رواية رماد لا ينطفئ الفصل العاشر 10 بقلم رميسة


 رواية رماد لا ينطفئ الفصل العاشر 10 بقلم رميسة


جمال كان قاعد في ركن بعيد من الجنينة، عينيه شايلة وجع السنين… بيتفرج على مراد وهو بيلعب بالكورة، يضحك ويتشقلب على الأرض، والجوا فاضي حواليه غير من صوت ضحكته البريئة.

كل لحظة فيه كانت ترجع بيه لبعيد.

ابتسم جمال، بس كان جواه عاصفة… ساب عينيه تسرح بعيد، والمشهد قدامه رجّع قلبه لورا سنين…

تنهد، وسرح في ذاكرته…

البيت يومها كان شكله مختلف…
أسية كانت صحيت بدري، قلبها بيرقص من الفرحة.
نضفت، ورتّبت، وعلقت شرايط بسيطة من ورق ملوّن، وحطت شموع صغيرة على الطاولة.

الكنبة اتغطت بمفرش جديد، وفيه كيكة صغيرة على الصينية…
كانت بتتحرك بين المطبخ والصالة بحماس، تجهز اللحظة اللي نفسها فيها من زمان.

كان النهار بيقرب يخلص، وآسية كانت قاعدة في البيت لوحدها، قلبها بيخبط بسرعة. كانت خلصت كل حاجة… رتبت الصالة، علّقت شرايط بسيطة، حطت بالونات وردي ولبني، وجهزت ورقة صغيرة كاتبة فيها:

“أنا مش لوحدي… إحنا بقينا 4❤️”

جمال دخل من الباب، شكله تعبان من الشغل، شنطته في إيده، ووشه مرهق.

جمال (وهو بيبص حواليه):

إيه ده؟ في إيه؟ عاملة حفلة ولا إيه؟

آسية (بابتسامة متوترة):

مفاجأة… اقفل الباب الأول وتعال شوف.

دخل جمال بخطوات بطيئة، بص على الزينة، وعلى الورقة اللي كانت محطوطة في وسط الترابيزة.

جمال (وهو بيقرا الورقة):

“إحنا بقينا 4… يعني إيه؟!

قربت من ودنه، وهمست:

 “ يعني أنا حامل يا جمال.”

جمال اتجمد مكانه، قلبه ضرب بقوة، بس بدل الفرحة، ظهر الهم على وشه.

سكت، وساب إيديها… اتغير وشه، وتقلّبت مشاعره فجأة.

قال بعصبية:

اييه حامل ! حامل ازاااي يعني !!؟

الفرحة طفت في عينيها بلحظة…
صوتها انكسر:

 “كنت فاكرة… انك هتفرح، ده ابننا، فرحت بيه حتى قبل ما أشوفه.
       

جمال (بعصبية):
ما هو مش موضوع فرحة بس! إحنا مش جاهزين.

كمل بعصبية :

مش وقته خالص ده انا بشتغل شغلانتين في النهار ومش ملاحق على المصاريف ، هنصرف عليه منين  
احنا يا دوب مكفيين مصاريف نرجس بالعافيه  ومصاريف البيت والديون اللي علينا  …

انا مش جاهز لطفل تاني دلوقتي.

عين آسيا رمشت بسرعة… ملامحها اتبدلت، البسمة اختفت من وشها، بقت باصة له كأنها أول مرة تعرفه.

مدت إيدها، حطت التست على الترابيزة قدامه…  و من غير ولا كلمة، ولفت دخلت أوضتها.

جمال فضِل واقف في الصالة، حاسس إن في حاجة اتكسرت… لا هو قادر يفرح، ولا عارف يحتويها.

قرب من الباب، حط إيده عليه، ووشه غرقان ندم.

جمال وقف قدام باب الأوضة، ماسك التست في إيده، صباعه بيرتجّف عليه، مش مصدّق إن اللحظة اللي كانت المفروض تبقى من أسعد لحظات حياتهم، تحولت لصمت موجع.

صوته خرج مبحوح، شبه همس:

جمال:
“آسية… أنا آسف… ما كانش قصدي أكسر فرحتك، بس خوفت… خوفت من بكرة… من العجز… افتحيلي …”

من جوه، ما كانش في صوت، بس دموع آسيا كانت بتتكلم مكانها… عينيها في الأرض، وتست الحمل  التاني مرمي على السرير جنبها، ومش قادرة تمسك دموعها.

لكن الباب مافتحش، وردها كان دموع ساكتة.

ماكانش فيه رد… بس كان سامع شهقاتها من جوه.
سند ضهره على الحيطة، وقعد على الأرض، ساكت، ندمان… وقلبه بيتقطع.

 قرب من الباب، حط إيده عليه، ونادى بهدوء:

“أسية… أنا آسف.”

بس مفيش رد.

لحظة سكت فيها الاتنين… بس كل واحد فيهم كان عايز التاني يسمع اللي جواه.

صوت نرجس وهي بتفتح باب الجناح بهدوء يرجّع جمال من دوامة الذكريات.

نرجس خرجت للحديقة، عينيها بتدوّر على أخوها الصغير، وبابتسامة دافية نادت:

“مراااد! تعال يا حبيبي الغدا جاهز!”

مراد لف بسرعة، جري ناحيتها وهو بيضحك، رمى الكورة، وارتمى في حضنها:

“نرجوسة! كسبت! لعبت مع الولد الجديد وربحت!”
ضحكت نرجس من قلبها وهي بتسند عليه:

“يا سلام، بقى بتكسب كمان؟”

جمال من بعيد شايفهم…
نفس الضحكة دي كان بيموت علشان يسمعها من نرجس…
بس النهاردة هي مش ليه.

كانت الشمس نازلة شوية، والجو بقى ألطف.

كانت هيام بتتمشى جوه القصر، بتلفّ بين الأوضة والتانية، وكل شوية تبصّ من الشبابيك. ماكنش باين له أثر.

هيام (وهي بتنادي):

 “جمال؟… جمال إنت فين؟”

مردش.

خرجت من باب القصر، نزلت السلالم بهدوء وهي بتلفّ عنيها تدوّر عليه في الجنينة.

وشّها كان فيه قلق خفيف، بس برضو فيها لمحة دلع، زي واحدة متعودة دايمًا تلاقي جوزها مستنيها.

شافت ضله من بعيد، قاعد في الركن اللي في آخر الحديقة.
ابتسمت ابتسامة خفيفة ومشيت له.

هيام (بنبرة ناعمة):

 “إنت مستخبي ليه هنا؟ بدوّر عليك من الصبح!”

جمال (بصّ لها بسرعة ):

 “ما كنتش مستخبي… بس كنت محتاج شوية هدوء.”

هيام (قعدت جنبه، ومدت إيديها تمسك إيده):

 “أنت تعبان؟ ولا في حاجة مضايقاك؟”

جمال (بيحاول يبتسم مجاملة):

 “لا أبداً… يمكن بس شوية تعب من السفر.”

هيام (وهي تميل عليه أكتر):

 “طيب قوم ندخل، الجو بدأ يبرد… وكمان ماما عاوزانا نحضر معاهم في الصالون.”

جمال (بص بعيد ناحية المكان اللي كان فيه مراد ونرجس):

 “خلاص… يلا بينا.”

وقام معاها، بس كانت خطواته بطيئة، كأن رجليه تقيلة من اللي في قلبه، مش من التعب.

وصِلوا لباب القصر، هي دخلت الأول، وهو لفّ وشه للحظة يبص ناحية الجناح… الجناح اللي فيه أسية وولاده.

وبعدين دخل وراها ساكت.

في الجناح الهادئ، كانت ريحة الأكل ماليه المكان. أسية حطت الصينية على الطربيزة الصغيرة، ونادت بصوت كله حنية:

“يلا يا حبايبي، الغدا جاهز!”

طلعت نرجس من الأوضة وهي بتضحك:

“أخيرًااا، بطني بتصوصو من الصبح!”

وراحت تقعد بسرعة، وجنبها جه مراد جاري وهو بيقول:

“أنا عاوز الكفتة كلهااا!”

أسية قعدت قدامهم وهي بتضحك وبتوزّع الأكل:

“كل واحد ياخد نصيبه بس، مش هانسيب ولا حاجة لأكل بكره كده.”

مراد وهو بياكل قال وفمه مليان:

“ماما، الأكل ده تحفة! إنتي شيف جامد بجد.”

نرجس ضحكت وقالت:

“هو بيقول كده عشان الكفتة، مش عشانك!”

أسية ضحكت معاهم، وبصّت ليهم بعيون فيها حب ووجع صغير مستخبي:

“أهم حاجة إنكم بتاكلوا وانتوا مبسوطين…”

مراد وقف فجأة وقال بحماس:

“أنا بعد الغدا عاوز ألعب كورة تاني!”

نرجس قالت له:

“تستنى، ألعب معاك!”

أسية:

“خلاص بس الأول تخلّصوا أكل، وبعدها العبوا برا، بس اوعوا تروحوا بعيد، ماشي؟”

هم الاتنين قالوا بصوت واحد:
“مااااشي!”

ضحكت أسية، وبصّت ليهم وهما بيتهنوا بالأكل. لحظة بسيطة… بس بالنسبالها كانت الدنيا كلها.

 بعد شوي كانت أسية قاعدة بتلم الصحون من على الطربيزة، وولادها طالعين يلعبوا برا، وهدوء بسيط مالي المكان.

دخلت ليلى وهي شايلة طبق فيه فاكهة، وقالت بابتسامة خفيفة:

“إزيك يا أسية؟ الولاد بيضحكوا من قلبهم، ربنا يفرّحك بيهم.”

أسية ابتسمت وهي بتوضب:

“الحمد لله… ربنا يديم الفرحة .”

ليلى قعدت على الكنبة وقالت بهدوء:

“بصّي… أنا جاية أقولك حاجة.”

أسية رفعت عينيها ليها باستغراب:

“خير؟”

ليلى:
“إيه رأيك تيجي معايا القصر شوية؟ تقعدي هناك بدل ما تفضلي لوحدك هنا. الجو هناك أهو فيه ناس، وبتشغلي نفسك، غير كده كمان…”

سكتت شوية، وبعدين كملت:
“هما عيلة هيام ناويين يعملوا لمّة كده، وممكن تساعديني في التحضيرات، يمكن تفصلي شوية.”

أسية بانت عليها الحيرة… خدت نفس وقالت:
“أنا مش عاوزة أزعج حد…”

ليلى:
“تزعجي إيه بس؟ انتي واحدة مننا دلوقتي. وبعدين العيلة حبّيتك.”

أسية سكتت ثواني، فكّرت، وبعدين قالت بصوت واطي:
“طيب… ماشي، هاجي.”

ليلى قامت مبسوطة وقالت:
“تمام! يلا حضّري نفسك، وأنا هستناكي .”

أسية وقفت قدام المراية بعد ما ليلى خرجت، سرّحت شعرها بسرعة، وبصّت لنفسها شوية… كأنها بتحاول تستجمع قوتها.
وبهدوء قالت لنفسها:

“لازم أعيش… مش عشان حد، عشان ولادي… وعشان نفسي.”

وصلت ليلى وأسية قدام القصر الكبير، أسية بصّت حواليها بخجل خفيف. كان القصر فيه حركة: ضحك، أصوات أطفال، وريحة أكل طالعة من المطبخ..

دخلوا من الباب الكبير، لقيوا أم هيام قاعدة في الصالون ومعاها أختين ليها، بيضحكوا ويتكلموا.

ليلى (بابتسامة):

 “السلام عليكم يا جماعة.”

أم هيام (بصوت بارد لكن مهذّب):

 “وعليكم السلام…”

ليلى (وهي تشير على أسية):

 “دي أسية… مرات أخو جوزي. حبيت أجيبها معايا بدل ما تقعد لوحدها، وكمان تساعدني في المطبخ.

أم هيام (بصوت هادي ومهذب):

 “ماهر عامل إيه دلوقتي؟ سمعنا إنه كان تعبان شويه؟”

أسية (نظراتها اتغيرت للحزن، بس حاولت ترد بأدب):

 “آه… هو لسه في المستشفى… دخل غيبوبة بعد الحادث…"

أم هيام (تتبادل نظرة مع بنتها ثم تقول):

 “ربنا يشفيه…يارب". 

ليلى (تدخل بسرعة تقطع الجو):

 “ربنا يقومه بالسلامة… يلا بينا يا أسية، نبتدي نحضّر العشا.”

قامت أسية وسكتت، وراحت مع ليلى للمطبخ وهي حاسة بنظراتهم لسه ورا ضهرها.

في الليل ...

جمال نزل السلالم بهدوء، خطواته تقيلة، كأن يومه كان أطول من العادي. صوته الداخلي مشغول، وكل تفكيره داير حوالين أسية ونرجس، واللحظة اللي مازال عقله مش قادر يخرج منها.

كان رايح ناحية السفرة، صوت الملاعق والأطباق بيترتبوا شد انتباهه، وبدون قصد، عينه وقعت عليها.

كانت واقفة على جنب الطاولة، بتحط أطباق العشاء. لبسها بسيط وعملي، ملامحها هادية، بس في عينيها فيه تعب ساكت.

جمال وقف، مش قادر يتحرك للحظة.
أسية؟ هنا؟
مش في الجناح؟ مش المفروض تكون… بعيدة؟

قلبه دق بسرعة، بس ملامحه فضلت ثابتة. ما قالش ولا كلمة.
فضل واقف يراقبها وهي بتركز في ترتيب السفرة، وكأنها بتتجاهله عن قصد.

أسية كانت حاسة بيه، أكيد.
حست بالجو اتغير، بالحركة وراها، لكن ما بصتش.
كملت شغلها، بحركات هادية ومنتظمة.

مرّت لحظة كأنها ساعة.

جمال بلع ريقه، حس كأن فيه كلام كتير عايز يطلع، بس لسانه تقيل.

فجأة سمع صوت ليلى:

 “آه استاذ جمال، نورت، السفرة خلاص قربت تجهز.”

هزّ راسه بخفة، وابتسامة خفيفة طلعت بالعافية:

 “تمام…”

أسية لِمّت الصينية الفاضية من قدامها، وطلعت من القاعة، من غير كلمة، من غير حتى نظرة.

هو فضّل واقف مكانه شوية، وبعدين خَد كرسيه بهدوء.

المشهد كله ما كانش فيه صوت، بس قلبه كان بيعمل دوشة.

السفرة كانت مليانة بالأكل والريحة الطيبة، والجو العام كله ضحك وهزار خفيف بين أفراد عيلة هيام. جمال كان قاعد في مكانه، وبيحاول يندمج، لكن عينه كل شوية تزوغ ناحية المطبخ… ناحية أسية. 

أخو هيام (بنبرة جدية وهو يبصّ على جمال):

 “جمال، الصفقة اللي مع شركة أوسان، وصلت لفين؟ فهد كلمني، وكان مستعجل على العرض النهائي.”

جمال، وهو يحاول يركّز:

 “اتناقشنا في التفاصيل، بس لسه مستنيين موافقة قسم التسويق… المفروض نخلصها قبل نهاية الأسبوع.”

أبو هيام، وهو يهز راسه:

“ممتاز… أهم حاجة نخلص قبل ما يدخل علينا موسم التوريد.”

هيام، تقطع الحديث بابتسامة:

“خلاص بقى، شغل شغل شغل! مش كفاية طول اليوم تحكوا عن الصفقات؟”

الكل يضحك بخفة…

هيام (بحماس):

 “أنا عندي مفاجأة أحلى من كل الصفقات دي!”

أمها، وهي تبصلها باستغراب:

 “إيه يا بنتي؟ قوليلنا.”

هيام، تبصّ على جمال بحنية وفرحة :

 “بكرا… عيد جوازنا.”

الكل يبتسم ويبدأ يباركلها:

أمها:

 “يا عيني يا عيني، العمر كله يا حبيبتي.

أخوها:

 “ربنا يديم المحبة بينكم.”

أبوها، بابتسامة:

 “لازم نعمل حفلة كبيرة في الحديقة… الجو مناسب والمناسبة تستاهل.”

هيام بحماس:

 “فكرة حلوة يا بابا!!

ضحكوا الكل، وهيام بصّت لجمال وقالت بدلع واضح:

 “إيه رأيك يا جوزي؟ نعيد اللحظة… ونرقص تاني زي زمان؟”

جمال ابتسم، ابتسامة باهتة، بص للي قاعدين حواليه وقال:

 “اللي تشوفيه.”

في اللحظة دي، أسية كانت بتقرب من الطاولة، ماسكة كاس مية تحطه قدام جمال. خطواتها كانت بطيئة، بس ثابتة.

وقبل ما تمدّ الكاس، وقفت. كانت هيام قربت من جمال وهمست له بصوت واضح وهي تضحك:

 “بس المرّة دي… عايزة أقضي الليل كله في حضنك، من غير ما حد يزعجنا."

أسية اتسمرت في مكانها، إيديها رجّت، والكاس وقع من ايدها وانكسر على الأرض بصوت فجّر الصمت..




                       الفصل الحادي عشر من هنا 

تعليقات
×

للمزيد من الروايات زوروا قناتنا على تليجرام من هنا

زيارة القناة