ببرر، بس بقول إللي حصل، عمار استفزه، ودخل البيت بالعافية وخد ماسة من بين إيديه، وسليم كان طبيعي جدًا يثور. أنا شخصيًا كنت عند البوابة، وقولت لهم يسيبوا ماسة، وطمنتهم، وفضلت أتحايل عليه عشان يمشي، لكن عمار كان معاند، وسليم ماكانش ناوي على أذى. بس بردو، إللي حصل كبير مش هنكر.
مجاهد بصوت حاسم: إيه إللى بتقوله ده، ده كان
ممكن يموته بالرصاصة أفرض ايده اتهزت أو أي حاجة حصلت لا قدر الله، وابني راح فيها.
مكي حاول يهدي الوضع: أنا متفق معاك إن سليم غلط، بس برده عمار غلط، بس والله ما كان قصده يقتله، وخليني أقول إني مش جاي أبرر له، أنا جاي أتكلم عن نفسي فين سلوى؟!
سعدية خلاص، سلوى نازلة.
مجاهد بهدوء: بص يا ابني، إحنا مش ضدك، بس بعد إللي حصل، البت مش عايزة تكمل الجوازة وأنا مش هقف ضدد رغبة بنتي.
مكي بنبرة حادة قليلاً: حتى لو رغبة بنتك مش صح وفيها ظلم كبير ليا.
دخلت سلوى الصالون بهدوء.
سلوى: مساء الخير.
توقف مكي أمامها بصعوبة يخبئ ضيقه: مساء النور أتمنى تكوني هديتي.
سلوى بنبرة باردة: هديت؟ أكيد هديت، بس بعد إللي حصل مع عمار، لو كان عندك أمل، المفروض يكون اتمسح.
مكي بضجر خفيف: ياترى عمار ما قالكيش إن الحراس مسكوني؟ وإن سليم كان هايضربني؟ وإني فضلت أقول لعمار أمشي؟! وهو فضل مصمم هو فيهد إيه ؟!!
شعر بالانزعاج علي صوته قليلا اتحدث ببحة رجولية بقوة وحدة:
في إيه بجد يا جماعة إنتوا هاتتعدوا الأصول والا إيه؟! مين راجل في الدنيا يقبل إن مراته تتاخد غصب عنه من بين إيديه وهو أصلا ماغلطش في حاجة بالعكس مغلوط فيه، معلش يعني هي بنتكم كانت خارجة من غير إذنه، دي كانت هربانة عارف يعني إيه هربانة يا عمي، بمساعدة أختها كمان، عمى إنت راجل أبن بلد وبتفهم في الأصول، وعارف إن لو ست عملت كدة عندكم بتدبح وبيتقال عليها إيه! فاللي سليم عمله ده حاجة بسيطة جداً، يعني سليم ده لو كان دبح مراته ودفنها صاحية ماكانش حد هيلومه أقل كلمة هيقولوها له غسلت عارك، ماهي الست إللي تهرب من ورا جوزها ومن ورا أهلها ومن بيت أهلها ومساعدة اختها كمان، إنت عارف بيتقال عليهم إيه؟!
قلب عينه وتنهد وحاول أن يحافظ على نبرته مرة أخرى لكن تحدث بنبرة صارمة:
ومش هقول تاني هو ماكانش عايز يقتل عمار هو كان بيهوشه عشان يمشي ومايجيش تاني ومع ذلك ده مش موضوعنا أنا جاي هنا أتكلم عن نفسي ولو سمحتي أنا عايز أسمع أسباب للرفض تخصني أنا وبس اتمنى ماسمعش سليم في جملة مفيدة.
سلوى بشدة: وأنا قلتلك أسبابي أنا مش هتجوز واحد موافق وبيبرر الغلط وسمح للي شغال عنده يرفع مسدسه على أهل خطيبته إللي هتبقى مراته.
مكي نظر في ملامحها وكأنه يكشفها قال بهدوء:
سلوى إنتى من قبل موضوع إسماعيل وسليم وإنتِ متغيرة من بعد عيد الميلاد وإنتِ بتبعدي، بلاش بقى جو التمثيل ده وإنك زعلانة إني ماوقفتش معاكم ووقفت لسليم والأسطوانة الحمضانة بتاعتك دي عشان مش داخلة ولا هاتدخل فهاتي من الآخر طالما إنت ست جريئة يعني قوليهالي وإنتي باصة ججو عيني وايا ماسة قالتلك إيه وإنتي سمعتي كلامها؟!
سلوى يبتهكم: ماسة ماقالتليش حاجة، وأنا إللي مش عايزة أكمل، خلاص أنا حرة ماعنديش أسباب يا سيدي.
مكي بنبرة مكسورة: كان نفسي تيجي وتواجهي، مش تحكمي من بعيد بس عموماً، مش هفرض نفسي، رغم إني بحبك. إنتِ إللي بايعاني، مش العكس.
سلوى بحدة: أنا شايفة إنك ماقدرتش توقف سليم، وإنه مش بيحترمك لإن لو بيحترمك ما كانش يعمل إللي عمله ده وإنت ماخترتنيش واخترته، فأنا مش هاختار واحد ماختارنيش.
مكي بوجع: يعني ده القرار الأخير؟
تلتفت سلوى بزاوية أخري: أيوة قرار نهائي.
زم مكي وجهه حاول إخفاء الوجع: تمام يا سلوى،
بس نصيحة أخيرة، بلاش تخلي حد يمشيكي علشان أنا مش شايف شخصيتك أنا شايفك بتنفذي كلام شخص ثاني قاللك أعملي واحد اثنين ثلاثة وانتب بتنفذي، علشان دي مش طريقتك سلام.
سلوى: أستنى، خد حاجاتك.
مكي وهو يعطيها ظهره: أرميها في الزبالة.
خرج بخطوات سريعة، دخل عربيته، خبط على الدريكسيون بغيظ، وهو بيقول بحنق مكتوم
ياخسارة حقيقي خسارة يا سلوى.
في الداخل، جلست سلوى على الأريكة، تحاول تكتم دموعها.
سعدية: ماتفكري يا بت؟ مكي غلبان، مش قادر يعمل حاجة، وسليم ده مفتري.
مجاهد بعقلانية: هي عندها حق، مكي ساب إللي حصل يعدي، ماقالش ولا كلمة ده حتى مارضاش يسيب شغله معاه وحتى لو بنتي غلطت فإللي عمله مع عمار ما يعديش.
سعدية: بس هو بيحبها، يا بت فكري تاني.
سلوى تنهدت: بعد إذنكم، مش عايزة أتكلم دلوقتي.
أنا طالعة أوضتى.
صعد سلوى غرفتها وجلست على الفراش وأخذت تبكي بحرقة: مخترتنيش طبيعي مش هختارك.
فيلا ماسة وسليم السابعة مساءً
عاد سليم من "المجموعة"، وملامحه التي تخفي أكثر مما تُظهر، في المطبخ، كانت سحر تضع اللمسات الأخيرة على العشاء. أما ماسة، فجلست على السفرة تنتظر في صمت، ذراعاها متشابكتان، وعيناها زائغتان في الفراغ.
أقترب منها سليم وهو يخلع ساعته ببطء.
علق بصوت ساخر وهو يراها: كنتي هتاكلي من غيري؟ مش تستنيني؟
لكنها لم ترد.
أضاف بصوت يحمل نبرة لاذعة: المدموزيل متقمصة شخصية الشوكة إللي قدامها؟ والا هي الشوكة نفسها؟ أصل الشوكة شبهك، بتعور، قوية ومفترية.
لم ترد ماسة، لكن إبتسامة خفيفة ظهرت رغماً عنها
قالت بهدوء مشوب بالمرارة: أنا قوية ومفترية؟ أومال إنت إيه؟ ده أنا ضعيفة جداً ياريت كنت قوية.
رد بثقة وهو يرفع حاجبه قليلاً معترضا: إنتي ضعيفة!!!! ماتقوليش على نفسك كده بس، إنتي قوية قال ضعيفة قال؟!
ثم ألتفت نحو سحر وأمرها: بعد كدة ممنوع يتعمل العشا من غيري مفهوم.
هزت سحر رأسها بإيجاب.
نظر لماسـة قائلاً بنبرة ساخرة: هطلع أغير هدومي، ياريت الأستاذة شوكة تستناني.
قلبت وجهها بطفوله وأخرجت لسانها بخفة، ساخرة من تعليقه.
صعد سليم إلى غرفته، فوجد الهاتف على الفراش. أمسكه، وابتسم ابتسامة باهتة: قال لنفسه عنيدة
دخل الحمام، غسّل يديه ووجهه، وأرتدى ملابس البيت ثم نزل مجددًا.
كانت سحر قد بدأت في وضع الطعام.
سألها سليم: سحر مكي قالك هاتي بنت أختك.
سحر وهي تضع الطعام: آه إن شاء الله يا بيه هتيجي بكرة.
تدخلت ماسة وتساءلت: فيه حد جديد هايجي يشتغل.
أجابت سحر: آها بنت أختي وفيّة.
ماسة: اسمها جميل.
علق سليم بنبرة متفائلة: يا رب تكون وفيّة فعلًا زي اسمها.
تحركت سحر وبدأوا بتناول الطعام وبعد ثواني.
نظر سليم إلى ماسة وسألها بنبرة مازحة: العنيدة رجعت التليفون ليه.
أجابت بهدوء دون أن تلتفت إليه: علشان أنا مش تحت مزاجك.
سليم بضيق: هو إيه إللي مش تحت مزاجي يا بنتي أنا بحاول أصلح القرف إللي أنا كنت عامله إنتي بتفكري إزاي؟!
مالت براسها قليلا بدلال لكنه رخم: كده
تحرك سليم بطريقتها: كدة ثم مال برأسه إتجاه آخر ماتخليها كدة.
ماسة وهي تزم شفتيها برفض: أنا حابة إن هي تبقى كدة، أنا حرة بعدين كل المسقعة حلوة.
تناول سليم الطعام وهو يقول: أنا قلت أجيبلك تليفون عشان تكلمي أهلك وتطمني عليهم بحاول أثبت حسن نيتي.
سألته ماسة فجأة: طب ما تخليهم يجوا هنا؟
سليم بإختصار: لا.
ماسة بتعجب وكأنها تستدرجه وهي تاكل: ليه؟!
سليم وهو يتناول الطعام ولا ينظر لها قال بنبرة جافة: أنا حر مش عايزهم يجوا عندي لازم أدي مبرر كفاية اوي تكلميهم في التليفون.
ماسة بإستغراب: ليه؟ مش إنت بتقول إنك اتغيرت؟
والكلام إللي إنت قولته لي إمبارح والنهاردة الصبح ومحتاج فرصة.
سليم هز راسه بإيجاب قال بإنزعاج بنبرة هادئة:
أنا لسة ماتغيرتش بحاول، ماحدش بيتغير في ساعتين، بعدين أنا متضايق ومتعصب منهم جدا خصوصا عمار وسلوى أنا مش ضامن نفسي من إللي ممكن أعمله لو شفتهم قدامي ولا حتى هقبل إن هما يجوا وأنا مش هنا.
هزّت ماسة رأسها ببطء، وملامحها تتقلب بين الألم والقهر.
كان صوتها مكسورًا، يخرج كأنه ينبثق من قلبٍ أنهكه الوجع ومزّقته الخيبات: يعني بتعاقبهم؟ زي مابتعاقبني دلوقتي؟
رفعت عينيها له، والدموع تتساقط منها،وصوتها خرج مهتز وهي تحاول تقاوم:
إنت عارف هم كانوا بيحبوك قد إيه؟ كانوا بيجوا عليّا علشانك ازاي؟! أمي كانت بتكسرني علشانك، أنا اتضربت واتهنت، وكنت كل مرة أقول الحمد لله، كنت وأنا بصلي بحمد ربنا إنك راجل محترم، إنك مش من النوع إللي يذل مراته بأهلها لما يعرف إن هما واقفين معاه ضدها خصوصا بعد
ما ماما رجعتني وقالتلك أضربها وهينها وأعمل فيها إللي إنت عايزه، وعرفت بعدها إن إنت روحتلهم واتخانقت معاهم عشاني دي حاجة أنا ماقدرش أنساها لك، بس بأستغرب من رده فعلك معاهم لإنهم ماذؤكش أنا إللي يمكن أذيتك في المقابل، بتعاقبهم؟! بتعاقب الناس إللي كانت شايفاك ملاك.
كان سليم ينظر إليها في صمت، صدره يعلو ويهبط، وملامحه لا توحي بشيء، سوى صداع خفي يتكون داخله، ويكبر مع كل كلمة تقولها.
سليم متعجباً علق: الغريب انك لسه بدافعي عنهم برغم كل اللى حصلك.
هزت راسها بصوت مكسور: يمكن خذلوني جدا، بس مقدرش أشوفهم بيتأذوا منك وأسكت دول أهلي أبويا وأمي مهما حصل.
تنهد بعمق، ثم وضع الشوكة على الطاولة، وأسند ظهره على ظهر المقعد، محاولًا أن يضبط نبرته:
أنا مش مبسوط إن أهلك بيجوا عليكي عشاني، ولا فرحان إنهم كانوا بيكسروا بنتهم عشاني، حتى لو إنتي غلطانة، أنا عمري ماكنت هسمح لحد يهينك، إنتي عارفة ده.
سكت لحظة، ثم أكمل بصوت منخفض:
بس خليني أقولك، هما كانوا شايفين إنهم بيحموا بيتك، شايفين إنك بتدلعي، وإنك بتكبّري المواضيع. حتى لو أنا تصرفت غلط، زي مثلا ردة فعلك على إللي كنت بعمله معاكي كانت أكبر من أي خطأ.. وصلتك انك تهربي؟ تهربي لكذا مرة؟ ده كان أكبر غلط.
رفعت ماسة نظرها إليه للحظة، ثم خفضته من جديد. بصوت خافت قالت: أنا عارفة، عارفة وجهة نظرهم، وعارفة إني يمكن غلطت وإن بهروبي كنت بدّي إللي عملته حجم أكبر من حجمه، عشان كدة أول مرة اتراجعت، بس هل إنت؟ لما رجعتني هنا، ماعملتش نفس الغلط؟
سليم بنبرة موجوعة: أيوه،أنا كبرت الموضوع، وغلطت، بس يا ماسة، أنا لسة لحد دلوقتي بعتذر، ومستعد لأي حاجة إلا الطلاق، أو إنك تمشي من هنا.، محتاج فرصة.
رفعت الشوكة من الطبق، وقالت وهي تتابع الطعام دون اهتمام: إنت ماتستاهلش فرصة، إنت أخدت فرص كتير.
قاطَعها، وهو يعدّ على أصابعه: قولي لي فين الفرصة إللي ماستحقتهاش؟ أنا عارف إن أول سنين جوازنا كنت مش كويس، وكنت زوج صعب، وإنك اتحملتي كتير، بس في كل مرة كنت بطلب فيها فرصة، كنت بنجح، واتغيرت كتير إنتي عارفة ده.
صمتت، ثم قالت بعد لحظة نظرت له قالت بنبرة هادئه: إنت اتغيرت مستحيل أنكر ده، بس واضح إنه مش كفاية، إللي عملته لما جبتني هنا كان بشع، ولسة لحد دلوقتي مكمل استبدادك، وبتقول مش هايجوا هنا، وكفاية تليفون. مش هتخرجي، ومش هتطلقي، شايف ده طبيعي؟
سليم بنبرة شبه منفعلة: هو لما أحب مراتي وأتمسك بيها أبقى مش طبيعي؟ أنا ممكن أتنازل وأجيبلك أهلك، بس سلوى وعمار لا، أنا مش طايقهم، سلوى كانت المفروض تبقى صوت العقل، تقولك بلاش، تهديكي لكن هي ساعدتك مش بس كده رفضت تقول لي مكانك، وأنا كنت هتجنن، كان ممكن أخسرك بسببها كان ممكن يحصلك حاجة وإنتي لوحدك في بلد بعيدة وغريبة لأول مرة؟! وعمار؟ عمار خدك من بين إيديا، كان عايز يحرمني منك، إزاي عايزني أتقبل ده عادي وأغفر لهم؟!
تنهدت ماسة بتعب قالت بنبرة أكثر ألمًا:
همت بيحبوني، زي ما إنت بتحبني ومستعد تحرق العالم عشاني، هما كانوا عايزين يحموني من آذاك.
سليم بنبرة مهتزة: بس إنتي عارفة إني مستحيل أاذيكي.
ماسة بإنكسار: بس عندك استعداد تأذيهم.
تنهدت وهي تهز رأسها بيأس تابعت:
أنا مش طالبة منك حاجة، غير إن أهلي يجولي. بس كده لو فعلا عايز تبين حسن نيتك يا كلهم يا لا.
رفع حاجبيه مستنكرًا: يعني إنتي شايفة إن ده وقت مساومة؟
ماسة بنبرة حاسمة، صوتها يهتز من القهر: أنا شايفة إن ده وقت بيأكد لي إنك لسة زي ما إنت قاسي، مستبد، ومحب للتملك، وطول ما إنت كدة مش هسامحك، وخلي بالك، كل يوم بتوسع المسافة بيني وبينك بإيدك.
تابعت بحدة لكنها هادئة: مش هقولك تاني أنا مش بس هنا علشان أوجعك، أنا هنا عشان أحمي أهلي منك ومن بطشك، أنا عارفة كويس إنت ممكن تعمل إيه؟! خيالي نفسه مايقدرش يوصل للي ممكن يحصل لو ممشتش على خطاك مش ده كلامك.
حاول سليم أن يتمسك بشيء من الهدوء: بطلي عناد يا ماسة، خلى باباكي ومامتك يجولك، وخلصينا وسلوى وعمار لما أهدى من نحيتهم هشوف، بكرة هبعت أجبلك مجاهد وسعدية.
نظرت له بعند وتصميم: والله العظيم لو جبتهم، ماهنزل من أوضتي.
رد بتنهيدة فيها قهر: إنتي عنيدة.
رمقته بنظرة هادئة، فيها تحدٍ: مش مهم، المهم إني مرتاحة كده يا كلهم يا مش عايزة ونصيحة ماتطلبش فرص طول ما إنت كدة؟!
هز رأسه وقال بإصرار: أنا مش هبطل أطلب الفرصة، كل إنسان يستحق فرصة.
ردت دون تردد: أول ما أحس إن أهلي بأمان منك، وقتها أفكر أديك فرصة، غير كده لأ.
رفع عينيه إليها بنظرة فيها خيبة: أنا مش قادر أوعدك بحاجات معرفش أعملها، بس إللي أقدر أوعدك بيه، إني هحاول اتغير، وأسيطر على غضبي.
نظرت له للحظة طويلة، ثم قالت بحسرة: والله خسارة، أحساس مرعب محطم للقلب، لما توصل الواحدة لمرحلة إنها تخاف على أهلها من جوزها إللي المفروض أمانها، وده إللي بعيشه معاك ده إنت حتى مش قادر توعدني إنك مش هتعملهم حاجة والله خسارة ..
مسحت دموعها بمرارة تنهدت بألم:
على العموم، شكرًا على إللي عملته فوق، كنت محتاجاه.
نهضت من مكانها، وتحركت بإتجاه الدرج.
سليم بصوت منخفض: مش هتكملي أكلك؟
أجابت بهدوء: شبعت، تصبح على خير يا سجاني.
قال من مكانه وهو ينظر أمامه بنبرة موجوعة: اسمي سليم.
ردت دون أن تلتفت: طول ما إنت على حالك، هفضل أقولك سجاني.
جزّ سليم على أسنانه بغضب، ثم فجأة، مدّ يده ودفع بكل ما على المائدة، فتبعثرت الأطباق والكؤوس وسط صخبٍ عبثي يعكس صخبه الداخلي، كان الغيظ يتدفّق في عروقه، لا من الآخرين، بل من نفسه.، من عجزه عن كبح نيرانه، ومن يقينه القاطع بأنه، إن وقف أحد من عائلتها في طريقه، فلن يستطيع أن يعدها بالرحمة.
بينما صعدت هي إلى غرفتها، وجسدها يتثاقل كأن كل كلمة قالتها سحبت جزءًا منها، جلست على الأرض، استندت إلى الباب، واحتضنت ركبتيها بصمت، دموعها أنهمرت بصوت خافت، بكاء مكتوم، لم يكن ضعفًا بقدر ما كان إحتراقًا داخليًّا، كأنها تذوب من الداخل، لكنها لم تصرخ، فقط بكت.
♥️______بقلمي_ليلةعادل_______♥️
مجموعة الراوي، العاشرة صباحاً
مكتب سليم
سليم جالسًا خلف مكتبه، يتحدث مع عزت بهدوء.
دخل مكي فجأة، دون أن يستأذن، فنظر له سليم وقال: تعالى يا مكي
ثم نظر لعزت: خلاص أنا هسافر
عزت: لو مش عايز تسافر أبعت طه.
سليم بثبات: لا، أنا محتاج أسافر، قولّي رشدي قالك إيه؟!
عزت تنهد: أنا عايزك تسيبه، ماتركزش معاه، رشدي هيفضل طول عمره رشدي.
سليم أسند ظهره للخلف وقال بحسم: طب بلغه إنه من النهاردة برة المجموعة، وإن كل أول شهر هايوصل له مصروفه، ولو عايز ييجي ييجي فسحة علشان يطمن على مشروعه الخاص اليتيم إللي ليه فيه نسبة ٤٠٪، غير كده لا.
عزت وهو يهم بالخروج: هبلغه، أنا هروح ألف على المصانع شوية.
خرج عزت بينما تبادل مكي النظرات مع سليم، ثم سأله: ماتخلي أي حد يسافر مكانك؟
سليم بنبرة مرهقة: تؤ، أنا إللي هسافر، محتاج أبعد، محتاج أهدي دماغي، ماسة لسة ماعندة، أنا سألتها، طلعت فعلاً قالت لسلوى تبعد عنك عشان ماتعيش نفس المصير، يعني إنك ممكن تهددها أو تعمل فيها زي ما أنا بعمل.
مكي هز راسه بحسرة أخرج أنفاس ساخنة: الشيء المتوقع، هي قالت، والتانية صدقت وتعاملت على الأساس ده، من غير ماتفكر، أنا روحتلها إمبارح، وللأسف لسة ماعندة، مش عايزة تسمع غير دماغها، بايعة على الآخر.
تنهد سليم قال بعقلانية بنبرة دافئة: بس أنا مش عايزك تيأس، عايزك تجرب تاني.
مكي هز رأسه برفض: مش دلوقتي خالص، لإن أنا متضايق، أنا حتى مش بروّح البيت عشان أمي ماتفضلش تتكلم.
شعر سليم بألم في معدته، وضع يده عليها، فإنتبه مكي: إنت تعبان؟
سليم حاول يخفي الألم: معدتي وجعاني شوية، بقالها فترة كده، اليومين دول زادت.
مكي بقلق: طب ماتكشف.
سليم هز راسه بإيجاب وهو يحاول تحمل الالم: أنا هكلم الدكتور،وأخد معاد. بقول لك إيه، أنا هروح البيت أجهز شنطتي، عشان هسافر، إنت هتفضل هنا مع ماسة، عشري هييجي معايا يلا خلينا نمشى.
وبالفعل تحرك سليم مع مكي للأسفل حتى السيارات، وأنطلق إلى الفيلا.
فيلا ماسة وسليم الحادية عشر صباحاً.
كانت ماسة قد استيقظت للتو، هبطت للأسفل، أعدت فطورها، وجلست في الحديقة تحتسي النسكافيه بصمت.
فور أن وصل سليم إلى الفيلا وهبط من السيارة، توقف أمام عشري وقال
سليم بهدوء: عشري هتروح تجيب مجاهد وسعدية، بس، مفهوم؟ وأي حد تاني يقولك عايز ييجي، تقول له سليم بيه مأمرش بكده، بدل مايلغي المقابلة كلها، وتبقى حاسم معاهم.
عشري بثقة: أمرك يا ملك
أنطلق عشري، بينما مكي وقف جنب سليم:
حلوة الخطوة دي، بس ليه مش عايز إخواتها ييجوا؟
سليم تنفس بصعوبة، كأنه بيكتم بركان:
أنا متعصب منهم، لو شفتهم قدامي، مش عارف هعمل إيه؟! لسة مش قادر أسامح سلوى إنها ساعدت ماسة تهرب، ومارضيتش تقول لي مكانها، والتاني تحداني، كان عايز ياخدها مني، وأنا إيش ضامني لو جه هنا وأنا مش موجود، مايحاولش ياخدها؟ وساعتها أنا مدي أوامر للحراس، لو حد فكر يساعد ماسة من غير تفكير، رصاصة في نص دماغه.
مكي حاول يهدّيه وهو يشير بأيده:، طب إهدى
تابع سليم على ذات النبرة المنفعلة: ولو جه وأنا موجود والموقف اياه اتكرر، أنا ممكن أعمل نفس الغلطة، لسة ما عنديش ثبات إنفعالي في الموضوع ده.
مكي هز راسه: طيب إهدى، أنا هبقى موجود بوعدك إللي حصل المرة إللي فاتت مش هايتكرر.
نظر له سليم بحدة: إنت مابتعملش حاجة، بتفضل حاطط في اعتبارك إنهم أهل سلوى. قلتلك عمار وسلوى لأ، ماتضايقنيش بقى.
وضع يده على بطنه مرة أخرى، ثم تحسس قدمه.
انتبه مكي قال بقلق: أنا هتصل أحجزلك عند دكتور وفيق، عشان موضوع رجلك ومعدتك، ده ممكن يكون من أثر الرصاصة.
سليم بإقتناع: ماشي خليها بعد بكرة.
ثم تحرك سليم بينما قال مكي بصوت عالي: أهدَى يا سليم. أهدَى.
نظر له سليم، وهز رأسه بإيجاب، ثم دخل إلى الداخل، صعد للدور الثاني، فتح غرفة ماسة، لكنها لم تكن بها. عبس وجهه، ثم هبط للأسفل، وتوجّه إلى المطبخ.
المطبخ
كانت تتوقف سحر تقوم بغسل بعض الصحون بينما تجلس الخادمة الجديدة وفية تبلغ ١٨ سنة، ملامحها عادية. وهي تقوم بقطف الملوخية على الطاوله.
فور أن رآها قال: سحر، ماسة هانم فين؟
سحر: في الجنينة.
وقعت عين سليم على الفتاة، قال: بنت أخوكي؟
سحر: بنت أختي.
سليم قال بنبرة صارمة: قلتلها القوانين؟
سحر: قلتلها على كل حاجة.
سليم سأل: ماسة هانم شافتها؟
سحر: لأ، هي يدوبك فطرت في الأوضة، ودخلت على الجنينة على طول.
سليم هز راسه بإيجاب: طب من فضلك أطلعي حضريلي شنطة هدومي علشان مسافر، طقم واحد، أنا هرجع بكرة بالليل، حاجة للنوم وبدلة؟ خديها معاكي علشان تعرفيها نظامي.
قال كلماته تلك وتحرك للخارج
فور خروجه نظرت وفية لسحر وقالت: ده شكله رخم اوي يا خالتي.
سحر بهدوء: سليم بيه طيب جدًا، بس هو عصبي شوية، بس هتلاقي في حاجة مضايقاه، ومراته أطيب وأطيب، هما الفترة دي كده، ربنا يصلح لهم الحال يلا تعالي معايا.
الحديقة.
خرج سليم إلى الحديقة، يسير بخطى متثاقلة يتبعها صمتٌ ثقيل.
كانت ماسة تجلس هناك، على المقعد الخشبي تحت ظل الياسمينة، تحتسي النسكافيه بصمتٍ شارد، وعيناها معلّقتان بنقطةٍ ما في الفراغ، كأنها تحاور نفسها، كانت تفكر بما حدث في الليلة الماضية، هل ظلمته حين أغلقت الأبواب في وجهه، حين رفضت أن تمنحه فرصة؟
أم أنه هو من جرحها، حين لم يستطع أن يمنحها وعدًا، وعدًا صغيرًا فقط، بأنه لن يمسّ عائلتها، مهما بلغ غضبه؟
أيّهما كان على صواب؟ وأيّهما ازداد الآخر وجعًا؟
أسئلة كانت تنهش قلبها، تمامًا كما كان الغضب ينهش قلبه.
اقترب سليم توقف بجانبها قال بنبرة ناعمه: مساء الخير
رفعت حاجبيها، دون رد.
قال بنبرة ساخطة: مش هتبطلي بقى الأسلوب السخيف ده؟
لكنها لم ترد.
زفر بإختناق قال بهدوء: أنا بعت عشري يجيبلك سعدية ومجاهد، أنا مسافر وراجع بكرة بالليل هيقعدوا معاكي ساعتين ثلاثة كده، وأتمنى إنك ماتعمليش حاجة تخليني أندم على الخطوة دي، أنا مش هبقى موجود، صح، بس مكي معاكي، والحراس واخدين أوامر يوقفوا بيها أي مهزلة ممكن تحصل وهنا.
لم تعد قادرة على الصمت، حديثه أغضبها، فهو يهددها مجددًا، للمرة التي لم تعد تحصيها، رغم أنه بالأمس فقط كان يطلب فرصة، واليوم... كأنه شخص آخر تمامًا.
توقفت ماسة، رمقته بنظرة سريعة من أعلى إلى أسفل، ثم قالت بمرارة:
إنت مبهر يا أخي، أنا لو في دماغي أو قلبي في ذرة مسامحة ليك، إنت بتمسحها بأستيكة، إللي يشوفك إمبارح وإنت عمال تعيط، وتمسكني مسدس، تطلب السماح وفرصة، وتحسسني إن أنا إللي جبّارة، أنا إللي ماستاهلش حبك ولا مغفرتك، لكن إللي يشوفك دلوقتي وإنت بتحط قوانينك، وكلامك إللي متلون بالتهديد، يقول إنت واحد تاني، مش بقولك إنت مريض؟ إنت إنسان مريض، يعني إيه حراسك واخدين أوامر؟ يعني لو بابا مثلًا خدني من إيدي وشدّني وعمل إللي عمله عمار، خنازيرك الأوفياء يضربوه بالرصاص؟ مش ده كده!
سليم ببرود: هو ده إللي عندي، يا ماسة، قلتلك أنا عندي استعداد...
قاطعت جملته وأكملتها بطريقته: تحرق الدنيا كلها، ولا إن أبعد عنك...
تنهدت بيأس نظرت أمامها وكأنها قبلت شروطه:
ماتقلقيش، مش هعمل حاجة..
نظرت له مرة أخرى تساءلت بأستغراب:
وبعدين، إنت ليه ماجبتش عمار وسلوى ويوسف.
سليم بحسم: يوسف؟ هفكر، لكن سلوى وعمار، أنسيهم. قلتلك، لحد ماهدى منهم، عمار ممكن يعمل أي حاجة تنرفزني، سواء كنت موجود أو مش موجود مش هيدخلوا هنا.
ماسة بعينين مترقرقة بالدموع:
مش بقولك؟ إنت بتندمني على أي لحظة فكرت فيها أسامحك، مش قولتك قبل كدة: إنت مبدع، هتعرف تخليني أكرهك، وأنا بقيت فعلاً بكرهك، وبكره قلبي إللي حبك،
صمت للحظه وهي تمرر عينيها عليه قالت بخذلان:
إنت من إمتى بقيت كده؟ إمتى هتشفق عليا؟ كام مرة ناوي تقتلني بطريقتك دي؟ هو انت معندكش ضمير؟ عمرك فكرت إن قراراتك وشروطك وطريقتك بتوجعني؟ بتأذيني؟
مافكرتش ولو مرة، إزاي بيجيلك قلب تقولّي الكلام ده وانت باصص جوه عنينا ؟! وبتطلب مني أقبل وأسكت؟ إزاي مصدق نفسك؟ إنت ليه مصمم تشوه صورتك وتكسرني وتوجعني أكتر؟
مسحت دموعها بوجع قالت بحسم:
أنا مش عايزة منك حاجة، عايزاك تبعد عني، وعن أهلي، وسيبنا في حالنا، وبطل تمثّل إنك طيب، عشان إنت مش طيب، إنت مش عايز تتنازل، ومش هتعمل غير إللي إنت عايزه وتمشينا جوه مسارك وبس.
نظر لها سليم قال مفسرا: إنتي ليه واخداها تهديد؟! ليه متاخديهاش إنه تحذير أو توضيح بفهمك ماسة، مش هقولك تاني، باباكي ومامتك هاييجوا، تقابليهم وتقعدي معاهم براحتك، بس ماتعمليش حاجة تخليني أندم، أما عمار وسلوى ممنوع يدخلو من بوابة الفيلا يوسف لما أفكر هقرر وقولك.
جزت ماسة على اسنانها قالت بحسم:
وأنا مش هقولك تاني، ماتجيبهمش، عشان أنا مابأمنش عليهم في البيت ده وفي وجودك، ده قرار نهائي مش هخليك تمشيني على مسارك تاني ياسجاني.
رفع سليم حاجبه بغضب مكتوم: قرار نهائي يعني
نظرت ماسة داخل عينع بحسم: أيوه، قرار نهائي.
سليم بضجر: كدة تمام رفع هاتفه، وقال بهدوء قاتل وهو ينظر داخل عينيها: عشري، وصلت؟
رد عشري: لسة يا ملك، قربت.
سليم بحسم: لف وأرجع
أغلق الخط نظر سليم لماسة قائلا: أنا كده عملت إللي عليا عموما العرض بتاعي مستمر بلا نهاية بس القواعد والشروط مش هاتنازل عنها حتى التليفون أنا حطيته ليكي في الكومود في أوضتي والخيار خيارك.
نظرت له ماسة وهي تنهار لكن نبرتها هادية: وسع المسافة، وسعها براحتك، إنت كل مرة بتثبتلي إنك ماتستحقش المسامحة.
جلست ماسة بصمت، تحاول أن تتمالك دموعها، فيما كان قلبها يحترق كقطعةٍ من الجمر، يتلوّى تحت وطأة الوجع، وبرغم كل ما حدث، لا تزال تحاول منحه فرصة لكنها، في كل مرة، تندم.
ظلّ سليم يحدّق فيها طويلاً، وصراعٌ داخليّ يعصف به.
يعلم جيدًا أنه أخطأ، بل لا ينكر ذلك، لكن الخوف ينهشه من الداخل؛ خوفه من نفسه، ومن عائلتها، لا سيما عمار، الذي يشعر حياله بتهديد حقيقي، وحق له ذلك، فذلك التهديد قادم لا محالة.
لم يكن الأمر عنده كبرياءً، ولا رغبة في فرض السيطرة، بل كان خوفًا خوف من فقدانها، من أن تُنتزع منه مجددًا، من أن تعبث العائلة بعقلها كما في السابق، فتعود للهروب، هو يرى أن ما يفعله حماية، وكلّه نابع من عشقه، عشقه المجنون.
لكن ماسة، لم ترَ في عينيه ذلك، بل رأت رجلاً يلوّح بالتهديد، يفرض شروطًا، ولا يمنح الأمان.
وهي الآن، في مرحلة لم تعد تسمح لها لا بالتحليل، ولا بالتنازل، هي تخافه، نعم، تخافه حقًا، لأنه حتى هذه اللحظة، لم يمنحها الأمان الذي ترجوه.
وفي النهاية، لا يمكن لوم أحدهما دون الآخر... فهما معًا أضاعا الطريق.
عاد سليم إلى حيث كان مكي وعشري واقفَين قرب السيارة، وكانت سحر قد أنزلت الحقيبة
اقترب أحد الحراس ووضع حقيبته في صندوق السيارة الخلفي، بينما ظلّ هو واقفًا، يحدّق في الفراغ لا يعلم إن كان يغادر فعلاً، أم يفرّ من وجعه، بعد ثواني تنهد وقال
سليم بنبرة حاسمة: عشري، إنت هاتيجي معايا.
عشري: أمرك يا ملك، طب ممكن تديني دقيقة أجيبلي طقم من الاستراحة؟
سليم: أنجز بس.
سأل مكي متعجباً: هو إنت مش قلت إن عشري راح يجيب مجاهد وسعدية؟
سليم تنهد بتعب: ماسة مش عايزة تشوفهم غير بوجود عمار وسلوى، وأظن إني فهمتك وجهة نظري
مكي بضيق: تفكيرك غلط، إزاي عايز تصلح العلاقة ما بينكم وبتعتذر، ولسة مصر أنك تمشي في طريق كله شوك وتفرض شروط، وعمال توسع المسافة بينكم؟
سليم بضجر من حاله: أنا مش عارف أسيطر على غضبي: أنا لا بثق فيها، ولا فيهم، وبالأخص عمار، وبعدين، هي حلفت إنها مش هتقابلهم، يعني هي كمان بتعاند رغم إني فهمتها قلت لها يا ماسة الفترة دي متعصب منهم بس هي معاندى وبس مش عايزة تتنازل ولا تفهمني طب متقبل دلوقت بمجاهد وسعدية ايه مشكلة؟!
مكي أنفعل: أنا عايز أفهم، هي بتعاندك على أساس إيه؟ سليم، بص، إنت غلطان، وأنا بقولك إنك غلطان. بس إنت عندك مبرر، هي بقى؟ ماعندهاش، ولا هنفضل نحلل موقفها ونلتمس لها الأعذار، هي برضه لازم تفهم إن أي راجل حر طبيعي كان ممكن يعمل إللي إنت عملته، وأكتر كمان.
نظر له سليم باستغراب: مالك متعصب كده ليه؟
مكي أنفجر: مش قادر أستوعبها! إنت اعتذرت، ولسة مصممة. إنت غلطت؟ تمام. أعترفت بغلطك؟ تمام. طب مش المفروض هي كمان تعترف بغلطها وتقول كانت بتعمل كده ليه؟ وننهي بقى المسرحيه الرخيصة دي، لكن لأ، هي عنيدة، عنيدة زي أختها. الأتنين دول خدوا وش، خدوا حب بزيادة، ففرضوا نفسهم بزيادة.
سليم بنبرة هادية: أنا عارف إنت بتتكلم كدة عشان منزعج، ومتعصب. وكانت السبب...
قاطعه مكي: لو ماسة سبب، فسلوى سبب أكبر. سمعت كلامها من غير تفكير. مش هقول لك الجملة دي تاني، أنا زعلان عليك، حاسس إنك بتحب حد مايستاهلش.
سليم نظر له وقلب عينه، وقال: مكي، قفل على الموضوع ده قلتلك ماسة خط أحمر، علشان مانخسرش بعض أنا وهي غلطانين وأنا الأكتر علشان أنا الراجل أنت لسه قايل ماينفعش أفرض شروط قفل على الموضوع ده.