
رواية رماد لا ينطفئ الفصل الحادي عشر 11 بقلم رميسة
الليل كان هادي… بس قلب أسية كان عامل دوشة.
رجعت أوضتها بخطوات سريعة، بتشد نفسها بالعافية عشان متنهارش قدامهم. قفلت الباب وراها، وسندت ضهرها عليه… سكتت ثواني، وبعدين انهارت.
عينيها ماقدرتش تحبس الدموع، والأنين خرج منها غصب عنها.
“في حضنك؟”
قالتها بهمس، وكأنها بتكلم نفسها…
“في حضنك يا جمال؟ كنت في حضنك أنا قبلهم… كنت روحي، ودلوقتي بقيت غريبة؟”
وقعدت على طرف السرير، تبص في الأرض، تبص في إيديها، كأنها مش مصدقة اللي بيحصل حواليها.
في الجناح التاني، جمال كان ساكت… عينه مش بتشيل صورة أسية وهي بتبص له لحظة وقوع الكاس، ولا صوتها وهي ساكتة.
هيام قربت منه على السرير، حطت راسها على كتفه وقالت بحنية:
"انا فرحانة اوووي لانك فيً حياتي و ابو ابني ادم وبكرة عيد جوازنا ياااه على الفرحة دي "
جمال ما ردش.
عينيه بصّا في السقف، وجسمه متيبّس.
هو مش هنا… هو واقف في الحديقة، في الذكرى، في الحنين… وسط صمت أسية.
الشمس كانت طالعة بدفى، بس جواها كانت الدنيا برد… برد قهر وسكوت.
في الحديقة الخلفية للقصر،
أسية كانت من أوّل الناس اللي صحوا، لبست لبس بسيط وراحت تساعد ليلى في التحضيرات. وشها هادي، بس عنيها كانت تعبانة… زي اللي ما نامتش طول الليل، وفعلاً هي ما نامتش.
أسية واقفة قدام طاولة طويلة، بترصّ الفازات وبترتب الوردات الحمرا، وحدة وحدة، بس بإيدين بترتعش.
كانت بتحاول تسرح نفسها، تبعد دماغها…
بس كل ما تلمس وردة، كانت تحس كأنها بتغرز فيها شوق مش هيرجع تاني.
من بعيد، أصوات الضحك طالعة… هيام بتنادي على العمال، وناس بتجهز الكراسي وتعلّق الزينة.
ليلى كانت ماشية يمين وشمال، توزع التعليمات وتضحك.
ليلى (بحماس):
“خلاص، الكراسي وصلوا… والدي جي هييجي بدري يعمل سيت أب… بس يا ريت نخلّص الورود دي قبل الضهر.”
أسية (وهي بتظبط بوكيه ورد):
“حاضر، كلها شويّة وهكمّل دي.”
كانت بتشتغل بصمت، بتحاول تدفن كل حاجة تحت تفاصيل اليوم.
نرجس كانت واقفة على بُعد، متضايقة وهي بتبص لأسية.
قربت منها وقالت بصوت واطي، بس كله غضب:
نرجس:
“إزاي بتساعديهم؟! دي حفلتهم، مش حفلتك… إنتي نسيتي؟!”
أسية (بهدوء فيه وجع):
“ما نسيتش… بس خلاص يا نرجس، فيه حاجات لما تكسر، مبتتصلّحش…”
نرجس (بحِرقة):
“بس ماينفعش تفضلي واقفة كده تتفرجي وهما بيدوسوا عليكي.”
أسية (بابتسامة مكسورة):
“مش واقفة… بخلّص اللي عليّا… وخلص.”
نرجس بصّت لها، ما لقتش كلام، وسابت المكان وهي مخنوقة.
أسية كملت الشغل وسط ضحك الناس، وتحضيرات الفرح…
بس جواها، كان فيه جنازة.
سكتت لحظة، وسرحت…
العالم حواليها اختفى.
رجعت في الزمن… لـ سنين ورا، يوم كان عيد جوازها الأول مع جمال.
صوت ضحكتها كان مالي الشقة، وهي بتجري وسط الصالة وعينيها في عينيه.
جمال كان ماسك بوكيه ورد أحمر كبير، وبيضحك:
جمال:
“كل سنة وانتي مراتي اللي بحبها… ومفيش غيرك فـ قلبي يا أسية.”
أسية (وهي بتضحك):
“ده أول عيد جواز لينا… حاسّة إني بحلم.”
جمال (وهو بيقرب منها):
“ولو على طول في حضني، عمرك ما هتصحي من الحلم.”
ضمّها لحضنه… وكانت اللحظة دافية، زي حضنه بالظبط.
أسية رجعت تاني للواقع…
نفس العيون، بس من غير ضحكة.
نفس الإيدين، بس مافيهاش ورد… ولا حضن.
قالت بهمس:
“كنت فاكرة اليوم ده مش هيتنسي… وفعلاً، ما نسيتوش.”
نزلت دمعة من عينها، وسابتها تمشي على خدها من غير ما تمسحها.
لأن الوجع لما يبقى ساكن جواك، بيبقى الدموع أرحم من الكتمان.
رجعت من الذكرى فجأة، لمّا نسمة هوا خفيفة عدّت على وشّها.
رمشت كأنها صحيت من حلم…
وبصّت حواليها، خدّت نفس طويل، وقالت بهمس:
“كان زمان… دلوقتي كل حاجة بقت غريبة.."
لكن قلبها؟
كان لسه عايش في يوم زمان… يوم حبته، واتحبّت فيه.
الضهر قرب، والبيت كله في حالة طوارئ… ضحك، صوت موسيقى خفيف من السماعات اللي بيجربوها، وريحة الأكل طالعة من كل ركن.
أسية كانت لسه بتعدّل شوية ورد على الطاولة الكبيرة في الحديقة، وبتحاول تهرب من نفسها وسط الزحمة.
من بعيد، أم هيام كانت واقفة مع بنتها، بتبص حوالينها وقالت:
أم هيام (بغرور ناعم):
“الحفلة هتبقى حاجة تانية النهاردة… العيلة كلها لازم تبقى موجودة… حتى اللي ساكنين في الجناح.”
هيام (ببساطة):
“أنا هاروح أقولهم، مش حلو نعمل حفلة وهم قاعدين جوّا كأنهم غرب."
أسية كانت ماشية بخطوات سريعة في ممر القصر، عينيها تعبانة، قلبها أتعَب…
كل حاجة خلصت، الحفلة جهزت، الشموع اتولعت، وكل تفاصيل الليلة اتحطت مكانها.
قبل ما توصل لباب الجناح، صوت ناداها من وراها:
هيام (بحماس وابتسامة):
“أسية! استني ثانية بس.”
أسية وقفت، خدت نفس، ولفّت بابتسامة مجاملة:
“أيوه يا مدام هيام؟”
هيام وهي بتقرب منها، بلهجة خفيفة ومشجعة:
“ليه ما بتجيش تحضري الحفلة معانا؟ مش معقول تعملي كل ده… وتتخلي عن اللحظة الحلوة.”
أسية بهدوء، وابتسامة بسيطة:
معلش انا اسفة مشً هقدر احضر مبحبش التجمعات و الاحتفالات كتير.
هيام:
“بس أنا عايزاكي تبقي موجودة… بجد. أنا عايزة كل اللي حواليا يشاركونا الليلة دي، إنتي تعبتي فيها، وتستاهلي تكوني وسطنا .
أسية سكتت شوية، وبعدين هزت راسها ببطء.
أسية (بهدوء):
“ماشي… هحاول.”
هيام (بفرحة):
“تمام، هستناكم… وياريت متتأخروش، وماتنسيش تجيبي الاولاد معاكي كمان يحضرو الحفل وينبسطو "
أسية أومأت، ومشت وهي حاسة بغصة في قلبها… المشاعر متلخبطة، بين وجعها، وتقديرها لهيام، وترددها الكبير.
في الليل…
أسية واقفة قدام المراية، بتعدّل في فستانها البسيط، ملامحها حزينة رغم إنها بتحاول تبان طبيعية.
مراد داخل من أوضة جنبهم، لابس حلو ومبسوط:
مراد (بحماس):
“مامااا، يلا نروّح! أنا جاهز!”
أسية (بابتسامة باهتة):
“استنّى اشوف اختك خلصت ولا لسه .”
أسية بتروح على أوضة نرجس، بتخبط خبطتين وبتدخل.
أسية (بحنان):
“نرجس، يلا حبيبتي، مراد جاهز ومستنيك.”
نرجس (من غير ما تبص):
“روحو إنتو… أنا مش جاية.”
أسية (بهدوء):
“ليه يا بنتي؟ الحفلة خلاص هتبدأ…”
نرجس (بغصة):
“إزاي أقعد أتفرج على أبويا بيحتفل بعيد جوازه؟! وإحنا… إحنا كأننا مش موجودين في حياته؟!”
أسية (قلبها بيتقبض):
“عارفة يا نرجس… بس متخليش الحزن ياخدك. إحنا أقوى من كده. وجودك مهم… عشان نفسك، مش عشانه.”
نرجس (بحرقه):
“أنا مش قادرة يا ماما… مش قادرة أبتسم وهما فرحانين وإحنا انكسرنا…”
أسية (بتقعد جنبها وتلمس إيدها):
“أنا كمان مش قادرة… بس لما مراد شافك بتتحضري، فرح. وهو مش فاهم اللي بيحصل… فخلينا نضحك عشانو هو، مش عشانهم.”
نرجس (بدموع في عينيها):
“هو نسي، ماما… نسي اللي بينا، نسي إن لينا مكان في قلبه…”
أسية (بصوت مكسور):
“هو نسي، آه… بس إحنا لا. وإحنا هنفضل نحارب بحبنا… مش بكرهنا. يلا حبيبتي، البسي وتعالي… مش عشانهم، عشاننا.”
نرجس تبص لمامتها، وتلاقي في عينيها قوة وسط الدموع، تهزّ راسها بخفة…
نرجس (بصوت هادي):
“ماشي… عشانك إنتي، مش عشانه.”
أسية بتبوس راسها… وتخرج عشان تجهز مراد.
الحفلة شغّالة، أنوار معلّقة في الشجر، موسيقى ناعمة شغالة، طاولات مزينة، والناس بتضحك وبتتصور.
هيام بتضحك وسط أهلها، لابسة فستان ناعم وأنيق، حواليها الضيوف، وكلهم بيباركوا.
جمال واقف جنبها، لابس بدلة شيك، بيحاول يضحك، بس الضحكة مش طالعة من قلبه… نظراته تايهة، وكل شوي يبص حوالين المكان كأنه بيدوّر على حدّ.
من بعيد… أسية بتدخل بهدوء من بوابة الحديقة، لابسة فستان بسيط، شعرها ملموم، ومعاها نرجس ومراد.
نرجس ماشية جنبها، ضامة نفسها، ووشها مفيهوش أي ملامح،
ماسكة إيد مراد، اللي كان مبسوط بالإضاءة والزينة، مش فاهم ولا حاجة، بس مبسوط.
أسية بصّت حوالين القاعة، الناس بتضحك، الموسيقى شغالة، والكل مبسوط.
هي الوحيدة اللي حاسّة إنها دخلة عالم مش بتاعها.
عينها وقعت على جمال، كان واقف بعيد،
شايفهم…
بس مش قادر يتحرك ولا يقرّب.
نظرة سريعة بينهم…
وجعت، بس ماطولتش.
كأن الاتنين بيهربوا من الحقيقة.
نرجس بصّت له، عنيها بتقول كل حاجة،
وبهمس مش مسموع لأي حد:
“إزاي قدرت تنسانا؟”
أسية خدت نفس عميق، وقالت بهدوء:
“بس تعالي… مش عشانه، عشان مراد بس.”
ومشوا، من غير كلمة، من غير ضجة…
كأنهم جايين يشهدوا على حاجة مش قادرين يمنعوها.
وجمال؟
واقف ساكت، قلبه بيتقطع،
بس لا قادر يعتذر، ولا يقدر يهرب .
الأنوار مازالت منورة، الناس واقفة حوالين الترابيزة الكبيرة، والموسيقى هادية جدًا.
هيام تقف في النص، ترفع الكاس بإيدها وابتسامتها واسعة، عيونها بتلمع.
هيام (بحماس ناعم):
“أنا… بشكركم كلكم على وجودكم النهاردة،
بجد دي ليلة من أحلى ليالي عمري،
مش بس عشان عيد جوازنا…
بس عشان كل الناس اللي بحبهم حوالينا.”
تصفيق خفيف، الكل مبتسم، أمها وأبوها يبتسموا بفخر.
هيام (بتبص لجمال):
“وجمال… جوزي حبيبي…
أنا محظوظة إنك في حياتي.
ربنا يخلينا لبعض ويجمعنا دايمًا في الفرح.”
تصفيق أعلى، وهيام تروح تبوس جمال على خده وتحضنه.
أسية واقفة، ثابتة في مكانها، الكباية في إيدها بتترعش،
عنّيها مش قادرة تبعد عن هيام وهي حضنة جمال،
وصوتها لسه بيرن في ودنها:
“أنا أسعد واحدة في الدنيا… وجمال حبيبي"
نرجس جنبها، ملامحها اتجمّدت،
بصّت للأسية، وهمست بصوت مخنوق:
"هوا ده بابا اللي بقالي ست سنين عايزه اشوفه واسمع صوته…"
سكتت لحظة، عنيها بتدمع:
“دلوقتي واقف بيضحك معاها كأننا عمرنا ما كنا!”
أسية ما ردّتش، بصّت بس…
بس فجأة، حسّت بنظرة بتخترقها.
رفعت راسها…
ولقت عنيه.
جمال.
واقف في الجهة التانية،
وسط الضحك والهدايا،
بس ملامحه غير.
عيونه ما كانتش بتضحك… كانت بتدور عليها هي.
نظرة طويلة.
ساكتة.
هي مشّت عينيها بسرعة،
بس نرجس لاحظت، بصّت بينه وبين أمها، فهمت.
أسية حركت راسها ببطء، تحاول تخبّي الوجع في عنيها،
بس الدموع غلبتها،
قالت بصوت واطي:
“تعالي نروح، يا نرجس… احنا مش مكانا هنا.”
نرجس سكتت، ما ردّتش،
بس عنيها كانت كلها صدمة،
مش قادرة تستوعب اللي شافته.
مشهد حضنهم، ضحكتهم، الهدايا، كل تفصيلة وجعت فيها حاجة.
مشوا الاتنين في سكون،
من غير كلمة،
من غير ما يلفّوا وراهم…
وجمال؟
لسه واقف، شايفهم…
لكن مش قادر يعمل ولا حاجة،
وعنيه… لسه بتدور عليهم وسط الزحمة.
الأنوار بدأت تهدى، والموسيقى سكتت،
والضحك اللي كان مالي المكان، اتحوّل لصمت تقيل.
كل حد رجع أوضته، لكن الهدوء اللي كان في المكان، مكنش جواهم أبدً.
عند اسية دخلت الأوضة وهي لسه لابسة نفس الفستان،
قفلت الباب بهدوء، وسندت ضهرها عليه،
وكل التعب اللي كان جواها طلع في نفس واحد طويل.
نزلت تقعد على الأرض، جنب السرير، وسابت دموعها تنزل ببطء.
كانت بتحاول تكتمها، بس القهر كان طاغي.
تفتكر كلماته زمان، حضنه، بسمته، ضحكتهم مع بعض.
وتفتكر كلمات هيام :
“الليلة دي عايزة أنام في حضنك.”
تحط إيديها على وشها وتكتم شهقة وجع.
أسية شهقت شهقة صغيرة، دموعها نزلت بهدوء،
حطت إيدها على صدرها وقالت بصوت واطي:
“ليه كده يا رب… ليه؟!.
عند نرجس مراد نايم على السرير، وهي قاعدة جنبه ساكتة.
بصت عليه بحنية، وبعدين بصت بعيد كأنها مش هنا.
جواها نار، نار الغدر، والقهر، والخذلان.
تقوم تقف عند الشباك، تبص للسما،
وتقول بهمس:
"عامل حالو مابيعرفنا وعايش حياتو ونحنا عم نستناه "
مسحت دموعها بعنف :
"من اليوم رح انسا انك كنت في يوم من الايام بحياتي وعمري ماهسامحك."
هيام كانت واقفة قدامه، لابسة حاجة بسيطة وبتحاول تقرب منه،
حطت إيدها على كتفه، قالت له برقة:
“النهاردة أسعد يوم في حياتي…
أنا وأنت… كده… مع بعض.”
هو ابتسم ابتسامة باهتة، شال إيدها بهدوء:
“أنا محتاج شوية هوا.”
خرج على الشرفة…
الهوى خفيف، بس جوه صدره عاصفة.
وقف يبص على الجناح اللي فيه أسية…
افتكر عينيها…
نظرتها له في وسط الزحمة،
الوجع اللي كان باين من غير كلام.
يبص للنجوم، وعينيه تلمع من الدموع،
ويفتكر نضرتهم ليه، نضرة كلها وجع، كلها قهر.
يمسك السور بإيده، والغيرة بتنهشه من جواه.
يسأل نفسه بصوت واطي:
“إزاي قدرت أعمل كده؟ إزاي سبتهم؟”
عينه تغرق أكتر، وكل اللي بيحس بيه
هو الندم.....