
رواية أسد مشكى الفصل الاربعون 40 بقلم رحمة نبيل
|السادس عشر من محرم |
صلوا على نبي الرحمة .
توقفت الأصوات في القاعة بالكامل وتحولت الأنظار كلها صوب البوابة التي فُتحت لتظهر خلفها جسد المعتصم الذي بدا كما لو أنه يجهز نفسه للأنقضاض على ضحيته .
ومنذ وطأ القاعة لم تتحرك عيونه لأحدهم، ولأول مرة لم يرحب بمن حوله ولم يتحدث بكلمة، فقط تحرك وعيونه مثبتة على جسد واحد فقط، يبتسم بسمة غريبة لا تليق بما يجب أن يشعر به في هذه اللحظة .
كانت عيونه لا تتحرك عن إلياس الذي شعر في هذه اللحظة بأن كامل حياته انتهت عند هذه النقطة، ابتلع ريقه وهو يتراجع للخلف يراقب عيون المعتصم الذي لم ينزع عيونه عنه لثانية فقط ويده تتحرك بهدوء شديد يتحسس سيفه .
عيون حمراء.
عروق بارزة .
هيئة رثة .
شعر مبعثر.
ملامح جامدة وجسد مشدود .
إشارات كثيرة واضحة ترسل للأعمى تحذيرات متتالية بتجنب المعتصم في هذه اللحظة وتجنب الإحتكاك به .
ولم يكد يتقدم خطوة إضافية صوب هدفه حتى تجمد جسده فجأة وتلاشى كل ما سبق ذكره، لتلين ملامح المعتصم بسرعة مرعبة وتعلو نظرة حنونه رقيقة وجهه حينما سمع صوتًا اشتاقه بجنون وهو يهمس بلهجة وكلمة كادت روحه تخرج من جسده مطالبة سماعها ولو في أحلامه حتى .
_ يا المعتصم...
استدار المعتصم صوب فاطمة والتي كانت تختبئ منذ ثواني بين أحضان زمرد وكهرمان، لكن بمجرد أن ابصرته، حتى تحررت من خوفها وهرولت صوبه تتلمس به ملاذها الأمن :
_ يا المعتصم أنت هنا ؟!
ابتسم المعتصم بحنان يتلقفها بسرعة بين أحضانه وقد بدأت يديه ترتجفان وهو يجذبها لصدره وكأنه لا يصدق أنه يلمسها مجددًا بعد كل هذه الأيام.
_ يا قلب المعتصم أنتِ فاطم .
كان يهمس لها بكلماته وهو يضمها يميل برأسه قرب أذنها يتنفس بصوت واضح وهو يتحدث بكلمات متقطعة :
_ فاطم...صغيرتي... كدت... أموت شوقًا ورعبًا عليكِ حبيبتي، يا ويلي اشعر أنني...للتو فقط تنفست فاطمة.
ضمت فاطمة نفسها له وهي تهمس اسمه ببسمة سعيدة لعودتها له وكأنها نست كل ما مرت به فجأة حينما ابصرته أمامها :
_ يا المعتصم أنا.... أنا كنت ... يا المعتصم
فجأة انفجرت في موجة بكاء حارة دون مقدمات بعدما كانت تبتسم منذ ثواني له، تهتف بكلمات متقطعة من بين دموعها وكأنها لا تصدق أنها الآن في ملجئها الأمن، تصف له كل ما مرت به الأيام السابقة بكلمات شبه متقطعة بسبب البكاء:
_ لقد .... كنت في السيارة وهناك قطعة قماشية في فمي ولم استطع الصراخ أو حتى التنفس و....لقد ...ضربني يا المعتصم حينما أخبرته أنني أريد رؤيتك ...لقد ....اخرجني من هنا أرجوك، أريد العودة للمنزل معك يا المعتصم لا تتركني هنا أرجوك أخرجني الآن.
ختمت حديثها بوجه اشتد احمراره بسبب شدة البكاء وقد فشلت عن التنفس بسبب حدة الشهقات، ليبعدها عنه المعتصم وهو يحاول أن يساعدها في التنفس بشكل طبيعي :
- حسنًا أنا هنا فاطمة....حبيبتي انتهى كل هذا ...هيا انظري إلي، لن أرحل دونك أبدًا، سوف نعود سويًا للمنزل حيث ينتظرك الجميع، كل من يحبك ينتظرك هناك عزيزتي .
رفعت فاطمة عيونها الباكية له، ولم تكد تتحدث بكلمة واحدة ليقاطعها المعتصم بجدية :
_ هل يمكنك الذهاب مع الملكة الآن ريثما أودع الملك إيفان والحق بكِ ؟؟
تمسكت فاطمة بثوبه، وهي تبكي بانهيار ترفض وهي تهز رأسها نافية رغبتها في الابتعاد عنه ولو خطوة مرتعبة أن يتكرر ما حدث ويبعدها أحدهم قسرًا عنه .
_ لا أرجوك لا تفعل، لا تتركني مجددًا يا المعتصم هو سـ...
_ فاطمة أرجوكِ اسمعيني، لن يحدث شيئًا، فقط سأتحدث للملك ونرحل سويًا لمشكى حسنًا حبيبتي ؟؟
همست بضعف وهي تتوسله خائفة من أن يكون كل هذا مجرد وهم من عقلها الباطن وقد عادت لعادتها القديمة لتنكر حاضرها..
باحت بخوفها له وهي تهمس بصوت منخفض ...
_ اخشى.... أن....تبتعد ..فأدرك أنك مجرد وهم ...المعتصم ارجوك.
ربت عليها المعتصم ومال يهمس لها كلمات قليلة لطيفة وهو يربت على ظهرها بحنان وكم اوجعه خوفها من عقلها وما يريها إياه حينما تشتد بها العواصف:
_ بروحي أن يمسك سوء مرة أخرى فاطم، مرة ولن تتكرر، صدقيني لن تتكرر عزيزتي .
ضم وجهها بلطف بين كفيه، ومن ثم أشار لكهرمان يطلب مساعدتها بصمت، لتتحرك كهرمان تمسك مرفق فاطمة تردد بحنان:
_ فاطمة أرجوكِ .
ولم تحتاج فاطمة للمزيد من الكلمات لترضخ لكلمات المعتصم وتتحرك مع كهرمان للخارج والمعتصم يراقبها بهدوء حتى شعر بها وقد ابتعدت، ثم عاد بنظراته صوب الجميع، يحركها بينهم حتى استقر على إلياس وهنا بدأت شياطين المعتصم تطفو على السطح وتعلن عن وجودها أمام الجميع.....
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ساعات بعدما تلقى خطاب من بارق حتى وصل لسبز كي يتجهز للحرب القادمة، ورغم أن بلاده لم تنهض بعد من نكبتها الأخيرة إلا أنه اقسم أنه لن يهنأ له بال ويمس حجر واحد من بلاده حتى يبيدهم عن بكرة أبيهم ..
دخل برجاله لقلعة سبز وهو يبصر بقايا ما حدث الليلة السابقة يظهر على الوجوه حوله وأعداد الأشخاص المتوجهين للمشفى .
هبط يقابل بارق الذي كان ينتظره في منتصف الساحة يرحب به بين أحضانه:
_ عساك بخير آزر .
ابتعد آزار عن أحضان بارق بعدما ربت عليه يردد بملامح واجمة :
- ليس قبل أن انتهي من كل هذا، لم يصل أحد ؟!
نفى بارق رأسه وهو يبتلع ريقه يحاول الحديث مستغلًا تأخر الباقيين :
_ لا ليس بعد، لكن ....هو ... آزار ريثما يصل الآخرين، تعال لـ .
نظر له آزار بعدم فهم منتظرًا أن يكمل حديثه :
_ آتي لماذا بارق ؟؟ كل شيء بخير صحيح ؟!
مسح بارق وجهه وهو يتذكر حالة نزار التي ساءت فجاة وهو يصرخ ويبكي في غفوته ويهزي بكلمات غير مفهومة قبل أن يسقط مجددًا في غيبوته .
_ أنه...
تنفس بارق بصوت مرتفع وهو يرفع كفه في وجه آزار بهدف أن يهدئه قبل حتى تحدثه بما يريد، وازار فقط يراقب كفه ينتظر أن يتحدث وقد بدأ القلق يتسرب لصدره اكثر وأكثر.
_ أنت لا تساهم في تهدئتي بارق لا تثر جنوني أنت الآخر، والله لا ينقصني شيء لقد فاض الكيل و.....
_ إنه نزار .
توقف آزار عن الحديث فجأة بصدمة وهو ينظر لوجه بارق بعدم إدراك :
_ نزار ؟! مابه ولدي بارق هل وصلتك رسالة منه ؟!
نفى بارق برأسه وهو يحاول الحديث ليجن جنون آزار وقد فاض كيله يصيح بصوت جهوري مرتعب :
_ بارق ما بك لا تثر جنوني اقسم بالله العلي العظيم أنني الآن على استعداد للذهاب وتناوله لذلك الوسخ الذي كنت تأويه أسفل قصر حيًا، والله اقطعن لحمه واكله باسناني لو مس ولدي بســ.....
_ نزار ...هو هنا...لقد ...هرب من الجحر وجاء للقصر .
شحب وجه آزار وهو ينظر لبارق وكأنه ينتظر أن يكمل كلماته التي تركته معلقًا بين الصمود والانهيار.
وبارق أشفق عليه وعلى نفسه من تحمل توابع ما سيقول، ليمسك بيده يجذبه خلفه وازار سار دون كلمة واحدة وكأن صمته وهدوءه في تقبل ما يريد بارق سيضمن له سلامة ولده .
أما عن بارق جذبه بهدوء صوب الغرفة التي يقبع بها نزار وهو يتنفس بهدوء يحاول أن يمرر ما يحدث ليهونها على رفيقه .
وحينما وصل لباب الغرفة والذي كان مفتوحًا، ابصر آزار جسد توبة التي انكمشت على نفسها في أحد أركان الغرفة تدفن رأسها بين قدميها باكية دون أن تعي بمن حولها .
نظر لها آزار بفزع وهو يجذب يده من بين كف بارق:
_ توبة ؟! ما بكِ يا ابنتي هل أنتِ بخير ؟!
ازدادت شهقات توبة بقوة ليحرك آزار رأسه بهدوء صوب بارق يتحدث وهو يشير له صوب ابنته المنهارة دون أن يهرول لمعرفة السبب، لكن أثناء تحركه بعيونه صوب بارق ابصر جسدًا بعلو الفراش الذي يتوسط الغرفة، جسد لا يمكن أن يخطأه بأي شكل من الأشكال .
نظر صوب بارق بصدمة، ومن ثم عاد بعيونه صوب ولده الذي يتوسط الفراش بملامح مدمرة وجسد لا يظهر لكثرة جروحه، تحرك صوبه بأقدام مرتجفة يهمس بصوت خرج مختنق :
_ بني ؟؟؟
اقترب منه بخطوات مرتجفة وهو لا يشعر بمن حوله، يطيل النظر بوجهه يبحث بين كل تلك الجراح عن ولده العزيز، لكن كل ما حصل عليه هو بقايا جسد طفله الصغير .
_ نزار ؟؟؟ نزار يا قلب ابيك من ....متى حدث ....كيف يا بارق ...كيف وماذا ...
كان يتحدث بعجز وهو يتحسس وجه نزار وقد بدأ جسده يرتجف كما يديه يشعر بالصدمة وقد تملكت منه، وبارق يدرك أنه ما يزال في صدمته وحينما يستفيق سيحطم البلاد فوق رؤوسهم .
جلس ارضًا على ركبتيه أمام الفراش يهمس بكلمات غير مسموعة سوى لطفله، قبل أن تتجمد يده ويستدير صوب بارق باعين مرعبة :
_ بارق ما الذي حدث لولدي ؟؟ كيف وصل هنا وهو بهذا الـ ....
صمت بعجز عن إيجاد كلمات تعبر عن حسرته وقهره الذي يحياه في هذه الحياة، نهض يتحرك صوب بارق وهو ما يزال يردد الكلمات بوجع كبير وبارق يقف في منتصف الغرفة بأعين حمراء مستسلم لهزات آزار له وهو يصرخ بوجع من الوضع الذي يرى به ولده :
_ ما الذي حدث له بارق ؟؟ ما به ولدي ... إنه...كالجــ ... لا يسمعني حتى ؟!
ارتفعت اصوات بكاء توبة في المكان ليلتفت لها آزار وكأنه استوعب فجاة وجودها في المكان ينظر لها ثواني وهو ما يزال يتنفس بصوت مرتفع قبل أن يترك مرفق بارق ويهرول صوبها بلهفة يجلس على عقبيه أمامها مرددًا بصوت شبه باكٍ :
_ توبةيا ابنتي ما به نزار ؟؟ أخبريني ما به ؟؟ أرجوكِ تحدثي، ليفعل أحدكــــــم قبل أن يجن جنوني ..
رفعت عيونها له وهي تتحدث بصعوبة من بين دموعها:
_ لا....لا أعلم لقد ...جاء مع المصابين منذ ساعات في حالة سيئة وقد اخبرني الجنود أنهم وجدوا جسده منهار على مقربة من بوابة القلعة وكأن احدهم ألقاه وهرب، و..منذ ذلك الحين لا يستجيب لأحد و...
صمتت تبتلع ريقها ليحثها هو بعيونه أن تكمل كلماتها، وفعلت وهي تنظر صوب جسد نزار تهمس دون ادراك لما يحدث حتى :
_ ومنذ ذلك الحين لا يفعل سوى أنه يستيقظ يصرخ باسم ومن ثم يعود لغيبوبته .
_ يصرخ باسم ؟؟ اسم من ؟؟
سقطت دموعها وهي تهمس بصوت مرتجف :
_ الـــ.....الوليد .
شحب وجه آزار وهو يتراجع للخلف ينظر صوب ولده مرددًا الاسم بخفوت وقد شعر بقلبه يكاد يتوقف من صدمة ما وصل له تفكيره :
_ الوليد هو من فعل هذا بولدي ؟!
ومن بعد هذه الكلمات لم يبصر آزار أمامه سوى ماضي بعيد حين جاءه ولده يومًا مع فتى يكبره في العمر وهو يخبره بسعادة أنه وجد رفيقه الأقرب..
" هذا الوليد يا أبي...صديقي الجديد، لقد ساعدني في الخارج اليوم، هيا يا الوليد سلم على أبي."
رفع آزار عيونه صوب الوليد يحدق فيه بدقة قبل أن يبتسم له بحنان يربت على كتفه بلطف يميل كي يصل لطوله :
" مرحبًا يا الوليد، شكرًا لمساعدتك طفلي بني "
والوليد فقط حدق فيه طويلًا دون ردة فعل لثواني قبل أن يبتسم بسمة صغيرة ويهز له رأسه بلا حديث .
تعجب منه آزار ونظر صوب نزار الذي همس بحماس :
" هو لطيف، لكنه خجول صحيح يا الوليد ؟!"
ختم كلماته وهو يرفع قبضته للوليد يحييه بها لينظر الوليد ثواني صوب قبضته تلين نظراته بحنان، يرفع يده يضربها بيد نزار يتحدث بلطف :
" صحيح يا أخي.."
ومن ثم أبصر نزار يجذب الوليد من يده خلفه وهو يصيح بكلمات حماسية حول الوقت الذي سيقضيانه سويًا، والوليد فقط تحرك خلف نزار ببسمة واسعة عكس تلك المقتضبة التي كان يوجهها له منذ ثواني .
سنوات مرت وأيام ولم يفترق ولده عن الوليد، بل زادت علاقتهما، وقد تقدم الوليد للجيش بطلب من نزار الذي أحب لرفيقه أن يكون معه بنفس المكان، والوليد لم يفكر ثانية وهو يتقدم لجيش آبى يثبت كفاءته ويزداد اقترابًا من ولده، وقد شعر آزار أنه خلال هذه الفترة كان الوليد يعمل حارسًا لولده أكثر من كونه جنديًا في الجيش، قبل أن يكتشف خيانته ...
انتفض جسد آزار من افكاره البعيدة على صوت بكاء وصراخ بدأ يشتد من جهة ولده، نظر صوب الفراش ليبصر ارتجاف جسد نزار بنفس الحالة التي وصفتها له توبة، هرول صوبه وهو يجذبه لاحضانه باكيًا يحاول احتواء ارتجاف جسد ولده الذي كان يبكي مرددًا اسم الوليد بلا توقف ...
_ ما الذي حدث لك يا بني، ما الذي فعله بك الوليد، ماذا فعل بك ؟؟؟
لكن نزار لم يكن يعي ما يقال أو يحدث، فقط استكان في أحضان والده وهو يتنفس بصعوبة ومازالت اللحظات الأخيرة لأخيه تعاد أمام عيونه، لفظه أنفاسه الأخيرة بين يديه، نظراته الشاخصة وهو يُجذب بعيدًا عنه .
_ أخي.....يا الوليد .
ـــــــــــــــــــ
_ أرسلان هذا لن ....
_ رجاءً سلمى فقط افعلي ما أريده دون جدال، انهضي وساعديني لنحضرك، سوف نتحرك بعد دقائق قليلة .
امسكت يده قبل حملها وهي تهتف بصوت خافت متوسل :
_ أرسلان ارجوك هذا لن يفلح، وجودي معك ما هو إلا تشتيت لك وأنا الآن لن أكون سوى حملًا عليك صدقني .
_ وجودك بعيدًا عن عيوني سيكون حملًا اكبر من وجودك معي، هذا إذا صنفنا وجودك حملًا من الأساس، فأنا آخذك معي حاجة لي قبل أن تكون لكِ .
ختم حديثه وهو يميل لحمل جسدها بين يديه يتحرك بها صوب المرحاض بعدما جهزه لها، وهي تنظر له بشرود تتحدث بصوت مشفق عليه من مشقة حمل همها طوال رحلة المفترض أن يعطي لها كامل تركيزه .
_ يمكنك أن تذهب ولا تقلق اقسم أنني سأكون بخير، سيهتم بي خالد .
توقفت أقدام أرسلان في المرحاض وهو يضعها برفق يساعدها في فك خصلاتها وهو يتحدث بجدية دون حتى أن ينظر لها :
- حينما تفقدينني بالكامل، يمكنك وقتها أن تعتمدي على رجل غيري سلمي.
اتسعت عيون سلمى من كلماته تمسك كفه وهي تقبله دون شعور :
_ لا تقل هذا أرسلان، ادامك الله في حياتي، أنا فقط لا أريد أن....
تنفس يمنعها عن الحديث :
- سلمى انتهينا، لن أتركك وحدك هنا في البلاد، لن آمن على تركك بعيدة عن عيوني، ولن ارتاح لأعتناء غيري بكِ .
ختم حديثه وهو يميل لتحسس المياه، ومن ثم اعتدل لها ينظر لها بحيرة، قبل أن يمسك كفها بحنان شديد يرفعه له لتبتسم وهي تنظر له بحنان تستعد لاستقبال قبلاته الرقيقة على باطن كفها، لكن أيا ليت جميع الأماني تتحقق....
حمل كفها يرفع له يتأكد أن لا جروح به قبل أن يغمسه في المياه الدافئة جوارها وهو ينظر لعيونها بانتباه :
_ درجة حرارة المياه مناسبة لكِ صحيح ؟!
حركت سلمى عيونها بين يدها المغمورة في المياه وبين نظراته الجادة تنتظر أن يضحك، ومن ثم ينتشل كفها ويقبله كما حلمت منذ ثواني .
_ ماذا ؟!
_ ماذا ماذا ؟! المياه حبيبتي هي لطيفة هكذا ؟! أنا في العادة احبها أشد سخونة لكنني خشيت أن يتحسس جسدك من المياه الحارة أو تتأذى جروح قدمك، إن لم تكن مناسبة أزيد من برودتها لكِ .
ابتسمت بعدم تصديق وهي ترفع كفها الحر تضم به وجنته بحنان جعله يبتسم لها بلطف، ومن ثم ربتت عليه :
_ لا أرسلان لا اريدها أشد برودة، يكفيني أنت عزيزي، دع لي شيئًا دافئ في حياتي حتى وإن كان المياه التي سأستحم بها .
هز أرسلان رأسه لثواني دون أن يستوعب ما قالت، يمسك كفها الذي يضم وجهه يقبل باطنه دون شعور محققًا لها حلمها دون قصد حتى :
_ حسنًا لا بأس.
اعتدل ومن ثم خرج من المرحاض يحضر لها المنشفة والملابس وهي تتابعه بعدم تصديق مبتسمة بصدمة قبل أن تضحك ضحكات خافتة :
_ الرجال مساكين حقًا .
فجأة عاد لها أرسلان يحمل بين يديه اثنين من فساتينها ذات الزهور التي كانت تتنقل بهم بين ووردها في محلها العزيز الذي أجرته قبل رحيلها ليعتني به احدهم في غيابها، فلا ذنب لزهورها أن تذبل فقط لأنها كانت ذاهبة في رحلة مؤقتة وستعود سريعًا .
كان هذا قبل أن تكتشف سلمى أنها تركت زهورها العزيزة، لتأتي هنا وتعتني بنبتة نادرة تحمل لها حياة بين وريقاتها .
وها هي نبتتها العزيزة التي تنافس الصبار قسوة من الخارج، والبتلات رقة من الداخل يحمل لها ثوبيها ينتظر أن تختار ما تحب :
_ وجدت هذين يبدوان في غاية الرقة و....هما يشبهانك، لكنني محتار أيهما أختار، ماذا تحبين أنتِ ؟!
_ أنت.
رفع عيونه لها بعدم فهم، وربما كانت مثل تلك الكلمات المتوارية والغزل الملتوي ليفلح مع أرسلان لو أنه تعامل مسبقًا مع مثل هذه الأمور أو جربها، لكن المسكين كان يختبر معها مشاعر دخيلة على حياته، وايضًا ربما كان المنشأ سيساهم أكثر لو كان نشأ في طرقات البرازيل بين النساء وليس بين طرقات مشكى بين السيوف والحروب .
أبصرت سلمى نظراته تلك لتشعر بقلبها يتضخم بحب ذلك البدائي الذي حتى لا يتفهم الغزل الرخيص الذي احضرته من عالمها معه، ولن يفهم إلا إن ألقت أبيات من الشعر في وجهه .
ضحكت تتحرك صوبه تقبل وجنته بحب ولم تتمكن من تمالك نفسها أمامه:
_ لماذا لا تختر لي آرسي ؟!
ابتسم أرسلان من تدليلها له، ثم رفع فستان من اللون الأسود به زهور بيضاء صغيرة يردد بجدية :
_ هذا سيكون جميلًا، أحببت الاخضر كذلك، لكن هو يشبه عيونك وقد تحسدك عين دون شعور، وكذلك الاسود سيكون جميلًا، ذكريني فقط أن ارقيكِ قبل التحرك .
ختم حديثه بنبرة جادة لتطلق سلمى ضحكات مرتفعة وهي ترتمي في أحضانه تضم نفسها له بقوة، يا الله تتخيل لو أنها رفضت وصية والدها ولم تأت هنا، أو رحلت بعد مجيئها بأيام ولم تصبر، كيف كانت ستحيا دونه ؟!
_ أرسلان أنت....لطيف للغاية .
وارسلان في الحقيقة لم يكن يبتأس من الوصف أبدًا، فهو ومنذ اللحظة الأولى كان يبتعد بجانبه القاسي عن زوجته، يرفض أن تبصر منه جانبًا لا يحب أن يظهره أمام نساءه، لذا أن تراه لطيفًا معها لهو ...شيء رائع يحبه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
_ هل نتدخل ؟!
كانت هذه كلمات إيفان وهو يراقب ما يفعل المعتصم أمامه وقد اوشك على تقطيع جسد إلياس بكل ما للكلمة من معنى بعيدًا عن المبالغات.
لكن سالار ابتسم وهو ما يزال يقف جانبًا يضم يديه لجسده يراقب ما يحدث باستمتاع:
_ لا أعتقد أن أحدنا كان ليحب أن يقاطعه أي كان في مثل هذه اللحظات إيفان، ثم هذا المعتصم تلميذي النجيب يدرك متى يبدأ ومتى يتوقف، لا تقلق لن يحرقه غضبه لقد نشأ على يديّ .
فجأة سمع الجميع صوت تكسير عظام مرتفع وقد رنت صرخات إلياس في المكان بشكل تقشعر له الأبدان، لولا أن الأبدان التي كانت تحيط به كانت لرجال حرب اعتادوا سماع صرخات اسوء ورؤية مشاهد أكثر رعبًا .
مال إيفان برأسه صوب سالار ساخرًا من كلماته الأخيرة، ليرفع سالار يده يتبرأ مما يحدث في هذه اللحظة :
_ لا تنسى أنه قضى مع أرسلان عام، هذا تأثير أرسلان على الرجل لا علاقة لي بما يحدث، لكنه يعجبني إن سألتني رأيي، في الحقيقة بعض تصرفات أرسلان الحقيرة تعجبني كثيرًا .
تنهد إيفان بصوت مرتفع وهو يمسح وجهه :
_ ليعينني الله عليك وعليه وعلى آزار في القادم، لا اعلم كيف سأسيطر على جنونكم .
رفع عيونه صوب دانيار وهو يشير له بعيونه تجاه المعتصم يطلب منه بصمت التدخل، لكن دانيار نظر له برفض لحظي وكأنه يتوسله أن ينتظر أكثر، لكن إيفان زفر بصوت مرتفع وهو يشير بيده في إشارة واضحة صوب المعتصم .
تحرك دانيار صوب المعتصم والذي كان في عالم آخر يفرغ طاقته السلبية وكل قهره وما عاناه الأيام السابقة بجسد إلياس، يصرخ بكلمات متداخلة يستهدف يده التي مست زوجته بالسوء .
حاول دانيار التحرك صوب المعتصم ليصرخ الأخير:
_ لا أحد يوقفني، لا أحد يقترب .
كان يصرخ دون وضع اعتبارات لأحد ولأول مرة ينسى مع من يتحدث، ليرفع دانيار يديه في الهواء وهو يحرك رأسه صوب الملك ليهتف سالار ببسمة حينما سمع زفرات إيفان:
_ دعوه حتى تنصرف روح أرسلان عن جسده ويعود المعتصم سالمًا ويتوقف وحده .
تدخل إيفان وقد شعر بأن الامور تزداد سوءًا ولا يمكنه أن يترك المعتصم يقتل الرجل بيديه بهذا الشكل .
_ المعتصم توقف عما تفعل ..المعتصم توقف ....المعتصـــــــــم .
وأخيرًا أفاق المعتصم لنفسه يتنفس بصوت مرتفع ينظر للجميع بعدم فهم قبل أن تتحرك قدمه لتضرب إلياس للمرة الاخيرة في معدته، ولم تصدر عن إلياس حركة وهو لا يعي اساسًا شيء وقد فقد الوعي .
_ حسنًا يا المعتصم تركتك تقتص لزوجتك ولنفسك، لكن علينا أن نقيم محكمة و....
_ لا ..
كانت كلمة واحدة خرجت من المعتصم قاطع بها كلمات إيفان الذي اسودت عيونه بشكل مخيف ليتراجع المعتصم ويدرك وقاحته أمام الملك، يميل برأسه معتذرًا :
- المعذرة مولاي لم أقصد أن اقاطعك، لكنني أطلب منك حقي في محاسبته بنفسي وفي مشكى، الرجل أخطأ بي وأنا من شعب مشكى، إذًا الحق في الحكم عليه لمملكة مشكى واعتذر على ذلك لكنه سيأتي معي لمشكى.
ابتسم إيفان عكس المتوقع وهو يشتم رائحة أرسلان في الأجواء :
_ هذه ليست كلماتك يا المعتصم، هذه كلمات أحد الآخر.
هز سالار رأسه بتسلية يعجبه ما يحدث في الواقع :
_ نعم أحد بشعر طويل واعين بنية ووجه بملامح مقتضب، ولسان لاذع تحديدًا .
اعتذر منهم المعتصم وقد كان يكن احترامًا خاصًا لإيفان وارسلان:
- اعتذر عن وقاحتي حقًا، لكن هذا رجاء مني مولاي .
راقبه إيفان ثواني وهو يحرك عيونه صوب إلياس قبل أن يهتف بجدية وتأني :
- لك ذلك، الحكم بيدك وبيد ملكك يا المعتصم، كنت المجني عليه ولك الحق في الحكم بما يطفئ نيران صدرك، سالار ضع هذا الخسيس في عربة مغلقة وأرسله مع المعتصم لمشكى، فبها ملك عادل لا يرحم أحدًا .
ختم حديثه بسخرية لاذعة وهو يدرك ما سيفعل أرسلان، يربت على كتف المعتصم وهو يضع نفسه محله، يتخيل أن يمس أحدهم زوجته ويتعامل أمام الجميع بوقاحة كما لو أنها زوجته ويستحلها لنفسه، ولن يبالغ إن قال أنه كان سيأمر بقطع رأسه على مرأى ومسمع من الجميع ليكون عبرة لكل خسيس يستحل النساء لنفسه .
أضاف بهدوء :
_ بعدما نقتص منه بالطبع على صفعه للأميرة زمرد.
نظر جواره صوب سالار، ومن ثم تحدث بهدوء يذكر سالار بالرسالة التي جاء بها المعتصم :
_ تجهز سنتحرك لسبز بعد ساعة واحدة، تميم أنت ودانيار ستظلان في البلاد، تميم سيأخذ الجنود وينتشرون في العاصمة للتأكد أن لا مصابين غفلنا عنهم، ومحاولة إيجاد من زرع هذه القنابل، وتميم... أنت المسؤول أمامي لتدرك نوعية هذه المتفجرات ومن أين قد يحصلون عليها .
صمت يوجه كلماته صوب دانيار :
_ دانيار أنت ستعتني بأمور البلاد ريثما أعود وتهتم بمن لجأ للقصر، سالار ستكون معي في الرحلة.
ختم كلماته يتحرك خارج المكان ليتجهز والجميع يتابعه بهدوء وبمجرد أن خرج تحرك المعتصم بسرعة ليضرب إلياس مجددًا ولم يتحدث أحدهم بكلمة وقد رحل الملك بالفعل .
في حين أن إيفان ابتسم بمجرد أن خرج من المكان يسمع صوت ضربات وكلمات المعتصم الغاضبة تعلو يهز رأسه بيأس .
_ اصابتك عدوة أرسلان يا المعتصم، حسرة على هدوئك ورباطة جأشك .....
ــــــــــــــــــ
كان ما يزال يجلس على الفراش وهو يضمه بجنان يربت على كتفه وظهره، ونزار ما يزال يهزي باسم الوليد، ويردد كلمة أخي حتى شعر آزار أن ما يتعلق بوليد ليس خيانة أو غدر من الوليد البتة، فولده يناجي الوليد كما لو أنه يناجي روحًا ضائعة.
_ لماذا رحل ؟؟ لقد ...تخلى عني ...ضحى بنفسه لأجلي..
كان يهزي بكلمات عدة استطاع منها آزار أن يستشف ما حدث تقريبًا ليدرك أن ولده في هذه الحالة بسبب رثاءه لما حدث للوليد، ورغم تعجبه مما يحدث إذ كان الوليد مجرد خائنًا إلا أنه لم يستطع سوى أن يكون ممتنًا للوليد بالكثير، حيث حفظ له روح ولده بعد رحمة الله به.
كان يربت على ولده ولم يكد ينطق بكلمة يواسي بها ولده حتى تجمدت يديه من كلمات نزار الذي نطق بها باكيًا دون وعي .
_ أخي...لقد كان أخي ولم أعلم إلا لحظة موته بين ذراعي، مات أخي بين يدي دون أن أعلم أنه كان أخي، مات دون أن ينطق الشهادة حتى، كان ...سيتوب ...والله كان سيفعل .
تجمد جسد آزار بعدم فهم يبعد عنه نزار الذي لم يكن يعي أي شيء مما يحدث حوله ينظر بأعين ضائعة وروح مرهقة في الوجوه وهو يكرر نفس الكلمات:
_ كان أخي ولم أعلم إلا لحظة موته بين يدي، كان يحميني لانه أخي...
صمت وقد هبطت دموعه بقوة وهو يهتف ببكاء حاد :
_ كان أخي....مات أخي.
ارتجفت يد آزار وهو يمسك وجه نزار بين يديه يهتف بنبرة خافتة خرجت بصعوبة من بين شفتيه :
– ماذا....ما الذي...نزار ما الذي تهزي به أنت ؟؟ ما الذي تقوله أنت هو ....بني ما الذي تقصده، أنت لا أخ لك سوى سالار ما الذي تتحدث به أنت ؟! عمن تتحدث ؟؟
بكى نزار بقوة ينفي برأسه وهو يتحدث بصوت متقطع بسبب شهقاته :
_ كان ...الوليد أخي... أخي الأكبر لقد ....هو أخي لقد كان طوال الوقت أخي...كان جواري دون أن أفعل، لقد كان أخي من دمي.
اتسعت عيون آزار وقد سقطت يده عن وجه نزار وشعر بالأرض تميد به ينظر صوب بارق بصدمة وهو لا يفهم ما يسمع، أي اخ هذا؟؟ هو لا يمتلك ولد غير نزار وزوجته لم تتزوج غيره حتى مماتها، وهو لم ...
فجأة شعر بزلزلة داخل صدره وهو يهمس بكلمة مرتجفة :
_ جالا ؟؟
صُدم بارق من كلمات آزار وهو يقترب منه يتحدث بصوت متعجب :
_ ما الذي يحدث هنا آزار هل ... كانت جالا تحمل طفلك حينما طلقتها ؟!
نفى آزار برأسه بقوة وهو يهتف بنبرة قوية والصدمة قد شلت جسده :
_ لا ...اقسم بالله لم تكن ...لم أكن لأدعها ترحل وهي تحمل طفلي لم أكن سأقبل بتطليقها و... أنت تعلم بارق لقد ...كان الأمر...هي من طلبت مني ذلك...هي من أرادت ذلك و....لم تكن اقسم لك .
_ أو...لم تخبرك ببساطة.
صدمة أخرى تسقط فوق رأس آزار الذي شعر بالدنيا تدور حوله، بعد هذه السنوات من طلاقه لزوجته الثانية يكتشف أنها كانت تحمل ولده ؟!
يتمنى لو كان افتراضه ذلك خطأ ليس إلا.
جالا؟؟
المرأة التي تزوجها قديمًا عرفانًا لوالدها الذي كان يعمل مستشارًا له والذي اوصاه بها كي يحميها من عائلته، ليتزوجها على والدة نزار والتي رضخت للواقع بقلب مقهور وهجرت قصر زوجها لأيام...
كانت جالا امرأة صبورة حكيمة وطيبة القلب، قضت قرابة العشرة أشهر زوجة له، لتأتيه يومًا حينما أبصرت حالته المتشتتة بينه وبين زوجته الأولى تطالبه بطلاقها، تطالبه بتحريرها وتحرير ذاته .
ما يزال يتذكر كلماتها وهي تبتسم له بلطف :
" دعنا نتحدث بواقعية مولاي، أنت لم تحبني يومًا، و...الحمدلله أنني لم أفعل، واعتذر على قول ذلك، لكنني احترمك لدرجة أنني اشفق عليك أن تعاني في حياتك بسببي، وايضًا لا أريد لنفسي أن تتعلق بك، وافسد لك حياتك، لقد أوصلت رسالتك واضحة للجميع ولا اعتقد أن عائلتي ستكون بالغباء الكافي ليمسوني بسوء وقد أعلنت أمام الجميع صراحة أنني انتمي لك، حتى لو كنت طليقتك، لذا حررني وحرر روحك وحرر زوجتك من أحزانها، والله أنني احسدها على قوتها، امرأة أخرى لم تكن لتقبل بمشاركتك مع سواها مولاي، سأرحل وأنا أحمل لك كامل الاحترام والعرفان، لذا أرجوك طلقني ..."
ورغم محاولات آزار في منعها، إلا أنها أصرت وأخبرته أنها لن تكون مرتاحة ولن تنام قريرة العين يومًا إلا حينما تتحرر، وقد كان لها ما تريد لتختفي جالا بين ليلة وضحاها من المكان وقد نقلت محل اقامتها وانقطعت اخبارها، وآخر ما توصل له لاحقًا أنها عثرت لها على شريك حياة يحبها وحصلت منه على طفلين ...
طفلين كان أحدهما ولده ؟؟؟؟؟
سقطت دموع آزار وقد ارتجف جسده من الفكرة يهتف بصوت باكي من ذلك الإحتمال :
_ لماذا ؟؟ لماذا جالا؟؟ لماذا ؟؟ لماذا جالا؟ سامحك الله....سامحك الله...سامحك الله جالا...سامحك الله .
كان يردد كلماته وهو يبكي لا يصدق أنها فعلت به كل هذا، حرمته ولده، حرمته من ابنه البكر، لم تشفق يومًا عليه أو على ولده لتأتي وتخبره بذلك، يعلم يقينًا أنها ابتعدت كي لا تفسد حياته، لكن هل ظنت أن ولده سيفسد حياته ؟!
بدأت شهقات آزار ترتفع في المكان وهو بجسده بالكامل يرتجف :
_ كان... أمام عيوني طوال الوقت؟ الوليد ؟؟ كيف ...كيف لم أعلم ؟؟ كيف ؟؟؟؟
اقترب منه بارق يضمه بقوة وهو يتماسك بصعوبة وقد بدأت الغرفة حوله تصبح خانقة، ابنته تبكي بصدمة في أحد الأركان، ونزار منهار على فراشه، وازار يهزي بين ذراعيه باكيًا يرثي ولده .
_ اليوم حصلت على ولدي، واليوم فقدته ...فقدته يا بارق، فقدت ابني البكر يوم علمت به ...فقدته و...
فجأة توقفت كلماته حينما تذكر كلمات نزار حول موت الوليد ليستدير له يهتف بصوت خافت :
_ نزار...ما الذي حدث للوليد، نزار ؟؟
رفع نزار عيونه لوالده وقد كان وجعه النفسي في هذه اللحظة أشد وطأة من الجسدي، رمق والده بأعين حمراء لشدة البكاء ليبتعد آزار عن بارق يميل على ولده يجذبه لاحضانه بقوة ولا يدري أيهما أشد جرحًا، ولا من يواسي من ؟؟
فلكلٍ جرحه الذي يبحث له عن مسكن في الآخر.....
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مع بداية شروق الشمس كان يقف على بداية مملكته الصغيرة والتي يسعى بكل ما يمتلك ليوسعها، اتسعت بسمته يتنفس عبير الصباح الأول براحة كبيرة .
_ كم من الرائع أن تجلس فوق أكوام من أحزان الجميع، شعور رائع أن تكون الوحيد المبتسم بين وجوه كثيرة عابسة، والأجمل أن تكون انت المتسبب في هذا العبوس ..
ختم كلماته يتنفس بصوت مرتفع مغمضًا عيونه يفتح ذراعيه يستقبل اشعة شمس يوم جديد براحة كبيرة وقد وصلته اخبار نجاح خطته .
_ سيدي ... ما التالي ؟!
فتح أصلان عيونه بهدوء وهو ينظر للسماء، ثم استدار نصف استدارة ينظر لعيون المتحدث :
_ الضربة الأخيرة يا عزيزي، الحجر الاخير الذي يهدد بتماسك الجدران .
نظر له الرجل بعدم فهم، ليبتسم له أصلان بهدوء شديد وهو يتحرك يراقب الجحر القذر بأعين غامضة وكأنه يفكر داخل عقله في القادم، قبل أن يتحدث بجدية :
_ تجهزوا، اليوم مساءً نضع نهاية الممالك .
ابتلع الرجل ريقه :
_ وما... ما الذي سنفعله بالتحديد ؟!
نظر له أصلان بغموض ولم يكن قد صرح من قبل عن خطواته، ليس قبل أن يخطوها بيوم، بل فقط كان يكتفي بإخبارهم بها قبل حدوثها بوقت لا يكفي أي جاسوس ليرسل أي أخبار عنهم .
_ ستعلم في الوقت المناسب .
_ ومتى يكون الوقت المناسب ؟!
ابتسم له اصلان بسخرية وهو يشير بعيونه :
_ سأخبركم عنه في الوقت المناسب .
ومن بعد تلك الكلمات تحرك تاركًا الرجل ينظر في أثره وقد علت عيونه نظرات تقدير وانبهار مما يفعل أصلان، رغم ضيقه في بعض الأحيان، لكنه لم يسبق أن تعامل مع رجل بمثل عقليته وهذا بحد ذاته يجبرهم على السير خلفه دون التساؤل عن كيف ولماذا .
_ يبدو أنه حانت لحظتنا .....
ـــــــــــــــــــــــــ
مع بداية غروب شمس اليوم، كانت قافلة مشكى التي يقودها أرسلان قد وصلت بالفعل لحدود سبز .
توقف أرسلان فجأة بشكل آثار انتباه الجميع، ليحرك أرسلان نظراته صوب الطريق يشير لهم بمواصلة الطريق صوب القصر :
_ يمكنك اكمال الطريق وأنا سألحق بكم بعد قليل .
نظر الرجال لبعضهم البعض بعدم فهم، لكن أرسلان لم يهتم كثيرًا بتوضيح ما يريد، فقط هبط عن حصانه، يشير للسائق الذي بقود عربة الهودج الخاصة بسلمى ليتوقع .
ومن ثم تحرك صوب الهودج يرفع الستار جزء صغير لتهتف له سلمى التي نظرت له ببسمة :
_ وصلنا ؟!
_ لا فقط اقتربي .
نظرت له بعدم فهم، لكنها لم تجادل كثيرًا، فقط تحركت صوبه، تمسك بيده التي مدها لها، وقبل أن تتساءل عما يريد كان يجذبها له بحنان يخرجها من العربة بعدما انزل الحجاب يغطي وجهها، ومن ثم رفع قلنسوة معطفه فوق حجابها لتزفر بضيق :
_ كان يمكنك حملي في تابوت ووفرت على نفسك كل هذا أرسلان .
_ بعيد الشر عنك عزيزتي، لا أراني الله بطرفك سوء، هيا تعالي .
امسك يدها يحملها برقة يرفعها صوب حصانه وهي لا تفهم ما يحدث، أما عنه صعد خلفها يمسك اللجام يضمها عليه بلطف له، ومن ثم أمر رجاله بهدوء شديد :
_ نصف ساعة وسألحق بكم ..
ومن بعد هذه الكلمات اختفى من أمامهم وسلمى فقط تتابع ما يحدث، وهو فقط مال عليها يهمس بصوت حنون :
_ اسمحي لي حلوتي أن آخذك في جولة سريعة داخل أحلامي..
رفعت عيونها له ترمقه من خلف غطاء وجهها، ليبتسم لها بحنان وهو يعود بعيونه صوب الطريق، يكمل توجيه خيله صوب إحدى الجهات، أبصرت سلمى المنازل تبتعد شيئًا فشيء وقد بدأت الاراضي الزراعية تفرد سيطرتها في الإرجاء، وعيون سلمى تتسع بانبهار بكل الزهور التي بدأت تنعكس في عيونها بألوانها الزاهية .
دقائق قليلة حتى توقف أرسلان بحصانه، وهبط من حصانه يحملها لتهبط كذلك، ومن ثم سحبها برقة داخل محاصيل الزهور التي كانت تشتهر بها سبز يسحب كفها بحب شديد لمنتصف الحقول يحقق حلمه الذي كان ينام كل يوم على أمل رؤيته واقعًا .
حقل كبير من الزهور تتوسطه هي بثوب رقيق مثلها، تبتسم له بحب وتراقب بأعين ملتمعة، وليحقق آخر جزء من حلمه تحرك صوبها يرفع غطاء الوجه عنها، يبصر ردة الفعل التي أرادها، بسمة واسعة وعيون لامعة .
_ أرسلان هذا ....هذا ....يا ويلي قلبي يكاد يتوقف من البهاء حولي .
أخذت تدور في المكان بعدم تصديق لكل تلك الزهور التي تبصرها، تشعر أنها عادت بروحها صوب محل الزهور خاصتها تتنقل بينه بسعادة وراحة .
كل هذا وارسلان يتابعها بشغف يشبع عيونه من رؤيتها بهذه الهيئة :
_ أعجبك ؟!
_ اعجبني ؟؟ هل تمزح معي ؟! لقد سلب قلبي ارسلان .
_ محظوظ هذا البستان .
رفعت سلمى عيونها صوبه تبتسم له بامتنان شديد، ومن ثم تحركت تلقي نفسها بين أحضانه بحب كبير تتنفس براحة وسعادة وقد أثرت بها لفتته، أكثر من رؤية هذه الزهور :
_ أرسلان...شكرًا لك .
_ تدللي حلوتي، فقط ليمنحني الله العمر المديد فأهبه للعبادة ومن ثم اسعادك فقط .
ابتعدت عنه قليلًا تهمس بصوت مرتجف من مشاعرها التي ثارت داخل صدرها :
_ صدقني رغبتك في اسعادي، هي سعادة بحد ذاتها أرسلان، أن تبحث عما أحب وتفعله، هذا يعني لي الحياة ...
شعر أرسلان بالفخر من نفسه لهذه اللفتة الصغيرة، كان فخورًا أنه أسعدها، كالطفل الذي ينال الثناء من والدته حينما يحسن التصرف .
نظر حوله وكأنه لا يعلم ما عليه فعله من شدة سعادته، لكنه وبعد دقائق من الصمت الطويل وجد اخيرًا لسانه ينطق بكلمات معدودة:
_ إذن حينما ينتهي كل هذا واعود من الحرب سليمى، هل ...تتزينين لأجل زفافنا ؟؟؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فُتحت ابواب مشكى تستقبل موكب سفيد بقيادة إيفان ويتبعه سالار، وفي الخلف موكب كهرمان التي أصرت على المجئ للتأكد من سلامة أخيها، وتبارك التي أبت ترك سالار رغم رفض الأخير بسبب حالتها.
تنهد سالار وهو يرمق الموكب بضيق ويزفر بصوت مسموع، ليتبعه إيفان بالشيء ذاته، وقد بدا أن وجود النساء في هذه الرحلة وفي هذا الوقت تحديدًا لم يكن مرغوبًا من الجميع، لكن أي إرادة يمتلك رجال سفيد أمام أعين نسائهم ؟؟
_ يبدو أن أرسلان وصل قبلنا .
ختم إيفان كلماته وهو يحدق بأعلام مشكى السوداء التي تلوح في الأفق.
_ جيد أنه جاء هنا على الأقل، والله تخيلت أن يخدعنا جميعًا ويقنعنا أنه سيأتي للأجتماع ومن ثم يذهب للهجوم وحده .
ضحك إيفان وهو يهبط عن حصانه:
_ اشياء يستطيع أرسلان فعلها وببساطة.
هبط سالار وهو يتحرك مع إيفان صوب بارق الذي كان ينتظرهم في منتصف الساحة بعدما أبلغه أحد الرجال بوصول الموكب الخاص بسفيد، يبتسم لهم بسمة بدت لأعين إيفان باهتة كما لو أن الزمن اجار عليه .
اقترب منهم بارق يرحب بأعين منطفئة :
_ مرحبًا انرتم سبز ..
_ مرحبًا ملك بارق، عساك بخير حال أنت والجميع.
هز له الملك بارق رأسه دون تعليق، فقط أشار على أحد الجهات ببساطة :
_ تفضلوا من هنا رجاءً .
نظر له سالار بشك وحدق بايفان الذي كان يشاركه نفس الريبة، لكنهم ساروا خلف بارق على أية حال وقد تحدث سالار بجدية :
_ إذن وصل الجميع ؟!
_ لا ليس جميعهم، فقط آزار في الداخل، أرسلان أرسل جيشه ولا يعلمون أين اختفى مع زوجته وقد أخبر جنوده أنه سيلحق بهم، أما عن آزار فهو ...
صمت ولم يدري ما يخبرهم به، أن آزار بلا روحه في الداخل ينازع ليستقيم وينهض، لكن كُسرت هامته بعد ما علم كل ما حدث مع ولده البكر، كما أن حالة نزار لم تكن تساعده البتة.
وصمت بارق كان ثقيلًا على النفوس، مثيرًا للريبة في النفوس، إذ بدأت اجراس الانذار تنطلق في عقول الاثنين خلفه يفكر كلٌ منهما فيما يملء الفراغ الذي تركه بارق بعد ذكر اسم آزار، فراغ لا يشعران أن خيرًا يملئه .
_ ماذا عن خالي ملك بارق؟
كانت جملة سالار الذي تململ في وقفته بضيق وقد شعر برباطة جأشه تنحل، يحدق بظهر بارق الذي يقودهم بين الممرات حيث لا يعلمون وجهة محددة لهم، ولم ينتبهوا حتى لموضع أقدامهم.
فجأة توقف بارق في المكان يشير لأحد الأبواب المغلقة، قبل أن يفتحها مظهرًا لهم مشهدًا لو أخذ أحدهم يقسم لهم أيام وليالي أنهم سيبصرونه، لرموه بالباطل والكذب ...
شحب وجه سالار وهو يردد بذهول وقد ارتجفت كلماته :
_ خــ....خالي ؟؟
كانت كلمة سالار متعجبة مذهولة وقد تجمد ارضًا كما تجمدت الدماء بعروقه حينما أبصر مظهر كلٍ من آزار ونزار .
استدار صوب الملك بارق وكأنه يتوسله توضيحًا لما يرى، فأن يبصر الملك آزار الذي اعتاد من طفولته أن يدعمه منهارًا، ويشاهد يده التي اعتادت أن تسنده مرتجفة، والأعين التي اعتادت تشجيعه منكسرة، لهو الموت بحد ذاته .
ابتلع ريقه يحرك بنظراته بين الجميع يسألهم تفسيرًا لما يحدث .
لكن كل ما صدر عن بارق هو تنهيدة غريبة أثارت ريبة سالار أكثر:
_ هو ...سيخبرك حينما يستفيق، فقط .... أردت أن.... أردت منك أن تساعده، فآزار الآن يمر بوقت عصيب هو ونزار .
ضغط سالار على شفتيه بقوة وقد بدا كما لو أنه يقاوم بعض الكلمات، يتحرك بهدوء داخل المكان يراقب أعين خاله الشاخصة وكأنه رأى لتوه موته، وجسد نزار المدمر وكأن نجى لتوه من ميتة وشيكة .
وصل حتى الفراش حيث يضم آزار ولده بقوة مرتعبًا أن يتلاشى هو الآخر من بين أحضانه، رفع سالار بده وربت بهدوء على كتف آزار وبصوت هادئ ردد :
_ خالي أنت... بخير ؟!
ثواني لم يحصل فيها سالار على ردة فعل تذكر حتى شعر باليأس أن يصدر عن خاله أي رد يوحي بادراكه لما يحيط به، وقبل أن يتخذ أي خطوة أخرى، ابصر عيون آزار ترتفع له يردد بنبرة باكية لأول مرة يسمعها منه، وقد بدا أن هامة ذلك الرجل الذي اعتاده شامخًا قد تحطمت بالكامل :
_ ولدي ....لقد ...لقد قتلوا ابني سالار .
فجأة انفجر في بكاء حاد وهو يضم له نزار أكثر:
_ قتلوا ابني سالار .
اتسعت أعين سالار وتوقف قلبه فجأة وتحركت عيونه صوب نزار وقد بدا أن الروح سُحبت منه، يدور بعيونه على جسد نزار بنظرات مرتجفة وكأنه يبحث عن تأكيد على كلمات آزار، لكن ما كاد يتحدث بكلمة حينما شعر بأنفاس نزار الرتيبة ..
ليقاطع آزار أفكاره وهو يردد بصوت مرتجف :
_ ابني البكر، قتلوه قبل.... أن أعلم حتى، قتلوا ولدي سالار ....قتلوا الوليد .......
ــــــــــــــــــــــــــــــ
كان الطريق نحو مشكى سلسلًا عكس ما توقع، وكيف لا يكون وهي قضته في النوم ولا يدري أكان هربًا من واقعًا ثَقُل عليها، أم اطمئنانًا لعودتها اخيرًا .
وسواء أكان هذا أو ذاك، فلم يكن المعتصم يهتم سوى بالنتيجة الملموسة، ألا وهي وجود فاطمة بين ذراعيه تتنفس أنفاسه وتستكين بأحصانه، ووجود إلياس في صندوق صغير في الخلف محاط ببعض رجال مشكى وسفيد الذين جاءوا معه لتأمين السجين حسب أوامر إيفان .
_ فاطم حبيبتي ...هل ستظلين نائمة طوال الوقت.
تململت فاطمة بين ذراعيه تردد كلمات غير مفهومة ختمتها باسمه ورسمت بسمة صغيرة على فمها وهي تحاول أن تستكين مجددًا، تتمتم بكلمات غريبة غير مفهوم منها سوى اسم المعتصم، ليبتسم الاخير وهو بسمع لها تشدو اسمه بين احلامها .
_ لا بأس إذن بالنوم طوال الوقت، إن كنتِ سترددين اسمي بين احلامك.
ختم حديثه يقبل رأسها بحنان لتبتسم هي من بين حلمها، وهو ابتسم لها يكمل الطريق بهدوء شديد .
لتستمر الرحلة ساعات قليلة أخرى قضاها المعتصم في تأمل فاطمة وشكر الله لعودتها قبل أن يفقد عقله وروحه تباعًا .
أما عن فاطمة فقد انفصلت عن واقعها بحلم جميل بعيد عن هذا العالم، حلم حيث جاءها المعتثم وانقذها من ذلك الكابوس ومن ثم حملها بين يديه وأخذها بعيدًا عن الجميع.
ولم تدرك أن كل أحلامها تلك كانت واقعًا بالفعل، فبمجرد وصولهما لمشكى هبط المعتصم يحملها بين كفيه يتحرك بها غرفته، ومن ثم مددها بكل لطف على الفراش، وجلس أمامها ببساطة يراقبها ببسمة واسعة وكأنه اكتفى بها حياة....
_ فاطم حبيبتي هل تسمعيني ؟؟ إذا كنتِ فاعلمي غاليتي أنني ويشهد الله لم اتنفس بشكل طبيعي سوى في وجودك، فاطمة لقد .... أنا كنت قاب قوسين من الجنون، جبت طرقات مشكى أسأل عنكِ كالاجذب، لقد ...كدت أصاب بالجنون وأنا ابحث عنك في جميع الوجوه التي تقابلني .
تنفس بصوت عالي ومن ثم مال يلتقط كفها يتلاعب فيه بأنامله يهمس بصوت شارد مرتعب من القادم ومن تأثير ما حدث عليها، يدرك أنها حتى الآن ما تزال تحت تخدير عقلها لها، كي لا تدرك بشاعة ما مرت به .
_ أنا فقط لست ...لست على استعداد للعودة إلى نقطة الصفر، لا أدري إن كنت حتى تخطيتها معكِ أم مازلنا عندها، لكنني فقط أتمنى لو ...
سقطت منه دمعة دون شعور وهو يهمس بصوت منخفض:
_ فقط اتمنى لو يحنو عليّ الزمان ويشفق على اوجاعي و...يتركني انعم بحياتي معك، والله العظيم لا أطلب الكثير فاطمة، فقط حياة عادية، حياة عادية تتمثل ببسمتك، والله لا اطلب الكثير فاطمة .
ختم كلماته وهو يمسك كفيها بين يديه يبكي بصوت خافت وقد بدأ عقله يتنفس اخيرًا ويزيح ركام أحزانه ويفرغ كل طاقته السلبية التي كان يسير بها الأيام السابقة، يفرغ شحنات خوفه وغضبه دون شعور .
أما عن فاطمة ففي هذه اللحظة كانت المعركة المعتادة مع عقلها كما الآونة الأخيرة على أشدها، صور كثيرة تمر على عقلها، صور لطفولتها، شبابها، حياتها مع عائلتها، صور كثيرة متلاحقة ...
تركض هنا وهناك تضحك مع أحمد شقيقها، صرخات والدها على أحمد ألا يرد لها الضربة ولا يمس مدللته، تذمر والدتها من تدليل والدها لها، طاولة طعام تجمع بينهم جميعًا واحاديث كثيرة تدور، ضحكات ومشاكسات، حياة مثالية كانت تحياها بين جنبات عائلتها...
ضحكات... مشاكسات... أحاديث دافئة.
كل ذلك تلاشى مع ارتفاع أصوات الصرخات، كل الامان الذي كانت تحيا به تسرب بمجرد أن حطم الموت أبواب أمنهم، كل ذلك اختفى مع اختفاء منزلها وتحوله لرماد، كل ذلك دُفن مع عائلتها أسفل التراب .
ولم يتبقى من حياتها القديمة سوى أطلال وبقايا فاطمة ....
شابة لم تفقه في حياتها سوى عائلتها، لتجد نفسها فجأة وحيدة بلا عائلة بلا معيل، وقد أشفق عليها عقلها من كل تلك المعاناة، فحبسها داخل جدران زجاجية تعكس حياة قديمة سعيدة، سجنها داخل ماضيها وصنع لها وهمًا تتمسك به، نسج لها واقعًا بخيوط الماضي، شيء تتمسك به لتحيا بعدما كادت تفقد عقلها من هول ما حدث لعائلتها أجمعين في يوم واحد .
كان يوم واحد ...بل لحظة واحدة فقدت بها الجميع أمام عيونها، والذنب ؟؟
حتى الآن لا تدرك ما ذنبهم حتى ليستحقوا ميتة كهذه فقط لأن أحدهم استحل لنفسه دماء قومها ...
كان كل شيء يسير على ما يرام وهي تحيا في عالم اسود مع طبقة رقيقة من اللون الوردي الذي دهن بها عقلها محيطها..
قبل أن يأتي هو ليمثل لها واقعًا سعيدًا ورديًا، ينتشلها من غياهب الوهم لطرقات الواقع، من ماضيها لحاضره ..
استبدل الوهم بنفسه، واصبح هو واقعًا تتمسك به للنجاة .
وكأن معاناتها السابقة كانت أشد وطئًا من معاناة تهرب منها، عقلها حينما اصطدم بما حدث له اضطر للخروج من اوهامه والتمسك بواقع قد ينقذه من ظلماته الحالية، يخرج من وهم لن ينفعه، والاستغاثة بواقع يدرك أنه سينقذه .
_ المعتصم ..
مال المعتصم عليها بلهفة يتمسك بكفيها بين يديه بحب وحنان شديد مبتسمًا بحب كبير :
_ حياته يا فاطمة، هل أنتِ بخير حبيبتي ؟!
نظرت فاطمة حولها وكأنها تبحث لها عن اشارة تعلمها أنها خرجت من ذلك الكهف المعتم واخيرًا .
_ أنت هنا ؟! أنت حقيقة ؟؟
استند المعتصم على جبينها بحب شديد هامسًا :
_ حتى وإن كان كل ما يحيطك وهمًا، تأكدي بأنني سأكون الحقيقة الوحيدة بين كل تلك الأوهام حبيبتي .
نظرت له ثواني قبل أن تهبط دموعها وتهمس بصوت موجوع :
_ كنت ...مرتعبة ألا أراك مجددًا .
_ ما كنت لاسمح بذلك حبيبتي والله لولا ما حدث بمشكى لكنت قلبت سفيد رأسًا على عقب حتى وجدتك، لم أكن سأنام يومًا هانئًا سوى معكِ فاطم.
تنفس بصوت مرتفع يهمس بحب لها :
_ حبيبتي تأكدي أنني يومًا لن أسمح لشيء أن يعترض طريقًا يوصلني لكِ ....
_ المعتصم.
_ نعم ؟؟
مدت يدها وهي تمسك خده بحب شديد وقد كانت مرة من المرات النادرة التي تتخذ فيها فاطمة الخطوة الأولى تجذب وجهه لها تقبل خده بحب شديد هامسة:
_ فقط كن جواري، وضمني لك، لا تدعني ابتعد عنك أبدًا، لا تسمح لي بالابتعاد، ولا تسمح لأحدهم أن يقصيني عن حياتك حتى لو كان ذلك الاحدهم اوهامًا من عقلي، أو عقلي نفسه ...
ابتسم لها المعتصم بحب شديد يداعب خصلاتها التي تسحره كلما أبصرها، ومن ثم رفع عيونه يضعها في عيونه :
_ لن يحدث طالما رزقني الله بأنفاس تتحرك داخل صدري عزيزتي .
صمت ثواني يطيل النظر بها :
_ وأنتِ صغيرتي عليكِ مساعدتي في حمايتك .
نظرت له بعدم فهم لتتسع بسمته أكثر:
_ هل تتذكرين أول مرة جئتي بها للقصر ؟؟
هزت رأسها بنعم ليكمل وهو يميل أمام وجهها ينظر داخل عمق عيونها :
- ذلك اليوم أبصرت بكِ تلميذة نجيبة ستتقن دروس القتال بسرعة كبيرة، فما رأيك ؟؟
اتسعت عيون فاطمة بعدم تصديق :
_ تعلمني أنا... القتال ؟!
_ أوليس هذا واجبًا على الأميرات ؟؟
شعرت فاطمة بصعوبة في تنفسها وهي تتحدث بصوت متقطع :
_ أميرات ؟؟
_ اجملهن فاطمة، فهل تكونين تلميذتي ؟!
التمعت عيون فاطمة بقوة وقد كانت لمعة عيونها وتلك السعادة الطاغية التي ملئت وجهها أكبر وأصدق من كلمة " نعم"، معلنة بذلك طريقًا آخر للعلاج .
فإن لم تستطع الهروب من ماضيك، تجاهله ....
ــــــــــــــــــــــــــــــ
كان الجميع يتحرك في القصر يساعدون بكل ما يستطيعون وخاصة النساء اللواتي بدأن إعداد الطعام ليستوعب الوافدين للقصر بعد ما حصل في الساعات الاخيرة من الليلة السابقة .
وقد كانت توبة على رأس هؤلاء النسوة تساعد في تقسيم الأعمال والاشراف، وتشاركهن إن احتجن لذلك، رغم كل الجراح التي تسكن قلبها منذ شهدت ما حدث مع نزار ووالده .
كانت ساعات قليلة قبل يستدعيها والدها لتستقبل كهرمان وتبارك وترشدهن لغرفهن في القصر، وتركت باقي النساء يعملن بهدوء .
على رأسهن رفيقتها الوحيدة منذ الطفولة والتي كانت الأقرب لتوبة وكاتمة اسرارها " نغمة" الأخت الصغرى للقائد زبير، والتي ترعرعت مع توبة بنفس القصر وتدرك كل شيء عنها، أولهم عشقها الميؤوس منه الملك أرسلان.
فجأة توقفت أقدام نغمة في منتصف الساحة بعدما كانت في طريقها للمطبخ تحمل سلة الخضراوات، تبصر حصان يتحرك لداخل القصر يحمل فوق ظهره عشق صديقتها المستحيل و... امرأة اخرى بين أحضانه ؟؟
اتسعت عيون نغمة بعدم فهم وهي ترى أرسلان يهبط عن الحصان بسرعة كبيرة، ومن ثم مد يده ينزل المرأة التي لم تبصر حتى وجهها برقة شديد، يرفع قلنسوة معطفه الخاص فوق رأسها رغم تغطية وجهها بالغطاء .
تنفست نغمة بصدمة وهي تحاول فهم ما يحدث، تبصر إمساك أرسلان بالمرأة وكأنه يخشى أن تتسرب من بين أنامله، يتحرك ببطء وهو ينظر لقدمها كل ثانية وكأنه يخشى أن تخطو فوق شوكة بالخطأ.
شعرت نغمة بالقهر على رفيقتها التي شهدت على معاناتها قديمًا، وقد كانت تسمع منها كم احبته لأرسلان، وكانت كل ليلة تتفنن في ذكر محاسنه وحنانه وقوته، ابتلعت ريقها تراقبه بعدم فهم، تهمس بصدمة كبيرة :
_ هل ...تزوج ؟!
فجأة أبصرت شقيقها يندفع بسرعة صوب الملك أرسلان يرحب به ببسمة واسعة واحترام شديد :
_ جلالة الملك أنرت سبز .
ابتسم له أرسلان يهز رأسه بهدوء :
_ اشكرك زبير، كيف حالك.
_ الحمدلله بخير مولاي، أرسلني الملك لاستقبالك يعتذر منك لانشغاله ببعض الامور في الداخل ووالله ما كان ليتخلف يومًا عن الترحيب بك لولا ما يشغله .
شعر أرسلان بريبة من كلماته :
_ عساه خير زبير، ثم لست بضيفًا او غريبًا لتبرر لي الأمر، لكن ما الذي يحدث هنا ؟؟
انقلبت ملامح الزبير بشكل غريب جعل أرسلان يتأكد من حدوث ريب، فنظر حوله بهدوء ثم قال :
_ هل يمكنك إحضار إحدى النساء لترشد زوجتي لغرفتها رجاءً ؟؟ سوف أذهب لمعرفة ما يحدث هنا .
ما كاد الزبير يعترض مطالبًا إياه بالراحة اولًا، حتى اعترض أرسلان على كلماته :
_ اسرع زبير فزوجتي مريضة لا تتحمل الوقوف طويلًا .
كانت كلمات جادة آمرة ليتنهد زبير وهو يتحرك لينادي إحدى العاملات، لكن فجأة وقعت عيونه على شقيقته التي كانت تقف على مقربة منهم تتابع ما يحدث بفضول سيقتلها يومًا .
_ نغمة اقتربي .
انتفض جسد نغمة وهي تنظر حولها برعب وكأنه تم الامساك بها بالجرم المشهود تتحرك بقدم مرتجفة صوب زبير :
_ نعم اخي..
_ رجاءً ساعدي جلالة الملكة وارشديها لغرفة الملك في الجناح الشرقي.
رمشت نغمة وهي تنظر صوب سلمى التي لم تصدر كلمة واحدة منذ وطأت القصر، تحترم وجود أرسلان ليتدبر اموره .
ظلت تحدق فيها ثواني قبل أن يلكزها زبير بضيق من تصرفاتها هامسًا:
_ تحركي يا فتاة ما بكِ .
_ آ...آسفة شردت بعض الشيء، تفضلي معي.
هزت سلمى رأسها ونظرت صوب أرسلان تشير له لينحني صوبها يسمعها تهمس له ببعض الكلمات الصغيرة، لتبصر نغمة في هذه اللحظة معجزة تتجسد في حياتها لأول مرة وهي ترى ذلك الجلف المتجبر يبتسم ابتسامة صافية رقيقة على كلمات المرأة الهامسة .
ومن ثم اعتدل ينظر لها بحب شديد لم يحاول حتى أن يخفيه :
_ أوامرك جلالتك ...
ابتسمت سلمى بسمة واسعة لم تظهر من خلف الغطاء، لكن أرسلان شعر كما لو أنه رآها، يربت على كفها بحنان، ومن ثم همس لها :
_ لن اتأخر حبيبتي، سأرسل لكِ طعامًا تناوليه وارتاحي ريثما انتهي أنا حسنًا ؟!
هزت له سلمى رأسها ومن ثم حركت رأسها صوب زبير بتحية راقية، وتحركت صوب نغمة تهتف بصوت هادئ رقيق :
_ هيا .
رمشت نغمة وهي تنظر لها بفضول شديد كاد يدفعها لرفع الغطاء عن وجهها لتبصر وجه المرأة التي اوقعت الصخرة خلفها .
لكن صوت الزبير والذي كان قد وصل لقمة حنقه من تصرفات شقيقته جعلها تنتفض وهي تتحرك مع سلمى ترشدها لجناح أرسلان المعروف داخل حدود القصر، كيف لا وهي كانت تجلس أمامه ساعات طوال مع توبة في مراهقتهما ينتظران لحظة واحدة فقط يطل عليهما لتروي الاخيرة شوقها له .
سارت وهي تنظر كل ثانية صوب سلمى وكأنها تحاول اختراق الغطاء لتبصر وجهها، لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه....
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
_ من الذي فعل هذا به ؟؟ كيف ...ما الذي حدث ليتحدث أحدكم ؟! وما الذي يهزي به خالي، الوليد من هذا ؟؟ الوليد نفسه رفيق نزار ؟! كيف ...ابنه ؟؟؟ هل ...ما الذي يحدث هنا ؟؟
رفع آزار رأسها وهو ينظر لسالار الذي بدأ يفقد صبره ولأول مرة بعد ما أبصر من انهيار الجميع، أفكار كثيرة سوداء خطرت بعقله، نزار مصاب بشكل مريع وازار منهار بشكل مخيف، والمكان مشتعل والممالك شبه متدمرة ..
هل فعلها اصلان ونجح في اصابتهم بضربة قاضية؟
نظر صوب إيفان وقد انعكس سؤاله واضحًا في عيونه، ليدرك إيفان ما يفكر به ويربت على كتفه بهدوء وكأنه يبعد كل ذلك السواد عن عقله يتحدث بصوت هادئ رغد ما يموج داخله من براكين، لكن في وسط هذا الانهيار كان عليه هو أن يكون أشدهم تماسكًا .
_ ملك آزار ما قلته لا يحتمل التأويل، لذا رجاءً وضح لنا ما حدث لنعلم الخطوة القادمة، دعنا نقف على أرض صلبة فالحرب وشيكة ونحن مشتتون وهذا ليس في صالحنا أبدًا، أخبرنا رجاءً ما يحدث .
_ نعم هذا بالتحديد ما أريد معرفته، ما الذي يحدث هنا ؟؟؟
وكانت الجملة الأخيرة صادرة من أرسلان بعدما اقتحم الغرفة الخاصة بنزار والتي ارشده لها زبير .
نفخ إيفان وهو يمسح وجهه وقد زاد وجود أرسلان في المكان الحريق اشتعالًا، فالأن عليه أن يتدارك غضب الجميع بمن فيهم أرسلان..
_ هذا ما ينقصني يا الله .
لم يهتم أرسلان الذي سمعه يبعده بضيق يقترب من الفراش :
_ ابتعد أنت عن وجهي، دعني أنا سأفهم ما يحدث هنا و......
فجأة توقفت كلماته على طرف لسانه وهو يبصر جسد نزار الذي كان متسطحًا على الفراش بشكل مزري وكأنه جثة هامدة، فقد أرسلان النطق يحدق في الجميع حوله وكأنه يسألهم عما يفعل نزار هنا في هذه الحالة .
تحرك صوب نزار بعدم فهم يجلس ارضًا جوار الفراش يهمس بصوت منخفض مرتجف وقد اوجعه وصدمه مظهره :
_ نزار ؟؟ أنت....هنا ؟؟ ما الذي....من ...
نظر حوله للجميع وكأنه قد عجز عن إخراج جملة واحدة سليمة، لكن لم يبصر الأجوبة التي ينتظرها في عيونهم، بل وجد عجزًا وجهلًا جعله يعود لنزار بعيونه يتحدث بهمس :
_ نزار يا أخي ما الذي ...ما الذي حدث لك، هل ... أصلان من فعل هذا بك ؟!
ولاول مرة يتفاعل نزار مع محيطه وهو يدور برأسه صوب أرسلان ينظر له ثواني بأعين جامدة، قبل أن تبدأ دموعه بالتساقط من عيونه يهمس بصوت متحشرج من الوجع:
_ لقد ....أنتقم الله لك مني في والدتكِ، فقدتها بسببي، ففقدت أخي أرسلان، أقتص الله لك مني ولكل من رحل بسببي، اقتص الله لك مني .
ختم حديثه ينهار في بكاء مرير لينتفض أرسلان يجذبه لاحضانه بسرعة وهو يهتف بكلمات متتابعة وقد بدا كما لو أنه يصرخ في وجهه:
_ صه...أصمت أيها الحقير، أي قصاص هذا، والله ما كان لي يومًا قصاصًا عندك، لا تتحدث بهذا الشكل، لا أراك الله سوءًا نزار، لا أراك الله سوءًا، لا اذاقك الله ما ذقته نزار .
أنهار نزار بين أحضان أرسلان باكيًا بصوت مرتفع وهو يضم نفسه له يصرخ بوجع:
_ ذقته أرسلان، لقد ذقته، مات أخي بين احضاني، مات في اليوم الذي علمت به أنه أخي، مات دون حتى أن يمتلك فرصة التوبة، والله كان سيتوب، والله كان سيتوب .
سقطت دموع ارسلان وهو يضمه له بقوة، رغم عدم فهمه لما يتحدث به نزار وهو ينظر حوله، يسأل عمن يتحدث نزار ومن أخوه هذا، لكن في هذه اللحظات كان الصمت أبلغ من مائة سؤال .
ونزار وانهياره في هذه اللحظة كانوا أشد من محاولة فهم ما يحدث، تحرك سالار يجذب له آزار يربت على ظهره بحنان يهمس بصوت خافت حنون وعيونه تدور على وجه نزار بحزن لأجله:
_ استعن بالله في وجه أحزانك يا أبا نزار، استعن بالله وتوكل عليه عزيزي .
_ الوليد .
نظر له سالار بعدم إدراك لما يقال، ليكمل نزار بصوت منخفض :
_ نادني ابا الوليد ولو ...لمرة واحدة .
عند هذه النقطة انهاردة آزار، وهو يردد اسم الوليد وكأنه يناجيه ليستمر الأمر لدقائق طويلة لم يستطع أحدهم قطعها، وصمتوا حدادًا على من رحل دون حتى أن يدركوا وجوده، ولو أن الوليد يومًا صارحهم بحقيقته والله ما كانوا ليترددوا في الترحيب به بينهم .
لكنه اختار البعد أيًا كانت أسبابه، لكنه رحل وانتهى الأمر.
دقائق أخرى مرت حتى بدأت اصوات الشهقات تهدأ وبدأ الصمت ينتشر في المكان، ولم يقطع أحدهم هذا الصمت سوى سالار الذي ردد بصوت منخفض بدت النيران فيه مشتعلة :
_ أصلان أثقل من ميزانه عندنا، واسرع من نهايته، كل هذا يجب أن ينتهي اليوم قبل الغد .
رفع الجميع عيونهم لسالار ليبتسم الاخير بسمة مخيفة وكأنه جاء هنا يحمل بين اكفته نهاية أصلان وقد خطط لكل شيء ..
_ اصلان فعل كل هذا لسببٍ، تضليلنا لأجل دخول الممالك مستغلًا الفوضى، لا بد أنه الآن بجيوشه في الطريق لنا ..
كانت هذه كلمات آزار الذي تماسك اخيرًا وعادت ملامحه تتلون بالغضب والسواد القاتم وقد أصبح انتقامه من اصلان الآن أكبر، انتقامًا لدينه وبلاده واخيرًا ولده الذي قتله بدم بارد .
نظر الجميع صوب آزار ليبدأ الاخير باخبارهم بكل ما نطق به الرجل قبل قتله، لتغيم عيون أرسلان بشكل مخيف قبل أن يرسم بسمة صغيرة غريبة على فمه ينظر لنزار الذي كان يتابعهم بأعين شبه متيقظة :
_ ألا تريد القصاص لأخيك نزار ؟!
انتبه نزار لكل كلمة ينطق بها أرسلان وقد اشتعلت عيونه بجنون وبراكين وقد كانت هذه اجابة غير مباشرة على سؤال أرسلان.
أما عن آزار فقد هب معارضًا ما يفكر به أرسلان:
_ أنت لا تنتوي بزج ولدي مجددًا بينهم أرسلان صحيح ؟! لن اضحي بولدي مرة ثانية يكفيني خسارة واحدة ..
_ ومن قال أنني سأفعل ملك آزار، أنا لست حقيرًا لهذه الدرجة كي ألقي بنزار بينهم مجددًا، نزار أخي كذلك وثأرك ثأرنا جميعًا، لا تقلق ليس هذا ما سعيت له بسؤالي ذلك .
ضيق إيفان عيونه بخبث وهو يبتسم وقد لمح لمعة عيون أرسلان بعدما سمع من نزار كل ما حدث معهم في الجحر، وقد استشف ما يقصد أرسلان فهو نفسه ما دار بعقله حينما سمع كلمات نزار حول الوليد وما فعل لأجله..
تحدث نزار بصوت مخيف :
_ بلى، لن أترك ثأري وكذلك....جثمان أخي أريد إحضاره ودفنه هنا بيننا، لن اتركه لهم يلقونه لحيوانتهم، أخي سيُكرم بدفنه في مقابر آبى وسآخذ عزائه بنفسي بعدما آخذ قصاصه .
ابتسم له أرسلان بهدوء :
_ إذن لك ما تريد .
نهض وهو يشمر اكمامه، ثم نظر لهم بهدوء :
_ في هذه اللحظة التي نتحدث بها، تزحف جيوش أصلان صوب سفيد ليدخلها مستغلًا تشتتنا ونحن ...سنتركه يفعلها .
نظر له البعض بعدم فهم :
_ نتركه يفعلها ؟؟
_ نعم نتركه يفعلها، دعوه يحقق ما يريد ويحتفل بانتصاره .
صمت ثم نظر للجميع ببسمة صغيرة وقد اتسعت بسمة سالار بقوة يردد بهدوء وهو يحرك سيفه أمام عيونه :
_ لحظتان يتوقف بهما الإنسان عن النظر حوله، لحظة انكساره، ولحظة انتصاره ...
أكمل ايفان وقد اكتملت الصورة في عقله لما يريد الجميع فعله :
_ إذن امنحوه انتصارًا وهميًا، يكون بداية تشتت ونهاية لهم، نهاية أبدية بلا رجعة .....
أخذ الجميع ينظر لبعضهم البعض نظرات غامضة وقد بدا أن الخطة اتضحت للجميع وأدركوا ما يريدون دفع أصلان له .
واخيرًا همس أرسلان بنبرة مرعبة سوداء :
_ الخامس عشر من محرم كانت نكبة لنا، والسادس عشر من محرم ستكون إبادة لهم .......
ـــــــــــــــــــــــــــ
لحظة انتصار ولحظة انكسار... فأيهما تكون ؟!
دمتم سالمين ....