رواية أسد مشكى الفصل الثاني والاربعون 42 بقلم رحمة نبيل


رواية أسد مشكى الفصل الثاني والاربعون 42  بقلم رحمة نبيل


 " قصــــاص "

لَا تَنسَوُا الإِبَاداتِ الجَماعِيَّة، فَإِنَّها تَتَكرَّرُ عِندَ نِسيَانِها!

- عَلِيّ عِزَّت بِيغُوفِيتْش، رحِمهُ اللّٰهّ.

صلوا على نبي الرحمة .

ـــــــــــــــــــ

كانت النظرات تحلق حول رأسها وهي فقط تقف أمام نافذة القصر تدعي الهم والقلق، كي لا يتوجه لها أحدهم بكلمة بعد ما ابصروه منذ ساعات قليلة، تبتلع ريقها تتذكر حينما وصلوا لقصر سبز مع سالار ونزار وتحرك كلاهما لقيادة الجيش ..

وقبل الرحيل مع الجيش ابصروا سالار الذي هرول بسرعة ليودع زوجته بحضن حنون وكلمات رقيقة هامسة، ومن ثم ابتعد عنها مبتسمًا برقة لو ابصرها أعداؤه لماتوا دون لمسة سيف .

لكن الصدمة الكبرى في هذه اللحظة كانت حينما أبصر الجميع بأعين متسعة اقتراب نزار منهم يرتدي زيّ الحرب الذي يتميز باللون البني يضع كامل اسلحته في ثيابه رغم جروحه وارهاقه الواضح على ملامحه، يخطو جهتهم بهدوء شديد، يقترب منهم وعيونه تدور عليها هي وحدها .

وتوبة المسكينة التي لم تجد فرصة اثناء طريقهم لتخرج من خجلها وتخبرهم أنها تزوجت نزار، كانت تقف في هذه اللحظة تنظر ارضًا، وكأنها إن لم تنظر لنزار سيتلاشى وينتهي الموقف .

لكن فجأة اتسعت عيونها وعيون من حولها وسمعت صوت شهقة خافتة وهي تشعر بيد نزار تجذبها صوبه ببطء قبل أن تستقر بين أحضانه وهي تفتح عيونها بقوة ترى تشنج سلمى خلفها وصدمة تبارك، وبسمة كهرمان المتعجبة والخبيثة .

ابتلعت ريقها وهي تحاول أن تتحدث بكلمة، لكن عجزت عن الأمر وهي بين يديّ الرجل الوحيد الذي تمنت منه نظرة واحدة .

همس لها نزار بحب وهو يطبع قبلة على رأسها بحنان مودعًا :

" ألقاكِ بخير حال أميرتي."

ختم حديثه وهو يمنحها غمزة صغيرة يبتعد مع سالار تاركًا قنبلته التي ألقاها بينهن، والأعين كلها تحلق حول توبة التي تنفست بصعوبة بالغة، ترى النظرات كلها تحوم حولها لتهرول بسرعة صوب الغرفة تدعي الإرهاق من السفر .

وها هي تقف أمام الشرفة تدعي الخوف كي لا يسألها أحدهم عن شيء .

أما عن سلمى كانت تضع قدم فوق الأخرى وهي تراقب ظهرها المواجه لهم تبتسم وهي تطلق كلمات ممازحة بصوت مرتفع لتبارك وكهرمان :

_ أدام الله لي شقيقك كهرمان، غازلني المرة الاولى حينما أبصر روحي على وشك الخروج من جسدي وبعد شهور من عقد القرآن.

ختمت حديثها تتنهد بصوت مرتفع :

_ الحياة غير عادلة ها؟! تتزوج في الصباح ويُتغزل بك  في الظهيرة، أين أرسلان ليدرك أن وقت التغزل لا يحتاج أكثر من مجرد دقائق؟؟

أطلقت كهرمان ضحكة صاخبة وهي تنكز خصر سلمى بعدما أبصرت اهتزاز جسد توبة بشكل غير مستقر :

_ أنتِ ناكرة للجميل، أخي هذا لا رجل مثله، هو فقط ثقيل بعض الشيء .

_ أخوكِ، ثقيل ثقل الجبال كهرمان، لكن حتى الجبال تخر وتلين .

ختمت حديثها بغمزة عابثة لتبتسم كهرمان وهي تقلب الحوار لها وقد امتلئت عيونها فضولًا حول أخيها العاشق :

_ إذن اخبريني كيف هو الجبل حين يلين عزيزتي، لطالما اعتراني فضول كيف سيكون أخي وهو عاشق وكيف سيتحدث ؟!

ابتسمت لها سلمى بسمة جانبية وهي تحرك عيونها صوب ظهر توبة تزيح خصلاتها الشبه قصيرة للخلف تتحدث بكلمات ممازحة :

_ إذن موتي بفضولك، فهذا الارسلان العاشق ملكية حصرية لي، لا أحد سيعلم عن هذا الجانب من زوجي عداي، الله اصطفاني من بين نساء الارض لأحظي بجوهرة كأرسلان، وأنا لست على استعداد لمشاركة ذلك مع أحد، حتى لو كان ذلك الأحد هو شقيقته التي تمتلك جزءًا كبيرًا في قلبه.

نفخت كهرمان بضيق وهي تتمتم بحنق شديد :

_ حقيرة للغاية، اصبحتِ تتحدثين كأخي .

_ نعم، واحمدي ربك أنني لم اتخلص منكِ لاحتفظ بقلب شقيقك بالكامل لأجلي، فقط رأفة بالعزيز آرس فهو سيحزن إن قتلت له شقيقته لأنني أغار عليه .

ختمت حديثها تتحرك صوب النافذة حيث تقف توبة تاركة كهرمان تراقب ظهرها مبتسمة بصدمة كبيرة، قبل أن تنظر صوب تبارك التي كانت تتابع كل ذلك بهدوء :

_ هل سمعتي ما قالت ؟! الفتاة تهددني بالقتل لتتفرد بقلب أخي العزيز .

صمتت بغيظ شديد وهي تتذكر نفس الكلمات التي كانت ترددها منذ اسابيع قليلة على مسامع زمرد بمزاح وهي تهدد بالتخلص منها للتفرد بقلب إيفان، ابتسمت بحسرة وهي تهز رأسها بيأس :

_ آه منها الحياة، اليوم لك والغد عليك، هل تصدقين هذا تبارك، الأمس اهدد زمرد واليوم أُهدد .

نظرت لها تبارك ثواني قبل أن تقرر التحدث وهي تحرك اصبعيها في الهواء مضيفة عيونها بتفكير تحرك شفتيها وكأنها تتذوق شيئًا ما :

_ عايزة فول بالزيت الحار ....

أمام النافذة وعند سلمى وتوبة، توقفت سلمى تستند بظهرها على إطار النافذة تنظر بخبث لتوبة :

_ إذن قصي عليّ ما حدث يا ابنتي ؟؟ أنا أجيد الاستماع .

حركت لها توبة عيونها وهي تحاول ادعاء الضيق:

_ لم يحدث شيء، لقد تزوجني قبل سفرنا بساعة تقريبًا، ومن ثم لا شيء ..

_ تزوجك هكذا بلا سبب ؟! كنتِ تعرفينه من قبل صحيح ؟!

_ لا أعتقد أن الملك أرسلان كان يعرفك قبل الزواج ورغم ذلك تزوجك صحيح ؟! 

رفعت لها سلمى حاجبها لتنهض كهرمان من الاريكة وهي تتحرك صوبهما تستغل انقلاب الحال على سلمى :

_ لا تقولي هذا عزيزتي، اخي تزوجها لهذه المرأة فقط ليؤدبها .

حركت سلمى عيونها صوب كهرمان بسخرية وهي تردد :

_ يؤدبني ؟؟ حقًا ؟؟ 

_ نعم أمثالك يا امرأة يحتاجون للتأديب، صاحبة لسان سليط، لا أتخيل في الواقع أول لقاء لكِ مع أخي، صحيح اخبريني كيف كان ؟؟ هل تزوجك بمجرد الوصول للبلاد أم ماذا ؟؟

أضافت توبة بفضول ورغبة في دفع الحديث بعيدًا عنها في الحقيقة :

_ سمعت إشاعات تقول إنه كان متزوجًا بها من قبل وقت طفولتها، وغادرت البلاد بعدما تم الزواج ومن ثم حينما حان الوقت عادت للبلاد لتلتقي بأخيكِ .

تشنجت ملامح سلمى من الكلمات التي سمعتها، وهي تفكر هل حقًا يظن الجميع أنها تزوجت أرسلان في طفولتهما ؟! والله لو أن الأمر حقيقيًا لكان تخلص منها في لقائهما الخاص بعد كل هذه السنوات .

 وقبل التحدث بكلمة تذكرت أول لقاء لهما سويًا، حينما سمعت شهقة أرسلان ترتفع وهو يصرخ بصامد وصمود يلقي المعطف في وجهها بحدة، ومن ثم يصرخ في وجهها ويتركها تعود وحدها، كل هذا لأنها جاءته بثوب يتكون من بنطال وسترة، ماذا لو اطاعت شيطانها وخالد وارتدت ثياب قصيرة وجاءته بها، وكل هذا وهو غريب عنها، ماذا لو كانت زوجته كما تردد توبة ؟؟ 

تتخيل أنه كان سيقتلها ويوزع لحومها صدقة على روحها ومن ثم ينثر الورود على قبرها .

أو ربما اسوء .....

القاعة هادئة لا صوت يعلو دون أذنه وقد أمر الجميع بالصمت في انتظار أن تطل عليهم الواردة الحديدة، صوت الأنفاس المتسارعة يعلو في الإرجاء والترقب مشتعل ...

لا احد يدرك القادم، لكن عودة جلال بعد كل تلك الأعوام لعالمهم لا ينبأ بالخير، وهو فقط يتوسط العرش ينتظر أن يصلوا ليوضح لهم ما سيحدث .

ثواني ورأى الجميع أحد الحراس يدخل شاحب الوجه يخفض رأسه ارضًا وهو يتحدث بصوت متردد :

_ مولاي لقد ...لقد جاءت ...جاء هو والفتاة و....

صمت لا يعلم ما الذي يجب قوله لقد لجمت الصدمة لسانه في الخارج، ابتلع ريقه يشعر بأنه سينصهر من هول ما رأى .

وهو فقط يعتلي عرشه ينتظر أن ينطق أو تطل هي عليهم، ويا ليت ما انتظر لم يتحقق، إذ فجأة دُفع الباب بقوة ليطل عليهم جسد امرأة تتشح بالاسود بالكامل مبتسمة بسمة واسعة، لكن الفرق بين السواد الذي تتشح به والسواد المعروف لديهم أنها لم تحسن انتقاء ثيابها.

إذ طلت عليهم مرتدية بنطال قماشي واسع بعض الشيء مع سترة قصيرة لا تتجاوز نصف معدتها، يعلوها معطف أسود جلدي، وخصلاتها متحررة خلفها بقوة وهي تبتسم له هو تحديدًا تقول بكل برود تميل برأسها، قبل أن تمسك طرف معطفها بحركة تشبه الاميرات، تميل نصف ميلة كما امرها، أمرها أن تتعامل برقي وها هي تفعل، مالت ترفع عيونها له تقول بصوت متحدٍ جعل أعينه تشتعل بغضب مخيف وهي فقط قالت ببساطة :

_مساء الخير مولاي طلبتني؟!

كل ذلك تحت نظراته بعدما اخفض جميع الرجال في المكان نظراتهم  بفزع من رؤيتهم لها بهذه الهيئة، وهو فقط نظر لها بشر، وهناك بسمة مختلة ارتسمت على فمه وهو يهتف بصوت جهوري في المكان هز جدران القاعة وقد أدرك الجميع أنها نهايتها لا محالة :

_ للخـــــــارج جميـــــعًــا، دعوني معها، فلدي حوار شيق اناقشه مع امرأتي .....

تحرك الجميع للخارج في لحظات تاركين القاعة فارغة إلا منهما، وهو فقط لم يحرك عيونه عنها، وهي فقط تراقبه ببسمة باردة، تراه يتحرك عن عرشه يشمر عن أكمامه حتى وصل لها يتوقف أمامها مبتسمًا بسمة لا معنى بها :

_ انرتي مشكى جلالة الملكة .

حركت عيونها عليه بهدوء شديد دون أن تتحدث بكلمة واحدة، وهو فقط يراقب مظهرها بملامح مشدودة :

_ لم يذكر والدك في رسالته شيء عن أنه سيرسلك لي راقصة .

اتسعت عيون سلمى بصدمة ولم تكد تتحدث كلمة واحدة حتى قاطعها وهو يتوقف أمامها:

_ لكن لا بأس، أنا سأنفذ وصيته واعتني بكِ واحفظك من الأعين جميعها ..

ابتسمت له سلمى بسمة صغيرة ولم تكد تتحدث بكلمة واحدة حتى شعرت به يغرز خنجره بها ويهمس بكلمات أخيرة قبل أن يتخلص منها ويستر جثتها بمعطفه الأسود:

_ داخل قبرك .

انتفض جسد سلمى على لمسة يد كهرمان وهي تشهق بفزع من تلك الأفكار التي قفزت لعقلها في لحظة حينما تخيلت ما كان من الممكن حدوثه لو طاوعت شياطينها، تقسم أنه كان ليتخلص منها في التو واللحظة حتى بإلقائها في مجرى المياه عساه يسحبها لعالمها وينتهي .

_ ما بكِ شاحبة الوجه كما لو أنكِ شبحًا للتو ؟!

ابتلعت سلمى ريقها من تلك الفكرة السخيفة، تبتسم بسمة مهتزة وهي تتمتم بصوت منخفض :

_ أخوكِ أشد سوءًا في غضبه من الأشباح كهرمان .

_ ماذا ؟!

_ لا شيء، ثم لقائي الاول مع شقيقك كان عاديًا يسوده الود والاحترام الشديد، ولا لم يكن زوجي حينها حمدًا لله على ذلك .

ابتسمت لها كهرمان بشك وقبل أن يتحدث احدهم بكلمة سمعوا صوت تبارك في الخلف تردد :

_ هو الغدا هنا الساعة كام بالضبط ؟؟؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

كانت الحرب مشتعلة بعدما انقلبت الموازين في ثواني، وغرتهم ثقة أصلان في الفوز بعدما بذل كل ما يتملك في سبيل أن ينتهي الأمر بجلوسه على العرش وفنى ما يمتلك وخطط لكل شيء .

إلا أن الشيء الوحيد الذي لم يحسب له حسابًا، كان تعاونهم ....

تكاتفهم وتعاونهم كان الضربة الكبرى له في هذه اللحظة، فاجتماع أربعة جيوش على جيشه كان ضربة في مقتل وهو من استعد لدخول سفيد ليبصرها تحاول استعادة أنفاسها والنهوض بعد الانفجارات، ظن أنه يستطيع استغلال تشتتهم والتغلب على جيش سفيد وحدهم، ظن أن الشر آن له أن يكتب كلمته، لكن كلمة الله تعلو أي كلمة .....

زحف وهو يحاول الخروج من بين الأقدام والدماء المتناثرة، يتنفس بصعوبة، يجر جسده خارج هذه الحرب يجاهد للهروب، ليس بعد، هذه ليست النهاية التي سيستلم لها .

اغمض عيونه بوجع وهو يتذكر جثة الوليد الذي كان في نفس وضعه منذ أيام قليلة، يزحف يحاول النجاة بآخر أنفاسه قبل أن يوقفه، وهو يبتسم بسمة قذرة .

" إلى أين عزيزي الوليد ؟؟ انتهت صفحاتك في هذه القصة فلا تحاول التطاول وسلب كلمات إضافية لك"

رفع الوليد نظره بصعوبة يمنحه بسمة واسعة وقد أبى أن يرحل بهذه البساطة :

" بلى ستجدني في كل صفحة، ستجد اسمي يرافق اسم أخي، اخي الذي اثق أنه لن يدعك تحيا طويلًا "

مال عليه أصلان يراقبه بسخرية لاذعة يخفي صدمته :

" أخوك ؟؟ نزار ؟؟"

" نهايتك "

ابتسم له أصلان بسمة مخيفة قبل أن يخرج خنجرًا يحركه بين أنامله بهدوء أمام اعين الوليد الذي لم يهتز لثانية واحدة، بل كان يبتسم يردد بجمود :

" لا تخطأ الهدف هذه المرة فصدقني إن عشت سأريك ميتة لا يتمناها أي عاقل، وحتى إن قُتلت فسوف تموت ميتة ما سبقك بها أحد، خائف مرتجف جبان وحقير، لأن هذا ما أنت عليه بالفعل يا سليل الأوساخ."

ومن بعد كلماته لم يُسمع له كلمة ثانية بعدما حرك أصلان خنجره بسرعة يقطع آخر انفاس الوليد من الحياة ويسرع ميتته راحمًا إياه من الموت البطئ، بعدما ذبحه دون أن يرف جفنه ...

لكنه لم يقطع رأسه كما سبق وذكر لنزار .

تنفس أصلان يصعوبة وهو يشعر بمعدته المصابة تحتك بالصخور اسفله، تفادى بعض الضربات، ونالته بعضها لتزيد من وجعه اوجاعًا، واخيرًا ابتعد بشكل كافي عن الحرب، نهض بصعوبة يستند على الجبل جواره يجر أقدامه بصعوبة يهرب من المكان وهو يتنفس بصعوبة وقد وصلت اوجاعه عنان السماء.

ابتعد بشكل كافي يلقي بجسده بصعوبة فوق صهوة أحد الأحصنة وهو يتأوه بصوت مرتفع وقد سقطت دموعه من شدة الألم، يتنفس بصوت مرتفع يتحرك بالحصان بعيدًا عن الضوضاء وبعيدًا عن جميع الأعين مستغلًا حالة الفوضى في المكان .

أو ربما لا .....

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

_ يا حبيب قلب أبيك .

سقطت دموع آزار وهو يلتقط جسد الوليد البارد الفاقد للحياة بين أحضانه، يضمه بحب شديد يقبل رأسه، وقد ارتجف قلبه كما ارتجفت كل خلية من جسده .

_ كنت سأ....والله كنت لأحبك بني، أنا أحببتك لأنك تحب ولدي فما بالك لأنك ولدي؟! لماذا....لماذا فعلت هذا ؟!

صمت يبتلع ريقه وهو يدفن وجهه بأحضان ولده يضم رأسه لصدره بحب شديد :

_ فقط اتمنى... أتمنى ألا تكون قد رحلت وأنت تحمل في صدرك أي غضب لي، أقسم بالله لم أكن أعلم أي شيء عنك، لو علمت ...ما تركتك لحظة واحدة .

قبل عيونه وهو يهمس بالكثير من الكلمات وقد تصدع قلبه من مظهر ولده يزيد من ضمه منفطر القلب وكلماته غير واضحة بسبب بكائه :

_ لا بأس يا بني، لا بأس، عسى الله أن يجمعنا سويًا، سأفني حياتي القادمة أدعو لك الله ولدي، وحينما نلتقي أمام الله، خذ حقك يا حبيبي لو كنت تمتلك مظلمة عندي، فقط ....ارقد في سلام يا الوليد، غفر الله لك يا بني، غفرك الله لك يا بني.

ختم حديثه يقبل جبين ولده، وهو يحاول التحرك وحمل جثمان ولده، لكن حدث وخانته قوته ولم يكد يتحرك حتى سقط من شدة ضعفه وقد أكل الحزن كامل قوته، ليسقط ارضًا وهو يحمل جسد الوليد بين أحضانه ينفجر في بكاء حار وهو يصرخ باسم ولده وقد أنهار كل تماسكه، يتنفس بصعوبة من بين بكائه ..

فقد حتى قوته في تحريك ولده يهتف بصوت عاجز للجنود حوله بصوت مقهور : 

_ اعينوني على حمل ولدي ....اعينوني لحمل ولدي .

ركض له بعض الجنود وقد ارتجفت صدورهم من هول المشهد، يحمل أحدهم الوليد بين يديه بسرعة والآخر يساعد آزار للنهوض والتحرك خلف جثمان ولده .

آزار الذي لم تنكسر له هامة وعُرف ببأسه الشديد وشدته وجبروته، يتكأ بضعف على أحد الرجال بعدما استنزف كامل قواه في البقاء على قيد الحياة حين سماعه ما حدث .

تحرك بصعوبة خلف الجندي وهو يحدق في جسد الوليد بأعين ضبابية يهمس بكلمات متتابعة دون أن يتوقف ثانية :

_ رحمك الله بني...رحمك الله بني ...جمعني الله بك في الآخرة حبيبي ...رحمك الله بني .

تحرك مع الرجال ووضع جسد الوليد في صندوق إحدى العربات التي احضرها خصيصًا لنقل جثمانه، ورفض الصعود على حصانه وهو يصعد للعربة يهتف بصوت خافت :

_ سأستكين جوار ولدي ...

صعد وجلس جوار الوليد وهو ينظر لها ثواني يتنفس بصوت مرتفع يمسك بكفه وقد قرر أن تكون رحلته صوب آبى تعارف صغير له بولده ولو كان ذلك التعارف متأخرًا .

يتذكر حديث نزار حول توبته المتأخرة والتي لم تكتمل .

_ والدك فخور بك يا الوليد، مت بطلًا رجلًا تدافع عن أخيك، ميتة يُرفع لها الرأس، لم تمت ميتة خسيسة كالبعض، بل مت رجلًا، رجلًا لن يُذكر اسمه في الممالك أجمع سوى بالخير وسأعمل على ذلك ولو كلفني قطع كل لسان يذكرك بالسوء، وهذا أقل ما اقدمه لكِ بني .

ختم كلماته وهو يقبل كف الوليد مبتسمًا :

_ ما ....ما رأيك بسماع قصة والدك العجوز ريثما نصل لمنزلك الجديد بني ؟! لنعتبره تعارفًا متأخرًا بعض الشيء .

ـــــــــــــــــــــــــــ

أسفل سفح جبل قلعة سفيد .

كانت الحرب على أشدها وقد ارتفع صوت سالار الجهوري يصيح في الجميع بصوت هز الأبدان من موضعها :

_ حرمــــــــة بلادكــــم، ونسائـــــــكم، ودينــــــــكم، كانت حلًا لهم، فلا تأخذكم بهم شفقة ولا تدعوا منهم وغدًا إلا واقتصصتم منه.

وكأنه ألقى الوقود على النيران ففي ثواني زادت الفوضى أكثر وقد أصبحت جيوش الممالك مجردة من كل معاني الرحمة والإنسانية، وقد أعمى الغضب أعينهم بالكامل .

الجميع يقاتل في الأسفل ودانيار يسقط مع جيوشه كل من يقترب من القلعة والجبل وقد كان خط الدفاع لهم حسب الخطة التي وضعت .

بينما تميم كان يحمل سلاسله الحديدية يجز بها الأعناق جوار المعتصم الذي كان سيفه قد تحول للون الأحمر لشدة الدماء التي تسيل منه .

وايفان لم يكن نفسه إيفان المتعقل، بل اصبح وحشًا وتناسى كلماته بالرحمة والدعوة للتسامح بعدما أبصر دمار بلاده على أيديهم..

أما عن بارق فقد كان أكثرهم وعيًا وتعقلًا بما يحدث حوله، وربما أشدهم رحمة في هذه اللحظة، يقاتل ويصيب بضربات غير قاتلة مكتفيًا فقط باسقاطهم ارضًا ربنا يحتاجون أحدهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

في قلعة سفيد كانت تقف على باب القصر الداخلي وهي تحمل سيفها تحركه في الهواء وكأنها تنتظر فقط أن يمر من أمامها أحدهم لتخرج روحه بين يديها، ولا تدري أن جلستها بهذا الشكل المتحفز كانت أحد أهم الاسباب التي جعلت زوجها يخرج روح كل من يفكر في الاقتراب من القصر صوبها، فقط ليتفادى انخراطها في قتال لا طائلة منه .

زفرت زمرد بصوت مرتفع وهي تسمع أصوات الانفجارات وترى النيران والدخان يعلو السماء :

_ ماذا الآن ؟! أين القتال ؟! أين الحرب ؟! أين الاوغاد ؟!

ابتسمت برلنت والتي كانت لا تستمتع لها وهي تراقب السماء فوقهم وكأنها في عالم آخر غير ذلك العالم:

_ بسم الله عليك تميم، كل هذه المتفجرات من صنع يديه لزوجي، الحمدلله الذي افلح له ضرباته ...

نظرت لها زمرد بضيق وهي تمسح وجهها :

_ لو كنت أعلم أن الأمر سيكون بهذا الملل والله لذهبت معهم لآبى، أنا من تمنعت واصررت على البقاء هنا بحثًا عن الانتقام .

_ انتقام من من ؟! ألم تنتهي من قومك بعد ؟؟

ضيقت زمرد عيونها:

_ لا أعلم، أشعر فقط أن هناك البعض منهم مايزال بينهم، فأمثال قومي من الحشرات سريعة العدوى والانتشار، لذا احتمالية الانتهاء منهم في حرب واحدة لم تكن واردة لدي، بالطبع هرب منهم حشرة أو اثنتين وانتشروا في الباقيين .

نظرت لها برلنت بأعين مرتابة وهي تهمس بصوت منخفض :

_ احيانا اشعر بالريبة منك، كيف نجوتي من قومك وقذارتهم ولم تخرجي بشيء من إجرامهم.

على نظرات زمرد صقيع غريب قبل أن تتحدث ببساطة شديدة :

_ من أخبرك أنني لم اتأثر بوجودي معهم ؟! من الصعب الخروج من الوحل دون أن يلوثك البعض منه برلنت .

_ لا أفهم، أنتِ جيدة معنا و...نعم تغضبين بسرعة ولا تفكرين سوى بيدك لكن هذا للخير .

_ نعم هذا ما اتحدث عنه، أنا لا اتحكم بنشأتي الخشنة وتصرفاتي القذرة وتطلعي الدائم للقتل، ولولا أن الله رزقني برجل كدانيار يتحكم بي ويتقبل تصرفاتي، لما تحملني رجل في هذه الحياة، ماذا تتوقعين من فتاة وحيدة نشأت بين اكثر من عشرة صبية خشنين قذرين ؟!

اتسعت عيون برلنت بصدمة وقد كانت هذه أول مرة تدرك الأمر تقريبا تهتف بانشداه :

_ عشرة ؟! 

_ توقفت عن العد من بعد العشرة في الواقع ربما أكثر.

_ يا الله وكيف تعاملتي معهم ونجوتي بينهم كلهم .

ابتسمت زمرد بسمة واسعة وهي تهتف ببساطة :

_ لم اضطر للتعامل معهم جميعًا، فقط بافل وهذا كنت اغلبه بلساني فيتلظى من الغضب ويستشيط حتى ينفجر في النهاية، والصغير اخوه الشقيق وهذا كنت ادهسه بحذائي، والاخ الخامس لنا وهذا الوسخ كنت اتجنبه قبل أن يقتله بافل، واخيرًا الاخ السادس وهذا الحقير كانت أمي تبعدني عنه لأنه كان مختل بعض الشيء .

_ هذه حياة غريبة لا أتمنى أن أحياها.

نظرت زمرد للسماء تراقب الدخان مبتسمة بسمة سوداء :

_ ولا أنا تمنيتها، عزائي الوحيد أنني كنت استمتع وأنا اراقبهم يقتلون بعضهم كالحيوانات وأنا اراقبهم .

ربتت برلنت على كتفها بحب قبل أن تجذبها لاحضانها بحنان شديد تهمس :

_ أنتِ اقوى امرأة في هذه الحياة صدقيني .

ابتسمت لها زمرد وهي تنظر صوب السماء تشرد بها وكل املها أن ينتهي هذا الكابوس ويعود السلام للممالك، سلام ما قبل عصور المنبوذين ....

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كان يتحرك بين الطرقات وهو يتنفس بصعوبة بعدما صَعُب على الحصان المواصلة بين طرقات سفيد الوعرة حول القلعة .

تنفس بصعوبة وهو يضع يده على جروحه وقد بدأت خطواته تصبح ابطء واصعب وكلمات الوليد حول ميتتة الشنيعة تتردد في أذنه، سقطت دموعه بعجز وهو يزيد من ضغطه على شفتيه، قبل أن يبدأ الضحك بشكل غريب وسط دموعه .

_ حتى لو كانت يا الوليد، يكفي أنني كنت اسوء من مر على خيالهم، سيتذكرونني ويستعيذون من وجودي.

ضحك ضحكة صغيرة بصعوبة، يتنفس مرة أخرى وقد بدأ يفقد الكثير من الدماء، يصبر نفسه بأنه أوشك على الابتعاد، ربما يهرب ويختبأ لأيام حتى تنتهي كل تلك الحروب، ومن ثم يرى ما سيحدث وما سيفعل .

أبصر من بعيد بداية غابات سفيد الشرقية ليبتسم بسمة صغيرة وهو يحدد نقطة اختفاءه.

زفر أنفاس راحة خرجت بصعوبة من صدره وهو يخطو صوب الغابة والتي بمجرد أن وطأ بها سمع صوت خطوات يلحق به، ولم يكد يستدير حتى سمع صوتًا يهتف بالقرب من أذنه في الخلف :

_ اشتقت للعم أرسلان ؟؟ 

اتسعت عيون أصلان بقوة وهو يحاول التنفس بشكل طبيعي، لكن كل ذلك توقف، سواء كان تنفسه أو حتى ضربات قلبه وهو يبصر أرسلان يتحرك بهدوء وهو يدور حوله يبتسم له بسمة ظهرت له في هذه اللحظة مريضة وهو يميل بجسده يهمس بصوت خافت :

_ تغادر الحرب هكذا دون رؤيتي ؟! وأنا كنت رفيقك الوحيد بينهم أصلان ؟!

تأتأ بصوت مقهور وهو يعتدل في وقفته :

_ حسنًا لا بأس، لم اتوقع الكثير من وسخ مثلك، ثم تريد الرحيل بهذه البساطة ؟! ماذا عن رسالتي لك، ووعيد امرأتي كذلك ؟؟ أنت لا تريد أن أعود لزوجتي دون شيء بيدي أو حتى هدية زفاف ؟! عيّبٌ والله .

نظر له أصلان وقد كان في حالة لا تسمح له بتحريك إصبع حتى، يشعر بكامل قواه على وشك خيانته، ومن العدم ابتسم يتذكر كلمات نزار حينما أخبره أن قوى الجسد تفنى وتخون، ذلك الحقير كان يعلم الكثير هو وأخيه.

ابتعد أرسلان عن الطريق من أمام أصلان يظهر له طريق الهروب وهو يتذكر حديث سلمى وكل كلمة نطقت بها باكية بين أحضانه.

* لقد ....لقد كنت اركض منه في الغابة وهو يركض خلفي حتى شعرت أن ضربات قلبي ستتوقف في أي لحظة * 

تحدث أرسلان ببسمة غريبة :

_ أمامك الغابة ستركض بها وإن هربت مني فقد نجوت بروحك، وإن لم تفعل....

ترك كلماته معلقة وهو يدفعه لعيش كل لحظة رعب ووجع مرت بها سلمى وكلماتها ما تزال ترن بأذنه .

نظر له أصلان بعدم فهم ليحرك له أرسلان رأسه ببسمة صغيرة مشيرًا للطريق، تنفس أصلان بصعوبة وهو يشعر بأن استسلامه سيكون أسهل من الهرب في هذه اللحظة، والذي سيكون بلا فائدة، لكن غريزة البقاء حركت كل ذرة بجسده دون أن يشعر حتى وجد نفسه يهرول بشكل غريب على رجل مصاب بمثل إصابته.

يركض بجنون وهو يحاول أن يتمالك صرخاته المتوجعة .

وأرسلان يتابعه بعيونه وهو يركض قبل أن يبتسم يشعر بالراحة وهو يراه يركض ركض الوحوش في البرية بنفس الخوف الذي زرعه في زوجته سابقًا.

وفي ثواني كان يركض خلفه وهو يتنفس بغضب شديد يتوعد له بميتة شنيعة ..

زادت هرولة أصلان بشكل يائس وقد بدأت دموعه تهبط من شدة الوجع يحاول المقاومة، لكن فجأة شعر بجسده يصطدم بقوة في الارضية أسفله والصخور تحتك بجرجه ليصرخ صرخة رن صداها في المكان بأكمله.

وكلمات سلمى الباكية ترن في أذن أرسلان.

* وحينما...ظننت أنني هربت فجأة سمعت صوتًا في الخلف وقبل أن استوعب شعرت بجسد يصطدم بي مسقطًا اياي ارضًا بشكل مرعب لأشعر بجسدي يتحطم بالكامل* 

سحب أرسلان جسد أصلان الذي بكى من الوجع الجحيمي الذي ملئ جسده في هذه اللحظة، وفي ثواني شعر بصفعة كانت اشبه بمطرقة تهوى على صدغة ..

* و ..لقد ....صفعني أرسلان...لقد صفعني بشكل....صفعني لدرجة شعرت بوجهي قد تخدر *

كانت يد أرسلان تهوى على وجه أصلان بلا توقف، قبل أن يمسك رأسه ويضربها بقوة في الشجرة خلفه ليسقط على إثرها ارضًا يحاول التمسك بآخر انفاسه، يرفع عيونه بصعوبة صوب أرسلان الذي ابتسم له بسمة مرعبة .

يقترب منه خطوات جعلت أصلان يحرك يده بوجع شديد يبحث عن شيء كالمحموم داخل ثيابه قبل أن يجده.

وجد يد أرسلان ترفعه من مقدمة ثوبه مقربًا إياه له، ليبتسم بسمة معلنًا بها نهاية اللعبة بينهما .

_ والآن عزيزي أصلان، أمنية أخيرة لك قبل موتك ؟!

نظر له أصلان ثواني قبل أن يبتسم بسمة لا معنى لها يهمس بصوت خرج بصعوبة مصحوبًا بدماء تتناثر من فمه بشكل مزري :

_ ما تطمح له لن يحدث، لن أسمح أن تكون نهايتي ...لن أسمح أن يذكر التاريخ أن نهايتي بعد كل هذه السنوات وكل ما فعلته على يدك أرسلان.

_ صدقني هذا شرف لا ارتضيه لأمثالك، أن يذكر التاريخ أنك مت على يدي لهو شرف لك أصلان.

ابتسم اصلان بسمة مختلة وهو يهمس من أسفل أسنانه التي يزيد من الضغط عليها بسبب وجعه الجحيمي في هذه اللحظة .

_ تبتغي تخليدًا في كتب التاريخ أنك أنت من قتلت أصلان الجعفري ؟؟ أنك أنت الملك القوي الذي تخلص من الشرير الحقير؟؟

كان أرسلان يقترب منه خطوات قذفت الرعب في صدر أصلان يهمس بصوت منخفض مخيف :

_ لا يهم كيف تموت، ففي النهاية الرابح هو من يكتب التاريخ عزيزي، حتى إن كتبت أنك مت دهسًا تحت أقدام خنزير فمن أي لك بلسان لتنفي الأمر.

مال بجسده وهو يستل خنجره من ثوبه يحركه أمام أصلان الذي كان يتحرك للخلف بجسده يحاول أن يتنفس بشكل طبيعي يكبت تأوهاته التي بدأت تفلت من فمه دون شعور وارسلان فقط يتابعه مستمتعًا بهذه اللحظات:

_ رؤيتك تحارب للنجاة تستحق أن أترك حروبًا لأجلها وليس فقط حرب واحدة، تخيل ما سأفعله بك عزيزي أصلان الآن ؟! سوف اجعلك تتمنى الموت ولن تطاله .

ارتجف جسد أصلان وهو يتخيل كل طرق التعذيب التي قد يفعلها به أرسلان، وقد بدأ جسده يتراجع أكثر زاحفًا للخلف وأرسلان يتقدم منه كلما ابتعد خطوة واحدة فقط .

وقبل أن ينحني أرسلان على أصلان، أخرج الأخير واخيرًا خنجره المسموم والذي كان يحمله داخل ثوبه طوال الوقت، يلوح به في وجه أرسلان الذي ابتسم له بسخرية يسمع حديثه :

_ التاريخ سيذكرني، رغم انوفكم سيذكر التاريخ أنه في وقتٍ ما جاء رجل يدعى أصلان، حرق قلوب الممالك أجمع وترك أثرًا لا يمحى في كل منزل في الممالك، أثر سيتذكره كل رجل منكم حينما يراقب قبور من رحلوا من أسرته، سيذكر التاريخ أنني....ورغم كل ما فعلته بكم، لم ....

ابتلع ريقه بصعوبة وقد بدأت يده ترتجف :

_ لم ينل أحدكم شرف التخلص مني، لن امنحكم شرف ذكر اسمائكم جوار اسمي يا اوساخ .

ومن بعد هذه الكلمات اتسعت أعين أرسلان بصدمة وهو يرى أصلان يرفع خنجره، وقبل التراجع والدفاع عن نفسه وجد الحنجر يسلك طريقه صوب قلب أصلان نفسه، لينتشر السم بسرعة مرعبة في جسد الأخير، وتخرج روحه في اللحظة ذاتها .

تنفس أرسلان بصدمة مما رأى، ذلك المختل قتل نفسه فقط كي لا يقال أن هناك من نال شرف قتله ؟!

نال أصلان ميتة يستحقها وعلى يده، ميتة متوقعة من نرجسي مختل مثله لم يطمح لأنتصارًا بقدر ما طمح لسماع صدى اسمه في الارجاء ولو كان بالسوء .

كان يراقبه من الاعلى وهو يبصر وجهه الذي شحب بشكل مخيف وقد بدأ اللون الازرق يزحف على ملامحه، وعيونه شاخصة بشكل مرعب وبسمة واسعة مختلة مرتسمة على فمه .

ابتسم أرسلان بسمة جانبية وهو يميل عليه يهمس بصوت منخفض وكأن احدهم سيستمع إليه:

_ أحسنت أصلان، لو قضيتُ المتبقي من حياتي أفكر لك في ميتة قذرة، ما وجدت اقذر واخس من ميتتك هذه .......

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

وفي ساحة الحرب كان سالار يبدو مرعبًا وهو يحطم كل من يقف أمامه، يدور بعيونه بين الجميع قبل أن تقع عيونه على أحد الرجال يتحرك صوب نزار بسيفه ليطلق صرخة مرتفعة محذرة، تبعها إخراج خنجره وهو يلقيه بقوة وبسرعة مرعبة في الهواء لتستقر في ظهر الرجل تزامنًا مع استدارة نزار يغرز سيفه في معدة الرجل جوار خنجر سالار وقد صُدم من صرخة سالار .

ثواني وسقط الرجل ارضًا ليرفع هو عيونه صوب سالار الذي ابتسم له بسمة صغيرة، ليرفع له نزار يده يلقي له  بتحية الجنود لقائدهم احترامهم.

اتسعت بسمة سالار وهو ينظر حوله يراقب كفة الحرب تميل لهم، وايفان ينتهي من آخر رجال بهم مع المعتصم وبارق وباقي الرجال .

ضيق عيونه بإدراك يبحث عن أرسلان في الإرجاء متعجبًا اختفائه عن ساحة حرب وقد كانت له كالمنزل لا يفارقها إلا حينما يتأكد أنه حفر قبر آخر واحد فيهم .

شعر بالريبة والخوف وهو يدفع الأجساد بحثًا عنه، يدور بعيونه في المكان، لينتبه له إيفان الذي نظر له بعدم فهم .

ابتلع سالار ريقه يهمس بكلمة واحدة فقط مرتعبة :

_ أرسلان ؟!

وكانت الكلمة كافية لتقذف رعبًا في صدر إيفان كذلك ليحرك عيونه في المكان يبحث عنه بين الجميع وقد سقط قلبه ارضًا خوفًا أن يكون أحدهم قد غدر به في الحرب دون أن ينتبه له أحدهم.

ودون إرادة حرك عيونه على الجثث المتناثرة ارضًا وقد بدأ جنود الممالك يمسكون آخر من تبقى مستسلمًا، وايفان شعر فجأة بالحرارة تنبعث داخل جسده بالكامل وقد توقف قلبه للحظات وهو يركض كالمجنون يدفع الجنود جانبًا يصرخ بصوت مرتجف :

_ أرسلان .... أرسلان....يا ويلي أرسلان...ابتعد من وجهي أين أرسلان ؟!

كان يدفع الجميع دون شعور وسالار يبحث معه بشكل محموم ويحرك عيونه على الجثث مرتعبًا أن يجد جسد أرسلان بينهم، يدع ترتجف وهو يدفع الجثث جانبًا يكشف عن وجوههم ليتبين هويته .

_ أرســـــــــــــلان يا أخــــي..

انتشر الرعب بين الجميع فجأة وشعر المعتصم لثواني بقلبه يتوقف عن النبض وهو يلقي سيفه بوجه شاحب:

_ لا ...لا ...لا، ليس أنت...ليس أنت.

ارتجفت شفتيه وهو يهرول معهم للبحث عن أرسلان، ونزار يراقبهم بصدمة كبيرة وقد شعر في هذه اللحظة بقلبه يتوقف ليسقط ارضًا من شدة الوجع الذي أصابه يشعر بنفس المشاعر يوم فقد الوليد، لن يحتمل فقدان آخر، ليس أرسلان.

أخذ يحرك انظاره بصعوبة وقد شعر بوجع قلبه يزداد ليضغط عليه بكفه وقد أوشك قلبه على التوقف يطلق صرخة مرتفعة ركض على إثرها بارق وهو يصرخ باسمه فزعًا :

_ نـــــــــزار .

استدار سالار برعب صوب نزار مع صرخة بارق ليبصر الأخير ساقطًا ارضًا يضغط على قلبه بوجع، يهرول صوب ابن خاله يلتقط جسده بسرعة وهو يصرخ بأعين دامعة مرتجفًا صوب خيمة مهيار :

_ مهيـــــــار ساعـــــدني ....مهيــــــــــــار .

وايفان أخذ ينظر حوله بصدمة وقد ارتجفت يده يشعر بالمكان يُظلم حوله، أرسلان ليس هنا ونزار سقط ارضًا ينازع للحياة، هل خسروا رغم فوزهم ؟؟؟؟

سقطت دمعة مرتعبة منه .

وقبل أن يتسلل الوجع لقلبه ويسقط ارضًا سمع صوتًا خلفه يتحدث بعدم فهم :

_ ما الذي يحدث هنا ؟! هل انتهيتم بهذه السرعة ؟!

استدار إيفان بسرعة صوب الصوت ليبصر أرسلان يحمل فوق كتفه جثمان لا يدري لمن لكنه لم يهتم وهو يركض صوب أرسلان في اللحظة التي ألقى بها الاخير جثة أصلان ارضًا، كان يستقبل لكمة إيفان على فكه وهو يصرخ بجنون :

_ أيها الحقير هل تنتوي قتلي رعبًا؟! أين كنت ايها الوسخ ؟! تفعلها مجددًا أرسلان، تفعلها مجددًا أيها الحقير 

اتسعت عيون أرسلان بصدمة مما يحدث :

_ كثرة جلستك مع سالار أثرت عليك كثيرًا إيفان.

جن جنون إيفان وهو يصرخ بصوت مرتفع :

_ لقد ...اصبتني بحالة من الجنون، اختفيت دون أي تنبيه وصرنا نبحث عنك بين الجثث كالمجانين، ونزار سقط ارضًا من فكرة أن سوءًا أصابك وأنت....

قاطع أرسلان كلماته وهو يهمس بعدم فهم وقد شحب وجهه :

_ ماذا ؟! نزار سقط ؟؟ ما الذي تقصده بسقط إيفـــــان ؟؟؟؟؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نظر جواره يتأفف بضيق وهو يحرك السهم ارضًا يرسم به خطوط وهمية يردد كلمات حانقة :

_ هذا ليس عدلًا هل خافوا أن يغطي نوري عليهم في الحرب ؟! هذه أنانية.

حرك تيم عيونه بهدوء صوب خالد الذي لم يتوقف عن التذمر منذ عرف أن الجيوش خرجت لحرب دونه، والعجيب أنه كان يرفض قبلًا القتال او تلويث يده بالدماء كما يردد طوال الوقت، والآن حانق لأنه لم يذهب معهم ؟؟

_ فقط مرر يومي ولا تقسم رأسي نصفين من نحيبك خالد، أنا بالفعل اعاني بما يكفي، ثم هل تراني ذهبت ؟؟ ها أنا اقود المتبقي من الجيش لحماية العاصمة والقصر، إذن لا تفسد مزاجي أكثر من هذا و....

لكن كلماته توقفت في منتصف طريقها صوب الخارج حينما أبصر انتفاض جسد خالد وقد اتسعت بسمته بشكل غريب ينهض فجأة من مقعده في ساحة القصر وهو يتحرك ملتمع الأعين صوب إحدى الجهات.

ضيق تيم عيونه وهو يميل بجسده للأمام كي يبصر ما ينظر له خالد، لكن تراجع للخلف بسرعة حينما شعر بيده خالد تدفعه والأخير يردد بجدية :

_ ما الذي تفعله أنت ؟! تنظر لزوجة أخيك تيم ؟!

اتسعت عيون تيم بصدمة ولم يستوعب من الاساس ما يحدث يحاول الحديث ليوضح أنه حتى لا يعلم عمن يتحدث أو ما يحدث هنا .

لكن خالد رفع إصبعه في وجه تيم وهو يهتف بجدية واعين مشتعلة :

_ اسمع يا أخي، منذ اللحظة التي اتخذتك بها رفيقي حرمت على نفسي كل امرأة تنظر لها، فافعل المثل مع من يخصني من النساء ولا تمدن عيونك لهن .

كان يتحدث وهو يحرك إصبعه بجدية أمام وجه تيم الذي ينظر لإصبعه بعدم فهم متشنجًا، ومن ثم ابصر انصرافه دون كلمة إضافية .

ابتسم تيم بسمة صغيرة متشنجة وهو يميل برأسه محاولًا فهم ما يحدث في هذه اللحظة .

لكن لا شيء ...

هز رأسه بتعجب وهو يعود بعيونه صوب البوابة الرئيسية للقلعة يراقبها بهدوء وقد استطاع ذلك الخالد أن يقلب يومه .

فجأة أبصر البوابة الصغيرة الجانبية للقلعة تُفتح ويدخل منها جسد يتشح بالسواد ولم يظهر منه شيء لبعد المسافة بينهما .

نهض تيم وهو يتحرك بهدوء صوب ذلك الجسد يهتف بصوت جهوري قوي :

_ من أنت يا هذا اظهر نفسك ..

فجأة توقف الجسد وكأنه تجمد على كلمات تيم، والأخير تقدم خطوات قليلة صوب الجسد يتحسس سيفه على استعداد لجز عنقه في أي لحظة وبمجرد أن أصبح على مقربة من ذلك الجسد وفي منطقة تسمح له بالرؤية الواضحة أبصر جسد انثوي يلتحف بالسواء ولا يظهر منها سوى أعين محاطة بالكحل الأسود.

ضيق عيونه وهو يقترب أكثر يهتف بترقب :

_ من أنتِ سيدتي ؟؟ عرفي عن نفسك .

وهي فقط كانت متجمدة في موضعها لا تحسن تحريك يدها حتى لتعدل من وضعية لثامها، وضربات قلبها تعلو وبقوة تشعر بأنها على وشك السقوط ارضًا وهي تبصره ...نفسه الرجل الذي ابصرته منذ شهور طويلة ولم يفارق خيالها منذ تلك اللحظة .

فارسها الشهم ........

كانت تسير في الأسواق وهي تحمل الكثير من الحقائب وتركض بخطوات متعجلة كي تلحق بوقت الطعام والدواء لشقيقها، لكن السوق و الازدحام في هذه اللحظة لم يساعدونها على الإطلاق لتنتهي من هذا بسرعة .

فجأة وأثناء هرولتها تعرقلت أقدامها بصخرة أسفلها لتسقط كل ما كانت تحمله في يدها ارضًا وتتناثر الخضرات في الإرجاء، لكن من سوء حظها أو من حسنه أثناء مرور إحدى قوافل الجيش التي تراقب حركة الاسواق سقطت بعض الخضرات على البعض منهم ومن بينهم قائد القافلة .

تراجع تيم للخلف بسرعة وهو يشهق بصوت مرتفع ينظر لنفسه بصدمة وقد تدمرت ثيابه، رفع بعيونه لفهم ما يحدث ولم يكد يصرخ ظنًا أن أحد الاطفال يثير شغبًا، حتى أبصر امرأة ساقطة ارضًا ليتحرك بسرعة وهو يهتف :

_ بسم الله، هل أنتِ بخير آنستي ؟؟

تنفست بصوت مرتفع وهي تحاول أن تتمالك نفسها وألا تنهار، تراقب من أسفل رموشها كل ما عملت على شرائه وقد تدمر أسفل الأقدام، ضغطت بيدها على الأرضية أسفلها ترفع عيون حادة للمتحدث وكأنه هو من دمر كل شيء .

_ نعم، إن كان ضياع كل ما عملت عليه يعد خيرًا في نظرك، فأنا بخير حال يا سيد .

رمش تيم بصدمة من هجومها يحاول التحدث، لكنها لم تعطه فرصة وهي تنهض تنفض ثوبها الأسود، ومن ثم رفعت عيونها له تزيح غطاء الوجه لتمسح وجهها ليتصنم جسد تيم أمامها دون ردة فعل، قبل أن يبعد عيونه عنها، ويميل ارضًا بسرعة يحاول جمع كل ما لم يفسد منها في الحقيبة يمسح الطعام بثوبه، ومن ثم يضعه بالحقيبة تحت أعينها المصدومة من فعلته .

فعلى حسب زعمها أن جميع من ينتمي للجيش متكبر متغطرس، لكن يبدو أن صاحب العيون السوداء هذا يختلف عن الجميع .

انتهى تيم من جمع الطعام وهو ينهض بسرعة يعطها الأكياس، ومن ثم تحرك دون كلمة يختفي من أمامها ثواني تاركًا إياها عاجزة للمرة الأولى أمام أحدهم، تستشعر رقيًا لأول مرة، ضمت أكياس الطعام دون شعور وهي تنظر حولها تتحرك بسرعة بعيدًا عن المكان وهي ترفع لثامها مجددًا تخفي به ملامحها تتحرك بعيدًا عن الازدحام صوب منزلها، وبمجرد أن خطت لشارع جانبي سمعت صوتًا خلفها يهتف :

_ آنستي لحظة من فضلك .

توقفت أقدامها وقد تسببت نبرته الهادئة والرخيمة في زيادة ضربات قلبها، تستدير ببطء تراقبه يهرول صوبها يحمل كيسًا من نفس ما تدمر أثناء سقوطها يمده لها ببسمة رجولية لطيفة:

_ تفضلي ..

حركت عيونها صوب الكيس وقد تجمد جسدها بالكامل، ومن ثم رفعتها له ليتوتر تميم من نظرته يهتف بصوت منخفض :

_ تفضلي .

تبع كلمته وهو يضع الكيس في يدها دون انتظار أن تأخذه هي يهتف بحرج وهو يفرك رقبته :

_ هذا فقط....ربما ....هذا كي لا يفسد يومك لأجل بعض الخضروات و....كوني فقط بخير آنستي .

ومن بعد هذه الكلمات هز رأسه له بتحية واحترام وكأنه يحيي اميرة ورحل ببساطة تاركًا ايتها تواجه لأول مرة اعجابًا بتصرفات رجل، وليس أي رجل ..

رجل راقي لطيف قوي وبشوش، لا تعلم حتى اسمه .....

استفاقت من شرودها به وهي تسمع صوته يردد بجدية :

_ آنستي هل أنتِ بخير ؟!

ارتجف قلبها في موضعه وهي ترفع عيونها له ليهتز ثبات تيم لثواني يشعر أنه قد أبصر هذه العين من قبل يسمع صوتها يردد :

_ الملك .

_ ماذا ؟؟ 

_ جئت للتحدث مع الملك في أمر هام .

هز لها تيم رأسه وهو يتحدث بهدوء :

_ حسنًا آنستي اعتذر منكِ، لكن الملك ليس في البلاد في هذا الوقت تعلمين أن الحرب قائمة و...

_ إذن ربما يمكنك أنت أن تتلقى رسالتي نيابة عنه سيدي .

توقف تيم عن الحديث بتعجب من كلماتها وتصرفاتها يهز رأسه وهو يشير لها لنقطة مضيئة في منتصف الساحة بعيدًا عن هذا الظلام كي لا يثير الأقاويل والتأويل .

_ لا بأس بالطبع إن كان هنا ما يمكنني تقديمه لكِ فسأفعل .

سارت خلفه تسمع صوته يردد بهدوء شديد :

_ بالمناسبة أنا تيم قائد الجيش الثاني في القصر وسيسرني خدمتك سيدتي .

ابتسمت وهي تردد بصوت منخفض هادئ عكس طبيعتها ترفع يدها تزيح لثامها لشيء في نفسها :

_ دلارا ....اسمي هو دلارا........

ــــــــــــــــــــــــــــــ

ركض بجنون صوب الخيمة التي ينصبونها عادة في المعارك لنقل المصابين وتدارك حالتهم بسرعة .

يدفع الجميع من أمامه بجنون، وهو يهتف باسم نزار بصوت مرتجف، يبحث بينهم عنه، وفكرة أن يخرج من هذه الحرب بفقيد آخر تقتله :

_ نــزار ... أخي.

تقدم بسرعة صوب فراش يقبع ارضًا عليه جسد نزار الذي كان يتنفس بصعوبة ومهيار يحاول تدارك حالته، وسالار يقف جوارهم، لكن ما إن سمع صوت أرسلان حتى استدار له يمرر عيونه على جسده ليتأكد أنه بخير، واخيرًا تنفس براحة يتحرك صوبه يجذبه صوب أحضانه يردد بصوت مرتجف :

_ أخي أنت بخير ..

تأوه أرسلان وهو يضم له سالار بقوة يربت على ظهره ربتات خفيفة حنونة:

_ أنا بخير ... بخير سالار لا تخف أخي، أنا بخير .

رفع عيونه صوب وجه نزار الشاحب وهو يتحدث بصوت مرتجف خائف:

_ نزار ....هل هو بخير ؟؟ 

ابتعد عنه سالار ببطء وهو ينظر صوب نزار الذي كان في هذه اللحظة ما بين اليقظة والحلم يهتف باسماء عدة منها الوليد ووالده وتوبة واخيرًا أرسلان..

ابتسم أرسلان وهو ينحني ارضًا راكعًا على ركبتيه يمسك كف نزار بين يديه، يربت عليها بحب :

_ أنا هنا أخي، أنا بخير أنا بخير .

حرك نزار عيونه في المكان يتنفس بصعوبة وقد ساعده مهيار منذ ثواني لتخطي جلطة قلبية كادت تودي بحياته :

_ لقد ....لقد وعدته أن اقتله بيدي ... آخذ بثأره بنفسي، لم ....هل ...مات ؟؟ أصلان....مات .

ابتسم له أرسلان وهو يتحدث بهدوء بعدما تنهد بصوت مرتفع :

_ لقد فعلت يا أخي، لقد فعلت وأخذت بثأر شقيقك، لم...لم ينهض أصلان بعد ضربتك نزار، لقد اقتصصت لشقيقك عزيزي، انهض وأرفع رأسك وسر بين الجميع مفتخرًا، مات أصلان وأنت من نال شرف تخليص العالم منه .

كذب ولا يندم على الأمر، يبصر عيون نزار الموجوعة، وإن كانت حقيقة موت أصلان على يده تطفئ نيران صدره فليكن إذن .

_ الآن انهض لتأخذ بنفسك عزاء أخيك بعدما انتقمت له من الجميع، الآن انهض نزار وأرفع رأسك، أخطأت من قبل، والآن مَحيت خطأك كأنه لم يكن أخي.

سقطت دموع نزار بقوة وهو يجذب له أرسلان يهمس بصوت موجوع :

_ أنت... أرسلان هل....هل سامحتني ؟!

ربت أرسلان على كتفه بحنان وحب :

_ لم اغضب يومًا منك ولم احملك يومًا ذنبًا لا يد لك به، لأسامحك، لقد ...فقط بحثت روحي عن شخص تصب عليه جام غضبه وعجزه وكنت أنت أحد هؤلاء الذين اختارتهم نزار، انهض يا أخي واستقم بهامتك فلن يحمل كفن أخيك غيرك، هو لم يحب في هذه الحياة شخصٍ مثلك .

سقطت دموع نزار وهو يتنفس وأخيرًا براحة وكأن صخور صلبة كانت مستقرة على صدره واخيرًا تم إزالتها، ابتسم دون شعور مغمضًا عيونه هامسًا كلمات قليلة قبل السقوط في غفوة من شدة الارهاق :

_ الحمدلله....

رفع أرسلان عيونه برعب صوب مهيار وقد تجمدت يده وشحب وجهه، ليبادر مهيار بالتحدث مبتسمًا بسمة صغيرة يضع بعض الاعشاب أسفل لسان نزار :

_ لا تقلق، هذا متوقع، تم ارهاق جسده بشكل كبير، وجروحه بليغة، والآن فقط منح جسده رفاهية الراحة .

هز أرسلان رأسه وهو يرفعها ببطء صوب سالار وايفان يتحدث بهدوء :

_ سنتحرك لآبى علينا أن نكون جوار الملك آزار ونزار في هذه اللحظة .

وايضًا لأجل الاطمئنان على سلمى، لكنه سرها في نفسه يشرد بوجه نزار، بينما إيفان هز رأسه يتحرك بهدوء صوب الخارج يهتف بصوت جهوري :

_ افرغــــوا الساحة من جثثهم، وأجمعوا شهدائنا سنصلي عليهم، قبل التحرك لآبى .

نظر جواره يبحث عن أحدهم قبل أن يهتف بجدية ولهفة :

_ يا المعتصم.

انتبه له المعتصم يتحرك صوبه بهدوء :

_ مولاي ..

فجأة تجمد حينما جذبه إيفان لصدره بحنان شديد وهو يتنهد بصوت مرتفع يهتف له بحب أخوي :

_ إيفان فقط يا المعتصم.... أنت بخير يا أخي؟! أبصرت أحدهم يصيبك بجرحٍ اثناء القتال، هيا تعال ليفحصك مهيار .

ابتسم المعتصم يحاول الاعتراض :

_ أنا بخير إيفان لا تقلق و.....

_ هيا يا المعتصم لا تعاند يا أخي، سيفحصك مهيار قبل التوجه لآبى دعني اطمئن عليك ارجوك .

ابتسم له المعتصم وهو يسير خلفه، بينما إيفان يتمسك بيده بقوة وحنان وقد كان المعتصم آخر من تبقى له من رائحة والدته بعد أخته، لذا احتمالية حدوث خدش لأيٍ منهما كان مرفوضًا .

بينما المعتصم يسير مع إيفان بهدوء وقد اعتاد طوال فترة بقائه في سفيد سابقًا بعدما علم حقيقة قرابته لإيفان، أن يلعب إيفان دور الأخ الكبير له ولو كان خفية في البداية ..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

_ أعان الله أخيكِ عليها لتلك المرأة كهرمان .

كانت هذه كلمات توبة وهي تجلس على اريكة بعيدة أسفل نافذة غرفتها وهي تراقب الفراش حيث تجلس سلمى تحمل بين كفيها كتاب وهي تضع قدم فوق الأخرى تقرأ منه بسلام نفسي كبير بعدما أفسدت سلام الجميع حولها عدا تبارك النائمة بسلام جوارها.

_ لا تقلقي عزيزتي، أخي ليس بالمسكين كذلك، يليقان ببعضها البعض، لا أعلم في الحقيقة لمن يجب أن ادعو الله أن يعينه على الآخر.

هزت توبة رأسها وهي تزن كلمات كهرمان في رأسها لتدرك في لحظات مقدار حماقتها لو سارت خلف إعجاب طفولي بأرسلان، ربما كان انتهى الأمر بينهما للطلاق، فلا تستطيع احتواء رجل بمثل عنفوانه وتجبره، ولا هو سيتمكن من تفهم لحظات غضبها ويستوعب إذاعة لسانها حين السخط.

الله دائمًا يخفي لنا ما نستحق .

وربما الذي بكيت في الامس لأجله، لو عرض عليك اليوم لرفضته بملء فاهك .

_ أنتِ محقة، لا أحد يليق بشقيقك مثلها ولا أحد يليق بها كشقيقك، الله ارسلها من عالمها آخر خصيصًا كي تكون له .

كانت تتحدث بشرود وهي تبتسم بسمة غير مرئية وعقلها يدور في نقطة شبه بعيدة، الله أرسل سلمى من عالم آخر لأجل أن ترافق أرسلان حياته، وارسلها هي للجحر كي تكتشف أنها طوال الوقت كانت أمام نصفها الثاني ولم تستوعب.

نظرت صوب سلمى وهي تبتسم تهتف بفضول :

_ إذن ما الذي تقرأه سلمى الآن ؟!

هزت كهرمان كتفها بعدم فهم تحرك عيونها صوب سلمى التي كانت مندمجة بشكل كبير فيما تقرأ مبتسمة بحنان شديد .

وهي تقرأ كتاب والدها للمرة الثانية والتي كان يقص به كامل حياة وطفولة أرسلان، للمرة الثانية تقرأه وكأنها تفعلها لمرتها الأولى.

هذه المرأة لا تقرأها بفضول من ذلك البطل الوهي في الكتاب الذي تركه لها والدها، بل تقرأه عشقًا في بطل الكتاب الذي أصبح واقعًا لأجلها، واقعًا ملموسًا قريبًا من الروح ...

بطل روايتها ذلك المسكين الذي كانت تتعجب أن يمر بكل ذلك وحده، ليحضرها الله من عالمها لعالمه فقط كي تربت عليه وتكون أقرب له من نفسه، تكون زوجته ....

ابتسمت وهي تتلمس حروف اسمه بشوق وحب شديد، وقد اضناها عشق لذلك الرجل الغريب ورأسها يعيد عليها أول لقاء بينهما وكل كلمة نطق بها ذلك اليوم....

"_ كيف تقبل بإحضارها بهذا المظهر صامد ؟؟ ما الذي دهاك أنت وشقيقك، هل افسدتك كثرة اختلاطك بهم ؟! أجننتم أين حجاب المرأة ؟!

- مــــــــــــاذا ؟؟

ومجددًا تجاهل أرسلان صيحة سول :

_ اقسم أنني لن امرر لكما هذا، سرتما بالمرأة كل هذا الطريق وجعلتموها عرضة لاعين الرجال بهذه الهيئة الـ ...الرجولية ؟! "

ابتسمت بسمة واسعة وهي تمسح وجهها ونظراته المستنكرة ما تزال تدور بعقلها ..

*"ارتدي المعطف يا امرأة كي استطع التحدث معكِ، واري شعرك خلف القلنسوة ."

فجأة انفجرت سلمى في الضحك وهي تتذكر ما فعله يها في أول لقاء لهما .....

"أنتِ لا تنتظرين أن اساعدك للصعود صحيح ؟!"

نظرت له ثواني قبل أن تهتف بسخرية :

" أوه لا بالطبع، فأنا بارعة في هذا كما ترى، لقد ولدتني أمي على ظهر حصان، أخبرك شيئًا، يمكنك الرحيل وأنا سألحق بك فأنا احفظ الطرقات هنا كراحة يدي ."

رمقها أرسلان بإعجاب مصطنع، ثم ابتسم يردد بهدوء وانبهار : 

" هذا جميل، إذن ألقاكِ على بوابة القصر، السلام عليكم ..."

كانت ضحكاتها تعلو بقوة وهي تتذكر كل ذلك وكأنه بالأمس، يرحل وهي تحدق لظهره بصدمة كبيرة، يا الله ما اقرب الأمس، وما أبعد ذلك الارسلان عن خاصتها .

كانت توبة تتابع ما يحدث بعدم فهم :

_ كهرمان جُنت زوجة أخيكِ .

_ أوه جاء هذا متأخرًا حقًا .

وقبل التحدث بكلمة سمع الجميع صوت الجنود في الاسفل يعلنون وصول الملك ازار مع رجاله .

تحركت توبة قبل الجميع وهي ترفع جسدها للنافذة التي تعلو الاريكة تراقب منها موكب آزار تبحث به عن نزار، لكن خاب أملها وهي تعود بوجه حزين لتجلس، لكن فجأة تجمدت وهي تبصر آزار يهبط من عربة صغيرة والجنود يتحركون ليخرجوا جثة مغطاة الوجه لا يظهر منها شيء، وقد ارتص الجنود على جانبي الطريق يخفضون السيوف والرؤوس في مشهد حداد وصمت معروف حينما يرحل افراد الجيش او الأسرة الحاكمة.

لتشعر توبة في هذه اللحظة بتوقف ضربات قلبها وهي تهمس بصوت مرتجف :

_ لا...لا يمكن أن يكون ...لا يمكن أن يكون .

ومن بعد هذه الكلمات هرولت كالمجنونة خارج المكان لتتسع عيون كهرمان بصدمة وعدم فهم، وهي تتحرك خلفها بسرعة وسلمى ألقت الكتاب تلتقط حجابها وتلحق بهما في الممرات وقد شحب وجهها .

_ رحمتك يا الله .....

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

«‏يكتمُ ما كابدهُ قلبهُ
‏وتعجزُ الأعيُن كتمانهُ!».

هبط من العربة وهو ينظر للجنود حوله يتحركون صوبه بسرعة وقد أشار لهم بصوت قوي لا يدري من أين له به :

_ اخرجوا .....سمو الأمير من العربة وقفوا احترامًا لجثمان ولدي .

اتسعت أعين الجنود بصدمة مما سمعوا وتجمدت الأجساد وقد شحب الوجوه وامتلئت العيون دموعًا مما سمعوا .

الأمير نزار ؟؟

ركض جنديان بسرعة يخرجان الجسد بسرعة ليحملانه فوق الأكتاف وهم يتحركوا به بين صفين من الجنود وقد انزل الجميع سيوفهم والرؤوس احترامًا .

بينما ابتلع آزار غصته وهو يهتف بصوت مرتفع به نبرة بكاء واضحة :

_ اليـــــــوم فقــــــــدت آبـــــــــى أميرهــــا الو....

قبل إكمال جملته سمع صرخة تشق الاجواء وصوت توبة تصرخ بصدمة وقد هوى قلبها قبل جسدها ارضًا :

_ نـــــــــــزار ؟؟؟ لا لا ...

اتسعت عيون آزار وهو يركض صوب توبة بسرعة كبيرة يساعدها لتنهض وكهرمان التي مالت بسرعة تسندها، والأخيرة فقدت الإحساس بكل ما حولها تشعر بارتجافة أطرافها وهي تحدق في الجسد المحمول فوق الأكتاف بأعين دامعة تحاول النطق وقد شعرت فجأة بأنها فقدت القدرة على ذلك ودموعها تسير بلا توقف .

بينما آزار يحاول اجبارها على سماعه :

_ لا ...ليس نزار ...توبة هذا ليس نزار هذا ولدي الآخر، توبة اسمعيني .

بينما توبة فقط لا تنزع عيونها عن الجثة أمامها وعيونها شاخصة بشكل مرعب .

بينما ازار استقام وهو يهتف بصوت جهوري :

_ اليوم استشهد الأمير الوليد آزار وهو يدافع بشرف عن أخيه الأمير نزار، اكرموا أميركم يا رجال ....

ختم حديثه وهو يشير للجنود بالتحرك وقد علت الصدمة أوجه الجميع، ورغم ذلك لم يتحدث أحدهم بكلمة وهم يتحركون به صوب الغرفة المجاورة للمسجد لتجهيز دفنه .

بينما آزار نظر لتوبة يهتف بصوت قوي :

_ توبة اسمعيني هذا ليس نزار...نزار حي يا ابنتي ...نزار بخير لا تقلقي هو ...بخير ...ولدي الاصغر بخير .

رفعت له توبة عيونها الدامعة وهي تهتف بصوت مرتجف :

_ نزار ؟؟

_ لا هذا ليس نزار، هذا ...الوليد، هيا انهضي عزيزتي لا يجوز لملكة آبى المستقبلية أن تكون بمثل هذه الهشاشة يا ابنتي، تماسكي ...

سقطت دموع توبة قبل أن تنفجر في موجة بكاء متأخرة بسبب صدمتها تتحدث بصوت مرتجف :

_ نزار....يا ويلي قلبي سيتوقف ..هو بخير يا عم، اقسم بالله لي أنه بخير، بالله عليك أن تخبرني أنه بخير .

امسكها آزار من اكتافها وهو يساعدها لتنهض ينفض ثيابها وقد ارتجفت انفاسه حتى :

_ اقسم بالله أنه بخير لقد ....وصلتني أخبار نصرهم ...لقد انتصروا والحمدلله لم يمس أحدهم سوءًا القليل من الجروح المعتادة، والجميع في الطريق لهنا، ساعات ويصل الجميع .

رفع عيونه صوب كهرمان وسلمى يتحدث بتعب وقد شعر أن طاقته قد نفذت :

_ رجاءً ساعدنها للراحة .

اومأت كهرمان بحسنًا وهي تمسك توبة تضمها بحنان متحركة صوب القصر وسلمى خلفهم، لكنها توقفت ثواني تنظر لوجه آزار الذي كان كمن يحمل الجبال فوق كتفه، بوجه صلب غريب، لتهمس له بصوت منخفض :

_ لا يضير الجبال أن تجري الانهار بها احيانًا ، كما لا يضير الرجال البكاء احيانًا يا عم، افرغ اثقال قلبك بالبكاء ولا تكبت اوجاعك طويلًا فتنفجر داخليًا، فاليوم تبكي وغدًا تمسح دموعًا.

ختمت كلماتها تلحق بالجميع تاركة آزار خلفها وقد شعر أن قلبه مثقل لدرجة أن حتى التنفس كان صعبًا. 

تحرك بأقدام مرهقة يبحث لنفسه عن ملجأ بعيدًا عن أعين الجميع، يسير بضعف محني الظهر حتى دخل غرفته يغلق الباب خلفه ينهار ارضًا يتنفس بصوت مرتفع قبل أن ينتهي به الأمر منفجرًا في بكاء حار يرثي به ولده، بكاء لم يبكه يومًا منذ وفاة شقيقته الصغرى .....

_ يا الوليد .... آه يا ولدي .

ــــــــــــــــــــــــــــــ

أَموتُ شَوقًا ولا ألقاكُمُ أَبَدًا
يا حَسرَتا ثُمَّ يا شَوقا ويا أَسَفا! 
- العباس بن الأحنف.

كانت ساعات طويلة ...

حتى أبصرت جميع النساء ساحة قصر آبى تمتلئ بالرجال من كل حدب وصوب لأجل عزاء الأمير الوليد الذي رحل قبل أن يدركوا حتى وجوده كأمير .

الجميع يرتص والكفن أمامهم يراقبونه بأعين غائمة مما يحدث، ولا يُسمع في المكان سوى صوت الشيخ الذي نطق بصوت جهوري :

_  اليوم نودع أحد رجال آبى، الأمير الوليد، الذي رحل عن عالمنا وهو يدافع حتى آخر قطرة من دمائه عن الأمير نزار أخيه، الأمير وليد والذي علمه البعض منكم خائنًا، انتوى التوبة قبل وفاته وليكتبها الله في أعماله، الوليد لم يشرك بالله ولم يرتد وشهد أن لا إله إلا الله، أقام الصلاة رغم عصيانه، إذن في الإسلام هو مسلم ذلت أقدامه وهوى، وليس مشرك بالله، لذا ما علينا من حسابه شيئًا وهو بين يدي الله أمره برحمته وحده، ما علينا سوى الدعاء له .

ختم كلماته وقد بدأ يدعو له والجميع يردد خلفه عدا نزار الذي كان ينظر لهم بأعين دامعة لا يبصر شيء من بين دموعه، قبل أن يبصر الجميع يحملون كفن أخيه فتحرك سريعًا يلتقطه معهم وهو يجاهد نفسه ليتماسك ويتحرك به صوب قبور عائلته.

وخلفه الملك آزار والذي استعاد رباطة جأشه ونفسه بعدما خرج من حجرته، يسير مع الجميع خلف كفن ولده بوجه جامد وجسد مستقيم .

وارسلان يحمل مع سالار والمعتصم الكفن، الجميع يتحرك صوب القبور، ينظرون بشفقة صوب نزار الذي كان يسير بلا شعور بمن حوله ..

ومن الأعلى تراقبه توبة باكية على حالته وما يحدث، الآن فهمت حالته حينما كان يستيقظ صارخًا باسم الوليد باكيًا قبل أن يسقط في غيبوبته التي اختارها لنفسه .

_ لا تفعلي توبة، هو منهار فلا تنهاري فيسقط، كوني له جدار يتلقفه عزيزتي، سيحتاجك جواره في هذه اللحظة، هو غريق لن يبصر من الحياة سوى ظلامًا، فكوني له طوق نجاة ونور يجذبه للشاطئ .

نظرت توبة صوب سلمى لتنفجر في البكاء وهي تتذكر حالة نزار، لتتلقفها سلمى وهي تربت على كتفها بحب وحنان :

_ كل هذا سينتهي ...كل هذا سيمر بإذن الله عزيزتي. 

وفي الأسفل وصل الجميع للمقابر وشرعوا بدفن الوليد وصوته يرن بأذن نزار وهو يلقي الرمال يواري بها جسد أخيه.

" لا تتركني وحدي نزار، أخاف الوحدة أخي"

أخذ يلقي الرمال عليه وهو يتابعه بأعين هادئة يبتسم بصعوبة وقد كادت غصته تخنقه :

_ لن تكون وحدك يا الوليد، لن تكون يا أخي سأكون طوال الوقت قريب منك، وسأدعو الله لك كما كنت تطلب مني، عهد عليّ أمام الله ألا افوت صلاة إلا وذكرتك بدعواي، ليرحمك الله أخي ليرحمك الله يا أخي ..

انتهوا من دفن الوليد وبدأ الجميع يرحلون واحدًا تلو الآخر، تاركين نزار لم يتحرك من أمام القبر يجلس يراقبه بأعين مرهقة ووجه شاحب .

_ نزار يكفي أخي، هيا يجب أن ترتاح .

همس نزار بصوت منخفض مرهق :

_ دعني سالار، أريد قضاء الليلة الأولى جواره، الوليد لا يحب الوحدة، سأجلس جواره اليوم، فقط اليوم كي لا يشعر بالحزن.

استغفر سالار ربه وهو يتنفس بصوت مرتفع لينظر له أرسلان مشيرًا له بعيونه يسحبه بعيدًا عنه، وهو يشير للجميع باللحاق به .

ومن ثم نظر للملك بارق وهو يهتف بصوت منخفض هامسًا له :

_ هل يمكنك إرسال الأميرة توبة له، ربما تستطيع اقناعة بالرحيل من هنا ؟! 

تنهد بارق وهو يهز رأسه بهدوء، يسحب معه آزار الذي اضطر للرحيل ليهتم بجرحى الحرب وما حدث للبلاد، يودع قبر ولده بأعين باهتة على وعد بالعودة له مجددًا، لكن قبل الرحيل نظر لنزار مرة أخيرة وتحرك ليترك جواره شيء ما لم ينتبه له نزار حتى، ومن ثمّ رحل ببساطة.

أما عن نزار فظل جالسًا يراقب قبر أخيه وهو يقرأ الاسم مرات عديدة " الوليد آزار" ابتسم دون شعور يتحسس القبر بحنان:

_ اقتصصت لك أخي، عسى الله أن يجمعنا في الآخرة على خير ..

تحرك ليستند على إحدى الأشجار التي تظلل قبر الوليد يراقبه بأعين مرهقة، لكن وعلى عكس العادة في الأيام السابقة مبتسم الثغر، يشعر بالراحة بعدما اقتص له .

_ نزار .

استدار نزار صوب الصوت يبصر توبة تتوجه له بوجه شاحب واعين حمراء،  استند على الشجرة خلفه وهو ينهض يلتقط جسدها بين أحضانه:

_ توبة .

_ هل أنت بخير ؟! 

ابتسم نزار وهو يستكين بين أحضانها وقد شعر براحته تزداد يحدق بقبر أخيه :

_ لا أدري... لكنني على الأقل لست حزينًا كما كنت، خفت حزني والزمان خير معالج.

تنفست توبة واخيرًا براحة وهي تهمس له برجاء :

_ دعنا نرحل من هنا رجاءً..

_ فقط ... قليلاً احتاج للبقاء معه رجاءً ...

نظرت له بتردد :

_ إذن سأجلس معك.

ابتسم يمد يده لها جاذبًا إياها معًا يضمها بين أحضانه أسفل الشجرة، يراقب قبر أخيه بهدوء يهمس بصوت منخفض :

_ ليغمرك الله برحمته يا الوليد، ليغمرك الله برحمته أخي.

تنفس بصوت مرتفع وهو يضم له توبة ينتوي أن يقنعها لاحقًا بالرحيل وتركه وحده جوار أخيه اليوم، وفي خضم أفكاره فجأة وقعت عيونه على شيء مغلف بالاسود موضوع جواره، ليضيق ما بين حاجبيه يميل بنصف جسده يلتقط ذلك المغلف يقلبه بين يديه قبل أن يفك غلافه ويقرأ كلماته بصوت خافت ونبرة مرتجفة مصدومة :

" إلى أخي العزيز نزار ............







تعليقات
×

للمزيد من الروايات زوروا قناتنا على تليجرام من هنا

زيارة القناة